الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: شرعت في كتابة الجزء الخامس والأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم - المسمّى - البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" ليلة الثلاثاء وهي الثالثة والعشرون من شهر ذي القعدة المبارك (23/ 11/ 1433 هـ).
(26) - (بَابُ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7370]
(2948) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ، رَدَّهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، رَدَّهُ إِلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ الإمام [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، من كبار [8]، تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(مُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ) القُردوسيّ، أبو الحسين البصريّ، صدوق زاهد قليل الحديث [7]، تقدم في "الإمارة" 16/ 4793.
4 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) المزنيّ، أبو إياس البصريّ، ثقة عالم [3]، تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 36/ 1853.
5 -
(مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ) المزنيّ الصحابيّ، بايع تحت الشجرة، مات بعد الستّين (ع)، تقدم في "الإيمان" 66/ 370.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين سوى يحيى، كما سبق.
شرح الحديث:
(عَنِ الْمُعَلَّى) بضمّ الميم، وتشديد اللام المفتوحة، (ابْنِ زِيَادٍ، رَدَّهُ)؛ أي: ردّ المعلّى الحديث، وأسنده (إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، رَدَّهُ)؛ أي: ردّ معاوية الحديث، وأسنده (إِلَى مَعْقِلِ) بفتح الميم، وكسر القاف، (ابْنِ يَسَارٍ) المزني رضي الله عنه، (رَدَّهُ)؛ أي: ردّ معقل الحديث، وأسنده (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) إنما عدل عن الصيغ المعروفة إلى هذا؛ للاشتباه فيها، وعدم تيقّنه منها، فأتى بصيغة تحتمل الجميع، والله تعالى أعلم. (قَالَ) النبي صلى الله عليه وسلم:("الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ)؛ أي: وقت الفتن، واختلاط الأمور، (كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ") في كثرة الثواب، أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلًا؛ لعدم تمكّن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل.
قال ابن العربيّ رحمه الله: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعيَّن عاس المرء أن يفرّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: تقدَّم أن الهرج: الاختلاط، والارتباك، ويراد به هنا: الفتن، والقتل، واختلاط الناس بعضهم في بعض، فالمتمسك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطع إليها المعتزل عن الناس أجره كأجر المهاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه يناسبه من حيث إن المهاجر قد فرّ بدينه عمن يصدّه عنه إلى الاعتصام بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك هذا المنقطع للعبادة فرّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربّه، وفرّ من جميع خلقه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير" 4/ 373.
(2)
"المفهم" 7/ 309.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معقل بن يسار رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 7370 و 7371](2948)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2201)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3985)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 27)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(932)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(19146)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 488 و 489 و 490 و 491)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5957)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 153)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(2/ 440)، و (أبو القاسم البغويّ) في "جزئه"(1/ 39) والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7371]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: اثنان:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
و"حماد" هو: ابن زيد ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي كامل عن حمّاد بن زيد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(27) - (بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7372]
(2949) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) أبو سعيد البصريّ الشهير، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(عَلِيِّ بْنِ الأقمَرِ) الهمدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 45/ 1489.
5 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلة الْجُشميّ الكوفيّ، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
6 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، غير زهير، كما سبق، والثاني بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها، (تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ")؛ أي: من الكفّار والمنافقين، وذلك أن الله تعالى يبعث الريح الطيبة، فتقبض روح كل مؤمن، فلَا يبقى إلا شرار الناس، وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام، وقد تقدّم لمسلم حديث:"ثم يبعث الله ريحًا طيبة، فتوفّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وتقدّم أيضًا: "ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبَل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير، أو إيمان، إلا قبضته"، وفيه:"فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم يُنفخ في الصور"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7372](2949)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 394 و 435)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(311)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5248)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6850)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 163)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 40 و 71)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7373]
(2950) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلًا يَقُولُ: سَمِعْتُ
(1)
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ وَالْوُسْطَى، وَهُوَ يَقُولُ:"بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ هَكَذَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقة مصنّف [10]، تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة [8]، تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقة فقيه [8]، تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمار الأعرج المدنيّ، ثقة عابد [5]، تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
5 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك الساعديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما.
و"قتبية" ذكر قبل حديث.
(1)
وفي نسخة: "رأيت".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (440 و 441) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، كما أسلفت.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار؛ (أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلًا)؛ أي: ابن سعد رضي الله عنهما، حال كونه (يَقُولُ: سَمِعْتُ) وفي نسخة: "رأيت"(النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ) بكسر الهمزة، أفصح لغاتها العشر، وقد تقدّمت غير مرّة، (الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ) وهي المسبّحة، (وَالْوُسْطَى) عطف على "إصبعه"؛ يعني: أنه أشار بهاتين الإصبعين: المسبّحة والوُسطى، (وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "بُعِثْتُ) بالبناء للمفعول، وقوله:(أَنَا) أتى به ليمكنه العطف على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
وقوله: (وَالسَّاعَةُ) بالرفع عطفًا على الضمير النائب عن الفاعل، ويجوز نصبه على المفعوليّة معه، كما قال في "الخلاصة" أيضًا:
يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ
…
فِي نَحْوِ "سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ"
والمراد بالساعة هنا: يوم القيامة، والأصل فيها قطعة من الزمان، وفي عُرات أهل الميقات: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من اليوم والليلة، وثبت مثله في حديث جابر، رفعه:"يومُ الجمعة اثنتا عشرة ساعة"، وأُطلقت في الحديث على انخرام قرن الصحابة رضي الله عنهم، ففي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها:"كان الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فنظر إلى أحدث إنسان منهم، فقال: إن يعش هذا لم يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم"، وعنده من حديث أنس رضي الله عنه نحوه، وأُطلقت أيضًا على موت الإنسان الواحد، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (هَكَذَا") التشبيه في المقارنة بينهما؛ أي: ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبيّ بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة، أو في قلة التفاوت بينهما، فإن
(1)
"الفتح" 14/ 683 - 684.
الوسطى تزيد على المسبِّحة بقليل، فكأنه ما بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة في القلة قَدْر زيادة الوسطى على المسبِّحة
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "بُعثت أنا والساعة كهاتين": قيّدناه بالفتح، والضم، فأما الفتح؛ فهو على المفعول معه، والرفع على أنه معطوف على التاء في "بُعثت"، وفصل بينهما بـ "أنا" توكيدًا للضمير؛ على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الإصبعين، واتصالهما، واختار آخرون الرفع بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رؤوسهما، ويعني أن ما بين زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيام الساعة قريب؛ كقرب السَّبابة من الوسطى، وهذا أوقع، والله أعلم.
وقال القرطبيّ أيضًا: وروايته: "أنا والساعة" بالضم، والفتح، فالضم على العطف، والفتح على المفعول معه، والعامل:"بعثت"، و"كهاتين": حال؛ أي: مقترنين، فعلى النصب يقع التشبيه بالضم، وعلى الرفع يَحْتَمِل هذا، ويَحْتَمِل أن يقع بالتفاوت الذي بين السبابة والوسطى، فتأمّله، ويدل عليه قول قتادة في بعض رواياته:"كفضل إحداهما على الأخرى".
وحاصله: تقريب أمر الساعة التي هي القيامة، وسرعة مجيئها، وهذا كما قال:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] قال الحسن: أشراطها: محمد صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقال في "الفتح": قال أبو البقاء العكبريّ في إعراب "المسند": "الساعة" بالنصب، والواو فيه بمعنى "مع"، قال: ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى؛ لأنه لا يقال: بُعِثت الساعةُ، ولا هو في موضع المرفوع؛ لأنها لم توجد بعدُ، وأجاز غيره الوجهين، بل جزم عياض بأن الرفع أحسن، وهو عطف على ضمير المجهول في "بُعثت"، قال: ويجوز النصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء، وزاد: وعلى ضمير يدل عليه الحال، نحو: فانتظروا، كما قُدِّر في نحو: جاء البرد والطيالسةَ، فاستعدوا، قال الحافظ: والجواب عن الذي اعتَلَّ به أبو البقاء أوّلًا أن يضمّن "بُعثت" معنًى يَجمع إرسال الرسول، ومجيء الساعة، نحو: جئت، وعن الثاني بأنها نُزِّلت منزلة الموجود؛ مبالغةً في تحقق مجيئها، ويرجح النصب ما وقع في تفسير "سورة والنازعات" من هذا "الصحيح" - يعني:
(1)
"شرح سنن النسائي" 3/ 47.
(2)
"المفهم" 7/ 305.
صحيح البخاريّ - من طريق فضيل بن سليمان، عن أبي حازم، بلفظ:"بُعثتُ والساعةَ"، فإنه ظاهر في أن الواو للمعية. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فإن الواو للمعيّة"؛ أي: لأنه لو عطف للزم العطف على الضمير المتّصل بلا فاصل، وهو ضعيف، كما قال ابن ماللك رحمه الله بعد البيت السابق:
أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7373](2950)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4936) و"الطلاق"(5301) و"الرقاق"(5603)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 330 و 331 و 335 و 338)، و (الحميديّ) في "مسنده"(925)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5873 و 5885 و 5912 و 5913)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6642)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 260)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال القاضي عياض وغيره: أشار بهذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة، والتفاوت إما في المجاورة، وإما في قَدْر ما بينهما، ويعضده قوله:"كفضل أحدهما على الأخرى"، وقال بعضهم: هذا الذي يتجه أن يقال، ولو كان المراد الأول لقامت الساعة؛ لاتصال إحدى الإصبعين بالأخرى.
وقال ابن التين: اختُلف في معنى قوله: "كهاتين" فقيل: كما بين السبابة والوسطى في الطول، وقيل: المعنى ليس بينه وبينها نبيّ.
وقال القرطبيّ في "المفهم": حاصل الحديث تقريب أمر الساعة، وسرعة مجيئها، قال: وعلى رواية النصب يكون التشبيه وقع بالانضمام، وعلى الرفع وقع بالتفاوت.
(1)
"الفتح" 14/ 683.
وقال البيضاويّ: معناه: أن نسبة تقدُّم البعثة النبوية على قيام الساعة، كنسبة فضل إحدى الإصبعين على الأخرى.
وقيل: المراد استمرار دعوته، لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن الإصبعين لا تفترق إحداهما عن الأخرى.
ورجّح الطيبيّ قول البيضاويّ بزيادة المستورد فيه
(1)
.
وقال القرطبيّ في "التذكرة": معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة، ولا منافاة بينه وبين قوله في الحديث الآخر:"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، فإن المراد بحديث الباب: أنه ليس بينه وبين الساعة نبيّ، كما ليس بين السبابة والوسطى إصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك عِلم وقتها بعينه، لكن سياقه يفيد قربها، وأن أشراطها متتابعة، كما قال تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] قال الضحاك: أول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة، والاستعداد.
وقال الكرمانيّ: قيل: معناه الإشارة إلى قرب المجاورة، وقيل: إلى تفاوت ما بينهما طولًا، وعلى هذا فالنظر في القول الأول إلى العرض، وقيل: المراد ليس بينهما واسطة، ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ونحو ذلك؛ لأن عِلم قربها لا يستلزم علم وقت مجيئها معينًا.
وقيل: معنى الحديث: أنه ليس بيني وبين القيامة شيء، هي التي تليني، كما تلي السبابة الوسطى، وعلى هذا فلا تنافي بين ما دلّ عليه الحديث، وبين قوله تعالى عن الساعة:{لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
وقال عياض: حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الإصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى، وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح، وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم، وفسَّره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذي بقي نصف سبع، وهو قريب
(1)
أراد به حديث المستورد بن شدّاد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"بُعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه"، وأشار بإصبعه السبّابة والوسطى، رواه الترمذيّ برقم (5513).
مما بين السبابة والوسطى في الطول، قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك؛ لوقوع خلافه، ومجاوزة هذا المقدار، ولو كان ذلك ثابتًا لم يقع خلافه.
قال الحافظ: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة.
وقال ابن العربيّ: قيل: الوسطى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي من الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة، قال: وهذا بعيد، ولا يعلم مقدار الدنيا، فكيف يتحصل لنا نصف سُبع أمد مجهول؟ فالصواب الإعراض عن ذلك.
قلت
(1)
: السابق إلى ذلك أبو جعفر بن جرير الطبريّ، فإنه أورد في مقدمة "تاريخه" عن ابن عباس قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة، وقد مضى ستة آلاف ومائة سنة، وأورده من طريق يحيى بن يعقوب، عن حماد بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير عنه، ويحيى هو أبو طالب القاصّ الأنصاريّ، قال البخاريّ: منكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة، وفيه مقال.
ثم أورد الطبري عن كعب الأحبار، قال: الدنيا ستة آلاف سنة، وعن وهب بن منبه مثله، وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة، ثم زيفهما، ورجّح ما جاء عن ابن عباس، ثم أورد حديث ابن عمر الذي في "الصحيحين" مرفوعًا:"ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس"، ومن طريق مغيرة بن حكيم، عن ابن عمر بلفظ:"ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر"، ومن طريق مجاهد، عن ابن عمر:"كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، والشمس على قعيقعان مرتفعة بعد العصر، فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه"، وهو عند أحمد أيضًا بسند حسن.
ثم أورد حديث أنس: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، وقد كادت الشمس تغيب. . ."، فذكر نحو الحديث الأول عن ابن عمر، ومن حديث أبي سعيد بمعناه، قال عند غروب الشمس:"إن مَثَل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها، كبقية يومكم هذا فيما مضى منه"، وحديث أبي سعيد أخرجه أيضًا، وفيه عليّ بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف، وحديث أنس أخرجه أيضًا، وفيه موسى بن خلف.
(1)
القائل هو الحافظ.
ثم جمع بينهما بما حاصله أنه حمل قوله: "بعد صلاة العصر" على ما إذا صُلّيت في وسط من وقتها.
قلت
(1)
: وهو بعيد من لفظ أنس، وأبي سعيد، وحديث ابن عمر صحيح، متفق عليه، فالصواب الاعتماد عليه، وله محملان:
أحدهما: أن المراد بالتشبيه: التقريب، ولا يراد حقيقة المقدار، فبه يجتمع مع حديث أنس، وأبي سعيد على تقدير ثبوتهما.
والثاني: أن يُحْمَل على ظاهره، فيقدَّم حديث ابن عمر، لصحته، ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قَدْر خُمس النهار تقريبًا، ثم أيّد الطبريّ كلامه بحديث الباب، وبحديث أبي ثعلبة الذي أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، ولفظه:"والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم"، ورواته ثقات، ولكن رجح البخاريّ وقفه، وعند أبي داود أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص، بلفظ:"إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة، ورواته موثقون، إلا أن فيها انقطاعًا، قال الطبريّ: ونصف اليوم خمسمائة سنة؛ أخذًا من قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47] فإذا انضم إلى قول ابن عباس: إن الدنيا سبعة آلاف سنة، توافقت الأخبار، فيكون الماضي إلى وقت الحديث المذكور ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة تقريبًا.
وقد أورد السهيليّ كلام الطبريّ، وأيده بما وقع عنده في حديث المستورد، وأكّده بحديث ابن زمل، رفعه:"الدنيا سبعة آلاف سنة، بعثت في آخرها".
قلت: وهذا الحديث إنما هو عن ابن زمل، وسنده ضعيف جدًّا، أخرجه ابن السكن في الصحابة، وقال: إسناده مجهول، وليس بمعروف في الصحابة، وابن قتيبة في غريب الحديث، وذكره في الصحابة أيضًا ابن منده وغيره، وسمّاه بعضهم عبد الله، وبعضهم الضحاك، وقد أورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات"، وقال ابن الأثير: ألفاظه مصنوعة، ثم بيَّن السهيليّ أنه ليس في حديث نصف يوم ما ينفي الزيادة على الخمسمائة، قال: وقد جاء بيان ذلك
(1)
القائل هو الحافظ.
فيما رواه جعفر بن عبد الواحد، بلفظ:"إن أحسنت أمتي، فبقاؤها يوم من أيام الآخرة، وذلك ألف سنة، وإن أساءت، فنصف يوم". قال: وليس في قوله: "بُعثت انا والساعة كهاتين" ما يقطع به على صحة التأويل الماضي، بل قد قيل في تأويله: إنه ليس بينه وبين الساعة نبيّ مع التقريب لمجيئها، ثم جوّز أن يكون في عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر ما يوافق حديث ابن زمل، وذكر أن عدتها تسعمائة وثلاثة، قلت: وهو مبني على طريقة المغاربة في عدّ الحروف، وأما المشارقة فينقص العدد عندهم مائتين وعشرة، فإن السين عند المغاربة بثلاثمائة، والصاد بستين، وأما المشارقة فالسين عندهم ستون، والصاد تسعون، فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين، وقد مضت وزيادة عليها مائة وخمس وأربعون سنة، فالحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عدّ أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السِّحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة.
وقد قال القاضي أبو بكر ابن العربي، وهو من مشايخ السهيليّ في "فوائد رحلته" ما نصه: ومن الباطل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصّل لي فيها عشرون قولًا، وأزْيد، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم، إلا أني أقول، فذكر ما ملخصه: أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولًا متداولًا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم: ص، وحم فصّلت، وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة، والفصاحة، مع تشوّفهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة، فدلّ على أنه كان أمرًا معروفًا بينهم، لا إنكار فيه.
قال الحافظ: وأما عدّ الحروف بخصوصه، فإنما جاء عن بعض اليهود، كما حكاه ابن إسحاق في السيرة النبوية، عن أبي ياسر بن أخطب وغيره أنهم حملوا الحروف التي في أوائل السور على هذا الحساب، واستقصروا المدة أول ما نزل: الم، والر، فلما نزل بعد ذلك: المص، وطسم، وغير ذلك قالوا: ألبست علينا الأمر، وعلى تقدير أن يكون ذلك مرادًا، فلْيُحمل على جميع الحروف الواردة، ولا يحذف المكرر، فإنه ما من حرف منها إلا وله سرّ يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور، ولو تكررت الحروف
فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة، وعدد حروف الجميع ثمانية وسبعون حرفًا، وهي: الم ستة، حم ستة، الر خمسة، طسم اثنتان، المص، المر، كهيعص، حمعسق، طه، طس، يس، ص، ق، ن، فإذا حُذف ما كرر من السور، وهي خمس من الم، وخمس من حم، وأربع من الر، وواحدة من طسم، بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفًا، فإذا حُسب عددها بالجمّل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين، وأما بالجمل المشرقي، فتبلغ ألفًا وسبعمائة وأربعة وخمسين، قال: ولم أذكر ذلك ليُعتمَد عليه، إلا لأبيّن أن الذي جنح إليه السهيليّ لا ينبغي الاعتماد عليه؛ لشدة التخالف فيه.
وفي الجملة فأقوى ما يعتمَد في ذلك عليه حديث ابن عمر الذي أشرت إليه قبلُ، وقد أخرج معمر في "الجامع" عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال معمر: وبلغني عن عكرمة في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال: الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة، لا يَدري كم مضى، ولا كم بقي إلا الله تعالى.
وقد حمل بعض شراح "المصابيح" حديث: "لن تعجز هذه الأمة أن يؤخرها نصف يوم" على حال يوم القيامة، وزيّفه الطيبيّ، فأصاب، وأما زيادة جعفر فهي موضوعة؛ لأنها لا تُعرف إلا من جهته، وهو مشهور بوضع الحديث، وقد كذبه الأئمة، مع أنه لم يسق سنده بذلك، فالعجب من السهيليّ كيف سكت عنه، مع معرفته بحاله، والله المستعان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا كله من فضول الكلام، وإنما سقته؛ ليُعلم ما قيل، وليعتبر من قرأه أن هؤلاء العلماء مع جلالتهم أحيانًا يخوضون فيما لا يعنيهم، ولا كلّفهم الله بمعرفته، والواجب على العاقل الحريص على وقته أن يعرض عنه إعراضًا كلّيًّا، ولا يشغل وقته الثمين بمثله؛ إذ لا يعتمد على نقل صحيح، ولا على عقل صريح، بل هو أشبه بالهذيانات، والله تعالى المستعان.
(1)
"الفتح" 14/ 686 - 690، "كتاب الرقاق" رقم (6503).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7374]
(2951) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ، أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ).
رجال هذا الإسناد: ستة.
وكلهم تقدّموا غير مرّة، ومن لطائفه أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من مشايخ الجماعة بلا واسطة، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، ومسلسل بالتحديث، والسماع، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن شُعْبَة؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ) بن دِعامة يقول: (حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ) بالبناء للمفعول، (أَنَا وَالسَّاعَةُ) تقدّم أنه بالرفع عطفًا على الضمير، وبالنصب على المعيّة. (كَهَاتَيْنِ")؛ أي: مثل هاتين الإصبعين، وهما السبّابة والوسطى، قال ابن حبّان في "صحيحه": يُشبه أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" أراد به: أني بُعثت أنا والساعة كالسبابة والوسطى من غير أن يكون بيننا نبيّ آخر؛ لأني آخر الأنبياء، وعلى أمتي تقوم الساعة. انتهى
(1)
، وقد عرفت اختلاف العلماء في هذا المعنى في شرح حديث سهل رضي الله عنه المذكور قبله، فلا تغفل.
(قَالَ شُعْبَةُ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ) بفتحتين: اسم من القصّ، يقال: قصصتُ الخبر قصًّا، من نصر: حدّثت به على وجهه، وأما القِصَصُ بكسر، ففتح: فجمع قِصّة، بالكسر، مثلُ سِدْرة، وسِدَر، وهي الحال والشأن،
(1)
"صحيح ابن حبان" 15/ 12.
يقال: ما قصّتك؛ أي: ما شأنك
(1)
، والمناسب هنا المعنى الأول، فتنبّه.
(كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى)؛ أي: متفاضلين في الطول والقصر، كتفاضل إحدى هاتين الإصبعين على الأخرى في الطول، وحاصل المعنى: أن الفرق بيني وبين القيامة كالفرق بين السبّابة والوسطى في الطول، وتمام البحث تقدّم في حديث سهل رضي الله عنه المذكور قبله.
(قَالَ شُعْبَةُ: فَلَا أَدْرِي)؛ أي: لا أعلم (أَذَكَرَهُ)؛ أي: أذكر قتادة هذا التفسير نقلًا (عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه، (أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ)؛ أي: من عنده؛ يعني: أنه لا يعلم أن تفسير الحديث هذا هل هو من عند قتادة نفسه، أو أخذه عن أنس رضي الله عنه؟، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7374 و 7375 و 7376 و 7377 و 7378](2951)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6504)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2214)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1980 و 2089)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 123 - 124 و 278)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 313)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2925 و 2999 و 3146 و 3263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6640)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(1457)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7375]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، وَأَبَا التَّيَّاحِ، يُحَدِّثَانِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَنَسًا، يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ هَكَذَا
(2)
"، وَقَرَنَ شُعْبَةُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: الْمُسَبِّحَةِ، وَالْوُسْطَى يَحْكِيهِ).
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 505 - 506.
(2)
وفي نسخة: "والساعة كهاتين".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ [8]، تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ [5]، تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (هَكَذَا) وفي بعض النسخ: "كهاتين".
وقوله: (الْمُسَبِّحَةِ) بكسر الموحّدة المشدّدة، هي الإصبع التي بين الإبهام والوسطى، سُمّيت مسبّحة؛ لأنها يشار بها عند التسبيح، وتُحرّك في التشهّد عند التهليل إشارة إلى التوحيد، وتسمّى أيضًا سبّابةً؛ لأنهم كانوا إذا تسابّوا أشاروا بها، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (يَحْكِيهِ)؛ أي: يحكي التشبيه المذكور في الحديث، ويصفه، ويفسّره بالقرن بين إصبعين.
والحديث متّفقٌ عليه، كما مضى البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7376]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
(1)
"الفتح" 14/ 685.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن عبد الحميد القرشيّ الْبُسْريّ البصريّ الملقّب حمدان [10]، تقدم في "الإيمان" 40/ 268.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) البصريّ المعروف بغندر [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(12356)
- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت أنس بن مالك يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" وبسط إصبعيه السبابة، والوسطى. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7377]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَمْزَةَ - يَعْنِي: الضَّبِّيَّ - وَأَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ [9]، تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(حَمْزَةُ الضَّبِّيُّ) هو: حمزة بن عمرو العائذيّ، أبو عمر الضبيّ البصريّ، صدوق [4].
رَوى عن أنس، وعلقمة بن وائل، وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وروى عنه ابنه عمر، وعوف الأعرابيّ، وشعبة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: شيخٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال: وقد وَهِم من زعم أنه جمرة؛ يعني: بالجيم.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 131.
[تنبيه]: رواية شعبة عن حمزة الضبيّ، وأبي التيّاح ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونين بقتادة، فقال:
(13343)
- حدّثنا هاشم، ثنا شعبة، عن أبي التياح، وقتادة، وحمزة الضبيّ، أنهم سمعوا أنس بن مالك يقول: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُعثت أنا والساعة هكذا"، وأشار بالسبابة والوسطى، وكان قتادة يقول: كفضل إحداهما على الأخرى. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7378]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَعْبَدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ"، قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، من كبار [9]، تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ [4]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(مَعْبَدُ) بن هلال الْعَنَزيّ البصريّ [4]، تقدم في "الإيمان" 90/ 486. و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى) فاعل "قال" ضمير أنس رضي الله عنه؛ أي: قال أنس: ضم النبيّ صلى الله عليه وسلم عند قوله: "كهاتين" بين سبابته والوسطى إشارة إلى القُرب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7379]
(2952) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ الأَعرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 222.
إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ:"إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، [10] تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة [10] تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(هِشَامُ) بن عروة، أبو المنذر المدنيّ [5]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 350.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، أبو عبد الله المدنيّ [3]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 407.
6 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما أم المؤمنين، تقدمت في "المقدمة" - جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ الأَعْرَابُ) بفتح الهمزة: هم سكان البادية، ولم يُسمّ أحد منهم، وفي رواية البخاريّ:"كان رجال من الأعراب جُفاة" قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم، وقوله:"جفاة" في رواية الأكثر بالجيم، وفي رواية بعضهم بالمهملة، وإنما وصفهم بذلك: أما على رواية الجيم، فلأن سكان البوادي يغلب عليهم الشّظَف، وخشونة العيش، فتجفو أخلاقهم غالبًا، وأما على رواية الحاء، فلقلة اعتنائهم بالملابس. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 14/ 706 رقم (6511).
(إِذَا قَدِمُوا) بكسر الدال، (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ) قائلين (مَتَى السَّاعَةُ؟)؛ أي: متى تقوم القيامة؟، وإنما كانوا يسألونه عنها؛ لِمَا طَرَق أسماعهم من تكرار اقترابها في القرآن، فأرادوا أن يعرفوا تعيين وقتها. (فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ) وفي رواية البخاريّ:"فينظر إلى أصغرهم"، وهذه ظاهرها تكرير ذلك، ويؤيد سياق مسلم حديث أنس الآتي:"أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة؟ "، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا بعينه، لكنه يَحتمل أن يفسَّر بذي الخويصرة اليمانيّ الذي بال في المسجد، وسأل متى تقوم الساعة؟ وقال: اللَّهُمَّ ارحمني ومحمدًا، ولكن جوابه عن السؤال عن الساعة مغاير لجواب هذا، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ) ولفظ البخاريّ: "لا يدركه الهرم"، (قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ") زاد في رواية البخاريّ:"قال هشام: يعني: موتهم"، وفي حديث أنس الآتي:"حتى تقوم الساعة"، قال عياض: حديث عائشة رضي الله عنها هذا يفسِّر حديث أنس، وأن المراد ساعة المخاطَبين، وهو نظير قوله:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها، لا يبقى على وجه الأرض، ممن هو عليها الآن أحد"، وقد تقدم بيانه، وأن المراد: انقراض ذلك القرن، وأن من كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا مضت مائة سنة من وقت تلك المقالة، لا يبقى منهم أحد، ووقع الأمر كذلك، فإن آخر من بقي ممن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، كما جزم به مسلم وغيره، وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة، وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة، وقيل: كانت وفاته قبل ذلك، فإن كان كذلك فيَحْتَمِل أن يكون تأخر بعده بعض من أدرك ذلك الزمان، وإن لم يثبت أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه احتجّ جماعة من المحققين على كَذِب من ادَّعَى الصحبة، أو الرؤية ممن تأخر عن ذلك الوقت.
وقال الراغب: الساعة جزء من الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة؛ تشبيهًا بذلك؛ لسرعة الحساب، قال الله تعالى:{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، أو لِمَا نبّه عليه بقوله:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35]،
(1)
"الفتح" 14/ 706.
وأُطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى، وهي بعث الناس للمحاسبة، والوسطى، وهي موت أهل القرن الواحد، نحو ما رُوي أنه رأى عبد الله بن أنيس، فقال:"إن يَطُل عمر هذا الغلام، لم يمت حتى تقوم الساعة"، فقيل: إنه آخر من مات من الصحابة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح:"تخوّفت الساعة"؛ يعني: موته. انتهى.
قال الحافظ: وما ذكره عن عبد الله بن أنيس لم أقف عليه، ولا هو آخر من مات من الصحابة جزمًا.
وقال الداوديّ: هذا الجواب من معاريض الكلام، فإنه لو قال لهم: لا أدري ابتداء، مع ما هم فيه من الجفاء، وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم لارتابوا، فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه، ولو كان تمكّن الإيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد.
وقال ابن الجوزيّ: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بأشياء على سبيل القياس، وهو دليل معمول به، فكأنه لما نزلت عليه الآيات في تقريب الساعة، كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77] حَمَل ذلك على أنها لا تزيد على مضي قرن واحد، ومن ثَمَّ قال في الدجال:"إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه"، فجوَّز خروج الدجال في حياته، قال: وفيه وجه آخر، فذكر نحو ما تقدم.
قال الحافظ: والاحتمال الذي أبداه بعيد جدًّا، والذي قبله هو المعتمَد، والفرق بين الخبر عن الساعة، وعن الدجال تعيين المدة في الساعة دونه، والله أعلم.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدّث بها خواصّ أصحابه تدلّ على أن بين يدي الساعة أمورًا عظامًا، وقد تقدّم كثير منها.
وقال الكرمانيّ: هذا الجواب من الأسلوب الحكيم؛ أي: دَعُوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى، فإنها لا يعلمها إلا الله، واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم، فهو أَولى لكم؛ لأن معرفتكم به تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته؛ لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 14/ 707 - 708 رقم (6511).
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7379](2952)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6511)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 502)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7380]
(2953) - (وَحَدَّثَنَا لو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ وَعِنْدَهُ غُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَعِشْ هَذَا الْغُلَامُ، فَعَسَى أَنْ لَا يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المؤدب، أبو محمد البغداديّ، من صغار [9]، تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، من كبار [8]، تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ [4]، تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف اسمه، (سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟)؛ أي: القيامة، (وَعِنْدَهُ غُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ) واحتج ابن بشكوال بهذه الرواية أن اسم الغلام المبهم في الرواية الآتية محمد، قال: وقيل: اسمه سعد، ثم أخرج من طريق الحسن، عن أنس أن رجلًا سأل عن الساعة، فذكر حديثًا، قال: فنظر إلى غلام من دوس، يقال له: سعد، قال الحافظ: وهذا أخرجه البارودي في الصحابة، وسنده حسن، وأخرجه أيضًا من طريق أبي قلابة، عن أنس نحوه، وأخرجه ابن منده من
طريق قيس بن وهب، عن أنس، وقال فيه: مَرّ سعد الدوسيّ، قال: ورواه قرة بن خالد، عن الحسن، فقال فيه: فقال لشابّ من دوس، يقال له: سعد.
قال الحافظ: فيَحْتَمِل التعدد، أو كان اسم الغلام سعدًا، وُيدعَى محمدًا، أو بالعكس، ودوس من أزد شنوءة، فيَحتمل أن يكون حالف الأنصار. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَعِشْ هَذَا الْغُلَامُ، فَعَسَى أَنْ لَا يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ) قال في "الفتح": كذا في الطرق كلها بإسناد الإدراك للهرم، ولو أسند للغلام لكان سائغًا، ولكن أشير بالأول إلى أن الأجل كالقاصد للشخص.
وقوله: (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ") وقع في رواية الباوردي بدل قوله: "حتى تقوم الساعة": "لا يبقى منكم عين تطرف" وبهذا يتضح المراد، وله في أخرى:"ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة"، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في آخر عمره:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد". وكان جماعة من أهل ذلك العصر يظنون أن المراد أن الدنيا تنقضي بعد مائة سنة، فلذلك قال الصحابيّ: فَوَهَل الناسُ فيما يتحدثون من مائة سنة، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك انخرام قرنه، أشار إلى ذلك عياض مختصرًا.
قال الحافظ: ووقع في الخارج كذلك: "فلم يبق ممن كان موجودًا عند مقالته تلك عند استكمال مائة سنة من سنة موته أحد". وكان آخر من رأى النبيّ موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة، كما ثبت في "صحيح مسلم".
وقال الإسماعيليّ بعد أن قرر أن المراد بالساعة ساعة الذين كانوا حاضرين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن المراد موتهم، وأنه أُطلق على يوم موتهم اسم الساعة؛ لإفضائه بهم إلى أمور الآخرة: ويؤيد ذلك أن الله استأثر بعلم وقت قيام الساعة العظمى، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الكثيرة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "حتى تقوم الساعة" المبالغة في تقريب قيام الساعة، لا التحديد، كما قال في الحديث الخر:"بُعثت أنا والساعة كهاتين"، ولم يُرِدْ أنها تقوم عند بلوغ المذكور الهَرِم، قال: وهذا عمل شائع للعرب، يُستعمل للمبالغة عند تفخيم الأمر، وعند تحقيره، وعند تقريب الشيء، وعند تبعيده، فيكون حاصل المعنى: أن الساعة تقوم قريبًا جدًّا، وبهذا الاحتمال
(1)
"الفتح" 10/ 555.
الثاني جزم بعض شرّاح "المصابيح"، واستبعده بعض شرّاح "المشارق".
وقال الداوديّ: المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك للذين خاطبهم بقوله: تأتيكم ساعتكم؛ يعني: بذلك موتهم؛ لأنهم كانوا أعرابًا، فخشي أن يقول لهم: لا أدري متى الساعة، فيرتابوا، فكلّمهم بالمعاريض، وكأنه أشار إلى حديث عاشة الذي أخرجه مسلم:"كان الأعراب إذا قَدِموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة، متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم سنًّا، فيقول: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم".
قال عياض، وتبعه القرطبيّ: هذه رواية واضحة، تُفسِّر كل ما ورد من الألفاظ المشكلة في غيرها.
وأما قول النوويّ: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن الغلام المذكور لا يؤخر، ولا يعمر، ولا يهرم؛ أي: فيكون الشرط لم يقع، فكذلك لم يقع الجزاء، فهو تأويل بعيد، ويلزم منه استمرار الإشكال؛ لأنه إن حمَل الساعة على انقراض الدنيا، وحلول أمر الآخرة، كان مقتضى الخبر أن القَدْر الذي كان بين زمانه صلى الله عليه وسلم وبين ذلك بمقدار ما لو عُمِّر ذلك الغلام إلى أن يبلغ الهرم، والمشاهد خلاف ذلك، وإن حمَل الساعة على زمن مخصوص رجع إلى التأويل المتقدم، وله أن ينفصل عن ذلك بأن سن الهرم لا حدّ لقدره. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7380 و 7381 و 7382](2953)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 228)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7381]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛
(1)
"الفتح" 14/ 37 - 8 رقم (6167).
أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُنَيْهَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، فَقَالَ:"إِنْ عُمِّرَ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: ذَاكَ الْغُلَامُ مِنْ أَتْرَابِي يَوْمَئِذٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) ابن يوسف الثقفي البغداديّ [11]، تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحي البصريّ، ثم المكيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 68.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (هُنَيْهَةً) بالتصغير؛ أي: قليلًا؛ أي: سكت وقتًا يسيرًا لم يجبه، ولعله لانتظار الوحي، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ) بفتح الشين المعجمة، وضم النون، ومدّ، وبعد الواو همزة، ثم هاء تأنيث: اسم قبيلة، وقال ابن الأثير: شنوءة هو: عبد الله بن كعب بن عبد الله بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد. انتهى
(1)
.
وفي، الرواية التالية:"غلام للمغيرة بن شعبة، وكان من أقراني"، ولا مغايرة بينهما، وطريق الجمع أنه كان من أزد شنوءة، وكان حليفًا للأنصار، وكان يخدم المغيرة.
وقوله: (مِنْ أتْرَابِي) بفتح الهمزة: جمع تِرْب بكسر التاء، وسكون الراء، وهو مَن وُلِد معك.
وقال في "الفتح": الأتراب جمع تِرْب، بكسر المثناة، وسكون الراء، بعدها موحّدة، وهم المتماثلون، شُبِّهوا بالترائب التي هي ضلوع للصدر. انتهى.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق البحث فيه مستوفًى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7382]
(. . .) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي،
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 211.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يُؤَخَّرْ هَذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ [10]، تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الصفّار، أبو عثمان البصريّ، من كبار [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب، والحديث سبق القول فيه قبله.
وقوله: (مِنْ أَقْرَانِي)؛ أي: مثلي في السنّ، قال ابن التين: القرن: الْمِثل في السنّ، وهو بفتح القاف، وبكسرها: المِثل في الشجاعة، قال: وفَعْل بفتح أوله، وسكون ثانيه إذا كان صحيحًا لا يُجمع على أفعال، إلا ألفاظًا لم يعدّوا هذا فيها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لم يذكر في "القاموس"، ولا في "المصباح" القِرْن بمعنى المِثل إلا بالكسر، وجمع أقران، مثل حِمْل وأحمال، وهذا لا إشكال فيه، فتنبّه.
والحديث مضى القول فيه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7383]
(2954) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ، فَمَا يَصِلُ الإِنَاءُ إِلَى فِيهِ، حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ، فَمَا يَتَبَايَعَانِهِ، حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ يَلِطُّ فِي حَوْضِهِ، فَمَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الزناد" هو: عبد الله بن ذكوان، و"الأعرج" هو: عبد الرحمن بن هُرمُز، وهذا الإسناد أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، حال كونه (يَبْلُغُ بِهِ)؛ أي: بالحديث (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أنه رفعه إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل عن الصيغة الصريحة المعروفة إلى هذا، حيث شكّ الأعرج في خصوص الصيغة، هل هي سمعت، أو نحوها، أو لكونه نسي لفظها، وتأكّد من رفعه، فأتى بصيغة تشمل كل ذلك، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، وقوله:(وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ) - جملة في محلّ نصب على الحال، و"يحلب" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، وكسره، من بابي نصر، وضرب، والحلب بفتح، فسكون، أو بفتحتين: استخراج ما في الضرع من اللبن، كالحِلاب
(1)
.
و"اللِّقحَةُ" بالكسر: الناقة ذات لبن، والفتح لغةٌ، والجمع لِقَحٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر، أو مثل قَصْعَة وقِصَع، واللَّقُوحُ بفتح اللام مثل اللَّقحة، والجمع لِقَاحٌ، مثل قَلُوص وقِلاص، قاله الفيّوميّ
(2)
. (فَمَا يَصِلُ الإِنَاءُ إِلَى فِيهِ)؛ أي: فم الرجل، (حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ، فَمَا يَتَبَايَعَانِهِ، حَتَّى تَقُومَ)؛ أي: الساعة، وفي رواية البخاريّ:"ولتقومن الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه"، وللبيهقيّ في "البعث" من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة:"ولتقومن الساعة على رجلين، قد نشرا بينهما ثوبًا يتبايعانه، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه"، ونسبة الثوب إليهما في الرواية الأولى باعتبار الحقيقة في أحدهما، والمجاز في الآخر؛ لأن أحدهما مالك، والآخر مستام، وقوله في الرواية الأخرى:"يتبايعانه"؛ أي: يتساومان فيه، مالكه، والذي يريد شراءه، فلا يتم بينهما ذلك من بغتة قيام الساعة، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه.
وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، رفعه:"إن الساعة تقوم على الرجلين، وهما ينشران الثوب، فما يطويانه".
ووقع في حديث عقبة بن عامر عند الحاكم لهذه القصة وما بعدها مقدّمة، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء، من قِبَل المغرب، مثل الترس، فما تزال ترتفع، حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناد:
(1)
"القاموس المحيط" ص 310.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 556.
يا أيها الناس ثلاثًا، يقول في الثالثة: أتى أمر الله، قال: والذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب بينهما، فما يطويانه. . ." الحديث
(1)
.
(وَالرَّجُلُ يَلِطُّ فِي حَوْضِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، بفتح الياء، وكسر اللام، وتخفيف الطاء، وفي بعضها:"يليط" بزيادة ياء، وفي بعضها:"يلوط"، ومعنى الجميع واحد، وهو أنه يُطَيِّنه، ويصلحه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وتخفيف الطاء" لا وجه للتخفيف هنا، بل الصواب أنه بتشديد الطاء، من لطّ يلطّ، كفرّ يفِرّ، قال المجد رحمه الله: لطّ بالأمر: لَزِمه، وعليه: سَتَره، وا لبابَ: أغلقه، ولَطَطْتُ الشيءَ: ألصقته. انتهى المقصود منه
(2)
.
وقال في "المشارق": وعند القاضي الشهيد: يُليط بضم الياء، وكذا في البخاريّ، وعند الخشني عن الهوزنيّ: يلوط، ومعانيها متقاربة، ومعنى يَليط: يُلصق الطين به، ويسدّ تشققه؛ ليلا ينشف الماء، واللَّطّ: الإلزاق، ويلوط: يُصلح، ويُطيِّن، ويليط يُلزق به الطين، لاط الشيءُ بالشيء لَزِق، وألطته: ألزقته، ومعناه: إصلاحه، ورَمّه. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "يليط حوضه" بفتح أوله، من الثلاثيّ، وبضمه، من الرباعيّ، والمعنى: يصلحه بالطين، والمدر، فيسدّ شقوقه؛ ليملأه، ويسقي منه دوابه، يقال: لاط الحوضَ يليطه: إذا أصلحه بالمدر، ونحوه، ومنه قيل: اللائط لمن يفعل الفاحشة، وجاء في مضارعه: يلوط، تفرقة بينه وبين الحوض، وحَكَى القزاز في الحوض أيضًا: يلوط، والأصل في اللَّوْط: اللصوق، ومنه كان عمر يليط أهل الجاهلية بمن ادّعاهم في الإسلام.
قال الحافظ: كذا قال، والذي يتبادر أن فاعل الفاحشة نُسب إلى قوم لوط، والله أعلم.
ووقع في حديث عقبة بن عامر: "وإن الرجل لَيَمْدُر حوضه، فما يسقي منه شيئًا"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم، وأصله في مسلم: "ثم
(1)
"الفتح" 16/ 570.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1176.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 357.
يُنفخ في الصُّور، فيكون أول من يسمعه رجل يلوط حوضه، فيُصعق"، ففي هذا بيان السبب في كونه لا يسقي من حوضه شيئًا.
وقال في "الفتح" أيضًا: قوله: "يليط حوضه" بضم أوله، ويقال: ألاط حوضه: إذا مدّره؛ أي: جمع حجارة، فصيّرها كالحوض، ثم سدّ ما بينها من الْفُرَج بالمدّر ونحوه، لينحبس الماء، هذا أصله، وقد يكون للحوض خروق، فيسدّها بالمدر قبل أن يملأه، وفي كل ذلك إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة، كما قال الله تعالى:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]. انتهى
(1)
.
(فَمَا يَصْدُرُ)؛ أي: يفرغ، أو ينفصل عنه، (حَتَّى تَقُومَ)؛ أي: القيامة من قبل أن يستقي منه.
[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا اختصره المصنّف، وقد ساقه البخاريّ مطولًا، فقال:
(6704)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدّثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يُبعث دجّالون، كذّابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يُهمّ رب المال من يقبل صدقته، وحتى يَعرضه، فيقول الذي يَعرضه عليه: لا أَرَب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمرّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس؛ يعني: آمنوا أجمعون، فذلك حين: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لِقْحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يُليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أُكلته إلى فيه، فلا يطعمها". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 14/ 697.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2605.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 7383](2954)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6506) و"الفتن"(7121)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 369)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1103)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6845)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(4/ 774)، والله تعالى أعلم.
(28) - (بَابُ ذِكْرِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7384]
(2955) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ"، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ، "ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ
(1)
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ"، قَالَ: "وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ [5]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 297.
3 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزّيّات المدنيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان ذُكرَا في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "ثم ينزل من السماء".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وشيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ) فيه دليل على الرد على من يقول: إنها أربع نفخات، (أَرْبَعُونَ"، قَالُوا)؛ أي: الحاضرون مجلس أبي هريرة رضي الله عنه حين حدّث بهذا الحديث، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا السائل. (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟)؛ أي: هل المراد بالأربعين هي الأيام؟ (قَالَ) أبو هريرة: (أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ) بموحّدة؛ أي: امتنعت عن القول بتعيين ذلك؛ لأنه ليس عندي في ذلك توقيف، ولابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش في هذا الحديث:"فقال: أعييت"، من الإعياء، وهو التعب، وكأنه أشار إلى كثرة من يسأله عن تبيين ذلك، فلا يجيبه، وزعم بعض الشراح أنه وقع عند مسلم:"أربعين سنة"، ولا وجود لذلك، نعم أخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن الصلت، عن الأعمش، في هذا الإسناد:"أربعون سنة"، وهو شاذّ، ومن وجه ضعيف عن ابن عباس:"قال: ما بين النفخة والنفخة أربعون سنة"، ذكره في أواخر سورة "ص"، وكأن أبا هريرة لم يسمعها إلا مجملة، فلهذا قال لمن عيّنها له:"أبيت".
وقد أخرج ابن مردويه من طريق زيد بن أسلم، عن أبي هريرة:"قال: بين النفختين أربعون، قالوا: أربعون ماذا؟ قال: هكذا سمعت".
وقال ابن التين: ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون علم ذلك، لكن سكت ليخبرهم في وقت، أو اشتغل عن الإعلام حينئذ.
ووقع في "جامع ابن وهب": "أربعين جمعة"، وسنده منقطع.
(ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ) وفي نسخة: "ثم يَنْزِل"(مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَيَنْبُتُونَ)؛ أي:
الناس، (كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ) بفتح الموحّدة، وسكون القاف: كلُّ نبات اخضرّت به الأرض، قاله ابن فارس، وأَبْقَلَتِ الأرضُ: أنبتت البقل، فهي مُبْقِلَةٌ، على القياس، وجاء أيضًا بَقْلَةٌ، وبَقِيلَةٌ، وأَبْقَلَ الموضعُ من البقل، فهو بَاقِلٌ، على غير قياس، وأَبْقَلَ القومُ: وجدوا بقلًا، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إلَّا يَبْلَى) وفي رواية البخاريّ: "ويبلى كل شيء من الإنسان"، (إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ) وفي حديث أبي سعيد عند الحاكم، وأبي يعلى:"قيل: يا رسول الله، ما عَجْبُ الذنب؟ قال: مثل حبة خردل".
والعَجْب بفتح العين المهملة، وسكون الجيم، بعدها موحّدة، ويقال له: عجم بالميم أيضًا عِوَض الباء، هو عظم لطيف، في أصل الصُّلب، وهو رأس العُصْعُص، وهو مكان رأس الذَّنَب من ذوات الأربع، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ عند ابن أبي الدنيا، وأبي داود، والحاكم، مرفوعًا:"إنه مثل حبة الخردل".
قال ابن الجوزيّ: قال ابن عَقِيل: لله في هذا سرّ لا يعلمه إلا الله؛ لأن من يُظهر الوجود من العدم لا يحتاج إلى شيء يبني عليه.
ويَحْتَمِل أن يكون ذلك جُعل علامة للملائكة على إحياء كل إنسان بجوهره، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عَظْم كل شخص؛ ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هي جزء منها، ولولا إبقاء شيء منها لجوّزت الملائكة أن الإعادة إلى أمثال الأجساد، لا إلى نفس الأجساد.
وقوله في الحديث: "ويبلى كل شيء من الإنسان" يَحْتَمِل أن يريد به يفنى؛ أي: تُعدم أجزاؤه بالكلية، ويَحْتَمِل أن يراد به: يستحيل، فتزول صورته المعهودة، فيصير على صفة جسم التراب، ثم يعاد إذا رُكبت إلى ما عهد، وزعم بعض الشراح أن المراد: أنه لا يبلى؛ أي: يطول بقاؤه، لا أنه لا يفنى أصلًا.
والحكمة فيه: أنه قاعدة بدء الإنسان، وأُسّه الذي ينبني عليه، فهو أصلب
(1)
"المصباح المنير" 1/ 58.
من الجميع، كقاعدة الجدار، وإذا كان أصلب كان أدوم بقاء، وهذا مردود؛ لأنه خلاف الظاهر بغير دليل، وقال العلماء: هذا عامّ يخص منه الأنبياء؛ لأن الأرض لا تأكل أجسادهم، وألحق ابن عبد البر بهم الشهداء، والقرطبيّ المؤذن المحتسب، قال عياض: فتأويل الخبر، وهو كل ابن آدم يأكله التراب؛ أي: كل ابن آدم مما يأكله التراب، وإن كان التراب لا يأكل أجسادًا كثيرةً، كالأنبياء.
(وَمِنْهُ)؛ أي: من عَجْب الذَّنَب، (يُرَكَّبُ الْخَلْقُ)؛ أي: الإنسان الجديد (يَوْمَ الْقِيَامَةِ")؛ يعني: أن الله عز وجل يبقيه إلى أن يُرَكّب الخلق منه تارة أخرى؛ يعني: أنه يعيد خلقه في الآخرة من عَجْب ذَنَبه، كما أنشأ خلقه منه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 7384 و 7385 و 7386](2955)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4814)، و (أبو داود) في "السُّنّة"(4743)، و (النسائي) في "المجتبى"(4/ 111 - 112) و"الكبرى"(2204)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4266)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 239)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322 و 428 و 499)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3138)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله: كون ابن آدم يأكله التراب عامّ مخصوص، فإن الأنبياء عليهم السلام، لا تبلى أجسامهم الكريمة، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، واستثنى ابن عبد البرّ معهم الشهداء، قال: وحسبك ما جاء في شهداء أحد، وغيرهم، ثم ذكر حديث جابر لمّا نَقَلَ أباه في خلافة معاوية حين أراد إجراء العين التي في أسفل أُحُد، وقوله: "فأخرجناهم رطابًا، يتسنّون، فأصابت الْمِسْحَاة أصبع
رجل منهم، فتقطّر الدم". واقتصر القاضي عياض على قوله: وكثير من الشهداء، فدلّ على أنه يرى أن بعض الشهداء قد تأكل الأرض جسده، ولعله أشار بذلك إلى المبطون، ونحوه، من الملحقين بالشهداء. وضمّ أبو العباس القرطبيّ إلى الصنفين: المؤذّن المحتسب، لقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤذّن المحتسب كالمتشحّط في دمه، وإن مات لم يدوّد في قبره"
(1)
. قال: وظاهر هذا أن الأرض لا تأكل أجساد المؤذّنين المحتسبين، فللحديث إذًا تأويلان:
أحدهما: قال ابن عبد البر: كأنه قال: كلّ من تأكله الأرض، فإنه لا تأكل منه عَجْب الذَّنَب، قال: وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب جاز أن لا تأكل الشهداء.
الثاني: قال القاضي عياض: يريد أن جميع الإنسان مما تأكله الأرض، وإن كانت لا تأكل أجسامًا كثيرةً، كالأنبياء، وكثير من الشهداء. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي صحّ لدينا ممن لا يبلى جسده هم الأنبياء عليهم السلام، وأما الشهداء، فليس عليه دليل مرفوع يُستَنَد إليه، وإنما صحّ بما أخبر به جابر رضي الله عنه من خبر أبيه، ومَن دُفن معه رضي الله عنهم، ونحو ذلك، ولا يستبعد أن يكرم الله تعالى الشهداء بذلك.
بل قد يحصل لغيرهم من أهل الصلاح، والتقوى، فقد سمعتُ أخبارًا وممن لا أشك في كونهم صادقين أنهم وجدوا بعض أهل العلم، والصلاح، والزهد في قبورهم، كيوم موتهم بعد سنين متطاولة:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
2 -
(ومنها): أنه استَدَلّ جمهور أهل العلم بظاهر قوله: "إلا عجب الذنب" على أنّ عجب الذنب لا يبلى، ولا تأكله الأرض، بل يبقى على حاله، وإن بلي جميع جسد الميت، وخالف في ذلك المزنيّ، فقال: إن عجب الذنب
(1)
هذا حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفي إسناده إبراهيم بن رستم، عن قيس بن الربيع، وكلاهما ضعيفان، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (852 - 853).
يبلى أيضًا، فلم يجعل "إلّا" للاستثناء، بل هي عاطفة، كالواو، فكأنه قال: وعجب الذنب، وقد حُكي إثبات هذا المعنى لـ "إلا" عن الأخفش، والفرّاء، وأبي عبيدة، وأنكره الجمهور، وأوّلوا ما استدلّوا به، ويردّه في هذا الموضع كونه عقّب ذلك بقوله:"منه خُلق، وفيه يركّب"؛ أي: أنه أول ما يُخلَقُ من الآدميّ، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه، فلو ساوى عجب الذنب غيره في البلاء لم يبق لهذا الكلام محلّ، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن ظاهر هذا الحديث يدلّ على أن عجب الذنب أول مخلوق من الآدميّ، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال:"أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر، وهو يُخلَق". ذكره ابن عبد البرّ بإسناد منقطع، فلم يصحّ هذا، ولو صحّ عنه، فاتباع الحديث أَولى، وقد يقال: لا منافاة بينهما؛ لأن الحديث في ابن آدم، والأثر عن سلمان رضي الله عنه في آدم نفسه، فيمكن أن يكون أول مخلوق من آدم رأسه، ومن بنيه عجب الذنب. ويَحْتَمِل أن يكون أول مخلوق من آدم عجب الذنب كبنيه، ويكون معنى كلام سلمان إن صحّ عنه أن أول ما نفخ فيه الروح من آدم رأسه، ويوافق ذلك قول ابن جريج: يقولون: إن أول ما نُفخ في يأفوخ آدم، أفاده الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7385]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: الْحِزَمِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 308.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7376]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الإِنْسَانِ عَظْمًا، لَا تَأْكُلُهُ الأَرْضُ أَبَدًا، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "عَجْبُ الذَّنَبِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
* * *
(56) - (كِتَابُ الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)
قال الجامع عفا الله عنه: "الزُّهْدُ" بضم، فسكون: ترك الشيء، والإعراض عنه، قال الفيّوميّ رحمه الله: زَهِدَ في الشيء، وزَهِدَ عنه أيضًا زُهْدًا، وزَهَادَةً: بمعنى تركه، وأعرض عنه، فهو زَاهِدٌ، والجمع زُهَّادٌ، ويقال للمبالغة: زِهِّيدٌ، بكسر الزاي، وتثقيل الهاء، وزَهَدَ يَزْهَدُ، بفتحتين لغةٌ، ويتعدى بالتضعيف، فيقال: زَهَّدْتُهُ فيه، وهو يَتَزَهَّدُ، كما يقال: يَتَعَبّد، وقال الخليل: الزَّهَادَةُ في الدنيا، والزُّهْدُ في الدين، وشيء زَهِيدٌ، مثلُ قليل وزنًا ومعنى. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: زَهَدَ فيه، كمَنَعَ، وسَمِعَ، وكَرُمَ زُهْدًا، وزَهَادَةً، أو هي في الدنيا، والزُّهد في الدين: ضدّ رَغِبَ. انتهى.
وقال في "التاج" عن بعض أئمة اللغة أنه قال: أصوب ما قيل فيه - أي: في تعريف، الزهد - أنه: أخذ أقلّ الكفاية، مما تُيُقِّن حلُّه، وترك الزائد على ذلك لله تعالى. انتهى
(2)
.
وقال الغزاليّ رحمه الله في "الإحياء": الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، فكلّ من عدل عن شيء إلى غيره ببيع، أو غيره، فإنما عدل عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته فيه، فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمّى زهدًا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبةً وحبًّا، فإذن يستدعي حال الزهد مرغوبًا عنه، ومرغوبًا فيه هو خير من المرغوب عنه، وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضًا مرغوبًا فيه بوجه من الوجوه، فمن رغب عما ليس مطلوبًا في نفسه لا يسمى زاهدًا؛ فتارك الحجر، والتراب،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 257.
(2)
"تاج العروس" ص 2011.
والحشرات لا يسمى زاهدًا، وإنما يسمى زاهدًا من ترك الدراهم، والدنانير. انتهى.
وقال ابن القيّم رحمه الله في "مدارج السالكين"(2/ 12): والذي أجمع عليه العارفون أن الزهد سَفَر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة، قال: ومتعلّقه ستة أشياء لا يستحقّ العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي المال، والصُّوَر، والرئاسة، والناس، والنفس، وكلّ ما دون الله.
قال: وليس المراد رفضها من المُلك، فقد كان داود، وسليمان عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال، والمُلك، والنساء ما لهما، وكان نبيّنا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد، مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبّة للنساء، ونكاحًا لهنّ، وأغناهم، وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهّاد، مع كثرة أمواله، وكذلك الليث بن سعد من الأئمة الزهاد، وكان له رأس مال يقول: لولا هذا لتمندل بنا هؤلاء.
قال: ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لم لو تصبك، فهذا من أجمع كلام في الزهد، وأحسنه، وقد روي مرفوعًا.
والحاصل أن حقيقة الزهد ليست منافية للأخذ بأسباب الدنيا، وإنما حقيقته أن لا تتعلّق الأسباب بقلب العبد حتى تلهيه عن ذكر الله عز وجل، والدار الآخرة، وأن يكون الإنسان إنما يؤثر نعيم الآخرة على نعيم الدنيا، ومن هنا يفترق الزهد عن الرهبانيّة التي ابتدعها النصارى، فإن الرهبانية ترك أسباب الدنيا بأسرها، والزهد ليس كذلك، وإنما هو أن تكون رغبة العبد في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، وأن لا تشغله أسباب الدنيا عن سعيه للآخرة، والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 427 - 429.
وأما الرقاق، بكسر الراء، وتخفيف القاف، وكذا الرقائق، فهي: جمع رقيقة، وسُمِّيت هذه الأحاديث بذلك؛ لأن في كل منها ما يُحدث في القلب رِقّة، قال أهل اللغة: الرقة: الرحمة، وضدّ الغِلَظ، ويقال للكثير الحياء: رَقّ وجهه استحياءً، وقال الراغب: متى كانت الرقة في جسم، فضدّها الصَّفَاقة، كثوب رقيق، وثوب صَفيق، ومتى كانت في نفس، فضدّها القسوة، كرقيق القلب، وقاسي القلب، وقال الجوهريّ: وترقيق الكلام: تحسينه، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(1) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ الدُّنَيَا سِجْنَ الْمُؤْمِنِ، وَهَوَانِهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7387]
(2956) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) وهو ابن (90) سنةً (ع)، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عُبيد، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يحدِّث من كتب غيره فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد الله العمري منكر [8](ت 6 أو 187)(ع)، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل - بكسر المعجمة، وسكون الموحدة - المدنيّ، صدوقٌ، رُبَّما وَهِم [5] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ز م 4)، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
(1)
"الفتح" 14/ 491.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ المدنيّ، مولى الْحُرَقة - بضم المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف - ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن أهلها، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا)؛ أي: الحياة الدنيا، (سِجْنُ الْمُؤْمِنِ) بالنسبة لِمَا أُعدَّ له في الآخرة من النعيم المقيم، (وَجَنَّةُ الْكَافِرِ) بالنسبة لِمَا أمامه من عذاب الجحيم، وعما قريب يحصل في السجن المستدام نسأل الله السلامة يوم القيامة، وقيل: المؤمن صَرَف نفسه عن لذاتها، فكأنه في السجن؛ لِمَنْع الملاذّ عنه، والكافر سَرَّحها في الشهوات، فهي له كالجنة.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن كل مؤمن مسجون، ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة، والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلّته، وتكديره بالمنغِّصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم، وشقاء الأبد. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كانت الدنيا كذلك؛ لأن المؤمن فيها مقيّد بقيود التكاليف، فلا يقدر على حركة، ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع، فيفك قيده، ويُمكنه من الفعل، أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا، والمحن، والمكابدات من الهموم، والغموم، والأسقام، والآلام، ومكابدة
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 93.
الأنداد، والأضداد، والعيال، والأولاد، وعلى الجملة يبتلى المرء على حسب دينه.
أخرج الترمذيّ عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح
(1)
.
وأيُ سجن أعظم من هذا؟ ثم هو في هذا السجن على غاية الخوف والوجل؛ إذ لا يدري بماذا يُختم له من عمل، كيف وهو يتوقّع أمرًا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكًا لا هلاك فوقه؟! فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه، لكن الله عز وجل لطف به، فهوّن عليه ذلك كلّه بما وعده على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.
والكافر منفكّ عن تلك الحالات بالتكاليف، آمِن من تلك المخاويف، مقبلٌ على لذّاته، منهمك في شهواته، مغترّ بمساعدة الأيام، يأكل، ويتمتع، كما تأكل الأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل في السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة. انتهى
(2)
.
وقال السهرورديّ رحمه الله: إن السجن، والخروج منه يتعاقبان على قلب العبد المؤمن على توالي الساعات، ومرور الأوقات؛ لأن النفس كلما ظهرت صفاتها أظلم الوقت على القلب، حتى ضاق، وانكمد، وهل السجن إلا تضييق، وحجر من الخروج والولوج؟ فكلما هَمّ القلب بالتبري عن مشائم الأهواء الدنيوية، والتخلص عن قيود الشهوات العاجلة؛ تَشَهِّيًا إلى الآجلة، وتَنَزّهًا في فضاء الملكوت، ومشاهدةً للجمال الأزليّ حَجَزه الشيطان المردود عن هذا الباب المطرود بالاحتجاب، فتدلى بحبل النفس الأمّارة إليه، فكدّر صفو العيش عليه، وحال بينه وبين محبوب طبعه، وهذا من أعظم السجون، وأضيقها، فإن من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت،
(1)
"جامع الترمذيّ" 4/ 601.
(2)
"المفهم" 7/ 109 - 110.
وضاقت عليه نفسه، ولهذا المعنى أخبر الله تعالى عن جماعة من الصحابة حيث تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، فقال تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآية [التوبة: 118]
(1)
.
[فائدة]: ذكروا أن الحافظ ابن حجر رحمه الله لما كان قاضي القضاة مَرّ يومًا بالسوق في موكب عظيم، وهيئة جميلة، فهجم عليه يهوديّ يبيع الزيت الحارّ، وأثوابه ملطخة بالزيت، وهو في غاية الرثاثة والشناعة، فقبض على لجام بغلته، وقال: يا شيخ الإسلام تزعم أن نبيكم قال: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر" فأيّ سجن أنت فيه، وأي جنة أنا فيها؟ فقال: أنا بالنسبة لما أَعد الله لي في الآخرة من النعيم، كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أُعد لك في الآخرة من العذاب الأليم، كأنك في جنة، فأسلم اليهوديّ، ذكره المناويّ رحمه الله
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7387](2956)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2324)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4113)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 323 و 389 و 485) وفي "الزهد"(ص 37)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(687)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 350)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 352 و 404)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4104 و 4105)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7388]
(2957) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ
(3)
، فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ، مَيِّتٍ،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3273.
(2)
"فيض القدير" 3/ 546.
(3)
وفي نسخة: "كنفيه".
فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:"أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ "، فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: "أَتُحِبُّونَ
(1)
أَنَّهُ لَكُمْ؟ "، قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: "فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْن مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدِّمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
3 -
(جَعْفَرُ) بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو عبد الله المعروف بالصادق، صدوقٌ، فقيهٌ، إمام [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
4 -
(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام - بمهملة، وراء - الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ - بفتحتين - مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفي رواية الابن عن أبيه، وفيه جابر بن عبد الله الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، غزا تسع عشرة غزوة، وهو أحد المكثرين السبعة، ومن المعمّرين.
(1)
وفي نسخة: "تحبّون".
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ)؛ أي: اجتاز (بِالسُّوقِ)؛ أي: بسوق المدينة، والسُّوقُ بالضمّ يُذَكَّر، ويُؤَنَّث، وقال أبو إسحاق: السُّوقُ التي يباع فيها مؤنثة، وهو أفصح، وأصحّ، وتصغيرها سُوَيْقَةٌ، والتذكير خطأ؛ لأنه قيل: سُوقٌ نافقة، ولم يُسمع نافق، بغير هاء، والنسبة إليها سُوقِيٌّ على لفظها، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وسُمّيت بالسوق؛ لقيام الناس فيها على ساقهم، وقال ابن الأثير رحمه الله: سمّيت بالسوق؛ لأن التجارة تُجلب إليها، وتساق المبيعات نحوها. انتهى
(2)
.
حال كونه (دَاخِلًا) إلى المدينة (مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ)؛ أي: من بعض القرى التي، تسمّى بالعالية، وهي العوالي، (وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ) وفي بعض النسخ:"كنفتيه" بالتثنية، معنى الأول جانبه، والثاني جانبيه، وهو منصوب على الظرفيّة، فقوله:"والناس" مبتدأ خبره الظرف، والجملة حال.
(فَمَرَّ بِجَدْيٍ) - بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة، آخره ياء تحتانيّة - قال ابن الأنباريّ: هو الذَّكر من أولاد المعز، والأنثى عَنَاق، وقيّده بعضهم بكونه في السنة الأُولى، والجمع أَجْدٍ، وجِدَاءٍ، مثل دَلْوٍ وأَدْلٍ، وَدِلاءٍ، والجِدْيُ بالكسر لغة رديئة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
(أَسَكَّ)؛ أي: مصطلم الأذنين، مقطوعهما
(4)
.
(مَيِّتٍ) بسكون التحتانيّة، وتشديدها، (فَتَنَاوَلَهُ)؛ أي: أصاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الجدي، وقوله:(فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ) بيان لمعنى التناول، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ ")؛ أي: بِعِوَض درهم واحد، (فَقَالُوا) الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم:(مَا) نافية، (نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ) مقابل له جليل أو حقير، (وَمَا) استفهاميّة؛ أي: أي شيء (نَصْنَعُ بِهِ؟)؛ أي: بهذا الجدي الأسكّ الميت (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَتُحِبُّونَ) وفي نسخة: "تحبّون" بحذف الاستفهام، وهو على تقديرها، (أَنَّهُ لَكُمْ؟ ") بأيّ طريق كان، (قَالُوا: وَاللهِ لَوْ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 296.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" ص 455.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 93.
(4)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 384.
كَانَ حَيًّا، كَانَ) هذا السكك (عَيْبًا فِيهِ)؛ أي: في هذا الجدي (لأَنَّهُ أَسَكُّ)؛ أي: مقطوع الأذنين، أو صغيرهما، وهذا عيب، (فَكَيْفَ) إذا ضمّ فيه عيب آخر (وَهُوَ) أنه (مَيِّتٌ؟)؛ أي: فيكون أبعد شيء من رغبتنا، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا) بفتح اللام، وهي الرابطة لجواب القَسَم، (أَهْوَنُ)؛ أي: أحقر (عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا)؛ أي: من حقارة هذا الجدي الأسك الميت (عَلَيْكُمْ") معاشر الحاضرين.
قال القرطبيّ رحمه الله: الدُّنيا: وزنها فُعْلى، وألفها للتأنيث، وهي من الدنوّ بمعنى القُرْب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، غير أنه قد كَثُر استعمالها استعمال الأسماء، فاستُغني عن موصوفها، كما جاء في هذا الحديث. والمراد: الدار الدنيا، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى، أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لذاتها، بل جعلها طريقًا موصلًا إلى ما هو المقصود لذاته، وأنه لم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنَّما جعلها دار رِحلة، وبلاء، وأنه مَلَكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء، والأولياء، وقد أوضح النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فقال:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء"
(1)
، وحسبك بها هوانًا أن الله تعالى قد صغّرها، وحقّرها، وذمَّها، وأبغضها، وأبغض أهلها، ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزوّد منها، والتأهب للارتحال عنها، ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلّم"
(2)
، ولا يُفهم من هذا الحديث إباحة لعن الدنيا، وسبّها مطلقًا؛ لِمَا رويناه من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدنيا، فنِعْمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرّ، إنه إذا قال العبد:
(1)
حديث صحيح.
(2)
رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن غريب.
لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربّه"
(1)
، خرّجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشميّ.
وهذا يقتضي المنع من سبّ الدنيا، ولَعْنها.
ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مُبعِدًا عن الله تعالى، وشاغلًا عنه، كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله تعالى من مال، وولد فهو عليك مشؤوم، وهو الذي نبَّه الله على ذمه بقوله تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20]، وأما ما كان من الدنيا يقرّب إلى الله تعالى، ويعين على عبادة الله تعالى، فهو المحمود بكل لسان، والمحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يُسَبّ، بل: يرغب فيه، ويحبّ، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال:"إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلم"، وهو المصرَّح به في قوله:"فإنَّها نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرّ"، وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين. والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: من الغريب محاولة القرطبيّ في الجمع بين الحديثين، ومعروف أن التعارض لا يأتي إلا بين حديثين ثابتين، وأما إذا كان أحدهما غير ثابت، فلا تعارض أصلًا، وما هنا من هذا القبيل، فإن الحديث الذي أورد القرطبيّ ذكره العلماء مثالًا للموضوعات، ففي سنده إسماعيل بن أبان: كذاب.
قال الذهبيّ رحمه الله في "الميزان": إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي الخياط كذبه يحيى بن معين، وقال أحمد بن حنبل: كتبنا عنه عن هشام بن عروة، ثم روى أحاديث موضوعة عن فطر وغيره، فتركناه، وقال البخاريّ: ترك أحمد، والناس حديثه، ثم أورد من مناكيره هذا الحديث، ثم قال: وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. انتهى
(3)
، فهذا هو حال الحديث الذي حاول القرطبيّ في الجمع بينه وبين الحديث الصحيح المتقدّم، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
هذا حديث موضوع، كما سيأتي.
(2)
"المفهم" 7/ 108 - 109.
(3)
"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" 1/ 368.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7388 و 7389](2957)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(962)، و (أبو داود) في "الطهارة"(186)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 365)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 349)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حقارة الدنيا، وهوانها على الله سبحانه وتعالى.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تحذير أمته من الاغترار بالدنيا؛ لأنها تنسي الآخرة التي هي دار القرار.
3 -
(ومنها): استحباب توضيح المسألة بضرب الأمثال؛ لأن الأمثال ترسّخ في القلب صورة المسألة، وتثبّتها.
4 -
(ومنها): أن فيه جوازَ مس ميتة مأكول اللحم، وأن غسل اليد بعد مسها ليس بضروري
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7389]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِيَانِ الثَّقَفِيَّ - عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: فَلَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ هَذَا السَّكَكُ بِهِ عَيْبًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ) السامي - بالسين المهملة - البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، تكلم أحمد في بعض سماعه [10](ت 231)(م س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
(1)
"عون المعبود" 1/ 223.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، تغير قبل موته بثلاث سنين [8](194) عن نحو من ثمانين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 173.
والباقون ذكروا في الباب وقبل باب.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن جعفر هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7390]
(2958) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ، فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ، فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ، فَأَمْضَيْتَ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) هو: هدبة - بضم أوله، وسكون الدال، بعدها موحدة - ابن خالد بن الأسود القيسيّ أبو خالد البصري، ثقةٌ عابدٌ تفرد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(مُطَرِّفُ) بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضل [2] مات سنة خمس وتسعين (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن الشِّخِّير - بكسر الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة المكسورة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم راء - ابن عوف العامريّ الصحابيّ، من مسلمة الفتح (م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 13/ 1238.
والباقيان ذُكرا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيه من المقلّين من الرواية، إذ ليس له في الكتب الستة إلا نحو تسعة أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُطَرِّف) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن الشِّخِّير؛ أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}) وفي رواية النسائيّ: "جئت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} حتى ختمها"، نقوله:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ؛ يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا، ومن الالتفات إليها عما هو الأَولى بكم من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور، إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} [القيامة: 20، 21]، وكما قال:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} ؛ أي: حتّى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زُوّارًا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنّة، أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي: ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات. وقيل: هذا وعيد؛ أي: اشتغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما يحلّ بكم من عذاب الله عز وجل
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَقُولُ ابْنُ آدَمَ) أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا تفسير هذه الآية الكريمة، فبيّن أن المراد بالتكاثر هو التكاثر في الأموال، وللمفسّرين أقوال في معناها، ولكن هذا التفسير هو الصواب المقدّم على غيره؛ لأن الله تعالى جعل بيان كتابه إليه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وفي "صحيح البخاريّ" من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن لابن آدم واديًا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
قال: وقال لنا أبو الوليد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أُبَيّ، قال: كنا نَرَى هذا من القرآن، حتى نزلت:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} .
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 169.
قال ابن العربيّ: وهذا نصّ صحيح مَلِيحٌ، غاب عن أهل التفسير، فجهِلُوا، وجَهَّلُوا، والحمد لله على المعرفة.
(مَالِي مَالِي)؛ أي: يغترّ بنسبة المال إليه، وكونه في يديه، حتّى ربّما يعجب به، ويفخر به، ولعلّه ممن تعب هو في جَمْعه، ويصل غيرُه إلى نفعه، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بالأوجه التي ينتفع فيها صاحب المال بماله، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ) هذا خطاب لكلّ من يصلح له الخطاب، (مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ، فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ، فَأَبْلَيْتَ) إنكار منه صلى الله عليه وسلم على ابن آدم بأن ماله هو ما انتفع به في الدنيا بالأكل، أو اللبس، أو في الآخرة بالتصدّق، وأشار بقوله:"فأفنيت"، "فأبليت" إلى أن ما أكل، أو لبس، فهو قليل الجدوى، لا يرجع إلى عاقبة. قاله السنديّ، (أَوْ تَصَدَّقْتَ، فَأَمْضَيْتَ؟ ")؛ أي: أردت التصدّق، فأمضيتَ ذلك، أو تصدّقت، فقدّمت لآخرتك. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول العبد: مالي، مالي، إنما ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك، فهو ذاهب، وتاركه للناس"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن الشخِّير رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7390 و 7391](2958)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2342) و"التفسير"(2354)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3640) و"الكبرى"(6440 و 11696)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 24) وفي "الزهد"(ص 17)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(497)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 281)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(701)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1148)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1217)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 533 و 534 و 4/ 322 و 323)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(1/ 359)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4055)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان معنى هذه السورة المباركة، فهذا الحديث هو المعتمَد في تفسيرها، وقد اختلف المفسّرون على عدّة أقوال، ولا اعتماد على شيء منها؛ وإنما الاعتماد على هذا الحديث.
2 -
(ومنها): بيان أن السُّنَّة هي المبيّنة للمراد من مجمل الكتاب، فإذا كان هناك آراء لأهل العلم في معنى آية، ننظر فيما وردت به السُّنَّة القوليّة، أو الفعليّة، فنقدّمه على سائر محتمل الكلام؛ لأن الله تعالى جعل بيان كتابه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وحيث قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
3 -
(ومنها): أن مال الإنسان الحقيقيّ هو الذي انتفع به في حياته، إما بما يعود نفعه إليه حالًا، كالأكل، والشرب، واللباس، أو مآلًا، كالتصدّق به، وصلة الرحم، وسائر وجوه البرّ، وأما ما عدا ذلك، فهو لورثته، لا يناله منه شيء، بل إنما يلحقه تبعاته، فيحاسب إن كان حلالًا، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟ ويعاقب إن كان حرامًا، فالواجب على العاقل أن يتنبّه لهذه الدقائق، فإن الندم بعد فوات الأوان هو عين الخسران، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7391]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَقَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ عنْ أَبِيهِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هَمَّامٍ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(سَعِيدُ) بن أبي عَروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.
وقوله: (وَقَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيِّ) ضمير التثنية لابن المثنّى،
وابن بشار، و"ابن أبي عديّ" هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ) ضمير الجماعة لشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ، فثلاثتهم رووا عن قتادة، عن مطرّف، عن أبيه رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية شعبة عن قتادة، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(701)
- أخبرنا عبد الله بن قحطبة، قال: حدّثنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، وهو غندر، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت قتادة قال: سمعت مُطرِّفًا يحدث عن أبيه، قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} قال: "يقول: ابن آدم: مالي، مالي، وإنما لك من مالك ما أكلت، فأفنيت، أو لَبِست، فأبليت، أو تصدقت، فأمضيت". انتهى
(1)
.
وأما رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(16365)
- حدّثنا عبد الوهاب، قال: أنا سعيد، عن قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله، عن أبيه، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"ويقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت، فأفنيت، أو لبست، فأبليت، أو تصدقت، فأمضيت؟ ". انتهى
(2)
.
وأما رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شعب الإيمان"، فقال:
(3332)
- حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله بن السماك، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثيّ، ثنا معاذ بن هشام الدستوائيّ، حدّثني أبي، عن قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، أن أباه حدّثه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ، وهو يقول: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا
(1)
"صحيح ابن حبان" 2/ 474 - 475.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 26.
ما أكلت، فأفنيت، أو لبست، فأبليت، أو تصدقت، فأمضيت". انتهى
(1)
(2)
.
(3327)
- أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ ".
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7392]
(2959) - (حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي، إِنَّهَ لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ، مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 24) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عُمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ، رُبّما وَهِم [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ الْعَبْدُ:)؛ أي: مع أن العبد وما في يده لمولاه، ولا ينبغي له أن ينسب إلى نفسه شيئًا، (مَالِي مَالِي) المعنى: يعدده افتخارًا، أو يذكره احتقارًا، أو لم يعرف المقصود من المال، ولا ما يترتب عليه فيه من الوبال، فإن حلاله حساب، وحرامه عقاب.
(1)
صحيح ابن حبان 8/ 120.
(2)
"شعب الإيمان" 3/ 206.
(إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ)"ما" الأولى موصولة، و"له" صلتها، و"من ماله" متعلق بالصلة، و"ثلاث" خبرٌ، وإنما أنثه على تأويل المنافع، ذكره الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
والمعنى: أن الذي يحصل له من ماله ثلاث منافع في الجملة، لكن منفعة واحدة منها حقيقةً باقية، والباقي منها صورية فانية
(2)
. (مَا أَكَلَ)؛ أي: ما استعمل من جنس المأكولات والمشروبات ففيه تغليب، أو اكتفاء. (فَأَفْنَى)، أي: فأعدمه، (أَوْ لَبِسَ) من الثياب (فَأَبْلَى)؛ أي: فأخلقه، (أَوْ أَعْطَى) في سبيل الله تعالى، وصلة الرحم، وفي وجوه الخير (فَاقْتَنَى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في معظم النسخ، ولمعظم الرواة:"فاقتنى"، ومعناه: ادّخره لآخرته؛ أي: ادّخر ثوابه، وفي بعضها:"فأقنى" بحذف التاء، أرضى، والمعنى: فأرضى الله تعالى به، من القنى، بكسر القاف، وبالنون، مقصورًا، وهو الرضا، وهذه رواية ابن ماهان.
وحاصل المعنى: أنه جعله قِنيةً وذخيرة للعقبى، فيناله في ذلك اليوم، كما تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
(وَمَا سِوَى ذَلِكَ)؛ أي: وما عدا ما ذُكر، من سائر أنواع المال، من المواشي، والعقار، والخدم، والنقود، والجواهر، ونحو ذلك، أو ما سوى ذلك المذكور من الأوجه الثلاثة، كاقتنائه، وادّخاره بلا صرف، وإنفاقه في وجوه الخير، وإخراج حقوق الله تعالى عنه، وكإنفاقه في المحرّمات، والمكروهات، والاعتداء به على غيره (فَهُوَ)؛ أي: العبد، (ذَاهِبٌ) عنه إلى القبر (وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ")؛ أي: من الورثة، أو غيرهم، بلا فائدة راجعة إليه، مع أن المحاسبة، والمعاقبة عليه، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3280.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 15/ 58.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7392 و 7393](2959)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 368 و 412)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3244)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 368 - 369) و"شعب الإيمان"(7/ 272)، و (تمام الرازيّ) في "فوائده"(1/ 337)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7393]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الْجُمحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
و"العلاء" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(6302)
- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعيّ، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا عيسى بن ميناء، ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس". انتهى
(1)
.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 3/ 368.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7394]
(2960) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135) سبعين سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
والباقون ذُكروا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (442) من رباعيّات الكتاب، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ) قال في "العمدة": هكذا هو في رواية الأكثرين، والسرخسيّ، وفي رواية المستملي:"يتبع المرء"، وفي رواية أبي ذرّ عن الكشميهنيّ:"يتبع المؤمن" والأول هو المحفوظ، قيل: التبعية في بعضها حقيقة، وفي بعضها مجاز، فكيف جاز استعمال لفظ واحد فيهما؟.
وأجيب: بأنه يجوز عند الشافعية ذلك، وأما عند غيرهم فيُحمل على عموم المجاز. انتهى
(1)
.
(ثَلَاثَةٌ)؛ أي: ثلاثة أشياء، (فَيَرْجِعُ اثْنَانِ) إلى مكانهما، ويتركانه وحده
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 33/ 307.
(وَيَبْقَى وَاحِدٌ)؛ أي: لا ينفكّ عنه، وقوله:(يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ) توضيح لقوله: "ثلاثة"، وقال في "الفتح": قوله: "يتبعه أهله، وماله، وعمله" هذا يقع في الأغلب، ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط، والمراد: من يتبع جنازته من أهله، ورفقته، ودوابه، على ما جرت به عادة العرب، وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا، سواء أقاموا بعد الدفن أم لا.
(فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ") معنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر، وقد وقع في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما الطويل في صفة المسألة في القبر، عند أحمد وغيره، ففيه:"ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، فهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يأتي بالخير، فيقول أنا عملك الصالح"، وقال في حق الكافر:"ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرّ، فيقول: أنا عملك الخبيث. . ." الحديث.
قال الكرمانيّ: التبعية في حديث أنس بعضها حقيقة، وبعضها مجاز، فيستفاد منه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، قال الحافظ: هو في الأصل حقيقة في الحس، ويطرقه المجاز في البعض، وكذا المال، وأما العمل فعلى الحقيقة في الجميع، وهو مجاز بالنسبة إلى التبعية في الحسّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7394](2960)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6514)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2379)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1937) و"الكبرى"(2064)، و (أحمد) في "مسنده"(11670)، و (الحميديّ)
(1)
"الفتح" 14/ 710 - 711.
في "مسنده"(1186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3107)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن العمل يدخل القبر مع الإنسان، فينتفع به إن كان صالحًا، ويتضرّر به، إن كان غير صالح، وقد ورد ذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد وغيره، ففيه:"ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".
وقال في الكافر: "ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِم الساعة". . . الحديث. وقد ذكرت الحديث بطوله في غير هذا المحلّ.
2 -
(ومنها): التنبيه على الاهتمام بإصلاح العمل، حيث إنه لا يفارق عامله في دار البقاء.
3 -
(ومنها): أن مما يجب على العاقل عدمَ الاشتغال بالأهل والمال عن الأعمال الصالحات، إلا فيما له تعلّق بالآخرة، كتعليم أهله دينهم، وتوجيههم إلى الخير، والقيام بماله، ليصل به رحمه، ويواسي به الفقراء والمحتاجين، وينفقه في سبيل الله تعالى، فإن هذا يعدّ من أعماله الصالحات التي تدخل معه القبر، وينتفع بها، وما عدا ذلك فهو فتنة، وقد حذّر الله تعالى منها، حيث قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7395]
(2961) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ - يَعْنِي: ابْنَ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيَّ - أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ:"أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ"، فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ) المصريّ [11] تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الفقيه [9] تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ [7] تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ [4] تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام المدنيّ الفقيه [3] تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 407.
6 -
(الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات سنة أربع وستين (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
7 -
(عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ) الأنصاريّ حليف بني عامر بن لؤيّ، قال ابن إسحاق: كان مولى سهيل بن عمرو، وأخرج الشيخان، وأصحاب "السنن" سوى أبي داود، من طريق الزهريّ، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، أن عمرو بن عوف، وهو حليف بني عامر بن لؤيّ، وكان شهد بدرًا أخبره، أن
النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح، فقدم بمال من البحرين. . . الحديث. وقال ابن سعد: عمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو، يكنى أبا عمرو، وكان من مولّدي أهل مكة، كان موسى بن عقبة وغيره يقولون: عمير بالتصغير، وكان ابن إسحاق يقول: عمرو، وذكره ابن حبان في الصحابة في باب عمير، وقال ابن عبد البرّ في باب من اسمه عمير: عمير بن عوف من مولدي مكة، شهد بدرًا وما بعدها، ومات في خلافة عمر، فصلى عليه، وقال في باب من اسمه عمرو: عمرو بن عوف الأنصاريّ حليف بني عامر بن لؤيّ، يقال له: عمير سكن المدينة، لا عقب له، وروى عنه المسور بن مخرمة حديثًا واحدًا، وكذا فرّق العسكريّ بين الأنصاريّ وبين حليف بني عامر، والحق أنه واحد، واسمه عمرو، وعمير تصغيره.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له. عندهم إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريون، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ أَنَّ الْمِسْوَرَ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو، (ابْنَ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء، (أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، وَهُوَ)؛ أي: عمرو، (حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ) الحليف، بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام: المعاهد، يقال: تحالفا: إذا تعاهدا، وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحدًا في النصرة، والحماية، وبينهما حِلْف، وحِلْفةٌ؛ أي: عهد
(2)
. (وَكَانَ) عمرو المذكور (شَهِدَ) بكسر الهاء، (بَدْرًا)؛ أي: غزوتها، وكان في رمضان من السنة الثانية الهجريّة، (مَعَ
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 168 - 169.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 146 - 147.
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر المسور، (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ) هو: عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال القرشيّ الفهريّ الصحابيّ الشهير، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة المتوفّى بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة من الهجرة، وله ثمان وخمسون سنة، له في مسلم ذكر بلا رواية، وتقدّمت ترجمته في "الصيد والذبائح" 4/ 4990. (إِلَى الْبَحْرَيْنِ) البلد المشهور بالعراق، وهي بين البصرة وهَجَر، (يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا) الجزية بكسر الجيم، وسكون الزاي: ما يؤخذ من أهل الذمّة، وجمعه جِزًى، مثلُ سدرة وسِدَرٍ
(1)
، قاله الفيّوميّ، وقال في "الفتح": الجزية: من جزأت الشيءَ: إذا قسمته، ثم سُهِّلت الهمزة، وقيل: من الجزاء؛ أي: لأنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام، أو من الإجزاء؛ لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه. انتهى
(2)
.
وقوله: "يأتي بجزيتها"؛ أي: بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك المجوس، (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ) على أداء الجزية، (وَأَمَّرَ) بتشديد الميم؛ أي: ولّى (عَلَيْهِمُ)؛ أي: على أهل البحرين، (الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ) اسم أبيه عبد الله بن عمّار، الصحابيّ الجليل، وكان حليف بني أميّة، عمل على البحرين للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ومات رضي الله عنه سنة أربع عشرة، وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته في "الحج" 78/ 3298.
وقال في "الفتح": قوله: "صالح أهل البحرين" كان ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة، والعلاء بن الحضرميّ صحابيّ شهير، واسم الحضرمي: عبد الله بن مالك بن ربيعة، وكان من أهل حضرموت، فقدِم مكة، فحالف بها بني مخزوم، وقيل: كان اسم الحضرمي في الجاهلية: زهرمز، وذكر عُمَر بن شَبّة في "كتاب مكة" عن أبي غسان، عن عبد العزيز بن عمران أن كسرى لمّا أغار بنو تميم، وبنو شيبان على ماله، أرسل إليهم عسكرًا عليهم زهرمز، فكانت وقعة ذي قار، فقتلوا الفرس، وأسروا أميرهم، فاشتراه صخر بن رزين الديلي، فسرقه منه رجل من حضرموت، فتبعه صخر حتى افتداه منه، فقدِم به مكة، وكان صنّاعًا، فعتق، وأقام بمكة، ووُلد له أولاد نجباء، وتزوج أبو
(1)
"المصباح المنير" 1/ 100 - 101.
(2)
"الفتح" 9/ 441.
سفيان ابنته الصعبة، فصارت دعواهم في آل حرب، ثم تزوجها عبيد الله بن عثمان، والد طلحة أحد العشرة، فولدت له طلحة، قال: وقال غير عبد العزيز: إن كلثوم بن رزين، أو أخاه الأسود، خرج تاجرًا، فرأى بحضرموت عبدًا فارسيًّا نجارًا يقال له: زهرمز، فقدم به مكة، ثم اشتراه من مولاه، وكان حميريًّا يكنى أبا رفاعة، فأقام بمكة، فصار يقال له: الحضرميّ، حتى غلب على اسمه، فجاور أبا سفيان، وانقطع إليه، وكان آل رزين حلفاء لحرب بن أمية، وأسلم العلاء قديمًا، ومات الثلاثة المذكورون، أبو عبيدة، والعلاء باليمن، وعمرو بن عوف في خلافة عمر رضي الله عنه
(1)
.
وذكر ابن سعد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة، أرسل العلاء إلي المنذر بن ساوى عامل البحرين، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية. (فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ) رضي الله عنه (بِمَالٍ) كثير (مِنَ الْبَحْرَيْنِ) روى ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال، مرسلًا أن ذلك المال كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرميّ من خراج البحرين، قال: وهو أول خراج حُمل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ) بمال البحرين، (فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ) وفي رواية للبخاريّ:"فوافقت صلاة الصبح"(مَع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فوافوا"؛ أي: جاؤوا، فاجتمعوا عند صلاة الصبح معه؛ ليقسم بينهم ما جاء به أبو عبيدة؛ لأنَّهم أرهقتهم الحاجة، والفاقة التي كانوا عليها، لا الحرص على الدنيا، ولا الرغبة فيها، ولذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبشروا، وأمّلوا ما يسرّكم"، وهذا تهوين منه صلى الله عليه وسلم عليهم ما هم فيه من الشدة، وبشارة لهم بتعجيل الفتح عليهم. انتهى
(3)
.
يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون في كل الصلوات في التجميع، إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلّون في مساجدهم؛ إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه؛ فلأجل ذلك عَرَف النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم اجتمعوا لأمر، ودلّت القرينة على تعيين ذلك
(1)
"الفتح" 7/ 446 - 447.
(2)
"الفتح" 2/ 147.
(3)
"المفهم" 7/ 112.
الأمر، وهو احتياجهم إلى المال؛ للتوسعة عليهم، فأبوا إلا أن يكون للمهاجرين مثل ذلك، وفي حديث أنس:"فلما قَدِم المال رأوا أن لهم فيه حقًّا"، ويَحْتَمِل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضر، وقد وعد جابرًا بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين، فوفّى له أبو بكر رضي الله عنه
(1)
.
(فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ)؛ أي: رجع من صلاته، وتوجّه إلى الناس (فَتَعَرَّضُوا لَهُ)؛ أي: سألوه بالإشارة، (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ) تعجّبًا من حالهم؛ لأنهم ما كانوا يصلّون معه، وإنما يصلّون في مساجدهم، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ) بكسر الدال، (بِشَيْءٍ) من المال (مِنَ الْبَحْرَيْنِ"، فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ) قال الأخفش: "أجل" في المعنى مثل "نعم"، لكن "نعم" يحسن أن تقال في جواب الاستفهام، و"أجل" أحسن من نعم في التصديق. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَأَبْشِرُوا) بقطع الهمزة، من الإبشار، ويجوز وصلها، أمر، معناه الإخبار بحصول المقصود، (وَأَمِّلُوا) بتشديد الميم، من التأميل؛ أي: تمنّوا، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَملْتُهُ أَمَلًا، من باب طَلَب: تَرَقَّبتُه، وأكثر ما يُستعمل الأمل فيما يُستبعد حصوله، قال زهير [من البسيط]:
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُها
…
وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
ومَن عَزَم على السفر إلى بلد بعيد يقول: أَمَلْتُ الوصول، ولا يقول: طَمِعت إلا إذا قَرُب منها، فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرب حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع، فإن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأمُولُهُ، ولهذا يستعمل بمعنى الخوف، فإذا قوي الخوف استُعمل استعمال الأمل، وعليه بيت زهير، وإلا استُعمل بمعنى الطمع، فأنا آمِلٌ، وهو مَأْمُولٌ على فاعل، ومفعول، وأَمَّلْتُهُ تَأْمِيلا مبالغةً وتكثيرًا، وهو أكثر من استعمال المخفف، ويقال لِمَا في القلب مما يُنال من الخير: أَمَلٌ، ومن الخوف: إيجَاسٌ، ولِمَا لا يكون لصاحبه، ولا عليه: خَطْرٌ، ومن الشر، وما لا خير فيه: وسْوَاسٌ، وتَأَمَّلْتُ الشَّيء: إذا تدبرته، وهو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وعلى هذا فيجوز أن يقرأ: "املوا" بقطع
(1)
"الفتح" 7/ 447.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 22 - 23.
الهمزة، والتشديد، وبوصل الهمزة، والتخفيف، من باب طلب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مَا يَسُرُّكُمْ)"ما" موصولة مفعول "أمّلوا"، و"يسرّكم" بفتح أوله، وضم الراء المشدّدة، يقال: سرّه يسرّه سُرورًا بالضمّ، والاسم: السَّرُور بالفتح: إذا أفرحه
(1)
.
(فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: "الفقرَ" منصوب على أنه مفعول مقدم لـ "أخشى"، ولا يجوز رفعه إلا على وجه بعيد، وهو أن يُحذف ضمير المفعول، ويُعامل معاملة الملفوظ، كما قال امرؤ القيس:
فَثَوْبٌ نَسِيتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ
فكأنه قال: فثوب نسيته، وثوب أجرّه، وهي قليلة بعيدة، وفيه ما يدلّ على أن الفقر أقرب للسلامة، والاتساع في الدنيا أقرب للفتنة، فنسأل الله الكفاف، والعفاف. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ما الفقر أخشى عليكم" بنصب الفقر؛ أي: ما أخشى عليكم الفقر، ويجوز الرفع بتقدير ضمير؛ أي: ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخَصَّ بعضهم جواز ذلك بالشعر.
وهذه الخشية يَحْتَمِل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستُفتح عليهم، ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذُكر ذلك في أعلام النبوة، مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع، فوقع.
وقال الطيبيّ رحمه الله: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأَعْلَم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه، وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب، لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر، كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده، والمراد بالفقر: العهديّ، وهو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من قلة الشيء، ويَحْتَمِل الجنس، والأول أَولى، ويَحْتَمِل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة
(1)
"المصباح المنير" 1/ 274.
(2)
"المفهم" 7/ 112 - 112.
الغنى؛ لأن مضرة الفقر دنيوية غالبًا، ومضرة الغنى دينية غالبًا. انتهى
(1)
.
(وَلكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ) ببناء الفعل للمفعول في الموضعين، (عَلَى مَنْ كَانَ قبْلَكُمْ)؛ أي: من الأمم السابقة، (فَتَنَافَسُوهَا) أصله تتنافسوها، فحُذفت إحدى التاءين تخفيفًا، كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقد تقدّم غير مرّة، والتنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء، ومحبة الانفراد به، والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال: نافست في الشيء منافسةً، ونَفاسةً، ونَفاسًا، ونَفُس الشيء بالضم نَفاسةً: صار مرغوبًا فيه، ونَفِستُ به بالكسر: بَخِلت، ونَفِست عليه: لم أره أهلًا لذلك.
(كَمَا تَنَافَسُوهَا) قال القرطبيّ: أي: تتحاسدون فيها، فتختلفون، وتتقاتلون، فيُهلك بعضكم بعضًا، كما قد ظهر ووُجد، وقد سَمّى في هذا الحديث التحاسد تنافسًا توسُّعًا؛ لِقُرب ما بينهما. (وَتُهْلِكَكُمْ كمَا أَهْلَكَتْهُمْ")؛ أي: لأن المال مرغوب فيه، فترتاح النفس لِطَلَبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك، قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فُتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها، وشر فتنتها، فلا يطمئنّ إلى زخرفها، ولا ينافس غيره فيها، ويُستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجرّ إلى هلاك النفس غالبًا، والفقير آمن من ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7395 و 7396](2961)، و (البخاريّ) في "الجزية"(3158) و"المغازي"(4015) و"الرقاق"(6425)، و (الترمذيّ) في
(1)
"الفتح" 14/ 515.
(2)
"الفتح" 14/ 515 - 516، "كتاب الرقاق" رقم (6425).
"الفتن"(2462)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 234)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4045)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 173)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 137)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 363)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 276)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(14/ 256)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كرم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعدم التفاته إلى المال قلَّ أو كثر.
2 -
(ومنها): أن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها، ولا يؤخره.
3 -
(ومنها): جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه، من صدقة، ونحوها، في المسجد، ومحله ما إذا لم يَمنع مما وضع له المسجد من الصلاة، وغيرها، مما بُني المسجد لأجله، ونحو وَضْع هذا المال وَضْع مال زكاة الفطر.
4 -
(ومنها): جواز وَضْع ما يعم نفعه في المسجد، كالماء لِشُرب من يعطش.
5 -
(ومنها): بيان أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه.
6 -
(ومنها): أن فيه البشرى من الإمام لأتباعه، وتوسيع أملهم منه.
7 -
(ومنها): أن فيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم.
8 -
(ومنها): أن الأمر الوارد بالصلاة في مسجد الحي، ولا يتتبّع المساجد أمر استحباب، فقد أخرج الطبرانيّ في "المعجم الكبير" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"ليصلّ أحدكم في مسجده، ولا يتتبّع المساجد"
(1)
، فهو محمول على الاستحباب، بدليل حديث الباب، فإن الأنصار كانت لهم مساجد، فتركوها، وصلّوا معه صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليهم، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن المنافسة في الدنيا قد تجرّ إلى هلاك الدِّين، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا: "تتنافسون، ثم تتحاسدون،
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" 12/ 370 رقم (13373).
ثم تتدابرون، ثم تتباغضون"، أو نحو ذلك، يأتي في هذا الباب بعد حديث، وفيه إشارة إلى أن كل خصلة من المذكورات مسبَّبة عن التي قبلها، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7396]
(. . .) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارمِيُّ، أَخْبَرَنَا لو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، وَمِثْلِ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ:"وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
وقوله: (وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ) من الإلهاء؛ أي: تشغلكم عن أمور دينكم، وعن الاستعداد لآخرتكم.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لصالح بن كيسان، وشعيب بن أبي حمزة.
[تنبيه]: أما رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(8767)
- أنبأ عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا عمي، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة أخبره، أن عمرو بن عوف، وكان شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بماله من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافت صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، قال:"أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ " قالوا: أجل يا رسول الله، قال:
"فأبشروا، وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما من الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوا، وتلهيكم كما ألهتهم". انتهى
(1)
.
وأما رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2988)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: حدّثني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، أنه أخبره، أن عمرو بن عوف الأنصاريّ، وهو حليف لبني عامر بن لؤيّ، وكان شهد بدرًا، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرميّ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، وقال:"أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ " قالوا: أجل يا رسول الله، قال:"فأبشروا، وأمّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7397]
(2962) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رَبَاحٍ - هُوَ أَبُو فِرَاسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - حَدَّثَهُ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ:"إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟ "، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 234.
(2)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1152.
تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ) - بتشديد الواو - أبو محمد المصريّ، ثقة [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) أبو محمد المصريّ الحافظ [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ المصريّ [7]، تقدم في "الإيمان" 16/ 169
4 -
(بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ) بن ثُمامة الْجُذاميّ، أبو ثُمامة المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] مات سنة بضع وعشرين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 93/ 505.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ رَبَاحٍ أَبُو فِرَاسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) هو: يزيد بن رَبَاح - بموحدة - السهمي أبو فِراس - بكسر الفاء - المصريّ، لقبه مشفر، ثقة [3].
روى عن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر، وأم سلمة.
وروى عنه بكر بن سوّادة، وجعفر بن ربيعة، والزهريّ، وعلي بن رباح، ويزيد بن أبي حبيب، وآخرون.
قال ابن يونس: تُوفي سنة تسعين، قال سعيد بن عفير: شَهِد فتح مصر، ولا يصحّ، وذكره يعقوب بن سفيان، وابن حبان، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة.
تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ)؛ أي: غلبتموهما، ونُصرتم
عليهما، واستوليتم على غنائمهما، (أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟)؛ أي: أيّ شيء تصنعون، فهل تقومون بأداء الشكر؟، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا استفهام يشوبه إخبارٌ منه صلى الله عليه وسلم عن أمر قبل وقوعه، وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان ذلك من أدلة صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، ورسالته، وكم له صلى الله عليه وسلم منها وكم!، معنى:"أيُّ قوم أنتم؟ "؛ أي: على أيّ حال تكونون؟ فكأنه قال: أتبقَون على ما أنتم عليه؟ أو تتغير بكم الحال؟ فـ (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنه: (نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ) تعالى، قال النوويّ: معناه: نحمده، ونشكره، ونسأله المزيد من فضله، وقال القرطبيّ: أي: نقول قولًا مثل الذي أمرنا الله، وكأن هذا منه إشارة إلى قول الله تعالى:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وذلك أنه فَهِم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف عليهم الفتنة، من بَسْط الدنيا عليهم، فأجابه بذلك، فكأنه قال: نستكفي الفتن، والمحن بالله تعالى، ونقول كما أُمرنا، وهذا إخبار منهم عما يقتضيه حالهم في ذلك الوقت، فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يبقون على تلك الحال، وأنها تتغير بهم. وقال بعض الشارحين: لعلّه يكون كما أمرنا الله، وهذا تقدير غلط للرواة، لا يُحتاج إليه مع صحة المعنى الذي أبديناه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) بسكون الواو، وهي القاطعة، و"غير" بالنصب على إضمار فعل، تقديره: أو تفعلون غير ذلك، ويجوز رفعه على تقدير: أو يكونُ غيرُ ذلك
(2)
.
(تَتَنَافَسُونَ)؛ أي: تتسابقون إلى أخذ الدنيا، (ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ) بعد الأخذ، (ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ)؛ أي: تتقاطعون، فيُولّي كل واحد منكم دُبُره عن الآخر معرضًا عنه، (ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ)؛ أي: ثم تثبت البغضاء في القلوب، وتتراكم حتى يكون عنها الخلاف، والقتال، والهلاك، كما قد وُجد، كذا قال القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: التنافس إلى الشيء: المسابقة إليه، وكراهة أخذ غيرك إياه، وهو أول درجات الحسد، وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة
(1)
"المفهم" 7/ 113 - 114.
(2)
"المفهم" 7/ 114.
(3)
"المفهم" 7/ 114.
عن صاحبها، والتدابر: التقاطع، وقد بقي مع التدابر شيء من المودّة، أو لا يكون مودّة ولا بغض، وأما التباغض فهو بَعد هذا، ولهذا رُتِّبت في الحديث. انتهى
(1)
.
(أَوْ) تفعلون (نَحْوَ ذَلِكَ) بأن تتقاتلوا، أو تتضاربوا، وتتناهبوا، أو تتغاصبوا إلى غير ذلك.
(ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ)؛ أي: تتوجهون، وتتصرّفون (فِي) شؤون (مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ) وضعفائهم، (فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ")؛ أي: تولّون بعضهم علي بعضهم حتى يذلّوهم، ويظلموهم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض"، وفي رواية السمرقنديّ:"فتحملون"، قال بعضهم: لعل أصول هذا الكلام: "ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين". قال القاضي: لا أدري ما الذي حمل هذا على تفسير الرواية مع عدم توجيه الكلام على ما قبله، واستقلاله بالمراد، لا سيما مع قوله بعد هذا:"فتحملون بعضهم على رقاب بعض"، والأشبه أن يكون الكلام على وجهه، وأراد أن مساكين المهاجرين، وضَعَفتهم ستُفتح عليهم إذ ذاك الدنيا، حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض.
قال القرطبيّ: والعجب من إنكار القاضي على هذا المتأوّل، واختياره هذا المعنى الذي لا يقبله مساق الحديث، ولا يشهد له معناه، وذلك أن معنى الحديث: أنه أخبرهم أنهم تتغيّر بهم الحال، وأنهم يصدر عنهم، أو عن بعضهم أحوال غير مرضية، تخالف حالهم التي كانوا عليها معه صلى الله عليه وسلم من التنافس، والتباغض، وانطلاقهم في مساكين المهاجرين، فلا بدّ أن يكون هذا الوصف غير مرضيّ كالأوصاف التي قبله، وأن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجبه، وحينئذ يلتئم الكلام أوله وآخره، ولا يصحّ ذلك إلا بذلك التقدير الذي أنكره القاضي، فيكون معنى الحديث أنه إذا وقع التنافس، والتحاسد، والتباغض حَمَلهم ذلك على أن يأخذ القويّ ما أفاءه الله تعالى على المسكين
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 96 - 97.
الذي لا يقدر على مدافعته، فيمنعه عنه ظلمًا، وهذا بمقتضى التنافس، والتحاسد، والتباغض، ويعضده رواية السمرقنديّ:"فيحملون بعضهم على رقاب بعضهم"؛ أي: بالقهر والغلبة، وأما ما اختاره القاضي فغير ملائم للحديث، فتدبّره تجده كما أخبرتك، والله تعالى أعلم
(1)
.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7397](2962)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3996)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6688)، و (يعقوب الفسويّ) في "المعرفة"(2/ 514)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 285)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يكون بعده صلى الله عليه وسلم، فكان كما أخبر به.
2 -
(ومنها): بيان أن الفتوحات الدنيويّة سبب لحصول الفتن، من التحاسد، والتباغض، والتدابر، والتقاتل.
3 -
(ومنها): ذم المال إذا كان يؤدّي إلى التقاطع، والتباغض، والتحاسد، وإلا فـ "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، فقد أخرج الإمام أحمد، وصححه ابن حبّان عن موسى بن عُليّ، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني"، فأتيته، وهو يتوضأ، فصَعَّد فيّ النظرَ، ثم طأطأه، فقال:"إني أريد أن أبعثك على جيش، فيسلّمك الله، ويُغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة"، قال: قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمرو نِعم
(1)
"المفهم" 7/ 115 - 116.
المال الصالح للمرء الصالح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7398]
(2963) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا، وَقالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
وقد تقدَّم هذا السند نفسه في الباب الماضي، و"يحيى" تقدَّم في هذا الباب.
شرح الحديث:
(عَن أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، وفي رواية ابن وهب، عن مالك:"حدّثني أبو الزناد"، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب". (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز، وفي رواية سعيد بن داود، عن مالك:"حدّثني أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره، أنه سمع أبا هريرة"، أخرجه الدارقطني أيضًا، وضاق مخرجه على أبي نعيم، فأخرجه من طريق القاسم بن زكريا، عن البخاريّ، وأخرجه الإسماعيليّ من طريق حميد بن قتيبة، عن إسماعيل، والدارقطنيّ من وجهين عن إسماعيل، قاله في "الفتح"
(2)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ) بالفاء، والضاد المعجمة، مبنيًّا للمفعول، (عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ) بفتح الخاء؛ أي: الصورة، ويَحْتَمِل أن يدخل في ذلك الأولاد، والأتباع، وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، قال الحافظ رحمه الله: ورأيته في نسخة معتمدة من "الغرائب" للدارقطنيّ: "والْخُلُق" بضم الخاء واللام. انتهى
(3)
.
(فَليَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ) وفي رواية عبد العزيز بن يحيى، عن
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 197.
(2)
"الفتح" 14/ 642، "كتاب الرقاق" رقم (6490).
(3)
"الفتح" 14/ 642.
مالك: "فلينظر إلى من تحته"، أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، ويجوز في "أسفل" الرفع، والنصب، والمراد بذلك: ما يتعلق بالدنيا. (مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ") قال في "الفتح": قوله: "ممن فُضِّل عليه" كذا ثبت في آخر هذا الحديث عند مسلم، من طريق المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، وكذا ثبت لمالك الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، عند الدارقطنيّ من رواية سعيد بن داود عنه، بسند صحيح، وزاد مسلم من طريق أبي صالح المذكورة:"فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"؛ أي: هو حقيق بعدم الازدراء، وهو افتعال، من زريت عليه، وأزريت به: إذا تنقّصته، وفي معناه ما أخرجه الحاكم، من حديث عبد الله بن الشِّخِّير، رفعه:"أَقِلُّوا الدخول على الأغنياء، فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7398 و 7399 و 7400](2963)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6490)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2513)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4142)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 254 و 482)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(711 و 712 و 713)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 429)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4100 و 401)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه ينبغي للعبد دائمًا أن يكون شكورًا على ما أنعم الله تعالى به عليه، ولا ينظر إلى من هو أكثر، وأفضل نعمة منه، فإن الله عز وجل هو قسّم الأرزاق، والمعيشة حسب مقتضى حكمته، فلا ينبغي للعبد النظر إلى غيره؛ لأنه يؤديه إلى ازدراء ما رزقه الله تعالى على مقتضى حكمته، وحكمه، قال الله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
2 -
(ومنها): ما قاله الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: خرج بقوله: "في المال، والْخَلْق" ما إذا نظر لمن فُضل عليه في العلم، والدين، والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النفس بدفع الأخلاق السيئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النظر فيه إلى الفاضل؛ ليقتدى به دون المفضول؛ لأنه يتكاسل بذلك، بخلاف الأول، فإنه لا ينظر فيه إلى الفاضل؛ لِمَا فيه من احتقار نعمة الله عليه بالنسبة إلى نعمته على ذلك الفاضل في المال والخلق، وإنما ينبغي أن ينظر في هذا إلى المفضول؛ ليعرف قدر نعمة الله عليه، وهذا أدب حسنٌ، أَدَّبنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه مصلحة ديننا، ودنيانا، وعقولنا، وأبداننا، وراحة قلوبنا، فجزاه الله عن نصيحته أفضل ما جزى به نبيًّا. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدِّين من عبادة ربه مجتهدًا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله، فيكون أبدًا في زيادة، تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخسّ حالًا منه، فإذا تفكّر في ذلك عَلِم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضّل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيُلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده.
وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء؛ لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه، لم يأمَن أن يؤثر ذلك فيه حسدًا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه؛ ليكون ذلك داعيًا إلى الشكر.
وأخرج الترمذيّ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضّله به عليه، كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه، فأَسِف على ما فاته منه، لم يكتبه الله
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 139.
شاكرًا، ولا صابرًا"
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله في "المرقاة": وفي الحديث دلالة على أن حال أكثر الخَلْق هو الاعتدال، ولو بحسب الإضافة والانتقال، فالسالك بالنظر إلى حال طرفيه يحصل له حُسن الحال، وإيماء إلى أن المفضل على الخلق كلهم من جميع الوجوه مثلًا أو فرضًا لا ينظر إلى من تحته؛ لئلا يحصل له العجب والغرور، والافتخار والتكبر والخيلاء، بل يجب عليه أن يقوم بحق شكره على النَّعماء، وأما من لم يكن تحته أحد في الفقر، فينبغي أن يشكر ربه، حيث لم يبتله بالدنيا؛ لقلّة غَنائها، وكثرة عنائها، وسرعة فنائها، وخسة شركائها.
قال: ومجمل الحال، وخلاصة المقال، أن المؤمن إذا سَلِم دينه من الخلل والزوال، فلا يبالي بنقصان الجاه والمال، وسائر المشقات الكائنة في الحال والاستقبال
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7399]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ سَوَاءٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(712)
- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدّثنا ابن أبي السريّ، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والْخَلْق، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ممن فُضل هو عليه". انتهى
(3)
.
(1)
"جامع الترمذيّ" 4/ 665.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 145.
(3)
"صحيح ابن حبان" 2/ 489.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7400]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حدَّثَنَا أَبُوَ مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ
(1)
مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ"، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: "عَلَيْكُمْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلهم تقدّموا قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
وقوله: (إِلَى مَنْ أَسْفَلَ) وفي نسخة: "إلى من هو أسفل"، و"أسفل" بالرفع، والنصب.
وقوله: (فَهُوَ)؛ أي: النظر المذكور، (أَجْدَرُ)؛ أي: أحقّ وأولى (أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)؛ أي: بعدم الازدراء، والاحتقار لِمَا قَسم الله عليكم في هذه الدار، فإنه يَظهر لكم بذلك النظر أن لله تعالى عليكم نِعَمًا كثيرةً بالنسبة إلى من دونكم، أو نِعَمًا كثيرة حيث اختار لكم الفقر، والبلاء، وجعلكم من أهل الولاء، وشبّهكم بالأنبياء والأولياء؛ إذ هم الذين يُبتلون بالمحن؛ ليفيض الله تعالى عليهم كلّ المنن.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى "أجدر": أحقّ، و"تزدروا": تحقروا، قال ابن جرير وغيره: هذا حديث جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى مَن فُضِّل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرَص على الازدياد؛ ليلحق بذلك، أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "إلى من هو أسفل".
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 97.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7401]
(2964) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ ثَلَاثةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، فَأرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ - شَكَّ إِسْحَاقُ، إِلَّا أَنَّ الأَبْرَصَ، أَوِ الأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُما: الإبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ: الْبَقَرُ - قَالَ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِليَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ، وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ، يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ
مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ، إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً، أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى، فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لَا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ للهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ على صَاحِبَيْكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ) الأنصاريّ النجاريّ، واسم أبي عمرة عمرو بن محصن، وقيل: غيره، يقال: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة، من كبار [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1492.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"همّام" هو: ابن يحيى الْعَوْذيّ البصريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من إسحاق، والباقيان بصريّان، ومسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ؛ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ ثَلَاثَةً)؛ أي: ثلاثة أشخاص، وقوله:(فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ) صفة لـ "ثلاثة"، وقوله:(أَبْرَصَ)؛ أي: من أصابه البرص، وهو بياض يظهر في ظاهر البدن؛ لفساد المزاج، يقال: بَرِص، كفرح، فهو أبرص، والمرأة برصاء. (وَأَقْرَعَ) هو الذي ذهب شعر رأسه لعلة وآفة، فإن كان لغير علة سمّي أصلع. (وَأَعْمَى)؛ أي: من ذهب بصره، فقوله:"أبرص. . . إلخ" بدل من "ثلاثة" بدل تفصيل من مجمل، وقوله:(فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) خبر "إن" والفاء زائدة، ويَحْتَمل أن يكون خبر "إن" قوله:"في بني إسرائيل"، والابتلاء: الاختبار، وفي بعض النسخ:"أن يبليهم" بإسقاط التاء، وهو بمعنى الأول.
وقال في "المرقاة": قوله: "أبرص، وأقرع، وأعمى" منصوبات على
البدلية من "ثلاثة"، وقوله:"فأراد الله أن يبتليهم"؛ أي: يمتحنهم؛ ليعرفوا أنفسهم، أو ليعرفهم الناس، أو ليعلم تعالى أحوالهم علم ظهور، كما يعلمها علم بطون، قال الطيبيّ رحمه الله: هو خبر "إن" عند من يجوّز دخول الفاء في خبرها، ومن لم يجوّز قدّر الخبر؛ أي: إن فيما أقص عليكم قصّة ثلاثة نفر، فالفاء لتعقيب المفسّر المجمل، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، ولو رُفع "أبرص" وما عُطف عليه بالخبرية تعيّن للتفسير. انتهى؛ يعني: أن رَفْعها بتقدير أحدُهم أبرص، أو منهم أبرص. انتهى.
ووقع في رواية البخاريّ: "بدا لله أن يبتليهم" بتخفيف الدال المهملة بغير همز؛ أي: سبق في علم الله، فأراد إظهاره، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافيًا؛ لأن ذلك محال في حق الله تعالى.
قال في "الفتح": وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن همام بهذا الإسناد، بلفظ:"فأراد الله أن يبتليهم" فلعل التغيير فيه من الرواة، مع أن في الرواية أيضًا نظرًا؛ لأنه لم يزل مريدًا، والمعنى: أظهر الله ذلك فيهم، وقيل: معنى أراد: قضى، وقال صاحب "المطالع": ضبطناه على متقني شيوخنا بالهمز؛ أي: ابتدأ الله أن يبتليهم، قال: ورواه كثير من الشيوخ بغير همز، وهو خطأ. انتهى، وسبق إلى التخطئة أيضًا الخطابيّ، قال الحافظ: وليس كما قال؛ لأنه موجَّه كما ترى، وأَولى ما يُحمل عليه أن المراد: قضى الله أن يبتليهم، وأما البدء الذي يراد به تغيّر الأمر عما كان عليه فلا. انتهى
(1)
.
(فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا)؛ أي: في صورة رجل مسكين، كما دل عليه قوله الآتي:"في صورته، وهيئته"، (فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ)؛ أي: الملَك للأبرص، (أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟)؛ أي: من الأحوال، (قَالَ) الأبرص:(لَوْنٌ حَسَنٌ) كالبياض، (وَجِلْدٌ حَسَنٌ)؛ أي: ناعم طريّ، (وَيَذْهَبُ عَنِّي) عطف على قوله:"لون حسنٌ" على تقدير "أن"، كقوله:
أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى
…
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
الشاهد: "أحضر"؛ أي: أن أحضر
(2)
.
(1)
"الفتح" 8/ 105.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534 بزيادة إيضاح.
وقال القاري: "ويذهب عني" بالرفع، كقوله:"أحضر الوغى"، وفي نسخة على صيغة المجهول؛ أي: يزال عني.
(الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ) بكسر الذال المعجمة؛ أي: كرهني الناس؛ أي: كرهوا مخالطتي من أجله، وهو البرص، ويروى:"قذروني الناسُ" من باب أكلوني البراغيث، كذا قاله الكرماني
(1)
.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَمَسَحَهُ)؛ أي: فمسح الملَك جسم ذلك الأبرص، (فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ) بفتحتين؛ أي: برصه، (وَأُعْطِيَ) بالبناء للمفعول، (لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ) ذلك الملك.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فذهب عنه قذره. . . إلخ" قدّم هنا ذهاب القذر على إعطاء الحُسن على الترتيب في الوجود؛ لأن إعطاء الحُسن مسبوق بذهاب القذر، وقدّم الحسن على ذهاب القذر؛ لأن الحسن هو المقصود بالذات، والأهمّ بالطلب، ولأنه إذا جاء الحسن ذهب القذر لا محالة، بخلافه إذا ذهب القذر، فقد يتخلّف عنه الحسن، فلذا عقّب الذهاب بالحُسن في الثاني. انتهى
(2)
.
(فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإبِلُ، أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ - شَكَّ إِسْحَاقُ،) بن عبد الله الراوي عن أنس، وقوله:(إِلَّا أَنَّ الأَبْرَصَ، أَوِ الأَقْرعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِبِلُ، وَقالَ الآخَرُ: الْبَقَرُ -) استثناء من قوله: "شكّ"؛ أي: شكّ إسحاق في ذلك، لكن لم يكن يشكّ في أن الأبرص، أو الأقرع انفرد كلّ واحد منهما في طلب الإبل، أو البقر، ثم بنى على هذا الاحتمال قوله:"فأعطي ناقةً"؛ أي: الأبرص. انتهى
(3)
.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَأُعْطِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أعطي الذي تمنى الإبل (نَاقَةً عُشَرَاءَ) بضم العين المهملة، وفتح الشين المعجمة، مع المدّ: هي الحامل التي أتى عليها في حَمْلها عشرة أشهر من يوم طَرَقها الفحل، وقيل:
(1)
"عمدة القاري" 16/ 48.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534.
يقال لها ذلك إلى أن تَلِد، وبعدما تضع، وهي من أنفس المال
(1)
.
(فَقَالَ) الملَك: (بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا)؛ أي: في الناقة العشراء، وفي رواية البخاريّ:"يُبارَك لك فيها"، بضم أوله، مبنيًّا للمفعول.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَأَتَى)؛ أي: الملَك (الأَقْرَعَ، فَقَالَ) له: (أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ) بفتح العين المهملة، وتسكن، (حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَنِي) بكسر الذال، (النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ)؛ أي: مسح الملَك رأسه (فَذَهَبَ عَنْهُ) القرع، (وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ) الملَك: (فَأيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ) الأقرع: (الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ) الملَك: (بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَأَتَى) الملَك (الأَعْمَى، فَقَالَ) له: (أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ) الأعمى: (أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِليَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرَ) بالنصب عطفًا على "يردّ"، وقال القاري: بالنصب، والرفع. (بِهِ النَّاسَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَمَسَحَهُ)؛ أي: مسح الملَك عين الأعمى (فرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ) الملَك: (فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ) الأعمى: (الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا)؛ أي: ذات ولد، ويقال: حاملًا، وقال الطيبيّ: الوالد هي التي قد عُرف منها كثرة الولد
(2)
. (فَأُنْتِجَ هَذَانِ)؛ أي: صاحب الإبل والبقر، وهما الأبرص والأقرع، (وَوَلَّدَ هَذَا)؛ أي: صاحب الشاة، وهو الأعمى، وهو بتشديد اللام، و"أنتج" في مثل هذا شاذّ، والمشهور في اللغة: نُتجت الناقة، بضم النون، ونتج الرجل الناقة؛ أي: حمل عليها الفحل، وقد سُمع: أُنتجت الفرس إذا ولدت، فهي نتوج، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال الطيبيّ: قوله: "فأنتج هذا" هكذا الرواية، ومعناه: تولى الولادة، والمشهور: نُتج، والناتج للإبل كالقابلة للنساء. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ: قوله: "شاة والدًا"؛ أي: وضعت ولدها، وهو معها.
وقوله: "فأنتج هذان وولد هذا": هكذا الرواية: "فأنتج" رباعيّ، وهي
(1)
"الفتح" 8/ 105.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534.
(3)
"الفتح" 8/ 105.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534.
لغة قليلة الاستعمال، والمشهور: نُتج ثلاثيّ، وممن حكى اللغتين الأخفش، ومعناه: تولى الولادة، وهي النَّتْجُ، والإنتاج، ووَلَّد هذا بتشديد اللام معنى أنتج، والناتجُ للإبل، والمولِّد للغنم، وغيرها، كالقابلة للنساء. انتهى
(1)
.
(قَال: فَكَانَ لِهَذَا)؛ أي: للأبرص (وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا)؛ أي: للأقرع (وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا)؛ أي: للأعمى (وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ).
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ إِنَّهُ)؛ أي: الملَك (أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ، وَهَيْئَتِهِ)؛ أي: التي جاء الأبرص عليها أول مرة، قال الطيبيّ: ولا يبعد أن يكون الضمير راجعًا إلى الأبرص، لعله يتذكر حاله، ويرحم عليه بماله، والأول أظهر في الحجة عليه، حيث جاءه في صورته التي تسبَّبت في جماله، وحصول كثرة ماله. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "في صورته"؛ أي: في الصورة التي كان عليها لمّا اجتمع به، وهو أبرص؛ ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليه. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ) خبر لمحذوف؛ أي: أنا (قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ)؛ أي: الأسباب، قال الطيبيّ: الباء للتعدية، وتعقّبه بعضهم، فقال: فيه تأمل؛ لأن المعنى لا يساعد التعدية، والأصوب أن يقال: الباء بمعنى "من"، كما في قوله تعالى:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6].
وقال في "الفتح": الحبال بكسر المهملة، بعدها موحدة خفيفة: جمع حبل؛ أي: الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق، وقيل: العقبات، وقيل: الحبل هو المستطيل من الرمل، ولبعض رواة مسلم:"الحيال" بالمهملة والتحتانية: جمع حيلة؛ أي: لم يبق لي حيلة، ولبعض رواة البخاري:"الجبال" بالجيم، والموحدة، وهو تصحيف، قال ابن التين: قول الملك له: رجل مسكين. . . إلخ، أراد أنك كنت هكذا، وهو من المعاريض، والمراد به ضَرْب المثل ليتيقظ المخاطب. انتهى.
والمعنى: انقطعت الأسباب التي أستعين بها (فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ)؛ أي: لا كفاية (لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ)؛ أي: إيجادًا وإمدادًا، (ثُمَّ بِكَ)؛ أي: سببًا
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 98 - 99.
(2)
"الفتح" 8/ 105.
وإسعادًا، وفيه من حُسن الأدب ما لا يخفى، حيث لم يقل: وبك، بل أتى بـ "ثم" التي لتراخي الرتبة والتنزل في المرتبة، قال الطيبيّ: أمثال ذلك من الملائكة ليست إخبارًا، بل من معاريض الكلام، كقول إبراهيم عليه السلام:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله:"هي أختي"، وكقول الملائكة لداود عليه السلام:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23].
(أَسْأَلُكَ) مُقْسِمًا عليك، أو متوسلًا إليك (بالَّذِي) قال الطيبيّ: الباء للقَسَم، والاستعطاف؛ أي: أسألك بحقّ الذي، أو متوسّلًا بالذي (أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ)؛ أي: الإبل، (بَعِيرًا) مفعول "أسألك"؛ أي: أطلب منك بعيرًا (أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي) وفي رواية الكشميهني: "أتبلغ به"، وأتبلغ بالغين المعجمة، من البلغة وهي الكفاية، والمعنى: أتوصل به إلى مرادي. (فَقَالَ) الرجل: (الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ)؛ أي: حقوق المال كثيرة عليّ، ولم أقدر على أدائها، أو حقوق المستحقين كثيرة، فلم يحصل لك البعير، وقد أراد به دفعه، وهو غير صادق فيه، (فَقَالَ لَهُ) الملَك:(كَأَنِّي أَعْرِفُكَ) نكتة التشبيه المغالطة؛ لتمكنه المكابرة، (أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ)؛ أي: قد كنت أبرص (يَقْذَرُكَ النَّاسُ) بفتح الذال؛ أي: يكرهونك، ويستقذرونك، وهو حال، كقوله:(فَقِيرًا) أو هذا خبر ثان، وهو الأظهر؛ لقوله:(فَأَعْطَاكَ اللهُ)؛ أي: مالًا، أو جمالًا ومالًا، (فَقَالَ) الرجل:(إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ)؛ أي: كبيرًا عن كبير؛ أي: ورثته عن آبائي الذين ورثوه من أجدادي الذين ورثوه من آبائهم، كبيرًا عن كبير في العز والشرف والثروة، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال الطيبيّ رحمه الله قوله: "كابرًا عن كابر" حال، يقال: هو كبير قومه أكبرهم في السنّ والرياسة، أو في النسب.
وقال القاري رحمه الله "كابرًا" حال؛ أي: كبيرًا آخذًا عن كبير، أو كبيرًا بعد كبير، والمعنى: حال كوني أكبر قومي سنًّا، ورياسة، ونسبًا، وآخذًا عن آبائي الذين هم كذلك حسًّا، ونِعم من قال [من الطويل]:
كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَعْرُ يَوْمًا إِذَا اكْتَسَى
…
وَلَمْ يَكُ صُعْلُوكًا إِذَا مَا تَمَوَّلَا
وهذا من باب الاكتفاء في الجواب، فإنه يلزم عُرفًا من التكذيب في شيء
تكذيبه في آخر. انتهى
(1)
.
(فَقالَ) الملك: (إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ) من البرص، والفاقة؛ أي: جعلك حقيرًا فقيرًا، وإنما أورد بصيغة الماضي؛ لأنه أراد المبالغة في الدعاء عليه، كذا قال الحافظ، وقال القاري: وقيل: ذكر "إن" دون "إذا" مع أن كَذِبه كان مقطوعًا به عند الملَك؛ لقصد التوبيخ، وتصوير أن الكذب في مثل هذا المقام يجب أن يكون، إلا على مجرد الفرض والتقدير. انتهى، قال القاري: والأظهر أنه عدل عن "إذا كذبت" إلى قوله: "إن كنت كاذبًا" بصيغة الماضي وبالوصف الدال على المتصف بالكذب غالبًا؛ للإشارة إلى أن مثل هذا يستحق الدعاء عليه، ولا يبعد أو تكون "إن" بمعنى "إذ"، كما قيل في قوله تعالى:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. انتهى.
وقال الطيبيّ: قوله: "إن كنت كاذبًا" هذا الشرط ليس على حقيقته؛ لأن الملك لم يشكّ في كذبه، بل هو مثل قول العامل إذا تسوّف في عُمالته: إن كنت عملتُ، فأعطني حقي، فعلى تصييره على ما كان عليه مقطوع حصوله، ويؤيّده قوله:"وسُخط على صاحبيك". انتهى
(2)
.
[فإن قلت]: لِمَ دخلت الفاء في الجزاء، وهو فعل ماض؟.
[قلت]: إنما دخلت لكونه دعاء، وهو إنشاء، وإن جُعل خبرًا يكون التقدير: فقد صيّرك الله، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَأَتَى) الملَك (الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ) قال الطيبيّ: لم يذكر هنا الهيئة اختصارًا، أو سقط من الراوي، (فَقَالَ) الملَك (لَه)؛ أي: للأقرع، (مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا)؛ أي: الأبرص؛ يعني: قوله: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري. . . إلخ. (وَرَدَّ) الملَك (عَلَيْهِ)؛ أي: على الأقرع، (مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا)؛ أي: الأبرص، وذلك بعد اعتذاره، وعدم إعطائه له، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أقرع. . . إلخ.
وقيل: معنى قوله: "مثل ما ردّ على هذا"؛ أي: كردّ الأبرص على هذا
(1)
"مرقاة المفاتيح" 4/ 333.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1534.
السائل بقوله: الحقوق كثيرة. انتهى، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا) فيما قلت (فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ) عليه أولًا من القرع والفقر.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَأَتَى) الملَك (الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، وَهَيْئَتِهِ) على التقديرين الماضيين؛ أي: على صورة الملك حين أتاه أول مرّة، أو على صورة الأعمى: كما سبق بيانه. (فَقَالَ) الملَك للأعمى: (رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ)؛ أي: مسافر (انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ)؛ أي: الأسباب التي أستعين بها (فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ)؛ أي: لا مؤونة (لِيَ الْيَوْمَ، إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ) بعد أن كنت أعمى (شَاةً، أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي) إلى مقصدي، (فَقَالَ) الأعمى اعترافًا، وتحدّثًا بنعمة الله:(قَدْ كُنْتُ أَعْمَى، فَرَدَّ اللهُ إِليَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ) من غنمي، (وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لَا أَجْهَدُكَ) بفتح الهمزة، والهاء، ويُروى بضم الهمزة، وكسر الهاء؛ أي: لا أستفرغ طاقتي (الْيَوْمَ شَيْئًا)؛ أي: برّد شيء (أَخَذْتَهُ لله)؛ أي: طلبًا لوجه الله تعالى ومرضاته.
وقال النوويّ: قوله: "لا أجهدك اليوم" هكذا هو في رواية الجمهور: "أجهدك" بالجيم، والهاء، وفي رواية ابن ماهان:"أحمدك" بالحاء والميم، ووقع في البخاريّ بالوجهين، لكن الأشهر في مسلم بالجيم، وفي البخاريّ بالحاء، ومعنى الجيم: لا أشق عليك بردّ شيء، تأخذه، أو تطلبه من مالي، والجهد: المشقة، ومعناه بالحاء: لا أحمدك بترك شيء، تحتاج إليه، أو تريده، فتكون لفظة الترك محذوفة مرادة، كما قال الشاعر:
لَيْسَ عَلَى طَولِ الْحَيَاةِ نَدَمْ
أي: فوات طول الحياة
(1)
.
(فَقَالَ) الملك: (أَمْسِكْ) عليك (مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: اختُبرتم أيها الثلاثة: الأبرص، والأقرع، والأعمى؛ يعني: أنَّ الله عز وجل اختبركم هل تقومون لأداء شكره، أو تكفرون بنعمه، وتجحدون آلاءه، (فَقَدْ رُضِيَ) بالبناء للمفعول، (عَنْكَ) أيها الأعمى القائم بأداء شُكر ما أولاك الله
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 99 - 100.
تعالى (وَسُخِطَ) بالبناء للمفعول، (عَلَى صَاحِبَيْكَ") الأبرص والأقرع بما جنيا على أنفسهما من جَحْد نِعَم الله تعالى، وآلائه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7401](2964)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3464) و "الأيمان والنذور"(6653)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(314)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 219) وفي "شعب الإيمان"(3/ 229)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما جُبل عليه أكثر الناس من جَحْد نِعم الله تعالى، وكذا معنى قوله عز وجل:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 6]، فمعنى "الكنود": هو الجَحود لِنِعَم ربه، فالقائم بشكر الله تعالى قليل، كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، مصداق ذلك في هذا الحديث، فاثنان من الثلاثة قاما بالجحود، وواحد منهم قام بالشكر لربه سبحانه وتعالى.
2 -
(ومنها): الحثّ على الرفق بالضعفاء، وإكرامهم، وتبليغهم ما يطلبون، مما يمكن، والحذر من كَسْر قلوبهم، واحتقارهم.
3 -
(ومنها): الحثّ على التحدث بنعمة الله تعالى، وذم جحدها، والله أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7402]
(2965) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ - قَالَ عَبَّاسٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا - أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ، وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدَّم قريبًا.
2 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ) بن إسماعيل الْعَنْبَريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
3 -
(أبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله البصريّ، ثقة [9](204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.
4 -
(بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ) الزهريّ المدنيّ، أبو محمد، أخو مهاجر، صدوق [4](ت 153)(م ت س) تقدم في "فضائل الصحابة" 4/ 6200.
5 -
(عامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقاص الزهري المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصِ) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، ومناقبه كثيرة، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة خمس وخمسين، على المشهور (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث والإخبار، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه جم المناقب، فهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل، وفارس الإسلام، وحارس رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"ليت رجلًا صالحًا يحرسني الليلة"، وسابع سبعة في الإسلام، وأحد الستة أهل الشورى، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وأحد من فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، وأحد مجابي الدعوة، وأحد الرماة الذين لا يخطئون، دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ سدِّد رميته، وأجب دعوته"، وهو الذي تولى قتال فارس، وكوّف الكوفة، وهو آخر العشرة المبشّرين بالجنة وفاةً رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ؛ أنه (قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه (فِي إِبِلِهِ) بالبادية في موضع يسمّى العقيق على عشرة أميال من المدينة، ومات هناك
سنة (55) وقيل غير ذلك، وحُمل إلى المدينة، فدُفن بالبقيع رضي الله عنه (فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ) بن سعد بن أبي وقّاص المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوق، ولكن مَقَته الناس؛ لكونه كان أميرًا على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي رضي الله عنهما، من الثانية، قتله المختار سنة خمس وستين، أو بعدها، ووَهِم من ذكره في الصحابة، فقد جزم ابن معين بأنه وُلد يوم مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليس له في مسلم شيء، بل ليس له في الكتب الستة إلا عند النسائيّ.
(فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ) أبوه رضي الله عنه (قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ)؛ أي: من شرّ عمر، إنما قال ذلك خشية أن يأتيه بما يبعثه أن يشارك الناس المتقاتلين في ذلك الوقت، وكان رضي الله عنه ممن قعد في الفتنة، ولزم بيته، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء، حتى تجتمع الأمة على إمام
(1)
.
(فَنَزَلَ) ولده عمر عن دابته، (فَقَالَ لَه)؛ أي: لأبيه سعد رضي الله عنه، (أَنَزَلْتَ) بهمزة الاستفهام الإنكاريّ، (فِي إِبِلِكَ، وَغنَمِكَ)؛ أي: في إصلاحها، وتربيتها، (وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ) أيهم يأخذه، وفي رواية أحمد:"عن عامر بن سعد، أن أخاه عمر، انطلق إلى سعد في غنم له، خارجًا من المدينة، فلما رآه سعد، قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه، قال: يا أبت أرضيت أن تكون أعرابيًّا في غنمك، والناس يتنازعون في الملك بالمدينة، فضرب سعد صدر عمر، وقال: اسكت. . ." الحديث.
(فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ)؛ أي: صَدْر عمر تأديبًا له في قوله هذا؛ لأن مثله لا ينبغي له أن يخاطب سعدًا بمثل هذا الخطاب؛ لأنه أعلم منه بأمور الشريعة. (فَقَالَ) سعد: (اسْكُتْ) لا تتكلم بمثل هذا الكلام؛ فإنه حثّ للمشاركة في إراقة دماء المسلمين، ثم بيّن سبب أمره له بالسكوت:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ) بمثناة فوقية: من يترك المعاصي؛ امتثالًا للمأمور به، واجتنابًا للمنهيّ عنه، فَعِيل، من الوقاية، وتاؤه مقلوبة عن واو، وقيل: هو المُبالغ في تجنب الذنوب
(2)
(الْغَنِيَّ) قال النوويّ رحمه الله: المراد بالغنى: غنى النفس، هذا هو الغنى
(1)
"إسعاف المبطأ" ص 40.
(2)
"فيض القدير" 2/ 288 - 289.
المحبوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن الغنى غنى النفس"، وأشار القاضي إلى أن المراد: الغنى بالمال. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ: الغني غني النفس، كما جزم به في الرياض، وهو الغني المحبوب، وأشار البيضاويّ، وعياض، والطيبيّ إلى أن المراد: غني المال، والمال غير محذور لعينه، بل لكونه يعوق عن الله عز وجل، وكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله، فالتحقيق أنه لا يُطلق القول بتفضيل الغني على الفقير، وعكسه. انتهى
(2)
.
وقال القاري رحمه الله "التقي": أي: من يتقي المناهي، أو من لا يصرف ماله في الملاهي، وقيل: هو الذي يتقي المحرمات والشبهات، ويتورع عن المشتهيات والمباحات.
و"الغني" قال النوويّ رحمه الله: المراد بالغنى: غنى النفس، وهذا هو الغني المحبوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الغنى غنى النفس"، وأشار القاضي: إلى أن المراد به: غنى المال.
قال القاري: هو لا ينافي غنى النفس، فإنه الأصل في الغنى، والفرد الأكمل في المعنى، ويترتب عليه غنى اليد الموجب لتحصيل الخيرات والمبرات في الدنيا، ووصول الدرجات العاليات في العقبى.
والحاصل: أن المراد به: الغني الشاكر، وقد يُستدل به على أنه أفضل من الفقير الصابر، لكن المعتمَد خلافه؛ لِمَا سبق بيانه، وتحقق برهانه.
(الْخَفِيَّ") قال ابن الأثير رحمه الله: الخفيّ هو المعتزل عن الناس، الذي يُخفي عليهم مكانه. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما الخفي فبالخاء المعجمة، هذا هو الموجود في النُّسخ، والمعروف في الروايات، وذكر القاضي أن بعض رواة مسلم رواه بالمهملة، فمعناه بالمعجمة: الخامل المنقطع إلى العبادة، والاشتغال بأمور نفسه، ومعناه بالمهملة: الوَصُول للرحم، اللطيف بهم، وبغيرهم، من
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 100.
(2)
"فيض القدير" 2/ 289.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 57.
الضعفاء، والصحيح بالمعجمة. انتهى
(1)
.
وقال القاريّ: "الخفي" بخاء معجمة؛ أي: الخامل الذكر المعتزل عن الناس، الذي يخفي عليهم مكانه؛ ليتفرغ للتعبد، قال ابن حجر
(2)
: وذُكر للتعميم؛ إشارةً إلى ترك الرياء، وروي بمهملة، ومعناه الوَصول للرحم، اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء.
قال الطيبيّ: والصفات الثلاث الجارية على العبد واردة على التفضيل، والتمييز، فالتقي مُخرج للعاصي، والغني للفقير، والخفي على الروايتين لِمَا يضادهما، فإذا قلنا: إن المراد بالغني غني القلب اشتمل على الفقير الصابر، والغني الشاكر منهم، وفيه على الأول حجة لمن فضّل الاعتزال، وآثر الخمول على الاشتهار. انتهى
(3)
. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7402](2965)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 168)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 85)، و (الخطّابي) في "العزلة"(1/ 12)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 297)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان منقبة هذا الصحابيّ الجليل، حيث إنه ترك الناس، وسكن البادية تجنّبًا عن الفتنة وأهلها، ولذلك أوصى أهله أن لا يكلموه في شيء من أمر الناس حتى يجتمعوا على إمام واحد.
2 -
(ومنها): بيان أن التقوى سبب محبّة الله تعالى.
3 -
(ومنها): أن الله تعالى يحب العبد الغنيّ المستغني به عن غيره،
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 100.
(2)
هو الهيتميّ بالتاء.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3327.
فالغنى الحقيقيّ هو غنى النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس".
4 -
(ومنها): الحثّ على الخمول، وعدم الظهور بين الناس، ولا سيّما في أيام الفتنة.
5 -
(ومنها): أن هذا الحديث حجة لمن يقول: الاعتزال أفضل من الاختلاط، وفي المسألة خلاف سبق بيانه مرات، ومن قال بالتفضيل للاختلاط قد يتأول هذا على الاعتزال وقت الفتنة، ونحوها، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7403]
(2966) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَابْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي لأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبيلِ اللهِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا، وَضَلَّ عَمَلِي. وَلَمْ يَقُلِ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِذًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ [9]، تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(إِسْمَاعِيلَ) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ [4]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(قَيْسُ) بن أبي حازم البجليّ [2]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 475.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهمداني [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
7 -
(ابْنُ بِشْرِ) هو: محمد العبديّ الكوفيّ [9]، تقدم في "الإيمان" 1/ 107. و"سعد" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن قيسًا هو الذي روى عن العشرة المبشّرين بالجنة كلهم، ولا يشاركه فيه أحد.
شرح الحديث:
(عَنْ قَيْس) بن أبي حازم؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي لأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) زاد الترمذيّ من طريق بيان، عن قيس: سمعت سعدًا يقول: "إنِّي لأول رجل أهراق دمًا في سبيل الله"، وفي رواية ابن سعد في "الطبقات" من وجه آخر عن سعد: أن ذلك كان في السرية التي خرج فيها مع عُبيدة بن الحارث في ستين راكبًا، وهي أول السرايا بعد الهجرة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": كان ذلك في سرية عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين، وكانت هي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة، بعث ناسًا من المسلمين إلى رابغ؛ ليلقَوا عِيرًا لقريش، فتراموا بالسهام، ولم يكن بينهم مسايفة؛ أي: مضاربة ومحاربة، وكان سعد أول من رمى، وكانوا ستين راكبًا من المهاجرين، وفيهم سعد، وعقد له اللواء، وهو أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقى عُبيدة وأبو سفيان الأمويّ، وكان هو على المشركين، وهذا أول قتال جرى في الإسلام، وأول من رمى إليهم هو سعد، وفيه قال [من الوافر]:
أَلَا هَلْ جَا رَسُولَ اللهِ أَنِّي
…
حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
فَمَا يُعْتَدُّ رَامٍ مِنْ مَعَدٍّ
…
بِسَهْمٍ مَعْ رَسُولِ اللهِ قَبْلِي
(2)
(وَلَقدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ) بضم
(1)
"الفتح" 14/ 587، "كتاب الرقاق" رقم (6453).
(2)
"عمدة القاري" 24/ 361.
الحاء المهملة، والموحّدة، وبسكون الموحّدة أيضًا، ووقع في مناقب سعد بالتردد بين الرفع، والنصب. (وَهَذَا السَّمُرُ) بفتح السين المهملة، وضم الميم، قال أبو عبيد وغيره: هما نوعان من شجر البادية، وقيل: الحبلة ثمر العضاه، بكسر المهملة، وتخفيف المعجمة: شجر الشوك، كالطلح، والعوسج، قال النوويّ: وهذا جيّد على رواية البخاريّ لعطفه الورق على الحبلة، قال الحافظ: هي رواية أخرى عند البخاري بلفظ: "إلا الحبلة، وورق السمر"، وكذا وقع عند أحمد، وابن سعد، وغيرهما، وفي رواية بيان عند الترمذيّ:"ولقد رأيتني أغزو في العصابة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نأكل إلا ورق الشجر والحبلة"، وقال القرطبيّ: وقع في رواية الأكثر عند مسلم: "إلا ورق الحبلة هذا السمر"، وقال ابن الأعرابيّ: الحبلة ثمر السمر، يشبه اللوبية، وفي رواية التيميّ، والطبريّ في مسلم:"وهذا السمر" بزيادة واو، قال القرطبيّ: ورواية البخاري أحسنها للتفرقة بين الورق والسمر.
ووقع في حديث عتبة بن غزوان عند مسلم - يعني: الحديث التالي -: "لقد رأيتني سابع سبعة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا".
(حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ) بالضاد المعجمة كناية عن الذي يخرج منه في حال التغوّط، (كمَا تَضَعُ الشَّاةُ) زاد بيان في روايته:"والبعير"؛ يعني: أنهم يضعون عند قضاء الحاجة؛ أي: يخرج منهم مثل البعر؛ لِيُبْسه، وعدم الغذاء المألوف.
زاد في رواية للبخاريّ: "ما له خِلْط" بكسر الخاء المعجمة، وسكون اللام؛ أي: يصير بَعْرًا، لا يختلط بعضه ببعض من شدّة جفافه، وتفتّته. (ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ)؛ أي: ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبنو أسد هم إخوة كنانة بن خزيمة جدّ قريش، وبنو أسد كانوا فيمن ارتدّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتبعوا طُليحة بن خُويلد الأسديّ لمّا ادعى النبوة، ثم قاتَلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر، وكَسَرهم، ورجع بقيتهم إلى الإسلام، وتاب طليحة، وحَسُن إسلامه، وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك، ثم كانوا ممن شكا سعد بن أبي وقاص، وهو أمير الكوفة إلى عمر، حتى عزله، وقالوا في جملة ما شَكَوْه: إنه لا يحسن الصلاة.
وأغرب النوويّ فنقل عن بعض العلماء أن مراد سعد بقوله: "فأصبحت بنو أسد" بنو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وفيه نظر؛ لأن القصة إن كانت هي التي وقعت في عهد عمر، فلم يكن للزبير إذ ذاك بنون يصفهم سعد بذلك، ولا يشكو منهم، فإن أباهم الزبير كان إذ ذاك موجودًا، وهو صديق سعد، وإن كانت بعد ذلك فيحتاج إلى بيان.
(تُعَزِّرُنِي)؛ أي: توقّفني، والتعزير: التوقيف على الأحكام والفرائض، قاله أبو عبيد الهرويّ.
وقال الطبريّ: معناه: تقوّمني، وتعلّمني، ومنه تعزير السلطان، وهو التقويم بالتأديب، والمعنى: أن سعدًا أنكر أهلية بني أسد لتعليمه الأحكام مع سابقيته، وقِدَم صحبته.
وقال الحربيّ: معنى تعزرني: تلومني، وتعتبني، وقيل: توبّخني على التقصير.
وقال القرطبيّ
(1)
بعد أن حكى ذلك: في هذه الأقوال بُعْدٌ عن معنى الحديث. قال: والذي يظهر لي أن الأليق بمعناه أن المراد بالتعزير هنا الإعظام والتوقير، كأنه وَصَفَ ما كانت عليه حالتهم في أول الأمر من شدة الحال، وخشونة العيش، والجهد، ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا بالفتوحات، ووَلُوا الولايات، فعظّمهم الناس لشهرتهم، وفضْلهم، فكأنه كَرِه تعظيم الناس له، وخص بني أسد بالذكر؛ لأنهم أفرطوا في تعظيمه، قال: ويؤيده أن في حديث عتبة بن غزوان الذي بعده في مسلم نحو حديث سعد في الإشارة إلى ما كانوا فيه من ضيق العيش، ثم قال في آخره:"فالتقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك - أي: ابن أبي وقاص - فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار". انتهى. وكان عتبة يومئذ أمير البصرة، وسعد أمير الكوفة.
وتعقّبه الحافظ، وما أحسن تعقّبه، فقال: وهذا كله مردود؛ لِمَا ذكرته من أن بني أسد شَكَوْه، وقالوا فيه ما قالوا، ولذلك خصهم بالذكر.
(1)
"المفهم" 7/ 121.
وقد وقع في رواية خالد بن عبد الله الطحان عن إسماعيل بن أبي خالد في آخر هذا الحديث في مناقب سعد بعد قوله: "وضَلّ عملي": وكانوا وَشَوْا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلي، ووقع كذلك هنا في رواية معتمر بن سليمان، عن إسماعيل، عند الإسماعيليّ، ووقع في بعض طرق هذا الحديث الذي فيه أنهم شَكَوْه عند مسلم، فقال سعد: أتعلّمني الأعراب الصلاة؟ فهذا هو المعتمَد، وتفسير التعزير على ما شرحه مَن تَقَدَّم مستقيمٌ.
وأما قصة عتبة بن غزوان، فإنما قال في آخر حديثه ما قال؛ لأنه خطب بذلك، وهو يومئذ أمير، فأراد إعلام القوم بأول أمره وآخره؛ إظهارًا منه للتواضع، والتحدث بنعمة الله، والتحذير من الاغترار بالدنيا.
وأما سعد فقال ذلك بعد أن عُزِل، وجاء إلى عمر، فاعتذر، وأنكر على من سعى فيه بما سعى. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَلَى الدِّينِ) متعلّق بـ "تعزّرني"، وفي رواية البخاريّ:"على الإسلام"؛ أي: على الصلاة؛ لأنها عماد الإسلام، أو على عمدة شرائعه، والمراد: أنهم كانوا يؤدبوني، ويعلموني الصلاة، ويعيّروني بأني لا أحسنها، وقال الطيبيّ رحمه الله: عَبَّر عن الصلاة بالإسلام، كما عبَّر عنها بالإيمان في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] إيذانًا بأنها عماد الدين، ورأس الإسلام. انتهى
(2)
.
(لَقَدْ خِبْتُ) بكسر الخاء المعجمة، وسكون الموحّدة؛ أي: خسرت (إِذًا) بالتنوين؛ أي: إذا لم أُحسن الصلاة، وأفتقر إلى تعليم بني أسد إياي، (وَضَلَّ عَمَلِي)؛ أي: جميع طاعاتي، ومجاهداتي، ومسابقتي في الإسلام، وصِدق قدمي في الدِّين.
وفي رواية البخاريّ: "خِبتُ إذًا، وضلَّ سعيي"، ووقع عند ابن سعد عن يعلى ومحمد ابني عبيد، عن إسماعيل بسنده في آخره:"وضل عمليه" بزيادة هاء في آخره، وهي هاء السكت، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"الفتح" 14/ 588 - 589.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 11/ 280.
(3)
"الفتح" 14/ 589.
[تنبيه]: قصّة سعد رضي الله عنه في شكاية أهل الكوفة في صلاته، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(722)
- حدّثنا موسى، قال: حدّثنا أبو عوانة، قال: حدّثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستَعمل عليهم عمّارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين، وأُخِف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلًا، أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يَدَعْ مسجدًا إلا سأل عنه، ويُثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له: أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسريّة، ولا يقسم بالسويّة، ولا يعدل في القضيّة، قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث: اللَّهُمَّ إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعةً، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرّضه بالفتن، وكان بعدُ إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعدُ قد سقط حاجباه على عينيه، من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق، يغمزهنّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَقُلِ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِذًا) بيّن به اختلاف شيخيه في لفظة "إذًا"، فأثبتها يحيى بن حبيب، وأسقطها محمد بن عبد الله بن نمير، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7403 و 7404](2966)، و (البخاريّ) في
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 262.
"فضائل الصحابة"(3728) و "الأطعمة"(5412) و "الرقاق"(6453)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2365 و 2366) وفي "الشمائل"(135)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(8161) و "الفضائل"(114)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(131)، و (وكيع) في "الزهد"(123)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 174 و 181 و 186) وفي "الفضائل"(1307 و 1315) وفي "الزهد"(ص 31)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 87)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 140)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 208)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6989)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3923)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان منقبة الصحابيّ الجليل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): بيان فضل السبق في فعل الخير، وكونه أول الناس.
3 -
(ومنها): فضل الرمي في سبيل الله عز وجل.
4 -
(ومنها): جواز مدح الإنسان نفسه عند الضرورة.
5 -
(ومنها): جواز التحدّث بما فعله الإنسان لله تعالى، فلا ينافي الإخلاص إذا دعت الحاجة إليه، فإن سعدًا رضي الله عنه إنما ذكر هذا لكون أهل الكَوفة اتّهموه حتى رموه بأنه لا يُحسن يصلي، فأراد دفع التهم عن نفسه بأنه أول من اعتنق هذا الإسلام، وأخذ تعاليمه من النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل كثير من الناس، وصلّى معه السنين العديدة، فكيف يتهمه أعراب أهل الكوفة الذين ما دخلوا الإسلام إلا على يديه؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
6 -
(ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: إن قيل: كيف ساغ لسعد أن يمدح نفسه، ومن شأن المؤمن ترك ذلك؛ لثبوت النهي عنه؟ أي: في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
فالجواب: أن ذلك ساغ له لَمّا عيّره الجهال بأنه لا يحسن الصلاة، فاضطر إلى ذكر فضله، والمدحةُ إذا خلت عن البغي، والاستطالة، وكان مقصود قائلها إظهار الحقّ، وشُكر نعمة الله عز وجل لم يُكره، كما لو قال القائل: إني لحافظ لكتاب الله، عالم بتفسيره، وبالفقه في الدين، قاصدًا إظهار الشكر، أو تعريف ما عنده؛ ليستفاد، ولو لم يقل ذلك لم يُعلم حاله، ولهذا قال
يوسف عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وقال عليّ رضي الله عنه: سلوني عن كتاب الله، وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني لأتيته، وساق في ذلك أخبارًا، وآثارًا، عن الصحابة، والتابعين تؤيد ذلك
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7404]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الْعَنْزُ، مَا يَخْلِطُهُ بِشَيْءٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
وقوله: (وَقَالَ: حَتَّى إِنْ كَانَ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير وكيع.
[تنبيه]: رواية وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(732)
- حدّثنا زهير، حدّثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت سعدًا يقول: "إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا طعام إلا السمر، وورق الحبلة، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع العنز، ما له خِلْطٌ". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7405]
(3967) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْن الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غزْوَانَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أمّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ، يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دارٍ، لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا، لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَوَاللهِ
(1)
"كشف المشكل" 1/ 240.
(2)
"مسند أبي يعلى" 2/ 82.
لَتُمْلأَنَّ، أفَعَجِبْتُمْ، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ، وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُني سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً، فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيرًا، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ، إِلَّا تَنَاسَخَتْ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا، فَسَتَخْبُرُونَ، وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأُبُليّ أبو محمد البصريّ، صدوق يهم ورمي بالقدر، من صغار [9] تقدَّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيسي مولاهم البصريُ [7] تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ، أبو نصر البصريّ، [3] تقدَّم أيضًا قريبًا.
4 -
(خَالِدُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيُّ) البصريّ ثقة
(1)
[2] يقال: إنه مخضرم، ووَهِم من ذكره في الصحابة.
روى عن عتبة بن غزوان، وعنه حميد بن هلال، وأبو نعامة العدويّ، وعبد العزيز بن مهران والد مرحوم، يقال: إنه أدرك الجاهلية، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره في "الصحابة" أبو عمر بن عبد البرّ، وابن قانع، وأبو موسى في "الذيل"، وقال: قال عبدان: لا أدري أله رؤية أم لا؟.
أخرج له مسلم والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ) - بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي - ابن جابر بن وهيب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن
(1)
قال في "التقريب": مقبول، وعندي أنه ثقة، فقد روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم في الأصول، ووثقه ابن حبّان، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فهذا هو الثقة دون شك ولا ريب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
منصور المازني أبو عبد الله، ويقال: أبو غزوان، حليف بني شمس، شَهِد بدرًا، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن ابنه عتبة بن إبراهيم، وخالد بن عمير العدويّ، وغنيم بن قيس، وغزا معه، والحسن البصريّ، وغيرهم، قال الترمذيّ: لا نعرف للحسن سماعًا منه.
وقال ابن سعد: كان طوالًا جميلًا، وهو قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكان أول من اختط البصرة، مات سنة سبع عشرة بطريق البصرة، وهو ابن سبع وخمسين سنة، وقيل: مات سنة خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: سنة عشرين، وذكر البخاري وجماعة أنه حليف بني نوفل، وقال ابن سعد: مات بمعدن بني سليم، وكان قَدِمَ على عمر يستعفيه، فأبى، فرجع، فمات في الطريق.
وقال القرطبيّ رحمه الله: عتبة هذا رضي الله عنه مازنيّ، وحليف لبني نوفل، قديم الإسلام، أسلم سابع سبعة كما قال، وهاجر، وشَهِد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، والمشاهد كلها، وأمّره عمر رضي الله عنه على جيش، فتوجه إلى العراق، ففتح الأُبُلّة، والبصرة، ووليها، وبنى مسجدها الأعظم بالقصب، ثم إنه حجّ، فاستعفى عمر عن ولاية البصرة، فلم يُعفه، فقال: اللَّهُمَّ لا تردّني إليها، فسقط عن راحلته، فمات سنة سبع عشرة، وهو منصرف من مكة إلى البصرة، بموضع يقال له: معذر بني سُليم، قاله ابن سعد، ويقال: مات بالربذة، قاله المدائنيّ. انتهى
(1)
.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وأنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلا هذا الحديث فقط، وهو عند مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه فقط
(2)
.
(1)
"المفهم" 7/ 122 - 123.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 232 - 234.
شرح الحديث:
(عَنْ خالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ) - بفتحتين -: نسبة إلى أحد أجداده، أنه (قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ) رضي الله عنه، وستأتي قصّته مطوّلة في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - (فَحَمِدَ اللهَ)؛ أي: وصفه بصفات الكمال، (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) بتنزيهه من النقائص، (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، بعد حمد الله تعالى، والثناء عليه (فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ) بمدّ الهمزة؛ أي: أشعرت، وأعلمت (بِصُرْمٍ) بضمّ الصاد المهملة، وسكون الراء، آخره ميم؛ أي: بذهاب، وانقطاع بتقلّباتها على أهلها، (وَوَلَّتْ) بتشديد اللام، من التولية؛ أي: أدبرت، وذهبت، حال كونها (حَذَّاءَ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الذال المعجمة؛ أي: سريعة خفيفة، والحذّاء في اللغة: قصيرة الذَّنَب، يقال: للقطاة حذّاء؛ لِقِصَر ذَنَبها، مع خفّتها، والحمار الأحذّ: قصير الذَّنَب، قال أبو عبيد: هي السريعة الخفيفة التي انقطع آخرها، وقال القاضي عياض: وهذا مثلٌ؛ لأن قصيرة الذنب، أو ما قُطع ذنبه لا يبقى وراءه شيء، فكأنه قال: الدنيا أدبرت منقطعة، سريعة الانقطاع، كذا في "شرح الأبيّ"
(1)
. (وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا)؛ أي: من الدنيا (إِلَّا صُبَابَةٌ) بضمّ الصاد المهملة، وتخفيف الموحّدة؛ أي: بقيّة يسيرة (كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ)؛ أي: مثل بقيّة ما في الإناء من الشراب، (يَتَصَابُّهَا)؛ أي: يشرب (صَاحِبُهَا) صُبابتها؛ أي: بقيّتها، وقال الأبيّ: الصُّبابة: البقيّة تبقى في الإناء من الشرب، ومعنى يتصابّها: يشربها
(2)
.
(وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا)؛ أي: من هذه الدنيا الحقيرة اليسيرة (إِلَى دَارٍ، لَا زَوَالَ لَهَا) هي دار الآخرة، (فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ)؛ أي: ارتحلوا إلى الآخرة بخير ما يحضركم من أعمال البرّ، جعل الخير المتمكَّن منه كالحاضر، قال القرطبيّ
(3)
. (فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الذي تفسّره الجملة بعده؛ أي: إن الأمر والشأن (قَدْ ذُكِرَ) بالبناء للمفعول، (لَنَا) قال القرطبيّ رحمه الله؛ يعني: أنه
(1)
راجع: "شرح الأبيّ" 7/ 289.
(2)
راجع: "شرح الأبيّ" 7/ 289.
(3)
"المفهم" 7/ 123.
ذكر له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنَّ مثل هذا لا يعرف إلا من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنه لم يسمعه هو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل سمعه من غيره، فسكت عنه، إما نسيانًا، وإما لأمر يُسَوِّغ له ذلك، ويَحْتِمِل أن يكون سمعه هو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسكت عن رفعه للعلم بذلك. انتهى
(1)
.
(أَنَّ الْحَجَرَ) بفتح "أن" لوقوعها نائب فاعل لـ "ذُكِر"، (يُلْقَى) بالبناء للمفعول، (مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ)؛ أي: حرفها، وطرفها، ووقع في نسخة القرطبيّ بلفظ "شفير" بدل "شفة"، فقال: و"شفير جهنم": حرفها الأعلى، وحرف كل شيء أعلاه، وشفيره، ومنه: شفير العين. انتهى
(2)
.
(فَيَهْوِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب؛ أي: يسقط ذلك الحجر، ويتردّى (فِيهَا)؛ أي: قعر جهنّم، (سَبْعِينَ عَامًا، لَا يُدْرِكُ) بالبناء للفاعل؛ أي: لا يصيب ذلك الحجر (لَهَا قَعْرًا) - بفتح القاف، وسكون العين المهملة - قال الفيّوميّ رحمه الله: قَعْرُ الشيءِ: نهاية أسفله، والجمع: قُعُورٌ، مثلُ فلس وفُلُوس. انتهى
(3)
، (وَوَاللهِ لَتُمْلأَنَّ) بفتح لام القَسَم، وبناء الفعل للمفعول؛ أي: لتكونن جهنم مملوءة من الإنس والجنّ، كما قال عز وجل:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقال:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]، قال عتبة رضي الله عنه:(أفعَجِبْتُمْ) مما ذكرت لكم؛ أي: لا تعجبوا من هذا، فإنه لا بُد من وقوعه، (وَلَقَدْ ذُكِرَ) بالبناء للمفعول أيضًا، (لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ) مصراع الباب: ما بين عضادتيه، جَمْعه مصاريع، وهو ما يسدّه الغلق، قاله القرطبيّ
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: المصراع من الباب: الشطر، وهما مصراعان. انتهى
(5)
.
وقال المجد رحمه الله: المصراعان من الأبواب: بابان منصوبان ينضمّان جميعًا، مدخلهما في الوسط. انتهى
(6)
.
(1)
"المفهم" 7/ 123 - 124.
(2)
"المفهم" 7/ 124.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 510.
(4)
"المفهم" 7/ 124.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 338.
(6)
"القاموس المحيط" ص 736.
(مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً)؛ أي: مسافة سير أربعين سنة، (وَ) الله (لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا)؛ أي: على تلك المصاريع (يَوْمٌ، وَهُوَ)؛ أي: والحال أن كلّ مصراع (كَظِيظٌ)؛ أي: ممتلئ، يقال: كَظّه الطعام، وكذلك الشراب، يَكُظّه كَظًّا؛ أي: ملأه، حتى لا يطيق على النفس فاكتظ؛ أي: امتلأ، وكظّه الأمر يكُظُّه كَظًّا، وكظاظًا، وكَظاظة بفتحهما: بَهَظه، وملأه هَمًّا، وكَرَبه، وجَهَده، وأثقله، قاله في "التاج"
(1)
.
(مِنَ الزِّحَامِ) بكسر الزاي؛ أي: المدافعة، يقال: زَحَمْتُهُ زَحْمًا، من باب نفع: دفعته، وزَاحَمْتُهُ مُزَاحَمَةً، وزِحَامًا، وأكثر ما يكون ذلك في مَضِيق، والزَّحْمَةُ مصدر أيضًا، والهاء لتأنيثه، ويجوز من الثلاثيّ زُحِمَ زيدُ، بالبناء للمفعول، ومن المزيد: زُوحِمَ، مثل قوتل، وزَحَمَ القومُ بعضهم بعضًا: تضايقوا في المجالس، وازْدَحَمُوا: تضايقوا أيَّ موضع كان، ومنه قيل على الاستعارة: ازْدَحَمَ الغرماء على المال، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي)؛ أي: رأيت نفسي (سَابِعَ سَبْعَةٍ)؛ أي: واحدًا من سبعة (مَع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ) أكلنا منه (حَتَّى قَرِحَتْ) بفتح القاف، وكسر الراء: انجرحت (أَشْدَاقُنا) بالفتح: جمع شِدق بكسر الشين، وفتحها، وهو طرف الفم، عند ملتقى الشفتين، وقال الفيّوميّ: الشِّدْق: جانب الفم، بالفتح، والكسر، قاله الأزهريّ، وجمع المفتوح: شُدُوقٌ، مثل فلس وفُلوس، وجمع المكسور: أَشْدَاقٌ، مثل حِمْل وأَحمال، ورجل أَشْدَقُ: واسع الشِّدْقَيْنِ، وشِدْقُ الوادي - بالكسر -: عَرْضه، وناحيته. انتهى
(3)
.
(فَالْتَقَطْتُ بُرْدةً)؛ أي: أخذت لقطة بُرْدة، وهي الشَّمْلة، والعرب تسمّي الكساء الذي يُلتحَف به بُردةً، والبُرد بغير تاء: نوع من نوع ثياب اليمن الموشية، قاله القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
(فَشَقَقْتُهَا)؛ أي: قسمت تلك البردة نصفين (بَيْنِي)؛ أي: بين نفسي (وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهما، (فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا)؛ أي: جعلت
(1)
"تاج العروس" ص 5074.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 252.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 307.
(4)
"المفهم" 7/ 124.
نصف تلك البردة إزارًا لي، (وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا)؛ أي: جعلها إزاره، (فَمَا) نافية، (أَصْبَحَ)؛ أي: دخل في الصباح (الْيَوْمَ مِنَّا) معاشر الصحابة (أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ)؛ أي: إلا صار (أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ) كما كان هو أمير البصرة لعمر رضي الله عنه، وكذلك سعد بن أبي وقّاص، كما تقدّمت قصّته مع أهل الكوفة حين كان أميرًا عليهم، قال عتبة رضي الله عنه:(وَإِنِّي أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم، وأتحصّن (باللهِ) عز وجل (أَنْ أكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا)؛ أي: رفيع المنزلة، (وَ) أكون (عِنْدَ اللهِ صَغِيرًا)؛ أي: خسيسًا، حقير المنزلة بسبب عدم التقوى والأعمال الصالحة.
(وَإِنَّهَا) الضمير للقصّة، وهو ضمير الشأن، لكنه يقال: ضمير الشأن إذا كان للمذكّر، وضمير القصّة إذا كان للمؤنّث؛ أي: وإن الحال والقصّة (لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ)؛ أي: في زمن من الأزمان الماضية، (إِلَّا تَنَاسَخَتْ)؛ أي: ارتفعت، وزالت، وانمحت، (حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا)؛ أي: عاقبة النبوّة، (مُلْكًا)؛ أي: سيطرة، وجبروتًا، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن زمان النبوّة يكون الناس فيه يعملون بالشرع، ويقومون بالحقّ، ويزهدون في الدنيا، ويرغبون في الآخرة، ثم إنه بعد انقراضهم، وانقراض خلفائهم يتغيّر الحال، وينعكس الأمر، ثم لا يزال الأمر في تناقص، وإدبار إلى أن لا يبقى على الأرض من يقول: لا إله إلا الله، فيرتفع ما كان الصدر الأول عليه، وهذا هو المعبَّر عنه هنا: بالتناسخ، فإنَّ النسخ: هو الرفع، والإزالة، وهذا الحديث نحو قوله صلى الله عليه وسلم "ما من نبيّ بعثه الله تعالى في أمة قبلي، إلا كان له من أمّته حواريون، وأصحاب يأخذون بسُنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخْلُف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. . ." الحديث، رواه مسلم.
وقوله: "حتى يكون آخر عاقبتها ملكًا"؛ يعني: أنهم يعدلون عن سنن النبيين، وخلفائهم إلى الإقبال على الدنيا، واتباع الهوى، وهذه أحوال أكثر الملوك، فأمَّا من سلك سبيل الصدر الأول الذي هو زمان النبوة، والخلافة من العدل، واتباع الحقّ، والإعراض عن الدنيا، فهو من خلفاء الأنبياء، وإن تأخر زمانه، كعمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ إذ لم يكن بعد الخلفاء من سلك سبيلهم، واقتدى بهم في غالب أحوالهم غيره رحمه الله لا جَرَم هو معدودٌ منهم، وداخل في
زمرتهم، إن شاء الله تعالى
(1)
.
(فَسَتَخْبُرُونَ) بضمّ الموحّدة؛ أي: فستعلمون ما قلت لكم قريبًا من صيرورة النبوّة مُلكًا، (وَتُجَرِّبُونَ) بتشديد الراء، من التجربة، (الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا) حتى تجدوهم مصداقًا لِمَا قاله صلى الله عليه وسلم في أحوالهم، وشؤونهم، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عتبة بن غَزْوان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7405 و 7406 و 7407](2967)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنم"(5575) وفي "الشمائل"(136)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4156)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 174)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 278 و 279 و 280)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 261)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7121)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(7/ 6)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 171)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 285)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(1/ 155)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(60/ 34)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في ذكر قصّة عتبة بن غزوان رضي الله عنه كما ذكرها ابن سعد رحمه الله في "الطبقات" مطوّلة، وفيها صيغة خطبته، قال رحمه الله:
عتبة بن غزوان بن جابر بن وهيب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، ويكنى أبا عبد الله، قال: وسمعت بعضهم يكنيه أبا غزوان، وكان رجلًا طويلًا جميلًا، قديم الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وشَهِد بدرًا، قال: أخبرنا محمد بن عمر
(2)
، قال: حدّثني جبير بن عبد الله، وإبراهيم بن عبد الله من وَلَدِ عتبة بن غزوان، قالا: استَعمل عمر بن الخطاب
(1)
"المفهم" 7/ 124 - 125.
(2)
هو: الواقديّ، والكلام فيه مشهور.
عتبة بن غزوان على البصرة، فهو الذي فتحها، وبَصَّر البصرة، واختطها، وكانت قبل ذلك الأُبُلّة، وبنى مسجد البصرة بقصب، ولم يبن بها دارًا، قال محمد بن عمر: وقد رُوي لنا أن عتبة بن غزوان كان مع سعد بن أبي وقاص بالقادسية، فوجّهه إلى البصرة بكتاب عمر بن الخطاب إليه، يأمره بذلك، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدريّ، عن مصعب بن محمد بن شرحبيل، يعني ابن حسنة، قال: كان عتبة بن غزوان قد حضر مع سعد بن أبي وقاص حين هزم الأعاجم، فكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص أن يضرب قيروانه
(1)
بالكوفة، وأن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانًا، وقد شهد بدرًا، وقد رجوت جزءه عن المسلمين، والبصرة تسمى يومئذ أرض الهند، فينزلها، ويتخذ بها للمسلمين قيروانًا، ولا يجعل بيني وبينهم بحرًا، فدعا سعد بن أبي وقاص عتبة بن غزوان، وأخبره بكتاب عمر، فأجاب، وخرج من الكوفة في ثماني مائة رجل، فساروا حتى نزلوا البصرة، وإنما سُميت البصرةُ بصرةً؛ لأنها كانت فيها حجارة سُود، فلما نزلها عتبة بن غزوان ضرب قيروانه، ونزلها، وضرب المسلمون أخبيتهم، وخيامهم، وضرب عتبة بن غزوان خيمة له من أكسية، ثم رمى عمر بن الخطاب بالرجال، فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لَبِن منها في الخريبة اثنتان، وفي الزأبوقة واحدة، وفي بني تميم اثنتان، وفي الأزد اثنتان، ثم إن عتبة خرج إلى فرات البصرة، ففتحه، ثم رجع إلى البصرة، وقد كان أهل البصرة يغزون جباب فارس مما يليها، وجاء كتاب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان: أن انزلها بالمسلمين، فيكونوا بها، وليغزوا عدوّهم من قريب، وكان عتبة خطب الناس، وهي أول خطبة خطبها بالبصرة، فقال:
"الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: أيها الناس فإن الدنيا قد وَلّت حَذّاء، وآذنت أهلها بوداع، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء، ألا وإنكم تاركوها، لا محالة، فاتركوها بخير ما بحضرتكم، ألا وإن من العجب أن يؤتى
(1)
"القيروان": القافلة، معرّبٌ، قاله في "القاموس".
بالحجر الضخم، فيلقى من شفير جهنم، فيهوي سبعين عامًا، حتى يبلغ قعرها، والله لتُملأنّ، ألا وإن من العجب أن للجنة سبعة أبواب، عرض ما بين جانبي الباب مسيرة خمسين عامًا، وايم الله لتأتين عليها ساعة، وهي كظيظة من الزحام، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، ما لنا طعام إلا ورق البشام، وشوك القتاد، حتى قَرِحت أشداقنا، ولقد التقطت بُردة يومئذ، فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص، ولقد رأيتنا بعد ذلك، وما منا أيها الرهط السبعة، إلا أمير على مصر من الأمصار، وأنه لم تكن نبوة إلا تناسخها مُلك، فأعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان، الذي يكون فيه السلطان مَلِكًا، وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وفي أنفس الناس صغيرًا، وستجربون الأمراء بعدنا، وتجربون، فتعرفون، وتنكرون".
قال: فبينا عتبة على خطبته، إذ أقبل رجل من ثقيف بكتاب من عمر إلى عتبة بن غزوان، فيه أما بعد: فإن أبا عبد الله الثقفيّ ذُكر لي أنه اقتنى بالبصرة خيلًا، حين لا يقتنيها أحد، فإذا جاءك كتابي هذا، فأحسن جوار أبي عبد الله، وأعنه على ما استعانك عليه، وكان أبو عبد الله أول من ارتبط فرسًا بالبصرة، واتخذها، ثم إن عتبة سار إلى ميسان، وأبزقباذ، فافتتحها، وقد خرج إليه المرزبان، صاحب المذار في جمع كثير، فقاتلهم، فهزم الله المرزبان، وأُخذ المرزبان سِلمًا، فضُرب عنقه، وأُخذ قباءه، ومنطقته فيها الذهب والجوهر، فبعث ذلك إلى عمر بن الخطاب، فلما قَدِم سَلب المرزبان المدينة وسأل الناس الرسول عن حال الناس، فقال القادم: يا معشر المسلمين عمّ تسألون، تركت والله الناس يهتالون الذهب والفضة، فنشط الناس، وأقبل عمر يرسل الرجال إليه المائة والخمسين، ونحو ذلك مددًا لعتبة إلى البصرة، وكان سعد يكتب إلى عتبة، وهو عامله، فوجد من ذلك عتبة، فاستأذن عمر أن يَقْدَم عليه، فأذن له، واستخلف على البصرة المغيرة بن شعبة، فقدم عتبة على عمر، فشكا إليه تسلط سعد عليه، فسكت عنه عمر، فأعاد ذلك عتبة مرارًا، فلما أكثر على عمر قال: وما عليك يا عتبة أن تُقِرّ بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف، فقال له عتبة: ألست من قريش؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حليف القوم منهم"، ولي صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمة لا تُنْكَر، ولا تُدْفَع، فقال عمر: لا
يُنكر ذلك من فضلك، قال عتبة: أما إذ صار الأمر إلى هذا، فوالله لا أرجع إليها أبدًا، فأبى عمر إلا أن يردّه إليها، فردّه، فمات بالطريق، وكان عمله على البصرة ستة أشهر، أصابه بطن، فمات بمعدن بني سليم، فقدم سُويد غلامه بمتاعه وتَرِكَتِه على عمر بن الخطاب، وذلك في سنة سبع عشرة، وكان عتبة بن غزوان يوم مات ابن سبع وخمسين سنة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7406]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، قَالَ: خَطَبَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ شَيْبَانَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ) الْهُذليّ، أبو يعقوب البصريّ، صدوق [10](229) أو بعدها بسنة (م صد) تقدم في "الصيام" 32/ 2709.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ شَيْبَانَ) فاعل "ذَكر" ضمير إسحاق بن عمر؛ أي: ذكر إسحاق نحو حديث شيبان بن فرّوخ الذي ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية إسحاق بن عمر عن سليمان بن المغيرة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7407]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خالِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا طَعَامُنَا إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا).
(1)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد 7/ 5 - 7.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهمدانيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.
3 -
(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السّدُوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7408]
(2968) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ، لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ فِي سَحابَةٍ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ، فَيَقُولُ: أَيْ فُلُ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ، فَيَقُولُ: أَيْ فلُ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: أفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْت، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتطَاعَ، فَيَقُولُ: هَا هُنَا إِذًا، قَالَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ، وَلَحْمِهِ، وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ، وَلَحْمُهُ، وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ [10]، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ [8]، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ [6]، تقدَّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السّمّان المدنيّ [3]، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالُوا)؛ أي: بعض الصحابة، (يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا) الاستفهام للاستخبار، والاستعلام، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) قيّد به؛ للإجماع على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا تُرى بالعين الفانية، وقد تقدّم في قصّة الدجّال قوله صلى الله عليه وسلم:"تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("هَلْ تُضَارُّونَ) بضم التاء، وتفتح، وتشديد الراء، على أنه من باب المفاعلة، أو التفاعل، من الضرر، والاستفهام للتقرير، وهو حَمْل المخاطب على الإقرار، والمعنى: هل يحصل لكم تزاحم، وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ)؛ أي: لأجل رؤيتها، أو عندها (فِي الظَّهِيرَةِ) بفتح الظاء المعجمة، وكسر الهاء: هي نصف النهار، وهو وقت ارتفاعها، وظهورها، وانتشار ضوئها في العالم كله، (لَيْسَتْ) الشمس (فِي سَحَابَةٍ؟ ")؛ أي: غيم يحجبها عنكم، (قَالُوا)؛ أي: الصحابة، (لَا) مضارة علينا في ذلك، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) هي ليلة كمال نوره، وسُمي بدرًا؛ لمبادرة طلوعه غروب الشمس، (لَيْسَ) القمر (فِي سَحَابَةٍ؟ ")؛ أي: غيم يحجب عن رؤيته، (قَالُوا: لَا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا) قال
النوويّ رحمه الله
(1)
: وروي "تضارون" بتشديد الراء، وتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما، وفي الرواية الأخرى:"هل تضامون" بتشديد الميم، وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضمّها، وفي رواية البخاريّ:"لا تضارون، أو لا تضامون" على الشكّ، قال القاضي البيضاويّ رحمه الله: وفي "تضارون" المشدد من الضرر، والمخفف من الضير؛ أي: تكون رؤيته تعالى رؤية جلية بيّنة، لا تقبل مراء، ولا مرية، فيخالف فيها بعضكم بعضًا، ويكذبه، كما لا يشك في رؤية أحدهما؛ يعني: الشمس والقمر، ولا ينازع فيها، فالتشبيه إنما وقع في الرؤية باعتبار جلائها، وظهورها، بحيث لا يُرتاب فيها، ولا في سائر كيفياتها، لا في المرئيّ، فإنه سبحانه منزه عن الجسمية
(2)
، وعما يؤدي إليها، وفي "تضامون" بالتشديد من الضمّ؛ أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤيته؛ لإشكاله، وخفائه، كما يفعلون في الهلال، أو لا يضمكم شيء دون رؤيته، فيحول بينكم وبينها، وبالتخفيف من الضيم؛ أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته، فيراه بعض دون بعض، بل يستوون فيها، وأصله: تُضْيَمُون، فنُقلت فتحة الياء إلى الضاد، فصارت ألفًا؛ لسكونها، وانفتاح ما قبلها، وكذلك "تُضارُون" بالتخفيف، وأما المشدد فيَحْتَمِل أن يكون مبنيًا للفاعل، على معنى: لا تضارون؛ أي: تتنازعون في رؤيته، هذا.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إلا كما تضارون" كان الظاهر أن يقال: لا تضارون في رؤية ربكم، كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أُخرج مخرج قوله [من الطويل]:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أي: لا تشكّون فيه إلا كما تشكون في رؤية القمرين، وليس في رؤيتهما شكّ، فلا تشكّون فيه البتة. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَلْقَى) بالبناء للفاعل، من اللقاء، (الْعَبْدَ) بالنصب على المفعوليّة؛ أي: يَلقَى اللهُ عز وجل العبد من عباده (فَيَقُولُ: أَيْ فُلُ)، "أي" حرف
(1)
"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 3/ 18.
(2)
هذا لم يرد في النصوص لا إثباتًا، ولا نفيًا، فينبغي التوقف فيه، والله تعالى أعلم.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3509.
نداء للأوسط على الراجح، كما قال في "الكوكب الساطع":
"أَيْ" لِنِدَا الأَوْسَطِ فِي الشَّهِيرِ
…
لَا الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَللتَّفْسِيرِ
لكن هنا مستعملة للقريب، كما لا يخفى.
و"فُلُ" بضم الفاء، وسكون اللام، وتفتح، وتضم؛ أي: فلان، ففي "النهاية" معناه: يا فلان، وليس ترخيمًا له؛ لأنه لا يقال: إلا بسكون اللام، ولو كان ترخيمًا لفتحوها، أو ضموها، قال القاري: وقيل: فُلا، كما يقال: سَعِي في سعيد، قال سيبويه: ليست ترخيمًا، وإنما هي صيغة ارتُجلت في باب النداء، وقد جاء في غير النداء، قال [من الراجز]:
فِي لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ
بكسر اللام؛ للقافية، وإنما قيل: ليس مرخمًا؛ لأن شرط مثله أن يبقى بعد حذف النون والألف ثلاثة أحرف، كمروان.
وقال الأزهريّ: ليس بترخيم فلان، ولكنها كلمة على حِدَة، فبنو أسد يوقعونها على الواحد، والاثنين، والجمع، والمؤنّث بلفظ واحد، وغيرهم يثنّي، ويجمع، ويؤنّث.
وقال قوم: إنه ترخيم فلان، فحُذفت النون؛ للترخيم، والألف لسكونها، وتُفتح اللام، وتُضم على مذهب الترخيم. انتهى
(1)
.
(أَلَمْ أُكْرِمْكَ) بضمّ الهمزة، من الإكرام؛ أي: ألم أُفَضِّلك على سائر الحيوانات، (وَأُسَوِّدْكَ) بتشديد الواو، من التسويد؛ أي: ألم أجعلك سيّدًا في قومك، (وَأُزَوِّجْكَ) من التزويج؛ أي: ألم أعطك زوجًا من جنسك، ومكّنتك منها، وجعلت بينك وبينها مودةً، ورحمةً، ومؤانسةً، وألفةً، (وَأُسَخِّرْ) من التسخير، وهو التسهيل، والتيسير، (لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ)؛ أي: ألم أُذَلِّلهما لك، وخُصَّتا بالذِّكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات، (وَأَذَرْكَ)؛ أي: ألم أذرك، والمعنى: ألم أَدَعْك، ولم أمكّنك على قومك، (تَرْأَسُ)؛ أي: تكون رئيسًا على قومك، والجملة حال، (وَتَرْبَعُ؟) من باب فتح يفتح؛ أي: تأخذ مِرباعهم، وهو ربع الغنيمة، وكان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3509.
وقال النوويّ رحمه الله: أما ترأس فبفتح التاء، وإسكان الراء، وبعدها همزة مفتوحة، ومعناه: تصير رئيس القوم، وكبيرهم، وأما تربع، فبفتح التاء، والباء الموحدة، هكذا رواه الجمهور، وفي رواية ابن ماهان: ترتع بمثناة فوق، بعد الراء، ومعناه بالموحدة: تأخذ المرباع الذي كانت ملوك الجاهلية تأخذه من الغنيمة، وهو ربعها، يقال: ربعتهم؛ أي: أخذت ربع أموالهم، ومعناه: ألم أجعلك رئيسًا مطاعًا، وقال القاضي بعد حكايته نحو ما ذكرته عندي أن معناه: تركتك مستريحًا، لا تحتاج إلى مشقة، وتعب، من قولهم: اربع على نفسك؛ أي: ارفُق بها، ومعناه بالمثناة: تتنعم، وقيل: تأكل، وقيل: تلهو، وقيل: تعيش في سعة. انتهى
(1)
.
(فَيَقُولُ) ذلك العبد في كلّ سؤال من الأسئلة المذكورة: (بَلَى) يا رب أكرمتني، وسوّدتني، وزوّجتني، وسخّرت لي الخيل والإبل، وجعلتني أرأس، وأربع.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَقُولُ) الربّ عز وجل (أَفَظَنَنْتَ)؛ أي: أفعلمت (أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟) بضم الميم، وتشديد الياء المحذوفة العائدة بحذف التنوين، والثانية ياء المتكلم المضاف إليه؛ أي: أظننت أنك تلاقيني في الآخرة لأجازيك على عملك؟ (فَيَقُولُ) العبد: (لَا)؛ أي: لم أظن أني ملاقيك في الآخرة للمجازاة، (فَيَقُولُ) الربّ سبحانه وتعالى:(فَإِنِّي أَنْسَاكَ) اليوم (كَمَا نَسِيتَنِي) أنت في الدنيا جزاء وفاقًا.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فإنِّي أنساك" مسبَّب عن قوله: "أفظننت أنك ملاقيّ"؛ يعني: سوّدتك، وزوّجتك، وفعلت بك من الإكرام حتى تشكرني، وتلقاني؛ لأزيد في الإنعام، وأجازيك عليه، فلمّا نسيتنا في الشكر، نسيناك، وتركنا جزاءك، وعليه قوله تعالى:{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 126] قال: ونسبة النسيان إلى الله تعالى إما مُشاكَلة، أو مجاز عن التَّرك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: من المعلوم أن الطيبيّ مؤوّل لأحاديث الصفات، ويدّعي أنها مجاز، وليست حقيقة، وهكذا كثير من الشرّاح
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 103 - 104.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3509.
المتأخّرين هذا دأبهم، ودينهم تجاه أحاديث الصفات، ونحن نتبرأ من هذا المذهب، ونعتقد مذهب السلف، فنثبت ما أثبته النصّ الصحيح، فنقول هنا: صفة نسيان الله عز وجل عبده صفة ثابتة كما أثبتها هذا النصّ الصحيح، فنُثبتها على ظاهرها، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، لا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نعطّل، ولا نؤوّل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقد مضى لي مثل هذا في هذا الشرح غير مرّة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ثُمَّ يَلْقَى) الربّ جل جلاله العبد (الثَّانِيَ)؛ أي: غير الأول، (فَيَقُولُ) له:(أَيْ فُلُ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ والإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ) العبد الثاني: (بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ) الربّ عز وجل (أفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ، فَيَقُولُ) العبد: (لَا، فَيَقُولُ) الربّ: (فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى) الله سبحانه وتعالى العبد الثَّالِثَ، (فَيَقُولُ) الربّ (لَهُ)؛ أي: لهذا الثالث، (مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: مثل ما ذكر في الأول والثاني من سؤال الله تعالى له، (فَيَقُولُ) العبد الثالث جوابًا عن السؤال:(يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي) على نفسه (بِخَيْرٍ) من الأعمال الصالحة (مَا اسْتَطَاعَ)؛ أي: يكثر الثناء قدر استطاعته، (فَيَقُولُ) له الربّ عز وجل:(هَا هُنَا إِذًا) بالتنوين، قال الطيبيّ رحمه الله:"إذا" جواب وجزاء، والتقدير: إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت إذا، فاثبُت هنا كي نُريك أعمالك، بإقامة الشاهد عليها، وقال بعضهم: أي: يقول: إذا تُجزى بأعمالك ههنا، وقال ابن الملك: أي: أقر الثالث بظنه لقاء الله تعالى، وعدّ أعماله الصالحة، فيقول: ههنا إذًا؛ أي: قف في هذا الموضع، إذا ذكرت أعمالك، حتى تتحقق خلاف ما زعمت.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يُقَالُ لَهُ)؛ أي: لهذا الثالث الذي أثنى على نفسه (الآنَ)؛ أي: في الوقت الحاضر (نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ) العبد المذكور (فِي نَفْسِهِ) قائلًا: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟) من مخلوقات الله تعالى، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من ذا الذي يشهد عليّ" حال، تقديره: يتفكّر في نفسه قائلًا: من ذا الذي يشهد عليّ؟
(1)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3509.
(فَيُخْتَمُ) بالبناء للمفعول، (عَلَى فِيهِ)؛ أي: فمه، (وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ، وَلَحْمِهِ، وَعِظَامِهِ، انْطِقِي) بأعماله، (فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ، وَلَحْمُهُ، وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ)؛ أي: بكل ما عمله في الدنيا، (وَذَلِكَ)؛ أي: إنطاق أعضائه، أو بَعْث الشاهد عليه، وقال الطيبيّ رحمه الله: أشار إلى المذكور من السؤال والجواب، وخَتْم الفم، ونطق الفخذ، وغيره (لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ) قال التوربشتيّ رحمه الله:"ليُعذر" على بناء الفاعل، من الإعذار، والمعنى: ليزيل الله عذره من قِبَل نفسه، بكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتمسك به، وقيل: ليصير ذا عذر في تعذيبه من قِبَل نفس العبد. انتهى
(1)
.
(وَذَلِكَ)؛ أي: العبد الثالث هو (الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ)؛ أي: يغضب (اللهُ) سبحانه وتعالى (عَلَيْهِ") لمخادعته ربّه، وتظاهره بمظاهر مَن عنده حسنات، وليس عنده شيء، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7408](2968)، و (أبو داود) في "السُّنّة"(4730)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2428)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 494)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1178)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 152 - 153)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(445)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7445)، و (ابن منده) في "الإيمان"(809)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنّة"(823)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 250)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وهو مجمَع عليه بين أهل السُّنّة، دلّ عليه الكتاب، والسنن الصحيحة.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 10/ 214.
2 -
(ومنها): استحباب ضرب المَثَل لإيضاح المسألة.
3 -
(ومنها): إثبات سؤال الله عز وجل عباده عن أداء شكر ما أنعم به عليهم، كما قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92، 93].
4 -
(ومنها): إثبات شهادة الأعضاء على ما فعله العبد، وقد جاء هذا في آيات كثيرة، كقوله عز وجل:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 24، 25]، وقوله:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65]، وقوله:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] إلى غير ذلك من الآيات، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7409]
(2969) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ، فَقَالَ:"هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ "، قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى
(1)
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ، وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) البغداديّ، وقد يُنسب لجدّه،
(1)
وفي نسخة: "فكفى بنفسك عليك".
اسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقة [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْن الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ الأَشْجَعِيُّ) هو: عبيد الله بن عبيد الرحمن، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمون، أثبت الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
4 -
(سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) بن سعيد الكوفيّ [7] تقدّم قريبًا.
5 -
(عُبَيْدٌ الْمُكْتِبِ) هو: عبيد بن مِهْران الكوفيّ، ثقة [5].
روى عن ابن الطفيل، ومجاهد، وفضيل بن عمرو الفُقيميّ، والشعبيّ، وأبي رَزين الأسديّ.
وروى عنه السفيانان، وجرير، وشريك، وعبد الواحد بن زياد، وفضيل بن عياض، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، ووثقه يعقوب بن سفيان، وقال العجليّ: ثقة، في عداد الشيوخ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(فُضَيْلُ) بن عمرو الْفُقيميّ - بالفاء، والقاف، مصغرًا - أبو النضر الكوفيّ، ثقة [6](ت 110)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.
7 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل الكوفيّ [3]، تقدّم قريبًا.
8 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، ذُكر في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من عبيد الله، سوى أنس، فبصريّ، والباقيان بغداديان، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ ")؛ أي: من أيّ شيء أضحك؟، وفيه إيماء إلى أنه لا ينبغي الضحك إلا لأمر غريب، وحكم عجيب، (قَالَ) أنس:(قُلْنَا) معاشر الصحابة الحاضرين مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ)؛ أي: أضحك من أجل مخاطبة العبد ربه سبحانه وتعالى، ثم بيّن مخاطبته بقوله:(يَقُولُ) العبد لربه: (يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي) من الإجارة؛ أي: ألم تجعلني في إجارة منك، بقولك:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، والمعنى ألم تؤمِّنِّي (مِنَ الظُّلْمِ؟)؛ أي: من أن تظلمني؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ) الربّ سبحانه وتعالى: (بَلَى) قد آجرتك، وأمّنتك من ظلمي إياك، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُ) العبد لربه: (فَإِنِّي لَا أُجِيزُ) بضمّ الهمزة، من الإجازة؛ أي: لا أحلّ، ولا أقبل (عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي)؛ أي: من جنسي؛ لأن الملائكة شهدوا علينا بالفساد قبل الإيجاد. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فيَقُولُ) الله عز وجل: (كَفَى) وفي نسخة: "فكفى"(بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ)، وقوله:(شَهِيدًا) نُصِب على الحال، و"عليك" معموله تقدم عليه؛ للاهتمام، والاختصاص، والباء زائدة في فاعل "كفى"، و"اليوم" ظرف له، أو لـ "شهيد"، (وَبِالْكِرَامِ)؛ أي: وكفى بالعدول المكرمين (الْكَاتِبِينَ) لصحف الأعمال الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6](شُهُودًا) بالضمّ: جمع شاهد.
قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: دلّ أداة الحصر على أن لا يشهد عليه غيره، فكيف أجاب بقوله:"كفى بنفسك، وبالكرام الكاتبين"؟.
قلت: بذل له مطلوبه، وزاد عليه تأكيدًا وتقريرًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيُخْتَمُ) بالبناء للمفعول، (عَلَى فِيهِ)؛ أي: فم العبد المذكور، وهذا معنى قوله تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65]، وفي آية أخرى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24]، وفي رواية أخرى:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3507 - 3508.
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20]، وهذا معنى قوله هنا:(فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ)؛ أي: أعضائه، وقد تقدّم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور قبله:"فيُختم على فيه، ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي. . .". (انْطِقِي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَتَنْطِقُ) أركانه (بِأَعْمَالِهِ)؛ أي: بكلّ ما عملته تلك الأركان، وارتكبته في الدنيا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(ثُمَّ يُخَلَّى)؛ أي: يُترك (بَيْنَهُ)؛ أي: بين هذا العبد (وَبَيْنَ الْكَلَامِ)؛ أي: يُرفع الختم من فيه، حتى يتكلم بالكلام العاديّ، فشهادة ألسنتهم في الآية يراد بها نوع آخر من الكلام على خرق العادة، والله تعالى أعلم به. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُ) العبد لأركانه ذمًّا، وتوبيخًا لهنّ:(بُعْدًا لَكُنَّ، وَسُحْقًا) بضم، فسكون، وبضمّتين؛ أي: هلاكًا، وهما مصدران ناصبهما مقدَّر، والخطاب للأركان؛ أي: ابعُدْن، واسحقن، (فَعَنْكُنَّ)؛ أي: عن قِبَلكنّ، ومن وجهتكنّ، ولأجل خلاصكنّ (كُنْتُ أُنَاضِلُ")؛ أي: أجادل، وأخاصم، وأدافع على ما في "النهاية"، وقال بعضهم: أي: أخاصم لخلاصكنّ، وأنتنّ تُلقين أنفسكن فيها، والمناضلة: المراماة بالسهام، والمراد هنا: المحاجة بالكلام، يقال: ناضل فلان عن فلان: إذا رمى عنه، وحاجّ، وتكلم بعذر، ودفع عنه.
وقال القاري رحمه الله: وجوابهن محذوف دلّ عليه قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 21 - 23]، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تكلّم الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في هذا الحديث، فقال: ووجدت فيه - أي: في "صحيح مسلم" - حديث الأشجعيّ، عن سفيان، عن عُبيد المكتب، عن فُضيل بن عمرو الْفُقيميّ، عن الشعبيّ، عن أنس بن
مالك، قال:"كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فضحك، فقال: ضحكت من مخاطبة العبد ربه" الحديث، قال: فهذا حديث رواه الأشجعيّ، وأبو عامر الأسديّ، عن الثوريّ، بهذا الإسناد، ورواه شريك بن عبد الله، عن عُبيد المكتب، عن الشعبيّ، عن أنس، ولم يذكر في إسناده فضيل بن عمرو، ورواه عمارة بن القعقاع، عن الشعبيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنسًا، ولا يُعرف بهذا الإسناد حديث غير هذا، وذِكر الشعبيّ عن أنس شيء يسير. انتهى كلام ابن عمّار رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه ابن عمار رحمه الله إعلال هذا الحديث بالاضطراب، وذلك أن الأشجعيّ رواه متّصلًا، وتابعه عليه أبو عامر الأسديّ - واسمه مهران بن أبي عمر - وخالفهما شريك بن عبد الله، فأسقط من الإسناد فضيل بن عمرو، وخالف الجميع عمارة بن القعقاع، فرواه مرسلًا، هذا خلاصة إعلاله.
والجواب عن مسلم رحمه الله أن يقال: إن هذا الاختلاف لا يضرّ؛ لأن الأشجعيّ حافظ حجة، ولا سيّما في الثوريّ، فلا يؤثّر فيه مخالفة غيره له، ولا سيّما مع متابعة أبي عامر الأسديّ له، ومخالفة مثل شريك المطعون في حفظه، وكذا إرسال عمارة بن القعقاع لا يضرّ؛ لأنه ليس مثله في الحفظ.
وقد وافق مسلمًا في تصحيح رواية الأشجعي أبو زرعة الرازيّ، فقد ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" (3/ 285) قال: وسئل أبو زرعة عن حديث رواه سفيان عن عُبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيميّ، عن الشعبيّ، عن أنس، قال: ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:"أتدرون مم أضحك. . ." وذكر الحديث، ثم قال: ورواه شريك عن عبيد المكتب عن الشعبيّ، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لأبي زرعة: أيهما أصحّ؟ قال: حديث سفيان. انتهى.
والحاصل: أن الحديث صحيح، ولا أثر للمخالفة المذكورة، كما صححه مسلم، وأبو زرعة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"علل الأحاديث في كتاب صحيح مسلم" ص 156 - 158.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7409](2969)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 508)، و (أبو بعلى) في "مسنده"(3975 و 3977)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7358)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 249)، "الأسماء والصفات"(ص 217 - 218)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، وبالله تعالى التوفيق.
(2) - (بَابُ ذِكْرِ مَعِيشَةِ آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7410]
(1055) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم تقدّموا غير مرّة.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى للمصنّف في "كتاب الزكاة" برقم [42/ 2427](1055) وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ)؛ أي: زوجاته، ومن في نفقته، أو هم مؤمنو بني هاشم والمطّلب.
وقوله: (قُوتًا)؛ أي: بُلغة، تسدّ رَمَقَهم، وتُمسك قوّتهم، بحيث لا ترهقهم الفاقة، وقال النوويّ رحمه الله: قيل: معنى قوتًا؛ أي: كفايتهم من غير إسراف، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"كفافًا"، وقيل: هو سدّ الرمق. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 105 - 106.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا"؛ أي: كفافًا، كما جاء في الرواية الأخرى، ويعني به: ما يقوت الأبدان، ويكفّ عن الحاجة، والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الغنى، والفقر، وقد تقدَّمت هذه المسألة في "الزكاة". ووجه التمسك بهذا الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضًا فإنَّ الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"خير الأمور أوساطها"
(1)
، وأيضًا: فإنَّ هذه الحال سليمة من آفات الغنى، وآفات الفقر المدقع، فكانت أفضل منها، ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيّبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكُفِيَ مرارته وآفاته.
لا يقال: فقد كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر الشديد المدقع، كما دلَّت عليه أحاديث هذا الباب وغيرها، ألا ترى أنه يطوي الأيام، ولا يشبع يومين متواليين، ويشدّ على بطنه الحجر من الجوع والحجرين، ولم يكن له سوى ثوب واحد، فإذا غسله انتظره إلى أن يجفّ، وربما خرج، وفيه بقع الماء، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله، ولم يخلّف دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا حاله في الفقر أشدّ من هذه، وعلى هذا فلم يكن حاله الكفافَ، بل: الفقر، فلم يُجبه الله تعالى في الكفاف؛ لعلمه بأن الفقر أفضل له؛ لأنَّا نقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جمع له حال الفقر، والغنى، والكفاف، فكان أول أحواله الفقر مبالغةً في مجاهدة النفس، وخطامها عن مألوفات عاداتها، فلما حصلت له مَلَكة ملَكَها، وتخلّص له خلاصة سَبَكها، خيّره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبًا، تسير معه حيث سار، فلم يلتفت إليها، وجاءته فتوحات الدنيا، فلم يعرّج عليها، بل صرفها، وانصرف عنها، حتى قال:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس، والخمس مردود فيكم"
(2)
. وهذه حالة الغني الشاكر، ثم اقتصر من ذلك كله على قَدْر ما يردّ ضروراته، وضرورات
(1)
حديث ضعيف، كما ذكره العجلونيّ في "كشف الخفا" 1/ 469.
(2)
حديث صحيح.
عياله، ويردّ حاجتهم، فاقتنى أرضه بخيبر، وكان يأخذ منها قوت عياله، ويدّخره لهم سنة، فاندفع عنه الفقر المدقع، وحصل الكفاف الذي دعا به، ثم إنه لما احتُضر، وقف تلك الأرض على أهله؛ ليدوم لهم ذلك الكفاف الذي ارتضاه لنفسه، ولتظهر إجابة دعوته حتى في أهله من بعده، وعلى ذلك المنهج نهج الخلفاء الراشدون على ما تدلّ عليه سِيَرهم وأخبارهم، وعلى هذا فأهل الكفاف هم صدر كتيبة الفقراء الداخلين الجنّة قبل الأغنياء بخمسمئة عام؛ لأنَّهم وَسَطُهم، والوسط: العدل، وليسوا من الأغنياء كما قرّرناه، فاقتضى ذلك ما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو جيّد مفيد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7411]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنا الأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا"، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلهم تقدّموا غير مرّة، والحديث مضى القول فيه في الذي قبله.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7412]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، ذَكَرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "كَفَافًا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلهم تقدّموا غير مرّة، و"أبو سعيد الأشجّ" هو: عبد الله بن سعيد، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، و"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة.
وقوله: (وَقَالَ: "كَفَافًا") فاعل "قال" ضمير أبي أسامة.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن الأعمش هذه ساقها ابن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
"المفهم" 7/ 130 - 132.
(175)
- أخبرنا أبو أسامة، قال: سمعت الأعمش يحدّث عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد صلى الله عليه وسلم كَفَافًا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7413]
(2970) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ [10] تقدّم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المرويّ [10] تقدّم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ [8] تقدّم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ [6] تقدّم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ [5] تقدّم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(الأَسْوَدُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ [2] تقدّم في "الطهارة" 32/ 674.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين غير شيخيه، كما أسلفته، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أو ثلاثة روى بعضهم عن بعض على قول من جعل منصورًا تابعيًّا صغيرًا، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
(1)
"مسند إسحاق بن راهويه" 1/ 219.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: مَا) نافية، (شَبعَ) بكسر الموحّدة، كسَمِنَ، يقال: شَبِعَ شِبَعًا، بفتح الباء، وسكونُها تخفيف، وبعضهم يجعل الساكن اسمًا لِمَا يُشْبَع به، من خبز، ولحم، وغير ذلك، فيقول: الرغيف شِبْعِي؛ أي: يُشبعني، ويتعدى إلى المفعول بنفسه، فيقال: شَبِعْتُ لحمًا، وخبزًا، قاله الفيّوميّ
(1)
. (ما شبع آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) المراد: النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وقوله:(مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) يُخرج ما كانوا فيه قبل الهجرة، (مِنْ طَعَامِ بُرٍّ) يُخرج ما عدا ذلك من أنواع المأكولات، (ثَلَاثَ لَيَالٍ)؛ أي: بأيامها (تِبَاعًا) بكسر التاء، يُخرج التفاريق، وقوله:(حَتَّى قُبِضَ) بالبناء للمفعول إشارة إلى استمراره على تلك الحال مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهي عشر سنين بما فيها من أيام أسفاره، في الغزو، والحجّ، والعمرة. وزاد ابن سعد من وجه آخر عن إبراهيم:"وما رُفع عن مائدته كسرة خبز فضلًا حتى قُبض"، ووقع في رواية الأعمش عن منصور فيه بلفظ:"ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"ما شبع آل محمد من خبز برّ مأدوم"، وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين، حتى قُبض"، أخرجاه، وعند مسلم من رواية يزيد بن قُسيط، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز وزيت في يوم واحد مرتين"، ومن طريق مسروق عنها:"والله ما شبع من خبز، ولحم في يوم مرتين".
وعند ابن سعد أيضًا من طريق الشعبيّ عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتي عليه أربعة أشهر، ما يشبع من خبز البرّ".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث الباب، ذكره البخاريّ في "الأطعمة" من طريق سعيد المقبريّ عنه:"ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا". وأخرجه مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير في اليوم الواحد غداءً وعشاءً".
وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعتين في يوم حتى فارق الدنيا"، أخرجه ابن سعد، والطبرانيّ.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 303.
وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: "ما شبع من غداء، أو عشاء حتى لقي الله"، أخرجه الطبراني، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7413 و 7414 و 7414 و 7416 و 7417](2970)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5416) و"الرقاق"(6454)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2357)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 150)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3387)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 128 و 156)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 131)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 33 و 34)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 880)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 150)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(14/ 272)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهله من قلة المعيشة، فإن العيش عيش الآخرة. قال القرطبيّ رحمه الله: أحاديث هذا الباب كلها، وإن اختلفت ألفاظها تدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يديم الشِّبَع، ولا الترفّه في العيش، لا هو، ولا من حوته بيوته، ولا آله، بل كانوا يأكلون ما خَشُن من المأكل الْعَلَق، ويقتصرون منه على ما يسدّ الرّمَق، معرضين عن متاع الدنيا، مُؤْثِرين ما يبقى على ما يفنى، ثم لم يزل كذلك حالهم مع إقبال الدنيا عليهم، واجتماعها بحذافيرها لديهم، إلى أن وصلوا إلى ما طلبوا، وظَفِروا بما فيه رغبوا. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من الصبر على خشونة العيش؛ لأن مقصودهم التخفّف من تبعات الدنيا، حتى يصلوا إلى الآخرة، فيدخلوا الجنة قبل غيرهم ممن شغلتهم الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم: خمسمائة سنة"، حديث صحيح.
(1)
"المفهم" 7/ 128 - 129.
3 -
(ومنها): ما قاله الطبريّ رحمه الله: استَشكل بعض الناس كون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعًا مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سَنَة، وأنه قَسَم بين أربعة أنفس ألف بعير، مما أفاء الله عليه، وأنه ساق في عمرته مائة بدنة، فنحرها، وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابي بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وغيرهم، مع بَذْلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحثّ على تجهيز جيش العسرة، فجهّزهم عثمان رضي الله عنه بألف بعير، إلى غير ذلك.
والجواب: أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة، لا لِعِوز، وضِيْق، بل تارةً للإيثار، وتارة لكراهة الشبع، ولكثرة الأكل. انتهى.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وما نفاه مطلقًا فيه نظر؛ لِمَا تقدم من الأحاديث آنفًا، وقد أخرج ابن حبان في "صحيحه"عن عائشة رضي الله عنها:"من حدثكم أنّا كنّا نشبع من التمر، فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئًا من التمر، والودك"، وفي رواية عكرمة، عن عائشة:"لمّا فُتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر".
وفي حديث منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبعنا من التمر".
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "لمّا فُتحت خيبر شبعنا من التمر".
والحقّ أن الكثير منهم كانوا في حال ضِيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة، ثم لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل، والمنائح، فلمّا فُتحت لهم النضير، وما بعدها رَدُّوا عليهم منائحهم.
وقريب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أُخفت في الله، وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من يوم وليلة، ما لي ولبلال طعام يأكله أحد إلا شيء يواريه إبط بلال"، أخرجه الترمذيّ، وصححه، وكذا أخرجه ابن حبان بمعناه.
نَعَم كان صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له، كما أخرج الترمذيّ من حديث أبي أمامة: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعْتُ
تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك"، ذكر هذا كله في "الفتح"
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7414]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
وقوله: (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ)؛ أي: إلى أن مات صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى قبله.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7415]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ، يُحَدِّثُ عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ، مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلهم تقدّموا غير مرّة، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ.
وقوله: (آل محمد)، أي: آل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهله الأَدْنون، وعشيرته الأقربون، وقال في "المُغرب": وأهل الرجل: امرأته، وولده، والذين في عياله، ونفقته
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7416]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ،
(1)
"الفتح" 14/ 590 - 591، "كتاب الرقاق" رقم (6454).
(2)
"فيض القدير" 5/ 199.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ فَوْقَ ثَلَاثٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ) - بموحّدة، ومهملة - ابن ربيعة النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4].
روى عن أبيه، وعمه مخرمة، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم.
وروى عنه الثوريّ، وشعبة، وقيس بن الربيع، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن خلفون: وثقه ابن نمير، وابن وضاح، وقال الصريفينيّ: مات سنة تسع عشرة ومائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(أَبُوهُ) عابس - بموحّدة مكسورة، ثم مهملة - ابن ربيعة النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2](ع) تقدم في "الحج" 38/ 3071.
والباقون ذُكروا قريبًا، و"سفيان" هو: الثوريّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7417]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَر، هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ البُرِّ ثَلَاثًا، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا غير مرّة.
وقوله: (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ)؛ أي: إلى أن مات صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى مستوفًى، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7418]
(2971) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هِلَالُ بْنُ حُمَيْدٍ) أو ابن أبي حميد، أو ابن مِقْلاص، أو ابن عبد الله الْجُهَنيّ مولاهم، أبو الجهم، ويقال غير ذلك في اسم أبيه، وفي كنيته، الصيرفيّ الوزان، الكوفيّ، ثقة [6](خ م د ت س) تقدم في "الصلاة" 39/ 1062.
والباقون تقدّموا غير مرّة، و"وكيع" هو: ابن الجرّاح. و"مسعر" هو: ابن كِدام.
وقوله: (ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أحمد بن منيع: "ما شبع محمد" بحذف لفظ "آل"، وقد تقدم أن "آل محمد" قد يُطلق، ويراد به محمد نفسه
(1)
.
(يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ) وفي رواية البخاريّ: "ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"، قال في "الفتح": فيه إشارة إلى أن التمر كان أيسر عندهم من غيره، وفيه إشارة إلى أنهم ربما لم يجدوا في اليوم إلا أكلة واحدة، فإن وجدوا أكلتين، فإحداهما تمر، وقد أخرج ابن سعد من طريق عمران بن يزيد المدنيّ، حدّثني والدي، قال: دخلنا على عائشة، فقالت: خرج - تعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر، لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير، لم يشبع من التمر. وليس في هذا ما يدل على ترك الجمع بين لونين، فقد ترجم البخاريّ في "الأطعمة" من "صحيحه" للجواز، وأورد حديث:"كان يأكل القثاء بالرطب"
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 14/ 591.
(2)
"الفتح" 14/ 591.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7419]
(2972) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، حَدَّثَنَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَنَمْكُثُ شَهْرًا، مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ) الْعِجليّ، أبو زكريا الكوفيّ، صدوقٌ عابدٌ يخطئ كثيرًا، وقد تغير، من كبار [9].
روى عن أبيه، وهشام بن عروة، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهم.
وروى عنه ابنه داود، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، ويحيى بن معين، وعمرو الناقد، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو هشام الرفاعيّ، وأبو كريب، وغيرهم.
قال أبو بكر بن عياش: ذاك راهب؛ يعني: لعبادته، وقال زكريا الساجيّ: ضعّفه أحمد، وقال: حدّث عن الثوريّ بعجائب، وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: ليس بحجة، وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس بثبت، لم يكن يبالي أيّ شيء حدّث، كان يتوهم الحديث، قال: وقال وكيع: هذه الأحاديث التي يحدث بها يحيى بن يمان ليست من أحاديث الثوريّ، وقال عثمان الدارميّ عن يحيى بن معين: أرجو أن يكون صدوقًا، وقال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ليس به بأس، وقال عبد الله بن علي ابن المديني: كان فُلِجَ فتغيّر حفظه، وقال أبو بكر بن عفان الصوفيّ عن وكيع: ما كان أحد من أصحابنا أحفظ منه، ثم نسي، فلا أعلم بالكوفة أحفظ من داود ابنه، وقال يعقوب بن شيبة: كان صدوقًا كثير الحديث، وإنما أَنكر عليه أصحابنا كثرة الغلط، وليس بحجة إذا خولف، وهو من متقدمي أصحاب سفيان في الكثرة عنه، وقال الآجري عن أبي داود: يخطئ في الأحاديث، ويقلبها، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في نفسه لا يتعمّد الكذب، إلا أنه يخطئ، ويشتبه عليه، وقال العجليّ: كان من
كبار أصحاب الثوريّ، وكان ثقة، جائز الحديث، متعبدًا، معروفًا بالحديث، صدوقًا، إلا أنه فُلج بآخره، فتغير حفظه، وكان فقيرًا صبورًا، وقال ابن أبي شيبة: كان سريع الحفظ، سريع النسيان. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وكان متقشفًا.
وقال هارون بن حاتم: مات سنة ثمان وثمانين، وقال أبو هشام الرفاعيّ: مات سنة تسع وثمانين ومائة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون تقدّموا غير مرّة.
[تنبيه]: قوله: (قَالَ: وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ) فاعل "قال" ضمير عمرو الناقد، فهو يروي هذا الحديث عن عبدة بن سليمان، ويحيى بن يمان، كلاهما عن هشام بن عروة، فقوله:"ويحيى بن يمان" مبتدأ خبره قوله بعده: "حدّثنا عن هشام"، فتنبّه.
وقد تكلَّم الحافظ أبو عليّ الجيّاني في هذا الإسناد، فقال بعد أن أورد الحديث على رواية مسلم هذه ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث عند أبي أحمد الجلوديّ، قال: ويحيى بن يمان حدّثنا عن هشام، ومعناه: أن عبدة، وابن يمان يرويان الحديث عن هشام بن عروة، فالقائل: ويحيى بن يمان هو عمرو الناقد.
وفي نسخة ابن الحذّاء: حدثنا عمرو الناقد، قال: حدّثنا عبدة، قال: حدّثنا يحيى بن يمان، عن هشام، وهذا وَهَمٌ، ليس يروي عبدة عن يحيى بن يمان، والصواب رواية أبي أحمد. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقولها: (إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)"إن" مخفّفة من الثقيلة بدليل دخول اللام الفارقة بعدها، و"آل محمد صلى الله عليه وسلم" منصوب على الاختصاص، أي: أخصّ آل محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الآل تدخل فيه الأزواج.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 935.
وقولها: (لَنَمْكُثُ شَهْرًا) جملة في محلّ نصب على الخبريّة لـ "كنا"، وجملة "كان" خبر "إن المخفّفة".
وقولها: (مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ) السين والتاء زائدتان؛ للتوكيد؛ أي: لا نوقد في بيوتنا النار؛ لعدم ما يُطبخ به.
وقولها: (إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ)"إن" نافية، و"هو" يرجع إلى الطعام؛ أي: ما طعامنا إلا التمر والماء.
والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7420]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، إِنْ كُنَّا لَنَمْكُثُ، وَلَمْ يَذْكُرْ آلَ مُحَمَّدٍ، وَزَادَ أَبُو كُرَيْبٍ في حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا اللُّحَيْمُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ آلَ مُحَمَّدٍ) هكذا النُّسخ: "ولم يذكر" بإفراد الضمير، وكان الأَولى أن يقول: ولم يذكرا بإعادة الضمير على أبي أسامة، وابن نمير، والله المستعان.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا اللُّحَيْمُ) بضم اللام تصغير لحم، وإنما صُغّر لقلّته.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، وأبي أسامة عن هشام ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4144)
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نمير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا، ما نوقد فيه بنار، ما هو إلا التمر والماء"، إلا أن ابن نمير قال: نلبث شهرًا. انتهى
(1)
.
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1388.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7421]
(2973) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ في رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ، فَفَنِيَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: تُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَ) الحال أنه (مَا فِي رَفِّي) - بفتح الراء، وتشديد الفاء -: خشبة عريضة، يُغرَز طرفاها في الجدار، وهو شبه الطاق في البيوت، قاله في "العمدة"، وقال في "الفتح": قال الجوهريّ: الرفّ: شِبْهُ الطاق في الحائط، وقال عياض: الرف خشب يُرتفع عن الأرض في البيت، يوضع فيه ما يراد حفظه، قال الحافظ: والأول أقرب للمراد. انتهى
(1)
.
وقولها: (مِنْ شَيْءٍ)"من" زائدة للتوكيد، و"شيء" مبتدأ مؤخّر، خبره الجارّ والمجرور قبله، وقوله:(يَأْكُلُهُ) صفة "شيء"، (ذُو كَبِدٍ) بالفتح، والكسر، وككتف من الأمعاء معروف، يؤنّث، وقد يذكّر، جمعه أكباد، وكُبُود
(2)
. (إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ)؛ أي: نصفه، والمراد هنا: نصف وسق شعير، وقال في "الفتح": المراد بالشطر هنا: البعض، والشطر يُطلق على النصف، وعلى ما قاربه، وعلى الجهة، وليست مرادة هنا، ويقال: أرادت نصف وسق. انتهى
(3)
.
(فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ) زمن أَكْله، (فَكِلْتُهُ)، بكسر الكاف، (فَفَنِيَ) بكسر النون؛ أي: فرغ، ونفِد، تعني أنها ما زالت تأكل منه قبل أن تكيله، فلما كالته نفِد، وفرغ.
(1)
"الفتح" 14/ 572.
(2)
راجع: "القاموس" ص 1110.
(3)
"الفتح" 14/ 572.
قال ابن بطال رحمه الله: حديث عائشة رضي الله عنها هذا في معنى حديث أنس رضي الله عنه في الأخذ من العيش بالاقتصاد، وما يسدّ الجوعة.
فتعقّبه الحافظ، فقال: إنما يكون كذلك لو وقع بالقصد إليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في "الصحيحين" أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر، وغيرها، من تمر، وغيره، يدّخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عُدّة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ، أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم، أو معظمه.
وقد روى البيهقيّ من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يُؤْثِر على نفسه"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7421](2973)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3097) و"الرقاق"(6451)، و (الترمذيّ) في "القيامة"(2467)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3388)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 132)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 108)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من قلّة المعيشة، وصبرهنّ على ذلك.
2 -
(ومنها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم في تكثيره طعام عائشة رضي الله عنها، فكانت تأكل منه، وتنفق على المحتاجين حتى طال عليها الوقت، فكالته، فنفد.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال: فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره.
وتعقّبه الحافظ، فقال: في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه
كان من الخصوصية لعائشة رضي الله عنها ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر الآتي بعدُ، ووقع مثل ذلك في مزود أبي هريرة الذي أخرجه الترمذيّ، وحسّنه، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق أبي العالية، عن أبي هريرة:"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: ادع لي فيهنّ بالبركة، قال: فقبض، ثم دعا، ثم قال: خذهنّ، فاجعلهنّ في مزود، فإذا أردت أن تأخذ منهنّ، فأدخل يدك، فخذ، ولا تنثر بهنّ نثرًا، فحملت من ذلك كذا وكذا وسقًا في سبيل الله، وكنا نأكل، ونُطعم، وكان المزود معلقًا بحقوي، لا يفارقه، فلما قُتل عثمان انقطع".
وأخرجه البيهقيّ أيضًا من طريق سهل بن زياد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، مطوّلًا، وفيه:"فأدخل يدك، فخذ، ولا تكفئ، فيكفأ عليك"، ومن طريق يزيد بن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه.
ونحوه ما وقع في عُكّة المرأة، وهو ما أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر:"أن أم مالك كانت تُهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنًا، فيأتيها بنوها، فيسألون الأُدْم، فتعمِد إلى العكة، فتجد فيها سمنًا، فما زال يقيم لها أدم بيتها، حتى عصرته، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لو تركتها ما زال قائمًا".
4 -
(ومنها): أنه قد استُشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام، وترتيب البركة على ذلك، كما في حديث المقدام بن معد يكرب، مرفوعًا:"كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه".
وأجيب: بأن الكيل عند المبايعة مطلوب، من أجل تعلّق حق المتبايعين، فلهذا القُصد يُندب، وأما الكيل عند الإنفاق، فقد يبعث عليه الشحّ، فلذلك كُره، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته، وضيفهما حتى كاله، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم".
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ: سبب رفع النماء من ذلك عند الحصر والكيل - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص، مع معاينة إدرار نِعَم الله،
ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة.
6 -
(ومنها): أنه يستفاد منه أن من رُزق شيئًا، أو أُكرم بكرامة، أو لُطف به في أمر مّا، فالمتعين عليه موالاة الشكر، ورؤية المنة لله تعالى، ولا يُحْدِث في تلك الحالة تغييرًا، والله أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7422]
(2972) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟
(1)
قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8] (184) وقيل: قبل ذلك (ع)، تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
2 -
(أَبُوهُ) سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5] مات في خلافة المنصور (ع)، تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) المدنيّ، أبو رَوح، مولى آل الزبير، ثقةٌ [5](ت 130) وروايته عن أبي هريرة مرسلة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 57/ 1948.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
(1)
وفي نسخة: "يقيتكم".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ (أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، (إنْ) مخفّفة من "أنّ" المثقلة، فتدخل على الجملتين، فإن دخلت على الاسمية جاز إعمالها، خلافًا للكوفيين، وإن دخلت على الفعلية وجب إهمالها، والأكثر أن يكون الفعل ماضيًا ناسخًا، وههنا كذلك؛ لأنها دخلت على الماضي الناسخ؛ لأن "كان" من النواسخ، واللام في "لننظر" عند سيبويه والأكثرين لام الابتداء، دخلت لتوكيد النسبة، وتخليص المضارع للحال، وللفرق بين "إن" المخففة من المثقلة و"إن" النافية، ولهذا صارت لازمة بعد أن كانت جائزة، وزعم أبو عليّ، وأبو الفتح، وجماعة أنها لام غير لام الابتداء، اجتنابًا للفرق، قاله في "العمدة"
(1)
.
وإلي هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا
وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا
…
تَلْفِهِ غَالِبًا بـ "إِنْ" ذِي مُوصَلَا
(كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ) بجرّ "ثلاثة" بدلًا من "الهلال"، وبنصبه بفعل مقدّر، تقديره: نرى ثلاثة أهلة، ونكملها في شهرين باعتبار رؤية الهلال في أول الشهر الأول، ثم برؤيته في أول الشهر الثاني، ثم برؤيته في أول الشهر الثالث، فيصدق عليه ثلاثة أهلة، ولكن المدة ستون يومًا، والمرئي ثلاثة أهلة
(2)
.
(وَمَا أُوقِدَ) بالبناء للمفعول، من الإيقاد، (في أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ)
(1)
"عمدة القاري" 13/ 127.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 13/ 127.
ووقع في رواية سعيد، عن أبي هريرة، عند ابن سعد:"كان يمرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم هلال، ثم هلال، ثم هلال، لا يوقد في شيء من بيوته نارٌ، لا لخبز، ولا لطبخ"، وفي رواية ابن ماجه من طريق أبي سلمة، عن عائشة بلفظ:"لقد كان يأتي على آل محمد الشهر، ما يُرَى في بيت من بيوته الدخان".
(قَالَ) عروة: (قُلْتُ: يَا خَالَةُ) بضم التاء؛ لأنه منادى مفرد، (فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟)
(1)
بضم أوله، يقال: أعاشه الله؛ أي: أعطاه العيش، وضبطه النوويّ بتشديد التحتانيّة، وفي بعض النسخ:"ما يُغنيكم"، قاله في "الفتح".
وقال في "العمدة": "يُعيشكم" بضم الياء، من أعاشه الله تعالى عيشة، وقال النوويّ: بفتح العين، وكسر الياء المشددة، قال: وفي بعض النسخ المعتمدة - يعني: في نسخ مسلم - "فما كان يقيتكم" من القوت، صرح بذلك القونوي في مختصر شرح مسلم، وقال بعضهم
(2)
: وفي بعض النسخ: "ما يغنيكم" بسكون المعجمة، بعدها نون مكسورة، ثم تحتانية ساكنة. انتهى، قال العينيّ: كأنه صُحِّف عليه، فجعله من الإغناء، وليس هو من القوت، فعلى قول تكون هذه رواية رابعة، فتحتاج إلى البيان. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: يشير العينيّ بهذا إلى صاحب "الفتح"، ولا يخفى ما فيه من الطعن، والحقّ أن الحافظ إمام لا يُجازف، بل هو متثبّت في نقلها، فلا همز، ولا لمز أيها العينيّ، سامحك الله تعالى.
وفي رواية أبي سلمة عن عائشة نحوه، وفيه:"قلت: فما كان طعامكم؟ "، (قَالَت) عائشة رضي الله عنها: طعامنا (الأَسْوَدَانِ)، وقولها:(التَّمْرُ وَالْمَاءُ) بدل مما قبله، قال في "الفتح": قولها: "الأسودان: التمر والماء"، وفي حديث أبي هريرة:"قالوا: بأي شيء كانوا يعيشون" نحوه، وفي هذا إشارة إلى ثاني الحال بعد أن فُتحت قريظة، وغيرها، ومن هذا ما أخرجه الترمذيّ من حديث الزبير: "قال: لما نزلت: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] قلت: وأي نعيم نُسأل عنه، وإنما هو الأسودان التمر والماء؟، قال: إنه
(1)
وفي نسخة: "يقيتكم".
(2)
يريد الحافظ ابن حجر.
سيكون"، قال الصغانيّ: الأسودان يُطلق على التمر والماء، والسواد للتمر دون الماء، فنُعتا بنعت واحد تغليبًا، وإذا اقترن الشيئان سُمّيا بِاسم أشهرهما، وعن أبي زيد: الماء يسمى الأسود، واستشهد لذلك بشعر، قلت
(1)
: وفيه نظر، وقد تقع التحفة، أو الشرف موضع الشهرة، كالعُمَرين لأبي بكر وعمر، والقمرين للشمس والقمر. انتهى. "الفتح".
وقال في "موضع آخر: قوله: "الأسودان: التمر والماء" هو على التغليب، وإلا فالماء لا لون له، ولذلك قالوا: الأبيضان: اللبن والماء، وإنما أَطلقت على التمر أسود؛ لأنه غالب تمر المدينة، وزعم صاحب "المحكم"، وارتضاه بعض الشراح المتأخرين أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما أرادت الحرّة
(2)
والليل، واستدل بأن وجود التمر والماء يقتضي وصفهم بالسعة، وسياقها يقتضي وصفهم بالضِّيق، وكأنها بالغت في وصف حالهم بالشدة، حتى إنه لم يكن عندهم إلا الليل والحرة. انتهى.
قال الحافظ: وما ادعاه ليس بطائل، والإدراج لا يثبت بالتوهم، وقد أشار إلى أن مستنَده في ذلك أن بعضهم دعا قومًا، وقال لهم: ما عندي إلا الأسودان، فَرَضُوا بذلك، فقال: ما أردت إلا الحرة والليل، وهذا حجة عليه؛ لأن القوم فهموا التمر والماء، وهو الأصل، وأراد هو المزح معهم، فألغز لهم بذلك.
وقد تظاهرت الأخبار بالتفسير المذكور، ولا شك أن أمر العيش نسبيّ، ومن لا يجد إلا التمر أضيق حالًا ممن يجد الخبز مثلًا، ومن لم يجد إلا الخبز أضيق حالًا ممن يجد اللحم مثلًا، وهذا أمر لا يدفعه الحسّ، وهو الذي أرادت عائشة رضي الله عنها، وللبخاريّ في "الرقاق" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عنها بلفظ:"وما هو إلا التمر والماء"، وهو أصرح في المقصود، لا يقبل الحمل على الإدراج. انتهى
(3)
.
(1)
القائل هو الحافظ، فتنبّه.
(2)
قال في "العمدة": الحرّة بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء: البقل الذي يؤكل غير مطبوخ. انتهى.
(3)
"الفتح" 6/ 418.
(إِلَّا أَنَّهُ)؛ أي: الحال والشأن، (قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ) بكسر الجيم، زاد الإسماعيليّ من طريق محمد بن الصباح، عن عبد العزيز:"نِعم الجيران كانوا"، وفي رواية أبي سلمة:"جيران صِدق"، (مِنَ الأَنْصَارِ) زاد أبو هريرة في حديثه:"جزاهم الله خيرًا"، (وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ) جمع منيحة - بفتح الميم، وكسر النون، وسكون الياء، وفي آخره جاء مهملة - وهي ناقة، أو شاة تعطيها غيرك، ليحتلبها، ثم يردّها عليك، وقد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها مؤبّدة، مثل الهبة، وقال الفراء: منحته منيحةً، وهي الناقة، والشاة يعطيها الرجل لآخر يحلبها، ثم يردّها، وزعم بعضهم أن المنيحة لا تكون إلا ناقة، وقال أبو عبيد: المنيحة عند العرب على وجهين: أن يعطي الرجل صاحب صلة، فيكون له، وأن يمنحه ناقة، أو شاة، ينتفع بحلبها، ووَبَرها، وصوفها زمنًا، ثم يردّها، وقال إبراهيم الحربيّ: العرب تقول: منحتك الناقة، وأنحلتك الوبر، وأعريتك النخلة، وأعمرتك الدار، وهذه كلها هبة منافع، يعود بعدها مثلها
(1)
.
(فَكَانُوا) هؤلاء الجيران، (يُرْسِلُونَ) وفي رواية البخاريّ:"يمنحون" من المنح، وهو العطاء، يقال: منحه يمنحه، من باب فتحه يفتحه، ومنحه يمنحه، من باب ضربه يضربه، والاسم: المنحة بالكسر، وهي العطية. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا)؛ أي: من ألبان تلك المنائح (فَيَسْقِينَاهُ) وفي رواية الإسماعيليّ: "فيسقينا منه".
وروى الترمذيّ، وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة، وأهله طاوين، لا يجدون عَشاء".
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "أتى النبيّ بطعام سخن، فأكل، فلما فرغ قال: الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا"، وسنده حسن.
ومن شواهد الحديث: ما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، عن أنس:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مرارًا: والذي نفس محمد بيده، ما أصبح عند آل محمد صاع حَبٍّ، ولا صاع تمر، وإن له يومئذ لتسع نسوة"، وله شاهد عند ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 13/ 127.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7422](2972)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2567) و"الرقاق"(6459)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 244)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1491 و 1510)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(729 و 6348 و 6361 و 6372)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 169)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، والصبر على التقلل، وأخذ البلغة من العيش، وإيثار الآخرة على الدنيا.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الصبر على مشاقّ الحياة؛ نصرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادًا في سبيل الله تعالى معه، وإلا فلو خرجوا إلى البلدان الأخرى لوجدوا سعة من العيش، ولكنهم آثروا الصبر عليه، فكان جزاؤهم الجنّة بمقتضى الوعد السابق:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} [الأنبياء: 101، 102].
3 -
(ومنها): أن فيه فضلَ الزهد، وإيثار الواجد للمعدِم، والاشتراك فيما في الأيدي.
4 -
(ومنها): جواز ذِكر المرء ما كان فيه من الضِّيق، بعد أن يوسّع الله عليه؛ تذكيرًا بنعمه، وليتأسى به غيره.
5 -
(ومنها): أن فيه حجةً لمن آثر الفقر على الغنى.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في هذه الأحاديث جواز الشِّبَع، وإن كان تَرْكه أحيانًا أفضل، وقد ورد عن سليمان، وأبي جحيفة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة".
وقال الطبريّ: الشبع وإن كان مباحًا، فإن له حدًّا ينتهي إليه، وما زاد على ذلك سَرَف، والمطلق منه ما أعان الأكل على طاعة ربه، ولم يشغله ثِقَله عن أداء ما وجب عليه.
واختُلف في حدّ الجوع على رأيين:
أحدهما: أن يشتهي الخبز وحده، فمتى طلب الإدام فليس بجائع.
وثانيهما: أنه إذا وقع ريقه على الأرض، لم يقع عليه الذباب، ذكره في "الإحياء"، وذكر أن مراتب الشِّبَع تنحصر في سبعة:
الأول: ما تقوم به الحياة.
الثاني: أن يزيد حتى يصلي عن قيام، ويصوم، وهذان واجبان.
الثالث: أن يزيد حتى يَقْوَى على أداء النوافل.
الرابع: أن يزيد حتى يقدر على التكسب، وهذان مستحبان.
الخامس: أن يملأ الثلث، وهذا جائز.
السادس: أن يزيد على ذلك، وبه يثقل البدن، ويكثر النوم، وهذا مكروه.
السابع: أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهيّ عنها، وهذا حرام، ذكره في "العمدة"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7423]
(2974) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسَيْطٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ) بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(أَبُو صَخْرِ) بن أبي المخارق، حُميد بن زياد الخراط، صاحب العباء، المدنيّ، سكن مصر، ويقال: هو حميد بن صخر أبو مودود الخراط،
(1)
"عمدة القاري" 21/ 33.
وقيل: إنهما اثنان، صدوقٌ يهم [6](ت 189)(بخ م د ت عس ق)، تقدم في "الطهارة" 5/ 558.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسَيْط) - بقاف، ومهملتين، مصغّرًا - ابن أسامة الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ الأعرج، ثقة [4](122) وله تسعون سنةً (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1301.
4 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ) الأيليّ المصريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
والباقون تقدّموا قريبًا، وشرح الحديث واضح.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7423](2974)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6358)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 405)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 284 و 2/ 698)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(4/ 100)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7424]
(2975) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ الْعَطَّارُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيُّ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعَ النَّاسُ مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ الْعَطَّارُ) أبو سليمان، ثقةٌ لم يثبت أن ابن معين تكلم فيه [8](ت 4 أو 175) وكان مولده سنة مائة (ع)، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 413.
2 -
(مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيُّ) العبدريّ المكيّ، وهو ابن صفية بنت شيبة، ثقةٌ [5] أخطأ ابن حزم في تضعيفه (ت 7 أو 138)(خ م د س ق)، تقدم في "الحيض" 3/ 699.
3 -
(صَفِيَّةُ) بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، لها رؤية، وحدّثت عن عائشة وغيرها، من الصحابة، وفي البخاريّ التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطني إدراكها (ع)، تقدمت في "الحيض" 3/ 699.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين السابقين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعَ النَّاسُ) وفي رواية البخاريّ: "حين شبعنا"، (مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ) قال في "الفتح": وفيه إشارة إلى أن شِبَعهم لم يقع قبل زمان وفاته، قاله الكرمانيّ، وتعقّبه الحافظ، فقال: لكن ظاهره غير مراد، وقد تقدم - أي: عند البخاريّ - في غزوة خيبر من طريق عكرمة، عن عائشة:"قالت: لمّا فُتحت خيبر، قلنا: الآن نشبع من التمر"، ومن حديث ابن عمر:"قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر"، فالمراد أنه صلى الله عليه وسلم شبع حين شبعوا، واستمر شبعهم، وابتداؤه من فتح خيبر، وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، ومراد عائشة بما أشارت إليه من الشبع، هو من التمر خاصّة دون الماء، لكن قرنته به إشارة إلى أن تمام الشبع حصل بجمعهما، فكأن الواو فيه بمعنى "مع"؛ لا أن الماء وحده يوجد الشبع منه، ولمّا عبّرت عن التمر بوصف واحد، وهو السواد، عبّرت عن الشبع والريّ بفعل واحد، وهو الشبع. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "من الأسودين" تثنية الأسود، وهما: التمر والماء، وهذا من باب التغليب، وإن كان الماء شفّافًا لا لون له، وذلك كالأبوين: للأب والأم، والقمرين: للشمس والقمر، والأحمرين: للّحم والشراب، وقيل: الذهب والزعفران، والأبيضين: الماء واللّبن، والأسمرين: للماء والملح، وكذلك قالوا: العُمَرين: لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فغلّبوا عمر؛ لأنه أخفّ، وأَبْعَدَ من قال: هما عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، ويقال: هذه تسمية الشيء بما يقاربه؛ لأن الأسود منهما التمر خاصّة.
(1)
"الفتح" 12/ 297 - 298، "كتاب الأطعمة" رقم (5383).
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: إنهم كانوا في سعة من الماء، فأجاب بأن الريّ من الماء لم يكن يحصل لهم من دون الشبع من الطعام، وقَرنت بينهما؛ لفقد التمتع بأحدهما دون الآخر، وعَبّرت عن الأمرين: الشبع والريّ بفعل واحد، كما عبرت عن التمر والماء بوصف واحد، وإن كان للماء الريّ، لا الشبع، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7424 و 7425 و 7426](2975)، و (البخاري) في "الأطعمة"(5383 و 5442)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 158 و 199 و 215)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 407)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7425]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: الْمَاءِ، وَالتَّمْرِ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ البصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7426]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمَا عَنْ سُفْيَانَ: وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الأَشْجَعِيُّ) عبيد الله بن عبيد الرحمن الكوفيّ [9]، تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
3 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ) الجهضميّ البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(أَبُو أَحْمَدَ) محمد بن عبد الله بن الزبير الأسديّ الزبيريّ الكوفيّ [9]، تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
5 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدم قريبًا.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ) الضمير للأشجعيّ، وأبي أحمد.
وقوله: (وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ) هكذا في هذه الرواية: "ما شبعنا"، وهي مخالفة للرواية التي قبلها:"وقد شبعنا إلخ"، وهي رواية الجماعة، قال الحافظ: والصواب رواية الجماعة، فقد أخرجه أحمد، ومسلم أيضًا من طريق داود بن عبد الرحمن، عن منصور بلفظ:"حين شبع الناس". انتهى.
والحاصل: أن الصواب لفظ: "وقد شبعنا من الأسودين"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية الأشجعيّ عن سفيان الثوريّ، فقد ساقها الطبريّ رحمه الله في "تهذيب الآثار"، فقال:
(463)
- حدّثنا أبو كريب، قال: حدّثنا الأشجعيُّ، عن سفيان، عن منصور ابن صفية، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبعنا من الأسودين: من التمر، والماء". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي أحمد الزبيريّ، عن الثوريّ، فقد ساقها ابن سعد رحمه الله في "الطبقات"، فقال:
أخبرنا محمد بن عبد الله الأسديّ
(2)
، أخبرنا سفيان، عن منصور ابن صفية، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبعنا من الأسودين". انتهى
(3)
.
(1)
"تهذيب الآثار" 1/ 276.
(2)
هو: أبو أحمد الزبيريّ.
(3)
"الطبقات الكبرى" 1/ 407.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7427]
(2976) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - بَعْنِيَانِ الْفَزَارِيَّ - عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - وَقَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ - مَا أَشْبَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
(1)
تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ، حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرقان المكيّ، نزيل بغداد [10]، تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
[تنبيه]: ذكر الحافظ الجيّانيّ أنه وقع في نسخة ابن الحذّاء، عن ابن ماهان:"حدّثنا محمد بن غسّان، وابن أبي عمر، جعل غسّان موضع عبّاد، وهو وهمٌ، والصواب: محمد بن عبّاد، وهو المكيّ". انتهى
(2)
.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ المكيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق [8]، تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ الكوفيّ، [6]، تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه إثبات صفة اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله، فنثبتها على ظاهرها، من غير تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. (وَقَالَ ابْنُ عَبَّادٍ)؛ يعني: شيخه الأول، وهو محمد بن عبّاد في روايته، (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ)؛ أي: قاله بالاسم الظاهر بدل قول ابن أبي عمر: "والذي نفسي بيده" بالضمير. (مَا) نافية، (أَشْبَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)
(1)
وفي نسخة: "ثلاث ليال".
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 936.
وفي بعض النسخ: "ثلاث ليال"، والمعنى واحد؛ لأن المقصود: ثلاثة أيام بلياليها، (تِبَاعًا) بكسر التاء؛ أي: متتابعة متوالية، (مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ، حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا)؛ أي: إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7427 و 7428](2976)، و (البخاريّ) في "الأطعمة"(5414)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2358)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3386)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 434)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 285)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6346)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(14/ 284)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7428]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ مِرَارًا، يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا شَبِعَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ، حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ [10]، تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان البصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" جـ 1 ص 385.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ مِرَارًا) لم يبيّن جهة الإشارة، ولعله يشير إلى جهة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو إلى السماء إشارة إلى علوّ الله عز وجل، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7429]
(2977) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ. وَقُتَيْبَةُ لَمْ يَذْكُرْ: بِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ [7]، تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
2 -
(سِمَاكُ) بن حرب أبو المغيرة الكوفيّ [4]، تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
3 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ) بن سعد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 97/ 522.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاك) بن حرب؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَلَسْتُمْ) الخطاب للصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، أو للتابعين، (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟) قال الطيبيّ رحمه الله: صفة مصدر محذوف؛ أي: ألستم منغمسين في طعام وشراب مقدار ما شئتم من التوسعة، والإفراط فيه، فـ "ما" موصولة، ويجوز أن تكون مصدرية. انتهى.
ويَحتَمِل أن تكون "ما" استفهامية بدلًا من "طعام، وشراب"؛ أي: أيّ شيء شئتم منهما، والكلام فيه تعيير، وتوبيخ، ولذلك أتبعه بقوله:"رأيت نبيكم"، وأضافه إليهم للإلزام حين لم يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن الدنيا، ومستلذاتها، وفي التقلل لمشتهياتها، من مأكولاتها، ومشروباتها.
وأما قتل خالد رضي الله عنه مالك بن نويرة لمّا قال له: كان صاحبكم يقول كذا، فقال خالد: هو صاحبنا، وليس بصاحبك، فقتله، فهو لم يكن لمجرد هذه اللفظة، بل لأنه بلغه عنه الردة، وتأكد ذلك عنده بما أباح له به الإقدام على قَتْله في تلك الحالة.
ثم قوله: "رأيت" إن كان بمعنى النظر فقوله: "وما يجد من الدقل" حال، وإن كان بمعنى العلم فهو مفعول ثان، وأدخل الواو تشبيهًا له بخبر "كان"
وأخواتها على مذهب الأخفش، والكوفيين، كذا حققه الطيبيّ رحمه الله. قال القاريّ: والأول هو المعوَّل. انتهى
(1)
.
(لَقَدْ) بفتح لام القسم؛ أي: والله لقد (رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَ) الحال أنه (مَا) نافية، (يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) بفتحتين: التمر الرديء، ويابسه، وما ليس له اسم خاصّ، فتراه لِيُبسه، ورداءته لا يجتمع، ويكون منثورًا على ما في "النهاية"، وقوله:(مَا يمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ) مفعول "يجد"، و"ما" موصولة، أو موصوفة، و"من الدقل" بيان لـ "ما" قُدِّم عليه.
وقوله: (وَقُتَيْبَةُ لَمْ يَذْكُرْ بِهِ) بيّن به الاختلاف الواقع بين شيخيه: قتيبة، وابن أبي شيبة، في لفظ "به"، فقتيبة لم يذكره في روايته، بل اقتصر على قوله:"ما يملأ بطنه"، وابن أبي شيبة ذكره، فقال:"ما يملأ به بطنه"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7429 و 7430 و 7431](2977 و 2978)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2372)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4146)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(727)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(13/ 224)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 268)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 406)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6340 و 6341 و 6342)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 275)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(14/ 372)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7430]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُلَائِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، وَزَادَ في حَدِيثِ زُهَيْرٍ: وَمَا تَرْضَوْنَ دُونَ أَلْوَانِ التَّمْرِ وَالزُّبْدِ).
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 12/ 446.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ [11]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه المروزيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(الْمُلَائِيُّ) أبو نعيم الفضل بن دُكين التميميّ الكوفيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 91.
[تنبيه]: قوله: "الْمُلَائِيُّ" بضمّ الميم: نسبة إلى الملاءة التي تستتر بها النساء، قال ابن الأثير: كان أبو نعيم شريك عبد السلام بن حرب الملائي في دكان يبيعان الملاء. انتهى
(1)
.
6 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ [7]، تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
و"سماك بن حرب" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ) الضمير لزهير بن معاوية، وإسرائيل بن يونس.
وقوله: (وَمَا تَرْضَوْنَ دُونَ أَلْوَانِ التَّمْرِ وَالزُّبْدِ) أراد به أنه صلى الله عليه وسلم مضى لسبيله، والحال أنه ما كان يجد ما يملأ بطنه من رديء التمر، وأنتم الآن تأكلون، وتشربون ما اشتهيتم، ولا تكتفون بلون واحد من ألوان الطعام، بل تجمعون أنواعًا عديدة في مائدة واحدة، وغرضه ذمّهم وتوبيخهم على تركهم الاقتداء بنبيّهم صلى الله عليه وسلم في الزهد، والتقلّل من الدنيا.
وقوله: (وَالزُّبْدِ) بضمّ الزاي، وسكون الموحّدة، وزانُ قُفل: ما يُستخرج بالْمَخْض من لبن البقر والغنم، وأما لبن الإبل فلا يُسمّى ما يُستخرج منه زُبْدًا،
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 277 - 278.
بل يقال له: حُباب، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: أما رواية زهير بن معاوية، عن سماك بن حرب فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(18382)
- حدّثنا أبو كامل، ثنا زهير، ثنا سماك بن حرب، ثنا النعمان بن بشير، يقول على منبر الكوفة: والله ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو قال: نبيكم؛ يشبع من الدَّقَل، وما ترضون دون ألوان التمر، والزُّبْد. انتهى
(2)
.
وقال ابن سعد في "الطبقات":
أخبرنا الفضل بن دُكين، والحسن بن موسى قالا: أخبرنا زهير، عن سماك، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول على المنبر: ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو نبيكم يشبع من الدَّقَل، وما ترضون دون ألوان التمر، والزُّبْد، قال الحسن بن موسى في حديثه: وألوان الثياب. انتهى
(3)
.
وأما رواية إسرائيل عن سماك، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7431]
(2978) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ يَخْطُبُ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا، و"عمر" هو: ابن الخطّاب رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ)؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) بن بشير رضي الله عنهما، حال كونه (يَخْطُبُ قَالَ) النعمان في خطبته (ذَكَرَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، هذا صريح
(1)
"المصباح المنير" 1/ 250.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 268.
(3)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد 1/ 406.
في أن النعمان رضي الله عنه يحكي هذا الكلام عن عمر رضي الله عنه، وهو خلاف الرواية السابقة، فإنه خطب به من عند نفسه، ولا تعارض؛ لإمكان حمله على أنه خطب مرّتين، مرّة ذكره عن عمر، ومرّة خطب به من عند نفسه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مَا أَصَابَ النَّاسُ)"ما" موصولة مفعول "ذَكَر"، و"الناسُ" مرفوع على الفاعليّة لـ "أصاب"؛ أي: ذكر عمر رضي الله عنه ما حصل للناس، وتجمّع لديهم (مِن) أنواع لذات (الدُّنْيَا) وشهواتها، (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه:(لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ) بفتح أوله، وثالثه، وتشديد اللام، يقال: ظَلّ يفعل كذا يَظَلُّ، من باب تَعِبَ ظُلُولًا: إذا فعله نهارًا، قال الخليل: لا تقول العرب: ظلّ إلا لعمل يكون بالنهار، ذكره الفيّوميّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قذ ذكر في "التاج"
(2)
أن ظلّ يأتي بمعنى صار، ويُستعمل في غير النهار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (الْيَوْمَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "يظلّ"، حال كونه (يَلْتَوِي)؛ أي: يتقلّب ظهرًا لبطن من الجوع، (مَا يَجِدُ دَقَلًا) بفتحتين رديء التمر، (يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ) الشريف صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7431](2978)، و (الترمذيّ) في "الزهد" عقب الحديث الماضي معلقًا (2372)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4146)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 24) وفي "الزهد"(ص 30)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 405 - 406)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6342)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 386.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" ص 7284.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7432]
(2979) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ، سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا وَاللهِ مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، لَا نَفَقَةٍ، وَلَا دَابَّةٍ، وَلَا مَتَاعٍ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا، فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا"، قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو هَانِئٍ) حميد بن هانئ الْخَوْلانيّ المصريّ، لا بأس به [5] وهو أكبر شيخ لابن وهب (ت 142)(بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
2 -
(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) - بضم الحاء المهملة، والموحّدة - عبد الله بن يزيد الْمَعَافريّ ثقة [3] مات سنة مائة بإفريقية (بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 42/ 2426.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره، ومسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة.
شرح الحديث:
(عن أبي هَانِئٍ) حميد بن هانئ أنه (سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو: عبد الله بن يزيد (الْحُبُلِيَّ) بضمّ الحاء المهملة، والباء الموحّدة: نسبة إلى حيّ من اليمن من الأنصار، يقال لهم: بنو الْحُبلى، قاله في "اللباب"
(1)
.
(يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، قال الطيبيّ رحمه الله: لا بُدّ من محذوف، أي: سمعته يقول قولًا، يفسره ما بعده، قال القاري: ويمكن أن يقدَّر مضاف، ويقال: سمعت قول عبد الله بن عمرو. انتهى
(2)
.
(وَ) الحال أنه قد (سَأَلَهُ رَجُلٌ) لم يُعرف، (فَقَالَ) ذلك السائل:(أَلَسْنَا)؛ أي: نحن وأمثالنا (مِنْ فقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟)؛ أي: من خواصهم الذين يسبقون أغنياءهم.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول الرجل لعبد الله بن عمرو: "ألسنا من الفقراء؟ " سؤال تقرير، وكأنه سأل شيئًا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8]، وكأنّ ذلك الرجل قال: ألسنا من الفقراء الذين يستحقّون من الفيء سهمًا بنصّ القرآن؟ وكأنه أنجز له مع ذلك الالتفات إلى الفقراء المهاجرين، وتبجح به، فأجابه، عبد الله بما يكسر ذلك منه، ويزيل آفة الالتفات إلى الأعمال بما يقتضي أن الأحق باسم الفقراء المهاجرين من كان متجرّدًا عن الأهل والمسكن، كما كان حال أهل الصفّة في أول الأمر، وصار معنى هذا الحديث إلى نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعة"
(3)
، و"ليس المسكين بالطوّاف"
(4)
، فكأنّ عبد الله قال له: ليس الفقير الذي تكون له زوجة، ومسكن، وإنما الفقير المتجرّد عن ذلك، ولم يُرد أن من كان فقيرًا مهاجريًّا، له زوجة ومسكن أنه لا يستحق من الفيء شيئًا؛ لأنَّ صاحب العيال الفقير أشدّ فاقة وبلاءً، ولأنه خلاف ما وقع لهم، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم بحسب فاقتهم، وحاجتهم، ويفضّل في العطاء من له عيالٌ على من ليس كذلك، وكذلك فعل الخليفتان
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 337.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 165.
(3)
متّفقٌ عليه.
(4)
متّفقٌ عليه.
بعده، على ما هو المعلوم من حالهما، وإن حُمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك، لم يُعَدّ من الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الله تعالى، والذين يسبقون إلى الجنة، فيلزم أن لا يكون أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليّ من الفقراء من السابقين إلى الجنة، وذلك باطل قطعًا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ) بن عمرو: (أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟)؛ أي: تضمها، وتسكن إليها، وتُقْبل عليها، (قَالَ) الرجل:(نَعَمْ) لي زوجة آوي إليها، (قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ) بفتح الميم، والكاف، وتُكسر؛ أي: منزل (تَسْكُنُهُ؟) وتأوي إليه، (قَالَ) الرجل:(نَعَمْ) لي مسكن أسكنه، (قَالَ) عبد الله:(فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ)؛ أي: أغنياء المهاجرين، فإن فقراءهم ما كان لهم امرأة، ولا مسكن، أو إن كان لأحدهم أحدهما، ما كان له الآخر منهما. (قَالَ) الرجل:(فَإِنَّ لِي) زيادة على ما ذكرت (خَادِمًا،) يُطلق على الذكر والأنثى، والخادمة بالهاء للمؤنّث قليل الاستعمال، والجمع خَدَمٌ بفتحتين، وخُدّام بالضم، والتشديد. (قَالَ) عبد الله:(فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ)؛ أي: ولا يصحّ أن يقال لك: الصعلوك، فلست من صعاليك المهاجرين، ولعله اقتبس هذا الكلام من قوله تعالى:{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] على ما رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال: الزوجة، والخادم، وزاد ابن جرير عنه: وكان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة، والخادم، والدار، يسمى مَلِكًا
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أنت من الملوك" لمّا أخبره أن له خادمًا على جهة الإغياء، والمبالغة، لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة، ولا بالأغنياء، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء؛ إذ لم يكن له غير ما ذكر، والله تعالى أعلم
(3)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ)؛ أي: الحبليّ، فهو موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا. (وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) بالإضافة، كقوله تعالى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48]، والجملة عطف على قوله:"وسأله رجل"؛ أي: والحال أنه أتى
(1)
"المفهم" 7/ 132.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 15/ 165.
(3)
"المفهم" 7/ 133.
ثلاثة نفر فقراء (إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (وَأَنَا)؛ أي: والحال أني (عِنْدَهُ)؛ أي: عند عبد الله بن عمرو.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "جاء ثلاثة نفر إلخ" هذه قضية أخرى غير القضية المتقدمة، وإن اتّفق راوياهما، فإنَّهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبليّ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ لأنَّ هؤلاء ثلاثة، وذلك واحدٌ، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدّة فاقتهم، وأنهم لا شيء لهم، فخيّرهم بين الصبر على ما هم فيه حتى يلقوا الله، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم من السبق إلى الجنة قبل الناس كلهم، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فيدفع إليهم ما يغنيهم، وبين أن يواسيهم من ماله، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى، والصبر على مضض الفقر، وشدّته. ويفهم من هذا الحديث أن مذهب عبد الله، وهؤلاء الثلاثة أن الفقر المدقع، والتجرّد عن المكتسبات كلها أفضل، وقد بيّنا آنفًا أن المسألة مسألة خلاف، وأن الكفاف أفضل على ما ذكرناه آنفا. انتهى
(1)
.
(فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ) كنية عبد الله بن عمرو، (إِنَّا وَاللهِ ما نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، لَا نَفقَةٍ) بيان لـ "شيء"، (وَلَا دَابَّةٍ)؛ أي: لنجاهد عليها، أو نحج بها، (وَلَا مَتَاعٍ)؛ أي: زائد يباع، ويُصرف ثمنه في النفقة، والدابة، (فَقَالَ) عبد الله (لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ) "ما" استفهامية؛ أي: أيَّ شيء شئتم؟ ويمكن أن تكون موصولة، مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: ما أردتم من الأمور المعروضة عليكم فعلناه. (إِنْ شِئْتُمْ)؛ أي: أن نعطيكم شيئًا من عندنا (رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا) فإنه لا يحضرنا الآن شيء (فَأَعْطَيْنَاكُمْ)؛ أي: بعد هذا (ما يَسَّرَ اللهُ لَكُمْ)؛ أي: ما سهّله على أيدينا، (وَإِنْ شِئْتُمْ)؛ أي: أن نرفع أمركم إلى الخليفة، أو من يقوم مقامه (ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ)؛ أي: للمتسلِّط على خزانة بيت المال، فيعطيكم ما يوسع عليكم، ويقضي حاجتكم، (وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ)؛ أي: على هذه الحال، فإنه مقام عظيم، وشرف جسيم، ثم بيّن لهم أن هذه الحالة الثالثة،
(1)
"المفهم" 7/ 133.
وهي الصبر أَولى بهم؛ واستدلّ على ذلك بقوله: (فَإِنِّي) الفاء تعليليّة؛ أي: إنما اخترت لكم الصبر؛ لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ)؛ أي: أغنياءهم فضلًا عن غيرهم، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجنَّةِ بِأرْبَعِينَ خَرِيفًا")؛ أي: سنة. (قَالُوا) هؤلاء الناس لمّا سمعوا هذا الفضل العظيم: (فَإِنَّا نَصْبِرُ) على ما نحن عليه من الضيق، حال كوننا (لَا نَسْأَلُ)؛ أي: لا نطلب (شَيْئًا) من أحد بعد سماع هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7432](2979)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 169)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2/ 453)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 336)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الفقر، وقد اختلف العلماء في تفضيل الفقر على الغنى، وعكسه، وقد حقّقته في غير هذا المحلّ.
2 -
(ومنها): بيان أن من له زوجة، ومسكن يسكنه ليس من الفقراء، لكن هذا إذا كان له كفاية، وإلا فهو فقير، وكذلك كون من له خادم من الملوك إذا كانت له كفايته، وإلا فلا.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا" هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فروى عبد الله بن عمرو بالحديث المتقدم، وروى الترمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمئة عام". قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
ويروى أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل
الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمئة عام، نصف يوم"، قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي طريق أخرى: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمئة عام"، وقال: حديث حسن صحيح.
وروي أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا". تقدم في "المقدمة". قال: هذا حديث حسن صحيح.
فاختلفت هذه الأحاديث في أيّ الفقراء هم السابقون؟، وفي مقدار المدّة التي بها يسبقون، فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يردّ مطلق حديث أبي هريرة رضي الله عنه إلى مقيّد روايته الأخرى، وروايةِ جابر رضي الله عنه، فيعني بالفقراء فقراء المسلمين، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي سعيد مخصوصًا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة، وجابر يعمّ جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحًا بما قد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم"، وهذا واضح.
وأما الموضع الثاني فقد تقدَّم أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف فصل من فصول السنة، وهو الفصل الذي تُخترف فيه الثمار؛ أي: تُجتَنَى، فسمّي العام بذلك.
ويمكن الجمع بين الأربعين، وبين حديث الخمسمئة عام، بأن سُبّاق الفقراء يدخلون قبل سبّاق الأغنياء بأربعين عامًا، وغير سُبّاق الأغنياء بخمسمئة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سبّاق، والله أعلم.
قال: وهذه الأحاديث حجَّة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى، ويتقرّر ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء، ويهوّن عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر، وشدائده بمزيّة تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء، عوضًا لهم عما حُرموه من الدنيا، وصبرهم، ورضاهم بذلك.
وثانيهما: أن السبق إلى الجنة، ونعيمها أَولى من التأخر عنها بالضرورة، فهو أفضل.
وثالثها: أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة، والصراط أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحينئذ لا يُلتفت لقول من قال: إن السبق إلى الجنة لا يدلّ على أفضلية السابق، وزَخْرف ذلك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنَّهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة، تارة عند الميزان، وتارة عند الصراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صحّ عنه.
قال القرطبيّ: وهذا قولٌ باطل، صدر عمن هو بما ذكرناه، وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدَّم في "كتاب الإيمان" من قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا أوَّل من يقرع باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول الخازن: بك، أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك"، وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أنا أول من يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين"، وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلّم ما أُعدّ له فيها، ويبوّء الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة؛ ليخلّص أمته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنوّ على أمته، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فيلازمهم في أوقات شدائدهم، ويسعى في نجاتهم، فيحضرهم عند وزن أعمالهم، ويسقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحقّ، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب، وأكرم تكليم، كيف لا؟ وهو يسمع:"يا محمدًا قل يسمع لك، وسل تُعط، واشفع تشفع، فيقول: أمتي، أمتي، أمتي، فيقال: انطلق فأدْخِل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن"، وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات، ولا تُحيط بها الإشارات، حشرنا الله تعالى في زمرته، ولا خيّبنا من شفاعته.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: ويَحْتَمِل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعّمون في أفنيتها، وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم بعد
تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قَدْر منازلهم، وسبقهم، والله تعالى أعلم.
وتعقّبه القرطبيّ رحمه الله قائلًا: وهذا لا يُحتاج إلى تقديره؛ لأنَّ الذي هو فيه من النعيم ربما ذكرناه أعلى وأشرف مما هم فيه، فلا يكون سَبْقهم لأدون النعيمين أشرف ممن سبق إلى أعظمهما، وهذا واضح. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابٌ لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7433]
(2980) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِ الْحِجْرِ: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تكُونُوا بَاكينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) أبو زكرياء المقابريّ البغداديّ [10]، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) القفيّ البغلانيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، من صغار [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، نزيل بغداد [8]، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(عبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم المدنيّ [4] تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (444) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالتحديث، والسماع، وبالمدنيين غير شيوخه الثلاثة، كما أسلفته آنفًا، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ العدويّ مولاهم المدنيّ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِ الْحِجْرِ) - بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم -: بلد بين الشام والحجاز، وعن قتادة فيما ذكره الطبريّ: الحِجر: اسم الوادي الذي كانوا به، وعن الزهريّ: هو اسم مدينتهم، وكان نَهيُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهم بقوله:"لا تدخلوا" حين مرُّوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر في حال توجههم إلى تبوك.
وفي الرواية التالية: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم"، وقال المهلَّب: إنما قال: "لا تدخلوا" من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط، يدل عليه قوله تعالى:{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] في مقام التوبيخ على السكنى فيها، وقد تشاءم بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها، ثم صلى، فكراهية الصلاة في موضع الخسف أَولى، ثم استثنى من ذلك قوله:"إلا أن تكونوا باكين"، فأباح الدخول فيه على وجه البكاء، والاعتبار، وهذا يدلس على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء، واعتبار. انتهى
(1)
.
(لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ) بفتح الذال المعجمة؛ يعني: ديار هؤلاء، وهم أصحاب الحجر، قوم ثمود، وهؤلاء قوم صالح؛ وهذا يتناول مساكن ثمود وغيرهم، ممن هو كصفتهم، وإن كان السبب ورد فيهم. (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ) ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائمًا عند
(1)
"عمدة القاري" 4/ 191.
كل جزء من الدخول، وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل فيه البتة. (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ") قال في "الفتح": بالرفع على أن "لا" نافية، والمعنى لئلا يصيبكم، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وهو أوجه، وهو نهيٌ بمعنى الخبر، وفي الرواية التالية:"حذرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم"، وفيه للبخاريّ بلفظ:"أن يصيبكم"؛ أي: خشية أن يصيبكم، ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أَمَرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء كان تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدةً طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم، وشدة عذابه، وهو سبحانه وتعالى مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، والتفكر أيضًا في مقابلة أولئك نعمةَ الله بالكفر، وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به، والطاعة له، فمَن مَرّ عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارًا بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال، ودلّ على قساوة قلبه، وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجرّه ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم، فيصيبه ما أصابهم.
وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟؛ لأنه بهذا التقرير لا يأمَن أن يصير ظالِمًا، فيعذَّب بظلمه. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7433 و 7434](2980)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(433) و"المغازي"(3380 و 3381 و 4419 و 4420) و"التفسير"(4702)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 373 و 374)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 543)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1/ 415)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9 و 58 و 72 و 74 و 92 و 113 و 137)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 290)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 425)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 407)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 255)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"
(6199 و 6200 و 6201 و 6202 و 6203)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 451) و"الدلائل"(5/ 233)، و (البغوي) في "شرح السُّنَّة"(4166)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين، والإسراع عند المرور بها، وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى:{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} الآية [إبراهيم: 45].
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن ديار هؤلاء لا تُسكن بعدهم، ولا تُتخذ وطنًا؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيًا أبدًا، وقد نُهي أن يدخل دُورهم إلا بهذه الصفة.
3 -
(ومنها): أن فيه الإسراعَ عند المرور بديار المعذبين، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك.
4 -
(ومنها): أن فيه الأمرَ بالبكاء؛ لأنه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك، وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى؛ إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم، إذ بارزوا ربهم الكفر والفساد.
الثالث: يتعلق بالمارّ عليهم؛ لأنه وُفِّق للإيمان، وتمكن من الاستدراك، والمسامحة في الزلل.
5 -
(ومنها): أن فيه دلالة على كراهة الصلاة في موضع الخسف، والعذاب، وقد أشار إلى ذلك البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث عقد بابًا، فقال:"باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب"، ثم أورد أثر عليّ رضي الله عنه، فقال:"ويُذكر عن عليّ رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل"، ثم أورد حديث الباب، والظاهر أنه يرى كراهة الصلاة في ذلك، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7434]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ - وَهُوَ يَذْكُرُ الْحِجْرَ مَسَاكِنَ ثَمُودَ - قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ:
إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحِجْرِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ"، ثُمَّ زَجَرَ، فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ [11]، تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ [7]، تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ [4]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدنيّ الفقيه [3]، تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (وَهُوَ)؛ أي: والحال أن ابن شهاب (يَذْكُرُ الْحِجْرَ)؛ أي: يتكلّم في شأن الحجر، وقوله:(مَسَاكِنَ ثَمُودَ) بدل، أو عطف بيان لـ "الحجر"، قال ابن شهاب:(قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ)؛ يعني: أباه، (قَالَ: مَرَرْنَا) معاشر الصحابة (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحِجْرِ)؛ أي: على ديار ثمود، وذلك في غزوة تبوك، كما بيّن في رواية أخرى. (فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر، فعُذّبوا، (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، حَذَرًا)؛ أي: تجنّبًا وخشية (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ")؛ أي: خوفًا من أن تعاقبوا كما عوقبوا؛ لأن أكثر المخاطبين والموجودين في ذلك الوقت كانوا ظالمين لأنفسهم، إما بالكفر، وإما بالمعاصي، وإذا كان سبب العقوبة موجودًا تعيّن الخوف من وجود العقوبة، فحق المارّ بموضع المعاقَبين أن يحدد النظر والاعتبار، ويكثر من الاستغفار، ويخاف من نقمة العزيز القهار، وألّا يطيل اللبث في تلك الدار، قاله القرطبيّ
(1)
.
(1)
"المفهم" 7/ 354.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأن أكثر المخاطبين كانوا ظالمين لأنفسهم" محلّ نظر؛ لأن المخاطبين هم الصحابة رضي الله عنهم، لا مشركو مكة، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ زَجَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم راحلته (فَأَسْرَعَ) في السير، فخرج منها (حَتَّى خَلَّفَهَا) بتشديد اللام، من التخليف؛ أي: جعل صلى الله عليه وسلم تلك المساكن وراءه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم زجر، فأسرع"؛ أي: زجر ناقته، فأسرع بها في المشي، ويستفاد منه كراهة دخول أمثال تلك المواضع والمقابر، فإن كان ولا بدّ من دخولها فعلى الصفة التي أرشد إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاعتبار، والخوف، والإسراع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلوا أرض بابل، فإنَّها ملعونة"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7435]
(2981) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحِجْرِ أَرْضِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا، وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا، وَيَعْلِفُوا الإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ) البغداديّ القنطريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
2 -
(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، من كبار [9]، تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ الفقيه [5]، تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
(1)
حديث ضعيف، رواه أبو داود من حديث عليّ رضي الله عنه قال:"إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلّي في أرض بابل، فإنها ملعونة".
4 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه [3]، تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدم قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحِجْرِ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم، فسّره بقوله:(أَرْضِ ثَمُودَ) بالجرّ بدل، أو عطف بيان، (فَاسْتَقَوْا)؛ أي: أخذوا الماء (مِنْ آبَارِهَا)؛ أي: آبار أرض ثمود، (وَعَجَنُوا بِه الْعَجِينَ) يقال: عجن يعجن من بابي ضرب، ونصر: إذا اعتمد عليه بجُمع كفه يَغمزه، قاله المجد
(1)
. (فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهَرِيقُوا) بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتسكّن، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَاقَ الماءُ، والدمُ، وغيره رَيْقًا، من باب باع: انصبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَراقَهُ صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتبدل الهمزة هاء، فيقال: هرَاقَهُ، والأصل هَرْيَقَهُ وزانُ دحرجه، ولهذا تفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَرِيقُهُ، كما تفتح الدال من يُدَحرجه، وتُفتح من الفاعل، والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ
والأمر: هَرِقْ ماءك، والأصل هَرْيِقْ، وزانُ دَحْرِج، وقد يُجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ، ساكن الهاء؛ تشبيهًا له بأسطاع يُسطيع، كأن الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا. انتهى
(2)
.
(مَا اسْتَقَوْا)؛ أي: أخذوه من تلك الآبار من الماء، (وَيَعْلِفُوا) من باب ضرب، (الإبِلَ الْعَجِينَ)؛ أي: يُطعموا ما عجنوه بمائها الإبل، (وَأَمَرَهُمْ)؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحابة (أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ)؛ أي: ناقة صالح عليه السلام.
وأمْره صلى الله عليه وسلم بإراقة ما استقوا من بئر ثمود، وعلف العجين الذي عجن به للدواب حُكْم على ذلك الماء بالنجاسة؛ إذ ذاك هو حكم ما خالطته نجاسة،
(1)
"القاموس المحيط" ص 845.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 248.
أو كان نجسًا، ولولا نجاسته لَمَا أتلف الطعام المحترم شرعًا، من حيث إنه مال، وإنه غذاء الأبدان، وقوامها، وأمْره لهم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين
(1)
، وإن تقادمت أعصارهم، وخفيت آثارهم، كما أن في الأول دليلًا على بغض أهل الفساد، وذم ديارهم، وآثارهم، هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض، كما قال كُثَيِّر [من الوافر]:
أُحِبُّ بِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى
…
أحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ
وقال آخر [من الطويل]:
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ ديَارِ لَيْلَى
…
أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا
وَمَا تِلْكَ الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي
…
وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه؛ ليأكلوها، خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا - يعني: المالكيّة - وقال: تُطلق الكلاب عليها، ولا يحملها لهم. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7435 و 7436](2981)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3378 و 3379)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6202 و 6203)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(5/ 233 - 234)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4167)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في ذكر قصّة ناقة صالح عليه السلام:
ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": أن قوم صالح عليه السلام سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمّاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها: الكَاتبة، فطلبوا منه أن يُخرج
(1)
هذا ليس على إطلاقه، فتنبّه.
(2)
"المفهم" 7/ 355 - 356.
لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طَلِبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عزو جل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو:"جُندَع بن عمرو" ومن كان معه على أمره، وأراد بقية، أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدّهم "ذُؤاب بن عمرو بن لبيد" و"الحباب" صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان لـ"جندع بن عمرو" ابن عم يقال له:"شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس"، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يُسلم أيضًا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل، رحمه الله:
وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو
…
إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا
عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعًا
…
فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو أجابا
لأصبح صالحٌ فينا عَزيزًا
…
وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا
ولكنّ الغُوَاة من آل حِجْرٍ
…
تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا
فأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يومًا، وتَدَعه لهم يومًا، وكانوا يشربون لبنها يوم شُربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من، أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى:{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} [القمر: 28]، وقال تعالى:{هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155]، وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، تَرِدُ من فَجّ، وتصدر من غيره؛ ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلًا ومنظرًا رائعًا، إذا مرَّت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها.
قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان [أيضًا].
قال ابن كثير: وهذا هو الظاهر، لأن الله تعالى يقول:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)} [الشمس: 14] وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] وقال: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 77] فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وذكر ابن إسحاق في "المبتدأ" وغير واحد أن سبب عَقْرهم الناقة أنهم كانوا اقترحوها على صالح عليه السلام، فأجابهم إلى ذلك بعد أن تعنّتوا في وَصْفها، فأخرج الله له ناقة من صخرة بالصفة المطلوبة، فآمن بعض، وكفر بعض، واتفقوا على أن يتركوا الناقة ترعى حيث شاءت، وتَرِد الماء يومًا بعد يوم، وكانت إذا وردت تشرب ماء البئر كله، وكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم للغد، ثم ضاق بهم الأمر في ذلك، فانتدب تسعة رهط منهم قُدار المذكور، فباشر عقرها، فلما بلغ ذلك صالحًا؛ أعلمهم بأن العذاب سيقع بهم بعد ثلاثة أيام، فوقع كذلك، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه.
وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم من حديث جابر، رفعه:"إن الناقة كانت ترد يومها، فتشرب جميع الماء، ويحتلبون منها مثل الذي كانت تشرب"، وفي سنده إسماعيل بن عياش، وفي روايته عن غير الشاميين ضعف، وهذا منها. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7436]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أنهُ قَالَ: فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ) أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور [10] تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ) أبو ضمرة المدنيّ [8] تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
و"عبيد الله" هو: ابن عمر العمريّ ذُكر قبله.
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 440 - 441.
(2)
"الفتح " 7/ 630، "كتاب الأنبياء" رقم (3379).
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لأنس بن عياض، يعني: أنه قال: "فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ" بدل قول شعيب بن إسحاق: "فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين".
[تنبيه]: رواية أنس بن عياض عن عبيد الله العمريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3199)
- حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدّثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود، الحجر، فاستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهْرِيقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تَرِدُها الناقة. انتهى
(1)
.
(4) - (بَابُ الإِحْسَانِ إِلَى الأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ، وَالْيَتِيمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7437]
(2982) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بنِ زيدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَأَحْسِبُهُ قَالَ -: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبي المدنيّ، ثمَ البصريّ، من صغار [9] تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة [7] تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 378.
3 -
(ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ) الديليّ المدنيّ [6] تقدم في "الإيمان" 40/ 269.
(1)
"صحيح البخاريّ " 3/ 1237.
4 -
(أَبُو الْغَيْثِ) سالم مولى عبد الله بن مُطيع [3] تقدم في "الإيمان" 40/ 269.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "السَّاعِي) المراد بالساعي: الكاسب لهما العامل لمؤنتهما، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": معني الساعي: الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة، والمسكين. (عَلَى الأَرْمَلَةِ) هي: من لا زوج لها، سواء كانت تزوجت أم لا، وقيل: هي التي فارقت زوجها، قال ابن قتيبة: سُمّيت أرملة؛ لِمَا يحصل لها من الإرمال، وهو الفقر، وذهاب الزاد بفقد الزوج، يقال: أرمل الرجل إذا فنى زاده، قال القاري: وهذا مأخذ لطيف في إخراج الغنيّة من عموم الأرملة، وإن كان ظاهر إطلاق الحديث يعمّ الغنية والفقيرة.
وقال الطيبيّ: وإنما كان معنى الساعي على الأرملة ما قاله النوويّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عدّاه بـ "على" مضمّنًا فيه معنى الإنفاق
(1)
.
وقال المازريّ: قال ابن السكّيت: الأرمل المسكين من رجل وامرأة، وقال ابن الأنباريّ: في الغالب أنه من النساء، لا الرجال، ويقال لمن ماتت زوجته: أيِّمٌ، ولا يقال له: أرمل؛ لأنه من أرْمَل الرجل: إذا فني زاده، والمرأة هي التي يذهب زادها لفقدها ما كان الرجل ينفقه عليها، فليس سبيل الرجل أن يذهب زاده، ويفتقر بموتها، وقول جرير [من البسيط]:
هَذِي الأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا
…
فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ
أراد: الفقير الذي نفد زاده، ثم بيّن المعنى بقوله: الذكر، وكونه
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 89.
كالمجاهد، والصائم القائم؛ لأنه يتصرّف بذلك في طاعة ربه، وامتثال أمره، قاله الأبي
(1)
.
(وَالْمسْكِينِ) هو من لا شيء له، وقيل: من له بعض الشيء، وقد يقع على الضعيف، وفي معناه الفقير، بل بالأَولى عند بعضهم. (كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمة الله تعالى؛ أي: ثواب القائم بأمرهما، وإصلاح شأَنهما، والإنفاق عليهما، كثواب الغازي في جهاده، فإن المال شقيق الروح، وفي بذله مخالفة النفس، ومطالبة رضا الرب.
(وَأَحْسِبُهُ) بكسر السين، وفتحها؛ أي: أظنه، وقائله عبد الله بن مسلمة القعنبيّ شيخ البخاريّ ومسلم الراوي عن مالك، كما صرح به في رواية البخاريّ، ومعناه: أظنّ أن مالكا قال: كالقائم، وأما قول القاري: وظاهر "المشكاة" أن قائله أبو هريرة، فالتقدير: أحسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر لا يخفى، فالمعتمَد ما في "صحيح البخاريّ"، لا ما ظنه القاري، فتنبّه.
(قَالَ) مالك: (وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ") قال الأشرف: الألف واللام في "القائم"، و"كالصائم" غير معرّفين، ولذلك وُصف كلّ واحد بجملة فعلية بعده، يقول الشاعر [من الوافر]:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
…
فَمَضيْتُ ثُمَّةَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي
وقوله: "كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يُفطر" هما عبارتان عن الصوم بالنهار، والقيام بالليل، كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم، يريدون الديمومة. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7437](2982)، و (البخاريّ) في
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 295.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3165 - 3176.
"النفقات"(5353) و"الأدب"(6006 و 6007)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1969)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5/ 86) وفي "الكبرى"(2/ 46)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2140)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 299)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 361)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 365)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4245)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 100 و 2/ 50)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 283) و"شعب الإيمان"(7/ 470)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3458)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل السعي في تحصيل النفع للأرامل والمساكين.
2 -
(ومنها): بيان أن بعض الأعمال يساوي الجهاد في سبيل الله تعالى، وقيام الليل كله، وصيام النهار كلّه، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
3 -
(ومنها): بيان أن معرفة مقدار ثواب الأعمال مفوّض إلى الله سبحانه وتعالى، فربّ، عمل سهل يساوي فضل عمل شاقّ، وبالعكس، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
4 -
(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: من عَجَز عن الجهاد في سبيل الله، وعن قيام الليل، وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث، ولْيَسْعَ على الأرامل والمساكين؛ لِيُحشر يوم القيامة في جملة المجاهدين في سبيل الله، دون أن يخطو في ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يَلقى عدوًا، يرتاع بلقائه، أو ليحشر في زمرة الصائمين، والقائمين، وينال درجتهم، وهو طاعم نهاره، نائم ليله أيام حياته، فينبغي لكل مؤمن أن يَحْرِص على هذه التجارة التي لا تبور، ويسعى على أرملة، أو مسكين لوجه الله تعالى، فيربح في تجارته درجات المجاهدين، والصائمين، والقائمين، من غير تعب، ولا نصب، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4] انتهى
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 17/ 261.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7438]
(2983) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زيدٍ الدِّيلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْغَيْثِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أنَا وَهُوَ كهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ"، وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى).
رجال هذ الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ [10] تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجِيح، أبو يعقوب البغداديّ [9] تقدم في "الكسوف" 3/ 2110.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَافِلُ الْيَتِيمِ)؛ أي: القائم بأموره، من نفقة، وكسوة، وتأديب، وتربية، وغير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية، قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أنا وكافل اليتيم"، أي: القيّم بأمره، ومصالحه، زاد مالك من مرسل صفوان بن سليم:"كافل اليتيم له، أو لغيره"، ووصله البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ، من رواية أم سعيد بنت مرّة الفهرية، عن أبيها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا عزا في "الفتح" هذه الزيادة إلى "الأدب المفرد" والطبراني من رواية أم سعيد إلخ، مع أنها في مسلم بنفس السند، وهذا غريب، فليُتنبّه.
وقوله: (لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ) فالذي له أن يكون قريبًا له، كجدّه، وأمه، وجدّته، وأخيه، وأخته، وعمّه، وخاله، وعمته، وخالته، وغيرهم من أقاربه، والذي لغيره أن يكون أجنبيًّا، قاله النوويّ رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 113.
(2)
"الفتح" 10/ 436.
وقال في "الفتح": معنى قوله: "له" بأن يكون جدًّا، أو عَمًّا، أو أخًا، أو ذحو ذلك، من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات، فتقوم أمه مقامه، أو ماتت أمه، فقام أبوه في التربية مقامها، وأخرج البزار من حديث أبي هريرة موصولًا:"من كفل يتيمًا ذا قرابة، أو لا قرابة له"، وهذه الرواية تفسر المراد بالرواية التي قبلها. انتهى
(1)
.
(أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ"، وَأَشَارَ مَالِكٌ) الإمام الراوي هنا عن ثور، (بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) إشارة إلى تقارب المنزلتين.
وقال في "الفتح": قوله: "وأشار بإصبعيه السبابة"، في رواية الكشميهنيّ:"السبّاحة" بمهملة، بدل الموحّدة الثانية، و"السبّاحة" هي الإصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنها يُسَبَّح بها في الصلاة، فيشار بها في التشهد لذلك، وهي السبابة أيضًا، لأنها يُسَبُّ بها الشيطان حينئذٍ.
زاد في رواية: "وفرّج بينهما"؛ أي: بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قَدْر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر: "بُعثت أنا والساعة كهاتين
…
" الحديث.
وزعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة، ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية؛ تأكيدًا لأمر كفالة اليتيم.
وتعقّبه الحافظ قائلًا: مثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى.
وقد وقع في رواية لأم سعيد عند الطبرانيّ: "معي في الجنة كهاتين - يعني: المسبحة والوسطى - إذا اتقى".
وَيَحْتَمِل أن يكون المراد: قرب المنزلة حالة دخول الجنة؛ لِمَا أخرجه أبو يعل من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "أنا أول من يفتح باب الجنة، فإذا امرأة تبادرني، فأقول: من أنت؟ فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي"، ورواته لا بأس بهم، وقوله:"تبادرني"؛ أي: لتدخل معي، أو تدخل في إثري.
وَيَحْتَمِل أن يكون المراد مجموع الأمرين: سرعة الدخول، وعلوّ المنزلة.
(1)
"الفتح" 10/ 436.
وقد أخرج أبو داود من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة، امرأة ذات منصب وجمال، حَبَسَت نفسها على يتاماها، حتى ماتوا، أو بانوا"، فهذا فيه قيد زائد.
وتقييده في الرواية المتقدّمة بقوله: "اتقى الله"؛ أي: فيما يتعلق باليتيم المذكور.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن المراد بالتقوى: تقوى الله عز وجل أعمّ من أن يكون في اليتيم أو في غيره، لأن كفالته اليتيم، مع كونه عاصيًا لربه في أمور أخرى لا تنفعه، فلا ينال هذا الفضل، ثم وجدت عند الإمام أحمد نصًّا، ولفظه: "كافل اليتيم له، أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة، إذا اتقى الله
…
"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقد أخرج الطبرانيّ في "المعجم الصغير" من حديث جابر رضي الله عنه: "قلت: يا رسول الله مم أضرب منه يتيمي؟ قال: مم كنت ضاربًا منه ولدك، غير واقٍ مالك بمالة".
وقد زاد في رواية مالك: "حتى يستغني عنه"، فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أَمَدًا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد أخرجه البخاريّ من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7438](2983)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(137)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3679)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 471)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3455)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 375.
1 -
(منها): بيان فضل كفالة اليتيم، حيث إنه يقارب درجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنّة، ولا فضل أعظم من هذا.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: حقّ على من سمع هذا الحديث أن يَعمل به؛ ليكون رفيق النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
3 -
(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة، أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكون النبيّ شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلًا لهم، ومعلِّمًا، ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه، ويرشده، ويعلّمه، ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك. انتهى
(1)
، نقله في "الفتح"، والله تعالى أعلم.
(5) - (بَابُ فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7439]
(533) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ - أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ؛ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللهِ الْخَوْلَانِيَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ، حِينَ بَنَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ قَدْ أَكثَرْتُمْ، وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ -: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ"، وَفي رِوَايَةِ هَارُونَ: "بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب المساجد ومواضع الصلاة" برقم [4/ 1194](533) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فارجع إليه تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"الفتح" 10/ 437.
ورجال السند مصريّون إلى بكير، والباقون مدنيّون، و"ابن وهب" هو: عبد الله. و"بكير" هو: ابن عبد الله بن الأشجّ. و"عبيد الله الخولاني" هو: ابن الأسود، ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وقوله: (عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ) بُيّن معناه في الرواية التالية بقوله: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ"؛ أي: في عهدهَ صلى الله عليه وسلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7440]
(
…
) - (حَدَّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، كِلَاهُمَا عَنِ الضَّحَّاكِ - قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للهِ بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أيضًا تقدّم للمصنّف رحمه الله بالرقم المذكور، وتقدّم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
و"الضحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ" هو: أبو عاصم النبيل. و"عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ" هو: الأنصاريّ المدنيّ. و"أبوه" هو: جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاريّ المدنيّ. و"مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ" هو: الأنصاريّ المدنيّ، صحابيّ صغير.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7441]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمَا: "بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِي) هو: عبد الكبير بن عبد المجيد البصريّ، تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ) هو: الْمِسمعيّ، أبو محمد الصنعانيّ، نزيل البصرة، تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: رواية أبي بكر الحنفيّ عن عبد الحميد بن جعفر ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(736)
- حدّثنا محمد بن بشار، ثنا أبو بكر الحنفيّ، ثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن عثمان بن عفان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدًا، بنى الله له مثله في الجنة". انتهى
(1)
.
(6) - (بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7442]
(2984) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِيَ سَلَمَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإذَا شَرْجَةُ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ، قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ، لِلاسْمِ الَّذِي سَمِع فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأْلَنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان [10] تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"سنن أبن ماجه" 1/ 243.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور قبل حديث.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُون) أبو خالد الواسطيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
4 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ، نزيل بغداد [7] تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
5 -
(وَهْبُ بْنُ كيْسَانَ) القرشيّ مولاهم أبو نعيم المدنيّ، من كبار [4]، تقدم في "الحيض" 23/ 797.
6 -
(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ) أبو عاصم المكيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاصّ أهل مكة، تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 473.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبد العزيز، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "بَيْنَا) هي "بين" أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وقد تقدّم البحث فيها غير مرّة؛ أي: بين أوقات. (رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، (بِفَلَاةٍ)؛ أي: بصحراء واسعة (مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ) بوصل الهمزة، من سقى، وقطعها من أسقى؛ أي: صوتًا قائلًا: اسق (حَدِيقَةَ فُلَانٍ)؛ أي: لرجل سمّاه، والحديقة: القطعة من النخيل، ويطلق على الأرض ذات الشجر
(1)
.
وقال في "المرقاة": الحديقة: هي بستان يدور عليه حائط، وفلان كناية منه صلى الله عليه وسلم اسم صاحب الحديقة كما سيأتي بيانه صريحًا
(2)
. (فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ بها قال النوويّ رحمه الله: معنى "تنحى": قصد، يقال: تنحيت الشيء، وانتحيته، ونَحَوْته: إذا قصدته، ومنه سُمّي علم النحو؛ لأنه قَصْدُ كلام العرب. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 114.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 179.
(3)
"شرح النوويّ" 18/ 114.
(فَأفْرَغَ)، أي. صبّ ذلك السحاب (مَاءَهُ)، أي: الماء الذي حمله، (فِي حَرَّةٍ) الحرة بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء: هي أرض ملبّسة حجارةً سُودًا، (فَإِذَا شَرْجَةٌ) بفتح الشين المعجمة، وإسكان الراء، وجمعها شِرَاج بكسر الشين، وهي مسائل الماء في الْحِرَار، وفي رواية لأحمد:"فإذا هو في أذناب شراج، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء"، ومثله لابن حبّان. (مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ) بكسر الشين، أي: الواقعة في تلك الحرة، (قَدِ اسْتَوْعَبَتْ)؛ أي: بالأخذ (ذَلِكَ الْمَاءَ)، أي: النازل من السحاب الواقع في الكنرة، وقوله:(كُلَّهُ) بالنصب تأكيد لـ"الماء"؛ أي. وَجَرَتْ به إلى تلك الحديقة، (فَتَتَبَّعَ) ذلك الرجل الذي سمع الهاتف (الْمَاءَ) الواقع في تلك الشرجة؛ ليعلم أين تذهب هذه الشرجة بالماء، وفي رواية أحمد:"تبع الماء، فرآها دخلت حديقة في طرف الحرّة". (فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ الْمَاءَ)؛ أي: من مكان إلى مكان: من حديقته (بِمِسْحَاتِهِ) بكسر الميم، وهي المجرفة من الحديد، أو غيره، وقال المجد: سحا الطين يسحيه، ويسحوه، ويسحاه سحوًا: إذا قشره، وجرفه، والمسحاة: ما يُسحَى به الطين، أو التراب، وفي "المبارق": المسحاة: اسم لآلة عريضة من الحديد، مأخوذة من السحو، وهو الكشف، والإزالة. انتهى
(1)
. (فَقَالَ) ذلك الرجل الذي تتبع الماء (لَهُ)؛ أي: لصاحب الحديقة القائم فيها بنقل الماء من مكان إلى مكان، (يَا عَبْد اللهِ مَا اسْمُكَ؟) المخصوص بك، (قَالَ) المسؤول: اسمي (فُلَانٌ) ذاكرًا (لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ) هذا السائل ذلك الاسم (فِي السَّحَابَةِ)، أي: في نداء الهاتف في السحابة، (فَقَالَ) المسؤول اسمه (لَهُ)، أي: لهذا السائل، (يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ) السائل:(إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذي هَذَا) الماء الذي تسقيه حديقتك (مَاؤُهُ)، أي: مطره، (يَقُولُ) صاحب ذلك الصوت للسحاب:(اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ) الذي ذكرت لي، فإذًا أمر حديقتك هذه أمر غريب، وشأنها شأن عجيب، (فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟)؛ أي: في ثمار هذه الحديقة من الخيرات التي تسبّبت لهذه الكرامة؟ (قَالَ) صاحب
(1)
راجع: "الكوكب الوهّاج" 26/ 403.
الحديقة: (أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا)"أما" شرطيّة، و"إذ" ظرف ماض من الزمان متعلّق بالجواب الآتي، و"قلت" بمعنى سألت، و"هذا" مفعوله، والتقدير: أما وقت سؤالك عن الذي أصنعه.
[فائدة]: يُفْصل بين "أما" والفاء بواحد من ستّة أمور، جَمَعها بعضهم بقوله:
وَبَعْدَ "أَمَّا" فَافْصِلَنْ بِوَاحِدِ
…
مِنْ سِتَّةٍ وَلَا تَفُهْ بِزَائِدِ
مُبْتَدَأٌ وَالشَّرْطُ ثُمَّ الْخَبَرُ
…
مَعْمُولُ فِعْلٍ بَعْدَ "أَمَّا" يُذْكَرُ
كَذَاكَ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ فَسَّرَهْ
…
بَعْدَهَا مُؤَخَّرَهْ
وَالظَّرْفُ وَالْمَجْرُورُ تِلْكَ سِتٌّ
…
قَدْ قَالَهَا كُلُّ إِمَامٍ ثَبْتُ
ومن الفصل بالظرف قوله هنا: "أما إذ قلت هذا إلخ".
(فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا)؛ أي: من هذه الحديقة من الثمار فأجزِّئه ثلاثة أجزاء، (فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ) على الفقراء والمساكين، و"الثلث" بضمّ الثاء، واللام، وبسكونها، ويقال فيه أيضًا ثَلِيث، بوزن رَغِيف، وهكذا الحال إلى العُشْر، ويقال: عُشُر بضمّتين، وعُشرٌ، بضم، فسكون، وعَشير بفتح، فكسر، وقِسْ ما بينهما. (وَآكلُ أَنَا) أتى به ليعطف على الضمير دون ضَعف، وقوله (وَعِيَالِي) بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد عَيِّلُ، بفتح، فتشديد، مثل جِيَاد وجَيّدٍ
(1)
. (ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا)؛ أي: في نفقة تلك الحديقة (ثُلُثَهُ) الباقي، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7442 و 7443](2984)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 296)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2587)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3355)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 275 - 276)، و (اللالكائيّ) في "كرامات الأولياء"(1/ 86)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 305)،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 438.
و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 133) و"شعب الإيمان"(3/ 231 و 232)، والله تعالي أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الصدقة، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وأبناء السبيل.
2 -
(ومنها): بيان فضل أكل الإنسان من كسبه، والإنفاق على عياله منه.
3 -
(ومنها): إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل على صحّة القول بكرامات الأولياء، وأن الوليّ يكون له مال، وضيْعة، ولا يناقضه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا الضيعة، فترغبوا في الدنيا"، رواه أحمد، والترمذيّ، وحسنه الترمذيّ، وصححه الحاكم، وابن حبّان؛ لأن المقصود بالنهي إنما هو من اتخذها مستكثرًا، ومتنعّمًا، ومتمتّعًا بزهرتها؛ لِمَا يخاف عليه من الميل إلى الدنيا، والركون إليها، وأما من اتّخذها معاشًا يصون بها دينه وعياله، فإنه من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7443]
(
…
) - (وَحَدَّثناهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ كيْسَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكينِ، وَالسَّائِلِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ [10]، تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ [9] تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقيان ذُكرا قبله.
(1)
"المفهم" 7/ 137 - 138.
[تنبيه]: رواية أبي داود الطيالسيّ عن عبد العزيز بن أبي سلمة هذه ساقها الطيالسيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(2587)
- حدّثنا يونس
(1)
، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدّثنا وهب بن كيسان، عن عبيد بن عمير الليثيّ، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل بفلاة إذ سمع رَعْدًا في سحاب، فسمع فيه كلام: اسْقِ حديقة فلان باسمه، فجاء ذلك السحاب إلى حَرَّة، فأفرغ ما فيه من الماء، ثم جاء إلى ذِنَاب
(2)
شرج، فانتهى إلى شرجة، فاستوعبت الماء، ومشى الرجل مع السحابة، حتى انتهى إلى رجل قائم في حديقة له، يسقيها، فقال: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: ولمَ تسأل؟ قال: إني سمعت في سحاب هذا ماؤه: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها، إذا صرمتها؟ قال: أما إذا قلت ذلك، فإني أجعلها على ثلاثة أثلاث: أجعل ثلثًا لي ولأهلي، وأردّ ثلثًا فيها، وأجعل ثلثًا للمساكين، والسائلين، وابن السبيل. انتهى
(3)
.
(7) - (بَابُ تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ)
" الرياء": بكسر الراء، وتخفيف التحتانية، والمدّ: مشتق من الرؤية، والمراد به: إظهار العبادة؛ لِقَصد رؤية الناس لها، فيحمدوا صاحبها.
و"السمعة": بضم السين المهملة، وسكون الميم: مشتقة من سَمَّع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر، وقال الغزاليّ: المعنى: طلب المنزلة في قلوب الناس، بأن يريهم الخصال المحمودة، والمُرائي هو العامل، وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يُخفي عمله لله، ثم يُحدِّث به الناس
(4)
.
(1)
يونس هو: تلميذ أبي داود، وأبو داود هو الطيالسيّ.
(2)
"الذناب" ككتاب: مسيل ما بين كلّ تَلْعتين. اهـ. "ق".
(3)
"مسند الطيالسيّ" 1/ 337.
(4)
"الفتح" 14/ 664، "كتاب الرقاق" رقم (6499).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7444]
(2985) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكتُهُ وَشِرْكَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عُلَيّة [8] تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ البصريّ [6] تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) الجهنيّ المدنيّ [5] تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الأنصاريّ الجهنيّ المدنيّ [3] تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
شرج الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ تبارك وتعالى:) هذا هو الذي يسمّى الحديث القدسيّ، (أنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ)، أي: أغنى من يزعم أنهم شركاء على فرض أن لهم غنى، (عَنِ الشِّرْكِ)؛ أي: عما يشركون به مما بيني وبين غيري في قصد العمل، والمعنى: ما أَقبلُ إلا ما كان خالصًا لوجهي، وابتغاء لمرضاتي، فاسم المصدر الذي هو الشرك مستعمل في معنى المفعول، ويؤيد ما قررناه ما أوضحه بطريق الاستئناف بقوله:(مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ)؛ أي: في قصد ذلك العمل (مَعِي)؛ أي: مع ابتغاء وجهي (غَيْرِي)، أي: من المخلوقين.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل الشرك المحرّم: اعتقاد شريك لله تعالى في إلاهيته، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودًا ما غير الله تعالى يستقلّ بإحداث فعل، وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلهًا، ويلي هذا في الرتبة الإشراك في العبادة، وهو الرياء، وهو أن يفعل شيئًا من العبادات التي أمر الله
تعالى بفعلها له لغير الله، وهذا هو الذي سيق الحديث لبيان تحريمه، وأنه مبطلٌ للأعمال؛ لهذا أشار بقوله:"من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه"، وهذا هو المسمّى بالرياء، وهو على الجملة مبطل للأعمال، وضده الإخلاص، وهو من شرط صحَّة العبادات، والقُرَب. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال القاري: لا يضره قصد الجنة وتوابعها مثلًا، فإنها من جملة مرضاته سبحانه، وإن كان المقام الأكمل أن لا يعبده لطمع جنة، أو خوف نار، فإنه عُدّ كفرًا عند بعض العارفين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام القاري هذا يُعدّ من هفوات العلماء، فكيف تكون عبادة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين كفرًا؟ قال الله تعالى في وصف، الأنبياء عليهم السلام:{زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33] إلى غير ذلك من الآيات، فمن اعتقد أن العبادة لخوف النار، والطمع في الجنة يُعدّ كفرًا فهو ضالّ مضلّ، وأما الذي نقله القاري، فهو منقول عن قوم جهلاء، لا يعرفون نصوص الكتاب والسُّنَّة، فلا تغترّ بنقل مثله عنهم، فإنه عين الضلال، والله تعالى المستعان.
وقوله: (تَرَكتُهُ وَشِرْكَهُ) خبر "مَنْ"، والواو بمعنى "مع"، أو المعنى: تركته عن نظر الرحمة، وتركت عمله المشترك عن في درجة القبول، وفي رواية:"فأنا منه بريء" قيل: من ذلك العمل، والأظهر من عامل ذلك العمل؛ لئلا يكون تكرارًا مع قوله:"هو للذي كمله": "هو"؛ أي: ذلك العمل "للذي عمله"؛ أي: لأجل، ممن قصده بذلك العمل رياء، وسمعة، وهو تأكيد لِمَا قبله.
قال القاري رحمه الله: ولنذكر بقية كلام الشراح، فقال ابن الملك رحمه الله:"أغنى" أفعل تفضيل مِن غَنِيَ به عنه غنية؛ أي: استغنى به عنه، وإضافته إما للزيادة المطلقة؛ أي: أنا غني من بين الشركاء، وإما للزيادة على ما أضيف إليه؛
(1)
"المفهم" 6/ 615.
أي: أنا أكثر الشركاء استغناء عن الشرك؛ لكون استغنائه من جميع الجهات، وفي جميع الأوقات، قال القاري: وفيما ذكره من الوجه الثاني ما لا يخفى.
وقال الطيبيّ رحمه الله: اسم التفضيل هنا لمجرد الزيادة، والإضافة فيه للبيان، أو على زعم القوم، قال القاري: وفيه أن وجه الإضافة للبيان يحتاج إلي مزيد البيان، وكأنه أراد أن معناه: أنا غني مما بينهم دونهم، ثم قال: والضمير المنصوب في "تركته" يجوز أن يرجع إلى العمل، والمراد من الشرك: الشريك.
قال النوويّ رحمه الله: معناه: أنا غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه مع ذلك الغير.
ويجوز أن يرجع إلى العامل، والمراد بالشرك: الشركة، وقوله:"وهو" يعود إلى العمل على الوجه الأول، وإلى العامل على الوجه الثاني؛ أي: العامل لِمَا عمل به من الشرك؛ يعني: يختص به، ولا يتجاوز عنه، وكذا الضمير في "منه"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7444](2985)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4202)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2559)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 301) وفي "الزهد"(ص 57)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(395)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4136)، والله تعالى أعلم.
(المسالة الثالثة): قد تكلّم العلماء في الرياء، وأقسامه، فمنهم:
الغزاليّ رحمه الله حيث قال: درجات الرياء أربعة أقسام:
الأولى: وهي أغلظها، أن لا يكون مراده الثواب أصلًا، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة، مع الناس، فهذا جرّد قَصْده للرياء، فهو الممقوت عند الله تعالى.
والثانية: أن يكون له قصد الثواب أيضًا، ولكن قصدًا ضعيفًا بحيث لو
كان في الخلوة، لكان لا يفعله، ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن الثواب لكان قَصد الرياء يحمله على العمل، فقَصْد الثواب فيه لا ينفي عنه المقت.
والثالثة: أن يكون قَصْد الثواب والرياء متساويين، بحيث لو كان واحد خاليًا عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، وظواهر الأخبار تدلّ على أنه لا يَسْلَم رأسًا برأس.
والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحًا مقويًا لنشاطه، ولو لم يكن لم يترك العبادة، ولو كان قَصْد الرياء وحده لَمَا أقدم، فالذي نظنه، والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار قَصْد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.
وأما قوله: "أنا أغنى الشركاء" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان، أو كان قصد الرياء أرجح. انتهى، ذكره القاري في "المرقاة"
(1)
.
وقد أجاد الحافظ ابن رجب رحمه الله في هذا البحث في كتابه الممتع "جامع العلوم والحكم"، وفصّله تفصيلًا مستوعبًا لأقسامه، حيث قال:
واعلم: أن العمل لغير الله أقسام:
فتارة: يكون رياء محضًا، بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين؛ لغرض دنيويّ، كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} الآية [النساء: 142] وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض، في قوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة، والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله، والعقوبة.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 15/ 244.
وتارة: يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا، وحبوطه.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه"، وخرجه ابن ماجه، ولفظه:"فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".
وخرّج الإمام أحمد عن شداد بن أوس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من صلّى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا، فإن جدة عمله قليلة وكثيرة لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غنيّ".
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وخرّج البزار في "مسنده" من حديث الضحاك بن قيس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا، فهو لشريكه، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُخلص له، ولا تقولوا: هذا لله والرحم، فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شيء".
وخرّج النسائي بإسناد جيد، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، فأعادها عليه ثلاث مرات، يقول له رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"لا شيء له"، ثم قال:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغِي به وجهه".
وخرّج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد به وجه الله، وأريد أن يُرَى موطني، فلم يردّ عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، حتى نزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110].
وممن يُروى عنه هذا المعنى أن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلًا طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيِّب، وغيرهم.
وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقبل الله عملًا فيه مثقال حبة من خردل من رياء"، ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين.
فإن خالط نيته الجهاد مثل نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده، ولم يبطل بالكلية.
وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الغزاة إذا غَنِموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئًا تمّ لهم أجرهم".
وقد وردت أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عَرَضًا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.
وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجْرُهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه، وماله، لا يخلط به غيره.
وقال أيضًا فيمن يأخذ جُعْلًا على الجهاد: إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم، فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لدينه، فإن أُعطي شيئًا أخذه، وكذا رُوي عن عبد الله بن عمرو قال: إذا جمع أحدكم على الغزو، فعوّضه الله رزقًا فلا بأس بذلك، وأما أحدكم إن أعطي درهمًا غزا، وإن مُنع درهمًا مكث، فلا خير في ذلك، وكذا قال الأوزاعيّ: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأسًا.
غيره.
وهكذا يقال فيمن أخذ شيئًا في الحج؛ ليحج به، إما عن نفسه، أو عن غيره
وقدا روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمّال، وحج الأجير، وحج
التاجر: هو تامّ لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج، دون التكسب.
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فلا يضره، فإن كان خاطرًا، ودَفَعه فلا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبريّ، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيّته الأُولى، وهو مروي عن الحسن البصريّ، وغيره.
ويُسْتَدَل لهذا القول بما خرّجه أبو داود في "مراسيله" عن عطاء الخراسانيّ، أن رجلًا قال: يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نَجْدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا.
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنيّة الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية، وكذلك رُوي عن سليمان بن داود الهاشميّ أنه قال: ربما أحدّث بحديث، ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه تغيّرت نيّتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات. ولا يَرِد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخراسانيّ، فإن الجهاد يلزم بحضور الصفّ، ولا يجوز تركه حينئذ، فيصير كالحج.
فأما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، بفضل ورحمة، واستبشر بذلك لم يضره ذلك.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، يحمده الناس عليه، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". خرّجه مسلم، وخرجه ابن ماجه، وعنده:"الرجل يعمل العمل، فيصحبه الناس عليه"، وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبريّ، وغيرهم.
وكدلك الحديث الذي خرّجه الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله الرجل يعمل، فيُسِرُّه، فإذا اطُّلع عليه أعجبه؟ فقال:"له أجران: أجر السرّ، وأجر العلانية".
ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء، فإن فيه كفاية.
وبالجملة فما أحسن قول سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشقّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين الرازيّ: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللَّهُمَّ إني أستغفرك مما تُبت إليك منه، ثم غدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أوفِ به لك، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد عملت. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7445]
(2986) - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ [10] تقدم في "الطهارة" 32/ 675.
2 -
(أَبُوهُ) حفص بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ [8] تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(إِسمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ) الحنفيّ، أبو محمد الكوفيّ، بيّاع السابَريّ [5]
(2)
، تقدم في "البيوع" 32/ 4028.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 79 - 84.
(2)
جعله في "التقريب" من الرابعة، وفيه نظر، بل هو من الخامسة، أو السادسة، فتأمل.
4 -
(مسْلِمٌ الْبَطِينُ) ابن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفيّ [6] تقدم في "الجمعة" 20/ 2031.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ الواليّ الكوفيّ [3] تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَمَّعَ) بفتح السين المهملة، والميم الثقيلة، والثانية مثلها، (سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ) هكذا بصيغة الماضي فيهما، وفي حديث جندب التالي بصيغة المضارع فيهما. ولابن المبارك في "الزهد" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"من سمَّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به، ومن تطاول تعاظمًا خفضه الله، ومن تواضع تخشعًا رفعه الله".
ووقع عند الطبرانيّ من طريق محمد بن جُحادة، عن سلمة بن كهيل، عن جابر رضي الله عنه في آخر هذا الحديث:"ومن كان ذا لسانين في الدنيا، جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة".
قال الخطابيّ رحمه الله: معناه: من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس، ويسمعوه جوزي على ذلك، بأن يُشهره الله، ويفضحه، وُيظهر ما كان يُبطنه، وقيل: من قَصَد بعمله الجاه، والمنزلة عند الناس، ولم يُرِدْ به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة، ومعنى يرائي: يُطلعهم على أنه فعل ذلك لهم، لا لوجهه، ومنه قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16].
وقيل: المراد: من قصد بعمله أن يسمعه الناس، ويروه؛ ليعظموه، وتعلو منزلته عندهم، حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاءه على عمله، ولا يثاب عليه في الآخرة.
وقيل: المعنى: من سَمَّع بعيوب الناس، وأذاعها، أظهر الله عيوبه، وسمّعه المكروه.
وقيل: المعنى: من نَسَب إلى نفسه عملًا صالِحًا لم يفعله، وادَّعَى خيرًا لم يصنعه، فإن الله يفضحه، ويُظهر كذبه.
وقيل: المعنى من يرائي الناس بعمله، أراه الله ثواب ذلك العمل، وحرمه إياه.
وقيل: معنى سَمَّع الله: به شهره، أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا، أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة.
قال الحافظ: ورد في عدة أحاديث التصريح بوقوع ذلك في الآخرة، فهو المعتمَد، فعند أحمد، والدارميّ من حديث أبي هند الداريّ، رفعه:"من قام مقام رياء وسمعة، رأى الله به يوم القيامة، وسَمَّع به"، وللطبرانيّ من حديث عوف بن مالك نحوه، وله من حديث معاذ، مرفوعًا:"ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء، إلا سمّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7445](2986)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 522)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 301)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(407)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 65)، و (تمام الرازيّ) في "فوائده"(2/ 8)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تحريم الرياء والسمعة، إذ هما يُحبطان الأعمال الصالحة.
2 -
(ومنها): الحثّ على إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى؛ لأنه الذي ينفع عامله.
3 -
(ومنها): الحثّ على إخفاء العمل الصالح؛ لكونه أبعد عن الرياء والسمعة، قال العلماء: لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدَّر ذلك بقدر الحاجة، قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يُظهره ليُقتدَى به، أو لينتفع به، ككتابة العلم، ومنه حديث سهل رضي الله عنه مرفوعًا:"لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي"، قال الطبريّ: كان ابن عمر،
وابن مسعود، وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إمامًا يُستن بعمله، عالِمًا بما لله عليه، قاهرًا لشيطانه، استوى ما ظهر من عمله، وما خفي؛ لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك، فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف.
فمن الأول: حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ، ويرفع صوته بالذكر، فقال:"إنه أواب"، قال: فإذا هو المقداد بن الأسود رضي الله عنه، أخرجه الطبريّ.
ومن الثاني: حديث الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قام رجل يصلى، فجهر بالقراءة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُسْمِعني، وأسمِع ربك"، أخرجه أحمدّ، وابن أبي خيثمة، وسنده حسن، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7446]
(2987) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَثَا وَكيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْعَلَقِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائي يرَائِي اللهُ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(وَكيعُ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(سَلَمَةُ بْنَ كُهَيْلٍ) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ [4]، تقدم في "الحيض" 5/ 704.
5 -
(جُنْدُبٌ الْعَلَقِي) - بفتحتين، ثم قاف - هو: جندب بن عبد الله بن سفيان الْبَجَليّ، أبو عبد الله، وربما نُسب إلى جده صحابيّ مات رضي الله عنه بعد الستين (ع)، تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
(1)
"الفتح" 11/ 336.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ) بالتصغير؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا) بضمّ الجيم، والدال المهملة، وتُفتح، (الْعَلَقِيَّ) بفتحتين: نسبة إلى عَلَقَة بطن من بَجِلة، وهو علقة بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث، وهو بَجِلة، قاله في "اللباب"
(1)
. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُسَمِّعْ)"من" شرطيّة، ولذا جزم الفعل بعدها، (يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ) وأما ثبوت الياء في قوله:(وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ") فقال في "الفتح": أما الأُولى فللإشباع، وأما الثانية فكذلك، أو التقدير: فإنه يرائي به الله. انتهى.
قال الشيخ أبو حامد رحمه الله: الرياء مشتقّ من الرؤية، والسمعة من السماع، وإنما الرياء أصله: طلب المنزلة في قلوب الناس بإرائهم الخصال المحمودة، فحَدّ الرياء هو إراء العباد بطاعة الله تعالى، فالمرائي هو العابد، والمراءى له هو الناس، والمراءى به هو الخصال الحميدة، والرياء هو قَصْد إظهار ذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [7/ 7446 و 7447 و 7448 و 7449](2987)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6499) و"الأحكام"(7152)، و (ابن ماجه) في " الزهد"(4207)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 313)، و (الحميديّ) في "مسنده"(778)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(406)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[778]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْمُلَائيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا غَيْرَهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 353.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 15/ 245.
رجال هذا الإسناد: ثلانة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) ابن راهويه، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(الْمُلَائِيُّ) أبو نعيم الفضل بن دكين، تقدم في "المقدمة" 6/ 91.
3 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدم قريبًا.
وقوله: (وَزَادَ إلخ) فاعله ضمير الملائيّ.
وقوله: (وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا غَيْرَهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": قائل ذلك هو سلمة بن كهيل، ومراده أنه لم يسمع من أحد من الصحابة حديثًا مسندًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من جندب، وهو ابن عبد الله البجليّ الصحابي المشهور، وهو من صغار الصحابة.
وقال الكرمانيّ: مراده: لم يبق من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذٍ غيره في ذلك المكان.
قال الحافظ: احترز بقوله: في ذلك المكان عمن كان من الصحابة موجودًا إذ ذاك بغير المكان الذي كان فيه جندب، وليس كذلك فإن جندبًا كان بالكوفة إلى أن مات، وكان بها في حياة جندب أبو جحيفة السُّوائيّ، وكانت وفاته بعد جندب بست سنين، وعبد الله بن أبي أوفى، وكانت وفاته بعد جندب بعشرين سنة" وقد روى سلمة عن كل منهما، فتعيَّن أن يكون مراده أنه لم يسمع منهما، ولا من أحدهما، ولا من غيرهما، ممن كان موجودًا من الصحابة بغير الكوفة، بعد أن سمع من جندب الحديث المذكور، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية الملائيّ، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(406)
- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، قال: أخبرنا الملاليّ، قال: حدّثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت جندبًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أسمع أحدًا غيره يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنوت قريبًا منه فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
"الفتح" 11/ 337.
"مَن سَمّع يسمّع الله به، ومن راءى يرائي الله به". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7448]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ حَرْبٍ - قَالَ سَعِيدٌ: أَظُنُّهُ قَالَ: ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي مُوسَى - قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا - وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِي) الكنديّ، أبو عثمان الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 383.
3 -
(الْوَليدُ بْنُ حَرْبٍ) الأشعريّ الكوفيّ، لقبه: ولّاد، ثقةٌ
(2)
[6].
روي عن سلمة بن كهيل، وعنه شعبة، وابن عيينة، وقال: ثنا الصدوق الأمين، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قَالَ سَعِيدٌ)، أي: ابن عمرو الأشعثيّ: (أَظُنُّهُ)، أي: أظن سفيان بن عيينة (قَالَ) بعد ذكره قوله: "عن الوليد بن حرب" زاد قوله: (ابْنِ الْحَارِثِ بن أَبِي مُوسَى) ومعنى هذا الكلام أن سعيد بن عمرو شيخ مسلم تأكّد من قول شيخه ابن عيينة: "عن الوليد بن حرب"، وشكّ في زيادة نسبه بقوله:"ابن الحارث بن أبي موسى"، فابنِ الحارث بالجرّ؛ لأنه صفة ابن حرب، وأما ما وقع في النُّسخ المطبوعة من ضبطه ضَبْط قلم بالرفع فغير صحيح، إلا على إعراب القطع، فتنبّه.
(1)
"صحيح ابن حبان" 2/ 133.
(2)
هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه شعبة، وابن عيينة، وقال: حدّثنا الصدوق الأمين، وأخرج له مسلم هنا في "الصحيح"، ووثقه ابن حبّان، ولم يجرحه أحد، فمثل هذا ثقةٌ بلا ريب، فتنبّه.
هذا هو حل الكلام الصحيح، وأما ما تعب فيه الأبيّ، وتبعه بعض الشراح فغير صحيح، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ)؛ يعني: أن حديث الوليد بن حرب، عن سلمة بن كهيل مثل حديث الثوريّ عن سلمة المذكور.
[تنبيه]: رواية الوليد بن حرب عن سلمة بن كهيل هذه ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(778)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الوليد بن حرب الصدوق الأمين، قال: سمعت سلمة بن كهيل يقول: ما سمعت من أحد سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا جندبًا البجليّ، سمعت جندبًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يُسَمِّعْ يسمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7449]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الصَّدُوقُ الأَمينُ الْوَلِيدُ بْنُ حَرْبٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدم قريبًا.
و"الوليد بن حرب"، تقدم قبله.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة هذه لم أجد من ساقها، والله تعالى أعلم.
(8) - (بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7450]
(2988) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ - يَعْنِي: ابْنَ
(1)
"مسند الحميديّ" 2/ 342.
مُضَرَ - عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) أبو محمد المصريّ [8] تقدم في "الإيمان" 36/ 249.
3 -
(ابْنِ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ المدنيّ [5]، تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التيميّ المدنيّ [4]، تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّ المدنيّ [3] تقدم في "الطهارة" 8/ 570.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ) كذا للأكثر ولأبي ذر: "يتكلم " بحذف اللام، (بِالْكَلِمَةِ)، أي: الكلام المشتمل على ما يُفهم الخير، أو الشرّ، سواء طال أم قصر، كما يقال: كلمة الشهادة، وكما يقال للقصيدة: كلمة فلان، زاد في الرواية التالية:"مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا"، فـ "ما" الأولى نافية، و"ما" الثانية موصولة، أو موصوفة، وفي رواية البخاريّ:"ما يتبين فيها"؛ أي: لا يتطلب معناها؛ أي: لا يثبتها بفكره، ولا يتأملها حتى يتثبت فيها، فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول، وقال بعض الشراح: المعنى أنه لا يبيّنها بعبارة واضحة، وهذا يلزم منه أن يكون بَيَّن وتبيّن بمعنى واحد، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"ما يتقي بها" ومعناها يَؤُول لِمَا تقدم.
(يَنْزِلُ بِهَا) وفي الرواية التالية: "يهوي بها"، وفي رواية البخاريّ:"يَزِلّ" بها بفتح أوله، وكسر الزاي، بعدها لام؛ أي: يسقط (فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَما بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ") ووقع عند البخاريّ بلفظ: "أبعد ما بين المشرق" دون لفظ: "والمغرب"، قال في "الفتح": كذا في جميع النسخ التي وقعت لنا في البخاريّ، وكذا في رواية إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة، شيخ البخاريّ فيه، عند أبي نعيم، وأخرجه مسلم، والإسماعيليّ، من رواية بكر بن مضر، عن يزيد بن الهاد، بلفظ:"أبعد ما بين المشرق والمغرب"، وكذا وقع عند ابن بطال، وشرحه الكرماني على ما وقع عند البخاريّ، فقال: قوله: "ما بين المشرق": لفظ "بين" يقتضي دخوله على المتعدد، والمشرق متعدد معنى؛ إذ مشرق الصيف غير مشرق الشتاء، وبينهما بُعْد كبير.
وَيَحْتَمِل أن يكون اكتفى بأحد المتقابلين عن الآخر، مثل:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] قال: وقد ثبت في بعضها بلفظ: "بين المشرق والمغرب".
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال: بالبغي، أو بالسعي على المسلم، فتكون سببًا لهلاكه، وإن لم يُرد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إلى ذلك، فيُكتب على القائل إثمها، والكلمة التي تُرفع بها الدرجات، ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج بها عنه كربة، أو ينصر بها مظلومًا.
وقال غيره في الأولى: هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله تعالى.
قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان، ممن يتأتى منه ذلك، ونَقَل عن ابن وهب أن المراد بها: التلفظ بالسوء، والفحش، ما لم يُرِد بذلك الجحد لأمر الله في الدين.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن تكون تلك الكلمة من الخنى، والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة، أو بمجون، أو استخفاف بحقّ النبوة، والشريعة، وإن لم يعتقد ذلك.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يُعرف القائل حُسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يُعرف حسنه من قبحه.
قال الحافظ: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب.
وقال النوويّ: في هذا الحديث حثّ على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم، وإلا أمسك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7450 و 7451](2988)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6477 و 6478)، و (الترمذي) في "الزهد"(2314)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3970)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 985 - 986)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 27)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 334 و 355 و 533)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5706)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 109)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 164 و 165)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4123)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أخرج البخاريّ رحمه الله من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يَهوِي بها في جهنم".
قال في "الفتح": قوله: "لا يلقي لها بالًا" بالقاف، في جميع الروايات، أي: لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئًا، وهو من نحو قوله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 115] وقد وقع في حديىث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك، وأصحاب "السنن"، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، بلفظ:"إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة"، وقال في السخط مثل ذلك.
وقوله: "يرفع الله بها درجات" كذا في رواية المستملي، والسرخسيّ، وللنسفيّ، والأكثر:"يرفع الله له بها درجات"، وفي رواية الكشميهنيّ:"يرفعه الله بها درجات".
وقوله: "يهوي" بفتح أوله، وسكون الهاء، وكسر الواو، قال عياض: المعنى: ينزل فيها ساقطًا، وقد جاء بلفظ:"ينزل بها في النار" لأن دركات النار إلى أسفل، فهو نزول سقوط، وقيل: أهوى من قريب، وهَوَى من بعيد.
وأخرج الترمذيّ هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن إبراهيم التيميّ، بلفظ:"لا يَرَى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[7451]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّي) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة [10] تقدم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ [8] تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد.
6 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، من كبار [9] تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
7 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ [5]، تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 297.
8 -
(شَقِيقُ) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ [2]، تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
9 -
(أُسَامَةُ بْنُ زيدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ رضي الله عنه الأميرٍ، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة، (54) بالمدينة وهو ابن (75) سنة، تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وهو مسلسل بالكوفيين غير يحيى، وإسحاق، والصحابيّ، كما أسلفته آنفًا، وشيخه أبو غريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه، وابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحدايث:
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنهما (قَالَ) شقيق (قِيلَ لَةُ)؛ أي: لأسامة بن زيد رضي الله عنهما، (أَلا) أداة تحضيض، (تَدْخُل عَلَى عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه (فَتُكَلِّمَهُ)؛ أي: فيما يقع من الفتنة بين الناس، والسعي في إطفاء ثائرتها، قاله الكرمانيّ، وفي "التوضيح": أراد أن يكلمه في شأن أخيه لأمه الوليد بن عتبة لَمّا شُهِد عليه بما شُهد، فقيل لأسامة ذلك؛ لكونه كان من خواصّ عثمان رضي الله عنه
(1)
.
(فَقَال) أسامة رضي الله عنه: (أترَوْن) بضم أوله، وفتحه؛ أي: أتظنّون (أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ)؛ أي: عثمان رضي الله عنه، (إِلَّا أُسْمِعُكُمْ) بضمّ أوله، من الإسماع؛ أي: أتظنّون أني لا أكلّمه إلا وأنتم تسمعون؟، وفي رواية للبخاريّ:"إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم"؛ أي: إنكم لتظنون أني لا أكلمه، إلا بحضوركم،
(1)
"عمدة القاري" 15/ 166.
(9) - (بَابُ عُقُوبَةِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَفْعَلُهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7452]
(2989) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثنا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: ألا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ، فَتُكَلِّمَهُ، فَقَالَ: أترَوْنَ أَنِّي لَا أُكلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ، وَاللهِ لَقَدْ كلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أفتَتِحَ أَمْرًا، لَا أُحِبُّ أَنْ أكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أقولُ لأَحَدٍ، يَكُونُ عَلَى أَمِيرًا، إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ، بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، مَا لَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كنْتُ آمرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَآتِيهِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام [10] تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة [10] تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة [10]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
وأنتم تسمعون، و"أسمعكم" بضم الهمزة، من الإسماع، ويروى:"إلا بسمعكم"، بصيغة المصدر، قاله في "العمدة"
(1)
.
(وَاللهِ لَقَدْ كلَّمْتُهُ فيمَا بَيْني وَبَيْنَهُ) سرًّا؛ يعني: أني كلّمته في السرّ دون أن أفتح بابًا من أبواب الفتن، حاصل المعنى: أنه كلّمه طلبًا للمصلحة، لا تهييجًا للفتنة؛ لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار، يكون فيه نوع القيام عليهم؛ لأن فيه تشنيعًا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة، وتشتيت الجماعة
(2)
، وقوله:(مَا) زائدة؛ أي: كلمته (دُونَ أَنْ أفتَتِحَ أَمْرًا)؛ أي: كلمته فيما أشرتم إليه، لكن على سبيل المصلحة، والأدب في السرّ، بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة، أو نحوها، و "ما" موصوفة، ويجوز أن تكون موصولة.
وقوله: (لَا أُحِبُّ) جملة في محلّ نصب صفة لـ"أمرًا".
(لَا أُحِبُّ أَنْ كُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ) وللبخاريّ: "من يفتحه"، يعني: لا أكلمه إلا مع مراعاة المصلحة، بكلام لا يهيج به فتنة، (وَلَا أقولُ لأَحَدٍ، يَكُونُ عَلَيَّ) بتشديد الياء، (أَمِيرًا، إِنَّهُ)، أي: هذا الرجل (خَيْرُ النَّاسِ، بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:) وفي رواية سفيان: "بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ومنا سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: يجاء بالرجل"، وفي رواية عاصم بن بَهْدلة، عن أبي وائل، عند أحمد:"يجاء بالرجل الذي كان يطاع في معاصي الله، فيقذف في النار". ("يُؤْتَى) بالبناء للمفعول، (بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى) بالبناء للمفعول أيضًا؟ أي: يُطرح (فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ) من الاندلاق، وهو الخروج بسرعة، يقال: اندلق السيفُ من غمده: إذا خرج من غير أن يسله أحد، والمعنى: أنه تنصب أمعاؤه من جوفه، وتخرج من دبره، (أقتَابُ بَطْنِهِ) الأَقتاب بالفتح: جمع قِتْب بكسر القاف، وسكون المثناة، بعدها موحّدة: هي الأمعاء، والقتب مؤنثة، وتصغيره قتيبة، ومنه سمي الرجل قتيبة. (فَيَدُورُ بِهَا كمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى) وفي رواية للبخاريّ:"فيطحن فيها كطحن الحمار"، وفي رواية:"يستدير فيها كما يستدير الحمار"، (فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ) وفي رواية البخاريّ:"فيطيف به أهل النار"؛ أي: يجتمعون حوله، يقال: أطاف به
(1)
"عمدة القاري" 15/ 166.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 166.
القوم: إذا حلّقوا حوله حلقة، وإن لم يدوروا، وطافوا إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال: إنهما بمعنى واحد، وفي رواية:"فيأتي عليه أهل طاعته من الناس"، (فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ) وللبخاريّ: "فيقولون: أي فلان"، (مَا لَكَ؟) وفي رواية:"ما شأنك؟ " وفي رواية: "أي قل: أين ما كنت تأمرنا به؟ "(أَلمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ) وللبخاريّ: "ألست كنت تأمر بالمعروف، (وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَر) قال في "العمدة": المعروف: اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، والمنكر ضدّ المعروف، وكل ما قبّحه الشرع، وحرّمه، وكرهه، فهو منكر. انتهى
(1)
.
(فَيَقُولُ) الرجل: (بَلَى، قَدْ كنْتُ آمرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا آتِيهِ)؛ أي: لا أفعل ذلك المعروف، (وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَآتِيهِ")؟ أي: أفعل ذلك المنكر، وفي رواية عاصم:"وإني كنت آمركم بأمر، وأخالفكم إلى غيره".
قال المهلّب رحمه الله: أرادوا من أسامة رضي الله عنه أن يكلم عثمان، وكان من خاصته، وممن يخفّ عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ، وشُهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان يستعمله، فقال أسامة: قد كلمته سرًّا دون أن أفتح بابًا، أي: باب الإنكار على الأئمة علانية؛ خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرّفهم أنه لا يداهن أحدًا، ولو كان أميرًا، بل ينصح له في السرّ جهده، وذكر لهم قصة الرجل الذي يُطرح في النار؛ لكونه كان يأمر بالمعروف، ولا يفعله؛ ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وجَزْمه بأن مراد من سأل أسامة الكلام مع عثمان أن يكلمه في شأن الوليد ما عرفت مستنَده فيه، وسياق مسلم من طريق جرير عن الأعمش يدفعه، ولفظه: عن أبي وائل: "كنا عند أسامة بن زيد، فقال له رجل: ما يمنعك أن تدخل على عثمان، فتكلمه فيما يصنع
…
" قال: وساق الحديث بمثله.
وجزم الكرمانيّ بأن المراد: أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان من تولية أقاربه، وغير ذلك مما اشتهر.
وقوله: إن السبب في تحديث أسامة بذلك؛ ليتبرأ مما ظنوه به ليس
(1)
"عمدة القاري" 15/ 166.
بواضح، بل الذي يظهر أن أسامة كان يخشى على من ولي ولاية، ولو صغرت أنه لا بد له من أن يأمر الرعية بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ثم لا يأمن من أن يقع منه تقصير، فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله:"لا أقول للأمير: إنه خير الناس"، أي: بل غايته أن ينجو كفافًا.
وقال عياض: مراد أسامة: أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لِمَا يَخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه لسرًّا، فذلك أجدر بالقبول
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 7452 و 7453](2989)، و (البخاري) في "بدء الخلق"(3267) و"الفتن"(7098)، و (أحمد) في "مسنده "(5/ 205 - 209)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 250)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 89)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 112)، و (الطيب البغداديّ) في "اقتضاء العلم والعمل"(1/ 52)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 94)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(14/ 351)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن قوله: "لا أقول لأحد يكون عليّ أميرًا: إنه خير الناس" فيه ذمّ مداهنة الأمراء في الحقّ، وإظهار ما يبطن خلافه، كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة رضي الله عنه إلى أن المداراة محمودة، والمداهنة مذمومة، وضابط المداراة: أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة: أن يكون فيها تزيين القبيح، وتصويب الباطل، ونحو ذلك.
2 -
(ومنها): ما قاله الطبريّ رحمه الله: اختَلَف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة: يجب مطلقًا، واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه: "أفضل
(1)
"الفتح" 16/ 512 - 513، "كتاب الفتن" رقم (7098).
الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر"، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده
…
" الحديث.
وقال بعضهم: يجب إنكار المنكَر لكن شرطه أن لا يَلحق المنكِر بلاء، لا قِبَل له به، من قتل ونحوه.
وقال آخرون: ينكر بقلبه؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: "يُستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع
…
" الحديث.
قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور، ويدل عليه حديث:"لا ينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه"، ثم فسَّره بأن يتعرض من البلاء لِمَا لا يطيق. انتهى ملخصًا.
وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قَدَر عليه، ولم يخف على نفسه منه ضررًا، ولو كان الآمر متلبسًا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعًا، وأما إثمه الخاصّ به فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأَولى فجيّد، وإلا فيستلزم سدّ باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره.
ثم قال الطبريّ: فإن قيل: كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟. والجواب: أنهم لم يمتثلوا ما أُمروا به، فعُذِّبوا بمعصيتهم، وعُذِّب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه
(1)
.
3 -
(ومنها): أن في الحديث تعظيمَ الأمراء، والأدب معهم، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم؛ ليكفوا، وبأخذوا حذرهم، بلطف، وحسن تأدية، بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير.
4 -
(ومنها): أن فيه وصفَ جهنم بأمر عظيم، روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا:"يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها".
ولابن وهب عن زيد بن أسلم، عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:"فبينما هم يجرونها إذ شردت عليهم شردة، فلولا أنهم أدركوها لأحرق من في الجمع "
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 52.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 166.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7453]
(
…
) - (حَدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، فَقالَ رَجُلٌ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فِيمَا يَصْنَعُ؟، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ [8] تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ساق" ضمير جرير بن عبد الحميد، أي: ساق جرير الحديث بمثل ما ساقه أبو معاوية.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش هذه ساقها أبو القاسم البغويّ في "مسند أسامة"، فقال:
(53)
- حدّثنا ابن منيع، قال: حدّثنا إسحاق بن إسماعيل، وأبو خيثمة، قالا: حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: كنا عند أسامة بن زيد، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيفزع له أهل النار، ويجتمعون إليه، فيقولون له: يا فلان ما لقيتَ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر، ولا أنتهي". انتهى
(1)
.
(10) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ هَتْكِ الإِنْسَانِ سِتْرَ نَفْسِهِ)
وبالسنند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7454]
(2990) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَال عَبْدٌ: حَدَّثَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
(1)
"مسند أسامة" 1/ 133.
أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ أمَّتِي مُعَافَاةٌ
(1)
، إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الإجْهَارِ
(2)
، أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكذا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ"، قَالَ زُهَيْرٌ: "وَإِنَّ مِنَ الْهِجَارِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ [10]، تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ [10]، تقدم في "الإيمان 7/ 131.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ من صغار [9]، تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن عبد الله بن مسلم الزهريّ المادنيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
6 -
(عَمُّهُ) محمد بن مسلم الزهريّ، أبو بكر المدنيّ [4]، تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 348.
7 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ الفقيه، من كبار [3] تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيوخه، كما أسلفته آنفًا، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
(1)
وفي نسخة: "معافًى".
(2)
وفي نسخة: "من الجهار".
شرح الحديث:
(عن ابْنِ شِهَابٍ)، أنه (قَالَ: قَالَ سَالِمُ) بن عبد الله (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ـ (يَقُولُ: سَمعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كلُّ أمّتِي مُعَافَاةٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، والأصول المعتمدة:"معافاة" بالهاء في آخره، يعود إلى الأمة. انتهى، ووقع بعضها، وهو الذي في البخاريّ بلفظ:"معاني"، نظرًا للفظ "كلّ"، وهو بضمّ الميم، وفتح الفاء، مقصورًا اسم مفعول من العافية، التي وُضعت موضع المصدر، يقال: عافاه عافية، والعافية دفاع الله عن العبد، والمعنى هنا عفا: الله عنه، قاله في "العمدة"
(1)
، وقال القاري:"كل أمتي معافى" هكذا في جميع نُسخ "المشكاة"، وهو اسم مفعول من عافاه الله، أي: أعطاه الله العافية، والسلامة من المكروه، وقال الطيبيّ: وفي نُسخ "المصابيح": "معافي" بلا هاء، وعلى هذا ينبغي أن يكتب ألفه بالياء، فيكون مطابقًا للفظ "كل" كما ورد:"كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته". انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "معاف" بفتح الفاء، مقصورًا اسم مفعول من العافية، وهو إما بمعنى عفا الله عنه، وإما سلّمه الله، وسلّم منه. انتهى
(3)
.
(إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ) قال النوويّ رحمه الله: المجاهرون: هم الذين جاهروا بمعاصيهم، وأظهروها، وكشفوا ما سَتَر الله تعالى عليهم، فيتحدثون بها لغير ضرورة، ولا حاجة، يقال: جهر بأمره، وأجهر، وجاهر. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كذا رواية أكثر الرواة بتقديم الجيم على الهاء، منصوبًا على الاستثناء، وهو جمع مجاهر، اسم فاعل من جاهره بالقول، وبالعداوة: إذا ناداه، وناجاه بذلك. ووقع في نسخة شيخنا أبي الصبر:"إلا المجاهرون" بالواو رفعًا، وهو جائز، على أن تُحمل "إلا" على "غير"، كما قد أنشده النحويون:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ
…
لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
أي: غير الفرقدين، وهو قليل، والوجه الأول هو الكثير الفصيح. انتهى
(5)
.
(1)
"عمدة القاري" 22/ 138.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3119.
(3)
"الفتح" 13/ 634.
(4)
"شرح النوويّ " 18/ 119.
(5)
"المفهم" 6/ 617.
وقال في "الفتح": قوله: "إلا المجاهرين" كذا للأكثر، وكذا في رواية مسلم، ومستخرَجَي الإسماعيليّ، وأبي نعيم، بالنصب، وفي رواية النسفيّ:"إلا المجاهرون" بالرفع، وعليها شَرَح ابن بطال، وابن التين، وقال: كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال.
وقال ابن مالك: "إلا" على هذا بمعنى "لكن"، وعليها خرّجوا قراءة ابن كثير، وأبي عمرو:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81]؛ أي: لكن امرأتك، {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81]، وكذلك هنا المعنى: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، فـ "المجاهرون" مبتدأ، والخبر محذوف.
وقال الكرمانيّ: حقّ الكلام النصب، إلا أن يقال: العفو بمعنى الترك، وهو نوع من النفي، ومحصل الكلام: كل واحد من الأمة يُعْفَى عن ذنبه، ولا يؤاخذ به، إلا الفاسق المعلن. انتهى، واختصره من كلام الطيبيّ، فإنه قال: كُتب في نسخة "المصابيح": "المجاهرون" بالرفع، وحقه النصب، وأجاب بعض شراح "المصابيح" بأنه مستثنى من قوله:"معافي"، وهو في معنى النفي؛ أي: كل أمتي لا ذنب عليهم، إلا المجاهرون، قال الطيبيّ: والأظهر أن يقال: المعنى: كل أمتي يُتركون في الغِيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك، وفيه معنى النفي، كقوله:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] والمجاهر الذي أظهر معصيته، وكشف ما سَتَر الله عليه، فيتحدث بها، يقال: جهر، وأجهر، وجاهر.
وقد ذكر النوويّ أن من جاهر بفسقه، أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به. انتهى
(1)
.
والمجاهر في هذا الحديث يَحْتَمِل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به، والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، وَيحْتَمِل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد: الذين يجاهر بعضهم بعضًا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. انتهى
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السن" 10/ 3119.
(2)
"الفتح" 13/ 634.
(وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في جميع النسخ، إلا نسخة ابن ماهان، ففيها:"وإن من الجهار"، وهما صحيحان، الأول من أجهر، والثاني من جهر، وأما قول مسلم:"وقال زهير: وإن من الهجار" بتقديم الهاء، فقيل: إنه خلاف الصواب، وليس كذلك، بل هو صحيح، ويكون الهجار لغة في الهجار الذي هو الفحش، والخنا، والكلام الذي لا ينبغي، ويقال في هذا: أهجر: إذا أتى به، كذا ذكره الجوهريّ وغيره. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإن من الجهار" هذه رواية زهير، وهي رواية حسنة؛ لأنَّه مصدر جاهر الذي اسم الفاعل منه مجاهر، فيتناسب صدر الكلام وعجزه، ورواه أكثر رواة مسلم:"وإن من الإجهار"، فيكون مصدر أجهر؛ أي: أعلن، قال الجوهريّ: إجهار الرجل: إعلانه، وعند الفارسيّ:"وإن من الإهجار" بتقديم الهاء على الجيم، وهو الإفحاش في القول، قاله الجوهريّ
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وإن من المجاهرة" كذا لابن السكن، والكشمهينيّ، وعليه شرَح ابن بطال، وللباقين:"المجانة" بدل "المجاهرة"، ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد:"وإن من الإجهار" كذا عند مسلم، وفي رواية له:"الجهار"، وفي رواية الإسماعيليّ:"الإهجار"، وفي رواية لأبي نعيم في "المستخرج":"وإن من الهجار".
قال: فتحصلنا على أربعة: أشهرها "الجهار"، ثم تقديم الهاء، وبزيادة ألف قبل كل منهما، قال الإسماعيليّ: لا أعلم أني سمعمت هذه اللفظة في شيء من الحديث؛ يعني: إلا في هذا الحديث.
وقال عياض: وقع للعذريّ، والسجزيّ في مسلم:"الإجهار"، وللفارسيّ:"الإهجار"، وقال في آخره: وقال زهير: "الجهار". هذه الروايات من طريق ابن سفيان، وابن أبي ماهان، عن مسلم، وفي أخرى عن ابن سفيان، في رواية زهير:"الهجار"، قال عياض: الجهار، والإجهار، والمجاهرة، كله صواب، بمعنى الظهور، والإظهار، يقال: جهر، وأجهر
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 119.
(2)
"المفهم" 7/ 617 - 618.
بقوله، وقراءته: إذا أظهر، وأعلن؛ لأنه راجع لتفسير قوله أوّلًا:"إلا المجاهرون"، قال: وأما "المجانة"، فتصحيف، وإن كان معناها لا يبعد هنا؛ لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره، وهو الذي لا يبالي بما قال، وما قيل له.
وتعقّبه الحافظ، فقال: بل الذي يظهر رجحان هده الرواية، لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة، فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ:"المجانة"، فتفيد معنى زائدًا، وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمُجّانة مذمومة شرعًا، وعرفًا، فيكون الذي يُظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية، وتلبسه بفعل المُجان.
قال عياض: وأما "الإهجار" فهو الفحش، والخناء، وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال: أهجو في كلامه، وكأنه أيضًا تصحيف من الجهار، أو الإجهار، وإن كان المعنى لا يبعد أيضًا هنا.
وأما لفظ "الهجار" فبعيد لفظًا ومعنى؛ لأن الهجار الحبل، أو الوتر تُشَدّ به يد البعير، أو الحلقة التي يُتَعَلَّم فيها الطعن، ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم.
وتعقّبه الحافظ أيضًا، فقال: بل له معنى صحيح أيضًا، فإنه يقال: هجر، وأهجر: إذا أفحش في كلامه، فهو مثل جهر، وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل، أو غيره أن لا يستعمل مصدرًا من الْهُجر بضم الهاء
(1)
. انتهى
(2)
.
(أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا)؛ أي: أن يذنب ذنبًا (ثُمَّ يُصْبِحُ)؛ أي: يدخل في الصباح، والحال أنه (قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ) عن أعين الناس، فلم يطّلع عليه أحد، (فَيَقُولُ) متبجّحًا، ومستهترًا بعمله السيّئ:(يَا فُلَانُ) لبعض أصحابه القرناء السوء، (قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا)"البارحة" هي أقرب ليلة مضت من، وقت القول، تقول: لقيته البارحة، وأصلها من بَرِحَ: إذا زال، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
وللعينيّ تعقبات على الحافظ في هذا البحث، فراجع شرحه.
(2)
"الفتح" 13/ 635.
(3)
"الفتح" 13/ 635.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَرِحَ الشيءُ يبرح، من باب تَعِبَ بَرَاحًا: زال من مكانه، ومنه قيل لليلة الماضية: البَارِحَةً، والعرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البَارِحَةَ. انتهى
(1)
.
(وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ)؛ أي: وقد كان ربه ساترًا له طول ليله، والجملة حال من قال "يقول"، وقوله:(فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ) جملة مستأنفة، ذكرها توطئة لِمَا بعدها، (وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ)؛ أي: ويكون في الصباح كاشفًا ستر الله تعالى عن نفسه بإخباره للناس قبيح عمله مستخفًّا بأمر الله عز وجل.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) يعني ابن حرب شيخه الأول في روايته (وَإِنَّ مِنَ الْهِجَارِ) بتقديم الهاء على الجيم، بدل قول محمد بن حاتم، وعبد بن حميد في روايتهما:"وإن من الإجهار"، وقد تقدّم توجيه كلّ من الروايات الأربع قريبًا، فلا تنس، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 7454](2990)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6069)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 329) و"شعب الإيمان"(7/ 111)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(54/ 30)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): وجوب سَتر المؤمن على نفسه إذا ابتُلي بشيء من المعاصي والمخالفات، وقد ورد في الأمر بالستر حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها، فليستتر بسِتر الله
…
" الحديث، أخرجه الحاكم، وهو في "الموطأ" من مرسل زيد بن أسلم.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في الجهر بالمعصية استخفاف
(1)
"المصباح المنير" 1/ 42.
بحق الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذلّ أهلها، ومن إقامة الحدّ عليه إن كان فيه حدّ، ومن التعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الراويات كما سبق بيانها ما نصّه: وهذه الروايات، وإن اختلفت ألفاظها، فهي راجعه إلى معنى واحد، قد فسّره في الحديث، وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية، وخلوة، ثم يخرج يتحدَّث بها مع الناس، ويجهر بها، ويعلنها، وهذا من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش، وذلك أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية، أو مستهين، مستهزئ بها، مصرّ عليها، غير تائب منها، مظهر للمنكر، والواحد من هذه الأمور كبيرة، فكيف إذا اجتمعت؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشدّ الناس بلاءً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، لأنَّه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلّها، وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله، وإن كان مرتكب كبيرة، فأمره أخفّ، وعقوبته إن عوقب أهون، ورجوعه عنها أقرب من الأول، لأنَّ ذلك المجاهر قلّ أن يتوب، أو يرجع عما اعتاده من المعصية، وسَهُل عليه منها، فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إمّا معاني مطلقًا إن تاب، وإما معاني بالنسبة إليه إن عوقب، والله تعالى أعلم
(2)
.
(11) - (بَابُ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَكَرَاهَةِ التّثَاؤُبِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7455]
(2991) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ - وَهُوَ ابْنُ غِيَاثٍ - عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: عَطَسَ
(1)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال 9/ 263.
(2)
"المفهم" 6/ 618.
عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ يُشَمِّتْهُ: عَطسَ فُلَانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ أَنَا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي، قَالَ:"إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللهَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طلق النخعيّ الكوفيّ القاضي [8]، تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيِّ) بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ [4]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الأنصاريّ الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كلاحقه، وهو (445) من رباعيّات الكتاب، وأن نصفه الأول كوفيّ، والثاني بصريّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي رواية شعبة:"عن سليمان التيميّ، سمعت أنسًا"، (قَالَ) أنس:(عَطَسَ) بفتح الطاء في الماضي، وبكسرها، وضمها في المضارع، من بابَي ضرب، ونصر، (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ) في حديث أبي هريرة عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان:"أحدهما أشرف من الآخر، وأن الشريف لم يَحْمد"، وللطبرانيّ من حديث سهل بن سعد: أنهما عامر بن الطفيل، وابن أخيه. (فَشَمَّتَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ) قال النوويّ رحمه الله: يقال: شَمّت بالشين المعجمة، والمهملة، لغتان مشهورتان، المعجمة أفصح، قال ثعلب: معناه بالمعجمة: أبعد الله عنك
الشماتة، وبالمهملة هو من السمت، وهو القصد، والهدى. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": "فشمّت" بالمعجمة، وللسرخسيّ بالمهملة، ووقع في روإية أحمد عن يحيى القطان، عن سليمان التيميّ:"فشمّت، أو سمّت" بالشك في المعجمة، أو المهملة، وهو من التشميت، قال الخليل، وأبو عبيد، وغيرهما: يقال بالمعجمة، وبالمهملة، وقال ابن الأنباريّ: كل داع بالخير مُشَمِّت بالمعجمة، وبالمهملة، والعرب تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى. انتهى.
قال الحافظ: وهذا ليس مطردًا، بل هو في مواضع معدودة، وقد جمعها شيخنا شمس الدين الشيرازيّ صاحب "القاموس" في جزء لطيف.
قال أبو عبيد: التشميت بالمعجمة أعلى، وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من هل العربية، وفي الرواية، وقال ثعلب: الاختيار أنه بالمهملة؛ لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد، والطريق القويم، وأشار ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" إلى ترجيحه.
وقال القزاز: التشميت التبريك، والعرب تقول: شمّته: إذا دعا له بالبركة، وشمّت عليه: إذا برّك عليه، وفي الحديث في قصة تزويج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما شمّت عليهما: إذا دعا لهما بالبركة.
ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك قال: التسميت بالمهملة أفصح، وهو من سمت الإبل في المرعى: إذا جمعت، فمعناه على هذا: جمع الله شملك.
وتعقبه بأن سمت الإبل إنما هو بالمعجمة، وكذا نقله غير واحد أنه بالمعجمة، فيكون معنى سمّته: دعا له، بأن يجمع شمله، وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهو فرح الشخص بما يسوء عدوه، فكأنه دعا له أن لا يكون في حال من يُشمت به، أو أنه إذا حمد الله أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فشمت هو بالشيطان، وقيل: هو من الشوامت جمع شامتة، وهي القائمة، يقال: لا ترك الله له شامتة؛ أي: قائمة.
وقال ابن العربي في "شرح الترمذيّ": تكلم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين، ولم يبينوا المعنى فيه، وهو بديع، وذلك أن العاطس ينحلّ كلّ عضو في رأسه، وما يتصل به من العنق، ونحوه، فكأنه إذا قيل له: رحمك الله، كان معناه
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 120.
أعطاه الله رحمة، يرجع بها بذلك العضو إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير، فإن كان التسميت بالمهملة، فمعناه: رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة فمعناه: صان الله شوامته؛ أي: قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال، قال: وشوامت كل شيء: قوائمه التي بها قوامه، فقوام الدابة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سلمت، وقوام الآدمي بسلامة قوائمه التي بها قوامه، وهي رأسه، وما يتصل به، من عنق، وصدر. انتهى ملخصًا
(1)
.
(فَقَالَ الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّتَّهُ)؛ أي: دعوت له، (وَعَطَسْتُ أَنَا فَلَمْ تُشَمِّتْني)؛ أي: لم تدع لي، ولماذا هذا التفريق؟.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فقيل له"، فقال في "الفتح": السائل عن ذلك هو العاطس الذي لم يحمد، وقع كذلك في حديث أبي هريرة بلفظ:"فسأله الشريف"، وكذا في رواية شعبة بلفظ:"فقال الرجل: يا رسول الله شمتّ هذا، ولم تشمتني"، وهذا قد يعكر على ما في حديث سهل بن سعد أن الشريف المذكور هو عامر بن الطفيل، فإنه كان كافرًا، ومات على كفره، فيبعد أن يخاطب، النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: يا رسول الله، ويَحْتَمِل أن يكون قالها غير معتقد، بل باعتبار ما يخاطبه المسلمون، وَيحْتَمِل أن تكون القصة لعامر بن الطفيل المذكور، ففي الصحابة عامر بن الطفيل الأسلميّ له ذِكر في الصحابة، وحديثه رواه عنه عبد الله بن بريدة الأسلميّ، حدثني عمي عامر بن الطفيل، وفي الصحابة أيضًا عامر بن الطفيل الأزديّ، ذكره وثيمة في "كتاب الردة" وورد له مرثية في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سياق حديث سهل بن سعد ما يدل على أنه عامر المشهور احتَمَل أن يكون أحد هذين.
قال الحافظ: ثم راجعت "معجم الطبرانيّ" فوجدت في سياق حديث سهل بن سعد الدلالة الظاهرة على أنه عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب الفارس المشهور، وكان قَدِم المدينة، وجرى بينه وبين ثابت بن قيس بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم كلام، ثم عطس ابن أخيه، فحمد، فشمّته النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم عطس عامر فلم يحمد، فلم يشمته، فسأله
…
الحديت، وفيه قصة غزوة بئر
(1)
"الفتح" 14/ 108 - 109، "كتاب الأدب" رقم (6221).
معونة، وكان هو السبب فيها، ومات عامر بن الطفيل بعد ذلك كافرًا في قصة له مشهورة في موته، ذكرها ابن إسحاق وغيره. انتهى
(1)
.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ردًّا على سؤاله: ("إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ) فاستحقّ التشميت، (وَإنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللهَ) فلم تستحقّ التشميت، وفي حديث أبي هريرة:"إن هذا ذكر الله، فذكرته، وأنت نسيت الله، فنسيتك"، وقد تقدم أن النسيان يُطلق، ويراد به الترك.
قال الحليميّ رحمه الله: الحكمهّ في مشروعية الحمد للعاطس، أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تقابل بالحمد لله، لِمَا فيه من الإقوار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه، لا إلى الطبائع. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7455 و 7456](2991)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6221 و 6225) و"الأدب المفرد"(931)، و (أبو داود) في "الأدب"(5039)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2742)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(222)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3713)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19678)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2065)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1208)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 683)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 117)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 283)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(600)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 186)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3344)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): بيان مشروعيّة حمد الله تعالى للعاطس.
(1)
"الفتح" 14/ 109 - 110.
(2)
"الفتح" 14/ 110.
2 -
(ومنها): أن التشميت إنما يُشرع لمن حمد الله تعالى، قال ابن العربيّ: وهو مجمع عليه.
3 -
(ومنها): جواز السؤال عن علة الحكم، وبيانها للسائل، ولا سيما إذا كان له في ذلك منفعة.
4 -
(ومنها): أن العاطس إذا لم يحمد الله تعالى لا يلقن الحمد ليحمد، فيشمّت، كذا استدل به بعضهم، وهو ظاهر هذا الحديث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلقّن الساكت الحمد حتى يشمّته، بل سكت عنه.
5 -
(ومنها): أن من آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته، ويرفعه بالحمد، وأن يغطي وجهه؛ لئلا يبدو من فيه، أو أنفه ما يؤذي جليسه، ولا يلوي عنقه يمينًا ولا شمالًا؛ لئلا يتضرر بذلك.
قال ابن العربيّ: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجًا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء، وقد شاهدنا من وقع له ذلك، وقد أخرج أبو داود، والترمذيّ بسند جيّد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته، وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه، عند الطبرانيّ.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: ومن فوائد التشميت: تحصيل المودة، والتأليف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عن الكِبْر، والحمل على التواضع؛ لِمَا في ذكر الرحمة من الإشعار بالذنب الذي لا يعرى عنه أكثر المكلفين، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تشميت العاطس:
قال النوويّ رحمه الله: أجمعت الأمة على أن تشميت العاطس مشروع، ثم اختلفوا في، إيجابه، فأوجبه أهل الظاهر، وابن مريم من المالكية، على كل من سمعه؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته"، قال القاضي: والمشهور من مذهب مالك أنه فرض كفاية، قال: وبه قال جماعة من العلماء،
(1)
"الفتح" 14/ 110.
كردّ السلام، ومذهب الشافعيّ، وأصحا به، وآخرين أنه سُنّة، وأدب، وليس بواجب، ويحملون الحديث على الندب، والأدب، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حقّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام".
قال القاضي: واختلف العلماء في كيفية الحمد، والردّ، واختلفت فيه الآثار، فقيل: يقول: الحمد لله، وقيل: الحمد لله رب العالمين، وقيل: الحمد لله على كل حال، وقال ابن جرير: هو مخير بين هذا كله، وهذا هو الصحيح، وأجمعوا على أنه مأمور بالحمد لله.
وأما لفظ التشميت فقيل: يقول: يرحمك الله، وقيل: يقول: الحمد لله، يرحمك الله، وقيل: يقول: يرحمنا الله، وإياكم، قال: واختلفوا في رد العاطس على المشمت، فقيل: يقول: يهديكم الله، ويصلح بالكم، وقيل: يقول: يغفر الله لنا ولكم، وقال مالك، والشافعيّ: يخيَّر بين هذين، وهذا هو الصواب، وقد صحَّت الأحاديث بهما، قال: ولو تكرر العطاس قال مالك: يشمّته ثلاثًا، ثم يسكت. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب الحمد للعاطس" ما نصّه: أي: مشروعيته، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه، لثبوت الأمر الصريح به، ولكن نقل النووي الاتفاق على استحبابه، وأما لفظه، فنقل ابن بطال وغيره عن طائفة أنه لا يزيد على "الحمد لله"، كما في حديث أبي هريرة، وعن طائفة يقول:"الحمد لله على كل حال"، قال: وقد جاء النهي عن ابن عمر، وقال فيه:"هكذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، أخرجه البزار، والطبرانيّ، وأصله عند الترمذيّ، وعند الطبرانيّ من حديث أبي مالك الأشعريّ، رفعه:"إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله على كل حال"، ومثله عند أبي داود، من حديث أبي هريرة، وللنسائيّ من حديث عليّ، رفعه:"يقول العاطس: الحمد لله على كل حال"، ولابن السنيّ من حديث أبي أيوب مثله، ولأحمد، والنسائيّ من حديث سالم بن عبيد، رفعه:"إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله على كل حال، أو الحمد الله رب العالمين".
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 120 - 121.
وعن طائفة يقول: "الحمد لله رب العالمين"، ورد ذلك في حديث لابن مسعود، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ.
وورد الجمع بين اللفظين، فعنده في "الأدب المفرد" عن عليّ قال:"من قال عند عطسة سمعها: الحمد لله رب العالمين، على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس، ولا الأذن أبدًا"، وهذا موقوف، رجاله ثقات، ومثله لا يقال من قِبَل الرأي، فله حكم الرفع.
وقد أخرجه الطبرانيّ من وجه آخر، عن عليّ مرفوعًا بلفظ:"من بادر العاطس بالحمد عوفي من وجع الخاصرة، ولم يشتك ضرسه أبدًا"، وسنده ضعيف، وللبخاريّ أيضًا في "الأدب المفرد"، والطبراني بسند لا بأس به، عن ابن عباس قال:"إذا عطس الرجل، فقال: الحمد لله، قال الملك: رب العالمين، فإن قال: رب العالمين، قال الملك: يرحمك الله".
وعن طائفة: ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد كان حسنًا، فقد أخرج أبو جعفر الطبريّ في "التهذيب" بسند لا بأس به، عن أم سلمة، قالت:"عطس رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الحمد لله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، وعطس آخر، فقال: الحمد لله رب العالمين، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، فقال: ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة"، ويؤيده ما أخرجه الترمذيّ وغيره من حديث، رفاعة بن رافع، قال:"صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعطست، فقلت: الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ ثلاثًا فقلت: أنا، فقال: والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملَكًا، أيهم يصعد بها".
وأخرجه الطبرانيّ، وبَيَّن أن الصلاة المذكورة: المغرب، وسنده لا بأس به، وأصله في "صحيح البخاريّ" لكن ليس فيه ذِكر العطاس، وإنما فيه:"كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد إلخ" بنحوه.
ولمسلم وغيره من حديث أنس: "جاء رجل، فدخل في الصفّ، وقد حفزه النَّفَس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه
…
" الحديث، وفيه: "لقد رأيت اثني عشر ملَكًا يبتدرونها أيهم يرفعها".
وأخرج الطبرانيّ، وابن السنيّ من حديث عامر بن ربيعة نحوه، بسند لا بأس به، وأخرجه ابن السنيّ بسند ضعيف، عن أبي رافع، قال:"كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس، فخلى يدي، ثم قام، فقال شيئًا لم أفهمه، فسألته، فقال: أتاني جبريل، فقال: إذا أنت عطست، فقل: الحمد لله لكرمه، الحمد لله لعز جلاله، فإن الله عز وجل يقول: صدق عبدي - ثلاثًا - مغفورًا له".
وأما الثناء الخارج عن الحمد فورد فيه ما أخرجه البيهقيّ في "الشعب" من طريق الضحاك بن قيس اليشكريّ قال: "عطس رجل عند ابن عمر، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال ابن عمر: لو تمَّمتها: والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه. ويعارضه ما أخرجه الترمذيّ قال:"عطس رجل، فقال: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: الحمد لله، والصلاة على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال الترمذيّ: غريب لا نعرفه إلا من رواية زياد بن الربيع، قال الحافظ: وهو صدوق، قال البخاريّ: وفيه نظر، وقال ابن عديّ: لا أرى به بأسًا، ورجّح البيهقيّ ما تقدم على رواية زياد، والله أعلم.
قال: ولا أصل لِمَا اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله: "الحمد لله رب العالمين"، وكذا العدول من الحمد إلى أشهد أن لا إله إلا الله، أو تقديمها على الحمد، فمكروه.
وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن مجاهد: "أن ابن عمر سمع ابنه عطس، فقال: أب، فقال: وما أب؟ إن الشيطان جعلها بين العطسة والحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ:"أش" بدل "أب".
ونقل ابن بطال عن الطبريّ أن العاطس يتخير بين أن يقول: "الحمد لله"، أو يزيد "رب العالمين"، أو "على كل حال"، والذي يتحرر من الأدلة أن كل ذلك مجزئ، لكن ما كان أكثر ثناء أفضل، بشرط أن يكون مأثورًا.
وقال النوويّ في "الأذكار": اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه: الحمد لله، ولو قال: الحمد لله رب العالمين، لكان أحسن، فلو قال: الحمد لله على كل حال، كان أفضل، كذا قال، والأخبار
التي ذكرتها تقتضي التخيير، ثم الأولوية كما تقدم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7456]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ - يَعْنِي: الأَحْمَرَ - عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء [10]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الكوفيّ [8]، تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقيان ذُكرا قبله، والسند من رباعيّات المصنّف، كسابقه، وهو (446) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر عن سليان التيميّ هذه لم أجد من ساقها، فلينظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7457]
(2992) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَهْوَ فِي بَيْتِ بِنْتِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَعَطَسْتُ، فَلَمْ يُشَمِّتْني، وَعَطَسَتْ، فَشَمَّتَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى أُمِّي، فَأَخْبَرْتُهَا، فَلَمَّا جَاءَهَا، قَالَتْ: عَطَسَ عِنْدَكَ ابْنِي، فَلَمْ تُشَمِّتْهُ، وَعَطَسَتْ، فَشَمَّتَّهَا، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ عَطَسَ، فَلَمْ يَحْمَدِ اللهَ، فَلَمْ أُشَمِّتْهُ، وَعَطَسَتْ، فَحَمِدَتِ اللهَ، فَشَمَّتُّهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَحَمِدَ اللهَ، فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ، فَلَا تُشَمِّتُوهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
(1)
"الفتح" 14/ 106 - 108.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ) الْمُزَنيّ، أبو جعفر الكوفيّ، صدوق، فيه لين، من صغار [8] مات بعد التسعين ومائة (خ م ت س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 1/ 1576.
4 -
(عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ) بن شهاب بن المجنون الْجَرْميّ الكوفيّ، صدوق رُمي بالإرجاء [5] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (خت م 4) تقدم في "اللباس والزينة" 16/ 5479.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، اسمه كنيته، وقيل: الحارث، وقيل: عامر [3]، تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالكوفيين غير زهير، فبغداديّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى؛ أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى) أبيه عبد الله بن قيس رضي الله عنه (وَهْوَ)؛ أي: والحال أنه (فِي بَيْتِ) زوجته (بِنْتِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) قال النوويّ رحمه الله: هذه البنت هي أم كلثوم بنت الفضل بن عباس، امرأة أبي موسى الأشعريّ، تزوجها بعد فراق الحسن بن عليّ لها، وولدت لأبي موسى، ومات عنها، فتزوجها بعده عمران بن طلحة، ففارقها، وماتت بالكوفة، ودُفنت بظاهرها. انتهى
(1)
.
(فَعَطَسْتُ) من بابي ضرب، ونصر، (فَلَمْ يُشَمِّتْنِي)، أي: لم يَدْع لي، (وَعَطَسَتْ) بنت الفضل (فَشَمَّتَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى أُمِّي) هي ضرّة بنت الفضل، (فَأَخْبَرْتُهَا)؛ أي: بما فعل أبوه من تشميت زوجته بنت الفضل، وتركه تشميت
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 121 - 122.
أبي بردة مع أن كلًّا منهما عطس عنده، (فَلَمَّا جَاءَهَا) أبو موسى رضي الله عنه (قَالَتْ: عَطَسَ عِنْدَكَ ابْنِي) أبو بردة (فَلَمْ تُشَمِّتْهُ، وَعَطَسَتْ) زوجتك بنت الفضل (فَشَمَّتَّهَا) غرضها الإنكار على أبي موسى فيما فعل، ومنشؤه الغيرة التي تحصل بين الضرائر، (فَقَالَ) أبو موسى رضي الله عنه مبيّنًا عذره في ذلك:(إِنَّ ابْنَكِ) أبا بردة (عَطَسَ، فَلَمْ يَحْمَدِ اللهَ) عز وجل (فَلَم أُشَمِّتْهُ) لعدم استحقاقه التشميت حيث لم يحمد، (وَعَطَسَتْ) بنت الفضل (فحَمِدَتِ اللهَ) عز وجل (فَشَمَّتُّهَا) لاستحقاقها حيث أدّت السبب، وهو الحمد، ثم بيّن أبو موسى رضي الله عنه حجته في ذلك، فقال:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَحَمِدَ اللهَ) تعالى (فَشَمِّتُوهُ) تقدّم أن الراجح أنه للوجوب، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: شمّت، وسمّت لغتان، معروفتان عند أهل العلم، لا يختلفون في ذلك، قال الخليل بن أحمد: التسميت لغة في تمثمميت العاطمس، ورُوي عن ثعلب أنه سئل عن معنى التشميت والتسميت، فقال: أما التشميت فمعناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنّبك ما يَشْمَت به عدوّك، وأما التسميت فمعناه: جعلك الله على سمت حسن، ونحو هذا، قال أبو عمر: وهذا كله إنما ينويه الداعي له بصلاح الحال، والغفران، والرحمة، على ما جاء في سُنّة التشميت. انتهى
(1)
.
(فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ، فَلَا تُشَمِّتُوهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بالأمر بالتشميت إذا حمد العاطس، وتصريح بالنهي عن تشميته إذا لم يحمده، فيُكره تشميته إذا لم يحمد، فلو حمد، ولم يسمعه الإنسان لم يشمّته، وقال مالك: لا يشمته حتى يسمع حمده، قال: فإن رأيت من يليه شمّته فشمّته، قال القاضي: قال بعض شيوخنا: وإنما أُمر العاطس بالحمد لِمَا حصل له من المنفعة بخروج ما اختنق في دماغه من الأبخرة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال النوويّ: مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمت، قال الحافظ: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم، أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني، قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أَتَى بلفظ آخر غير الحمد، لا يشمَّت، وقد أخرج أبو داود،
(1)
"التمهيد" لابن عبد البر 17/ 334.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 121.
والنسائيّ، وغيرهما، من حديث سالم بن عبيد الأشجعيّ قال:"عطس رجل، فقال: السلام عليكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عليك وعلى أمك، وقال: إذا عطس أحدكم، فليحمد الله".
واستُدل به على أنه يُشرع التشميت لمن حمد، إذا عرف السامع أنه حمد الله، وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة، ولم يسمع الحمد، بل سمع من شمّت ذلك العاطمس، فإنه يُشرع له التشميت، لعموم الأمر به لمن عطس فحمد.
وقال النوويّ: المختار أنه يشمّته مَن سَمِعه دون غيره، وحكى ابن العربيّ اختلافًا فيه، ورجح أنه يشمته، وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد مَنْ عَلِم أن الذين عند العاطس جهلة، لا يفرقون بين تشميت من حَمِد، وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من عُلم أنه حمد، فيمتنع تشميت هذا، ولو شمته من عنده؛ لأنه لا يعلم هل حمد أو لا؟ فإن عطس وحمد، ولم يشمته أحد، فسمعه من بَعُد عنه، استُحب له أن يشمته حين يسمعه.
وقد أخرج ابن عبد البرّ بسند جيد عن أبي داود، صاحب "السنن" أنه كان في سفينة، فسمع عاطسًا على الشطّ حمد، فاكترى قاربًا بدرهم، حتى جاء إلى العاطس، فشمّته، ثم رجع، فسئل عن ذلك، فقال: لعله يكون مجاب الداعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلًا يقول: يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم.
قال النوويّ: ويستحب لمن حضر من عطس، فلم يحمد أن يذكّره بالحمد؛ ليحمد، فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعيّ، وهو من باب النصيحة، والأمر بالمعروف، وزعم ابن العربيّ أنه جهل من فاعله، قال: وأخطأ فيما زعم، بل الصواب استحبابه، قال الحافظ: احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها، قال: فلو جمع بينهما، فقال: الحمد لله، يرحمك الله جمع جهالتين، ما ذكرناه أولًا، وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس.
وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعيّ - أن رجلًا عطس عنده، فلم يحمد، فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله.
قلت
(1)
: وكأن ابن العربي أخذ بظاهر الحديث؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكِّر الذي عطس، فلم يحمد، لكن يحتمل أنه لم يكن مسلمًا، فلعل تَرْك ذلك لذلك، لكن يَحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرّفه الحكم، وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت، وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه، ففعل بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم شمّت من حمد، ولم يشمّت من لم يحمد. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي فعله أبو موسى رضي الله عنه الموافق لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو الذي يظهر لي، فلا ينبغي تذكيره، بل إن حمد يُشمّت، وإلا يُسكَت، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7457](2992)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(941)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 412)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 268)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 25)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 555)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الحمد للعاطس، وتشميته إذا عطس.
2 -
(ومنها): أنه إذا لم يحمد لا يستحقّ التشميت.
3 -
(ومنها): أن تشميت العاطس واجب على القول الراجح؛ لوروده بصيغة الأمر، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة:"فحقّ على كل مسلم سمعه أن يشمته"، وفي حديث أبي هريرة الآخر: "حق المسلم على المسلم ست
…
" فذكر فيها: "وإذا عطس
(1)
القائل هو الحافظ.
(2)
"الفتح" 14/ 123 - 124.
فحمد الله فشمته"، رواه مسلم، وللبخاريّ من وجه آخر عن أبي هريرة: "خمس تجب للمسلم على المسلم، فذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضًا، وفي حديث عائشة، عند أحمد، وأبي يعلى:"إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل من عنده: يرحمك الله"، ونحوه عند الطبرانيّ من حديث أبي مالك.
وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وقواه ابن القيم في "حواشي السنن"، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحقّ الدال عليه، وبلفظ "على" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء.
وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشد، وأبو بكر ابن العربيّ، وقال به الحنفية، وجمهور الحنابلة.
وذهب عبد الوهاب، وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب، لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض الكفاية يخاطَب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض، وأما من قال: إنه فرض على مبهم، فإنه ينافي كونه فرض عين، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول بكونه فرض عين هو الأظهر؛ لحديث البخاريّ: "فإذا عطس، فحمد الله، فحقّ على كل مسلم سمعه أن يشمته"، فهذا نصّ صريح في إيجابه على كلّ من سمعه، فالقول بأنه كفائيّ ينافي هذا النصّ الصريح، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتَّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7458]
(2993) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْن عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ:"يَرْحَمُكَ اللهُ"، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الرَّجُلُ مَزْكُومٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(وَكيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الحنفيّ اليماميّ، بصريّ الأصل [5]، تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) البغداديّ، لقبه قيصر [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
6 -
(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
7 -
(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه (64)، تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وهو مسلسلٌ بالتحديث.
شرح الحديث:
(عَن إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْن الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه (حَدَّثَهُ)، أي: حدث إياسًا (أَنَّهُ) أي: سلمة (سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَ) الحال أنه (عَطَسَ رَجُلٌ) لم يسمّ، (عِنْدَهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم:("يَرْحَمُكَ اللهُ") دعا له بأن يرحمه الله تعالى، (ثُمَّ عَطَسَ) الرجل (أُخْرَى)؛ أي: عطسة ثانية (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلُ مَزْكُومٌ") ظاهره أنه ما شمّته في المرّة الثانية، لكن أكثر الأحاديث على أنه يُشمّت على الثالثة، فترجّح على هذه الرواية.
قال النوويّ في "الأذكار": إذا تكرر العطاس متتابعًا فالسُّنَّة أن يشمّته لكل
مرة، إلى أن يبلغ ثلاث مرات، روينا في "صحيح مسلم"، وأبي داود، والترمذيّ عن سلمة بن الأكوع أنه "سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعطس عنده رجل، فقال له: يرحمك الله، ثم عطس أخرى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم"، هذا لفظ رواية مسلم، وأما أبو داود، والترمذيّ، فقالا: قال سلمة: "عطس رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا شاهد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية، أو الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، هذا رجل مزكوم". انتهى كلامه.
قال الحافظ رحمه الله: ونقلته من نسخة عليها خطه بالسماع عليه، والذي نسبه إلى أبي داود، والترمذيّ من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس:"يرحمك الله" ليس في شيء من نُسخهما، كما سأبيّنه، فقد أخرجه أيضًا أبو عوانة، وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، والنسائيّ، وابن ماجه، والدارميّ، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن السنيّ، وأبو نعيم أيضًا في "عمل اليوم والليلة"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقيّ في "الشُّعَب" كلهم من رواية عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم، وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحد منهم إعادة:"يرحمك الله" في الحديث، وكذلك ما نسبه إلى أبي داود، والترمذيّ أن عندهما:"ثم عطس الثانية، أو الثالثة" فيه نظم، فإن لفظ أبي داود:"أن رجلًا عطس"، والباقي مثل سياق مسلم سواء، إلا أنه لم يقل:"أخرى"، ولفظ الترمذيّ مثل ما ذكره النوويّ إلى قوله:"ثم عطس" فإنه ذكره بعده، مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده، وأخرجه من رواية يحيى القطان، فأحال به على رواية ابن المبارك، فقال نحوه، إلا أنه قال له في الثانية:"أنت مزكوم"، وفي رواية شعبة قال يحيى القطان، وفي رواية عبد الرحمن بن مهديّ قال له في الثالثة:"أنت مزكوم".
وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمار، وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرّض للثالثة، ورجّح الترمذي رواية من قال في الثالثة، على رواية من قال في الثانية.
وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النوويّ، وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في "مصنفه"، وابن عبد البرّ من طريقه قال: حدّثنا محمد بن عبد السلام، حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا يحيى القطان، حدّثنا
عكرمة، فذكره بلفظ:"عطس رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشمته، ثم عطس، فشمته، ثم عطس، فقال له في الثالثة: أنت مزكوم"، هكذا رأيت فيه:"ثم عطس، فشمته"، وقد أخرجه الإمام أحمد، عن يحيى القطان، ولفظه:"ثم عطس الثانية، والثالثة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم".
وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث، لكن الأكثر على ترك ذكر التشميت بعد الأُولى، وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع، عن عكرمة، بلفظ آخر:"قال: يشمَّت العاطس ثلاثًا، فما زاد فهو مزكوم"، وجعل الحديث كله من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأفاد تكرير التشميت، وهي رواية شاذّة؛ لمخالفة جميع أصحاب عكرمة بن عمار في سياقه، ولعل ذلك من عكرمة المذكور لمّا حدث به وكيعًا، فإن في حفظه مقالًا، فإن كانت محفوظة فهو شاهد قويّ لحديث أبي هريرة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح روايات عكرمة بن عمار هي رواية مسلم أنه صلى الله عليه وسلم شمّته في الأولى، وقال في الثانية مزكوم، ثم إن الرواية الثالثة أرجح من هذه؛ لأن بها العمل بالزائد، وهو أَولى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7458](2993)، و (أبو داود) في "الأدب"(5037)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2743)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(223)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(938)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 46 و 50)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 284)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 13)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(603)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 32)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3345)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): ظاهر حديث سلمة رضي الله عنه هذا أنه لا يُشرع التشميت في
الثازية، بل يقال: الرجل مزكوم، لكن الصحيح أنه يشمّت إلى الثالثة، قال في "الفتح": ويستفاد من الحديث مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث، إذا حمد الله، سواء تتابع عطاسه، أم لا، فلو تتابع، ولم يحمد لغلبة العطاس عليه، ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمَّت بعدد الحمد؟ فيه نظر، وظاهر الخبر نعم.
وقد أخرج أبو يعلى، وابن السنيّ من وجه آخر عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه:"إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث، فهو مزكوم، ولا يشمته بعد ثلاث".
قال النوويّ: فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح.
قال الحافظ: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحرانيّ، والحديث عندهما من رواية محمد بن سليمان، عن أبيه، ومحمد موثق، وأبوه يقال له: الحرانيّ ضعيف، قال فيه النسائيّ: ليس بثقة، ولا مأمون.
قال النوويّ: وأما الذي رويناه في "سنن أبي داود"، والترمذيّ عن عبيد بن رفاعة الصحابيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشمت العاطس ثلاثًا، فإن زاد فإن شئت فشمته، وإن شئت فلا" فهو حديث ضعيف، قال فيه الترمذيّ: هذا حديث غريب، وإسناده مجهول.
قال الحافظ: إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد؛ إذ لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولًا، فلم يُرِدْ جميع رجال الإسناد، فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته، وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود، والترمذيّ أخرجاه معًا من طريق عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه حُميدة، أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة، عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل، كما سأبيّنه، وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح، ويزيد هو أبو خالد الدالاني، وهو صدوق، في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين، وأمه حميدة روى عنها أيضًا زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصحابة؛ لكونه وُلد
في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله رؤية، قاله ابن السكن، قال: ولم يصح سماعه، وقال البغويّ: روايته مرسلة، وحديثه عن أبيه عند الترمذيّ والنسائيّ وغيرهما، وأما رواية الترمذيّ ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه، عن أبيها، كذا سماه عمر، ولم يسم أمه، ولا أباها، وكأنه لم يُمعن النظر، فمن ثَمّ قال: إنه إسناد مجهول، وقد تبين أنه ليس بمجهول، وأن الصواب يحيى بن إسحاق، لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان، وابن السنيّ، وأبو نعيم، وغيرهم، من طريق عبد السلام بن حرب، فقالوا: يحيى بن إسحاق، وقالوا: حميدة بغير شك، وهو المعتمَد.
وقال ابن العربيّ: هذا الحديث، وإن كان فيه مجهول، لكن يستحب العمل به؛ لأنه دعاء بخير وَصِلَة، وتودد للجليس، فالأَولى العمل به، والله أعلم.
وقال ابن عبد البرّ: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثًا، ويقال: أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها، فالعمل بها أَولى، ثم حكى النوويّ عن ابن العربيّ أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن تتابع عطسه: أنت مزكوم في الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة، قال: ومعناه أنك لست ممن يشمَّت بعدها؛ لأن الذي بك مرض، وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن.
قال: فإن قيل: فإذا كان مريضًا، فينبغي أن يشمّت بطريق الأَولى؛ لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره.
قلنا: نعم، لكن يدعى له بدعاء يلائمه، لا بالدعاء المشروع للعاطس، بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية.
وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرّر التشميت إذا تكرر العطاس، إلا أن يعرف أنه مزكوم، فيدعو له بالشفاء، قال: وتقريره أن العموم يقتضي التكرار، إلا في موضع العلة، وهو الزكام، قال: وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام؛ لأن التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكامًا أصلًا.
وتعقبه بأن المذكور هو العلة دون التعليل، وليس المعلَّل هو مطلق الترك
ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل: لا يلزم تكرر التشميت؛ لأنه مزكوم، قال: ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قد خُصّ من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة:
[الأول]: من لم يحمد، كما تقدم.
[الثاني]: الكافر، فقد أخرج أبو داود، وصححه الحاكم، من حديث أبي موسى الأشعريّ قال:"كانت اليهود يتعاطسون عند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله، ويصلح بالكم"، قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة: إن التشميت: الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا، قال: ولعل من خص التشميت بالدعاء بالرحمة بناه على الغالب؛ لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة.
قال الحافظ: وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع، فحديث أبي موسى دال على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت مخصوص، وهو الدعاء لهم بالهداية، وإصلاح البال، وهو الشأن، ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين، فإنهم أهل الدعاء بالرحمة، بخلاف الكفار.
[الثالث]: المزكوم إذا تكرر منه العطاس، فزاد على الثلاث، فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة، أو أكثر، لكن أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، قال:"يشمته واحدة، وثنتين، وثلاثًا، وما كان بعد ذلك فهو زكام" هكذا أخرجه موقوفًا، من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان، عن ابن عجلان كذلك، ولفظه:"شمِّت أخاك"، وأخرجه من رواية الليث، عن ابن عجلان، وقال فيه: لا أعلمه إلا ردعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس، عن ابن عجلان أيضًا، وفي "الموطأ" عن عبد الله بن أبي بكر،
(1)
"الفتح" 14/ 113 - 115.
عن أبيه، رفعه: "إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل: إنك مضنوك
(1)
"، قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثالثة، أو الرابعة، وهذا مرسل جيد.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال:"فشمته ثلاثًا، فما كان بعد ذلك فهو زكام".
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص: "شمتوه ثلاثًا، فإن زاد فهو داء، يخرج من رأسه"، موقوف أيضًا.
ومن طريق عبد الله بن الزبير: "أن رجلًا عطس عنده، فشمته، ثم عطس، فقال له في الرابعة: أنت مضنوك"، موقوف أيضًا.
ومن طريق عبد الله بن عمر مثله، لكن قال في الثالثة.
ومن طريق عليّ بن أبي طالب: "شمّته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح".
وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: يشمت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثًا.
[الرابع]: ممن يخص من عموم العاطسين من يَكره التشميت، قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عُرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالًا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه.
فإن قيل: كيف يترك السُّنَّة لذلك؟.
قلنا: هي سُنّة لمن أحبها، فأما من كرهها، ورغب عنها فلا، قال: ويطّرد ذلك في السلام، والعيادة، قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررًا، فأما غيره فيشمّت امتثالًا للأمر، ومناقضة للمتكبر في مرادها، وكسرًا لسورته في ذلك، وهو أَولى من إجلال التشميت.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل الذي ذكره ابن دقيق العيد رحمه الله هو الأَولى عندي.
قال الحافظ: ويؤيده أن لفظ التشميت دعاء بالرحمة، فهو يناسب المسلم كائنًا من كان، والله أعلم.
[الخامس]: قال ابن دقيق العيد: يستثنى أيضًا من عطس، والإمام
(1)
أي: مزكوم، والضُّناك بالضم، كالزُكام وزنًا ومعنى، قاله في "النهاية" ص 551.
يخطب، فإنه يتعاوض الأمر بتشميت من سمع العاطس، والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصات؛ لإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب، ولا سيما إن قيل: بتحريم الكلام، والإمام يخطب، وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب، أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب، فحمد، واستمر في خطبته فالحكم كذلك، وإن حمد فوقف قليلًا ليشمت، فلا يمتنع أن يشرع تشميته.
[السادس]: ممن يمكن أن يستثنى: من كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله تعالى، كما إذا كان على الخلاء، أو في الجماع، فيؤخر، ثم يحمد الله، فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة، هل يستحق التشميت؟ فيه نظر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي لا نظر فيه، بل يُشمّت؛ لعموم النصّ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7459]
(2994) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَفتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ [10]، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ [10] تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، من صغار [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ [8]، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
(1)
"الفتح" 14/ 113 - 117.
5 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الحرقيّ المدنيّ [5]، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ المدنيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ) قال ابن بطال رحمه الله: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة؛ أي: إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبًا؛ لأنها حالة تتغير فيها صورته، فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: قد بيّنا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، وأن كل فعل حَسَن نسبه الشرع إلى الملَك؛ لأنه واسطته، قال: والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء، وينشأ عنه النشاط، وذلك بواسطة الملك.
وقال النوويّ رحمه الله: أضيف التثاؤب إلى الشيطان، لأنه يدعو إلى الشهوات؛ إذ يكون عن ثقل البدن، واسترخائه، وامتلائه، والمراد: التحذير من السبب، الذي يتولد منه ذلك، وهو التوسع في المأكل
(1)
.
(فَإِذَا تَثَاءَبَ) بالهمز، ويقال: بالواو بدلها، قال في "الفتح": قوله: "تثاوب" كذا للأكثر، وللمستملي:"تثاءب" بهمزة بدل الواو، قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وقع في رواية المحبوبيّ عند الترمذي بالواو، وفي رواية السنجي بالهمز، ووقع عند البخاريّ، وأبي داود، بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود، وأما عند مسلم فبالواو، قال: وكذا هو في أكثر نُسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز، وقد أنكر الجوهريّ كونه بالواو، وقال: تقول: تثاءبت على وزن تفاعلت، ولا تقل: تثاوبت، قال: والتثاؤب أيضًا مهموز، وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوًا، والاسم: الثُّؤَباء، بضم، ثم همز،
(1)
"الفتح" 14/ 125.
على وزن الْخُيَلاء، وجزم ابن دريد، وثابت بن قاسم في "الدلائل" بأن الذي بغيم واو بوزن تيممت، فقال ثابت: لا يقال: تثاءب بالمدّ مخففًا، بل يقال تثأدب بالتشديد، وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثئوب: إذا استرخى، وكَسِل، وقال غير واحد: إنهما لغتان، وبالهمز، والمدّ أشهر. انتهى
(1)
.
(فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ) بفتح ياء المضارعة، وكسر الظاء المعجمة، من باب ضرب؛ أي: ليحبسه، وليمسكه بوضع اليد على الفم، أو تطبيق السنّ، وضم الشفتين
(2)
، وقوله:(مَا اسْتَطَاعَ)"ما" مصدرّية ظرفيّة؛ أي: مدّة استطاعته على الكظم، وفي الرواية الآتية:"فليُمسك بيده"، ولفظ البخاريّ:"فليردّه ما استطاع"؛ أي: يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه؛ لأن الذي وقع لا يُرَدّ حقيقة، وقيل: معنى إذا تثاءب: إذا أراد أن يتثاءب، وجوّز الكرمانيّ أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع.
زاد في الرواية الآتية: "فإن الشيطان يدخل"، وفي رواية البخاريّ:"فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان"، وفي رواية ابن عجلان:"فإذا قال: آه ضحك منه الشيطان".
وفي الرواية الثالثة: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة، فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل" هكذا قيّده بحالة الصلاة، وكذا هو عند الترمذيّ، ولفظه:"التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع"، وعاند ابن ماجه:"إذا تثاءب أحدكم، فليضع يده على فيه، ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7459](2994)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3289) و"الأدب"(6223 و 6226)، و (أبو داود) في "الأدب"(5028)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2746 و 2747)، و (النسائيّ) في "عمل
(1)
"الفتح" 14/ 125.
(2)
"تحفة الأحوذيّ" 2/ 307.
اليوم والليلة" (217)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (2315)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 265 و 428)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (3322)، و (الحاكم) في "المستدرك" (4/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (2/ 289)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (728)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن التثاؤب من عمل الشيطان، وبيان أن الشيطان متسلط على الإنسان في جميع أحواله.
2 -
(ومنها): الأمر بكظم التثاؤب بوضع اليد ونحوه.
3 -
(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": أكثر روايات "الصحيحين" فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى - هي في حديث أبي سعيد الخدريّ الآتي لمسلم بعد حديثين - تقييده بحالة الصلاة، فيَحْتَمِل أن يُحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قويّ في التشويش على المصلي في صلاته، وَيَحْتَمِل أن تكون كراهته في الصلاة أشدّ، ولا يلزم من ذلك أن لا يُكره في غير حالة الصلاة، وقد قال بعضهم: إن المطلق إنما يُحمل على المقيد في الأمر، لا في النهي، ويؤيد كراهته مطلقًا كونه من الشيطان، وبذلك صرح النوويّ.
قال ابن العربيّ رحمه الله: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خَصّ الصلاة؛ لأنها أَولى الأحوال بدفعه؛ لِمَا فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة، واعوجاج الخلقة.
وأما قوله: "ولا يعوي" فإنه بالعين المهملة، شبّه التثاؤب الذي يسترسل معه بعُواء الكلب، تنفيرًا عنه، واستقباحًا له، فإدن الكلب يرفع رأسه، ويفتح فاه، ويعوي، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه، ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه؛ لأنه صيّره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة.
4 -
(ومنها): أن قوله في رواية مسلم هنا: "فإن الشيطان يدخل" قيل: يَحْتَمِل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم، لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكرًا لله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر، فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة. وَيحْتَمِل أن يكون أطلق
الدخول، وأراد التمكن منه؛ لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنًا منه.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الأَولى؛ لظاهر النصّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن الأمر بوضع اليد على الفم يتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب، فيغطي بالكفّ ونحوه، وما إذا كان منطبقًا حفظًا له عن الانفتاح بسبب ذلك، وفي معنى وضع اليد على الفم وَضْع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك، المقصود، وإنما تتعين اليد إذا لم يرتدّ التثاؤب بدونها، ولا فرق في هذا الأمر بين المصلي وغيره، بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم.
6 -
(ومنها): ما قيل: إنه يستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه، ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يُمسك عن القراءة، حتي يذهب عنه؛ لئلا يتغير نظم قراءته، وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد، وعكرمة، والتابعين المشهورين.
[تنبيه]: من الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاريّ في "التاريخ" من مرسل يزيد بن الأصم، قال:"ما تثاءب النبيّ صلى الله عليه وسلم قط"، وأخرج الخطابيّ من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال:"ما تثاءب نبيّ قط"، ومسلمة أدرك بعض الصحابة، وهو صدوق، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان، ووقع في "الشفاء" لابن سبع أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى؛ لأنه من الشيطان
(1)
. والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7460]
(2995) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنًا لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، يُحَدِّثُ أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ").
(1)
"الفتح" 14/ 126 - 127.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ) البصريّ [10]، تقدم في "اللإيمان" 8/ 137.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ [8] تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 41/ 161.
4 -
(ابْنٌ لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) هو عبد الرحمن الآتي في السند التالي المدنيّ [3]، تقدم في "الحيض" 16/ 774.
5 -
(أَبُوه) أبو سعيد الخدريّ سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ رضي الله عنهما، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 485.
وشرح الحديث يُعلم مما قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7460 و 7461 و 7462 و 7463](2995)، و (أبو داود) في "الأدب"(5026 و 5067)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3325)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 96)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 321)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2360)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(221)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 289)، و (البغويّ،) في "شرح السُّنَّة"(3347)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7461]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن محمد الدراورديّ المدنيّ [8]، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا قبله، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى الكلام فيه في الذي قبله.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7426]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاهِّ، فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفي [9]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7463]
(
…
) - (حَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، وعَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أخو أبي بكر المذكور قبله [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ [8]، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وعَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ) بالواو عطف على "أبيه"، فسهيل يرويه عن كلّ من أبيه، وابن أبي سعيد، وهو عبد الرحمن المتقدّم، وأما ما وقع في بعض النسخ بلفظ:"أو عن ابن أبي سعيد" بـ "أو" فغلط، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن سهيل هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2360)
- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا جرير، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، وعن ابن أبي سعيد الخدريّ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل". انتهى
(1)
.
(12) - (بَابٌ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ)
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ترجم في النسخة الهنديّة بهذا اللفظ، وترجم الأبيّ بلفظ:"أحاديث مختلفة"، وهما متقاربان، ثم أوردا الأحاديث من هنا إلى باب "النهي عن المدح" كلها تحت هذه الترجمة، وهو الصواب، وأما ما وقع في بعض النسخ من الترجمة المختلفة عند كل حديث تقريبًا بعد هذه الترجمة فمما لا وجه له، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7464]
(2996) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ
(2)
، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوريّ [11]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ [10]، تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
(1)
"صحيح ابن حبان" 6/ 124.
(2)
وفي نسخة: "وخلق الجانّ من نار".
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همام الصنعانيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة اليمنيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم [4]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير [3]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 407.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ) بالبناء للمفعول (الْمَلَائِكَةُ) جمع مَلَك بفتح اللام، فقيل مخفف من مالك، وقيل: مشتق من الألوكة، وهي الرسالة، وهذا قول سيبويه، والجمهور، وأصله لاك، وقيل: أصله الْمَلْك، بفتح، ثم سكون، وهو الأخذ بقوّة، وحينئذٍ لا مدخل للميم فيه، وأصل وزنه مفعل، فتُركت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال، وظهرت في الجمع، وزيدت الهاء إما للمبالغة، وإما لتأنيث الجمع، وجُمع على القلب، وإلا لقيل: مالكة، وعن أبي عبيدة: الميم في الملك أصلية، وزنه فَعَلٌ، كأسد، هو من الْمَلْك، بالفتح، وسكون اللام، وهو الأخذ بقوّة، وعلى هذا فوزن ملائكة فعائلة، ويؤيده أنهم جوّزوا في جمعه أملاك، وأفعال لا يكون جمعًا لِمَا في أوله ميم زائدة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَلَكَ بين القوم ألْكًا، من باب ضرب، وأُلُوكًا أيضًا: تَرَسَّل، واسم الرسالة: مَأْلُكٌ، بضمّ اللام، ومَأْلَكَةٌ أيضًا بالهاء، ولامها تضم، وتفتح، والملائِكَةُ مشتقة من لفظ الأُلُوكِ، وقيل: من المَالَك، الواحد مَلَكٌ، وأصله مَلْأكٌ، ووزنه مَعْفَلٌ، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، فوزنه مَعَل، فإنَّ الفاء هي الهمزة، وقد سقطت، وقيل: مأخوذ من لَأَكَ: إذا أرسل، فَمَلْأَك مَفْعَلٌ، فنُقلت
(1)
"الفتح" 6/ 306.
الحركة، وسقطت الهمزة، وهي عين، فوزنه مَفَلٌ، وقيل فيه غير ذلك. انتهى
(1)
.
(مِنْ نُورٍ)، أي: من جواهر مضيئة منيرة، فكانوا خيرًا محضًا
(2)
.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: النور: جسم لطيف، مشرق، وفسَّره صاحب "الصحاح" بالضياء، وذكر بعضهم أن الضياء أبلغ منه، بدليل قوله تعالى:{جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، وأما قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] حيث شبّه هداه بالنور، ولم يشبّهه بالضياء، فأجيب عنه بأنه لو شُبِّه بالضياء لزم أن لا يضل أحد، بخلاف النور، كضوء القمر، فإنه يقع معه الضلال لمن أراد الله تعالى ذلك منه، ويُطلق النور أيضًا على جميع النار، وليس مرادًا هنا، ولم ينحصر النور في ضوء النار، فالملائكة خلقوا من ضوء، لا من نار، والله أعلم بنوع ذلك الضوء، ولو كان من ضوء نار لم يلزم عليه محذور، فالمخلوق من ضوء النار غير مخلوق من النار. انتهى
(3)
.
(وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ)
(4)
؛ أي: من نار مختلطة بهواء مشتعل، والمرج: الاختلاط، فهو من عنصرين هواء ونار، كما أن آدم من عنصرين تراب وماء عُجن به، فحدث له اسم الطين، كما حَدَث للجن اسم المارج
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "من مارج من نار": أي: من شواظّ ذي لهب، واتّقاد، ودخان، فكانوا شرًّا محضًا، والخير فيهم قليل
(6)
.
(وَخُلِقَ آدَمُ) عليه السلام (مِمَّا وُصِفَ) بالبناء للمفعول، (لَكُمْ")؛ أي: من تراب ضيِّر طينًا، ثم فَخارًا، كما أخبرنا به تعالى في غير موضع من كتابه، والفخار: الطين اليابس، وفي الخبر:"إن الله تعالى لمّا خلق آدم أمر من قبض قبضة من جميع أجزاء تراب الأرض، فأخذ من حَزْنها، وسهلها، وأحمرها، وأسودها، فجاء ولد كذلك"، قاله القرطبيّ
(7)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "وخُلق آدم مما وُصف لكم" ببناء "وُصف"
(1)
"المصباح المنير" 1/ 18 - 19.
(2)
"المفهم" 7/ 315.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 266.
(4)
وفي نسخة: "وخلق الجانّ من نار".
(5)
"فيض القدير" 3/ 450.
(6)
"المفهم" 7/ 315.
(7)
"المفهم" 7/ 315.
للمفعول، أي: مما وصفه الله تعالى لكم في مواضع من كتابه، ففي بعضها أنه خلقه من ماء، وفي بعضها من تراب، وفي بعضها من المركَّب منهما، وهو الطين، وفي بعضها من صلصال، وهو طين ضربته الشمس والريح، حتى صار كالفخار.
قال الغزاليّ: قد اجتمع في الفخار النار والطين، والطين طبعه السكون، والنار طبعها الحركة، فلا يتصور نار مشعلة تسكن، بل لا تزال تتحرك بطبعها، وقد كُلِّف المخلوق من النار أن يطمئن من حركته ساجدًا لِمَا خُلق من طين، فأبى، واستكبر أن يسجد لآدم، فلا مطمع في سجوده لأولاده، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7464](2996)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 425)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 153 و 168)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 277 و 278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6155)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1479)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 3) في "الأسماء والصفات"(ص 385 - 386)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال بعضهم: إنما قال: "مما وُصف لكم" ولم يقل كما قال فيما قبله؛ طلبًا للاختصار، فإنه أوتي جوامع الكلم، وهذا منها، إذ الملائكة لم يَختلف أصل خلقتها، ولا الجانّ، وأما الإنسان فاختلف خلقه على أربعة أنواع، فخَلْق آدم لا يشبه خلق حواء، وخَلْق حواء لا يشبه خلق آدم، وخلق عيسى لا يشبه خلق الكل، فأحال على ما وصل إلينا من تفصيل خلق الإنسان، ولمّا كان خلق الجانّ من نار كان فيه طلب القهر، والاستكبار، فإن المار أرفع الأركان مكانًا، ولها سلطان على الإحالة، فلذلك قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وما عَلِم أن سلطان الماء الذي خُلق منه آدم أقوى منه، فإنه يُذهبه، والتراب أثبت منه، لبرده ويُبسه، فلآدم القوة والثبوت لغلبة ذينك الركنين عليه، وإن كان فيه الآخران، لكن ليس لهما ذلك السلطان، وأعطى آدم
التواضع؛ للطينة، فإن تكبر فلعارض بقلبه، لما فيه من النارية، كما يقبل اختلاف الصور في خياله، وأحواله من الهوائية، وأعطى الجانّ التكبر؛ للنارية، فإن تواضع فلعارض؛ لِمَا فيه من الترابية، كما يقبل الثبات على الإغواء، إن كان شيطانًا، وعلى الطاعة إن لم يكن، ففيهم الطائع والعاصي، ولهم التشكل في أي صورة شاؤوا، وفيهم التناسل، كما مر
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في هذا الحديث إثبات وجود الملائكة، وأنهم مخلوقون من نور، قال في "الفتح": قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة، أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة، ومسكنها السماوات، وأبطل من قال: إنها الكواكب، أو إنها الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها، وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها، وقد جاء في صفة الملائكة، وكثرتهم أحاديث:
منها: ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "خُلقت الملائكة من نور
…
" الحديث.
ومنها: ما أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، والبزار، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا: "أَطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملَك ساجد
…
" الحديث.
ومنها: ما أخرجه الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "ما في السماوات، السبع موضع قدم، ولا شبر، ولا كفّ إلا وفيه ملك قائم، أو راكع، أو ساجد".
وللطبرانيّ نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وذكر في "ربيع الأبرار" عن سعيد بن المسيِّب قال: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا، ولا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يتوالدون.
قال الحافظ: وفي قصة الملائكة مع إبراهيم وسارة ما يؤيد أنهم لا يأكلون.
وأما ما وقع في قصة الأكل من الشجرة أنها شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة، فليس بثابت.
(1)
"فيض القدير" 3/ 450.
وفي هذا وما ورد من القرآن ردّ على من أنكر وجود الملائكة، من الملاحدة.
قال: ومن أدلة كثرتهم ما يأتي في حديث الإسراء: "أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون".
وقد جاء ذِكر بعض من اشتهر من الملائكة، كجبريل، ووقع ذكره في أحاديث كثيرة، وميكائيل، وهو في حديث سمرة وحده، والملَك الموكل بتصوير ابن آدم، ومالك خازن النار، وملك الجبال، والملائكة الذين في كل سماء، والملائكة الذين ينزلون في السحاب، والملائكة الذين يدخلون البيت المعمور، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، ووقع ذِكر الملائكة على العموم في كونهم لا يدخلون بيتًا فيه تصاوير، وأنهم يؤمِّنون على قراءة المصلي، ويقولون:"ربنا ولك الحمد"، ويدعون لمنتظر الصلاة، ويلعنون من هجرت فراش زوجها.
فأما جبريل فقد وصفه الله تعالى بأنه روح القدس، وبأنه الروح الأمين، وبأنه رسول كريم ذو قوة مكين مطاع أمين، ومعناه عبد الله، وهو وإن كان سريانيًا، لكنه وقع فيه موافقة من حيث المعنى للغة العرب؛ لأن الجبر هو إصلاح ما وَهَى، وجبريل موكل بالوحي الذي يحصل به الإصلاح العام، وقد قيل: إنه عربيّ، وإنه مشتق من جبروت الله، واستُبعد؛ للاتفاق على منع صرفه.
وروى الطبريّ عن أبي العالية، قال. جبريل من الكروبيين، وهم سادة الملائكة.
وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: على أيّ شيء أنت؟ قال: على الريح والجنود، قال: وعلى أي شيء ميكائيل؟ قال: على النبات والقطر، قال: وعلى أي شيء ملك الموت؟ قال: على قبض الأرواح
…
" الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضُعِّف لسوء حفظه، ولم يترك.
وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في كيفية خلق آدم ما يدل على أن خلق جبريل كان قبل خلق آدم، وهو مقتضى عموم قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] وفي التفسير أيضًا أنه يموت قبل موت ملك الموت، بعد فناء العالم، والله أعلم.
وأما ميكائيل، فروى الطبراني عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكًا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار".
قال: ومن مشاهير الملائكة: إسرافيل، وقد روى النقاش أنه أول من سجد من الملائكة، فجوزي بولاية اللوح المحفوظ.
وروى الطبراني من حديث ابن عباس أنه الذي نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخيّره بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًّا ملِكًا، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا.
وروى أحمد، والترمذيّ عن أبي سعيد قال: قال رسولى الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له
…
" الحديث.
وعن علي رضي الله عنه أنه ذكر الملائكة، فقال:"منهم الأمناء على وحيه، والحفظة لعباده، والسدنة لجِنانه، والثابتة في الأرض السفلى أقدامهم، المارقة من السماء العليا أعناقهم، الخارجة عن الأقطار أكنافهم، الماسة لقوائم العرش أكتافهم". انتهى ملخّصًا من"الفتح"
(1)
.
(المسألة الخامسة): في هذا الحديث إثبات الجنّ، وأنهم مخلوقون من مارج من نار، ولم يُنكر وجودهم إلا أهل الأهواء الزائغة، فقد نقل إمام الحرمين في "الشامل" عن كثير من الفلاسفة، والزنادقة، والقدرية، أنهم أنكروا وجودهم رأسًا، قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن، والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، قال: وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم، ولو شاؤوا لأبدوا أنفسهم، قال: وإنما يستبعد ذلك من لم يُحِطْ علمًا بعجائب المقدورات.
وقال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم، وينفونه الآن،
(1)
"الفتح" 7/ 514 - 517.
ومنهم من يثبتهم، وينفي تسلطهم على الإنس، وقال عبد الجبار المعتزليّ: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل؛ إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة؛ لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلّق، ولو كان إثباتهم باضطرار لَمَا وقع الاختلاف فيه إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده.
واختُلف في صفتهم، فقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ: قال بعض المعتزلة: الجن أجساد رقيقة بسيطة، قال: وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبتٌ به سَمْع.
وقال أبو يعلى بن الفراء: الجنّ أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافًا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود، فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة، إذا لم يخلق الله فينا إدراكها.
وروى البيهقيّ في مناقب الشافعيّ بإسناده، عن الربيع: سمعت الشافعيّ يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبيًّا. انتهى.
وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خُلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان، فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف أهل الكلام في ذلك، فقيل: هو تخييل فقط، ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، وقيل: بل ينتقلون، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأول، وفيه أثر عن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح:"أن الغيلان ذُكروا عند عمر، فقال: إن أحدًا لا يستطيع أدن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسَحَرَتِكم، فإذا رأيتم ذلك فأَذِّنوا".
وإذا ثبتٌ وجودهم فقد اختُلف في أصلهم، فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرًا سمي شيطانًا، وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يقوي أنهم نوع
واحد، من أصل واحد، اختَلَف صنفه، فمن كان كافرًا سمي شيطانًا، وإلا قيل له: جني.
وأما كونهم مكلفين، فقال ابن عبد البرّ: الجن عند الجماعة مكلفون، وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلفين، قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين، والتحرز من شرهم، وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر، وارتكب النهي، مع تمكّنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًّا.
وإذا تقرر كونهم مكلَّفين فقد اختلفوا، هل كان فيهم نبي منهم أم لا؟ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال: ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلًا، أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه، وهو فاسد. انتهى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قِبَل الله إليهم، ورسل الجن بثّهم الله في الأرض، فسمعوا كلام الرسل من الإنس، وبلّغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] الآية، واحتج ابن حزم بأنه صلى الله عليه وسلم قال:"وكان النبي يبعث إلى قومه"، قال: وليس الجن من قوم الإنس، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم، قال: ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لعموم بعثته إلى الجن والإنس باتفاق. انتهى.
وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الإنس والجن، وهذا مما فُضِّل به على الأنبياء عليهم السلام، ونُقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] قال: هو رسول الجن، وهكذا ذكره.
وقال إمام الحرمين في "الإرشاد" في أثناء الكلام مع العيسوية: وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ادعى كونه مبعوثًا إلى الثقلين.
وقال ابن تيمية: اتَّفق على ذلك علماء السلف من الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين.
قال الحافظ: وثبت التصريح بذلك في حديث: "وكان النبيّ يُبعث إلى قومه، وبُعثت إلى الإنس والجن"، فيما أخرجه البزار بلفظ. وعن ابن الكلبيّ: كان النبيّ يُبعث إلى الإنس فقط، وبُعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن.
وإذا تقرر كونهم مكلَّفين، فهم مكلَّفون بالتوحيد، وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع، فاختُلف فيه، لِمَا ثبتٌ من النهي عن الروث والعظم، وأنهما زاد الجن، وفي حديث أبي هريرة: "فقلت: ما بال الروث والعظم؟ قال: هما طعام الجن
…
" الحديث، فدل على جواز تناولهم للروث، وذلك حرام على الإنس، وكذلك روى أحمد، والحاكم، من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "خرج رجل من خيبر، فتبعه رجلان، وآخر يتلوهما، يقول: ارجعا حتى ردَّهما، ثم لحقه، فقال له: إن هذين شيطانان، فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنّا في جَمْع صدقاتنا، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه، فلما قدم عليه الرجل المدينة، أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فنهى عن الخلوة"؛ أي: السفر منفردًا.
واختُلف أيضًا هل يأكلون، ويشربون، ويتناكحون أم لا؟ فقيل: بالنفي، وقيل: بمقابله، ثم اختلفوا، فقيل: أكْلهم وشُربهم تشمم، واسترواح، لا مضغ، ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود من حديث أمية بن مخشي قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، ورجل يأكل، ولم يسمّ، ثم سمى في آخره، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما زال الشيطان يأكل معه، فلما سمى استقاء ما في بطنه".
وروى مسلم من حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله".
وروى ابن عبد البرّ عن وهب بن منبه: أن الجن أصناف، فخالصهم ريح، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك، ومنهم السعالى، والغول، والقطرب، وهذا إن ثبت كان جامعًا للقولين الأولين.
ويؤيده ما روى ابن حبان، والحاكم، من حديث أبي ثعلبة الخشنيّ قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في
الهواء، وصنف حيات، وعقارب، وصنف يَحِلّون، ويَظعنون".
وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا نحوه، لكن قال في الثالث:"وصنف عليهم الحساب والعقاب".
وروى ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، أحد ثقات الشاميين، من صغار التابعين قال: ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن، وإذا وُضع الغداء نزلوا، فتغدوا معهم، والعشاء كذلك.
واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74]، وبقوله تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] والدلالة من ذلك ظاهرة، واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خُلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد، والجواب أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طينًا حقيقة، كذلك الجنيّ ليس نارًا حقيقة.
وقد وقع في "الصحيح" في قصة تعرض الشيطان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فأخذته، فخنقته حتى وجدت بَرْد ريقه على يدي".
وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 10] فقال: كيف تحرق النار النار؟
وأما ثوابهم، وعقابهم فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي، واختُلف هل يثابون؟ فروى الطبريّ، وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفًا قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال الله لمؤمن الجنّ، وسائر الأمم؛ أي: من غير الإنس: كونوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].
وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يُجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا. وروي عن أبي حنيفة نحو هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أنهم يُثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة، والأوزاعيّ، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
ثم اختلفوا هل يدخلون مدخل الإنس على أربعة أقوال: أحدها: نعم، وهو قول الأكثر. وثانيها: يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك،
وطائفة. وثالثها: أنهم أصحاب الأعراف. ورابعها: التوقف عن الجواب في هذا.
وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف، قال: قال ابن أبي ليلى في هذا: لهم ثواب، قال فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]، قال الحافظ: وإلى هذا أشار البخاريّ بقوله قبلها: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]، فإن قوله:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] يلي الآية التي بعد هذه الآية.
واستدل بهذه الآية أيضًا ابن عبد الحكم، واستدل ابن وهب بمثل ذلك بقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأحقاف: 18] الآية، فإن الآية بعدها أيضًا:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} .
وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مغيث بن سمي أحد التابعين قال: ما من
شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب.
ونقل عن مالك أنه استدلّ على أن عليهم العقاب ولهم الثواب بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، ثم قال:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن: 47] والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الجمهور القائلين بأنهم يثابون، ويعاقبون هو الصحيح، لظواهر الآيات المذكورة، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7465]
(2997) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْغنَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، جَمِيعاَ عَنِ الثَّقَفِيِّ - اللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ؟، وَلَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ، أَلَا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ، لَمْ تَشْرَبهُ، وَإذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ كَعْبًا، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ
مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، قُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ: "لَا نَدْرِي مَا فَعَلَتْ؟ ").
رجال هذا الإسناد: سبعةٌ:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزمن البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) أبو جعفر البغداديّ [10] تقدم في "الجهاد والسير" 27/ 4601.
4 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ [8]، تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
5 -
(خَالِدُ) بن مِهْران، أبو المنازل الحذّاء البصريّ [5]، تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر البصريّ [3]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 308.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير إسحاق، والرزّيّ، كما أسلفته، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فُقِدَتْ) بالبناء للمفعول، (أُمَّةٌ)؛ أي: جماعة وطائفة (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يُدْرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يُعلم (مَا فَعَلَتْ؟)، أي: أيّ شيء صنعت، هل هي موجودة، أم هالكة، (وَلَا أُرَاهَما) بضمّ الهمزة، وفتحها؛ أي: لا أظنّها (إِلَّا الْفَأْرَ) جمع فأرة، وهذا ظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنها هي، وإنما أخبر بظنّه، وهذا قبل أن يوحى إليه بأن الممسوخ لا نسل له، والله تعالى أعلم، ثم استدلّ
علي ما ظنّه بقوله: (أَلَا) أداة تحضيض، (تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ) بالبناء للمفعول، (لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ، لَمْ تشْرَبْهُ)؛ أي: لأن بني إسرائيل حُرّمت عليهم لحوم الإبل، وألبانها، فامتناعها من شُرب لبنها دليل على أنها من الممسوخين من بني إسرائيل، (وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ) جمع شاة، (شَرِتَبْهُ) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها حُرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم، وألبانها، فدلّ امتناع الفأرة من لبن الإبل دون الغنم على أنها مسخ من بني إسرائيل. انتهى.
(قَالَ أَبُو هرَيْرَةَ) رضي الله عنه، هو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه.
(فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ كَعْبًا) هو: كعب بن ماتع الْحِمْيريّ، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، ثقة من الطبقة الثانية، مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، ومات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد زاد على المائة، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 92/ 497.
(فَقَالَ) كعب لأبي هريرة (آنْتَ) بمد الهمزة، أصله: أأنت بهمزتين، أُولاهما للاستفهام، فأُبدلت الثانية ألفًا. (سَمِعْتَهُ)، أي: هذا الحديث (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) قال أبو هريرة: (قُلْتُ: نَعَمْ) سمعته منه، (قَالَ) كعب (ذَلِكَ مِرَارًا) للتأكّد من الخبر، قال أبو هريرة (قُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟) بهمزة الاستفهام الإنكاريّ، وفي الرواية التالية:"أفأُنزلت عليّ التوراة؟ "؛ أي: لا علم عندي إلا ما سمعته منه صلى الله عليه وسلم.
قال في "الفتح": وفي سكوت كعب عن الردّ على أبي هريرة دلالة على تورعه، وكأنهما جميعًا لم يبلغهما حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:"وذُكر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم القردة، والخنازير، فقال: إن الله لم يجعل للمسخ نسلًا، ولا عَقِبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك"، وعلى هذا يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أراها إلا الفأر"، وكانه كان يظن ذلك، ثم أُعلم بأنها ليست هي، قال ابن قتيبة: إن صح هذا الحديث، وإلا فالقردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها، توالدت.
قال الحافظ: الحديث صحيح. انتهى.
وقوله: (قَالَ إِسْحَاقُ) هو ابن إبراهيم ابن راهويه شيخه الأول، وغرضه منه بيان أختلاف شيوخه في هذه الجملة، فقال إسحاق (فِي رِوَايَتِهِ:"لَا نَدْرِي مَا فَعَلَتْ؟ ")؛ أي: ببناء الفعل للفاعل، وإسناده إلى ضمير المتكلم، ومعه
غيره، وقال ابن المثنّى، والرّزّيّ:"لا يُدرى ما فعلت" ببناء الفعل للمفعول، وإسناده إلى "ما فعلت"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7465 و 7466](2997)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3305)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 497)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6031 و 6060 و 6061)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6258)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(867)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3271)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات مسخ الآدميّ إلى شكل الحيوانات الأخرى، والله على كلّ شيء قدير.
2 -
(ومنها): أن فيه إثبات الاجتهاد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بدلائل وقرائن تظهر له، دون أن يأتيه الوحي بذلك، ومن جملته هذا الحديث، ثم أعلمه الله عز وجل بأن الواقع خلاف ما ظنّه، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: وذكرت عنده - يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم القردة، والخنازير، من مسخ، فقال:"إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا، ولا عقبًا، وقد كانت القردة، والخنازير قبل ذلك"، رواه مسلم.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وأن الصحابيّ الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، يكون للحديث حُكم الرفع، قاله في "الفتح"
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7466]
(
…
) - (وَحَدَّثَني أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "الْفَأْرَة مَسْخٌ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُوضَعُ
(1)
"الفتح" 6/ 253.
بَيْنَ يَدَيْهَا لَبَنُ الْغَنَمِ، فَتَشْرَبُهُ، وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا لَبَنُ الإِبِلِ، فَلَا تَذُوقُهُ"، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ: أَفأُنْزِلَتْ عَلَيَّ التَّوْرَاةُ؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ [10]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَة) حماد بن أسامة الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان القردوسيّ البصريّ [6] تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله.
وقوله: (أفأنزلت علي التوراة؟) هو بهمزة الاستفهام، وهو استفهام إنكار، ومعناه: ما أعلم، ولا عندي شيء إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أنقل عن التوراة، ولا غيرها من كتب الأوائل شيئًا، بخلاف كعب الأحبار وغيره، ممن لها علم بعلم أهل الكتاب
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7467]
(2998) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(لَيْثُ) بن سعد، أبو الحارث الفهميّ الإمام المصريّ [7]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 412.
2 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ المصريّ [6]، تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
3 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) سعيد الفقيه المدنيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
(1)
"الفتح"589.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) وفي رواية يونس، عن الزهريّ:"أخبرني سعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة حدثه" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وكذا قال أصحاب الزهري فيه، وخالفهم صالح بن أبي الأخضر، وزمعة بن صالح، وهما ضعيفان، فقالا:"عن الزهريّ، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه"، أخرجه ابن عدي من طريق المعافى بن عمران، عن زمعة، وابن أبي الأخضر، واستغربه من حديث المعافى قال: وأما زمعة فقد رواه عنه أيضًا أبو نعيم، أخرجه أحمد عنه، ورواه عن زمعة أيضًا أبو داود الطيالسيّ، في "مسنده"، وأبو أحمد الزبيريّ، أخرجه ابن ماجه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ) برفع "يلدغ" على أن "لا" ناهية، وبرفعه على أنها نافية، فيكون خبرًا، قال الخطابيّ: هذا لفظه خبر، ومعناه أمر؛ أي: لِيَكُنِ المؤمنُ حازمًا حَذِرًا، لا يؤتى من ناحية الغفلة، فيُخدعَ مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدِّين، كما يكون في أمر الدنيا، وهو أَولهما بالحذر، وقد رُوي بكسر الغين في الوصل، فيتحقق معنى النهي عنه.
قال ابن التين: وكذلك قرأناه، قيل: معنى "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" أن من أذنب ذنبًا، فعوقب به في الدنيا، لا يعاقَب به في الآخرة.
قال الحافظ: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا، فيمكن، وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه تحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة.
وقال أبو عبيد: معناه: ولا ينبغي للمؤمن إذا نُكِب من وجه أن يعود إليه، قال الحافظ: وهذا هو الذي فهمه الأكثر، ومنهم الزهريّ راوي الخبر،
(1)
"الفتح" 13/ 705.
فأخرج ابن حبّان من طريق سعيد بن عبد العزيز، قال: قيل للزهريّ: لَمّا قَدِم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا ابن شهاب تعود تَدّان؟ قلت: لا، وذكر الحديث.
وقال أبو داود الطيالسيّ بعد تخريجه: لا يعاقب في الدنيا بذنب، فيعاقبَ به في الآخرة، وحَمَله غيره على غير ذلك، قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث: الكامل الذي قد أوقفته معرفته على غوامض الأمور، حتى صار يحذر مما سيقع، وأما المؤمن المغفل فقد يُلدغ مرارًا.
(مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ") قال في "الفتح": ووقع في بعض النسخ: "من جحر حيّة"، وهي زيادة شاذّة، قال ابن بطال: وفيه أدب شريف، أَدّب به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته، ونبّههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته، وفي معناه حديث:"المؤمن كَيِّسٌ حَذِرٌ"، أخرجه صاحب "مسند الفردوس" من حديث أنس بسند ضعيف، قال: وهذا الكلام مما لم يُسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عَزّة الْجُمَحيّ، وكان شاعرًا، فأُسر ببدر، فشكى عائلة، وفقرًا، فمَنَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلقه بغير فداء، فظَفِر به بأُحُد، فقال: مُنّ عليّ، وذكر فقره وعياله، فقال:"لا تمسح عارضيك بمكة، تقول: سخرت بمحمد مرتين"، وأمر به فقُتل.
وأخرج قصته ابن إسحاق في "المغازي" بغير إسناد، وقال ابن هشام في "تهذيب السيرة": بلغني عن سعيد بن المسيِّب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال حينئذٍ: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".
وصنيع أبي عبيد في "كتاب الأمثال" مشكل على قول ابن بطال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أول من قال ذلك، ولذلك قال ابن التين: إنه مَثَل قديم.
وقال التوربشتيّ: هذا السبب يضعّف الوجه الثاني؛ يعني: الرواية بكسر الغين، على النهي.
وأجاب الطيبيّ بأنه يوجَّه بأن يكون صلى الله عليه وسلم لمّا رأى من نفسه الزكية الميل إلى الحلم جرّد منها مؤمنًا حازمًا، فنهاه عن ذلك، يعني: ليس من شميمة المؤمن الحازم الذي يَغضب لله، أن ينخدع من الغادر المتمرّد، فلا يستعمل الحِلم في حقه، بل ينتقم منه، ومن هذا قول عائشة رضي الله عنه:"ما انتقم لنفسه، إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها".
قال: فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودًا مطلقًا، كما أن الجود ليس
محمودًا مطلقًا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، قال: وعلى الوجه الأول وهو الرواية بالرفع، فيكون إخبارًا محضًا، لا يُفهم هذا الغرض المستفاد من هذه الرواية، فتكون الرواية بصيغة النهي أرجح.
قال الحافظ: ويؤيده حديث: "احترسوا من الناس بسوء الظن"، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق أنس، وهو من رواية بقية بالعنعنة، عن معاوية بن يحيى، وهو ضعيف، فله علتان، وصحّ من قول مطرِّف التابعي الكبير، أخرجه مسدد، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7467 و 7468](2998)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6133)، و (أبو داود) في "الأدب"(4862)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3982)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 379)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 319)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(663)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 320 و 10/ 129) وفي "الآداب"(582)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3507)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن صفة المؤمن أن يكون حذرًا، فطنًا، غير مغفّل، فإن وقع في ورطة مّا، فليحذر كلّ الحذر أن يقع في مثلها، وذلك بالبعد عن أسبابها، وسدّ الطرق التي تؤدي إليها.
2 -
(ومنها): أنه يستفاد من هذا الحديث أن الحِلم ليس محمودًا مطلقًا، كما أن الجود ليس محمودًا مطلقًا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فجَمَع لهم بين الوصفين، وهو الشدة والرحمة، ولكن لكلّ منهما مقام، فلا يُستعمل أحدهما في موضع الآخر، فتنبّه.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" هذا مَثَل صحيح، وقول بليغ ابتكره النبيّ صلى الله عليه وسلم من فوره، ولم يسمع من غيره، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو، أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير، كان يهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤذيه، ويؤذي المسلمين،
فأمكن الله تعالى منه يوم بدر، فأُخذ أسيرًا، وجيء به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يمنّ عليه، ولا يعود لشيء مما كان يفعله، فمنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فأطلقه، فرجع إلى مكة، وعاد إلى أشد مما كان عليه، فلما كان يوم أُحد، أمكن الله منه، فأُسر، فأحضر بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يمنّ عليه، فقال لى النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، والله لا تمسح عارضيك بمكة أبدًا"، فأمر بقتله، وأصل هذا المَثَل أن الذي يُلدغ من جُحر لا يعيد يده إليه أبدًا، إذا كان فطنًا حذرًا، بل ولا لِمَا يُشبهه، فكذلك المؤمن لكياسته، وفطانته، وحذره إذا وقع في شيء مما يضره في دينه، أو دنياه لا يعود إليه.
والرواية المعروفة: "لا يلدغ" بضم الغين، وكذلك قرأته على الخبر، وهو الذي يشهد له سبب الخبر، ومساقه، وقد قيّده بعضهم بسكون الغين على النهي، وفيه بعدٌ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7468]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ [10] تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ [11] تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله الحافظ العابد المصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، من كبار [7] تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قريبًا.
(1)
"المفهم" 6/ 631.
[تنبيه]: رواية يونس عن ابن شهاب ساقها البخاريّ رحمه الله في "الأدب المفرد"، فقال:
(1278)
- حدّثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". انتهى
(1)
.
وأما رواية ابن أخي ابن شهاب عن عمّه، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7469]
(2999) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ - وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كلَّهُ خَيْرٌ
(2)
، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ")
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ) هو: هُدبة بن خالد البصريّ، من صغار [9] تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأبلّيّ، من صغار [9]، تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
3 -
(سُلَيْمَانُ بنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ البصريّ [7]، تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
4 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ [4] تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ [3] تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
6 -
(صُهَيْبُ) بن سنان، أبو يحيى الروميّ، أصله من النمر، يقال: اسمه عبد الملك، وصهيب لقبه، الصحابي الشهير، مات بالمدينة سنة (38) في خلافة عليّ رضي الله عنه، وقيل: قبل ذلك، تقدم في "الإيمان" 86/ 456.
(1)
"الأدب المفرد" للبخاريّ 1/ 435.
(2)
وفي نسخة: "كله له خير".
شرح الحديث
(عَنْ صُهَيْبٍ) بالتصغير ابن سنان مولى عبد الله بن جُدعان التيميّ، يكنى أبا بحيى، كانت منازلهم بأرض الموصل، فيما بين دجلة والفرات، فأغارت الروم على تلك الناحية، فسَبَتْه، وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته منهم كلب، ثم قَدِمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدعان، فأعتقه، فأقام معه إلى أن هلك، وأسلم قديمًا بمكة، وكان من المستضعَفين المعذَّبين في الله بمكة، ثم هاجر إلى المدينة، وفيه نزل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 257].
(قَالَ) صهيب رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا) منصوب بفعل مقدّر؛ أي: عجبت عجبًا (لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ)؛ أي: لشأنه، وما له في كل حاله، (إِنَّ أَمْرَهُ كلَّهُ) بالنصب، ويجوز رفعه، كما قرئ بالوجهين في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، (خَيْرٌ) وفي نسخة:"له خير"، أي: جميع أموره له خير، أي: خير له في المآل، وإن كان بعضه شرًّا صوريًّا في الحال، وقدَّم الظرف اهتمامًا. (وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إلا للمؤمن" مظهر وقع موقع المضمَر، ليشعر بالعِليّة
(1)
. (إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ)؛ أي: نعماء، وسعة عيش، ورخاء، وتوفيق طاعة من أداء، وقضاء، (شَكَرَ) ربّه على توفيقه لذلك، (فَكَانَ) شكره (خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ)، أي: فقر، ومرض، ومحنة، وبلية (صَبَرَ) عليها (فَكَانَ) صَبْره ذلك (خَيْرًا لَهُ") وبهذا تبيَّن قول بعضهم: إنه لا يقال على الإطلاق: إن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر، بل حالة التفويض والتسليم أَولى، والقيام بمقتضى الوقت أعلى، بحَسَب اختلاف الأحوال، وتفاوت الرجال، قال تعالى جل جلاله:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)} [الإسراء: 30] وفي الحديث القدسيّ: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، فلو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، فلو أفقرته لضاع حاله"
(2)
،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3334.
(2)
لم أجد من أخرجه، حتى يُنظر في حال سنده، بل أورده ابن كثير في "تفسيره" هكذا، والله تعالى أعلم.
ولذا قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيتهما أركب، وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر؛ لطاعة الله، أو طلب الموت؛ لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء الله تعالى، ثم المعتمَد التفويض والتسليم، كما أشار صلى الله عليه وسلم إليه في دعائه:"اللَّهُمَّ أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر".
ثم وَجْه حصر الخير في كل حال للمؤمن الكامل؛ لأن غيره إن أصابته سراء شبع، وبطر، وإن أصابته ضراء جَزِع وكفر، بخلاف حال المؤمن، فإنه كما قال القائل [من الطويل]:
إِذَا كَانَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ نِعْمَةً
…
عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ
…
وَإِنْ طَالت الأَيَّامُ وَاتَّسَعَ العُمْرُ
إِذَا مُسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا
…
وَإِنْ مُسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الأَجْرُ
(1)
وقال المناويّ رحمه الله: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" وليس ذلك للكافرين، ولا للمنافقين، ثم بيَّن وجه العجب بقوله:"إن أصابته سراء" كصحة، وسلامة، ومال، وجاه "شكر" الله على ما أعطاه، "فكان خيرًا" له، فإنه يُكتب في ديوان الشاكرين، "وإن أصابته ضراء" كمصيبة "صبر، فكان خيرًا له" فإنه يصير من الأحزاب الصابرين الذي أثنى عليهم في كتابه المبين، فالعبد ما دام قلم التكليف جاريًا عليه، فمناهج الخير مفتوحة بين يديه، فإنه بين نعمة يجب عليه شُكر المنعِم بها، ومصيبة يجب عليه الصبر عليها، وأمر ينفذه، ونهي يجتنبه، وذلك لازم له إلى الممات. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث صهيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3334، و"مرقاة المفاتيح" 15/ 212.
(2)
"فيض القدير" 4/ 302.
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7469](2999)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 332 و 333 و 6/ 16)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 318)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2896)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 8316 و 8317)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(4/ 116)، والله تعالى أعلم.
(13) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ، وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7470]
(3000) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَقَالَ: "وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ"، مِرَارًا، "إِذَا كانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ كَذَا وَكَذَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ [8]، تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءِ) ابن مهران، تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) الثقفيّ البصريّ [2]، تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
5 -
(أَبُوهُ) أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كَلَدَة الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، كما أسلفته، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا) لم يُعرف اسمهما، (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية غندر التالية:"فقال: يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا"، قال الحافظ: لعله يعني: الصلاة، لما سيأتي. (قَالَ) أبو بكرة:(فَقَالَ) رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("وَيْحَكَ) هي كلمة ترحم، وتوجع، و"ويل" كلمة عذاب، وقد تأتي موضع "ويح"، قاله في "الفتح".
وقال في "العمدة": قوله: "ويحك" كلمة ترحّم، وتوجّع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد تقال بمعنى المدح، والتعجب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرفع، وتضاف، فيقال: ويح زيد، ويحًا له، وويحٌ له. انتهى
(1)
.
(قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ) قال في "العمدة": قطع العنق استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هذا الهلاك في الدين، وذاك من جهة الدنيا
(2)
. (قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ"، مِرَارًا)؛ أي: كرّر هذا القول أكثر من مرّة، وبيّن في رواية وهيب أنه قال ذلك ثلاثًا. (إِذَا كانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ)؛ أي: لا حيلة له في ترك ذلك، وهي بمعنى لا بُدّ، والميم زائدة، ويَحْتَمِل أن يكون من الحول؛ أي: القوّة، والحركة، (فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا) بكسر السين المهملة، وفتحها، من بابي علم، وورث؛ أي: أظنّ، وفي الرواية الآتية:"إن كان يرى أنه كذلك"، وفي رواية:"إن كان يعلم ذلك"، (وَاللهُ حَسِيبُهُ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، وبعد التحتانية الساكنة موحّدة، أي: كافيه، ويَحْتَمِل أن يكون هنا فعيل، من الحساب؛ أي: محاسبه على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية، وقال الطيبيّ رحمه الله: هي من تتمة المقول، والجملة الشرطية حال من فاعل "فليقل"، و"على الله" فيه معنى الوجوب، والقطع، والمعنى: فليقل: أحسب فلانًا كيت وكيت، إن كان يحسب ذلك، والله يعلم سرّه فيما فعل، فهو يجازيه، ولا يقل: أتيقن أنه
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 32/ 244.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 32/ 244.
محسن، والله شاهد عليه على الجزم، وأن الله يجب عليه أن يفعل به كذا وكذا، (وَلَا أُزَكِّي) بهمزة المتكلّم، (عَلَى اللهِ أَحَدًا) وفي رواية للبخاريّ:"ولا يُزكَّى على الله أحد"، قال في "الفتح": كذا لأبي ذرّ عن المستملي، والسرخسيّ بفتح الكاف، على البناء للمجهول، وفي رواية الكشميهنيّ:"ولا يزكي" بكسر الكاف على البناء للفاعل، وهو المخاطب أوّلًا المقول له:"فليقل" وكذا في أكثر الروايات، أي: لا يقطع على عاقبة أحد، ولا على ما في ضميره؛ لكون ذلك مغيبًا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر، ومعناه النهي؛ أي: لا تزكوا أحدًا على الله؛ لأنه أعلم به منكم.
وقوله: (أَحْسِبُهُ)؛ أي: أظن فلانًا، وجملة قوله:(إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ) معترضة بين الفعل والمفعول الثاني، وهو قوله:(كَذَا وَكَذَا") والمعنى: أنه إن كان يعلم مما يظهر من حال الممدوح أنه كذا، وكذا؛ أي: عابد، وكريم، ونحو ذلك فليقل: أحسبه كذا وكذا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قطعت عنق صاحبك"، وفي حديث أبي موسى:"قطعتم ظهر الرجل" كل ذلك بمعنى أهلكتموه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إياكم، والمدح، فإنَّه الذبح"، رواه أحمد، ويعني بذلك كله أن الممدوح إذا أُكثر عليه من ذلك يُخاف عليه منه العُجب بنفسه، والكِبْر على غيره، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين، فإذًا المدح مظنة الهلاك الديني، فيحرم، لكن هذه المظنة لا تتحقّق إلا عند الإكثار منه، والإطراء به، وأما مع الندرة والقلّة فلا يكون مظنة، فيجوز ذلك إذا كان حقًّا في نفسه، ولم يقصد به الإطراء، وأُمِن على الممدوح الاغترار به، وعلى هذا يُحمل ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من مَدْح بعضهم لبعض مشافهةً، ومكاتبةً، وقد مُدِح النبيّ صلى الله عليه وسلم مشافهة نظمًا ونثرًا، ومَدَح هو أيضًا جماعة من أعيان أصحابه مشافهة، لكن ذلك كله إنما جاز لَمّا صحّت المقاصد، وأُمنت الآفات المذكورة.
وقوله: "إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، إن ما كان يرى أنه كذلك" ظاهر هذا أنه لا ينبغي للإنسان أن يمدح أحدًا ما وجد من ذلك مندوحة، فإنْ لم يجد بدًّا مدح بما يعلمه من أوصافه، وبما يظنّه، ويحترز من الجزم والقطع بشيء من ذلك، بل يتحرّز، بأن يقول: فيما أحسب، أو أظن، ويزيد على
ذلك: ولا أزكّي على الله أحدًا؛ أي: لا أقطع بأنه كذلك عند الله، فإنَّ الله تعالى هو المطلع على السرائر، العالم بعواقب الأمور. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7470 و 7471 و 7472](3000)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2662) و"الأدب"(6061 و 6162) وفي "الأدب المفرد"(3330)، و (أبو داود) في "الأدب"(4805)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3744)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 7)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20967)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 41 و 46)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5766 - 5767)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 242)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3572)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ذمّ الإطراء في المدح، وأنه يُعتبر كقطع العنق في الهلاك، لأن به هلاك الدين، وهو أشدّ من هلاك الدنيا.
2 -
(ومنها): أنه إذا لم يكن للإنسان بُدّ من المدح، فليقل: أحسب فلانًا كذا وكذا، والله تعالى حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحدًا.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في "الصحيحين" بالمدح في الوجه، قال العلماء: وطريق الجمع بينها، أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يُخاف عليه فتنة، من إعجاب، ونحوه، إذا سَمِع المدح، وأما من لا يُخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة، كتنشيطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به كان مستحبًّا، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 627 - 628.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 126.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7471]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: شُعْبَةُ حَدَّثَنَا، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ"، مِرَارًا يَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ كانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا، إِنْ كَانَ يُرَى أنَّهُ كذَلِكَ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) العتكيّ البصريّ [11]، تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) هو غندر المذكور بعده البصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، من صغار [10]، تقدم في "الطهارة" 16/ 607.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور [7]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 381.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: شُعْبَةُ حَدَّثَنَا)، أي: غندر قال: شعبة حدّثنا، فـ "شعبة" مبتدأ خبره جملة "حدّثنا".
وقوله: (ذُكِرَ عِنْدَهُ)؛ أي: عند النبيّ صلى الله عليه وسلم (رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ إلخ) لم يُعرف الرجلان.
وقوله: (أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا)؛ أي: في صلاته، أو خشوعه، أو نحو ذلك.
وقوله: (قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ) وفي رواية: "قطعتم ظهر الرجل" معناه: أهلكتموه، وهذه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هلاك هذا الممدوح في دينه، وقد يكون من جهة الدنيا؛ لِمَا
يشتبه عليه من حاله بالإعجاب، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7472]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُريعٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: فَقَالَ رَجُلٌ: مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) بن محمد بن بكير البغداديّ [10]، تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) أبو النضر البغداديّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) المدائنيّ، خراسانيّ الأصل [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
و"شعبة" تقدم قبله.
[تنبيه]: رواية شبابة بن سوّار عن شعبة ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3744)
- حدّثنا أبو بكر، ثنا شبابة، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: مدح رجل رجلًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويحك قطعت عنق صاحبك مرارًا، ثم قال: إن كان أحدكم مادحًا أخاه، فليقل: أحسبه، ولا أزكي على الله أحدًا". انتهى
(2)
.
وأما رواية هاشم بن القاسم عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالم أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7473]
(3001) - (حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 127.
(2)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1232.
مُوسَى، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ:"لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) البغداديّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكرِيَّاءَ) الْخُلْقانيّ الكوفيّ [8]، تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
3 -
(بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ) الكوفيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
4 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ عامر، أو الحارث الكوفي [3]، تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ رضي الله عنه، تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: وقع في بعض نُسخ مسلم في هذا السند غلط فاحش، وذلك أنه سقط قوله:"عن أبي بردة" بعد قوله: "عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة"، فصار بعده مباشرة:"عن أبي موسى"، فبناء على هذا وقع الشيخ الهرري في غلط، فقال: إن هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف، والصواب أنه من خماسيّاته بزيادة أبي بردة.
ومما يترتب على إسقاط بريد من السند أنه يكون منقطعًا؛ لأنه لم يلق أبا موسى، مع أن هذا السند مما اتفق الشيخان على إخراجه عن شيخ واحد، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": هذا الحديث مما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين، ولم يتصرف في متنه، ولا إسناده، وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في "مسنده" عن محمد بن الصباح، وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه: قال عبد الله: وسمعته أنا من محمد بن الصباح، فذكره. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 13/ 617.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمهما صريحًا، ولكن أخرج أحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث مَحْجن بن الأدرع الأسلميّ، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فذكر حديثًا قال فيه:"فدخل المسجد، فإذا رجل يصلي، فقال لي: من هذا؟ فأثنيت عليه خيرًا، فقال: اسكت لا تسمعه، فتهلكه"، وفي رواية له:"فقلت: يا رسول الله هذا فلان، وهذا، وهذا"، وفي أخرى له: "هذا فلان، وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة
…
" الحديث، والذي أثنى عليه محجن يُشبه أن يكون هو عبد الله ذو البجادين
(1)
المزنيّ، فقد ذكرت في ترجمته في "الصحابة" ما يقرب من ذلك. انتهى
(2)
.
(وَيُطْرِيهِ) بضم أوله، وبالطاء المهملة، من الإطراء، وهو المبالغة في المدح، (فِي الْمِدْحَةِ) بكسر الميم؛ أي: المدح، ووقع في بعض نُسخ البخاريّ: في "المدح" بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى:"في مدحه" بفتح الميم، وزيادة الضمير، قال الحافظ: والأول هو المعتمَد.
[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: مَدَحْتُهُ مَدْحًا، من باب نفع: أثنيت عليه بما فيه، من الصفات الجميلة، خِلْقِيّة كانت، أو اختيارية، ولهذا كان المدح أعمّ من الحمد، قال الخطيب التبريزيّ: المَدْحُ من قولهم: انْمَدَحَتِ الأرضُ: إذا اتسعت، فكأن معنى مدحته: وسّعت شكره، ومَدَهْتُهُ مَدْهًا مِثْلُهُ، وعن الخليل: بالحاء للغائب، وبالهاء للحاضر، وقال السَّرَقُسْطِيّ: ويقال: إن الْمَدْهَ في صفة الحال، والهيئة، لا غير. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ)"أو" هي للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: قطعتم (ظَهْرَ الرَّجُلِ") قال في "الفتح": كذا فيه بالشكّ، وكذا لمسلم، وتقدّم في حديث أبي بكرة الذي قبله بلفظ:"قطعت عنق صاحبك"، وهما بمعنى، والمراد بكل منهما الهلاك؛ لأن من يقطع عنقه يُقتل، ومن يقطع ظهره يهلك. انتهى.
(1)
وقع في النسخة "ذو النجادين" بالنون، وهو غلط، والصواب ذو البجادين.
(2)
"الفتح" 13/ 618.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 566.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7473](3001)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2663) و"الأدب"(6060) وفي "الأدب المفرد"(1/ 122)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 412)، و (ابنه) في "الزوائد"(4/ 412)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 242) و"شعب الإيمان"(4/ 226)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(23/ 387)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7474]
(3002) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَثَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ البصريّ [9]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 388.
4 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(حَبِيبُ) بن أبي ثابت، أبو يحيى الكوفيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا إسناد هذا الحديث - يعني: بلفظ حبيب - وفي نسخة ابن ماهان: سفيان عن حميد، عن مجاهد، جعل حميدًا مكان حبيب، وهو تصحيف، والصواب: حبيب،
وهو ابن أبى ثابت. انتهى
(1)
.
6 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ، أبو الحجاج المكيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
7 -
(أبو مَعْمَرٍ) عبد الله بن سخبرة الكوفيّ [2]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.
8 -
(الْمِقْدَادُ) بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرانيّ، ثم الكنديّ، ثم الزهريّ، حالف أبوه كندة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فنُسب إليه، صحابيّ مشهور، من السابقين، لم يثبت أنه كان ببدر فارس غيره، مات سنة ثلاث وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 281.
[تنييه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد الله بن سَخْبرة؛ أنه (قَالَ: قَامَ رَجُلٌ) لم يُسمّ، (يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ) هو عثمان بن عفّان رضي الله عنه، كما في الرواية التالية، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وأخذ (الْمِقْدَادُ) بن عمرو رضي الله عنه (يَحْثِي) بالياء، ويجوز يحثو بالواو، يقال: حَثَا الرجلُ الترابَ يَحْثُوهُ حَثْوًا، ويَحْثِيهِ حَثْيًا، من باب رمى لغة: إذا هاله بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده، ثم رماه، ولا يكون إلا بالقبض والرمي، وقولهم في الماء: يكفيه أن يَحْثُوَ ثلاث حَثَواتٍ، المراد: ثلاث غرفات، على التشبيه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ) المقداد رضي الله عنه: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ)، أي: الذين صناعتهم الثناء على الناس، والمدحُ كما في "الصحاح": الثناء الحسن، قال التبريزيّ: من قولهم: تمدحت الأرض: إذا اتسعت، فكأن معنى مدحته: وسعته شكرًا
(3)
. (التُّرَابَ) الحثو في التراب
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 936.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 121.
(3)
"فيض القدير" 1/ 362.
بمنزلة الصب في الماء، والمراد زجر المادح، والحث على منعه من المدح، لإيرائه الغرور والتكبر، أو أنه يُخَيَّب، ولا يعطَى، أو معناه: أعطوهم قليلًا يشبه التراب؛ لقلّته، وخسّته، أو اقطعوا ألسنتهم بالمال، فإنه شيء حقير كالتراب، وهذا يؤذن بذم الاحتراف بالشعر، وقيل: لا تؤاخ شاعرًا، فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجانًا، قال بعضهم:
الْكَلْبُ وَالشَّاعِرُ فِي مَنْزِلٍ
…
فَلَيْتَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَاعِرَا
هَلْ هُوَ إِلَّا بَاسِطٌ كَفَّهُ
…
يَسْتَطْعِمُ الْوَارِدَ وَالصَّادِرَا
(1)
وقال في "المرقاة": قوله: "المدّاحين"؛ أي: المبالغين في المدح، متوجهين إليكم طمعًا، سواء يكون نثرًا أو نظمًا، "فاحثوا" بهمزة وصل، وضم مثلثة؛ أي: ارموا في وجوههم، قيل: يؤخذ التراب، ويُرمَى به في وجه المداح؛ عملًا بظاهر الحديث، وقيل: معناه: الأمر بدفع المال إليهم؛ إذ المال حقير كالتراب بالنسبة إلى العرض في كل باب؛ أي: أعطوهم إياه، واقطعوا به ألسنتهم؛ لئلا يهجوكم، وقيل: معناه أعطوهم عطاء قليلًا، فشبّهه لقلّته بالتراب، وقيل: المراد منه أن يخيب المادح، ولا يعطيه شيئًا لمدحه، والمراد: زجر المادح، والحث على منعه من المدح؛ لأنه يجعل الشخص مغرورًا، ومتكبرًا.
قال الخطابيّ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، وجعلوه بضاعة، يستأكلون به الممدوح، فأما من مَدَح الرجل على الفعل الحسن، والأمر المحمود، يكون منه ترغيبًا له في أمثاله، وتحريضًا للناس على الاقتداء في أشباهه، فليس بمداح.
وفي "شرح السُّنَّة": قد استعمل المقداد رضي الله عنه الحديث على ظاهره في تناول عين التراب، وحثيه في وجه المادح، وقد يُتأول على أن يكون معناه الخيبة والحرمان؛ أي: من تعرض لكم بالثناء والمدح، فلا تعطوه، واحرِموه، كني بالتراب عن الحرمان، كقولهم: ما في يده غير التراب، وكقوله: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا.
وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروه؛ لأنه قلما يسلم المادح
(1)
"فيض القدير" 1/ 362.
عن كذب يقوله في مدحه، وقلما يسلم الممدوح من عُجْب يدخله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن المعنى الصحيح هو الذي عمل المقداد رضي الله عنه، وهو أخْذ التراب ورميه في وجوه المداح؛ لأنه ظاهر الحديث، ولا يُعدل عن الظاهر إلا لموجب، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث المقداد بن عمرو رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7474 و 7475 و 7476](3002)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 124)، و (أبو داود) في "الأدب"(4804)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2393)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3787)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 5)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(13/ 15)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7475]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ، أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ، فَعَمَدَ الْمِقْدَادُ، فَجَثَا عَلَى رُكبَتَيْهِ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر الكوفيّ [6]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ [5]، تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ) النخعيّ الكوفيّ [2]، تقدم في "الإيمان" 47/ 298.
والباقون ذُكروا قريبًا.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 93.
شرح الحديث:
(أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف، (جَعَلَ)؛ أي: شرع وأخذ (يَمْدَحُ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه، (فَعَمَدَ) بفتح الميم، من باب ضرب؛ أي: قصد (الْمِقْدَادُ) رضي الله عنه (فَجَثَا)؛ أي: برك (عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكانَ) المقداد (رَجُلًا ضَخْمًا)؛ أي: عظيم الجثّة، وكأن الراوي ذكر هذا لبيان أنه مع كونه جسيمًا تكبّد مشقة الجثو على ركبتيه اهتمامًا بشأن تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع (يَحْثُو) بالواو، ويقال بالياء أيضًا، (فِي وَجْهِهِ)؛ أي: وجه ذلك المدّاح (الْحَصْبَاءَ) بالمدّ هي صغار الحصى، (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (مَا شَأْنُكَ؟)؛ أي: لِمَ تفعل هذا؟ (فَقَالَ) المقداد: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا) بالواو، وبالياء؛ أي: ارموا (فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ").
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يحثو في وجهه الحصباء" كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مدّاح، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث، فحثا في وجهه التراب، ولعلّ هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة، وحرفة، فصَدَق عليه مدّاح، وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح مرّة، أو مرّتين، أو شيئًا أو شيئين، وقد بيّن الصحابيّ رضي الله عنه بفعله أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث حمله على ظاهره، فعاقب المدّاح برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
وقد تأوّله غير ذلك الصحابي تأويلات؛ لأنَّه رأى أن ظاهره جفاء، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالجفاء. فقيل: إن معناه: خيّبوهم، ولا تعطوهم شيئًا، لأنَّ من أُعطي التراب لم يُعْطَ شيئًا، كما قد جاء في الحديث الآخر:"إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه، فاملأ كفه ترابًا"، رواه أحمد؛ أي: خيّبه، ولا تعطه شيئًا. وقيل: إن معناه: أعطه، ولا تبخل عليه، فإنَّ مآل كل ما يعطى إلى التراب، كما قال [من الطويل]:
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ
…
وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكّر أن المبدأ والمنتهى التراب، فليعرضه على نفسه؛ لئلا يعجب بالمدح، وعلى المدّاح، لئلا يُفرط، ويُطري بالمدح، وأشبه المَحامل بعد المحمل الظاهر الوجه الأول، وما بعده ليس عليه معوّل. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 6/ 628 - 629.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول أن في معنى هذا الحديث ست تأويلات:
الأول: أنه محمول على حقيقته، وهو الذي عمل به الصحابيّ الراوي له، وهو أعلم بما رواه من غيره، فهو أرجح الأقوال الآتية.
الثاني: أنه كناية عن تخييبه، والمراد بالمدّاحين: هم المحترفون بالمدح، يتملقون به لأخذ المال.
الثالث: أن المراد أن يقول للمادح: بفيك التراب، والعرب تقول هذا لمن تكره قوله.
الرابع: أن يأخذ الممدوح ترابًا فيبذره بين يديه ليتذكر أصله، وأن مصيره إليه، فلا يغتر بقول المدّاح.
الخامس: أن المراد إعطاؤه ما طلب؛ لأن كل ما فوق التراب تراب.
السادس: أن يقوم الممدوح عن مجلس المادح، ويثير بقيامه التراب عليه
(1)
، وكل هذه التأويلات بعيدة عن معنى الحديث، فالصواب هو الأول الذي عمل به الصحابيّ الراوي، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تخريجه، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7476]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ الرَّحْمَنِ
(2)
، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
وكلهم تقدّموا قريبًا. و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ. و"سفيان" هو: الثوريّ. و "عبيد الله بن عبيد الرحمن" بتصغير الاسمين، هذا هو الصواب، ووقع في بعض النسخ بتكبير الثاني، وهو غلط، فتنبّه.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 500 - 501.
(2)
وقع في نسخة: "عبد الرحمن" مكبّرًا، وهو غلط.
[تنبيه]: رواية سفيان عن منصور ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(2107)
- حدّثنا محمد بن بشار، قال: نا عبد الرحمن بن مهديّ، قال. نا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن المقداد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب". انتهى
(1)
.
وأما رواية سفيان عن الأعمش ومنصور كلهما فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(14) - (بَابُ مُنَاوَلَةِ الأَكبَرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7477]
(3003) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا صَخْرٌ - يَعْنِي: ابْنَ جُوبرِيَةَ - عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكبَرِ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث تقدّم للمصنّف رحمه الله في "كتاب الرؤيا" برقم [5/ 5918](2271)، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (فَجَذَبَني رَجُلَانِ) الجبذ لغة في الجذب، والرجلان هما: جبريل، وميكائيل، والقائل: كبِّر هو جبريل
(2)
، وفي كون الرجلين جبريل ومكيائيل نَظَر لا يخفى، والله تعالى أعلم.
(1)
"مسند البزار" 6/ 38.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 454.
(15) - (بَابُ التَّثَبُّتِ في الْحَدِيثِ، وَحُكْمِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7478]
(2493)
(1)
- (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، وَيَقُولُ: اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، وَعَائِشَةُ تُصَلِّي، فَلَمَّا قَضَتْ صَلَاتَهَا، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: أَلا تَسْمَعُ إِلَى هَذَا، وَمَقَالَتِهِ آنِفًا، إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَام) بن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير؛ أنه (قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (يُحَدِّثُ) الناس بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَيَقُولُ) لعائشة رضي الله عنها (اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ)، أي: صاحبة البيت، (اسْمَعِيِ يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ) كرّره للتأكيد، وغرض أبي هريرة رضي الله عنه من ذلك تقوية أحاديثه بسماع عائشة رضي الله عنها، وتقريرها عليه، وقد حصل ذلك، فإنها ما أنكرت من حديثه شيئًا، وإنما أنكرت سَرْده الحديث فقط. (وَعَائِشَةُ)؛ أي: والحال أن عائشة رضي الله عنها (تُصَلِّي، فَلَمَّا قَضَتْ صَلَاتَهَا)؛ أي: فرغت منها، وسلّمت (قَالَتْ لِعُرْوَةَ: أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذَا) تريد أبا هريرة، (وَمَقَالَتِهِ)؛ أي: وإلى مقالته التي قالها (آنِفًا) بالمدّ؛ كصاحب، والقصر؛ ككَتف، وقرئ بهما؛ أي: مذ ساعة؛ أي: في أول وقت يقرُبُ منّا، قاله المجد رحمه الله
(2)
. (إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا)؛ أي: مرتّلًا، ومفصّلًا، لا يشتبه على من سمعه بحيث (لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ)؛ أي: أحصاه المحصي بالعدد، (لأَحْصَاهُ)؛ أي: لو عدّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه لأطاق ذلك، وبلغ آخرها، والمراد بذلك: المبالغة في الترتيل والتفهيم.
(1)
مكرّر.
(2)
"القاموس المحيط" ص 65.
وفي رواية البخاريّ: "لم يكن يسرد الحديث كسردكم"؛ أي: لم يكن يتابع الحديث استعجالًا؛ أي: كان يتكلم بكلام متتابع مفهوم واضح على سبيل التأني؛ لئلا يلتبس على المستمع، وفي رواية الإسماعيليّ عن ابن المبارك، عن يونس:"إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلًا فهمًا تفهمه القلوب"، واعتُذر عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر، فتزدحم القوافي عليّ
(1)
.
والحاصل: أن غرض عائشة رضي الله عنها بذلك حثّ أبي هريرة رضي الله عنه على عدم الاستعجال في حال الرواية، وعدم الإكثار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يُكثر الحديث في مجلس واحد، ولا يسرده سردًا، وإنما يُحدّث بأحاديث قليلة، وتكون مفصّلةً، ويكررها ثلاث مرّات، كما في حديث أنس رضي الله عنه، "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثًا"، رواه البخاريّ، فهذا هو وجه إنكارها، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7478](2493)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3567 و 3568)، و (أبو داود) في "العلم"(3654 و 3655)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3639).
وهذا الحديث تقدّم للمصنّف طرف منه في كتاب "فضائل الصحابة رضي الله عنهم" برقم [35/ 6379](2493) وقد استوفيت البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7479]
(3004) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
"عمدة القاري" 16/ 115.
قَالَ: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ - قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ -: مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ) هو: هدبة بن خالد، تقدّم قريبًا.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ البصريّ [7] تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدنيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) مولى ميمونة، أخو سليمان المدنيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 485.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من زيد، والباقيان بصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي)؛ أي: غير القرآن بدليل ما بعده، (وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)؛ أي: ليمسحه؛ لئلا يختلط بالقرآن.
قال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا النهي متقدمًا، وكان ذلك لئلا يختلط بالقرآن ما ليس منه، ثم لمّا أُمن من ذلك أبيحت الكتابة، كما أباحها النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي شاهٍ في حجَّة الوداع حين قال:"اكتبوا لأبي شاهٍ"، فرأى علماؤنا هذا ناسخًا لذلك.
قال: ولا يبعد أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما نهاهم عن كَتْب غير القرآن؛ لئلا يتّكلوا علي كتابة الأحاديث، ولا يحفظوها، فقد يضيع المكتوب، ولا يوجد في وقت الحاجة، ولذلك قال مالك: ما كتبت في هذه الألواح قط، قال:
وقلت لابن شهاب: أكنت تكتب الحديث؟ قال: لا. انتهى
(1)
.
وقال ابن حبّان بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال أبو حاتم رحمه الله: زَجْره صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عنه، سوى القرآن، أراد به الحثّ على حفظ السنن، دون الاتكال على كتابتها، وتَرْك حفظها، والتفقه فيها، والدليل على صحة هذا إباحته صلى الله عليه وسلم لأبي شاه كتابة الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بالكتابة. انتهى
(2)
.
(وَحَدِّثُوا عَنِّي) بما صحّ إليكم من أحاديثي، (وَلَا حَرَجَ)؛ أي: لا إثم عليكم في التحديث عني، ولو كان كثيرًا ما دام صحيحًا، (وَمَنْ) شرطيّة، (كَذَبَ عَلَيَّ) بنسبة ما لم أقله إليّ، (قَالَ هَمَّامٌ) بن يحيى (أَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنّ زيد بن أسلم (قَالَ) في روايته: (مُتَعَمِّدًا) حال من فاعل "كذب"، (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ") جواب الشرط؛ أي: فليتّخذ مكانًا يجلسه في النار خالدًا مخلّدًا فيها، إن استحلّ الكذب؛ لأنه يكفر به، وإلا فبقدر ذنبه، وجريمته؛ لأنه تحت المشيئة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7479](3004)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(33)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 12 و 39)، و (الدارميّ) في "سننه"(11/ 119)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 126 - 127)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(64)، و (الخطيب البغداديّ) في "تقييد العلم"(ص 29 و 30 و 31)، و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 63)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 703 - 704.
(2)
"صحيح ابن حبان" 1/ 265 - 266.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في هذا الحديث، واختلافهم في كتابة الحديث:
قال الحافظ في "الفتح" ما خلاصته: ويستفاد من هذا الحديث
(1)
، ومن الحديث عليّ المتقدم، ومن قصة أبي شاه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن"، رواه مسلم.
والجمع بينهما أن النهي خاصّ بوقت نزول القرآن؛ خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها، مع أنه لا ينافيها، وقيل: النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أُمن منه ذلك، ومنهم من أعلّ حديث أبي سعيد، وقال: الصواب وَقْفه على أبي سعيد، قاله البخاريّ وغيره.
قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لمّا قصرت الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دوّنوه، وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهريّ على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكرت هذه الأقوال في "ألفية العلل"، فقلت:
كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا
…
كَرِهَهَا قَوْمٌ سَرَاةٌ حُنَفَا
فَمِنْهُمُ زيدٌ أَبُو هَرَيْرَةِ
…
كَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَحَبْرُ الأُمَّةِ
كَذَا أَبُو مُوسَى وَنَجْلُ عُمَرَا
…
كَذَلِكَ الْخُدْرِيْ وَغَيَرُهُمْ يَرَى
وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ كَعُمَرِ
…
وَأَنَسٍ مَعَ ابْنِ عَمْرٍو جَابِرِ
(1)
أراد حديث قصّة أبي هريرة حيث قال عن عبد الله بن عمر: "فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وحديث عليّ هو قوله:"وما في هذه الصحيفة"، وقصّة أبي شاه مشهورة.
(2)
"الفتح" 1/ 363 - 364.
كَذَا عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْبَرُّ الْحَسَنْ
…
وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنْ
وَأَكْثَرُ الصِّحَابِ أَيْضًا ذَهَبُوا
…
وَأَكْثَرُ الأَتْبَاعِ نِعْمَ الْمَذْهَبُ
وَفِرْقَةٌ ثَالِثةٌ قَدْ جَوَّزَتْ
…
لِلْحِفْظِ ثُمَّ الْمَحْوَ بَعْدُ أَلْزَمَتْ
أَمَّا دَلِيلُ مَنْ أَبَاحَ "فَاكْتُبُوا"
…
أَمَّا لِعَكْسِهِ فَجَا "لَا تَكْتُبُوا"
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ قِيلَ الإِذْنُ
…
لِخَائِفِ النِّسْيَانِ نِعْمَ الأَمْنُ
وَقِيلَ نَهْيُهُ لِئَلَّا يَخْتَلِطْ
…
مَعَ الْقُرَانِ ثُمَّ زَالَ إِذْ ضُبِطْ
وَقِيلَ نَهْيُهُ لِمَنْ كَتَبَ فِي
…
صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلْتَعْرِفِ
وَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ
…
وَمُسْلِمٌ رَوَاهُ رَفْعًا يَكْفِي
ثُمَّ أَتَى الإِجْمَاعُ بَعْدُ وَانْتَفَى
…
الْخُلْفُ فَاكْتُبَنْ تَنَلْ خَيْرًا وَفَا
(16) - (بَابُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ، وَالسَّاحِرِ، وَالرَّاهِبِ، وَالْغُلَامِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7480]
(3005) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ، وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ، قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ، آلسَّاحِرُ أفضَلُ، أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا، فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ
أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ، فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ
(1)
، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ، كَانَ قَدْ عَمِي، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ، دَعَوْتُ اللهَ، فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ، فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ، حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ، وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ، حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ، حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ، حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ، فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ
(2)
، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي
(1)
وفي نسخة: "سائر الأدواء".
(2)
وفي نسخة: "قرقورة".
صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ، فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أفْوَاهِ
(1)
السِّكَكِ، فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ
(2)
فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) هو: هُدبة بن خالد الأزديّ البصريّ [9]، تقدم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار الربعيّ البصريّ [8]، تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ البصريّ [4]، تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ الكوفيّ [2]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(صُهَيْبُ) بن سنان الروميّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في "الإيمان" 86/ 456.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى ثابت، وابن أبي ليلى كوفيّ، وصهيب مدنيّ.
(1)
وفي نسخة: "بأفواه".
(2)
وفي نسخة: "أقحموه".
شرح الحديث:
(عَنْ صُهَيْبِ) الروميّ رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)؛ أي: في الأمم السابقة، قال صاحب "التنبيه": هو يوسف ذو نواس، قال ابن بشكوال: وفي "الزهر الباسم": أن اسمه يوسف بن شراحيل الْحِمْيريّ. انتهى
(1)
. (وَكَانَ لَهُ)؛ أي: لذلك الملك (سَاحِرٌ) قال الشريف النسّابة: هو دُولعان، (فَلَمَّا كَبِرَ) بكسر الباء؛ أي: أسنّ (قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ)، أي: فأخاف أن أموت، فينقطع عنكم هذا العلم، (فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا) ذكيًّا فطنًا يقبل التعليم (أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ) الملك (إِلَيْهِ)، أي: الساحر، (غُلَامًا) هو عبد الله بن ثامر، قاله الدمياطيّ، وابن بشكوال. (يُعَلِّمُهُ)؛ أي: السحر، (فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ)؛ أي: على طريق ذلك الغلام (إِذَا سَلَكَ) ذاهبًا إلى الساحر، ليتعلّم منه السحر، وقوله:(رَاهِبٌ) اسم "كان" مؤخّرًا، والراهب واحد رُهبان النصارى، وهو من اعتزل الناس إلى دَير طلبًا للعبادة، قال الدمياطيّ: اسمه فَيْميون، وقيل: غيره. (فَقَعَدَ) الغلام (إِلَيْهِ)؛ أي: عند ذلك الراهب (وَسَمِعَ كَلَامَهُ)؛ أي: كلام الراهب في عقائد التوحيد، وغيرها (فَأَعْجَبَهُ)؛ أي: أعجب ذلك الغلام كلام الراهب، (فَكَانَ) الغلام (إِذَا أَتَى السَّاحِرَ)؛ أي: إذا أراد أن يأتيه (مَرَّ بِـ) ـذلك (الرَّاهِبِ، وَقَعَدَ إِلَيْهِ)؛ أي: عنده ليسمع كلامه، (فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ) لتأخره، (فَشَكَا) الغلام (ذَلِكَ)؛ أي: ضَرْب الساحر له، (إِلَى الرَّاهِبِ)؛ أي: أخبره على سبيل الشكوى إليه، (فَقَالَ) الراهب للغلام معلّمًا الحيلة له؛ لينجو من ضربه:(إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ)؛ أي: ضَرْبه لتأخرك (فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي)؛ أي: أخّرني أهل بيتي عن الحضور إليك، (وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ)؛ أي: ضرْبهم لك لتأخرك أيضًا، (فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ) بسبب الدرس عنكم.
قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث جواز الكذب للضرورة، لا سيّما في الله تعالى، والدفع عن الإيمان، ومع من أراد أن يصدّ عنه، قال القرطبيّ: وجه الاستدلال به كونه صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الثناء على الراهب والغلام، واستحسان فِعلهما؛ إذ لو كان غير جائز لبيّنه صلى الله عليه وسلم، والبيان لا يؤخّر عن وقت الحاجة.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 456.
وقال الأبيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك تورية، لا كذبًا؛ لأن الغلام لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب، والتورية في قوله: حبسني أهلي أبْيَن وأوضح؛ لأن أهله حقيقة إنما هم المرشدون له إلى السعادة، فأراد بهذا اللفظ؛ يعني: لفظ الأهل: الراهب، وكذلك قوله لأهله حبسني الساحر يُمكن تأويله بأنه لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب جميعًا، فيصدق قوله: حبسني الساحر، لأنه كان أحد الحابسين له. انتهى
(1)
.
(فَبَيْنَمَا هُوَ)؛ أي: ذلك الغلام (كَذَلِكَ)، أي: متردّدًا بين أهله وبين الساحر والراهب، (إِذْ) فجائيّة رابطة لجواب "بينما"؛ أي: فبينما هو في أوقات تردده إلى الساحر، ومروره على الراهب فاجأه أن (أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ)، أي: فاجأه إتيانه عليها، قيل: كانت تلك الدابة أسدًا، وقيل: كانت حيّة
(2)
. (قَدْ حَبَسَتِ)؛ أي: منعت (النَّاسَ) عن المرور إلى حوائجهم، (فَقَالَ) ذلك الغلام في نفسه:(الْيَوْمَ)؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، فـ "أل" للعهد الحضوريّ؛ كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، (أَعْلَمُ، آلسَّاحِرُ) بمدّ الهمزة، أصلها أالساحر، فأُبدلت الثانية مدًّا، (أَفْضَلُ)؛ أي: أنفع اتباعًا، واقتداء به، (أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟) للاقتداء به، قال الأبيّ رحمه الله: ليس هذا شكًّا منه، وإنما هو استثبات، وطلب طمأنينة. (فَأَخَذَ حَجَرًا) من الأحجار (فَقَالَ) مخاطبًا، ومناجيًا ربه:(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ)، أي: دينه الذي هو عليه (أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ)؛ أي: دينه، (فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ) الضارية المانعة للناس من المرور في الطريق، (حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ)؛ أي: لأجل أن يذهب الناس إلى حوائجهم آمنين مطمئنين. (فَرَمَاهَا)؛ أي: تلك الدابّة بذلك الحجر، (فَقَتَلَهَا) برمية واحدة، وهذه كرامة من الله تعالى للغلام، وللراهب أيضًا، (وَمَضَى النَّاسُ)؛ أي: ذهبوا، وانطلقوا إلى حوائجهم، والظاهر أن الناس ما علموا سبب موت تلك الدابّة، وإلا للزموا ذلك الغلام، وسلكوا سبيله، فلعله رماها بالحجر دون أن يطلع عليه أحد من الناس، والله تعالى أعلم.
(فَأَتَى) ذلك الغلام بعد أن قتل تلك الدابّة، وأراح الناس منها (الرَّاهِبَ،
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 306.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 458.
فَأَخْبَرَهُ) بالخبر، وقصّ عليه ما جرى، (فَـ) ـعندما سمع الراهب الخبر استغرب، وتعجّب، و (قَالَ لَهُ)؛ أي: للغلام، (الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ) "أي" حرف نداء، وقد مرّ الكلام عليها غير مرّة؛ أي: يا بُني بالتصغير تصغير شفقة، ونسبه إليه إظهارًا للّطف والحنوّ، (أنتَ الْيَوْمَ)؛ أي: الحاضر الذي نحن فيه، (أَفْضَلُ مِنِّي) درجة ومنزلة عند الله تعالى؛ لأنه تعالى استجاب دعوتك، وأظهر كرامتك، (قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ) ومنزلتك عند الله تعالى (مَا أَرَى)؛ أي: ما أعلمه، مما وقع لك من الكرامة، (وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى) بالبناء للمفعول؛ أي: سيفعل الله بك ما جرى من سنّته في أنبيائه، وأوليائه من ابتلائهم بسفهاء قومهم، (فَإِنِ ابْتُلِيتَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: جرى لك ابتلاء من الله تعالى على ما هي سنّته في أوليائه، (فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ) بسبب شدّة الابتلاء، فإن هؤلاء الكفرة سيبتلونني. (وَكَانَ الغُلَامُ) انتشر ذِكره، واشتهر أمره بين عامّة الناس، فكان (يُبْرِئُ) بدعائه (الأَكْمَهَ)؛ أي: الذي وُلد أعمى، يقال: كَمِهَ كَمَهًا، من باب تَعِب فهو أَكمَهُ، والمرأة كُمْهَاءُ، مثل أحمر، وحمراء، وهو الْعَمَى يولد عليه الإنسان، وربما كان من مرض، قاله الفيّوميّ
(1)
. (وَالأَبْرَصَ)؛ أي: من أصابه داء البرص، وهو بفتحتين: بياض يظهر في ظاهر البدن؛ لفساد المزاج، وفعله كفرِحَ
(2)
. (وَيُدَاوِي النَّاسَ)؛ أي: يعالجهم (مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ)؛ أي: من جميع الأمراض، وفي نسخة:"سائر الأدواء" بإسقاط "من". (فَسَمِعَ) بمداواة الغلام من جميع الأمراض (جَلِيسٌ)؛ أي: صاحبٌ مُجالس (لِلْمَلِكِ)؛ أي: من خواصّ أهل دولته، (كَانَ قَدْ عَمِيَ)؛ أي: فَقَدَ بصره، (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى جليس الملك الغلام (بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ) ليعالجه، (فَقَالَ) الجليس:(مَا) موصولة؛ أي: الذي (هَا هُنَا) من الهدايا (لَكَ) أيها الغلام (أَجْمَعُ) تأكيد للموصول، (إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي)؛ أي: إن أبرأتني، ورددت عليّ بصري، (فَقَالَ) الغلام:(إِنِّي لَا أَشْفِي) بفتح الهمزة مضارع شفيت ثلاثيًّا، أو بضمّها، مضارع أشفيت، رباعيًّا، يقال: شفاه يَشفيه: برّأه، وطلب له الشفاء؛ كأشفاه، قاله المجد رحمه الله
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 541.
(2)
"القاموس" ص 96.
(3)
"القاموس" ص 696.
(أَحَدًا) من الناس من مرضه، ولا أردّ بصرك، (إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ) تعالى من الأمراض، ويردّ البصر، (فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ)؛ أي: صدّقت بربوبيّته، واعترفت بألوهيّته، وأسمائه وصفاته (دَعَوْتُ اللهَ) تعالى لك (فَشَفَاكَ) من مرض العمى، وردّ إليك بصرك. (فَآمَنَ) الجليس (بِاللهِ) تعالى، فدعا له الغلام بالشفاء، (فَشَفَاهُ اللهُ) وردّ عليه بصره، (فَأَتَى الْمَلِكَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ)؛ أي: عنده (كَمَا كَانَ يَجْلِسُ) سابقًا قبل أن يصيبه العمى، (فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ) متعجّبًا من حاله:(مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟) حتى أبصرت، وجلست جنبي، (قَالَ) الجليس:(رَبِّي)؛ أي: ردّ عليّ بصري ربي الذي آمنت به، (قَالَ) الملك:(وَلَكَ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أوَ لك (رَبٌّ غَيْرِي؟) في هذا دليل على أن ذلك الملك كان يدعي الربوبيّة، ففيه ردّ على من زعم أنه كان يهوديًّا. (قَالَ) الجليس:(رَبِّي) الذى خلقني، وربّاني، (وَرَبُّكَ) الذي خلقك وربّاك، هو (اللهُ) سبحانه وتعالى، (فَأَخَذَهُ)؛ أي: أخذ الملك جليسه الأعمى الذي ردّ الله تعالى بصره إليه لمّا آمن، (فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ) بأنواع العذاب حتى يرجع عن دينه، ويدلّ على من أرشده إليه، (حتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ) فأرسل الملك إليه، (فَجِيءَ بِالْغُلَامِ) بين يدي الملك (فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ) بالتصغير تصغير إشفاق ولطف، وقيل: تصغير تحقير وإهانة، والظاهر من السياق الأول. (قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ)؛ أي: بعض سحرك، فكيف كلّه، أو "من" زائدة على قول من يرى زيادتها في الإثبات، (مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ)"ما" مصدرّية، مجرورة بـ "إلى" مقدّرة؛ أي: إلى إبرائك الأكمه (وَالأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ) به كذا (وَتَفْعَلُ) به كذا، والظاهر أنه كناية عما قام به من دعوة الناس إلى الله تعالى. (فَقَالَ) الغلام:(إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا) بقدرتي، (إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ) تعالى بإذنه، (فَأَخَذَهُ)؛ أي: أخذ الملك الغلام بالتعذيب، (فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ) ليدلّ على من علّمه هذا الدين (حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ) إنما دلّ عليه مع أنه أوصاه بأن لا يدلّ عليه؛ لشدّة العذاب الذي عذّبه به الملِك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فإن قيل: كيف يجوز في شرعنا ما فعل الغلام من دلالته على الراهب للقتل، ومن إرشاده إلى كيفية قتل نفسه؟!.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الغلام غير مكلَّف، لأنَّه لم يبلغ الحلم، ولو سُلِّم أنه مكلف لكان العذر عن ذلك أنه لم يعلم أن الراهب يُقتل،
فلا يلزم من دلالته عليه قتله، وعن معونته على قتل نفسه أنه لمّا غلب على ظنه أنه مقتولٌ ولا بد، أو علم بما جعل الله في قلبه، أرشدهم إلى طريق يُظهر الله بها كرامته، وصحة الدين الذي كانا عليه، لِيُسلم الناس، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك كما كان، وقد أسلم عثمان رضي الله عنه نفسه عند علمه بأنه يُقتل، ولا بدّ بما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنّاه
(1)
.
فلما علم الملك بأمر الراهب أرسل إليه، (فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ) إلى الملك (فَقِيلَ لَهُ)؛ أي: للراهب، (ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ) الذي أنت عليه من الإيمان بالله، والدعوة إليه، (فَأَبَى)؛ أي: أن يرجع عن دينه (فَدَعَا) الملك (بِالْمِنْشَارِ) مهموز في رواية الأكثرين، ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياء، وروي بالمنشار بالنون، وهما لغتان، وهي آلة يُقطع بها الخشب، ويُنشر. (فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ)؛ أي: في وسط رأس الراهب، و"المفرق" بكسر الراء، وفتحها؛ كمقعد، ومجلس: وسط الرأس الذي يُفرق فيه الشعر، (فَشَقَّهُ) نصفين (حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ)؛ أي: جانباه على الأرض، (ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ) الذي دخلت فيه، وهو دين الراهب، (فَأَبَى)؛ أي: امتنع عن الرجوع، (فَوَضَعَ) الملك (الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ)؛ أي: بذلك المنشار (حَتَّى وَقَعَ) على الأرض (شِقَّاهُ)؛ أي: جانباه. (ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَي)؛ أي: امتنع عن الرجوع، (فَدَفَعَهُ)؛ أي: دفع الملك الغلام (إِلَى نَفَرٍ)؛ أي: جماعة (مِنْ أَصْحَابِهِ)؛ أي: أعوانه، (فَقَالَ) الملك لهم:(اذْهَبُوا بِهِ)؛ أي: بهذا الغلام (إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا) لجبل سمّاه، وعيّنه، (فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ) بتثليث الذال المعجمة: أعلاه، (فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ) حُذف الجواب؛ أي: فاتركوه (وَإلَّا)؛ أي: إنْ لم يرجع (فَاطْرَحُوهُ)، أي: ألقوه من ذروة الجبل؛ ليتردى، فيموت مترديًا. (فَذَهَبُوا بِهِ)؛ أي: ذهب أولئك المأمورون بذلك الغلام، (فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ) ليطرحوه إن لم يرجع عن دينه، (فَـ) ـدعا الله تعالى، وتضرّع إليه، و (قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ) من مكرك بهم، (فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ)؛ أي: اضطرب، وتحرّك تحرّكًا
(1)
"المفهم" 7/ 425.
شديدًا، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14]. وقال القاضي عياض رحمه الله: روى هذا الحرف لنا الخشنيّ عن الطبريّ: "فزحف" بالحاء والزاي، والرواية الأولى عليها جماعة شيوخنا، وهي أصحّ، وإن كان قد يكون الزحف بمعنى الحركة والتقدّم، يقال: زحف القوم إلى عدوهم؛ أي: نهضوا. انتهى
(1)
.
(فَسَقَطُوا) من الجبل، وهلكوا جميعًا، (وَجَاءَ) الغلام، حال كونه (يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟) الذين ذهبوا بك إلى الجبل، أهم أحياء، أم أموات؟ (قَالَ) الغلام:(كَفَانِيهِمُ اللهُ) تعالى، فرجف بهم الجبل، فهلكوا. (فَدَفَعَهُ)؛ أي: دفع الملك الغلام مرّةً أخرى محاولًا إهلاكه بطريق أخرى، (إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ، فَاحْمِلُوهُ)؛ أي: اجعلوه محمولًا (فِي قُرْقُورٍ) وفي نسخة: قرقورة"، والقرقور بضمّ القافين، بينهما راء ساكنة، وذكر بعض العلماء أن القرقور سفينة كبيرة، وذكر بعضهم أنها سفينة صغيرة، والراجح الذي يدلّ عليه سياق الحديث أنها الصغيرة، لأنها هي التي تُستعمل في مثل هذه المواقع، لا الكبيرة، وقال ابن دُريد، وصاحب "العين": القرقور ضَرْب من السفن، والمناسب للحال والحديث أنه الصغير؛ لأنه الذي يُستعمل في مثل هذا الحَمْل، وفي حديث قصّة موسى عليه السلام: "فلما رأوا التابوت في اليمّ ركبوا القواقير حتى أتوا به"، والكبير إنما يستعمل في عظام الأمور، ولعل الملك قصد الكبير ليتوسّطوا به البحر، ويُبعدوه
(2)
.
وقال القرطبيّ: القرقور ضرب من السفن عربيّ معروف، والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صَغُر منها، وخفّ للتصرّف فيه. انتهى
(3)
.
(فَتَوَسَّطُوا بِهِ)؛ أي: بالغلام (الْبَحْرَ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ)؛ أي: فاتركوه، (وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ)؛ أَي: ارموه فيه حتى يموت. (فَذَهَبُوا بِهِ)؛ أي: فتوسَّطوا به البحر، فعند ذلك دعا الله عز وجل (فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ)؛ أي: بأي سبب شئت هلاكهم به، (فَانْكَفَأَتْ)؛ أي: انقلبت (بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا) بكسر الراء؛ أي: ماتوا بالغرق، (وَجَاءَ) الغلام حال كونه (يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 556.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 307.
(3)
"المفهم" 7/ 427.
الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ) الغلام (كَفَانِيهِمُ اللهُ) فأغرقهم، ونجوت بفضله، ثم أراد الغلام أن يدخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا (فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ)؛ أي: من كيفيّة قتلي. (قَالَ) الملك: (وَمَا هُوَ؟)؛ أي: أيّ شيء أقدر به على قتلك؟ (قَالَ) الغلام: (تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ)، أي: في أرض بارزة واسعة، (وَتَصْلُبُنِي)؛ أي: تعلّقني (عَلَى جِذْعٍ) من جذوع النخل؛ أي: على خشب من الأخشاب حتى يتمكن الناس من النظر إليّ حين أُقتل في الله عز وجل، فيؤمنوا به، (ثُمَّ خُذْ سَهْمًا)؛ أي: نَبْلًا (مِنْ كِنَانَتِي) بكسر الكاف: السهام، من أَدَم، وبها سمّيت القبيلة
(1)
. (ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ)، أي: في مقبضها عند الرمي، (ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ) أقتله، (ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي)؛ أي: تقدر على قتلي، وإلا فلن تستطيع ذلك. (فَجَمَعَ) الملك (النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ) كما أمره به، (ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ)، أي: في مقبضه، (ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ) أرميه، (ثمَّ رَمَاهُ) به (فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ)؛ أي: في صدغ الغلام، والصدغ، بضم الصاد، وسكون الدال المهملتين: ما بين لَحْظ العين إلى أصل الأذن، والجمع أصداغ، مثل قُفل وأقفال
(2)
.
(فَوَضَعَ) الغلام (يَدَهُ فِي صُدْغِهِ)، وقوله:(فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ) بدل مما قبله، (فَمَاتَ) ذلك الغلام.
قال القاضي عياض: سعيه؛ أي: تسببه في قتل نفسه إنما هو لِيُشهر أمر الإيمان في الناس، ويروا برهانه، كما وقع. قال القرطبيّ: ويجاب أيضًا بأنه غير بالغ، أو علم أنه لا بدّ أن يُقتل.
والحاصل: أنه إنما علّم الملِك بكيفية قتله، مع أن قتل النفس حرام؛ لأنه عَلِم أنه لا بد أن يُقتل، وإنما نجاته الآن بطريق الكرامة لإحقاق الحقّ، فأمره بما يتضح به الحقّ لجميع الناس، فيؤمنوا، فيكون سببًا لهدايتهم، وهذا كالمجاهد الذي يُقحم نفسه في معركة القتال؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 542.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 335.
(فَقَالَ النَّاسُ:) المجتمعون في ذلك الصعيد لما شاهدوا ذلك، وعلموا أن الدين الحق هو دين ذلك الغلام، (آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ) كرّروه للتأكيد، (فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ) ببناء الفعل لمفعول في الموضعين؛ أي: أتاه آت من خواصّ دولته الذين يهتمون بشأنه، فقالوا:(أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ)؛ أي: أخبرنا عما كنت تحذره، وتخاف منه، وهو أن يؤمن جميع الناس بالله تعالى، (قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ)؛ أي: ما كنت تخافه، وهو أنه (قَدْ آمَنَ النَّاسُ) كلهم بربّ الغلام، وتركوك خائبًا ذليلًا حقيرًا، فعندما سمع ذلك غضب غضبًا شديدًا، (فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ)؛ أي: بشقّ الأُخدود، وهو بضمّ الهمزة، وسكون الخاء المعجمة: الشقّ العظيم، يُجمع على أخاديد، (فِي أَفْوَاهِ) وفي بعض النسخ:"بأفواه"(السِّكَكِ)؛ أي: على أبواب الطرق، ومداخلها، (فَخُدَّتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: شُقّت الأخدود على أفواه الطرق، وإنما شُقّت على أفواه الطرق، لئلا يتمكن الناس من الهروب، (وَأَضْرَمَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أوقد، وأشعل (النِّيرَانَ) في تلك السكك، (وَقَالَ) ذلك الملك:(مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ) الحقّ الذي هو دين ذلك الغلام (فَأَحْمُوهُ فِيهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في عامة النسخ: "فأحموه" بهمزة قطع، بعدها حاء ساكنة، ونقل القاضي اتفاق النُّسخ على هذا، ووقع في بعض نُسخ بلادنا. "فأقحموه" بالقاف، وهذا ظاهر، ومعناه: اطرحوه فيها كُرْهًا، ومعنى الرواية الأُولى: ارموه فيها، من قولهم: حَمَيت الحديدة وغيرها: إذا أدخلتها النار؛ لتحمى. انتهى
(1)
.
(أَوْ) للشك؛ أي: أو قال: (قِيلَ لَهُ)؛ أي: لمن لم يرجع عن دينه، (اقْتَحِمْ)؛ أي: ادخل فيها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أو قيل: اقتحم" هذا شكّ من بعض الرواة، "فأحموه فيها" معناه: ألقوه فيها، وأدخلوه إياها، يقال: أحميت الحديدَ والشيءَ في النار: إذا أدخلته فيها. قال القاضي أبو الفضل: "واقتحم" أدخل على كره، ومشقة
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 133.
(2)
"المفهم" 7/ 428.
(فَفَعَلُوا)؛ أي: فعل أصحاب الملك ما أمرهم به من قذف من لم يرجع عن دينه في تلك النار، (حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ) لم يُعرف اسمها، ولا اسم صبيّها، (وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا) فأمرها بدخول النار، (فَتَقَاعَسَتْ)؛ أي: توقّفت، وتأخّرت، وتباطأت، (أَنْ تَقَعَ فِيهَا)؛ أي: في تلك النار.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فتقاعست"؛ أي: تأخرت، وامتنعت، وقد أظهر الله تعالى لهذا الملك الجبار الظالم من الآيات البيّنات ما يدلّ على القطع، والثبات أن الراهب والغلام على الدين الحقّ، والمنهج الصدق، لكن من حُرم التوفيق استدبر الطريق. وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وقد تقدَّم القول فيها. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ)؛ أي: صبيها الذي معها، (يَا أُمَّهِ اصْبِرِي)"أمه" بكسر الميم على حذف ياء المتكلّم؛ اجتزاء عنها بالكسرة، وبهاء السكت، وتفتح الميم مع هاء السكت على قلب ياء المتكلّم ألفًا، وحَذْفها؛ اجتزاء عنها بالفتحة، وعلى كلا التقديرين فهاء السكت ساكنة، وإنما حُركت هنا بالكسرة؛ لالتقاء الساكنين.
[تنبيه]: ذكر ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" قاعدة الاسم إذا نودي مضافًا إلى ياء المتكلم، كيا عبدي، ويا أبي، ويا أمي، فقال:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضفْ لِيَا
…
كَعَبْدِ عَبْدي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
وَفَتْحٌ أَوْ كَسْرٌ وَحَذْفُ الْيَا اسْتَمَرّ
…
فِي يَا ابْن أُمِّ يَا ابْنَ عَمِّ لَا مَفَرّ
وَفِي النِّدَا أَبَتِ أُمَّتِ عَرَضْ
…
وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَا التَّا عِوَضْ
(فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ") الذي هو التوحيد، قيل: إن هذا الغلام الذي كلّم أمه أحد الستّة الذين تكلموا في المهد، كما في "شرح الأبيّ"، وكونه في المهد ليس صريحًا في رواية مسلم هنا، ولكن وقع عند النسائي في "السنن الكبرى":"فجاءت امرأة بابن لها تُرضعه"، وهو صريح في كونه رضيعًا.
ووقع في رواية الترمذيّ في آخر هذا الحديث زيادة، وهي، "قال: يقول الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)} [البروج: 4 - 5]
(1)
"المفهم" 7/ 428.
قال: فأما الغلام، فإنه دُفن، فيُذكر أنه أُخرج في زمن عمر بن الخطاب، وإصبعه على صدغه، كما وضعها حين قُتل".
وبرواية الترمذيّ استدلّ بعض المفسّرين أن المراد من أصحاب الأخدود في سورة البروج: هؤلاء الذين آمنوا بالله بعد شهادة الغلام، ولكن رواية الترمذيّ ليست صريحة في ذلك، أما أولًا، فلأن تلاوة آيات من سورة البروج مدرجة من أحد الرواة، وليست جزءًا من حديث مرفوع.
وأما ثانيًا، فلأن مجرّد تلاوة هذه الآيات لا يقتضي أن تكون نزلت في هذه القصّة، وربما يتلو بعض الرواة الآيات لكونها مناسبة بالقصّة، أو منطبقة عليها، كما تقرّر في أصول التفسير.
وقد ذكر ابن إسحاق قصّة لأهل نجران تشابه هذه القصّة، وذكر أنها هي القصّة المقصودة في القرآن الكريم، وراجع "تفسير ابن كثير"، قاله صاحب "التكملة"
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث صهيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 7480](3005)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9751)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3340)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7319 و 7320)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 510)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 17 - 18)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(873)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات كرمات الأولياء، فقد ظهر على يدي هذا الغلام خوارق كثيرة.
2 -
(ومنها): صبر أولياء الله تعالى على الابتلاء في ذات الله عز وجل، وما
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 509.
يلزمهم من إظهار دينه، والدعاء إليه، وهو مراد الغلام بقوله للملك: لست بقاتلي حتى تصلبني
…
إلخ.
3 -
(ومنها): أن الصبي الذي كلّم أمه، وهي ترضعه ممن تكلّم في المهد، وهم جماعة، وقد سبق ذكرهم في "كتاب البرّ والصلة" رقم [2/ 6488](2550) فراجعه تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): أن الحديث دليل على إجازة الكذب لمصلحة الدِّين، ووجه التمسك به أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث كله في معرض الثناء على الراهب والغلام، على جهة الاستحسان لِمَا صدر عنهما، فلو كان شيء مما صدر عنهما من أفعالهما محرّمًا، أو غير جائز في شرعه لبيّنه صلى الله عليه وسلم لأمته، ولاستثناه من جملة ما صدر عنهما، ولم يفعل ذلك، فكل ما أخبر به عنهما حجَّة، ومسوغ الفعل، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: وهذا الحديث كله إنما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليصبروا على ما يلقون من الأذى، والآلام، والمشقات التي كانوا عليها؛ ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره، وتصلّبه في الحق، وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وعظيم صبره، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحقّ حتى نشر بالمنشار، وكذلك كثير من الناس لمّا آمنوا بالله تعالى، ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار، ولم يرجعوا عن دينهم، وهذا كله فوق ما كان يُفعل بمن آمن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يكن فيهم من فُعل به شيء من ذلك؛ لكفاية الله تعالى لهم، ولأنه تعالى أراد إعزاز دينه، وإظهار كلمته.
على أني أقول: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء في الله، وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى، فقد امتُحن كثير منهم بالقتل، وبالصلب، وبالتعذيب الشديد، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، وتكفيك قصّة عاصم، وخبيب، وأصحابهما، وما لقي أصحابه من الحروب، والمحن، والأسر، والحرق، وغير ذلك، فلقد بذلوا في الله نفوسهم، وأموالهم، وفارقوا ديارهم،
(1)
"المفهم" 7/ 424 - 425.
وأولادهم، حتى أظهروا دين الله، ووفوا بما عاهدوا عليه الله، فجازاهم الله أفضل الجزاء، ووفّاهم من أجر من دخل في الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء. انتهي
(1)
، والله تعالى أعلم.
(17) - (بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7481]
(3006) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ - وَالسِّيَاقُ لِهَارُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْتُ أنا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ، فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ؟، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ، فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ، فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا، قَالَ: قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ، فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ
(2)
- وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ - وَسَمْعُ أُذُنَيّ
(1)
"المفهم" 7/ 426.
(2)
وفي نسخة: "بصر عيناي هاتان" و"سمع أذناي هاتان".
هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ - رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ:"مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ".
(3007)
- قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَنَا: يَا عَمِّ لَوْ أنَّكَ أَخَذْتَ بُرْدَةَ غُلَامِكَ، وَأَعْطَيْتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذْتَ مَعَافِرِيَّهُ، وَأَعْطَيْتَهُ بُرْدَتَكَ، فَكَانَت عَلَيْكَ حُلَّةٌ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، يَا ابْنَ أَخِي بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ، وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ - رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ:"أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ"، وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(3008)
- ثُمَّ مَضَيْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلًا بِهِ، فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ، حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، أتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ؟، قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي هَكَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوَّسَهَا: أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ الأَحْمَقُ مِثْلُكَ، فَيَرَانِي كيْفَ أَصْنَعُ؟ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ.
أتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ، فَرَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:"أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟ "، قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ:"أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟ "، قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ:"أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟ "، قُلْنَا: لَا، أيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ، فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا"، ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ:"أَرُونِي عَبِيرًا"، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أثَرِ النُّخَامَةِ، فَقَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ.
(3009)
- سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ، وَالسِّتَّةُ، وَالسَّبْعَةُ،
فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ، فَقَالَ لَهُ: شَأْ لَعَنَكَ اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟ "، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أنفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً، يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ".
(3010)
- سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَتْ عُشَيْشِيَةٌ، وَدَنَوْنَا مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا، فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ، فَيَشْرَبُ، وَيَسْقِينَا؟ "، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّ رَجُلٍ مَعَ جَابِرٍ؟ "، فَقَامَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْبِئْرِ، فَنَزَعْنَا فِي الْحَوْضِ سَجْلًا، أَوْ سَجْلَيْنِ، ثُمَّ مَدَرْنَاهُ، ثُمَّ نَزَعْنَا فِيهِ، حَتَّى أَفْهَقْنَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ طَالِعٍ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَتَأْذَنَانِ؟ "، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَشْرَع نَاقَتَهُ، فَشَرِبَتْ، شَنَقَ لَهَا، فَشَجَتْ، فَبَالَتْ، ثُمَّ عَدَلَ بِهَا، فَأَنَاخَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّإِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، ذَهَبْتُ أَنْ أُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ لِي، وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ، فَنَكَّسْتُهَا، ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جِئْتُ، حَتَّى قُمْتُ، عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي، حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا، حَتَّى أقَامَنَا خَلْفَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُنِي، وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، ثُمَّ فَطِنْتُ بِهِ، فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، يَعْنِي: شُدَّ وَسَطَكَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَا جَابِرُ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"إِذَا كَانَ وَاسِعًا، فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا، فَاشْدُدْهُ عَلَى حِقْوِكَ".
(3011)
- سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٌ مِنَّا فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، فَكَانَ يَمَصُّهَا، ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوْبِهِ، وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا، وَنَأْكُلُ، حَتَّى قَرِحَتْ
أَشْدَاقُنَا، فَأُقْسِمُ أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا، فَانْطَلَقْنَا بِهِ نَنْعَشُهُ، فَشَهِدْنَا أنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا، فَأُعْطِيَهَا، فَقَامَ، فَأَخَذَهَا.
(3012)
- سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أفيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:"انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ"، فَانْقَادَتْ مَعَهُ؛ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:"انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ"، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا، لأَمَ بَيْنَهُمَا - يَعْني: جَمَعَهُمَا - فَقَالَ: "الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ"، فَالْتَأَمَتَا، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِي، فَيَبْتَعِدَ - وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ: فَيَتَبَعَّدَ - فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ وَقْفَةً، فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا - وَأَشَارَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا - ثُمَّ أَقْبَلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِليَّ قَالَ:"يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟ " قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ، فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، فَأَقْبِلْ بِهِمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي، فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ، وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ"، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَأَخَذْتُ حَجَرًا، فَكَسَرْتُهُ، وَحَسَرْتُهُ، فَانْذَلَقَ لِي، فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا، حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي، وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ:"إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ، يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ".
(3013)
- قَالَ: فَأَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، "يَا جَابِرُ نَادِ بِوَضُوءٍ"، فَقُلْتُ: ألَا وَضُوءَ، ألَا وَضُوءَ، ألَا وَضُوءَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ مِنْ قَطْرَةٍ، وَكانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ لَهُ عَلَى حِمَارَةٍ، مِنْ جَرِيدٍ، قَالَ: فَقَالَ لِيَ: "انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ بْنِ
فُلَانٍ الأَنْصَارِيِّ، فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَىْءٍ؟ "، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، قَالَ: "اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهِ"، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَىْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَانِيهِ، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ نَادِ بِجَفْنَةٍ"، فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ، فَأُتِيتُ بِهَا، تُحْمَلُ، فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ هَكَذَا، فَبَسَطَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ، وَقَالَ: "خُذْ يَا جَابِرُ، فَصُبَّ عَلَيَّ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ"، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَوَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ، وَدَارَتْ، حَتَّى امْتَلأَتْ، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ؟ "، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ، فَاسْتَقَوْا، حَتَّى رَوَوْا، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ مَلأَى.
(3014)
- وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ، فَقَالَ:"عَسَى اللهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ"، فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ، فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً، فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا، وَاشْتَوَيْنَا، وَأَكَلْنَا، حَتَّى شَبِعْنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أَنَا، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا، مَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَوَّسْنَاهُ، ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ، فَدَخَلَ تَحْتَهُ، مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الخزاز، نزيل بغداد [10]، تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزبرقان المكيّ، نزيل بغداد [10]، تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
3 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أبو إسماعيل المدنيّ [8]، تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ أَبُو حَزْرَةَ) لقبه، وكنيته أبو يوسف، المدنيّ، [6]، تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 16/ 1250.
5 -
(عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاريّ المدنيّ [4]، تقدم في "الإمارة" 8/ 4759،
6 -
(أَبُو الْيَسَرِ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن غَزِية بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاريّ السلميّ، وقيل في نسبه غير ذلك، شَهِد العقبة، وبدرًا، وهو ابن عشرين سنة، وهو الذي أَسَر العباس يومئذ.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عمار، وموسى بن طلحة بن عبيد الله، وعبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وعمر بن الحكم بن رافع، وغيرهم.
قال أبو حاتم، وغير واحد: مات بالمدينة سنة خمس وخمسين، وقيل: إنه آخر من مات من أهل بدر رضي الله عنهم، وهو قول ابن إسحاق، وهو بقية الأنصار، وذكر العسكريّ أنه شهد مع عليّ مشاهده، وأنه مات، وله عشرون ومائة سنة، وفي "المسند" من حديثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجة، فرآه مولّيًا، فقال:"اللَّهُمَّ أمتعنا به" فكان من آخر الصحابة موتًا، وكان إذا حدّث بهذا الحديث بكى، وقال: أُمتعوا بي لعمري، حتى كنت من آخرهم.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.
7 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السلميّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين سوى شيخيه، فبغداديّان، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي لقبه، وكنيته أبو يوسف، (عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ) الأنصاريّ المدنيّ، أنه (قَالَ: خَرَجْتُ أنَا) أتي بالضمير المنفصل؛ ليمكنه عطف الظاهر على المتصل بلا ضَعف، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلْ
(وَأَبِي) الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاريّ المدنيّ، أبو عبادة، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، تقدّمت ترجمته في "الإمارة" 8/ 4759، حال كوننا (نَطْلُبُ الْعِلمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا)، أي: يموتوا، أو يقتلوا في الحروب التي جرت بين المسلمين. (فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا) برفع "أولُ" على أنه اسم "كان"، وقوله:(أَبَا الْيَسَرِ) خبرها، وهو بفتحتين، واسمه كعب بن عمرو بن عباد، كما مرّ آنفًا. (صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ غُلَامٌ)؛ أي: عبد (لَهُ) الجملة حال من أبي اليسر، وقوله:(مَعَهُ)؛ أي: مع غلامه (ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ) جملة حاليّة من "غلام"، و"الضمامة" بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الميم: الْحُزمة، ومجموعة الشي؛ لأنها يضمّ بعضها إلى بعض، وقد وقع في بعض النسخ: إضمامة بزيادة الهمزة المكسورة في أولها، وهو المشهور في اللغة بهذا المعنى، والحاصل أنه كان عنده مجموعة من الصحف
(1)
. (وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ) بالضمّ على وزن غُرفة: كساء صغير مربّع، ويقال: كساء أسود صغير
(2)
. (وَمَعَافِرِيُّ) بفتح الميم: نوع من الثياب يُصنع بقرية في اليمن تُسمّى معافر، وذكر القاضي عياض أن أصل هذه التسمية أنها لقبيل من اليمن سُمّوا بذلك، وأراهم نزلوها، أو أصل ما سُمّوا به جبل ببلادهم، يقال له: معافر، وقال ابن سرّاج: ويقال في القبيل: مُعافر بضم الميم، وأنكره يعقوب. انتهى
(3)
.
(وَعَلَى غُلَامِهِ)؛ أي: عبد أبي اليسر (بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ) مماثلتان لما يلبسه أبو اليسر.
والمقصود من هذا الكلام التنبيه على أن أبا اليسر رضي الله عنه كان يلبس ما يلبسه غلامه، وإن كان من الممكن أن يلبس معافريين، ويُلبس غلامه بُردين، أو بالعكس؛ ليصير لكل واحد منهما حُلّة متوافقة، ولكنه فعل ذلك عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ألبسوهم مما تلبسون" كما سيأتي في كلامه رضي الله عنه.
(1)
"التكملة" 6/ 511.
(2)
"المصباح" 1/ 43.
(3)
"إكمال المعلم" 8/ 559.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لأبي اليسر (أَبِي) الوليد بن عبادة: (يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سُفْعةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: السُّفْعة وزانُ غُرفة: سواد مُشْرب بحمرة، وسَفِعَ الشيءُ، من باب تعب: إذا كان لونه كذلك. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "سفعة"؛ أي: علامة، يقال: سفعت الشيءَ: إذا أعلمته، ومنه قول الشاعر:
وَكُنْتُ إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ نَزَتْ لَهُ
…
سَفَعْتُ عَلَى الْعِرْنِينِ مِنْهُ بِمِيسَمِ
قال: يقال: سَفْعَةٌ، وسُفعة بفتح السين، وضمها، وكذا رويناهما معًا، وأصل ذلك من السواد، وهو الاربداد الذي يظهر على وجه الغضبان. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ضبط السُّفعة بالضمّ هو الذي في كُتُب اللغة؛ كـ"المصباح"، و"القاموس"، و"اللسان"، وأما ما ذكره القاضي من جواز الفتح، وتبعه الشرّاح، فمحل نظر، والله تعالى أعلم.
(مِنْ) أجل (غَضَبٍ) غضبته، فما سببها؟ (قَالَ) أبو اليسر:(أَجَلْ) كنعم وزنًا ومعنًى؛ أي: عندي غضبٌ، ثم ذكر السبب فقال:(كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ) قال القاضي: رواه الأكثرون: "الحرامي" بفتح الحاء، وبالراء: نسبة إلى بني حرام، ورواه الطبريّ وغيره بالزاي المعجمة، مع كسر الحاء، ورواه ابن ماهان:"الجُذاميّ" بجيم مضمومة، وذال معجمة. انتهى
(3)
.
و"فلان ابن فلان" هذا لم يُعرف اسمه.
(مَالٌ)؛ أي: دَين، (فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ) لأتقاضى دَيني (فَسَلَّمْتُ) على أهله (فَقُلْتُ: ثَمَّ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أ (هُوَ؟) في ذلك المكان؟ (قَالُوا: لا)؛ أي: ليس موجودًا في ذلك المكان، (فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ) لم يُعرف اسمه، (جَفْرٌ) بفتح الجيم
(4)
، وسكون الفاء: هو الذي قارب البلوغ، وقيل: هو الذي قَوِيَ على الأكل، وقيل: ابن خمس سنين، قاله النوويّ، وهو في أصل اللغة:
(1)
"المصباح" 1/ 279.
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 559 - 560.
(3)
"شرح النوويّ" 18/ 134.
(4)
وأما ما وقع في شرح الشيخ الهرري بضم الجيم، فغير صحيح، فتنبه.
ولد المعز الذي بلغ أربعة أشهر، وجفر جنباه، وفُصل عن أمه، وأخذ في الرعي، والمؤنّث منه جَفْرة، قاله في "اللسان"
(1)
. (فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لذلك الابن (أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ، فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي) قال ثعلب: الأريكة هو السرير الذي في الحجلة، والحجلة ستارة العروس، ولا يسمى السرير أريكة إلا إذا كان في الحجلة، وقال الزجاج: الأرائك: الفُرُش في الحجال، وقيل: الأريكة: سرير منجّد مزيّن في قبة، أو في بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة، قاله في "اللسان".
قال أبو اليسر: (فَقُلْتُ) للرجل لمّا علمت أنه موجود في البيت: (اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ؟)؛ أي: في أيّ مكان من البيت، (فَخَرَجَ) إليّ (فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ)؛ أي: اختفيت (مِنِّي؟ قَالَ) الرجل: (أَنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ) في شأن اختفائي عنك، (ثُمَّ) بعد أن أحدّثك بسبب الاختفاء عنك (لَا أَكْذِبُكَ) بالوعد في قضاء دَيني، (خَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة، (وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ) بالوعد (فَأَكْذِبَكَ) بخُلفه، فقوله:(وَأَنْ أَعِدَكَ، فَأُخْلِفَكَ) تأكيد لِمَا قبله، (وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أنك أرفع من أن يكذب عليك أحد حيث كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة أرفع الناس قدرًا، فلا ينبغي لي أن أعدك، ولا أفي لك، فإن هذا يحط من قدرك الرفيع، فهذا هو سبب الاختفاء، ثم ذكر سبب عدم وفائه بالوعد، فقال:(وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا)؛ أي: فقيرًا لا أستطيع قضاء دَينك. (قَالَ) أبو اليسر: (قُلْتُ: آللهِ؟)، أي): أقسمت عليك هل أنت معسر عن قضاء دَيني؟ (قَالَ) الرجل: (اللهِ)؛ أي: والله كنت معسرًا، (قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ) كرّره ثلاث مرّات مبالغة في التأكد.
فقوله: "آلله" بمدّ الهمزة، وهي همزة الاستفهام دخلت على همزة الوصل في كلمة "الله"، وحرف القَسَم محذوف، فالهاء في الأخير مجرورة، وقد روى بعضهم فتح الهاء أيضًا، ولكنه غير موافق لقياس العربيّة في قول أكثر النحاة؛ لأن واو القسم إذا عُوّضت بهمزة الاستفهام، فلا يجوز فيه إلا الخفض.
(1)
"لسان العرب" 4/ 142.
وقوله: "قال: الله" ذكر النوويّ أن الهمزة هنا غير ممدودة، وذلك لأنه جواب، فلا تصلح فيه همزة الاستفهام، والهمزة فيه قطعيّة، وربما تعوَّض بقطع همزة الوصل، وفي مثله يجوز على الهاء الحركات الثلاث، كما حقّقه الأبيّ.
وعبارة الأبيّ رحمه الله: قوله: "آلله" ضبطناه بكسر الهاء، ممدودًا على القَسَم والتقرير، ورويناه في غير الأمّ
(1)
بالفتح، وأكثر أهل العربيّة لا يجيزون فيه غير الكسر، قال الكسائيّ: كل يمين حُذف منها حرف القَسَم هي منصوبة إلا قوله: الله لآتينك، فإنها مخفوضة؛ لأن القَسَم فيه معنى الفعل؛ أي: أقسم بالله، أو والله، فإذا حذفوا حرفه عمل الفعل عمله.
قال الأبيّ: إذا قلت: بالله لأفعلنّ تقديره: أقسم بالله، فإذا حُذف القسم، ولم يعوّض منه شيء جاز في المقسَم به الحركات الثلاث، فإن عوّض منه شيء، فالعوض إما همزة استفهام، أو ها التنبيه، أو قطع ألف الوصل، وها التنبيه، وقطع ألف الوصل له حكم مذكور في محله.
وذكر القاضي أنه رواه في غير الأم بالفتح.
قال الأبي: ولعل الذي رواه مسلم لم يعوّض منه شيء، وهو أحد الوجوه الثلاثة التي تقدّم ذكرها، وذكر عن الكسائيّ أنه ليس فيه إلا النصب، وعلّل ذلك بما ذُكر، ومعنى تعليله أنك إذا قلت: أقسم بالله، وأظهرت فعل القَسَم مع الباء لا يجوز إظهاره إلا مع الباء وحدها، لا معها ومع الواو، كما يعطيه كلام القاضي، فيتعدى فعل القسم إلى المقسَم به بحرف الجرّ، فإذا حُذف فعل القسم وحروفه، والمعوض منه وُصل الفعل المقدّر إلى المقسَم به بنفسه، فينصبه، وهو معنى قوله: عمل الفعل عمله. انتهى
(2)
.
(قَالَ) عبادة بن الوليد: (فَأَتَى) أبو اليسر (بِصَحِيفَتِهِ) التي كتب فيها هذا الدَّين، (فَمَحَاهَا)؛ أي: أزال ما فيها من الكتابة (بِيَدِهِ) وإنما فعل ذلك لأنه عزم أن لا يطالبه بعد ذلك بالدَّين، إلا أن يجد سعة، فيقضيه بنفسه، كما بيّنه بقوله:(فَقَالَ) أبو اليسر: (إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً)؛ أي: شيئًا من المال تقضي به دَينك (فَاقْضِنِي، وَإِلَّا)؛ أي: وإن لم تجد ذلك فـ (أَنْتَ فِي حِلٍّ)؛ أي: في حلال، وبراءة من دَيني.
(1)
أراد بالأم: صحيح مسلم.
(2)
"شرح الأبيّ" 6/ 308 - 309.
قال أبو اليسر: (فَأَشْهَدُ)؛ أي: مضارع بمعنى الماضي؛ أي: شهد، وقوله:(بَصَرُ عَيْنَيَّ) مرفوع على الفاعليّة، والإضافة من إضافة المصدر إلى فاعله، وقوله:(هَاتَيْنِ) بدل من "عينيّ" وفي بعض النسخ: "بصرُ عيناي هاتان"، فيكون على لغة من يُلزم المثنى الألف في أحوالها. (وَوَضَعَ) أبو اليسر (إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ) والجملة حال من فاعل "قال" المقدّر قبل "فأشهد"، وقوله:(وَسَمْعُ أُذُنَيّ) بفتح السين، وسكون الميم بصيغة المصدر معطوف على "بَصَرُ عينيّ"، وقوله:(هَاتَيْنِ) بدل من "أذنيّ"، وقوله:(وَوَعَاهُ)، أي: حفظه، أي: ما سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(قَلْبِي) مرفوع على الفاعليّة لـ "وعاه"، وقوله:(هَذَا) بدل من "قلبي"، (وَأَشَارَ) أبو اليسر عند قوله:"ووعاه قلبي هذا"، (إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ) بفتح الميم، وفي بعض النسخ:"نياط" بكسر النون، ومعناهما واحد، وهو عِرْقٌ معلَّقٌ بالقلب.
وهذا الذي ذكرنا من وجه الإعراب على رواية الأكثرين، وهي "بصرُ عينيّ"، بفتح الصاد، وضم الراء، وكذلك "سَمْعُ أذنيّ" بفتح السين، وسكون الميم، وضم العين، على كونهما مصدرين مضافين إلى فاعلهما، وهو أسلوب من أساليب العرب، قال سيبويه: العرب تقول: سَمْعُ أذني زيد، ورَأي عيني يقول ذلك، ويفعل ذلك، وأنشدوا:
وَرَأْيُ عَيْنِي الْفَتَى أَخَاكَا
…
يُعْطِي الْجَزِيلَ فَعَلَيْكَ ذَاكَا
وهما مصدران استعيرا لمعنى الفعل لزيادة التوكيد، ومفعولهما:"رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، وقبله جملة معترضة، وهي:"ووعاه قلبي"، يعني: وعى قلبي ما رأيته، وسمعته منه صلى الله عليه وسلم.
وعند العذريّ بضمّ الصاد، وفتح الراء على صيغة الماضي، و"عيناي" بالرفع على أنه فاعل، وجملة:"ووعاه قلبي" معترضة بين الفعل والمفعول، وهو قوله بعدُ:"رسول الله صلى الله عليه وسلم".
والمعنى على هذه الرواية: قال أبو اليسر: فأشهد على أنه بصرت عيناي هاتان، وسمِعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول .... إلخ، وقد وعا قلبي ما رأيته، وسمعته منه صلى الله عليه وسلم.
قال الأبيّ: الأصل في الترتيب تقديم الفعل، ثم يليه الفاعل، ثم يلي
المفعول، وقد يعرض ما يوجب الخروج عن هذا الأصل على ما هو مذكور في محلّه، وليس في هذا الحديث إلا الفصل بين الفاعل والمفعول بما ليس بأجنبيّ، بل بما يفيد توكيدًا، وذاك خفيف. انتهى
(1)
.
(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسول" كما أسلفته آنفًا، (وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا)؛ أي: أمهل، وأخّر فقيرًا، مع بقاء الدَّين على حاله، (أَوْ وَضَعَ عَنْهُ)؛ أي: حطّ، وأسقط عن المعسر بعض الديون، (أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ") الضمير لله تعالى، قيل: المراد: ظلّ العرش، وقيل: ظلّ الجنّة، والحقّ أن الكلّ محتمل، ولكن الأَولى أن نفوّض علم حقيقته إلى الله تعالى.
قال الأبيّ رحمه الله: فإن قلت: القاعدة أن ثواب الواجب أكثر من ثواب المندوب، والأمر هنا بالعكس؛ لأن الإنظار واجب، والوضع مندوب، ومن المعلوم أن ثواب الوضع أكثر من ثواب الإنظار.
قلت: أجيب بأن ثواب المندوب هنا إنما كان أكثر لاستلزامه الواجب؛ لأن الوضع إنظار وزيادة، وإنما يكون الأمر كما ذكرت لو لم يكن يستلزمه. انتهى
(2)
.
(قَالَ) عبادة بن الوليد بالسند السابق: (فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لأبي اليسر، وقوله:(أَنَا) توكيد للضمير المتّصل، والفصل بالجارّ والمجرور مغتفَر. (يَا عَمِّ) مثلث الميم، والضمّ أضعفها، وقد تقدّم توجيهه قريبًا. (لَوْ) شرطيّة، وجوابها محذوف؛ أي: لكان خيرًا، أو هي للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب؛ أي: أتمنّى (أنَّكَ أَخَذْتَ بُرْدَةَ غُلَامِكَ، وَأَعْطَيْتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذْتَ مَعَافِرِيَّهُ، وَأَعْطَيْتَهُ بُرْدَتَكَ، فَكَانَتْ عَلَيْكَ حُلَّةٌ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ) قال الأبيّ رحمه الله: كذا الرواية، وفيها خلل، نبّهَنا عليه بعض شيوخنا، قال: لأن أصل ما أشار به عليه أن يبدل كلّ واحد منهما جميع ما عليه بجميع ما على الآخر، ولا يفيد القصد، فإن قصده أن يكون على أحدهما بُردان، وعلى الآخر معافريّان، وهذا لا يستقيم مع العطف بالواو، وإنما يستقيم مع العطف بـ "أو"، وهذا معنى قوله: فيكون عليك حلّة،
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 310.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 310.
وعليه حلّة؛ لأن الحلّة ثوبان أحدهما على الآخر، وبذلك تسمّى الحلّة؛ لحلول أحدهما على الآخر.
وقال أبو عبيد: الحلّة إزار ورداء، ولا يكون حلّة حتى يكونا ثوبين، ومنه قوله في الحديث الآخر:"فرأى رجلًا عليه حلّة، قد ائتزر بأحدهما، وتردى بالآخر"، وقيل: لا يقال: حلّة إلا للثوب الجديد الذي حُلّ الآن من طيّه؛ لأن الحلة ثوب على ثوب، وسمّيت حلّة؛ لحلول أحدهما على الآخر. انتهى
(1)
.
(فَمَسَحَ) أبو اليسر (رَأْسِي) إيناسًا له، (وَقَالَ) داعيًا له:(اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ) دعا له لما رأى من نجابته حيث سأله هذا السؤال. (يَا ابْنَ أَخِي بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ) فـ "بَصَرُ" بصيغة المصدر مبتدأ خبره محذوف؛ أي: حاصل، ومثله قوله:(وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا - وَأَشَارَ) أبو اليسر (إِلَى مَنَاطِ)؛ أي: موضع (قَلْبِهِ)، وقوله:(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسولَ" على أنه مفعول المصدرين السابقين، أعني "بصرُ"، و"سَمْعُ" على سبيل التنازع، (وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "أَطْعِمُوهُمْ) الضمير للمماليك، (مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَأَلبِسُوهُمْ) بقطع الهمزة، (مِمَّا تَلْبَسُونَ") بفتح المضارعة، من لبس يلبس، من باب علم.
قال النوويّ رحمه الله: الأمر بإطعامهم مما يأكل السيد، وإلباسهم مما يلبس محمول على الاستحباب، لا على الإيجاب، وهذا بإجماع المسلمين، وأما فِعل أبي اليسر رضي الله عنه في كسوة غلامه مثل كسوته، فعمل بالمستحب، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك، وكسوته بالمعروف، بحسب البلدان، والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد، ولباسه، أو دونه، أو فوقه، حتى لو قَتَّر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله، إما زهدًا، وإما شُحًّا، لا يحل له التقتير على المملوك، وإلزامه، وموافقته إلا برضاه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه، أو بغيره
(2)
.
والحاصل: أن المقصود عند الجمهور المواساة بحسب المعروف، لا المساواة، ويدلّ على ذلك ما أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 310.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 133.
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله أكلة، أو أكلتين، أو لقمة، أو لقمتين، فإنه وَليَ حَرّه، وعلاجه"، والله تعالى أعلم.
قال أبو اليسر: (وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ)"أن" بالفتح مصدريّة؛ أي: والمصدر اسم "كان"، وكان إعطائي له (مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ) بالنصب خبر "كان"، (عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بسبب ظلمي له.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي اليَسَر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا [17/ 7481](3006)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2444)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 423)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 165 إلى 168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 251)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 281)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(8/ 198)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ هذا الحديث من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه في "صحيحه"، فقال:
(30)
- حدّثنا سليمان بن حرب، قال: حدّثنا شعبة، عن واصل الأحدب، عن المعرور، قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبَذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا، فعيّرته بأمه، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم". انتهى
(1)
.
قال عبادة بن الوليد بالسند الأسبق: (ثُمَّ مَضَيْنَا)؛ أي: ذهبنا (حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ رضي الله عنهما (فِي مَسْجِدِهِ)؛ أي: مسجد جابر رضي الله عنه وقومه، كما سيبيّنه في القصّة التالية. (وَهُوَ)؛ أي: والحال أن جابرًا (يُصَلِّي، فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) حال كونه (مُشْتَمِلًا بِهِ) المراد بالاشتمال هنا: هو المخالفة بين طرفيه على العاتق، وليس هو اشتمال الصمّاء المنهيّ عنه، وفيه جواز الصلاة في
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 20.
الثوب الواحد؛ لأن جابرًا رضي الله عنه فعل ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أخبر به، لكن الزيادة على الواحد فضيلة، كما سبق البحث عنه مستوفًى في "كتاب الصلاة".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "مشتملًا"؛ أي: ملتحفًا اشتمالًا ليس باشتمال الصمّاء المنهيّ عنه، وفيه دليل لجواز الصلاة في ثوب واحد، مع وجود الثياب، لكن الأفضل أن يزيد على ثوب عند الإمكان، وإنما فعل جابر هذا؛ للتعليم، كما قال.
قال عبادة: (فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ) قال القاضي: فعل ذلك، وزاحم حرصًا علي القرب منه لسماع العلم، (حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ)؛ أي: بين جابر (وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ) هذا تمهيد، ومفاتحة للسؤال (أَتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) مشتملًا به (وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ) جملة حاليّة من الفاعل. (قَالَ) عبادة:(فَقَالَ)؛ أي: ضرب، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو شائِع كثير، (بِيَدِهِ فِي صَدْرِي هَكَذَا)؛ أي: مقوّسًا أصابعه، كما فسّره بقوله:(وَفرَّقَ) جابر (بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوَّسَهَا) المعنى أنه ضربه بظهر كفِّه في صدره، مفرّقًا بين أصابعه، ثم مقوّسًا لها؛ أي: جاعلًا لها على صورة القوس؛ يعني: أنه بعد تفريقها لواها، وثناها إلى باطن الكفّ، ثم ضربه بها، وقوله:(أَرَدْتُ) مقول لقول مقدّر حال من فاعل "قال بيده"؛ أي: حال كونه قائلًا: أردت (أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ الأَحْمَقُ)؛ أي: الجاهل بالأحكام الشرعيّة (مِثْلُكَ، فَيَرَانِي كَيْفَ أَصْنَعُ؟) في صلاتي، فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ) برفع "يصنع" كما هو مشكول بضبط القلم، فيكون معطوفًا على "يراني"، ويَحْتمل أن يكون منصوبًا في جواب الاستفهام، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أردت أن يدخل عليّ الأحمق مثلك" المراد بالأحمق هنا: الجاهل، وحقيقة الأحمق من يعمل ما يضرّه، مع علمه بقبحه، وفي هذا جواز مثل هذا اللفظ للتعزير، والتأديب، وزَجْر المتعلم، وتنبيهه، ولأن لفظة الأحمق والظالم قلّ من ينفك من الاتصاف بهما، وهذه الألفاظ هي التى يؤدِّب بها المتقون والورعون من استحقّ التأديب، والتوبيخ، والإغلاظ في القول؛ لأن ما يقوله غيرهم من ألفاظ السفه. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 136 - 137.
ثم قال جابر رضي الله عنه: (أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِنَا هَذَا)، أي: المسجد الذي صلى فيه جابر بثوب واحد مشتملًا.
وهذا الحديث لا علاقة له بما قبله من جواز الصلاة في الثوب الواحد، وإنما ذكره مستقلًّا، لكون عبادة وأبيه أتيا إليه طالبين للعلم.
(وَ) الحال أن (فِي يَدِهِ) صلى الله عليه وسلم (عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ) العرجون بضمّتين بينهما راء ساكنة: عُود العنقود من النخل، مشتمل على شَماريخ كثيرة، والشماريخ جمع شمراخ، والشمراخ: الحبال التي تنفرد به كلّ حبّة من حبوب الرطب، و"ابن طاب" نوع طيّب من أنواع التمر
(1)
.
وقال القرطبيّ: العرجون عود الكباسة، والكباسة، والعذق، والعثكال، والعثكول كله واحد، وكل غصن من أغصان الكباس فيه شمراخ، والشمراخ هو الذي عليه البسر من خمس إلى ثمان، وابن طاب نوع من التمر طيب، قال ابن حمزة: ابن طاب عذق بالمدينة، والعذق بفتح العين: النخل نفسه. انتهى
(2)
.
(فَرَأى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ): أي: جدار المسجد في جهة القبلة (نُخَامَةً) بضمّ النون، وبالميم، وهي ما يخرج من الصدر من الفضلة، والمخاط بالميم، وبالطاء: ما يخرج من الأنف، والنخاعة بفصم النون، وبالعين المهملة: اسم مشترك بين ما يخرج من الصدر، وما يخرج من الأنف، ذكره الترمسيّ في "موهبة ذي الفضل"
(3)
. (فَحَكَّهَا)؛ أي: أزال النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك النخاعة (بِالْعُرْجُونِ)، أي: بعود الكباسة، (ثمَّ أَقْبَلَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيْنَا، فَقَالَ: "أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ) بضم أوله، من الإعراض، وإعراض الله عز وجل عن عبده صفة ثابتة له على ما يليق بجلاله؛ كصفة الغضب، والرضا، والمحبّة، وغيرها (اللهُ عَنْهُ؟ "، قَالَ) جابر: (فَخَشَعْنَا)؛ أي: فزعنا لذلك، قال الأبّي: الخشوع: السكون، والتذلّل، وهو أيضًا الخضوع، وأيضًا الخوف، وأيضًا غضّ البصر في الصلاة، قال الله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 2]؛ أي:
(1)
"الكوكب الوهاج" 26/ 471.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 311.
(3)
"الكوكب الوهاج" 26/ 471.
خاضعون، وقيل: خائفون، وعن ابن سيرين: كان المسلمون يلتفتون في صلاتهم، فنزلت هذه الآية، فغضّوا أبصارهم، فكان أحدهم ينظر إلى موضع سجوده، ويقال: خشع له، وتخشّع: إذا تذلّل، قال ابن سلام: الخشوع: الخوف الثابت في القلب، وقال الليث: الخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع يكون في البدن، والبصر، والصوت.
وقال عياض: كذا رويناه بالخاء المعجمة عن الأكثر، ورويناه عن القاضي الشهيد:"فجشعنا" بالجيم، وكسر الشين، وكذا هو في كتاب القاضي التميميّ بخط يده، ومعناهما صحيح، فمعناه بالخاء ما تقدّم، ومعناه بالجيم: الفزع، ومنه الحديث الآخر:"فبكى معاذ جشعًا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال الهرويّ: معناه جزعًا لفراقه، والجزع: الفزع لفراق الإلف، والجشع أيضًا: الحرص على الأكل وغيره. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة ثانيةً: (أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟ "، قَالَ) جابر: (فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم مرّة ثالثةً: ("أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟ "، قُلْنَا: لَا)؛ أي: لا يحبّ أحدنا ذلك، (أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ) يحبّ أن يعرض الله عنه، فكلنا لا يحبّ ذلك، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ)؛ أي: في جهة قبلته، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الصلاة"، فراجعه تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
(فَلَا يَبْصُقَنَّ)؛ أي: لا يرمينّ بصاقه (قِبَلَ وَجْهِهِ) لأن الله تعالى قِبَل وجهه، (وَلَا عَنْ يَمِينِهِ) فإن عن يمينه ملَكًا، (وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ) لأنه موقف قرينه من الشيطان، فيقع عليه. (تَحْتَه رِجْلِهِ الْيُسْرَى) لأنها جهة خالية، (فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ) بكسر الجيم، أي: غلبت عليه، وبادرته (بَادِرَةٌ)؛ أي: بصاقة مسرعة (فَلْيَقُلْ)؛ أي: يَدْلُك، ففيه إطلاق القول على الفعل، (بِثَوْبِهِ هَكَذَا") ثمّ فسّر ذلك القول بقوله:(ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ) فدلكها حتى ذهب أثرها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَرُونِي عَبِيرًا") بفتح العين، وكسر الموحّدة؛ أي: طِيبًا مخلوطًا من أنواع، قال أبو عبيد: العبير عند العرب هو الزعفران وحده، وقال
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 311.
الأصمعيّ: هو أخلاط من الطِّيب تجمع بالزعفران، قال ابن قتيبة: ولا أرى القول إلا ما قاله الأصمعيّ؛ لقوله: "أتعجز إحداكنّ أن تأخذ تومتين، ثم تلطخهما بعبير، أو زعفران"، والتومة: حبّة تُعمل من فضّة كالدرّ
(1)
.
(فَقَامَ فَتًى) لم يُسمَّ (مِنَ الْحَيِّ)؛ أي: من قبيلة الأنصار، (يَشْتَدُّ)، أي: يسعى ويعدو عَدْوًا شديدًا (إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ) بفتح الخاء المعجمة: طيب مخلوط من أنواع مختلفة، يُجمع بالزعفران، وهو العبير على تفسير الأصمعيّ، وهو ظاهر الحديث، فإنه أمر بإحضار عبير، فأحضر خَلوقًا، فلو لم يكن هو هو لم يكن ممتثلًا
(2)
.
(فِي رَاحَتِهِ،)؛ أي: في كفّه، (فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من يده (فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ)؛ أي: طرف العنقود، (ثُمَّ لَطَخَ)؛ أي: مسح (بِهِ عَلَى أثَرِ النُّخَامَةِ)؛ أي: محلها؛ إزالة لرائحتها الكريهة، ومنظرها القبيح.
وفي هذا الحديث تعظيم المساجد، وتنزيهها من الأوساخ، ونحوها، وفيه استحباب تطييبها، وفيه إزالة المنكر باليد لمن قدر، وتقبيح ذلك الفعل باللسان
(3)
.
(فَقَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَمِنْ هُنَاكَ)؛ أي: فمن ذلك الوقت (جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ)؛ يعني: أن الناس من منذ ذلك اليوم اتخذوا الخلوق في مساجدهم؛ لينظّفوا به المسجد إن اتفق أن وقعت فيه نخامة أو نحوها، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا [17/ 7481](3008)، و (أبو داود) في "الصلاة"(485)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 294)، و (محمد بن نصر) في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 177)، و (عمر بن شبة) في "أخبار المدينة"(1/ 16)، و (الأصفهانيّ) في "دلائل النبوة"(1/ 54)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 312 والحديث ضعيف، كما بيّنه ابن حزم في "المحلي" 10/ 83.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 137 - 138.
(3)
"شرح النوويّ" 18/ 137 - 138.
ثم قال جابر رضي الله عنه بالسند السابق: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ) قال النوويّ: هو بضم الباء الموحّدة، وفتحها، والواو مخففة، والطاء مهملة، قال القاضي رحمه الله: قال أهل اللغة: هو بالضم، وهي رواية أكثر المحدثين، وكذا قيّده البكريّ، وهو جبل من جبال جهينة، قال: ورواه العذريّ: بفتح الباء، وصححه ابن سراج. انتهى.
وكانت هذه الغزوة في السنة الثانية من الهجرة في شهر ربيع الأول قبل غزوة بدر يريد قريشًا، واستعمل على المدينة السائب بن مظعون، وهو أخو عثمان بن مظعون رضي الله عنهما، حتى بلغ بُواط، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا
(1)
.
وذكر الواقديّ في "مغازيه" أنه صلى الله عليه وسلم خرج يعترض لعير قريش فيها أميّة بن خلف، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، ثم رجع، ولم يلق كيدًا، فيمكن أن المجدي بن عمرو الجهنيّ المذكور في هذا الحديث من جملة أصحاب العير، والله تعالى أعلم
(2)
.
(وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو) قال النوويّ رحمه الله: هو بالميم المفتوحة، وإسكان الجيم، هكذا في جميع النُّسخ عندنا، وكذا نقله القاضي عن عامة الرواة والنسخ، قال: وفي بعضها: "النجديّ" بالنون بدل الميم، قال: والمعروف الأول، وهو الذي ذكره الخطابيّ، وغيره. انتهى.
(الْجُهَنِيَّ) نسبة إلى جُهينة القبيلة المعروفة، وكان المجديّ هذا رئيس تلك القبيلة في ذلك الوقت، (وَكَانَ النَّاضِحُ) هو البعير الذي يُستقى عليه، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: نَضَحَ البعيرُ الماءَ: حمله من نهر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو نَاضحٌ، والأنثى نَاضِحَةٌ بالهاء، سُمِّي نَاضِحًا؛ لأنّه يَنْضَحُ العطشَ؛ أي: يبلُّه بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استُعمل النَّاضِحُ في كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء، وفي الحديث:"أَطْعِمْهُ نَاضِحَكَ"؛ أي: بعيرك، والجمع
(1)
راجع: "سيرة ابن هشام مع الروض الأنف للسهيليّ" 2/ 57.
(2)
راجع: "التكملة" 6/ 517.
نَوَاضِحُ. انتهى
(1)
.
(يَعْتَقِبُهُ)؛ أي: نركبه عقبة، والعقبة بضم العين هي ركوب هذا نوبةً، وهذا نوبةً، قال صاحب "العين": هي ركوب مقدار فرسخين
(2)
.
وقوله: (يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ، وَالسِّتَّةُ، وَالسَّبْعَة) وفي بعض النسخ: "يعقبه"، قال النوويّ: هكذا هو في رواية أكثرهم: "يعقبه" بفتح الياء، وضم القاف، وفي بعضها:"يعتقبه" بزيادة تاء، وكسر القاف، وكلاهما صحيح، يقال: عقبه، واعتقبه، واعتقبنا، وتعاقبنا كله من هذا. انتهى
(فَدَارَتْ)؛ أي: وصلت (عُقْبَة)؛ أي: نوبة (رَجُلٍ مِنَ الأنصَارِ) لم يُسمَّ، (عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ)، أي: أبركه ليركبه باركًا، (فَرَكبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ)، أي: طلب منه أن يقوم من مبركه، (فَتَلَدَّنَ) بتشديد الدال؛ أي: تلكأ، وتوقف (عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ)، أي: بعض التوقّف، (فَقَالَ) الرجل (لَهُ)، أي: لذلك الناضح، (شَأْ) بشين معجمة، بعدها همزة، قال النوويّ: هكذا هو في نُسخ بلادنا، وذكر القاضي: أن الرواة اختلفوا فيه، فرواه بعضهم بالشين المعجمة، كما ذكرناه، وبعضهم بالمهملة، قالوا: وكلاهما كلمة زجر للبعير، يقال منهما: شأشأتُ بالبعير بالمعجمة، والمهملة: إذا زجرته، وقلت له: شأ، قال الجوهريّ: وسأسأت بالحمار بالهمز؛ أي: دعوته، وقلت له: تشؤ تشؤ، بضم التاء والشين المعجمة وبعدها همزة. انتهى
(3)
.
(لَعَنَكَ اللهُ)؛ أي: طردك الله تعالى من رحمته، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟ "، قَالَ) الرجل:(أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("انْزِلْ عَنْهُ)، أي: بعيرك الذي لعنته، (فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ)؛ أي: ببعير ملعون، إنما قاله تعزيرًا له، ومعاقبة على اعتدائه على بعيره. (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا)؛ أي: لكيلا توافقوا (مِنَ اللهِ سَاعَةً، يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول، (فِيهَا)، أي: في تلك الساعة، (عَطَاءً) بالرفع على أنه نائب فاعل "يُسأل"، (فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ") بالرفع على الاستئناف،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 609 - 610.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
(3)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
على تقدير مبتدأ؛ أي: فهو يستجيب لكم، وبالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببيّة في جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":
وبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
وفي هذا الحديث النهي عن لعن الدواب، وقد سبق بيان هذا مع الأمر بمفارقة البعير الذي لعنه صاحبه، وفيه أيضًا أن لله تعالى ساعة من ليل أو نهار لا يُسأل فيها شيئًا إلا أعطي، فينبغي للعبد أن يجتنب الدعاء على نفسه، أو أهله، أو ماله في أيّ وقت من الأوقات، مخافة أن يوافق تلك الساعة، فيتضرَر بإجابة دعائه، وبالعكس ينبغي له أن يتعرض للدعاء بالخير في ساعات الليل والنهار رجاء أن يوافق تلك الساعة، فيحصل غرضه، ويسعد السعادة الأبديّة، وبالله تعالى الوفيق.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا [17/ 7481](3009)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1532)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5742)، و (الأصفهانيّ) في "الدلائل"(1/ 54)، والله تعالى أعلم.
قال جابر رضي الله عنه بالسند السابق: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كانَتْ عُشَيْشِيَةٌ) بضم العين، وفتح الشين الأولى، وكسر الثانية، وتخفيف الياء الثانية، قال النوويّ رحمه الله: هكذا الرواية فيها على التصغير، مخففة الياء الأخيرة، ساكنة الأولى، قال سيبويه: صغّروها على غير تكبيرها، وكان أصلها عُشَيّة، فأبدلوا من إحدى الياءين شينًا. انتهى
(1)
. (وَدَنَوْنَا)، أي: قَرُبنا (مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ)، أي: بئرًا من آبارها، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ) استفهاميّة مبتدأ خبره قوله: (رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا) جملة في محل رفع صفة "رجل"، (فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ)، أي: يطيّنه، ويصلحه، يقال: مدرتُ الحوضَ مدْرًا، من باب نصل: أصلحته بالمدر، وهو الطين
(2)
. (فَيَشْرَبُ) هو بنفسه (وَيَسْقِينَا؟ ") بفتح أوله، وضمّه، من سقى ثلاثيًّا، وأسقى رباعيًّا. (قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه:(فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا) القائم، يريد نفسه، (رَجُلٌ) متهيّئ لهذا الأمر (يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) للقوم:
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 566.
("أَيُّ رَجُلٍ) يقوم (مَعَ جَابِرٍ؟ "، فَقَامَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ) بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاريّ ثم السَّلميّ، يكنى أبا عبد الله، ذكره موسى بن عقبة عن ابن شهاب في أهل العقبة، وذكره أبو الأسود عن عروة، في أهل بدر، وروى الطبراني من طريق ابن إسحاق، حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: إنما خَرَص عليهم عبد الله بن رواحة عامًا واحدًا، فأصيب يوم مؤتة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث جبار بن صخر، فيخرص عليهم؛ يعني: أهل خيبر، قال ابن السكن وغيره: مات جبار بن صخر سنة ثلاثين، في خلافة عثمان رضي الله عنهما، زاد أبو نعيم: وهو ابن اثنتين وستين سنة
(1)
.
(فَانْطَلَقْنَا)؛ أي: أنا وجبّار (إِلَى الْبئْرِ) التي أرادها النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَنَزَعْنَا)؛ أي: أخذنا، وجبذنا (فِي الْحَوْضِ سَجْلًا، أَوْ سَجْلَيْنِ)، أي: دلوًا، أو دلوين، والسَّجل بفتح السين، وإسكان الجيم: الدلو المملوءة ماءً، وسبق بيانها مرات، قاله النوويّ، وقال المازريّ: قال ابن السكيت: يقال: نزعت الدلو: جذبتها، ونزعت في السهم: رميت به، ونزعت بآية من كتاب الله: قرأتها محتجًّا بها. (ثُمَّ مَدَرْنَاهُ)؛ أي: مدرنا الحوض، وأصلحناه، (ثُمَّ نَزَعْنَا فِيهِ)، أي: في الحوض؛ يعني: أنهما أخذا الماء من البئر، وصبّاه فيه (حَتَّى أفهَقْنَاهُ)، أي: ملأنا ذلك الحوض بالماء، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخنا، وكذا ذكره القاضي عن الجمهور، قال: وفي رواية السمرقنديّ: "أصفقناه" بالصاد، وكذا ذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين" عن رواية مسلم، ومعناهما: ملأناه. انتهى
(2)
.
(فَكَانَ أَوَّلَ طَالِع عَلَيْنَا) بنصب "أولَ" على أنه خبر "كان" مقدّمًا، واسمها قوله:(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أتَأْذَنَانِ؟ ") لي أن أسقيه راحلتي، هذا فيه أدب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحسن خُلُقه، فإن جابرًا وصاحبه ما تقدّم إلا له، ولراحلته، ولأصحابه الذين معه، ولكن راعى حقهما، فاستأذنهما.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لأمته الآداب الشرعية، والورع،
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 449.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
والاحتياط، والاستئذان في مثل هذا، وإن كان يعلم أنهما راضيان، وقد أُرصدا ذلك له صلى الله عليه وسلم، ثم لمن معه.
قال جابر: (قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ) أذنّا لك، (فَأَشْرَعَ) صلى الله عليه وسلم (نَاقَتَهُ) معنى أشرعها: أرسل رأسها في الماء لتشرب، (فَشَرِبَتْ، شَنَقَ لَهَا)، أي: كفّها عن الشرب، يقال: شنقتها، وأشنقتها؛ أي: كففتها بزمامها، وأنت راكبها، وقال ابن دُريد: هو أن تجذب زمامها حتى تقارب رأسها قادمة الرحل، (فَشَجَتْ)، أي: فرّجت بين رجليها، وباعدت لتبول، قال النوويّ رحمه الله:"فشجت" بفاء، وشين معجمة، وجيم مفتوحات الجيم، مخففة، والفاء هنا أصلية، يقال: فشج البعير: إذا فرّج بين رجليه للبول، وفشّج بتشديد الشين أشدّ من فشج بالتخفيف، قاله الأزهريّ وغيره.
قال: هذا الذي ذكرناه من ضبطه هو الصحيح الموجود في عامة النسخ، وهو الذي ذكره الخطابيّ، والهرويّ، وغيرهما من أهل الغريب، وذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين": فشَجّت بتشديد الجيم، وتكون الفاء زائدة للعطف، وفسَّره الحميديّ في غريب "الجمع بين الصحيحين" له، قال: معناه: قطعت الشرب، من قولهم: شججت المفازة: إذا قطعتها بالسير، وقال القاضي: وقع في رواية العذريّ: "فثجت" بالثاء المثلثة، والجيم، قال: ولا معنى لهذه الرواية، ولا لرواية الحميديّ، قال: وأنكر بعضهم اجتماع الشين والجيم، وادّعَى أن صوابه: فشَحَت بالحاء المهملة، من قولهم: شحا فاه: إذا فتحه، فيكون بمعنى تفاجت، هذا كلام القاضي، قال النوويّ: والصحيح ما قدمناه عن عامة النسخ، والذي ذكره الحميديّ أيضًا صحيح، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَبَالَتْ، ثُمَّ عَدَلَ)؛ أي: مال النبيّ صلى الله عليه وسلم (بهَا)؛ أي: بتلك الناقة (فَأَنَاخَهَا)؛ أي: أبركها لتستريح، (ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ)، أي: من ذلك الحوض، وفيه دليل على جواز الوضوء من الماء الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر، وأنه لا كراهة فيه، وإن كان
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
الماء دون قلّتين، قال النوويّ: وهكذا مذهبنا. (ثُمَّ قُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّإِ) بصيغة اسم المفعول، والمراد: مكان وضوء (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إنما اختار مكانه؛ تبرّكًا بأثره صلى الله عليه وسلم، (فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ) حال كونه (يَقْضِي حَاجَتَهُ) من البول ونحوه، (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ، وَكَانَتْ عَلَى بُرْدَةٌ)، أي: كساء صغير مربع، (ذَهَبْتُ)؛ أي: شرعت، وأخذت (أَنْ أُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا) لئلا يكون من اشتمال الصمّاء، (فَلَمْ تَبْلُغْ لِي)؛ أي: فلم تتسع لذلك؛ لِصِغرها، (وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ)؛ أي: أهداب، وأطراف، واحدها: ذِبْذِب بكسر الذالين، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تتذبذب على صاحبها، إذا مشى، أي: تتحرك، وتضطرب. (فَنَكَّسْتُهَا) بتخفيف الكاف، وتشديدها؛ أي: قلبتها، فجعلت أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، كما يُفعل في القلب للاستسقاء، (ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا)، أي: أمسكت عليها بعنقي، وخبنته
(1)
عليها؛ لئلا تسقط، (ثُمَّ جِئْتُ، حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي: لكونه لا يعرف السنّة في ذلك، وهو أن المأموم إذا كان واحدًا قام عن يمين الإمام، (فَأَخَذَ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِي، فأَدَارَنِي)، أي: حوّلني إلى الجهة اليمنى، (حَتَّى أقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ) هذا هو السُّنّة في اقتداء المنفرد، (ثُمَّ جَاءَ) بعد ذلك (جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ) من محلّ قضاء حاجته، (فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لكونه أيضًا لا يعرف السُّنّة في هذا، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بها، كما قال:(فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْنَا)؛ أي: بيد جابر، وجبار (جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا)؛ أي: ردّنا، وأخّرنا إلى خلفه، (حَتَّى أَقامَنَا خَلْفَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه فوائد، منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يكره إذا كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كُره، ومنها أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوّله الإمام، ومنها أن المأمومَين يكونان صفًّا وراء الإمام، كما لو كانوا ثلاثة، أو أكثر، هذا مذهب العلماء كافّة، إلا ابن مسعود، وصاحبيه، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه. انتهى
(2)
.
(فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُنِي)؛ أي: ينظر إليّ نظرًا متتابعًا، (وَأنَا لَا أَشْعُرُ) بضمّ العين؛ أي: لا أعلم بنظره إليّ، (ثُمَّ فَطِنْتُ) من بابي فرح، ومنع
(1)
أي: عطفته.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
(بِهِ)؛ أي: بنظره صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ)؛ أي: أشار صلى الله عليه وسلم، ففيه إطلاق القول على الفعل، وقد مرّ قريبًا أنه شائع كثير في الأحاديث، واستعمال العرب، (هَكَذَا بِيَدهِ) صلى الله عليه وسلم (يَعْنِي)؛ أي: يقصد صلى الله عليه وسلم بتلك الإشارة أن (شُدَّ وَسَطَكَ) قال القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز الإشارة في الصلاة، لا سيّما لمصلحة الصلاة، وكذلك العمل اليسير؛ لردّ جابر عن يساره إلى يمينه، وتقدّم جميع ذلك في "كتاب الصلاة". (فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سلّم من صلاته، (قَالَ:"يَا جَابِرُ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"إِذَا كَانَ) الثوب الذي لبسته (وَاسِعًا، فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ)؛ أي: البسه مخالفًا بين طرفيه؛ كهيئة الصبيان في بعض البلدان، (وَإِذَا كَانَ) الثوب (ضَيِّقًا) كبُردتك هذه (فَاشْدُدْهُ عَلَى حِقْوِكَ") بفتح الحاء، وكسرها، وهو معقد الإزار، والمراد هنا: أن يبلغ السرة، وفيه جواز الصلاة في ثوب واحد، وأنه إذا شدّ المئزر، وصلّى فيه، وهو ساتر ما بين سرته وركبته صحّت صلاته، وإن كانت عورته تُرى من أسفله، لو كان على سطح ونحوه، فإن هذا لا يضره، قاله النوويّ
(1)
.
وهذا الحديث مناسب لِمَا سبق من أن عبادة بن الوليد رأى جابرًا يصلي في رداء واحد، فسأله عبادة عن ذلك، فقال: أردت أن يدخل عليّ الأحمق مثلك.
وقد أخرج أحمد في "مسنده" بهذا السياق عن شرحبيل أبي سعيد، أنه دخل على جابر بن عبد الله، وهو يصلي في ثوب واحد، وحوله ثياب، فلما فرغ من صلاته قال: قلت: غفر الله لك يا أبا عبد الله، تصلي في ثوب واحد، وهذه ثيابك إلى جنبك؟ قال: أردت أن يدخل عليّ الأحمق مثلك، فيراني أصلى في ثوب واحد، أَوَ كان لكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان؟ قال: ثم أنشأ جابر يحدّثنا، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك، ثم صلِّ، وإذا ضاق عن ذاك، فشدّ به حقويك، ثم صلِّ من غير رَدّ له". انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 138.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 335.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا [17/ 7481](3010)، و (أبو داود) في "الصلاة"(634)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 335)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 239)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3/ 385)، والله تعالى أعلم.
ثم قال جابر رضي الله عنه: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في بعض غزواته، (وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا)، أي: معاشر الصحابة (فِي كُلِّ يَوْمِ تَمْرَةً)؛ أي: حبة واحدة من التمر، (فَكَانَ) كلّ واحد منا (يَمَصُّهَا) بفتح الميم على اللغة المشهورة، وحُكي ضمها، وسبق بيانه، وفيه ما كانوا عليه من ضيق العيش، والصبر عليه في سبيل الله، وطاعته. (ثُمَّ يَصُرُّهَما)؛ أي: يلفّها، ويربطها (في ثَوْبِهِ) أصل الصرّ هو الجمع والشدّ، والمعنى: أنه كان يعطى تمرة واحدة لليوم كله، فيمصّ شيئًا منها، ثم يربطها بطرف ثوبه احتفاظًا بها، ليمصّها في وقت آخر. (وَكنَّا نَخْتَبِطُ)، أي: نضرب الشجر (بِقِسِيِّنَا) قال النوويّ: القِسِيّ: جمع قوس، ومعنى نختبط: نضرب الشجر، ليتحاتّ ورقه، فنأكله، (وَنَأْكُلُ) ورق ذلك الشجر (حَتَّى قَرِحَتْ) بكسر الراء؛ أي: انجرحت، وورمت من خشونة الورق، وحرارته (أَشْدَاقُنَا) بالفتح: جمع شدق، جانب الفم. (فَأُقْسِمُ) بضم أوله، أي: أحلف بالله (أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا) قال النوويّ رحمه الله: معنى "أقسم": أحلف، وقوله:"أخطئها"؛ أي: فاتته، ومعناه أنه كان للتمر قاسم يقسمه بينهم، فيعطي كل إنسان تمرة، كلَّ يوم، فقسم في بعض الأيام، ونسي إنسانًا، فلم يعطه تمرته، وظنّ أنه أعطاه، فتنازعا في ذلك، وشهدنا له أنه لم يُعْطَها، فأُعطيها بعد الشهادة، (فَانْطَلَقْنَا بهِ نَنْعَشُهُ)؛ أي: نرفعه، ونقيمه من شدة الضعف، والجهد، وقال القاضي: الأَشبه عندي أن معناه: نشدّ جانبه في دعواه، ونشهد له، وفيه دليل لِمَا كانوا عليه من الصبر، وفيه جواز الشهادة على النفي في المحصور الذي يحاط به. (فَشَهِدْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا) بالبناء للمفعول، (فَأُعْطِيَهَا، فَقَامَ، فَأَخَذَهَا).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم يشاركه أحد في إخراجه، والله تعالى أعلم.
قال جابر رضي الله عنه: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أفْيَحَ) بالفاء؛
أي: واسعًا، وشاطئ الوادي جانبه، (فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يَقْضِي حَاجَتَهُ)؛ أي: مريدًا قضاء حاجته (فاتَّبَعْتُهُ) بتشديد التاء الأولى، من الاتباع، (بِإِدَاوَةٍ) بكسر الهمزة؛ أي: مِطهرة مملوءة (مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إلى الجهات لعله يجد ما يستتر به، (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ،) عن أعين الناس، (فَإِذَا) هى الفجائيّة؛ أي: فاجأه (شَجَرَتَانِ)؛ أي: وجودهما (بِشَاطِئِ الْوَادِي)؛ أي: جانبه، (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا)؛ أي: إحدى الشجرتين، (فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا) قال المجد: الْغُصن - أي: بضمّ، فسكون -: ما تشعّب من ساق الشجر دِقاقُها، وغِلاظها، والصغيرة بِهاء، جمعه غُصُونٌ، وغِصَنَةٌ، وأغصان. انتهى
(1)
. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للشجرة: ("انْقَادِي عَلَيَّ)؛ أي: أطيعيني فيما أريده منك (بِإِذْنِ اللهِ") تعالى (فَانْقَادَتْ) الشجرة (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: أطاعته فيما أراد: منها، (كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ) بالخاء، والشين المعجمتين، وهو الذي يُجعل في أنفه خِشاش بكسر الخاء، وهو عُود يُجعل في أنف البعير إذا كان صَعْبًا، ويُشدّ فيه حبل؛ ليذِلّ، وينقاد، وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه، وآلمه انقاد شيئًا، ولهذا قال:(الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ)؛ أي: يطيعه، وينقاد له، وهذه من المعجزات الظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنِ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: "انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ"، فَانْقَادَتْ) الشجرة الأخرى (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم (كَذَلِكَ)؛ أي: كما انقادت الأولى له، (حَتَّى إِذَا كَانَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِالْمَنْصَفِ) بفتح الميم، والصاد، وهو نصف المسافة، وممن صرّح بفتحه الجوهريّ وآخرون، (مِمَّا بَيْنَهُمَا)؛ أي: من المسافة التى بين الشجرتين، (لأَمَ)؛ أي: ضمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَهُمَا) ثم فسّره بقوله: (يَعْني جَمَعِّهُمَا) وهذا التفسير مدرج من بعض الرواة، ولم نعرفه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لأم" بهمزة مقصورة، وممدودة، وكلاهما صحيح؛ أي: جمع بينهما، ووقع في بعض النسخ:"ألام" بالألف من غير همزة، قال القاضي وغيره: هو تصحيف.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للشجرتين: ("الْتَئِمَا)؛ أي: التصقا (عَلَيَّ) حتى أستتر بكما
(1)
"القاموس المحيط" ص 950.
عن أعين الناس (بِإِذْنِ اللهِ"، فَالْتَأَمَتَا)؛ أي: التصقتا (قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَخَرَجْتُ) من ذلك المكان (أُحْضِرُ) بضم أوله؛ أي: حال كوني مسرعًا في ذهابي، وقال النوويّ:"أحضر" هو بضم الهمزة، وإسكان الحاء، وكسر الضاد المعجمة، أي: أعدو، وأسعى سعيًا شديدًا.
(مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ) بضمّ أوله؛ أي: يعلم (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِي) منه (فَيَبْتَعِدَ)؛ أي: يذهب من ذلك المكان الذي أحسّ بحضوري فيه إلى مكان آخر طلبًا للبعد عن الناس. (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) شيخ المصنّف الثاني في هذا الحديث؛ أي: قال في روايته: (فَيَتَبَعَّدَ) مصدر تبعّد؛ كتعلّم؛ أي: قال بدل قول هاررن بن معروف: "فيبتعد" من الابتعاد، قال: يتبعّد، من التبعّد، ولا اختلاف في المعنى. (فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي)؛ أي: تعجّبًا مما رأيت من معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم في هاتين الشجرتين، (فَحَانَتْ)؛ أي: وقعت (مِنِّي لَفْتَةٌ) اللفتة: النظرة إلى جانب، وهي بفتح اللام، ووقع لبعض الرواة:"فحالت" باللام، والمشهور بالنون، وهما بمعنى، فالحين، والحال: الوقت؛ أي: وقعت، واتفقت، وكانت، (فَإِذَا أنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففجأني رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حال كونه (مُقْبِلًا) إليّ بعد قضاء حاجته، (وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا)؛ أي: وفاجأني أيضًا افتراق الشجرتين، (فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ)؛ أي: على أصلها.
وحاصل الكلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد التستّر لقضاء حاجته بما تيسّر له، وما كان تيسّر له ذلك بشجرة واحدة، فأمر الشجرتين حتى انتقلتا إلى مكان متوسّط بينهما، ثم أمرهما، فالتأمتا بحيث صارا كشجرة واحدة، فتستّر بهما، وقضى حاجته، ثم عادت الشجرتان إلى هيئتهما المستقلّة، ورجعت كلّ واحدة منهما إلى مكانها، وهي معجزة من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال جابر رضي الله عنه: (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ وَقْفَةً) يسيرة، وإنما وقف لِمَا سيأتي، أنه شعر بأن هناك قبرين يعذّبان، فأراد لشدّة رأفته أن يشفع لهما، (فَقَالَ)، أي: أشار صلى الله عليه وسلم (بِرَأْسِهِ هَكَذَا) قال المصنّف نقلًا عن شيخيه: (وَأَشَارَ
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 523 - 524.
أَبُو إِسْمَاعِيلَ) هو حاتم بن إسماعيل شيخ شيخيه، ووقع في بعض النسخ:"ابن إسماعيل"، وكلاهما صحيح، هو حاتم بن إسماعيل، وكنيته أبو إسماعيل. (بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا) مفسّرًا قوله:"فقال برأسه هكذا"، (ثُمَّ أَقْبَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا انْتَهَى)؛ أي: وصل (إِلَيَّ قَالَ: "يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟ ")؛ أي: موقفي الذي وقفت فيه وقفةً، (قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ) رأيته، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ) اللتين رأيت ما صنعت بهما من خوارف العادات، (فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، فَأَقْبِلْ) بقطع الهمزة، من الإقبال؛ أي: توجه (بِهِمَا)؛ أي: بالقطعتين اللتين قطعتهما من الشجرتين، (حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي) الذي وقفت فيه وقفة (فَأَرْسِلْ)؛ أي: ارم (غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ)؛ أي: إلى جهة يمينك، (وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ"، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَقُمْتُ، فَأَخَذْتُ حَجَرًا، فَكَسَرْتُهُ، وَحَسَرْتُهُ) بحاء، وسين مهملتين، والسين مخففة؛ أي: أحْدَدته، ونحّيت عنه ما يمنع حِدّته، بحيث صار مما يمكن قطعي الأغصان به، وهو معنى قوله:(فَانْذَلَقَ لِي) قال النوويّ: هو بالذال المعجمة؛ أي: صار حادًّا، وقال الهرويّ ومن تابعه: الضمير في "حسرته" عائد على الغصن؛ أي: خسرت غصنًا من أغصان الشجرة؛ أي: قشرته بالحجر، وأنكر القاضي عياض هذا على الهرويّ ومتابعيه، وقال: سياق الكلام يأبى هذا؛ لأنه حسره، ثم أتى الشجرة، فقطع الغصنين، وهذا صريح في لفظه، ولأنه قال:"فحسرته، فانذلق" والذي يوسف بالانذلاق الحجر، لا الغصن، والصواب أنه إنما حسر الحجر، وبه قال الخطابيّ.
[واعلم]: أن قوله: "فحسرته" بالسين المهملة، هكذا هو في جميع النسخ، وكذا هو في "الجمع بين الصحيحين"، وفي كتاب الخطابيّ، والهرويّ، وجميع كتب الغريب، وادعى القاضي روايته عن جميع شيوخهم لهذا الحرف بالشين المعجمة، وادعى أنه أصحّ، وليس كما قال، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال جابر: (فَأَتيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 144.
أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا)؛ أي: أجُرّ الغصنين (حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي)؛ أي: جهة يميني (وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ) بكسر الحاء، أي: أدركته، ووصلت إليه، (فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: ما أمرتني به (فَعَمَّ ذَاكَ؟)؛ أي: فما السبب في هذا الذي أمرتني به؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنِّي مَرَوْتُ بِقَبْرَيْنِ، يُعَذَّبَانِ)، أي: يُعذّب من فيهما من الناس، (فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي) فيه دليل واضح أن التخفيف عنهما بشفاعته صلى الله عليه وسلم، لا بوضع الغصنين، فدلّ على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس عليه غيره، فتنبّه
(1)
. (أَنْ يرَفَّهَ) بتشديد الفاء؛ أي: يخفّف (عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ")؛ أي: مدّة دوام الغصنين حال كونهما رطبين، وكون التخفيف عنهما مغيًّا بكونهما رطبين، لا يُعلم إلا من جهة الوحي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذه القصّة غير القصّة التي سبقت في "كتاب الطهارة" من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما "أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين، فقال: يعذّبان، وما يعذبان في كبير. . ." الحديث، وفيه:"ثم دعا بعسيب رطب، فشقّه باثنين، ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا. . . "، وقد تقدّم وجوه المغايرة بين حديث جابر وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهم هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه: (فَأتيْنَا الْعَسْكَرَ)، أي: لحقنا الجيش الذي تقدّم علينا، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "يَا جَابِرُ نَادِ بِوَضُوءٍ") بفتح الواو؛ أي: ماء يُتوضّأ به، (فَقُلْتُ: أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ) بالتكرار ثلاثًا للتأكيد؛ أي: ألا يوجد عندكم ماء يُتوضّأ به؟ (قَالَ) جابر: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَما وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ) بفتح، فسكون، أي: الجماعة، (مِنْ قَطْرَةٍ)"من" زائدة للتأكيد، (وَكَانَ رَجُلٌ) لم يُذكر اسمه، (مِنَ الأَنْصَارِ، يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ) جمع شجب؛ أي: في سقاء (لَهُ عَلَى حِمَارةٍ)؛ أي: أعواد (مِنْ جَرِيدٍ) قال النوويّ رحمه الله: أما الأشجاب هنا فجمع شجب بإسكان الجيم، وهو السقاء الذي قد أَخْلَق، وبلي، وصار شَنًّا، يقال: شاجب؛ أي: يابس، وهو من الشجب الذي هو الهلاك، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قام إلى شجب،
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 523 - 524.
فصب منه الماء، وتوضأ"، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "فانظر هل في أشجابه من شيء؟ " وأما قول المازريّ وغيره: إن المراد بالأشجاب هنا: الأعواد التي تُعلَّق عليها القِرابة، فغلط؛ لقوله: يبرد فيها على حِمارة من جريد، وأما الحمارة فبكسر الحاء، وتخفيف الميم والراء، وهي أعواد تُعلَّق عليها أسقية الماء، قال القاضي: ووقع لبعض الرواة: حمار بحذف الهاء، ورواية الجمهور: حمارة بالهاء، وكلاهما صحيح، ومعناهما ما ذكرنا. انتهى.
(قَالَ) جابر: (فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (لِيَ: "انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الأَنْصَارِيِّ) هو هذا الرجل المذكور، (فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَيْءٍ؟)(، قَالَ) جابر: (فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِيهَا)؛ أي: في أشجابه (فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً)؛ أي: يسيرًا (فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا) العزلاء بفتح العين المهملة، وبإسكان الزاي، وبالمدّ، وهي فم القربة، (لَوْ أَنِّي أفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ) معناه أنه قليل جدًّا، فلقلّته مع شدّة يُبْس باقي الشجب، وهو السقاء، لو أفرغته لأنشفه اليابس منه، ولم ينزل منه شيء. (فَأَتيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا)؛ أي: في تلك الأشجاب (إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابسُهُ)؛ أي: يابس الشجب، وجافّه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم. ("اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهِ"، فَأَتَيْتَهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ) المباركة (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع صلى الله عليه وسلم، وأخذ (يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟) هل هو دعاء، أم غيره؟ (وَيَغْمِزُهُ)؛ أي: يعصره، ويحركه (بِيَدَيْهِ) وفي نسخة:"بيده" بالإفراد، (ثُمَّ أَعْطَانِيهِ)؛ أي: ذلك الشجب، (فَقَالَ: يَا جَابِرُ نَادِ بِجَفْنَةٍ، فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ)؛ أي: يا صاحب جفنة الركب، فحُذف المضاف؛ للعلم بأنه المراد، وأن الجفنة لا تنادى، ومعناه: يا صاحب جفنة الركب التي تُشبعهم أَحْضِرها؛ أي: من كان عنده جفنة بهذه الصفة، فليحضرها، والجفنة بفتح الجيم. (فَأُتِيتُ بِهَا)؛ أي: بالجفنة، حال كونها (تُحْمَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يحملها الناس، (فَوَضَعْتُهَا)؛ أي: تلك الجفنة (بَيْنَ يَدَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ)؛ أي: وضع، ففيه إطلاق القول على الفعل، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ)؛ أي: في أعاليها، (هَكَذَا) ثم فسّر الإشارة بقوله (فَبَسَطَهَا)؛ أي: بسط يده (وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا)؛ أي: وضع يده مفرّقة الأصابع (فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ)؛ أي: في أسفلها،
(وَقَالَ: "خُذْ) هذا الشجب (يَا جَابِرُ، فَصُبَّ عَلَي)؛ أي: على يدي التي في قعر الجفنة، (وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ") قال جابر: (فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَوَّرُ)؛ أي: يخرج بقوة (مِنْ بَيْنِ أَصَابعِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَارَتِ)؛ أي: نبعت (الْجَفْنَةُ، وَدَارَتْ)؛ أي: دار الماء في جوفها، وجوانبها (حَتَّى امْتَلأَتْ) الجفنة بالماء، (فَقَالَ: "يَا جَابِرُ نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ؟ ") فليأتنا ليأخذه. (قَالَ) جابر: (فَأَتَى النَّاسُ) كلّهم؛ لأنهم جميعًا محتاجون إلى الماء، (فَاسْتَقَوْا)؛ أي: أخذوا الماء في أوانيهم، وشربوا (حَتَّى رَوَوْا)؛ أي: ذهب عنهم العطش. (قَالَ) جابر: (فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟) إلى الماء، فسكتوا (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ) الشريفة المباركة (مِنَ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ)؛ أي: والحال أن تلك (الجفنة مَلأَى)؛ أي: ممتلئة ماء.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذه من باهر معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عنه هذه في مواطن متفقة المعنى، وكذلك في معجزاته صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من أمر الشجرتين، وكذلك اكتفاؤهم بالتمرة الواحدة ببركته صلى الله عليه وسلم، وكذلك الدابّة التي ألقاها البحر، وتقدّمت في "كتاب الجهاد" في غزوة أبي عبيدة، ويظهر أنها قضيّة أخرى غير القضيّة الآتية؛ لأن هذه حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَحْتمل أن هذه الآتية تلك السابقة، وأوردها جابر بعد ذِكره ما شاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعطف هذه القضيّة عليها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله لم أر من أخرجه غيره، والله تعالى أعلم.
ثم قال جابر رضي الله عنه: (وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ)؛ أي: أخبروه أنهم جائعون، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("عَسَى اللهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ")؛ أي: يسوق إليكم رزقًا من عنده يزيل جوعكم، (فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ) بكسر السين، وإسكان المثناة تحتُ هو ساحله، (فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً) بالخاء المعجمة، أي: علا موجه، (فَأَلْقَى) البحر (دَابَّةٌ) من دوابّه إلى الساحل، وتقدّم في "كتاب الصيد" أنه كان حوتًا عظيمًا، يقال له: العنبر، (فَأَوْريْنَا)؛ أي: أوقدنا (عَلَى شِقِّهَا)؛ أي: على جنبها (النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا) بتشديد الطاء افتعال من الطبخ، (وَاشْتَوينَا)؛ أي: شويناه
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 573.
على الحديدة المحماة (وَأَكَلْنَا، حَتَّى شَبِعْنَا، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَدَخَلْتُ أنا، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) لأناس سمّاهم، (حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً) من الرجال (فِي حِجَاج عَيْنِهَا) بكسر الحاء، وفتحها، وهو عَظْمها المستدير بها، والحال أنه (مَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا) منها (فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الضِّلُعُ من الحيوان بكسر الضاد، وأما اللام فتفتح في لغة الحجاز، وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى، وجمعها أَضْلُعٌ، وأَضْلَاعٌ، وضُلُوعٌ، وهي عظام الجنبين. انتهى
(1)
.
(فَقَوَّسْنَاهُ)، أي: جعلناه على صورة القوس، (ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ) بالجيم، في رواية الأكثرين، وهو الأصح، ورواه بعضهم بالحاء، وكذا وقع لرواة البخاري بالوجهين. (فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلِ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ) الكِفْل هنا بكسر الكاف، وإسكان الفاءَ، قال الجمهور: والمراد بالكفل هنا: الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه؛ لئلا يسقط، فيحفظ الكفل الراكب، قال الهرويّ: قال الأزهري: ومنه اشتقاق قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]؛ أي: نصيبين يحفظانكم من الهلكة، كما يحفظ الكِفْل الراكب، يقال منه: تكفلت البعير، وأكفلته: إذا أدرت ذلك الكساء حول سنامه، ثم ركبته، وهذا الكساء كِفْل بكسر الكاف، وسكون الفاء، وقال القاضي عياض: وضبطه بعض الرواة بفتح الكاف والفاء، والصحيح الأول (فَدَخَلَ تَحْتَهُ)؛ أي: تحت ذلك الضلع، ومرّ، والحال أنه (مَا يُطَأْطئُ)؛ أي: يخفض (رَأْسَهُ)، أي: لم يحتج هذا الراكب إلى أن يخفض رأسه لِعَظْمه المقوّس، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، بناء على اتحاد القصّة، وإلا فمن أفراد المصنّف رحمه الله. أخرجه هنا [17/ 7481](3014)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4360).
[تنبيه]: هذه السريّة تسمّى سريّة سِيف البحر، وتسمى أيضًا سريّة خبط؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اضطرّوا فيها إلى أكل الخبط، وهو ورق الشجر، وقد مضت قصّة هذه السريّة مبسوطة في "كتاب الصيد والذبائح"، وذكرنا هناك أنها كانت
(1)
"المصباح المنير" 2/ 363.
سنة ستّ من الهجرة، أو قبلها، وكان أميرهم أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، خرجوا يتلقون عِيرًا لقريش، ويسيرون إلى جهينة.
ثم الذي يظهر من سياق الحديث هنا أنهم كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن سياق حديث جابر في "كتاب الصيد" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم في سريّة سيف البحر، حيث قال:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجرّاح"، وكذلك وقع في روايات البخاريّ في "المغازي".
ومن أجل هذا الاختلاف مال بعض العلماء، كالقاضي عياض رحمه الله إلى أنهما قصّتان، فما تقدّم في "كتاب الصيد" سريّة لم يكن معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه غزوة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولكن هذا بعيد بالنظر إلى موافقة الحديثين في أكثر أجزاء القصّة، فالراجح ما ذكره القاضي احتمالًا، وهو أن القصة واحدة، ولكن أوردها جابر هنا بعد ذكر ما شاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعطف هذه القصّة عليها، وشرحه الحافظ في "الفتح" بقوله: يمكن حمل قوله: "فأتينا سِيف البحر" على أنه معطوف على شيء محذوف، تقديره: فبعثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا. . . إلخ.
والحاصل: أن قوله: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يُطعمكم" منفصل عما بعده، والأسلوب الذي سُردت به أحاديث مختلفة في هذا الحديث الطويل لا يأبى هذا التقدير، والله سبحانه وتعالى أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر صاحب "التكملة" هذه المسألة، مرجحًا كون القصّة واحدة، وعندي أنهما قصّتان، وذلك واضح لمن تأمله، فكل الأوجه التي ذكروها لتوحيد القصّة تكلّفات، وتعسّفات، فتأملها بالإنصاف، يتبيّن لك ما قلته.
والحاصل: أن جابرًا رضي الله عنه شهد الواقعتين، واقعة مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وواقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما متشابهتان، فحدّث بكلّ منهما، هذا والله تعالى أعلم.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 527 - 528.
(18) - (بَابٌ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: حَدِيثُ الرَّحْلِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7482]
(2009) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا، فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثْ مَعِيَ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ لِي أَبِي: احْمِلْهُ، فَحَمَلْتُهُ، وَخَرَجَ أَبِي مَعَهُ يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا لَيْلَةَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَخَلَا الطَّرِيقُ، فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَة، لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا، فَأَتيْتُ الصَّخْرَةَ، فَسَويتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّهَا، ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ، وَخَرَجْتُ أنفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَلَقِيتُهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أنتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ الشَّعَرِ، وَالتُّرَابِ، وَالْقَذَى، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الأُخْرَى، يَنْفُضُ، فَحَلَبَ لِي فِي قَعْبٍ مَعَهُ، كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ، أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَشْرَبَ مِنْهَا، وَيتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ، فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ، حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ:"أَلمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ "، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أُتِينَا، فَقَالَ:"لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا"، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ،
فَادْعُوَا لِي، فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا اللهَ، فَنَجَى، فَرَجَعَ، لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كفَيْتُكُمْ مَا هَا هُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قالَ: وَوَفَى لنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، من كبار [11]، تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هوة الحسن بن محمد بن أعين الحرّاني، أبو عليّ، نُسب لجدّه [9]، تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن خُديج الجعفيّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبِيعيّ الكوفيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
5 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
شرح الحديث:
عن زُهَيْر هو ابن معاوية، أبو خيثمة الجعفيّ قال البزار: لم يرو هذا الحديث تامًّا عن أبي إسحاق إلا زهير، وأخوه خديج، وإسرائيل، وروى شعبة منه قصة اللبن خاصة. انتهى.
قال الحافظ: وقد رواه عن أبي إسحاق مطوّلًا أيضًا حفيده يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق. انتهى
(1)
.
أنه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، صرّح أبو إسحاق بالسماع من البراء، فانتفت عنه تهمة التدليس؛ لأنه مشهور به. (يَقُولُ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه (إِلَى أَبِي) هو عازب بن الحارث بن عديّ الأوسيّ رضي الله عنه من قدمَاء الأنصار، (فِي مَنْزِلِهِ) متعلّق بـ "أتى"، (فَاشْتَرَى) أبو بكر (مِنْهُ)؛ أي: من أبيه (رَحْلًا) بفتح الراء، وسكون الحاء المهملة: هو للناقة كالسرج للفرس، (فَقَالَ) أبو بكر الِعَازِبٍ: ابْعَثْ مَعِيَ
(1)
"الفتح" 8/ 291، "كتاب المناقب" رقم (3615).
ابْنَكَ) البراء (يَحْمِلْهُ)؛ أي: الرحل (مَعِي إِلَى مَنْزِلِي)؛ أي: بيتى، (فَقَالَ لِي أَبِي: احْمِلْهُ) معه إلى منزله، (فَحَمَلْتُهُ) ووقع في رواية إسرائيل أن عازبًا امتنع من إرسال ابنه مع أبي بكر حتى يحدثه أبو بكر بالحديث، وهي زيادة ثقة مقبولة، لا تنافي، هذه الرواية، بل يُحمَل قوله:"فقال له أبي"؛ أي: من قبل أن أحمله معه، أو أعاد عازب سؤال أبي بكر عن التحديث بعد أن شرطه عليه أوّلًا وأجابه إليه.
[تنبيه]: قال الخطابيّ رحمه الله: تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث، وهو تمسك باطل؛ لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة، وأما الذي، وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري، سواء أعطاهم أجرة أم لا.
قال الحافظ: كذا قال، ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بُعْدًا؛ لتوقفه على أن عازبًا لو استمرّ على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَخَرَجَ أَبِي مَعَهُ)؛ أي: مع أبي بكر، (يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ)؛ أي: يستوفيه، (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لأبي بكر، (أَبِي) عازب، (يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا لَيْلَةَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ أَسْرَيْنَا) هكَذا استعمل كل منهما إحدى اللغتين، فإنه يقال: سريت، وأسريت في سير الليل، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة": سوى وأسرى لغتان بمعنى السير في الليل، قال الله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقال:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} [الفجر: 4]. (لَيْلَتَنَا كُلَّهَا) زاد في رواية البخاريّ: "ومن الغد"؛ يعني: سرينا ليلًا، وذلك حين خرجا من الغار، وكانا لبثا في الغار ثلاث ليال، ثم خرجا، وقوله:"ومن الغد"؛ أي: بعض الغد، والعطف فيه كما في قوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدَا
(حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ)؛ أي: نصف النهار، وسمي قائمًا؛ لأن الظل لا يظهمر حينئذ، فكأنه واقف، ووقع في رواية إسرائيل:"أسرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا"؛ أي: دخلنا في وقت الظهر.
(1)
"الفتح" 8/ 323.
وقال القاري: "حتى قام قائم الظهيرة"، أي: بلغت الشمس وسط السماء، ففي "النهاية"؛ أي: قامت الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته؛ أي: وقفت، والمعنى: أن الشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيحسب الناظر أنها قد وقفت، وهي سائرة، لكن سيرًا لا يظهر له أثر سريع، كما يظهر قبل الزوال وبعده، فيقال لذلك الوقوف المشاهَد: قام قائم الظهيرة. انتهى
(1)
.
(وَخَلَا الطَّرِيقُ)؛ أي: صار خاليًا عن مرور الناس، وهذا يدل على أنه كان في زمن الحرّ، وقيل في قوله:{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15]؛ أي: نصف من النهار، وقوله:(فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ) تأكيد لِمَا قبله، (حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: ظهرت لأبصارنا (صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ، لَهَا)؛ أي: لتلك الصخرة (ظِلٌّ)؛ أي: عظيم، من صفته (لَمْ تَأْتِ) بالتأنيث، ويُذَكَّر، أي: لم تحكم (عَلَيْهِ الشَّمْسُ)، أي: بشعاعها (بَعْدُ)؛ أي: الآن، لأن "بعدُ" تستعمل بمعنى الآن، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
كَمَا قَدْ دَعَانِي فِي ابْنِ مَنْصُورَ قَبْلَهَا
…
وَمَاتَ فَمَا حَانَتْ مَنِيَّتُهُ بَعْدُ
أي: الآن، قاله المرتضى في "التاج"
(2)
.
(فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ، فَسَوَّيْتُ بِيَدِي) بالإفراد، وَيحْتمل أن يكون بالتثنية، (مَكَانًا) وقوله:(يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) استئناف تعليل، أو صفة لـ "مكانًا"، (فِي ظِلِّهَا) هذا إشعار بزيادة الاهتمام في الخدمة. (ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً)؛ أي: وفرشت على المكان جلدًا بشَعْره، وقال في "الفتح": قوله: "وبسطت عليه فروة" هي معروفة، وَيَحْتَمِل أن يكون المراد: شيء من الحشيش اليابس، لكن يقوِّي الأول أن في رواية يوسف بن إسحاق:"ففرشت له فروة معي"، وفي رواية خَدِيج في "جزء لُوين":"فروة كانت معي".
وقال النوويّ رحمه الله: المراد: الفروة المعروفة التي تُلْبَس، هذا هو الصواب، وذكر القاضي أن بعضهم قال: المراد بالفروة هنا الحشيش، فإنه
(1)
"مرقاة المفاتيح" 11/ 4.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 304.
يقال له: فروة، وهذا قول باطل، ومما يردّه قوله في رواية البخاريّ:"فروة معي"، ويقال لها: فروة بالهاء، وفرو بحذفها، وهو الأشهر في اللغة، وأن كانتا صحيحتين. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ) بفتح النون، وسكون الميم، أمر من نام ينام؛ كخاف يخاف، وأما ما اشتهر على الألسنة من قولهم: نُم بضمّ النون فمن الأخطاء الشائعة، فتنبّه. (يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ)، أي: أحرّك، يقال: نفض نفضًا، من باب قتل: إذا حرّكه ليزول عنه الغبار ونحوه، فانتفض، أي: تحرّك لذلك، ونفضت الورق من الشجرة: أسقطته، أفاده المجد والفيّوميّ.
وقال القاري: "وأنا أنفض ما حولك" بضم الفاء؛ أي: أتجسس الأخبار، وأتفحص عن العدوّ، وأرى هل هناك مؤذٍ من عدوّ وغيره، من النقض الذي هو سبب النظافة، من نحو الغبار، وفي "النهاية"، أي: أحرسك، وأطوف هل أرى طلبًا، يقال: نفضت المكان: إذا نظرت جميع ما فيه، والنفضة بفتحِ الفاء، وسكونها، والنفيضة: قوم يبعثون متجسسين، هل يرون عدوًّا أو خوفًا؟ انتهى
(2)
.
(لَكَ مَا حَوْلَكَ)، يعني: من الغبار، ونحو ذلك، حتى لا يثيره عليه الريح، وقيل: معنى النفض هنا: الحراسة، يقال: نفضت المكان إذا نظرت جميع ما فيه، ويؤيده قوله في رواية إسرائيل:"ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحدًا. (فَنَامَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ)؛ أي: أحرّك، وأزيل (مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ) "إذا" هنا للمفاجأة؛ أي: ففاجأني وجود راعي غنم، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميته، ولا على تسمية صاحب الغنم، إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسَّك به من زعم أنه الراعي، وذلك فيما أخرجه أحمد، وابن حبان من طريق عاصم، عن زِرّ، عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. . ." الحديث، وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء، لأن ذاك قيل له: "هل
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 148.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 11/ 4.
أنت حالب؟ فقال: نعم"، وهذا أشار بأنه غير حالب، وذاك حلب من شاة حافل، وهذا من شاة لم تُطرَق، ولم تَحْمِل، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة، لقوله فيه: "ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله علّمني من هذا القول"، فإن هذا يُشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود، وإسلام ابن مسعود كان قديمًا قبل الهجرة بزمان، فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(مُقْبِلٍ) بالجرّ صفة "راع"، ومعناه: جاء من قِبَلنا، ومن جهة قُدّامنا (بِغَنَمِهِ إِلَىَ الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا)؛ أي: من الصخرة (الَّذِي أَرَدْنَا)؛ أي: المكان الذي قصدناه، وهو الظلّ، (فَلَقِيتُهُ) بكسر القاف، (فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) هكذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاريّ:"لرجل من أهل المدينة، أو مكة"، قال الحافظ: هو شك من الراوي أيّ اللفظين قال، وكأن الشك من أحمد بن يزيد، فإن مسلمًا أخرجه من طريق الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير، فقال فيه:"لرجل من أهل المدينة"، ولم يشك، ووقع في رواية خَديج:"فسمى رجلًا من أهل مكة" ولم يشك، والمراد بالمدينة: مكة، ولم يُرِدْ بالمدينة النبوية؛ لأنها حينئذ لم تكن تسمى المدينة، وإنما كان يقال لها: يثرب، وأيضًا فلم تَجْرِ العادة للرعاة أن يبعدوا في المراعي هذه المسافة البعيدة.
ووقع في رواية إسرائيل: "فقال: لرجل من قريش، سمّاه، فعرفته"، وهذا يؤيد ما قررته؛ لأن قريشًا لم يكونوا يسكنون المدينة النبوية إذ ذاك. انتهى.
(قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟) بفتح اللام، والباء، يعني اللبن المعروف، هذه الرواية المشهورة، وروى بعضهم: لُبْنٌ بضم اللام، وإسكان الباء، أي: شياه وذوات ألبان
(2)
.
وقال في "العمدة": "لبن" بفتح اللام، والباء الموحدة، وحَكَى عياض أن في رواية "لُبَّن" بضم اللام، وتشديد الباء الموحدة، جمع لابن؛ أي: هل في غنمك ذوات لبن. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 8/ 323.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 149.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 148.
(قَالَ: نَعَمْ) فيها لبن، (قُلْتُ: أَفتَحْلُبُ لِي؟) بضم اللام، ويجوز كسرها، علر، ما في "القاموس"، والمعنى: أفتحلبها لي؟
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أفتحلب. . . إلخ" الظاهر أن مراده بهذا الاستفهام: أمعك إذن في الحلب لمن يمر بك على سبيل الضيافة؟ وبهذا التقرير يندفع الإشكال، وهو كيف استجاز أبو بكر أخذ اللبن من الراعي بغير إذن مالك الغنم؟ وَيَحْتَمِل أن يكون أبو بكر لمّا عرفه عرف رضاه بذلك، بصداقته له، أو إذنه العام لذلك. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث مما يُسأل عنه، فيقال: كيف شربوا اللبن من الغلام، وليس هو مالكه؟ وجوابه من أوجه:
أحدها: أنه محمول على عادة العرب، أنهم يأذنون للرعاة إذا مر بهم ضيف، أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن ونحوه.
والثاني: أنه كان لصديق لهم، يُدْلون عليه، وهذا جائز.
والثالث: أنه مال حربيّ، لا أمان له، ومثل هذا جائز.
والرابع: لعلهم كانوا مضطرين، والجوابان الأولان أجود. انتهى
(3)
.
(قَالَ: نَعَمْ) أحلب لك، (فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضِ الضَّرْعَ)، أي: ثدي الشاة، وفي رواية إسرائيل:"وأمرته، فاعتقل شاة"؛ أي: وضع رجلها بين فخذيه، أو ساقيه يمنعها من الحركة، (مِنَ الشَّعَرِ، وَالتُّرَابِ، وَالْقَذَى) بفتحتين؛ أي: الوسخ، وقال في "العمدة": القذى بفتح القاف، وفتح الذال المعجمة، مقصورًا هو الذي يقع في العين، يقال: قذت عينه: إذا وقع فيها القذى؛ كأنه شبّه ما يصير في الضرع من الأوساخ بالقذى في العين. انتهى
(4)
.
(قَالَ) أبو إسحاق: (فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ) رضي الله عنه (يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الأُخْرَى) حال كونه (يَنْفُضُ) الضرع؛ أي: إنما فعل ذلك، ليريهم كيفيّة النفض، (فَحَلَبَ لِي) وفي رواية للبخاريّ:"فأخذت قدحًا، فحلبت"، ويُجمع بأنه تجوّز في قوله:"فحلبت"، ومراده: أمرت بالحلب، (فِي قَعْبٍ مَعَهُ) بفتح القاف، وسكون
(1)
"مرقاة المفاتيح" 11/ 4.
(2)
"الفتح" 8/ 323.
(3)
"شرح النوويّ" 18/ 149.
(4)
"عمدة القاري" 16/ 148.
العين؛ أي: في قدح من خشب مُقَعّر. (كثْبَةً مِنْ لَبَنٍ) بضم الكاف، وسكون المثلثة، وفتح الموحدة؛ أي: قدر قدح، وقيل: حلبة خفيفة، ويطلق على القليل من الماء واللبن، وعلى الجرعة تبقى في الإناء، وعلى القليل من الطعام والشراب، وغيرهما، من كل مجتمع
(1)
. (قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ) بكسر الهمزة، وهي ما يُعمل من جلد، يستصحبه المسافر، (أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال التوربشتيّ: رويت من الماء بالكسر، وارتويت، وترويت كلها بمعنى، قال الطيبيّ: فعلى هذا ينبغي أن يقال: يرتوي منها، لا فيها، قال القاري:"في" تأتي بمعنى "من"، أو التقدير: يرتوي من الماء فيها، وقال النوويّ: معنى "يرتوي فيها": جعل القدح آلة للريّ، والسقي، ومنه الراوية للإبل التي يُستقى عليها الماء. انتهى، فعلى هذا يكون "في" بمعنى الباء. انتهى
(2)
.
(لِيَشْرَبَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الإداوة (وَيَتَوَضَّأَ) منها، وقال القاري: قوله: "يشرب، ويتوضأ" مستأنفان للبيان، والجملة أعني قوله:"ومعي. . . إلخ" حالية معترضة بين قوله: "فحلمب" وقوله: "فأتيت النبيّ". (قَالَ) أبو بكر رضي الله عنه: (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: باللبن، (وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقظَهُ)؛ أي: أنبّهه، (مِنْ نَوْمِهِ) لاحتمال أن يكون يوحى إليه، فأقطعه عليه، لكنه قد استيقظ قبل أن يأتي أبو بكر، كما بيّنه بقوله:(فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ، حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ) كناية عن كثرة الماء، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ)، أي: طاب خاطري، (ثمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("ألَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ ") من أنى يأني: إذا دخل وقت الشيء، والمعنى: ألم يدخل وقت الرحيل؟ قال القاري: كذا قاله بعضهم، والأظهر في المعنى: ألم يأت وقت التحوّل للرحيل؟ وهو السير إلى الموضع المقصود، فيطابق قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، قال أبو بكر:(قُلْثُ: بَلَى) أن وقت الرحيل، (قَالَ) أبو بكر:(فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ)؛ أي: من وسط السماء، وحصل برد الهواء، (وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ) بضم السين، (ابْنُ مَالِك) بن جُعشم الْمُدْلِجيّ الكنانيّ، كان ينزل
(1)
"الفتح" 8/ 323.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 11/ 4.
قُديدًا، ويُعدّ في أهل المدينة، روى عنه جماعة، وكان شاعرًا، مجيدًا، وكان من مُسلمة الفتح، ومات في خلافة عثمان رضي الله عنهما سنة أربع وعشرين، وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته في "الحج" 17/ 2943.
وفي رواية إسرائيل: "فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا غير سراقة بن مالك بن جعشم".
[تنبيه]: ذكر ابن إسحاق رحمه الله قصّة اتباع سراقة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: وحدّثني الزهريّ أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه، عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرًا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مئة ناقة لمن ردّه عليهم. قال: فبينما أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت ثلاثة مروا عليّ آنفًا، إني لأراهم محمدًا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعيني أن اسَكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعله، ثم سكت، قال: ثم مكثت قليلًا، ثم قمت، فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فَقِيْدَ لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأُخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم لها، ثم انطلقت، فلبست لَأُمتي، ثم أخرجت قداحي، فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره". قال: وكنت أرجو أن أرده على قريش، فآخذ المئة الناقة. قال: فركبت على أثره فبينما فرسي يشتد بي عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره". قال: فأبيت إلا أن أتبعه. قال: فركبت في أثره فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا؟، قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"، قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم، ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر، قال: فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جعشم انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "قل له: وما تبتغي منا؟ " قال: فقال ذلك أبو بكر،
قال: قلت: تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك، قال:"اكتب له يا أبا بكر"، قال: فكاتب لي كتابًا في عظم، أو في رقعة، أو في خزفة، ثم ألقاه إليّ، فأخذته، فجعلته في كنانتي، ثم رجعت، فسكت، فلم أذكر شيئًا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة. قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح، ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي، أنا سراقة بن جعشم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم وفاء وبرّ، ادْنُهْ"، قال: فدنوت منه، فأسلمت. ثم تذكرت شيئًا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فما أذكره إلا أني قلت: يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال:"نعم، في كل ذات كبد حَرَّى أجر". قال: ثم رجعت إلى قومي، فَسُقْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي. انتهى
(1)
.
ومما قاله سراقة رضي الله عنه يخاطب أبا جهل بعد انصرافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[من الطويل]:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا
…
لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا
…
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ
عَلَيْكَ بِكَفِّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي
…
أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَيَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرٍ يَقُودُ النَّاسَ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ
…
فَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا تُسَالِمُهْ
وروى سفيان بن عيينة، عن أبي موسى، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ " قال: فلما أُتي عمر بسواري كسرى، ومنطقته، وتاجه دعا سراقة بن مالك، فألبسه إياهما، وكان سراقة رجلًا أزبّ كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك، فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس،
(1)
"سيرة ابن هشام" 1/ 489 - 490.
وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيّ رجل من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته
(1)
.
(قَالَ) أبو بكر: (وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ) بفتحتين، أي: صُلب (مِنَ الأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُتِينَا) بالبناء للمفعول؛ أي: أدركنا العدوّ، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("لَا تَحْزَنْ) بإدراك العدوّ لنا، (إِنَّ اللهَ مَعَنَا") تعليل لنهيه عن الحزن؛ أي: لأن الله تعالى معنا معيّة خاصّة بنصره، وعونه. (فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ)، أي: غاصت قوائمها كما تصوغ في الرمل (إِلَى بَطْنِهَا أُرَى) بضم الهمزة؛ أي: أظنّ، والشك من الراوي، البراء، أو من دونه، (فَقَالَ) سراقة:(إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ،)؛ أي: فبسبب دعائكما ارتطمت فرسي، (فَادْعُوَا لِي) لينجّيني مما وقعت فيه، (فَاللهُ) بالرفع مبتدأ وقوله:(لَكُمَا) خبره؛ أي: ناصر لكما، وقوله:(أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا)، أي: أدعو لأن أرد، فهو علة للدعاء، ويروى بنصب لفظة "الله"؛ أي: فأُشهد الله لأجلكما، أن أرد عنكما الطلب، وقيل: بالجرّ أيضًا بنزع الخافض، والتقدير: أقسم بالله لكما بأن أرد (الطَّلَبَ) وهو جمع طالب، وفي "شرح السُّنَّة":"أقسم بالله لكما على الرد"، (فَدَعَا) النبيّ صلى الله عليه وسلم (اللهَ) تعالى أن ينجيه (فَنَجَى)؛ أي: من الارتطام، (فرَجَعَ) سراقة (لَا يَلْقَى أَحَدًا) من المشركين (إِلَّا قَالَ: قَدْ كفَيْتُكُمْ مَا هَا هُنَا)؛ أي: ههنا ممن يريد إلحاق الضرر بكما، (فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ) أبو بكر: (وَوَفَى لنَا)، أي: وفى سُراقة بما وعده لنا من ردّ المطلب.
وقال في "المرقاة": قوله: "فقال: إني أراكما" بفتح الهمز من الرأي، "دعوتما عليّ"؛ أي: بالمضرة، "فادعوا لي"، أي: بالمنفعة، والنجاة من المشقة، "فالله لكما" بالرفع، وفي نسخة بالنصب، قال بعضهم: هو مرفوع بالابتداء، أي: فالله كفيل عليّ لكما أن لا أَهُمّ بعد ذلك لغدركما، أو فالله مستجيب، والفاء للسببية، وقوله:"أن أرد عنكما المطلب" متعلق بـ "ادعوا"؛ أي: لأن أرد، أو منصوب بإضمار فعل؛ أي: أسأل الله لكما أن أرد عنكما الطلب؛ أي: طلب الكفار الذين طلبوكما.
(1)
"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البرّ 2/ 581.
وقال الأشرف: الجار محذوف، وتقديره: بأن أرد، وقوله:"فالله لكما" حشو بينهما، ويمكن أن يقال:"فالله" مبتدأ، و"لكما" خبره، وقوله:"أن أرد" خبر ثان للمبتدأ، وقال غيره: معناه: فادعوا لي كي لا يرتطم فرسي على أن أترك طلبكما، ولا أتبعكما بعدُ، ثم دعا لهما بقوله:"فالله لكما"؛ أي: الله تعالى حافظكما، وناصركما، حتى تبلغا بالسلامة إلى مقصدكما.
ويجوز أن يكون معناه: ادعوا لي حتى أنصرف عنكما، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظكما عني، وحبسني عن البلوغ إليكما.
قال الطيبيّ: الفاء في "فالله" تقتضي ترتّب ما بعدها عليه، فالتقدير: ادعوا لي بأن أتخلص مما أنا فيه، فإنكما إن فعلتما فالله أشهد لأجلكما أن أرد عنكما الطلب، ويؤيد هذا التقدير ما في "شرح السُّنَّة". "والله" على القسم؛ أي: أقسم بالله لكما على أن أرد المطلب عنكما.
"فدعا له النبيّ فنجا"، أي: فتخلص من العناء، "فجعل"، أي: فشرع في الوفاء بما وعد، "لا يلقى أحدًا"، أي: من ورائهما، "إلا قال: كفيتم" بصيغة المفعول، وفي نسخة
(1)
: "لقد كفيتم"؛ أي: استغنيتم عن الطلب في هذا الجانب، لأني كفيتكم ذلك، "ما ههنا"؛ أي: ليس ههنا أحد، فـ "ما" نافية على ما ذكره بعض الشراح، وقال الطيبيّ:"ما ههنا" بمعنى الذي، أي: كفيتم الذي ههنا. انتهى، قال القاري: والأول أظهر، وهو أَولى لِمَا يستفاد منه التأكيد كما لا يخفى؛ كقوله:"فلا يلقى أحدًا إلا ردّه"، أي: بهذا المعنى. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7482 و 7483](2009)، و (البخاريّ) في "اللقطة"(2439) و"فضائل الصحابة"(3615) و"المناقب"(3908 و 3917)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 327 و 330)، و (أحمد) في
(1)
أي: من "المشكاة" فتنبّه.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 4/ 11.
"مسنده"(1/ 2 - 3)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6281)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(2/ 485)، و (الفسويّ) في "المعرفة"(1/ 239 - 241)، و (أبو نعيم) في "الدلائل"(2/ 325)، وقد تقدّم الحديث مختصرًا في "كتاب الأشربة"، برقم [9/ 5227 و 5228](2009) وتقدّم تخريجه هناك، وبالله تعالى التوفيق.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): أن فيه خدمةَ التابع الحرّ للمتبوع في يقظته، والذبّ عنه في نومه.
4 -
(ومنها): شدة محبة أبي بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدبه معه، وإيثاره له على نفسه.
6 -
(ومنها): استصحاب آلة السفر، كالإداوة، والسفرة، ولا يقدح ذلك في التوكل.
6 -
(ومنها): استحباب التنظيف لِمَا يؤكل ويشرب.
7 -
(ومنها): فضل التوكل على الله تعالى، وأن الرجل الجليل إذا نام يدافع عنه.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7483]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثناهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَبِي رَحْلًا بِثَلَاثةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ، مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ: فَلَمَّا دَنَا دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَاخَ فَرَسُهُ فِي الأَرْضِ
إلَى بَطْنِهِ، وَوَثَبَ عَنْهُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَلَكَ عَلَيَّ لأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي، وَهَذِهِ كِنَانَتِي، فَخُذْ سهْمًا مِنْهَا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي، وَغِلْمَانِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، قَالَ:"لَا حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ"، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا، فتنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلِيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ"، فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ، وَالْخَدَمُ
فِي الطُّرُقِ، يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل [9]، تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
5 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ [7]، تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير إسرائيل.
وقوله: (لأُعَمِّيَن عَلَى مَنْ وَرَائِي)؛ أي: لأخفينّ أمركم عمن ورائي ممن يطلبكم، وأُلبسه عليهم حتى لا يعلم أحد بمكانكم.
وقوله: (وَهَذِهِ كِنَانَتِي، فَخُذْ سَهْمًا مِنْهَا)، أي: لتكون علامة عندك تريها أهلي، فيعلمون بها أنك لقيتني، وأنني أذنت لك في أن تأخذ من مالي ما شئت، ووقع في حديث سُراقة عند البخاريّ في "المناقب":"ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أنه سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد، والمتاع، فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخْفِ عنا"، وفيه كمال استغناء النبيّ صلى الله عليه وسلم عن متاع الدنيا مع حاجته إليه في السفر، وتوفّره له بطريق حلال
(1)
صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا، فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قد
(1)
راجع: "التكملة" 6/ 533.
بيّن ابن هشام هذا التنازع في "سيرته" حيث أخرج بسنده عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة قال: حدّثني رجال من قومي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وتوقعنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلًّا دخلنا، وذلك في أيام حارة. حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع وأنّا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء. قال: فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس، وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، ثم رحل، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلى عندهم.
فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله. أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، قال:"خلوا سبيلها، فإنها مأمورة" لناقته، فخلّوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة، تلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، في رجال من بني بياضة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا، إلى العدد والعدة والمنعة، قال:"خلوا سبيلها فإنها مأمورة" فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، في رجال من بني ساعدة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال:"خلوا سبيلها، فإنها مأمورة" فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج، اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة، في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال:"خلوا سبيلها، فإنها مأمورة" فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله دنيا - أم عبد المطلب سلمى بنت
عمرو، إحدى نسائهم - اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال من بني عدي بن النجار، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال:"خلوا سبيلها فإنها مأمورة" فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مِربد لغلامين يتيمين من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار، وهما في حِجر معاذ بن عفراء، سهل وسهيل ابني عمرو. فلما بركت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه، ثم تحلحلت، وزمّت، ووضعت، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ. . . إلخ) قال القاضي عياض رحمه الله: وفي هذا إظهار ما وضع الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من المحبّة في القلوب، وخصّ الله سبحانه وتعالى به الأنصار رضي الله عنهم من التكرمة والخير في إعزازهم رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصرته.
[تنبيه]: رواية إسرائيل عن أبي إسحاق هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(116)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا عثمان بن عمر، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: اشترى أبو بكر من أبي رَحْلًا بثلاثة عشر درهمًا، فقال: مُر البراء يحمله إلى رحلي، فقال: لا حتى تخبرني كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقال: ارتحلنا، فاحتسبنا يومنا وليلتنا، حتى قام ظهرًا، أو قال: قام قائم الظهيرة، فرميت ببصري، فإذا أنا بصخرة لها بقية من ظل، فرششته، وفرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فَرْوة، فقلت: نم يا رسول الله، ثم انطلقت أنفض ما حولي، هل أرى من المطلب أحدًا؟ فإذا
(1)
"سيرة ابن هشام" 1/ 495.
أنا براعي غنم يريد من الصخرة مثل ما أردت، فقلت: من أنت
(1)
يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: هل أنت حالبنا؟ قال: نعم، فأمرته، فاعتقل شاة من الغنم، فأمرته، فنفض ضرعها، ثم أمرته، فنفض كفيه من الغبار، فحلب لي كثبة من لبن، ومعي إداوة على فمها خرقة، فصببت الماء على اللبن، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافقته قد استيقظ، قلت: اشرب يا رسول الله، وارتحلنا، فلم يلحقنا من المطلب أحد، غير سراقة بن مالك بن جعشم، على فرس له، فقلت: هذا المطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فلما دنا دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه، وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن يُخلِّصني مما أنا فيه، ولك علي لأُعَمِّيَنّ على من ورائي، وهذه كنانتي، فخذ سهمًا منها، فإنك ستمر على إبلي، وغلماني، بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال:"لا حاجة لي في إبلك"، فقدمنا إلى المدينة ليلًا، فتنازعوا أيهم ينزل عليهم؟ فقال:"أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب، أُكرمهم بذلك"، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان، والخدم في الطرق، ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله. انتهى
(2)
.
(1)
كذا النسخة، والظاهر أن الصواب:"لمن أنت".
(2)
"مسند أبي يعلى" 1/ 107.
(57) - كِتَابُ التَّفْسِيرِ
مسألتان تتعلّقان بهذه الترجمة:
[المسألة الأولى]: في معنى التفسير، واشتقاقه:
"التفسير" مبالغة في الفَسْر، بفتح، فسكون، وهو الإيضاح، والفعل من بابي ضرب، ونصر، قال الفيّوميّ رحمه الله: فَسَرْتُ الشيءَ فَسْرًا، من باب ضرب: بيّنته، وأوضحته، والتثقيل مبالغة. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الْفَسْرُ: الإبانة، وكشف المغطّى؛ كالتفسير، والفعل كضرب، ونصر. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": التفسير تفعيل من المفسر، وهو البيان، تقول: فَسَرتُ الشيءَ بالتخفيف أَفْسرُهُ فَسْرًا، وفَسَّرته بالتشديد أُفَسِّره تفسيرًا: إذا بيّنته، وأصل المفسر: نظر الطبيب إلى الماء؛ ليعرف العلّة، وقيل: هو من فسرتُ الفرسَ: إذا ركضتها محصورة؛ لينطلق حصرها، وقيل: هو مقلوب من سَفَر؛ كجذب وجبذ، تقول سفر: إذا كشف وجهه، ومنه أسفر الصبح: إذا أضاء، واختلفوا في التفسير والتأويل، قال أبو عبيدة، وطائفة: هما بمعنى، وقيل: التفسير: هو بيان المراد باللفظ، والتأويل: هو بيان المراد بالمعنى
(3)
.
وقال أبو عبيد الهرويّ: التأويل: ردّ أحد المحتمِلَين إلى ما يطابق الظاهر، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل، وحَكَى صاحب "النهاية" أن التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصليّ إلى ما لا يَحتاج إلى دليل، لولاه ما تُرك ظاهر اللفظ، وقيل: التأويل: إبداء احتمال لفظ معتضد بدليل
(1)
"المصباح المنير" 2/ 472.
(2)
"القاموس المحيط" ص 995.
(3)
"الفتح" 9/ 627 "التفسير".
خارج عنه، ومثّل بعضهم بقوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء: 99] قال: من قال: لا شك فيه فهو التفسير، ومن قال: لأنه حقّ في نفسه لا يقبل الشك، فهو التأويل. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
[المسألة الثانية]: كتب صاحب "التكملة" هنا بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، قال رحمه الله: قد اختصر مسلم رحمه الله في كتاب التفسير، فلم يورد فيه إلا ثمانية عشر حديثًا، وذلك لأن الأحاديث المرفوعة الخاصّة بتفسير القرآن الكريم يقلّ فيها توافر الشروط التي التزم بها مسلم لإخراج الأحاديث في هذا الكِتاب، وأما الأحاديث التي يُستنبط منها مسألة من مسائل التفسير، أو لها علاقة بآية من آيات القرآن، وإن لم تكن في صميم موضوع التفسير، فإن المصنّف أخرجها في الأبواب الأخرى من هذا الكتاب، وليس من عادته التكرار، ولهذا قلّت أحاديث هذا الكتاب.
وقد اشتهَر فيما بين المتأخّرين ممن كتبوا في مصطلح الحديث أن اسم "الجامع" إنما يُطلق على الكتاب الذي يجمع أحاديث تتعلّق بثمانية مواضيع، وهي: العقائد، والأحكام، والرقاق، والآداب، والتفسير، والسيرة، والفتن، والمناقب، وذكروا أن "صحيح البخاريّ" جامع لتضمّنه هذه الأبواب كلها، وأما "صحيح مسلم" فقالوا: إنه ليس جامعًا، لقلّة التفسر فيه.
قال: وقد بحثت عن تعريف اصطلاح "الجامع" في كتب المتقدّمين، فلم أجد عندهم هذا الاصطلاح بهذا التعريف، ولكنهم أطلقوا هذا اللفظ على "صحيح البخاريّ"، و"جامع سفيان الثوريّ"، و"جامع عبد الرزّاق"، و"موطأ الإمام مالك"، وغيره، وقد عرّف الشيخ محمود محمد خطّاب السبكيّ رحمه الله لفظ الجامع بطريق آخر، فقال في مقدّمة "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود": والجامع ما كان مرتّبًا على أبواب الفقه؛ كالكتب الستّة، أو على ترتيب الحروف في أوائل الترجمة؛ ككتاب الإيمان، والبرّ، والتوبة، والثواب، وهكذا فعل صاحب "جامع الأصول"، أو باعتبار رعاية الحروف في أوائل الحديث، كما فعل السيوطيّ في "الجامع الصغير"، وقد جمع في "الجامع الكبير" بين الجامع والمسند.
(1)
"الفتح" 17/ 607، "كتاب التوحيد" رقم (7553).
قال: وأول من عرّف الجامع بما يجمع العلوم الثمانية - فيما أعلم - هو الشيخ عبد العزيز الدهلويّ رحمه الله في رسالته المسمّاة بـ "العجالة النافعة"، وهو الذي صرّح فيها بأن "صحيح مسلم" ليس جامعًا، لأنه لا يوجد فيه أحاديث التفسير والقراءات.
وقد مرّ في مقدّمة هذا الكتاب أن مجد الدين الشيرازيّ صاحب "القاموس" قد أطلق لفظ الجامع على "صحيح مسلم"، وكذلك ذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون""صحيح مسلم" بلفظ "الجامع الصحيح"، وكذلك فعل العلامة علي القاري في "مرقاة المفاتيح" حيث قال في ترجمة مسلم رحمه الله: وله المصنّفات الجليلة غير جامعه الصحيح.
قال: وإطلاق هذا اللفظ على "صحيح مسلم" هو الراجح على كلا التعريفين للجامع، أما على تعريف الخطاب السبكيّ فظاهر؛ لأن كتاب مسلم مرتّب على أبواب الفقه، وأما على تعريف الشيخ الدهلويّ فكذلك، وذلك لوجهين:
الأول: أن الإمام مسلمًا رضي الله عنه لم يترك أحاديث التفسير رأسًا، بل عقد لها هذا الباب، أما قلّة أحاديثه فيه فلِمَا ذكرنا من أن الأحاديث المرفوعة التي هي في صميم موضوع التفسير، والتي تستجمع الشروط التي التزمها مسلم قليلة، وقد أخرج رحمه الله أحاديث كثيرة في الأبواب الأخرى لها علاقة بالتفسير، وإنما طال كتاب التفسير في "صحيح البخاريّ"؛ لأنه يورد الأحاديث بأدنى مناسبة، ولا يرى بالتكرار بأسًا، ولأنه أدخل فيه كثيرًا من تفسير غريب القرآن.
قال: وقد التمست من بعض أصحابي أن يتتبع الأحاديث التي أخرجها البخاريّ في "كتاب التفسير" كم أخرج منها مسلم في غير "كتاب التفسير"، فتبيّن من هذا التتبّع أن اثنين وستين حديثًا أخرجها البخاريّ في "التفسير"، وأخرجها مسلم في الأبواب الأخرى غير "كتاب التفسير"، وإذا أضفنا إليها هذه الثمانية عشر التي أخرجها مسلم في "كتاب التفسير" بلغ عددها إلى ثمانين حديثًا، وهناك أحاديث أخرى في "صحيح مسلم" يمكن أن تُدرج في "كتاب التفسير" لمناسبة من المناسبات، لم يُخرجها البخاريّ في "التفسير"، فيزداد العدد، فأحاديث التفسير في "صحيح مسلم" ليست قليلة بما يخرجه من كونه جامعًا.
والوجه الثاني: أن أحاديث التفسير في "جامع سفيان الثوريّ"، و"جامع سفيان بن عيينة" قليلة أيضًا، كما ذكره الكتانيّ في "الرسالة المستطرفة" ناقلًا عن "قوت القلوب"، ومع ذلك فإنهما يُطلق عليهما لفظ الجامع بالاتفاق. انتهى كلام صاحب "التكملة"
(1)
، وهو بحث مفيد.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت في مقدّمة "شرح المقدّمة" تحقيق هذه المسألة، وترجيح القول بإطلاق لفظ "الجامع" على "صحيح مسلم"، فراجعه
(2)
تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(1) - (بَابٌ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7484]
(3015) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لِبَني إِسْرَائِيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوريّ [11]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همام أبو بكر الصنعانيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة اليمنيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأنباويّ، أبو عقبة الصنعانيّ [4]، تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 534 - 536.
(2)
راجع: "قرة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج" 1/ 52 - 53.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ)؛ أنه (قَالَ: هَذَا) مشيرًا إلى مجموع من الأحاديث، (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ}) هذا الباب قيل: هو الباب الثامن من بيت المقدس، قاله مجاهد، وقيل: باب القرية التي أُمروا بدخولها، وهي قرية الجبارين، وهي أريحاء في المشهور، وقيل: كان لها سبعة أبواب، وقال أبو عليّ: باب قرية فيها موسى عليه السلام
(1)
.
وقوله: ({سُجَّدًا}) قال ابن عباس رضي الله عنهما: منحنين، ركوعًا، وقال غيره: خضوعًا وشكرًا؛ لتيسير الدخول، وقال وهب بن منبه: قيل لهم: ادخلوا الباب، فإذا دخلتموه، فاسجدوا، واشكروا الله عز وجل. ({وَقُولُوا حِطَّةٌ}) بمعنى حُطّ عنا ذنوبنا، قاله الحسن، وقتادة، وقال ابن جبير: معناه الاستغفار، قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله وقولوا:"حطة": قال الحسن: أي: احطط عنا خطايانا، وهذا يليق بقراءة من قرأ حطةً بالنصب، وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة، وقرأ الجمهور بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مسألتنا حطةٌ، وقيل: أُمروا أن يقولوا على هذه الكيفية، فالرفع على الحكاية، وهي في محل نصب بالقول، وإنما مَنع النصب حركة الحكاية، وقيل: رُفعت لتعطى معنى الثبات؛ كقوله: {سَلَامٌ} [الأنعام: 54].
وقال وليّ الدين: "حطة" مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف، تقديره: مسألتنا حطةٌ؛ أي: أن تحط عنا خطايانا، وقال بعضهم: تقديره: أمرُنا حطةٌ، وقال بعضهم: هو رفع على الحكاية
(2)
.
واختُلف في معنى هذه الكلمة، فقيل: هي اسم للهيئة من الحط؛ كالجلسة، وقيل: هي التوبة، كما قال الشاعر [من الخفيف]:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي صَيَّرَ اللَّهُ
…
بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفورَا
وقيل: لا يدرى معناها، وإنما تُعُبدوا بها، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 159.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 159.
عباس وغيره قال: قيل لهم: قولوا: مغفرة
(1)
.
(يَغْفِرْ) بالبناء للمفعول، {لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} وقال وليّ الدين رحمه الله: في قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ثلاث قراءات في المشهور:
إحداها: قراءة نافع بالياء المثناة من تحتُ، مضمومة، وفتح الفاء؛ يعني: الرواية المذكورة عند مسلم.
الثانية: قراءة ابن عامر بالتاء المثناة من فوقُ مضمومة، وفتح الفاء.
الثالثة: قراءة الباقين بالنون مفتوحة، وكسر الفاء. انتهى
(2)
.
(فَبَدَّلُوا)؛ أي: غيّروا، وقوله:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] التقدير: فبدّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولًا غير الذي قيل لهم، ويَحْتَمِل أن يكون ضَمَّن بَدّل معنى قال. (فَدَخَلُوا البَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ)؛ أي: ينجرون على ألياتهم، فعلَ المقعد الذي يمشي على أليته، يقال: زحف الصبي: إذا مشى كذلك، والأستاه جمع است، وهو الدُّبُر (وَقَالوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ)، أي: قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، والاستخفاف بالأوامر الشرعية، وهو كلام خَلْفٌ، لا معنى له، وفي رواية للبخاريّ: قيل: حنطة، فزادوا في لفظة الحطة نونًا، وغيّروه بذلك عن مدلوله، ثم ضموا إليه هذا الكلام الخالي عن الفائدة؛ تتميمًا للاستهزاء، وزيادة في العتوّ، وفي كتب التفسير أنهم قالوا: حطانا سمقانا يعنون حنطة حمراء، فعاقبهم بالرجز، وهو العذاب المقترن بالهلاك، قال ابن زيد: كان طاعونًا أهلك الله به منهم في ساعة واحدة سبعين ألفًا
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وقالوا: حبة في شَعَرَة" كذا للأكثر، وكذا في رواية الحسن بفتحتين، وللكشميهنيّ:"في شَعِيرة" بكسر المهملة، وزيادة تحتانية بعدها.
والحاصل: أنهم خالفوا ما أُمروا به من الفعل، والقول، فإنهم أُمروا
(1)
"الفتح" 10/ 141 - 142، "كتاب التفسير" رقم (4641).
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 159.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 159.
بالسجود عند انتهائهم؛ شكرًا لله تعالى، وبقولهم: حطة، فبدلوا السجود بالزحف، وقالوا: حنطة بدل حطة، أو قالوا: حطة وزادوا فيها: حبة في شعيرة.
وروى الحاكم من طريق السّدّي عن مرة، عن ابن مسعود قال: قالوا هطى سمقا، وهي بالعربية: حنطة حمراء قوية فيها شعيرة سوداء.
ويستنبط منه أن الأقوال المنصوصة إذا تُعُبد بلفظها لا يجوز تغييرها، ولو وافق المعنى، وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى، بل هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدًا في الجواز، أعني: يزاد في الشرط أن لا يقع التعبد بلفظه، ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه، قاله في "الفتح"
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسالة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7484](3015)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3403) و"التفسير"(4479 و 4641)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2956)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 286)، و (همام بن منبه) في "صحيفته"(116)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 312 و 318)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6251)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(1019)، و (البغويّ) في "تفسيره"(1/ 76)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7485]
(3016) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثنا يَعْقُوبُ - يَعْنُونَ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ - وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَال: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ اللهَ عز وجل تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ الْوَحْيُ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَشولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"الفتح" 10/ 141 - 142.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ) البغدادي، نزيل أَذَنة [10]، تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة [11]، تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ [11]، تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، من صغار [9]، تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد [8]، تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ [4]، تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
7 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الشهير رأس [4]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
8 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الأنصاريّ الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من يعقوب، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهي من رواية الأقران، لأن صالحًا، وابن شهاب من الطبقة الرابعة، بل صالح أكبر سنًّا من ابن شهاب، وأقدم سماعًا، كما قاله في "الفتح"
(1)
، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريِّ؛ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ اللهَ عز وجل تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ) وفي رواية البخاريّ: "إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية أبي ذرّ:"إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي قبل وفاته"، أي: أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر
(1)
"الفتح" 11/ 160.
في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا، وكثر سؤالهم عن الأحكام، فكثر النزول بسبب ذلك، قال الحافظ رحمه الله: ووقع لي سبب تحديث أنس رضي الله عنه بذلك من رواية الدراورديّ، عن الإماميّ
(1)
عن الزهريّ: "سألت أنس بن مالك، هل فتر الوحي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟، قال: أكثر ما كان، وأجمه". أورده ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. انتهى
(2)
.
(حتَّى تُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"حتى توفاه أكثر ما كان الوحي"؛ أي: الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة. (وَأَكثَرُ مَا كَانَ الْوَحْيُ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله "حتى توفي"، وهذا الذي وقع أخيرًا على خلاف ما وقع أولًا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة، ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السُّوَر الطوال إلا القليل، ثم بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولًا بالسبب المتقدم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7485](3016)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(4982)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(8)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 236)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(44)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[7486]
(3017) - (حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْن الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لِابْنِ - الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ - حَدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْس بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِعُمَرَ: إِنَّكمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً لَوْ أُنْزِلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ
(1)
لم أعرف من هو؟!.
(2)
"الفتح" 11/ 161.
حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَأَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أُنْزِلَتْ، أُنْزِلَتْ بِعَرَفَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: أَشُكُّ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، أَمْ لَا، يَعْنِي:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغدادي [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ الزمن البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) أبو سعيد البصريّ [9]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 388.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ) الجدليّ الكوفيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 22/ 185.
6 -
(طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ) البجليّ الكوفيّ [2]، تقدم في "الإيمان" 22/ 185.
7 -
(عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
شرح الحديث:
(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ، رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدرك الجاهلية، وغزا في خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ثلاثًا وأربعين من بين غزوة وسرية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة
(1)
. (أَنَّ الْيَهُودَ) هو عَلَم على قوم موسى عليه السلام، وفي "العباب": اليهود: اليهوديون، ولكنهم حذفوا ياء الإضافة، كما قالوا: زنجيّ وزنج، وروميّ وروم، وإنما عرِّف على هذا الحدّ، فجُمع على قياس شعيرة وشعير، ثم عُرِّف الجمع بالألف واللام، ولولا ذلك لم يَجُز دخول الألف واللام؛ لأنه معرفة مؤنث، يجري في كلامهم مجرى القبيلة، ولم يجر كالحيّ. انتهى
(2)
. (قَالُوا لِعُمَرَ) وفي الرواية الثالثة؛ "جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ
(1)
"عمدة القاري" 1/ 262.
(2)
"عمدة القاري" 1/ 262.
إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ. . ."، قال في "الفتح": هذا الرجل هو كعب الأحبار، بَيّن ذلك مسدّد في "مسنده"، والطبريّ في "تفسيره"، والطبرانيّ في "الأوسط"، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسَيّ - بضم النون، وفتح المهملة - عن إسحاق بن خَرَشة، عن قَبيصة بن ذُؤيب، عن كعب، وللبخاريّ في "المغازي" من طريق الثوريّ عن قيس بن مسلم: "أن ناسًا من اليهود"، وله في "التفسير" من هذا الوجه بلفظ: "قالت اليهود"، فيُحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم. انتهى
(1)
.
(إِنَّكمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً لَوْ أُنْزِلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا)، أي: لعظّمناه، وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة؛ لِعِظم ما حصل فيه من إكمال الدين، والعيد فعل من العَوْد، وإنما سمّي به؛ لأنه يعود في كل عام. (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه:(إِنِّي لأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ)؛ أي: في أيّ مكان أُنزلت، (وَأَيَّ يَوْم أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: وفي أيّ مكان كان صلى الله عليه وسلم (حَيْثُ أُنْزِلَتْ) ثُمَّ بيّن ذلك، فقال:(أُنْزِلَتْ بِعَرَفَةَ) بيان للمكان، (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ) بيان لمكانه صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الآتية:"إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه" وزاد في رواية: "والساعة التى نزلت فيها على النبيّ صلى الله عليه وسلم".
ومعنى كلام عمر رضي الله عنه: أنّا ما أهملناه، ولا خفي علينا زمان نزولها، ولا مكان نزواها، وضبطنا جميع ما يتعلق بها، حتى صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وموضعه في زمان النزول، وهو كونه صلى الله عليه وسلم قائمًا حينئذ، وهو غاية في الضبط.
وقال النوويّ: معناه: أنّا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم، والمكان، أما المكان فهو عرفات، وهو معظم الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، وأما الزمان فهو يوم الجمعة، ويوم عرفة، وهو يوم اجتمع فيه فضلان، وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم، فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا.، وعظّمنا مكانه أيضًا، وهذا كان في حجة الوداع، وعاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدها ثلاثة أشهر، قاله في "العمدة"
(2)
.
(1)
"الفتح" 1/ 193، "كتاب الإيمان" رقم (45).
(2)
"عمدة القاري" 1/ 264.
[فإن قيل]: كيف طابق الجواب السؤال؛ لأنه قال: "لاتخذناه عيدًا"، وأجاب عمر رضي الله عنه بمعرفة الوقت، والمكان، ولم يقل: جعلناه عيدًا؟.
[والجواب] عن هذا: أنها نزلت في أخريات نهار عرفة، ويوم العيد، إنما يتحقق بأوله، وقد قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة.
قال الحافظ رحمه الله: قاله هكذا بعض من تقدم، وعندي أن هذه الرواية اكتُفي في بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قبيصة قد نصت على المراد، ولفظه:"نزلت يوم جمعة، يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد"، لفظ الطبريّ، والطبرانيّ:"وهما لنا عيدان"، وكذا عند الترمذيّ من حديث ابن عباس:"أن يهوديًّا سأله عن ذلك، فقال: نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة، ويوم عرفة".
فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا، وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنه ليلة العيد، وهكذا كما جاء في الحديث المتقدّم في "الصيام":"شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة"، فسمّي رمضان عيدًا؛ لأنه يعقبه العيد. انتهى.
[تنبيه]: في هذا الحديث بيانُ ضَعْف ما أخرجه الطبريّ بسند فيه ابن لهيعة، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت يوم الإثنين، وضَعْف ما أخرجه من طريق العوفيّ عن ابن عباس: أن اليوم المذكور ليس بمعلوم، وعلى ما أخرجه البيهقيّ بسند منقطع: أنها نزلت يوم التروية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، فأمر الناس أن يروحوا إلى منى، وصلى الظهر بها، قال البيهقيّ: حديث عمر أولى، قال الحافظ: وهو كما قال. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ سُفْيَانُ)؛ يعني: الثوريّ، (أَشُكُّ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، أَمْ لَا، يَعْنِي: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}) سيأتي في الرواية التالية عن قيس بن مسلم الجزم بأن ذلك كان يوم الجمعة، فلا يضرّ شكّ سفيان، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 10/ 82.
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7486 و 7487 و 7488](3017)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(45) و"المغازي"(4407) و"التفسير"(4606) و"الاعتصام"(7268)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3043)، و (النسائيّ) في "الحج"(5/ 251) و"الإيمان"(8/ 114)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 28)، و (الحميديّ) في "مسنده"(31)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(185)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 105)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 118)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة):
1 -
(منها): بيان فضل يوم عرفة، حيث إنه نزلت فيه هذه الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): بيان وقت، ومكان نزول هذه الآية.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من العناية بمكان نزول الآية، وزمانها.
4 -
(ومنها): أن هذه الآية فيها بيان ما منّ الله تعالى به على هذه الأمة، حيث أكمل دينها، وأتمّ نعمه عليها، بحيث لا تحتاج إلى زيادة في أمر الدين، فكلّ ما حدث بعد أن أكمله الله تعالى، مما لا دليل له منه يُعتبر بدعة ضلالة، كما ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، متّفق عليه، وفي رواية لمسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
5 -
(ومنها): أنه استُدل بهذا الحديث على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام، لأن الله تعالى إنما يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم الأفضل، وأن الأعمال تَشْرُف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة. . ." الحديث؛ ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء، ولا سيما على قول من قال: إنها بعد العصر.
قال الحافظ رحمه الله: وأما ما ذكره رزين في "جامعه" مرفوعًا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غيرها" فهو حديث لا أعرف حاله، لأنه لم يذكر صحابيه، ولا من أخرجه، بل أدرجه في حديث "الموطأ" الذي ذكره مرسلًا عن طلحة بن عبيد الله بن
كريز، وليست الزيادة المذكورة في شيء من الموطآت، فإن كان له أصل احتَمَل أن يراد بالسبعين التحديد، أو المبالغة، وعلى كل منهما فثبتت المزية بذلك، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
6 -
(ومنها): ما كتبه الحافظ ابن رجب من بحث ممتع، قد أجاد فيه، وأفادا، قال رحمه الله ما حاصله:
هذا الحديث قد يؤخذ منه أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتباع، فهذه الآية لمّا تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدًا لهذه الأمة من وجهين:
أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم، وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: إنه يوم الحج الأكبر.
وقد جاء تسميته عيدًا من حديث مرفوع خرّجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".
وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف، وهو الأصح لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكْلهم من نُسُكهم. هذا قول جمهور العلماء.
وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح. ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نِعَم الله على عباده، لو صامها بعض الناس شكرًا من غير اتخاذها عيدًا، كان حسنًا استدلالًا بصيام النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء لمّا أخبره اليهود بصيام موسى عليه السلام له
(1)
"الفتح" 10/ 84.
شكرًا، وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن صيام يوم الاثنين، قال: "ذلك يوم وُلدت
فيه، وأُنزل علي فيه".
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يُتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه الرسول لأمته. والأعياد: هي مواسم الفرح والسرور؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته، كما قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فشرع لهم عيدين في سنة وعيدًا في كل أسبوع، فأما عيدا السنة:
فأحدهما: تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار، فشَرَع لهم عيدًا بعد إكمال صيامهم، وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة، وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد شكرًا لذلك.
والعيد الثاني: أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه، فجعل الله عقب ذلك عيدًا، بل هو العيد الأكبر، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه تفثهم، ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة؛ لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام، بخلاف الصيام ويكون الشكر عند أهل الأمصار: الصلاة والنحر، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر؛ ولهذا أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر بالصلاة له والنحر كما شرع ذلك لإبراهيم خليله؛ عند أمْره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم.
وأما عيد الأسبوع: فهو يوم الجمعة، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها -وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق، وفيه خُلق آدم وأدخل الجنة- عيدًا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة، وشرع لهم الخطبة تذكيرًا بنِعَم الله عليهم وحثًّا لهم على شكرها، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام.
وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر. خرّجه الإمام أحمد في "مسنده"، وقال مجاهد وغيره. وروي أنه حج المساكين، وروي عن علي أنه يوم نُسك المسلمين. وقال ابن المسيب: الجمعة أحب إليّ من حج التطوع. وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي؛ فالمبكر في أول ساعة كالمُهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي كبشًا، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة. ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة. وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة لا يزورون ربهم فيهما، وأنه يتجلى فيهم لأهل الجنة عمومًا يشارك الرجال فيها النساء. فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا والآخرة عمومًا.
وأما خواص المؤمنين: فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين. وروي عن بعضهم: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد. ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيًّا. وقد خرّجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا.
ولهذا المعنى -والله أعلم- لمّا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرؤية في حديث جرير بن عبد الله البجلي أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فإن هذين الوقتين وقت رؤية خواص أهل الجنة ربهم، فمن حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتها وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله في الجنة في وقتهما.
فتبيَّن بهذا: أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام؛ فالأعياد الثلاثة المجتمَع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج؛ فأما الزكاة: فليس لها زمان معين تكمل فيه، وأما الشهادتان: فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما. وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت؛ فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالي أعلم.
(1)
"فتح الباري لابن رجب" 1/ 88 - 89.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7487]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُودَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] نَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَقَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَالسَّاعَةَ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ، نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الكوفيّ [10]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ [8]، تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
4 -
(أَبُوهُ) إدريس بن يزيد الأوديّ الكوفيّ [7]، تقدم في "الإيمان" 59/ 335.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7488]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ) المخزوميّ الكوفيّ [9]، تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
2 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ [7]، تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى قبل حديث، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7489]
(3018) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ -قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا- ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ، إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]، قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنِ الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ، وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا، وَجَمَالِهَا، مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ [11]، تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، من كبار [7]، تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام المدنيّ الفقيه [3]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 407.
7 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنها، تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، وإنما سألها هذا السؤال؛ لأنه ليس نكاح ما طاب سببًا للعدل في الظاهر حتى يُؤَمَّنَ به من يَخَاف عدمه، بل قد يكون النكاح سببًا للجور للحاجة إلى الأموال. (عَنْ قَوْلِ اللهِ عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3])؛ أي: إن خفتم أن لا تعدِلُوا في مهورهنّ، وفي النفقة عليهنّ، فانكحوا غيرهنّ من النساء.
قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: "خفتم" من الأضداد، فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونًا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف، فقال أبو عبيدة:"خفتم" بمعنى أيقنتم. وقال آخرون: "خفتم" ظننتم، قال ابن عطيّة: وهذا الذي اختاره الْحُذّاق، وأنه على بابه من الظنّ، لا من اليقين،
التقدير: من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة، فليعدل عنها. انتهى. {أَلَّا تُقْسِطُوا}؛ أي: تعدلوا، يقال: أقسط الرجل: إذا عدل، وقَسَط إذا جار، وظلم صاحبه، قال الله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15]؛ يعني: الجائرين. {فِي الْيَتَامَى} قال النسفيّ: يقال للإناث: اليتامى، كما يقال: للذكور، وهو جمع يتيمة، ويتيم، وأما أيتام فجمع يتيم، لا غير. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": اليتيم في بني آدم من قِبَل فَقْد الأب، وفي غيرهم من قِبَل فقد الأمّ، وأصل اليتيم أن يقال: على من لم يبلُغ، وقد أُطلق في هذه الآية على المحجور عليها، صغيرةً كانت، أو كبيرةً؛ استصحابًا لإطلاق اسم اليتيم لبقاء الحَجْر عليها. وإنما قلنا: إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية؛ لأنها قد أُبيح العقد عليها في الآية، ولا تُنكح اليتيمة الصغيرة، إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن بإذنها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما خرّجه الدارقطنيّ وغيره في بنت عثمان بن مظعون:"وإنها يتيمة، ولا تُنكح إلا بإذنها"، وهذا مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قال: إذا بلغت لم تحتج إلى وليّ، بناءً على أصله في عدم اشتراط الوليّ في صحّة النكاح. انتهى
(2)
.
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: إن قيل: كيف جاءت "ما" للآدميين، وإنما أصلها لِمَا لا يعقِلُ، فعنه أجوبة خمسة:
[الأول]: أن "من" و"ما" قد يتعاقبان، قال الله تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]؛ أي: ومن بناها، وقال:{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] فـ"ما" ههنا لمن يعقل، وهنّ النساء؛ لقوله بعد ذلك، مبيّنًا لمبهم "ما"، وقرأ ابن أبي عبلة:"من طاب" على ذِكر من يعقل.
[الثاني]: قال البصريون: "ما" تقع للنعوت كما تقع لِمَا لا يعقل، يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريفٌ وكريمٌ، فالمعنى: فانكحوا الطيّب من النساء؛ أي: الحلال، وما حرّمه الله فليس بطيّب، وفي التنزيل:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، فأجابه موسى على وفق ما سأل.
(1)
"تفسير النسفيّ" 1/ 205.
(2)
"المفهم" 7/ 326.
وحكى بعض الناس أن "ما" في هذه الآية ظرفيّة؛ أي: ما دمتم تستحسنون النكاح. قال ابن عطيّة: وفي هذا المنزع ضعفٌ.
[الرابع]: قال الفرّاء: "ما" ههنا مصدرية. وقال النحاس: وهذا بعيدٌ جدًّا، لا يصحّ، فانكحوا الطيّبة.
[الخامس]: أن المراد بـ"ما" هنا العقد؛ أي: فانكحوا نكاحًا طيبًا، وقراءة ابن أبي عَبْلَة تردّ الأقوال الثلاثة.
واتفقوا على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يَخَف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنين، أو ثلاثًا، أو أربعًا كمن خاف، فدلّ على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعمّ من ذلك. انتهى كلام القرطبيّ باختصار
(1)
.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (يَا ابْنَ أُخْتِي) أختها هي أسماء بئت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم، والدة عبد الله بن الزبير، وعروة. (هِيَ الْيَتِيمَةُ)؛ أي: التي مات أبوها، (تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا)؛ أي: الذي يَلِي مالها. قال الفيّوميّ رحمه الله: "حَجر الإنسان" بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنه، وهو ما دون إبطه إلى الكشح، وهو في حَجْره؛ أي: كَنَفه، وحِمَايته، والجمع حُجور. انتهى
(2)
.
(تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا) بضمّ الياء، من الإقساط؛ أي: يَعدِل في مهرها، وفي رواية:"ويريد أن ينتقص من صداقها"، (فَيُعْطِيَهَا) عطف على "يُقسِط"، عطف تفسير، وفيه دلالةٌ على النهي عن تزوّج امرأة يخاف في شأنها الجور، منفردةً، أو مجتمعة مع غيرها. (مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ)؛ يعني: أنه يريد أن يتزوّجها بغير أن يعطيها مثل ما يُعطيها غيره؛ أي: ممن يَرغَب في نكاحها سواه، ويدلّ على هذا قوله:(فَنُهُوا) بضم النون، والهاء، مبنيًّا للمفعول، (أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ) بفتح الياء بالبناء للمفعول؛ أي: يتزوّجوهنّ (إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ)؛ أي: أعلى عادة مهر مثلهنّ، (وَأُمِرُوا) بضم الهمزة، مبنيًّا
(1)
"تفسير القرطبيّ" 5/ 12 - 13.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 122.
للمفعول، (أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ)؛ أي: يتزوّجوا غيرهنّ من النساء بأيّ مهر توافقوا عليه. قال في "الفتح": وتأويل عائشة هذا جاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مثله، أخرجه الطبريّ. وعن مجاهد في مناسبة ترتّب قوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} على قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} شيء آخر، قال في معنى قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} ؛ أي: إذا كنتم تخافون أن لا تعدلوا في مال اليتامى، فتحرّجتم أن لا تَلُوها، فتحرّجوا من الزنا، وانكحوا ما طاب لكم من النساء، وعلى تأويل عائشة يكون المعنى: وإن خفتم أن لا تُقسطوا في نكاح اليتامى. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ: وتأويل الآية، وبيان معناها: أن الله تعالى خاطب أولياء اليتامى، فقال: وإن خفتم من أنفسكم المشاحّة في صدقاتهنّ، وأن لا تعدلوا، فتبلغوا بهنّ صداق أمثالهنّ، فلا تنكحوهنّ، وانكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتي أُحلّ لكم خطبتهنّ من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة، فانكحوا منهنّ واحدةً، أو ما ملكتم من الإماء. انتهى
(2)
.
(قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها، وهو معطوفٌ على المذكور، وإن كان بغير أداة عطف، (ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيهِنَّ)؛ أي: في شأن النساء، (فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} )؛ أي: يسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم، ({قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}) قال النسفيّ: أي الله يفتيكم، والمتلوّ في الكتاب؛ أي: القرآن في معنى اليتامى، يعني قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ، وهو من قولك: أعجبني زيد وكرمُهُ، ({وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}) في محلّ الرفع بالعطف على الضمير في {يُفْتِيكُمْ} ، أو على لفظ {اللَّهُ} ، و ({فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}) صلة {يُتْلَى}؛ أي: يتلى عليكم في معناهنّ، ويجوز أن يكون في {يَتَامَى النِّسَاءِ} بدلًا من {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ
(1)
"الفتح" 9/ 111.
(2)
"معالم السنن" 3/ 15 - 16.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}، والإضافة بمعنى "من". ({اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ})؛ أي: ما أثبت لهن في الشرع، ({وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}).
(قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنِ الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ) قال في "الفتح": فيه تعيين أحد الاحتمالين في قوله: {وَتَرْغَبُونَ} ؛ لأن رغب يتغيّر معناه بمتعلقه، يقال: رغب فيه إذا أراده، ورغب عنه إذا لم يُرِدْه؛ لأنه يحتمل أن تحذف "في"، وأن تُحذف "عن". وقد تأوّله سعيد بن جبير على المعنيين، فقال: نزلت في الغنيّة، والمُعْدَمة، والمرويّ هنا عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى نزلت في الغنيّة، وهذه الآية نزلت في الْمُعدمة. انتهى
(1)
.
(حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ، وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا، وَجَمَالِهَا، مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ)؛ أي: نُهُوا عن نكاح المرغوب فيها لجمالها، ومالها؛ لأجل زُهدهم فيها، إذا كانت قليلة المال والجمال، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل. وقال صاحب "التكملة": حاصل كلام عائشة رضي الله عنها أن من وَلِيَ يتيمة من أبناء أعمامها كان يظلمها في الجاهليّة من ناحيتين، فإن كانت ذات مال وجمال رغب في أن يتزوجها بنفسه دون أن يعطيها صداق مثلها، فكان ينكحها بأقل مهر من مهر المِثل، فأمره الله سبحانه وتعالى أن لا يتزوجها في هذه الحالة، بل يتزوج غيرها ممن أحلّ الله له بما شاء من المهر؛ لئلا يبخس اليتيمة حقّها في المهر، وهذا هو المراد من قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية.
وأما إذا كانت قليلة الجمال، ولها مال، فلا يتزوجها الوليّ؛ لعدم رغبته في جمالها، ولا يزوجها غيره خشية أن يذهب الزوج بمالها، فيمسكها عنده
(1)
"الفتح" 9/ 112.
غير مزوّجة، ولا يخفى ما في ذلك من الظلم لها، فنهاه الله عز وجل عن هذا الظلم، وأمره بأحد أمرين: إما أن يتزوجها بنفسه على مهر مِثلها، وإما أن يُنكحها غيره، وهذا هو المراد من قوله تعالى:{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].
وقال الآلوسيّ في "روح المعاني"
(1)
: قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ؛ أي: في أن تنكحوهن، أو عن أن تنكحوهن، فإن أولياء اليتامى كما ورد في غير خبر كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات، ويأكلن أموالهن، وإلا كانوا يعضلونهن طمعًا في ميراثهنّ، وحَذْف الجارّ هنا لا يُعدّ لَبسًا، بل هو إجمال، فكلّ من الحرفين مراد على سبيل البدل
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7489 و 7490 و 7491 و 7492 و 7493](3018)، و (البخاريّ) في "الشركة"(2494) و"الوصايا"(2763) و"التفسير"(4573 و 4600) و"النكاح"(5064 و 5092 و 5098 و 5131) و"الحيل"(6965)، و (أبو داود) في "النكاح"(2068)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3367) وفي "الكبرى"(5514 و 11091)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب العدل في مهور النساء.
2 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن للوليّ أن يزوّج محجورته من نفسه.
3 -
(ومنها): أن له حقًّا في التزويج؛ لأن الله تعالى خاطب الأولياء بذلك.
(1)
"روح المعاني" 5/ 190.
(2)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 541 - 542.
4 -
(ومنها): اعتبار مهر الْمِثل في المحجورات، وأن غيرهنّ يجوز نكاحها بدون ذلك.
5 -
(ومنها): جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ؛ لأنهنّ بعد البلوغ، لا يقال لهنّ: يتيمات، إلا أن يكون أطلق استصحابًا لحالهنّ.
6 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآيتين، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): كتب أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله على حديث عائشة رضي الله عنها بحثًا مطوّلًا أحببت إيراده؛ لِمَا فيه من الفوائد الغزيرة، قال رحمه الله:
قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]: فزعتم، وفرَقتم، وهو ضد الأمن، ثم قد يكون الخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونًا، فلذلك اختَلَف العلماء في تفسير هذا الحديث، هل هو بمعنى العلم، أو بمعنى الظنّ، فقال بعضهم: خفتم: علمتم، وقال آخرون:{خِفْتُمْ} [البقرة: 229]: ظننتم، وحقيقة الخوف ما ذكرناه أوّلًا. {وَتُقْسِطُوا} [الممتحنة: 8]: تعدلوا، وقد تقدَّم: أن أقسط بمعنى عدل، وقسط: بمعنى جارَ، وقد تقدم أن اليتيم في بني آدم من قِبَل فَقْد الأب، وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأم، وأن اليتيم إنما أصله أن يقال على من لم يبلغ، وقد أُطلق في هذه الآية على المحجور عليها، صغيرة كانت، أو كبيرة؛ استصحابًا لإطلاق اسم اليتيم؛ لبقاء الحجر عليها، وإنما قلنا: إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية؛ لأنَّها قد أبيح العقد عليها في الآية، ولا تنكح اليتيمة الصغيرة؛ إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن بإذنها، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما خَرَّج الدارقطنيّ، وغيره في بنت عثمان بن مظعون، وأنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها
(1)
، وهذا مذهب الجمهور؛ خلافًا لأبي حنيفة، فإنَّه قال: إذا بلغت لم تحتج إلى وليّ؛ بناءً على أصله في عدم اشتراط الوليّ في صحة النكاح -كما قدمناه في كتاب النكاح-.
وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] قد تقدَّم أن "ما" أصلها لِمَا لا يعقل، وقد تجيء بمعنى الذي، فتُطلق على من يعقل، كما جاءت في هذه الآية، فإنَّها فيها للنساء، وهنّ ممن يعقل، ولا يُلتفت لقول من قال: إن
(1)
رواه الدارقطنيّ 3/ 229 - 230.
المراد بها هنا العقد؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {مِنَ النِّسَاءِ} مبينًا لمبهم "ما".
وقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} قد فَهِمَ من هذا من بَعُدَ فهمه للكتاب والسُّنَّة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وقلَّ علمه باللسان، واللغة: أنه يجوز لنا أن ننكح تسعًا، ونجمع بينهنّ في عصمة واحدة من هذه الآية، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نكح تسعًا، وجمع بينهن في عصمة، والذي صار إلى هذه الجهالة الرافضةُ، وطائفة من أهل الظاهر، فجعلوا مثنى، وثلاث، ورباع مثل اثنين، وثلاث، وأربع، وبينهما من الفرقان ما بين الجماد والإنسان، فإنَّ أهل اللغة مطبقون على الفرق بينهما، ولا نعلم بينهم خلافًا في ذلك، وبيان الفرق أن العرب إذا قالت: جاءت الخيل مثنى مثنى إنما تعني بذلك: اثنين، اثنين؛ أي: جاءت مزدوجة، قال الجوهريّ: وكذلك جميع معدول العدد.
قال القرطبيّ: وعلى هذا جاء قوله تعالى في وصف الملائكة: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]، ويُعلم على القطع والبتات أنه لم يرد هنا توزيع هذه الأعداد على الملائكة حتى يكونوا هم: أولي تسعة أجنحة يشتركون فيها، ولا أنه جمع كل واحد من آحاد الملائكة تسعة أجنحة، وتلزم هذه الفضائح من قال بالجمع في آية النكاح؛ إذ لا فرق بين هاتين الآيتين في هذا اللفظ في العدل، والعطف بالواو الجامعة، وإنما المراد: أن الله تعالى خلق الملائكة أصنافًا، فمنهم صنف جعل لكل واحد منهم جناحين، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم ثلاثة، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم أربعة، وكذلك آية النكاح معناها: أن الله تعالى أباح لكل واحد منهم من الزوجات ما يقدر على العدول فيه، فمن يقدر على العدل في اثنتين أبيح له ذلك، ومن يقدر على العدل في أكثر أبيح له ذلك، فإن خاف أن لا يعدل فواحدة، كما قال تعالى، وغاية الإباحة أربع؛ لأنَّه انتهى إليهن في العدد، ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان بن أمية:"أمسك أربعًا، وفارق سائرهنّ"
(1)
، ولأنه لم يُسمع عن أحد من الصحابة، ولا التابعين: أنه جمع في عصمته بين أكثر من أربع، وما أبيح
(1)
رواه البيهقيّ في "الكبرى" 7/ 181، وصححه ابن حبّان (4157).
للنبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، فذلك من خصوصياته، بدليل: أن أصحابه قد علموا ذلك، وتحقّقوه، فلو علموا أن ذلك مسوَّغ لهم لاقتدوا به في ذلك، فكانوا يجمعون بين تسع، فإنَّهم كانوا لا يعدلون عن الاقتداء به في جميع أفعاله، وأحواله، وببادرون إلى ذلك مبادرة من علم أن التوفيق والفلاح، والحصول على خير الدنيا والآخرة في الاقتداء به، فلولا أنهم علموا خصوصيته بذلك لَمَا امتنعوا منه، وما يروي الرافضة في ذلك عن عليّ رضي الله عنه، أو غيره من السّلف، فغير معروف عند أهل السُّنّة، ولا مأخوذ عن أحد من علماء الأمة، وكيف لا؟ وقوله لغيلان قد بيّن القدر المباح غاية البيان، وهو من الأحاديث المعروفة المشهورة عند كل أحد، بحيث لا يحتاج فيه إلى إقامة سند.
وقد ذهب بعض أهل الظاهر
(1)
إلى إباحة الجمع بين ثماني عشرة؛ تمسُّكًا بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار لمّا لم يمكنه لذلك إنكار، لكنه لمّا حمل الواو على الجمع جمع بين هذه الأعداد، وقصر كل صيغة على أقله، فجعل: مثنى بمعنى: اثنين واثنين، وثلاث: بمعنى ثلاث وثلاث، ورباع: بمعنى أربع وأربع.
قال: وهذا القائل أعور بأيّ عينيه شاء، فإنَّ كل ما ذكرناه يبطل دعواه.
ونزيد هنا نكتة تضمنها الكلام المتقدِّم، وهي أن قصره كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه، تحكّم بما لا يوافقه أهل اللسان عليه، ولا يرشد معنى الاثنين إليه؛ لأنَّ مقصود الآية إباحة نكاح اثنتين لمن أراد، نكاح ثلاث لمن أراد، ونكاح أربع لمن أراد، وكل واحد من آحاد كل نوع من هذه الثلاثة لا ينحصر، فكل اثنين، وثلاث، وأربع لا ينحصر، فقَصْره على بعض أعداد ما تضمّنه ذلك مخالف لمقصود الآية، فتفهّم ذلك، فإنَّه من لطيف الفهم، وللكلام في هذه الآية متّسعٌ، وفيما ذكرناه تنبيه ومقنع.
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: نسبة هذا القول إلى أهل الظاهر فيه نظر، فإن ابن حزم رحمه الله قد ذكر في "المحلّى"(9/ 441) أن أهل الإسلام مجمعون على تحريم أكثر من أربع نسوة، واحتج بحديث غيلان الثقفيّ المذكور، وقال: لم يقل بإباحة أكئر من أربع إلا الرافضة، فلو كان من أهل الظاهر أحد قال ذلك لَمَا أهمله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبعد أن فهمت أفراد تلك الكلمات، فاعلم أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وفي معناها، فذهبت عائشة رضي الله عنها إلى ما ذُكر في الباب عنها، وحاصل الروايات المذكورة عنها: أنها نزلت في ولي اليتيمة التي لها مال، فأراد وليّها أن يتزوجها، فأُمر بأن يوفيها صداق أمثالها، أو يكونُ لها مالٌ عنده بمشاركة أو غيرها، وهو لا حاجة له لتزويجها لنفسه، ويَكره أن يزوجها غيره؛ مخافة أخْذ مالها من عنده، فأمَر الله الأولياء بالقسط، وهو العدل، بحيث: إن تزوَّجها بذل لها مهر مثلها، وإن لم تكن له رغبة فيها زوّجها من غيره، وأوصلها إلى مالها على الوجه المشروع.
وتكميل معنى الآية: أن الله تعالى قال للأولياء: إن خفتم ألا تقوموا بالعدل، فتزوَّجوا غيرهنّ، ممن طاب لكم من النساء، اثنتين اثنتين، إن شئتم، وثلاثًا ثلاثًا لمن شاء، وأربعًا أربعًا لمن شاء، هذا قول عائشة رضي الله عنها في الآية.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: إنه قَصَر الرجال على أربع؛ لأجل أموال اليتامى، فنزلت جوابًا لتحرّجهم عن القيام بإصلاح أموال اليتامى.
وفسَّر عكرمة قول ابن عباس هذا بألّا تكثروا من النساء، فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى. وقال السّدّيّ، وقتادة: معنى الآية: إن خفتم الجور في أموال اليتامى، فخافوا مثله في النساء، فإنَّهن كاليتامى في الضعف، فلا تنكحوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن بالمعروف.
قال القرطبيّ: وأقرب هذه الأقوال وأصحها قول عائشة -إن شاء الله تعالى-.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صححه القرطبيّ هو الأرجح عندي، والله تعالى أعلم.
قال: وقد اتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، كمن خاف، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف، وأن حكمها أعمّ من ذلك، وفي الآية مباحث تسكت الناقث
(1)
.
(1)
يقال: نقث حديثه: إذا خلطه كخلط الطعام، ونقث العظم: استخرج مخّه، ونقث عن الشيء: إذا حفر عنه.
والمعدولة عن أسماء العدد صفات، وقيل: للعدل والتأنيث؛ لأنَّ أسماء العدد مؤنثة، وقيل: لتكرار العدد في اللفظ، والمعنى؛ لأنه عدل عن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى، وإلى معنى: اثنين اثنين، ومبدأ العدل آحاد، ومنتهاه رباع، ولم يسمع فيما فوق ذلك إلا في عُشار في قول الكميت [من المتقارب]:
وَلَمْ يَسْتَرِيثُوكَ حَتَّى رَمَيْـ
…
ـتَ فَوْقَ الرِّجَالِ خِصَالًا عُشَارَا
وتختلف صيغ المعدول عن العدد، فيقال: مَوْحَد، وآحاد، وأُحَد، ومثنى، وثُنا، وثُناي، ومثلث، وثُلاث وثُلَث، ومَربع، ورُباع، ورُبَع، وقرأ النخعي:(ثُلَث)، و (رُبَع). انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. وقد ذكرت في "شرح النسائي" هنا مسائل مفيدة، فراجعها
(1)
تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7490]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ؛ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ، إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ، وَالْجَمَالِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير صالح، وكذا فاعل "زاد".
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4298)
- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير؛ أنه سأل عائشة، عن قول الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فقالت: يا ابن
(1)
راجع: "المجتبى" 28/ 29 - 36.
أختي هذه اليتيمة، تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ، قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]، قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنُهوا أن ينكحوا عمن رغبوا في ماله وجماله، في يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7491]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ، وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَوَارِثُهَا، وَلَهَا مَالٌ، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا، فَلَا يُنْكِحُهَا لِمَالِهَا، فَيَضُرُّ بِهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، فَقَالَ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يَقُولُ: مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ، وَدَعْ هَذِهِ الَّتِي تَضُرُّ بِهَا).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة الكوفيّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(هِشَامُ) بن عروة المدنيّ [5]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 350.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7492]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي
(1)
"صحيح البخاري" 4/ 1668.
يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَتَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضِلُهَا، فَلَا يَتَزَوَّجُهَا، وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ الكوفيّ، من صغار [8]، تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَتَشْرَكُهُ) بفتح حرف المضارعة، وثالثه، من باب تعب.
وقوله: (فَيَعْضِلُهَا) مثلث الضاد، كما في "القاموس"؛ أي: يمنعها من الزواج.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7493]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآيَةَ قَالَتْ: هِيَ
(1)
الْيَتِيمَةُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ، حَتَّى فِي الْعَذْقِ، فَيَرْغَبُ؛ يَعْنِي: أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُنْكِحَهَا رَجُلًا، فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضِلُهَا).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الذي مرّ قبل حديث، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7494]
(3019) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُهُ، إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ).
(1)
وفي نسخة: "هذه".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الذي تقدّم قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها قالت (فِي قَوْلِهِ)؛ أي: بيان معنى قوله تعالى: ({وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}) هذا في "سورة النساء" وأول الآية: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 6].
قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ؛ أي: اختبروهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسديّ، ومقاتل ابن حيان.
وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} قال مجاهد: يعني: الحُلُم، وقوله:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} ؛ يعني: صلاحًا في دينهم، وحفظًا لأموالهم، قاله سعيد بن جبير، ثم نهى الله تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية؛ إسرافًا ومبادرة قبل بلوغهم.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا} ؛ أي: من كان في غنية عن مال اليتيم، {فَلْيَسْتَعْفِفْ} عنه، ولا يأكل منه شيئًا.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها؛ (أُنْزِلَتْ)؛ أي: هذه الآية (فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ) المراد بوالي اليتيم: المتصرف في ماله بالوصية، ونحوها
(1)
، كما أشارت إليه بقولها:(الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ)، وقوله:(وَيُصْلِحُهُ) عطف تفسير لـ"يقوم"، فمعنى قيامه عليه: إصلاحه، والسعي في نمائه، (إِذَا كَانَ) ذلك الوالي (مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ)؛ أي: بالمعروف، كما نصّ عليه في الآية، ومعنى المعروف: بقدر قيامه عليه، وقال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته، واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما لا؛ لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيرًا، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل.
(1)
"الفتح" 9/ 34.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول هو الأرجح عندي؛ لإطلاق الآية، والله تعالى أعلم.
وفي الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن أبي حاتم، من طريق حسين المكتب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندي يتيمًا له مال، وليس عندي شيء، أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف"، وإسناده قويّ، قاله في "الفتح"
(1)
.
وأخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال:"كُلْ من مال يتيمك، غير مسرف، ولا مبذّر، ولا متأثل مالًا، ومن غير أن تقي مالك، أو قال: تفدي مالك"، وهو حديث صحيح.
وروى ابن حبان في "صحيحه" من حديث علي بن مهديّ، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عامر الخراز عن عمرو بن دينار، عن جابر أن رجلًا قال: يا رسول الله مما أضرب يتيمي؟ قال: "ما كنت ضاربًا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالًا"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسأله الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7494 و 7495 و 7496](3019)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2212) و"الوصايا"(2765) و"التفسير"(4575)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(7/ 371)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 392)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 239)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 4 و 5)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 9/ 34 "التفسير" رقم (4575).
1 -
(منها)، بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): يُسر الشريعة وسماحتها حيث يسّرت على والي اليتيم أن يأكل من ماله قدر عمالته، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): عناية الشريعة بالضعفاء والمساكين حيث شدّدت في مال اليتيم، وحرّمت التصرّف فيه إلا بما يُصلحه، ويكون عونًا له، وقد بيّن الله عز وجل الوعيد الشديد في ذلك بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أكل والي اليتيم من ماله:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك:
فقيل: يجوز للوصيّ أن يأخذ من مال اليتيم قدر عُمالته، وهو قول عائشة رضي الله عنها كما في حديث الباب، وعكرمة، والحسن، وغيرهم.
وقيل: لا يأكل منه إلا عند الحاجة، ثم اختلفوا، فقال عَبِيدة بن عمرو، وسعيد بن جبير، ومجاهد: إذا أكل، ثم أيسر قضى. وقيل: لا يجب القضاء. وقيل: إن كان ذهبًا، أو فضة لم يَجُز أن يأخذ منه شيئًا، إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة، وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الشعبيّ، وأبو العالية، وغيرهما، أخرج جميع ذلك ابن جرير في "تفسيره"، وقال: هو بوجوب القضاء مطلقًا، وانتصر له. ومذهب الشافعيّ رحمه الله: يأخذ أقل الأمرين، من أجرته، ونفقته، ولا يجب الردّ على الصحيح، وحكى ابن التين عن ربيعة أن المراد بالفقير والغني في هذه الآية اليتيم؛ أي: إن كان غنيًّا فلا يسرف في الإنفاق عليه، وإن كان فقيرًا فليطعمه من ماله بالمعروف، ولا دلالة فيها على الأكل من مال اليتيم أصلًا، قال الحافظ: والمشهور ما تقدم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] أُنزلت في والي اليتيم، فعلى هذا
(1)
"الفتح" 6/ 719، "كتاب الوصايا" رقم (2764).
المراد بها: أولياء الأيتام، وهو قول الجمهور، وقال بعضهم: المراد به اليتيم إن كان غنيًّا وُسِّع عليه، وأُعِفّ من ماله، وإن كان فقيرًا أُنفق عليه بقدره، وهذا في غاية البُعْد؛ لأنَّ اليتيم لا يخاطب بالتصرّف في ماله لصغره، ولسفهه، ولأنه إنما يأكل من ماله بالمعروف على الحالين، فيضيع التنويع والتقسيم المذكور في الآية، وعلى قول الجمهور فالوليّ الغنيّ لا يأخذ من مال يتيمه شيئًا، ولا يستحق على قيامه عليه أجرًا دنيويًّا، بل ثوابًا أخرويًّا، وأما الفقير، فاختُلف فيه، هل يأخذ من مال يتيمه شيئًا؟ أم لا؟ فذهب زيد بن أسلم إلى أنه لا يأخذ منه شيئًا، وإن كان فقيرًا، وحكي ذلك عن ابن عباس بناءً على أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، وقيل: بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
قال القرطبيّ: وهذا لا يصح النسخ فيه لعدم شرطه؛ إذ الجمع ممكن؛ إذ الأخذ الذي أباحه الله تعالى ليس ظلمًا، ولا أكل مال بالباطل، فلم تتناوله الآيتان، وهذا هو القول بالموجَب.
وذهب جمهور المجوّزين إلى إباحة الأخذ، لكنهم اختلفوا في القدر المأخوذ، وفي قضاء المأخوذ، وفي وجه الأخذ، فروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن أكلت قضيت، وبه قال عَبيدة السَّلْمانيّ، وأبو العالية، وهو أحد قولي ابن عباس، وعكرمة، وقال من عدا هؤلاء: إن له الأخذ، ولا قضاء عليه، لكنهم اختلفوا في وجه الأخذ، فذهب عطاء إلى أنه يأخذ بقدر الحاجة، وقال الضحاك: يضارب بماله، ويأكل من ربحه، وقال الحسن: يسدّ الْجَوْعة، ويستر العورة، وقال الشعبيّ: يأكل من التمر واللبن، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: يأكل، ويشرب، ويركب الظهر غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب، قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: وعليه مذهب مالك.
قال القرطبيّ: والصحيح من هذه الأقوال -إن شاء الله- أن مال اليتيم إن كان كثيرًا يحتاج إلى كثير قيام عليه، بحيث يشغل الولي عن حاجاته، ومهماته، فُرض له فيه أجرة عمله، وإن كان قليلًا مما لا يشغله عن حاجاته،
فلا يأكل منه شيئًا، غير أنه يسمح
(1)
له شرب قليل اللبن، وأكل القليل من الطعام والتمر، غير مضرّ به، ولا مستكثر له، بل ما جرت به العادة بالمسامحة فيه.
قال: وما ذكرته من الأجرة، ونيل القليل من التمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله هو الصحيح عندي؛ لأن ظاهر الآية يدلّ عليه لمن تأمله بالإمعان.
وخلاصة المسألة أن والي اليتيم إن كان مستغنيًّا عن ماله لا يأخذ شيئًا، وإن كان محتاجًا أخذ من ماله قدر عُمالته، ولا قضاء عليه، وكذا إن كان مال اليتيم يكلفه، ويشغله عن حوائجه يأخذ أجرته، وكذا يُسمح له أكل القليل الذي جرت به العادة، كاللبن، وقليل التمر، ونحو ذلك مما جرت به عادة الناس بالتسامح فيه فيما بينهم؛ لأنه معروف، والآية قالت:{بِالْمَعْرُوفِ} ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7495]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ، أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ، إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل حديث.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، ولله الحمد والمنّة.
(1)
وقع في النسخة: "يستحبّ له"، فأصلحته مستدلًّا بآخر كلامه، فتفطّن.
(2)
"المفهم" 7/ 331 - 332.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7496]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية ابن نمير عن هشام هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1160)
- قال يحيى
(1)
: وقال ابن نمير عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله تعالى:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قالت: أُنزلت في ولي اليتيم، يتناول من ماله بقدر قيامه. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7497]
(3020) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] قَالَتْ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ).
هذا الإسناد تقدّم قبل حديثين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فِي) بيان (قَوْلِهِ عز وجل: ({إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ}) أي الأحزاب، ({وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}) بنو قريظة، ({وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ})؛ أي: من شدة الخوف والفزع. (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (كَانَ ذَلِكَ)؛ أي: المذكور من مجيئهم من فوقهم إلى آخره، (يَوْمَ الْخَنْدَقِ)؛ أي:
(1)
هذا مسند، وليس معلّقًا، لأنه في الحديث الذي قبله قال: أخبرنا يحيى بن آدم إلى آخره.
(2)
"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 583.
يوم حُفر الخندق لأجل الدفاع عن المسلمين، وقد تقدّم ذكر غزوة الخندق في "كتاب الجهاد" مستوفًى.
فقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ} بدل من {إِذْ جَاءَتْكُمْ} في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} الآية، وقوله:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} معطوف على {جَاءُوكُمْ} .
وقال الإمام ابن كثير في "تفسيره": قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} ؛ أي: الأحزاب، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}؛ أي: من شدة الخوف، والفزع، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] قال ابن جرير: ظنّ بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ظن المؤمنون كل ظنّ، ونجم النفاق، حتي قال مُعَتِّب بن قُشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى، وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط.
وقال الحسن في قوله عز وجل: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} : ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حقّ، وأنه سيظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} كان ذلك في غزوة الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة برأي سلمان رضي الله عنه، وتسمى غزوة الأحزاب، لأنَّ الكفار تحزبوا أحزابًا، وتجمّعوا جموعًا حتى اجتمع في عددهم خمسة عشر ألفًا من أهل نجد، وتهامة، ومن حولهم، وحاصروا المسلمين في المدينة شهرًا، ولم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبل، والحصى، ونقضت قريظة ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وحينئذ جاء المسلمين عدوّهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار؛ يعني: مالت عن سنن القصد فعلَ المرعوب، وقال قتادة: شخصت، وبلغت
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 473.
القلوب الحناجر، أي: قاربت الخروج من الضيق، والرَّوع، وشدّة البلاء، والْجَهْد، وكان وقتَ بلاء وتمحيص، ولذلك نجم في كثير من الناس النفاق، وظهر منهم الشقاق.
وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ؛ أي: تشكّون في الوعد بالنصر، يُخبر عن المنافقين، أو يكون معناه: أنهم خافوا من أن يُخذلوا في ذلك الوقت، فإنَّ وقت وقوع النصر الموعود غير معيّن، قال: وهذا أحسن من الأول، ويؤيّده قوله تعالى:{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11]: امتُحنوا بالصبر على الحصار وشدّة الجوع، وزلزلوا بالخوف من أن يخذلهم الله في ذلك الوقت، ويُديل عدوّهم عليهم، كما فعل يوم أحد، وقد تقدَّم الخلاف في غزوة الخندق متى كانت. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "عن عائشة رضي الله عنها: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} قالت: كان ذلك يوم الخندق". هكذا وقع مختصرًا، وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: عيينة بن حِصْن، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}: أبو سفيان بن حرب، وبَيَّن ابن إسحاق في "المغازي" صفة نزولهم، قال: نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بني كنانة، وتهامة، ونزل عيينة في غطفان، ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أُحُد بباب نعمان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف، والخندق بينه وبين القوم، وجُعل النساء والذراري في الآطام، قال: وتوجه حُييّ بن أخطب إلى بني قريظة، فلم يزل بهم حتى غَدروا، وبلغ المسلمين غدرهم، فاشتد بهم البلاء، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن ومن معه ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا، فمنعه من ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وقالا: كنا نحن وَهُمْ على الشرك، لا يطمعون منا في شيء من ذلك، فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا، ما لنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف، فاشتدّ بالمسلمين
(1)
"المفهم" 7/ 388 - 389.
الحصار، حتى تكلم مُعَتِّب بن قُشير، وأوس بن قَيْظِيّ، وغيرهما من المنافقين بالنفاق، وأنزل الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} [الأحزاب: 12] الآيات، قال: وكان الذين جاءوهم من فوقهم: بنو قريظة، ومن أسفل منهم: قريش، وغطفان.
قال ابن إسحاق في روايته: ولم يقع بينهم حرب إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبد ودّ العامريّ اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيّقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه عليّ، فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ، فبارزه الزبير، فقتله، ويقال: قتله عليّ، ورجعت بقية الخيول منهزمة.
وروى البيهقيّ في "الدلائل" من طريق زيد بن أسلم أن رجلًا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندركه، فقال: يا ابن أخي والله لا تدري لو أدركته كيف تكون، لقد رأيتنا ليلة الخندق، في ليلة باردة مطيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يذهب، فيعلم لنا عِلم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ " فوالله ما قام أحد، فقال لنا الثانية:"جعله الله رفيقي"، فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، فقال:"اذهب"، فقلت: أخشى أن أؤسر، قال:"إنك لن تؤسر". فذكر أنه انطلق، وأنهم تجادلوا، وبعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته.
ومن طريق عمرو بن سَرِيع بن حذيفة نحوه، وفيه أن علقمة بن غلاثة صار يقول: يا آل عامر إن الريح قاتلتي، وتحملت قريش، وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم.
وروى الحاكم من طريق عبد العزيز ابن أخي حذيفة، عن حذيفة، قال: "لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشدّ ظلمةً، ولا ريحًا منها، فجعل المنافقون يستأذنون، ويقولون:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]، فمرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا جاثٍ على ركبتيّ، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة، فقال: اذهب، فأتني بخبر القوم، قال: فدعا لي، فأذهب الله عني القرّ، والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه لا تجاوزه شبرًا، فلما رجعت رأيت فوارس في
طريقي، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله عز وجل كفاه القوم"، وأصل هذا الحديث عند مسلم باختصار. انتهى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7497](3020)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4103)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 376)، و (ابن أبي داود) في "مسند عائشة"(1/ 71)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 429)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): بيان ما ابتلى الله به المسلمين من الخوف، والمشقّة، والجوع، وما زادهم كلّ هذا إلا صبرًا، وثباتًا، ويقينًا، كما قال عز وجل:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب: 22].
3 -
(ومنها): بيان ما انطوى عليه قلوب المنافقين من بغضهم للإسلام وأهله، ومحبتهم ظهور الكفر وأهله، وبثّهم الرعب والخوف في قلوب المسلمين، كما أبان الله تعالى عَوَارَهم، وفَضَحهم، حيث قال:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)} [الأحزاب: 12 - 14].
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7498]
(3021) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
(1)
"الفتح" 9/ 194 - 195.
إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الآيَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا، فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا، فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنِّي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ).
هذا الإسناد هو المذكور قبل ثلاثة أحاديث.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها قالت في قوله عز وجل:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآيَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي الْمَرْأَةِ)؛ أي: في شأن المرأة التي (تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا) له (فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا) لعدم رغبته فيها، (فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي)، وقوله:(وَأَمْسِكْنِي) عطف تفسير لِمَا قبله، (وَأَنْتَ فِي حِلٍّ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام، (مِنِّي)؛ تعني: أني أذنت لك أن تتزوج عليّ من تشاء، (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ) وفي الرواية التالية:"قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا، وَتَكُونُ لَهَا صُحْبَةٌ، وَوَلَدٌ، فَتَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي".
قال في "العمدة": قوله: {نُشُوزًا} النشوز أصله الارتفاع، فإذا أساء عِشرتها، ومنعها نفسه، والنفقة فهو نشوز، وقال ابن فارس: نَشَزَ بعلها: إذا جفاها، وضربها، وقال الزمخشريّ: النشوز أن يتجافى عنها، بأن يمنعها الرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسبّ، أو ضرب، والإعراض أن يُعرض عنها بأن يُقِلّ محادثتها، ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب، من طعن في سنّ، أو دَمَامة، أو شيء في خَلْق، أو خُلُق، أو مَلال، أو نحو ذلك.
وقوله: {أَنْ يَصَّالَحَا} أصله أن يتصالحا، فأُبدلت التاء صادًا، وأُدغمت الصاد في الصاد، فصار يَصّالحا، وقُرئ:{أَنْ يَصَّلِحَا} ؛ أي: أن يصطلحا، وأصله يصتلحا، فأُبدلت التاء صادًا، وأُدغمت في الأخرى، وقرئ:{أَنْ يُصْلِحَا} .
وقوله: {صُلْحًا} [النساء: 128] في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة، وقوله:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؛ أي: من الفرقة، أو من النشوز والإعراض، وسوء العشرة، قال الزمخشريّ: هذه الجملة اعتراض، وكذلك
قوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشحّ جُعل حاضرًا لها، لا يغيب عنها أبدًا، ولا تنفك عنه؛ يعني: أنها مطبوعة عليه، والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها، والرجل لا يكاد نفسه تسمح بأن يَقسم لها، وأن يمسكها إذا رغب عنها، وأحبَّ غيرها. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: وإن امرأة خافت من بعلها يقول: عَلِمت من زوجها نشوزًا؛ يعني: استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أَثَرَةً عليها، وارتفاعًا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنّها وكِبَرها، أو غير ذلك من أمورها، أو إعراضًا؛ يعني: انصرافًا عنها بوجهه، أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا يقول: فلا حرج عليهما؛ يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها، أو إعراضه عنها، أن يصلحا بينهما صلحًا، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح، يقول: والصلح خير؛ يعني: والصلح بترك بعض الحقّ؛ استدامةً للحرمة، وتماسكًا بعقد النكاح خير من طلب الفُرقة، والطلاق. انتهى
(2)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا ومشرّعًا من حال الزوجين، تارةً في حال نفور الرجل عن المرأة وتارةً في حال اتّفاقه معها، وتارةً في حال فراقه لها، فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يُعرض عنها، فلها أن تُسقط عنه حقها، أو بعضه، من نفقة، أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} ، ثم قال:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ؛ أي: من الفراق، وقوله:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ؛ أي: الصلح عند المشاحّة خير من الفراق، ولهذا لما كَبِرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على
(1)
"عمدة القاري" 13/ 271.
(2)
"تفسير الطبريّ" 5/ 305 - 306.
أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك، قال أبو داود الطيالسيّ: حدّثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خَشِيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، واجْعَلْ يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، ورواه الترمذيّ عن محمد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسيّ به، وقال: حسن غريب
(1)
.
وقال في "الفتح": وعن عليّ: "نزلت في المرأة تكون عند الرجل تكره مفارقته، فيصطلحان على أن يجيئها كل ثلاثة أيام، أو أربعة"، وروى الحاكم من طريق ابن المسيِّب، عن رافع بن خديج، "أنه كانت تحته امرأة، فتزوج عليها شابةً، فآثر البكر عليها، فنازعته، فطلقها، ثم قال لها: إن شئت راجعتك، وصبرت، فقالت: راجِعني، فراجعها، ثم لم تصبر، فطلقها"، قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه هذه الآية.
وروى الترمذيّ من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، واجْعَلْ يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية، وقال: حسن غريب، قال الحافظ: وله شاهد في "الصحيحين" من حديث عائشة بدون ذكر نزول الآية. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7498 و 7499](3021)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2450) و"الصلح"(2694) و"التفسير"(4601) و"النكاح"(5206)، و (أبو داود) في "النكاح"(2135)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 329)،
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 562 - 563.
(2)
"الفتح" 10/ 75.
و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 374)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 501)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 134)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 296)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): رأفة الله سبحانه وتعالى بعباده حيث أباح لهم الصلح مع المرأة فيما إذا كان الزوج لا رغبة له فيها، ويريد مفارقتها، فأمره أن يقبل الصلح منها بترك حقّها، وعدم مطالبتها به، وتَرْكه في نكاح غيرها ممن يرغب فيها، وتكون هي في عصمته فقط، وهذا فضل من الله عز وجل على الرجال، وعلى النساء أيضًا، فإنها لو طلقها هذا الزوج تضيع، ويتشتت أمرها، فكونها في عصمته عصمة لها، وصون عن الابتذال، والامتهان، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7499]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا، وَتَكُونُ لَهَا صُحْبَةٌ، وَوَلَدٌ، فَتَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي).
هذا الإسناد هو المذكور قبل ثلاثة أحاديث.
وقوله: (فَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا)؛ أي: في المحبّة، والمعاشرة، والملازمة.
وقوله: (أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي)؛ أي: وتتركني من غير طلاق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7500]
(3022) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَبُّوهُمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ الإمام [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، من كبار [9]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير؛ أنه (قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ) رضي الله عنها (يَا ابْنَ أُخْتِي) هي أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنها، (أُمِرُوا)؛ أي: الذين جاؤوا بعد أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]، (فَسَبُّوهُمْ)؛ أي: لعنوهم، وعابوهم مخالفين لأمر الله تعالى.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها: "أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسبّوهم" أشارت عائشة رضي الله عنها إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، فسبّوهم، تريد عائشة بهذا: أن التابعين حقّهم الواجب عليهم أن يحبّوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعظّموهم، ويستغفروا لهم، وكذلك كل من يجيء بعد التابعين إلى يوم القيامة، ويحرم عليهم أن يسبّوهم، أو يسبّوا أحدًا منهم، كما قد صرح بذلك بعض بني أمية، وإياهم عَنَتْ بقولها، ولقد أحسن مالك رحمه الله في فهم هذه الآية، فقال: من سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حقّ له في الفيء، واستدلّ بالآية، ووجهه أنه رأى هذه الآية معطوفة على قوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]، وأن هذه الآية معطوفة على قوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8]، فظهر له أن المهاجرين والأنصار استحقّوا الفيء بأنهم مهاجرون، وأنصار، من غير قيد زائد على ذلك، وأن من جاء بعدهم قُيّدوا بقيد:{يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، فإن لم يوجد هذا القيد لم يجز الإعطاء؛ لعدم تمام
الموجِب، وقد فَهِم عمر رضي الله عنه أن قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعمّ كل من يأتي إلى يوم القيامة، وأنها معطوفة على ما قبلها، فوقف الأرض المغنومة المفتتحة في زمانه على من يأتي بعد إلى يوم القيامة، وخصص بهذه الآية الأرض من جملة الغنيمة التي قال الله فيها:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وقد تقدَّم الكلام على هذا في "الجهاد". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباريّ في "المصاحف"، وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسبّوهم، ثم قرأت هذه الآية:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر، أنه سمع رجلًا، وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، فمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا، ليس من هؤلاء من يسبّ هؤلاء.
وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عمر، أنه بلغه أن رجلًا نال من عثمان، فدعاه، فأقعده بين يديه، فقرأ عليه:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قرأ:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم، قال: لا، والله ما يكون منهم من يتناولهم، وكان في قَلْبه الغلّ عليهم
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7500 و 7501](3022)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 462)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 7/ 407 - 408.
(2)
راجع: "الدر المنثور" 8/ 113.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب الاستغفار للصحابة رضي الله عنهم؛ لظاهر الآية المذكورة.
2 -
(ومنها): بيان تحريم سبّ الصحابة رضي الله عنهم؛ لمفهوم الآية المذكورة.
3 -
(ومنها): أن الواجب على المسلم أن يستغفر للسلف الصالح، ولا سيما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعرّض لهم بسوء؛ فإنه ينافي ما حثّت عليها الآية الكريمة.
4 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: الظاهر أن عائشة رضي الله عنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في عليّ ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا، وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه، فهو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، وبهذا احتج مالك في أنه لا حقّ في الفيء لمن سبّ الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم، ممن يستغفر لهم، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7501]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
هذا الإسناد تقدّم في الباب.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن هشام هذه ساقها الحاكم رحمه الله في "المستدرك" مقرونًا بوكيع، فقال:
(3719)
- حدّثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأ موسى بن إسحاق القاضي، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو أسامة، ووكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]"قالت: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُمروا بالاستغفار لهم، فسبّوهم".
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 18/ 158 - 159.
قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولم يخرجاه" هذا من غفلة الحاكم رحمه الله فقد أخرجه مسلم هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7502]
(3023) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فَيِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ آخِرَ مَا أُنْزِلَ، ثُمَّ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير [7]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) النخعيّ الكوفيّ [6]، تقدم في "الجنة وصفة نعيمها" 15/ 7173.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير المغيرة، وسعيد، فكوفيّان، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما بحر الأمة، وحبرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
(1)
"المستدرك على الصحيحين" 2/ 501.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ)؛ أنه (قَالَ: اخْتَلَفَ) بالبناء للفاعل، وفاعله قوله:(أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ)؛ أي: في المراد بها، ({وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فَرَحَلْتُ)؛ أي: ذهبت، وسافرت (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما لأسأله عن معنى الآية.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فرحلت إلى ابن عباس" هو بالراء، والحاء المهملة، هذا هو الصحيح المشهور في الروايات، وفي نسخة ابن ماهان:"فدخلت" بالدال، والخاء المعجمة، ويمكن تصحيحه بأن يكون معناه: دخلت بعد رحلتي إليه. انتهى
(1)
.
(فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا) وفي رواية النسائيّ: "أن ابن عبّاس سئل عمن قَتَل مؤمنًا متعمّدًا، ثم تاب، وآمن، وعمِل صالحًا، ثم اهتدى؟، فقال ابن عبّاس: وأنّى له التوبة؟ ". (فَقَالَ) ابن عبّاس جوابًا عن سؤال سعيد: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ) بالبناء للمفعول، (آخِرَ مَا أُنْزِلَ) بنصب "آخر" على الظرفيّة، (ثُمَّ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ)؛ أي: لم ينزل بعدها شيء من النصّ الذي ينسخها، وفي رواية النسائيّ:"قال: والله لقد أنزلها الله، ثم ما نسخها".
يعني: أنه بعدما أُنزلت لم يُنزل الله تعالى ما ينسخ ما تضمّنته، فهي مُحْكَمة، غير منسوخة، فهي تدلّ على أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا، هذا تقرير رأي ابن عبّاس رضي الله عنهما في هذه المسألة، وقد خالفه فيها جمهور السلف والخلف، فقالوا: إن له توبة، وإنه تحت المشيئة، وهو الحقّ، وقد تقدّم تحقيق القول في ذلك في "كتاب الإيمان" برقم [57/ 329](122)، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الإيمان" بالرقم المذكور، وتقدّم تخرجه هناك.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 159.
(المسألة الثانية): اختلفت الروايات عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في مسألة توبة قاتل المؤمن.
قال في "الفتح" بعد ذكر اختلاف الروايات عنه، ما نصّه: وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس رضي الله عنهما كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد، فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفًا، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خُصّ منها مباشرة المؤمن القاتل متعمدًا، وكثير من السلف يُطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أَولى من حَمْل كلامه على التناقض، وأَولى من دعوى أنه قال بالنسخ، ثم رجع عنه، وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنًا متعمدًا: لا توبة له مشهور عنه، وقد جاء عنه في ذلك ما هو أصرح مما تقدم، فروى أحمد، والطبريّ من طريق يحيى الجابر، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق عمار الدُّهنيّ كلاهما عن سالم بن أبي الجعد، "قال: كنت عند ابن عباس بعدما كُفّ بصره، فأتاه رجل، فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ قال: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، وساق الآية إلى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} ، قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أفرأيت إن تاب، وآمن، وعَمِل عملًا صالحًا، ثم اهتدى؟ قال: وأَنَّى له التوبة والهدى؟ " لفظ يحيى الجابر، والآخر نحوه، وجاء على وفق ما ذهب إليه ابن عباس في ذلك أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه أحمد، والنسائيّ من طريق أبي إدريس الخولانيّ، عن معاوية:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرًا، والرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
وقد حَمَل جمهور السلف، وجميع أهل السُّنَّة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره، وقالوا: معنى قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ؛ أي: إن شاء الله أن يجازيه؛ تمسكًا بقوله تعالى في "سورة النساء" أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].
ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيليّ الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم أتى تمام المائة، فقال له: لا توبة فقتله، فأكمل به مائة، ثم جاء آخر، فقال:
"ومن يحول بينك وبين التوبة. . ." الحديث، وهو مشهور، وإذا ثبت ذلك لمن قبلُ من غير هذه الأمة، فمثله لهم أَولى؛ لِمَا خَفّف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن لقاتل المؤمن توبةً هو الأرجح عندي؛ لوضوح أدلّته، وقد مضى تمام البحث في هذا في "كتاب الإيمان" بالرقم المتقدّم، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7503]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، فِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ: نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ، وَفِي حَدِيثِ النَّضْرِ: إِنَّهَا لَمِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَتْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر البصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ [10]، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(النَّضْرُ) بن شُميل أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، من كبار [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: روايتا محمد بن جعفر، والنضر بن شُميل كلاهما عن شعبة لم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 10/ 456 - 457.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7504]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى، أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَعَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر الكوفيّ [6]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زاي، منصور الخزاعيّ مولاهم صحابيّ صغير، وكان في عهد عمر رضي الله عنه رجلًا، وكان على خُراسان لعليّ رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 27/ 826.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7505]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ -يَعْنِي: شَيْبَانَ- عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَكَّةَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إِلَى قَوْلِهِ: {مُهَانًا}، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَمَا يُغْنِي عَنَّا الإِسْلَامُ، وَقَدْ عَدَلْنَا بِاللهِ، وَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلَامِ، وَعَقَلَهُ، ثُمَّ قَتَلَ، فَلَا تَوْبَةَ لَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان، أبو موسى الحمّال البغدادي [10]، تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ) مولاهم البغداديّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ شَيْبَانَ) بن عبد الرحمن النحويّ البصريّ، نزيل الكوفة [7]، تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَقَدْ عَدَلْنَا بِاللهِ)؛ أي: أشركنا به، وجعلنا له مَثَلًا
(1)
.
وقوله: (وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ)؛ أي: زنينا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7506]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَتَلَوْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء: 93]. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هَاشِمٍ: فَتَلَوْتُ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) العبديّ، أبو عبد الرحمن الطوسيّ، سكن نيسابور، من صغار [10]، تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، من صغار [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 9.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) الإمام الناقد البصريّ [9]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 385.
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 191.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ) بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي المكيّ مولى بني مخزوم القارئ [5]، تقدم في "الأضاحي" 8/ 5118.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قَالَ: لَا)؛ أي: لا توبة له، قال في "العمدة": حاصل الكلام أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن قاتل النفس عمدًا بغير حقّ لا توبة له، واحتَجّ في ذلك بقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} . ادَّعَى أن هذه الآية مدنية نَسخت هذه الآية المكية، وهي:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الآية، هذا هو المشهور عن ابن عباس.
ورُوي عنه أن له توبةً، وجواز المغفرة له؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]، وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السُّنَّة، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، قال النوويّ: وما رُوي عن بعض السلف مما يخالف هذا فمحمول على التغليظ والتحذير من القتل، وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس تصريح بأنه يخلَّد، وإنما فيها أنه جزاؤه، ولا يلزم منه أن يجازى. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7507]
(3024) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ -وَقَالَ هَارُونُ: تَدْرِي- آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ؟ نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}، قَالَ: صَدَقْتَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: تَعْلَمُ أَيُّ سُورَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ: آخِرَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ) المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ [9]، تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
2 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ [7]، تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
3 -
(عَبْدُ المَجِيدِ بْنُ سُهَيْلِ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ [6]، تقدم في "البيوع" 39/ 4074.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
[تنبيه]: قوله: (عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "عبد المجيد" بالميم، ثم الجيم، إلا نسخة ابن ماهان، ففيها:"عبد الحميد" بحاء، ثم ميم، قال أبو عليّ الغسانيّ: الصواب الأول، قال القاضي: قد اختلفوا في اسمه، فذكره مالك في "الموطأ" من رواية يحيى بن يحيى الأندلسيّ، وغيره، فسمّاه عبد الحميد بالحاء، ثم بالميم، وكذا قاله سفيان بن عيينة، وسمّاه البخاريّ: عبد المجيد، بالميم، ثم بالجيم، وكذا رواه ابن القاسم، والقعنبيّ، وجماعة في "الموطأ" عن مالك، وقال ابن عبد البرّ: يقال بالوجهين، قال: والأكثر بالميم، ثم بالجيم، قال القاضي: فإذا ثبت الخلاف فيه لم يُحكم على أحد الوجهين بالخطأ. انتهى
(1)
.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ)؛ أنه (قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (تَعْلَمُ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أتعلم؟ (وَقَالَ هَارُونُ) بن عبد الله الحمال شيخه الثاني في روايته: (تَدْرِي) بدل قول ابن ابي شيبة، وعبد بن حميد:"تعلم"، والمعنى واحد. (آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ؟ نَزَلَتْ جَمِيعًا)؛ أي: نزلت كلّها مرّة واحدة، قال عبيد الله:(قُلْتُ: نَعَمْ) ثم فسّرها بقوله: ({إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}) إلى آخر السورة. (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما: (صَدَقْتَ)؛ أي: إنها آخر سورة نزلت جميعًا.
قال القرطبيّ رحمه الله: {نَصْرُ اللَّهِ} : عونه على إظهار نبيّه صلى الله عليه وسلم على قريش،
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 160 - 162.
وغيرهم، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]: فتح مكة، كما فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديت عائشة رضي الله عنها، ولا يُلتفت لِمَا قيل في ذلك مما يخالفه. و"الأفواج": الزُّمَرُ، يعني: زمرةً بعد زمرة، وهذا كان بعد فتح مكة، فإنَّ أهل مكة كانوا عظماء العرب، وقادتهم، ومكة بيت الله تعالى، فتوقفت العرب في إسلامها على أهل مكة، ينظرون ما يفعلون، فلما فتح الله تعالى مكة على نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأسلم أهلها، أصفقت العرب على الدخول في الإسلام، وهَجَرت الأوثان، وعطّلت الأزلام، وحصل التّمام، وكمل الإنعام، فوجب الشكر لهذا المنعم الكريم، واستغفار هذا المولى الرحيم، لا سيما، وقد أفصح خطابًا:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3]؛ أي: قل يا محمد: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، وأتوب إليه، فكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قول ذلك شكرًا لله تعالى، وامتثالًا لِمَا أمر به هنالك، وقد تقدَّم أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، فَهِما من هذه السورة أن الله تعالى نَعَى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، وكذلك فهمه أبو بكر رضي الله عنه، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: نزلت هذه السورة بمنى في حجَّة الوداع، ثم نزلت:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فعاش بعدها النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانين يومًا، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية [التوبة: 128]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة: 281]، فعاش بعدها إحدى وعشرين يومًا. وقال مقاتل: سبعة أيام.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} على النادمين، وإن كثروا، ومَحّاءً ذنوبَ الخطائين إذا استغفروا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ في "الفتح": ولأبي يعلى من حديث ابن عمر: "نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع".
قال: وسئلت عن قول الكشاف: إن "سورة النصر" نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صُدِّرت بـ"إذا" الدالة على الاستقبال؟.
(1)
"المفهم" 7/ 436 - 437.
فأجبت بضعف ما نقله، وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يكتمل بالفتح؛ لأن مجيء الناس أفواجًا لم يكن كَمُل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبيّ السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن "إذا" قد تَرِد بمعنى "إذ"، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية [الجمعة: 11].
ثانيهما: أن كلام الله قديم، قال الحافظ: وفي كلِّ من الجوابين نَظَر لا يخفى. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: فإن قلت: ما وجه التوفيق بين حديث عبد الله بن عباس هذا، وبين ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب قال:"آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وآخر سورة نزلت براءة"؟.
[قلت]: أجاب البيهقيّ رحمه الله عن هذا بأنه يُجمع بين هذه الاختلافات بأن كل واحد أجاب بما عنده.
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله في "الانتصار": هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد، وغلبة الظنّ
(2)
.
(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: تَعْلَمُ أَيُّ سُورَةٍ) بدل قول الشيخين الآخرين: "تعلم آخر"، أو "تدري آخر سورة"، وقوله:(وَلَمْ يَقُلْ)؛ أي: ابن أبي شيبة (آخِرَ)؛ أي: أسقط لفظة "آخر"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7507 و 7508](3024)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 525)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7508]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
(1)
"الفتح" 8/ 736.
(2)
راجع: "تحفة الأحوذي" 8/ 346.
أَبُو عُمَيْسٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: آخِرَ سُورَةٍ، وَقَالَ: عَبْدُ الْمَجِيدِ، وَلَمْ يَقُلِ: ابْنِ سُهَيْلٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم ذُكروا في الباب، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن أبي عُميس هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
[7509]
(3025) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رَجُلًا فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ، فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّلَامَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الهلالي مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ [8] تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 383.
2 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ [4]، تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
3 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم المكيّ [3]، تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرٍو) وفي رواية ابن أبي عمر، عن سفيان:"حدّثنا عمرو بن دينار"، كذا أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه" من طريقه، (عَنْ عَطَاء) بن أبي رباح (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَقِيَ نَاسٌ) لم يُسمّوا، (مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا) قيل: هو مِرداس بن نَهيك، وقيل: عامر بن الأضبط الأشجعيّ، وسيأتي
تمام البحث فيه. (فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ) بالتصغير، وفي رواية سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد، والترمذيّ، وحسنه، والحاكم، وصححه:"مَرّ رجل من بني سُليم، بنفر من الصحابة، وهو يسوق غنمًا له، فسلّم عليهم"، (فَقَالَ) الرجل:(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ)؛ أي: أخذوا الرجل المسلّم عليهم، (فَقَتَلُوهُ) زاد في رواية سماك:"وقالوا: ما سَلَّم علينا إلا ليتعوذ منا"، (وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ) التي كانت لذلك الرجل (فَنَزَلَتْ)؛ يعني: الآية، وهي قوله تعالى:({وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}) وفي رواية سماك: "وأتوا بغنمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت"، وروى البزار من طريق حَبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قصة أخرى، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً، فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم، قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف لك بلا إله إلا الله غدًا؟ وأنزل الله هذه الآية".
قال الحافظ رحمه الله: هذه القصة يمكن الجمع بينها وبين التي قبلها، ويستفاد منها تسمية القاتل، وأما المقتول فروى الثعلبيّ من طريق الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه، واللفظ للكلبيّ أن اسم المقتول: مِرداس بن نَهيك، من أهل فَدَك، وأن اسم القاتل: أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السرية: غالب بن فَضَالة الليثيّ، وأن قوم مِرداس لمّا انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلمّا لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلمّا رجعوا نزلت الآية، وكذا أخرج الطبريّ من طريق السُّدّي نحوه، وفي آخر رواية قتادة:"لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون".
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق ابن لَهِيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"أُنزلت هذه الآية: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} في مرداس"، وهذا شاهد حسن.
وورد في سبب نزولها عن غير ابن عباس شيء آخر، فروى ابن إسحاق في "المغازي"، وأخرجه أحمد من طريقه، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ، قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة، ومُحَلِّم بن
جَثَّامة، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعيّ، فسلّم علينا، فحمل عليه مُحَلِّم، فقتله، فلما قَدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه الخبر، نزل القرآن، فذكر هذه الآية".
وأخرجها ابن إسحاق من طريق ابن عمر أتمّ سياقًا من هذا، وزاد أنه كان بين عامر ومحلم عداوة في الجاهلية، وهذه عندي قصة أخرى، ولا مانع أن تنزل الآية في الأمرين معًا
(1)
.
قال عطاء: (وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّلَامَ) وهي قراءة الأكثرين.
قال في "الفتح": قوله في آخر الحديث: "قال: قرأ ابن عباس: السلام" هو مقول عطاء، وهو موصول بالإسناد المذكور، قال: والسَّلَم، والسلام، والسِّلْم واحد، يعني: أن الأول بفتحتين، والثالث بكسر، ثم سكون، فالأول قراءة نافع، وابن عامر، وحمزة، والثاني قراءة الباقين، والثالث قراءة رُويت عن عاصم بن أبي النَّجُود، ورُوي عن عاصم الْجَحْدريّ بفتح، ثم سكون، فأما الثاني فمن التحية، وأما ما عداه فمن الانقياد. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] قال: هذه قراءة ابن عباس، وجماعة من القراء، {السَّلَام} بألف، يعنون به التحية، وقرأه جماعة آخرون:{السَّلَمَ} بغير ألف، يعنون بذلك: الصلح، والقراءتان في السبع، وقرأ ابن وثّاب:"السِّلْم" -بكسر السين، وسكون اللام-، وهي لغة في السَّلْم، الذي هو الصلح.
وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94]؛ أي: تريدون المال، وما يَعْرِض من الأعراض الدنيوية.
وقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94]؛ أي: إن اتقيتم الله، وكففتم عما ينهاكم عنه سلّمكم، وغنّمكم.
وقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 94]؛ أي: قبل الهجرة حين كنتم تُخفون الشهادة، وقيل: من قبل أن تعرفوا الشهادة.
وقوله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]؛ أي: بالإسلام، وبإعزازكم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
"الفتح" 10/ 62 - 63، "كتاب التفسير" رقم (4591).
(2)
"الفتح" 10/ 62 - 63، "كتاب التفسير" رقم (4591).
وقوله: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] من البيان، و"تثبّتوا": من التثبّت، والقراءتان في السبع، وتفيدان وجوب التوقف، والتبيّن عند إرادة الأفعال، إلى أن يتّضح الحقّ، ويرتفع الإشكال. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7509]، (3025)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4591)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3030)، و (أبو داود) في "الحروف والقراءات"(3974)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 326)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 557)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 229 و 272 و 324)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 115)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ذمّ الحرص على الدنيا؛ لأن هؤلاء لم يقتلوا هذا الرجل إلا ليأخذوا غنيمته، ولذلك قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء: 94].
2 -
(ومنها): أن في الآية الكريمة دليلًا على أن من أظهر شيئًا من علامات الإسلام لم يحلّ دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة.
3 -
(ومنها): أنه على قراءة "السَّلَمَ" على اختلاف ضبطه، فالمراد به: الانقياد، وهو علامة الإسلام، لأن معنى الإسلام في اللغة: الانقياد.
قال الحافظ رحمه الله: ولا يلزم من هذا الحكمُ بإسلام من اقتصر على ذلك، وإجراء أحكام المسلمين عليه، بل لا بدّ من التلفظ بالشهادتين على تفاصيل في ذلك بين أهل الكتاب وغيرهم، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"المفهم" 7/ 337 - 338.
(2)
"الفتح" 10/ 63.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7510]
(3026) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَال: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا، فَرَجَعُوا لَمْ يَدْخُلُوا الْبُيُوتَ إِلَّا مِنْ ظُهُورِهَا، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ بَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
2 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ) هذا ظاهر في اختصاص ذلك بالأنصار، لكن في حديث جابر رضي الله عنه أن سائر العرب كانوا كذلك، إلا قريشًا، ورواه عبد بن حميد من مرسل قتادة، كما قال البراء، وكذلك أخرجه الطبريّ من مرسل الربيع بن أنس نحوه. (إِذَا حَجُّوا) وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عند البخاريّ بلفظ:"إذا أحرموا في الجاهلية". (فَرَجَعُوا) إلى بلدانهم (لَمْ يَدْخُلُوا الْبُيُوتَ إِلَّا مِنْ ظُهُورِهَا)؛ أي: نقبوا البيت من قِبَل ظهره، فدخلوا فيه. (قَالَ) البراء:(فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) هو قُطْبة -بضم القاف، وإسكان الطاء المهملة، بعدها موحّدة- ابن عامر بن حَدِيدة -بمهملات، وزن كبيرة- الأنصاريّ الخزرجيّ السَّلَميّ، كما أخرجه ابن خزيمة، والحاكم في "صحيحيهما" من طريق عمار بن رُزيق
(1)
(1)
بتقديم الراء مصغّرًا.
عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال:"كانت قريش تُدْعَى الْحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار، وسائر العرب، لا يدخلون من الأبواب، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان، فخرج من بابه، فخرج معه قُطبة بن عامر الأنصاريّ، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة رجل فاجر، فإنه خرج معك من الباب، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: رأيتك فعلته، ففعلت كما فعلت، قال: إني أحمسيّ، قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية"، وهذا الإسناد وإن كان على شرط مسلم، لكن اختُلف في وصله على الأعمش، عن أبي سفيان، فرواه عبد بن حميد عنه، فلم يذكر جابرًا، أخرجه بَقِيّ، وأبو الشيخ في "تفسيرهما" من طريقه، وكذا سماه الكلبيّ في "تفسيره" عن أبي صالح، عن ابن عباس، وكذا ذكر مقاتل بن سليمان في "تفسيره".
وجزم البغويّ وغيره من المفسرين بأن هذا الرجل يقال له: رفاعة بن تابوت، واعتمدوا في ذلك على ما أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير من طريق داود بن أبي هند، عن قيس بن جبير النَّهْشليّ، قال:"كانوا إذا أحرموا لم يأتوا بيتًا من قِبَل بابه، ولكن من قِبَل ظهره، وكانت الحُمُس تفعله، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطًا، فاتّبعه رجل يقال له: رفاعة بن تابوت، ولم يكن من الحمس. . ." فذكر القصة.
قال الحافظ: وهذا مرسل، والذي قبله أقوى إسنادًا، فيجوز أن يُحْمَل على التعدد في القصة، إلا أن في هذا المرسل نظرًا من وجه آخر؛ لأن رفاعة بن تابوت معدود في المنافقين، وهو الذي هَبَّت الريح العظيمة لموته، كما وقع مبهمًا في "صحيح مسلم"، ومفسَّرًا في غيره من حديث جابر، فإن لم يُحْمَل على أنهما رجلان توافق اسمهما واسم أبويهما، وإلا فكونه قطبة بن عامر أَولى.
ويؤيده أن في مرسل الزهريّ عند الطبري: "فدخل رجل من الأنصار، من بني سَلِمة" وقطبة من بني سَلِمة، بخلاف رفاعة.
ويدلّ على التعدد اختلاف القول في الإنكار على الداخل، فإن في حديث جابر:"فقالوا: إن قطبة رجل فاجر"، وفي مرسل قيس بن جبير:"فقالوا: يا رسول الله نافق رفاعة"، لكن ليس بممتنع أن يتعدد القائلون في القصة الواحدة.
وقد وقع في حديث ابن عباس عند ابن جريج أن القصة وقعت أوّل ما قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي إسناده ضعف.
وفي مرسل الزهريّ أن ذلك وقع في عمرة الحديبية، وفي مرسل السدّيّ عند الطبري أيضًا أن ذلك وقع في حجة الوداع، وكأنه أخذه من قوله:"كانوا إذا حجوا"، لكن وقع في رواية الطبريّ:"كانوا إذا أحرموا"، فهذا يتناول الحج والعمرة، والأقرب ما قال الزهريّ.
وبيَّن الزهريّ السبب في صنيعهم ذلك، فقال:"كان ناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة، لم يَحُلْ بينهم وبين السماء شيء، فكان الرجل إذا أهلّ، فبدت له حاجة في بيته لم يدخل من الباب، من أجل أن السقف يحول بينه وبين السماء".
[تنبيه]: اتفقت الروايات على نزول الآية في سبب الإحرام، إلا ما أخرجه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن الحسن، قال:"كان الرجل من الجاهلية يَهُمّ بالشيء يصنعه، فيحبس عن ذلك، فلا يأتي بيتًا من قبل بابه، حتى يأتي الذي كان همّ به"، فجعل ذلك من باب الطيرة، وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام.
وخالفهم محمد بن كعب القُرظيّ، فقال:"كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزل من باب البيت" فنزلت، أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف.
وأغرب الزجاج في "معانيه"، فجزم بأن سبب نزولها ما رُوي عن الحسن، لكن ما في الصحيح أصحّ، والله أعلم.
[تنبيه آخر]: اتفقت الروايات على أن الحمس كانوا لا يفعلون ذلك، بخلاف غيرهم، وعَكَس ذلك مجاهد، فقال:"كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثَقَب كُوّةً في ظهر بيته، فدخل منها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ومعه رجل من المشركين، فدخل من الباب، وذهب المشرك ليدخل من الكوّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إني أحمسيّ، فقال: وأنا أحمسيّ"، فنزلت، أخرجه الطبريّ، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
(فَدَخَلَ) ذلك الرجل (مِنْ بَابِهِ)؛ أي: من باب بيته، (فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ)؛ أي: كلّموه، وعابوه على ما فعل، وتقدّم أنهم قالوا:"نافق رفاعة"، وفي
(1)
"الفتح" 5/ 43 - 45، "كتاب العمرة" رقم (1803).
رواية: "إن قُطبة رجل فاجر"، (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ) ردًّا عليهم في إنكارهم، وجعلته من أعمال الجاهليّة، لا من أعمال البرّ. ({وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}).
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان يفعلون ذلك؛ لأنَّهم كانوا إذا أحرموا يكرهون أن يحول بينهم وبين السماء سقف إلى أن ينقضي إحرامهم، ويَصِلوا إلي منازلهم، فإذا دخلوا منازلهم دخلوها من ظهورها، قاله الزهريّ، يعتقدون أن ذلك من البِرّ والقُرَب، فنفى الله ذلك بقوله:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ، ثم بيّن ما يكون فيه البرّ بقوله:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ؛ أي: برّ من اتقى الله، وعَمِل بما أمره الله به من طاعته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7510](3026)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1803) و"التفسير"(4512)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 297 - 298)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(717)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(3075 و 3076)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3947)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 274)، و (الواحديّ) في "أسباب النزول"(ص 32)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 261)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(13/ 322)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): ما كان عليه الجاهليّة من المشقّة والتعب في إقامة دينهم الباطل.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يستفاد من الآية أن الطاعات والقُرَب إنما يُتوصّل إليها بالتوقيف الشرعيّ، والتعريف، لا بالعقل والتخريف،
(1)
"المفهم" 7/ 320 - 321.
فالبيوت على هذا محمولة على حقائقها، وقد قال بعض العلماء: إن المراد بها إتيان الأمور من وجوهها، وهو بعيد، وأبعدُ من قول من قال: إن المراد بها إتيان النساء في فروجهنّ، لا في أدبارهنّ، والصحيح الأول، وأما القولان الآخران فيؤخذان من موضع آخر، لا من الآية. انتهى
(1)
.
(2) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16])
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7511]
(3027) - (حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إِلَّا أَرْيَعُ سِنِينَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ) أبو موسى المصريّ، من صغار [10]، تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) أبو محمد المصريّ الحافظ [9]، تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ [7]، تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ [6]، تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
5 -
(عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود الهذليّ، أبو عبد الله الكوفيّ [4]، تقدم في "المساجد مواضع الصلاة" 27/ 1361.
(1)
"المفهم" 7/ 320 - 321.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذليّ ابن أخي عبد الله بن مسعود، من كبار [2]، تقدم في "الطلاق" 8/ 3721.
7 -
(ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
شرح الحديث:
(عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عتبة بن مسعود، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (قَالَ: مَا) نافية، (كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ) قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، تقول: عاتبته معاتبة، قال الشاعر [من الطويل]:
أُعَاتِبُ ذَا الْمَوَدَّةِ مِنْ صَدِيقٍ
…
إِذَا مَا رَابَنِي مِنْهُ اجْتِنَابُ
إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ
…
ويَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ
({أَلَمْ يَأْنِ}) ألم يَحِنْ، قال الشاعر [من الطويل]:
أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا
…
وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُنِيرُ لَنَا عَقْلَا
وماضيه: أَنَى يَأْنِي، فأمَّا آنَ الممدود فمضارعه يَئِين، وأنشد ابن السكيت [من الطويل]:
أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تَجَلَّى عَمَايَتِي
…
وَأَفْصِمُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا
فجمع بين اللغتين.
وقرأ الحسن: "ألما يأن" وأصلها "ألم" زيدت "ما"، فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و"لم" نفي لقوله: كان كذا
(1)
.
({لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ})؛ أي: تذلّ، وتلين ({قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}) وتعظيمه، وقيل: معناه تجزع من خشية الله، وقيل: الذكر هنا القرآن، وفيه بُعْد؛ لأن قوله:{وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآن، فيكون تكرارًا.
وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [الحديد: 16]؛ أي: رأوا الموت بعيدًا؛ يعني: أنهم لطول أملهم لا يرون الموت يقع بهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]؛ أي: جَفَت، وغلُظت، فلم يفهموا دلالةً، ولا صدّقوا رسالة. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
(1)
"تفسير القرطبي" 17/ 248.
{فَاسِقُونَ} [الحديد: 26]؛ أي: خارجون عن مقتضى العقل من التوحيد، وعن مقتضى الرسالة من التصديق، وفائدة هذه الآية أنه لمّا رسخ الإيمان في قلوبهم أرشدهم إلى الازدياد في أحوالهم، والمراقبة في أعمالهم، وحذّرهم عن جفوة أهل الكتاب بأبلغ خطاب، وألطف عتاب
(1)
.
(إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": رُوي أن المزاح والضحك كَثُر في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولمّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يستبطئكم بالخشوع"، فقالوا عند ذلك: خشعنا.
وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة.
وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة، فنزلت:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية [يوسف: 3]، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره، وأنفع لهم، فكَفُّوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول، فنزلت:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان.
قال السديّ وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالظاهر، وأسرُّوا الكفر، {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. وقيل: نزلت في المؤمنين، قال سعد: قيل: يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا، فنزل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، فقالوا بعد مدة: لو ذكّرتنا، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} . ونحوه عن ابن مسعود، قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض، ويقول: ما أحْدَثْنا؟ قال الحسن: استبطأهم، وهم أحب خلقه إليه.
وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال
(1)
"المفهم" 7/ 406 - 407.
عقيب هذا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ؛ أي: ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى عليه السلام إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيّهم، فقست قلوبهم
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7511](3027)، و (الحاكم) في "المستدرك"(6/ 481)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 167)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): بيان ذمّ قسوة القلب؛ لأن القلب القاسي أبعد من الله سبحانه وتعالى، كما قال:
وَإِنَّ أَبْعَدَ قُلُوبِ النَّاسِ
…
مِنْ رَبِّنَا الرَّحِيمِ قَلْبٌ قَاسِ
3 -
(ومنها): بيان أَن رقّة القلب، وخشوعه من صفات المؤمنين؛ لأن الله تعالى قال:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} عتابًا وتوبيخًا؛ لإخلالهم، وبُعدهم عن مقتضى إيمانهم، ففيه أن الذمّ جاءهم ببُعدهم عن صفاتهم التي تليق بهم، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ})[الأعراف: 31]
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7512]
(3028) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح)، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ
(1)
"تفسير القرطبيّ" 17/ 249.
تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ
…
فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، من صغار [10]، تقدم في "الطهارة" 16/ 607.
2 -
(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ [4]، تقدم في "الحيض" 5/ 704.
3 -
(مُسْلِمٌ الْبَطِينُ) ابن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفيّ [6]، تقدم في "الجمعة" 20/ 2031.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ)؛ أي: الكعبة (وَهِيَ)؛ أي: والحال أنها (عُرْيَانَةٌ)؛ أي: متعرّية من اللباس، وهي تأنيث عارٍ، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَرِيَ الرجلُ من ثيابه يَعْرَى، من باب تَعِبَ عُرْيًا، وعُرْيَةً، فهو عَارٍ، وعُرْيَانٌ، وامرأة عَارِيَةٌ، وعُرْيَانَةٌ، وقوم عُرَاةٌ، ونساء عَارِيَاتٌ، ويعدى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أَعْرَيْتُهُ من ثيابه، وعَرَّيْتُهُ منها، وفرس عُرْيٌ لا سرج عليه، وُصِفَ بالمصدر، ثم جُعل اسمًا، وجُمع، فقيل: خيل أَعْرَاءٌ، مثل قُفْل وأَقْفَال، قالوا: ولا يقال: فرس عُرْيَانٌ، كما لا يقال: رجل عُرْيٌ، واعْرَوْرَى الرجلُ الدابةَ: ركبها عُرْيًا، وعَرِيَ من العيب يَعْرَى، فهو عَرٍ، من باب تَعِب: إذا سَلِم منه، والعَرَاءُ بالمدّ: المكان المتَّسِعُ الذي لا سُترة به. انتهي
(1)
.
(فَتَقُولُ) المرأة: (مَنْ) استفهاميّة، استفهام استخبار؛ أي: أيّ شخص
(1)
"المصباح المنير" 2/ 406.
(يُعِيرُنِي تِطْوَافًا) بكسر التاء الفوقية: ثوب تلبسه المرأة، تطوف به، (تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا)؛ أي: تستر به فرجها.
وتقدّم لمسلم في "كتاب الحجّ" من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة، إلا الحمس، والحمس: قريش، وما ولدت، كانوا يطوفون عراة، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات.
وفي غير مسلم: ويقولون: نحن أهل الحَرَم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا، فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يُعيره ثوبًا، ولا يَسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسّه أحد، وكان ذلك الثوب يسمى اللَّقَى، حتى قال شاعر العرب [من الطويل]:
كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ
…
لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفَيْنَ حَرِيمُ
فكانوا على تلك الجهالة، والبدعة، والضلالة، حتى بعث الله نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وأذّن مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يطوف بالبيت عريان
(1)
.
وذكر ابن إسحاق أن قريشًا ابتدعت قَبْل الفيل، أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد، ممن يَقْدَم عليهم من غيرهم أوّل ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانًا، فإن خالف، وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ، ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام، فهدم ذلك كله
(2)
.
(وَتَقُولُ)، أي: تنشد تلك المرأة، وهي تطوف قائلةً، (الْيَوْمَ)؛ أي: يوم الطواف، وهو منصوب على الظرفية متعلّق بقوله:(يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ)؛ أي: ينكشف كلّ الفرج، أو بعضه، فالضمير يعود للفرج، (وَمَا بَدَا مِنْهُ)؛ أي: ما ظهر من الفرج، (فَلَا أُحِلُّهُ) بضم الهمزة؛ أي: لا أجيز لأحد أن ينظر إليه قصدًا.
(1)
"المفهم" 7/ 346، و"تفسير القرطبيّ" 7/ 189.
(2)
"الفتح" 4/ 287.
وحاصل كلامها: أنها كشفت فرجها لضرورة الطواف، لا لإباحة النظر إليه، والاستمتاع به، فليس لأحد أن يفعل ذلك.
قَالَ ابن عباسّ رضي الله عنهما (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ)؛ يعني: قوله تعالى: ({خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانًا، فإنه عامّ في كلّ مسجد؛ لأن العبرة للعموم، لا للسبب. ({خُذُوا زِينَتَكُمْ})؛ أي ما يستر عورتكم، ({عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ})؛ أي: عند الصلاة، والطواف، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا من افراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7512](3028)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2957) وفي "الكبرى"(3947 و 11182)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 208)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 223 و 5/ 88)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): أنه استُدلّ بالآية الكريمة على وجوب ستر العورة في الطواف، وبه قال الجمهور، وهو الحقُّ، وخالف في ذلك الحنفيّة، فقالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط، فمن طاف عريانًا أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه، دم.
3 -
(ومنها): وجوب ستر العورة في الصلاة، وبه قال الجمهور، وهو الحقُّ، واختُلف فيه عن مالك على ثلاثة أقوال: الوجوب مطلقًا، والسُّنّة مطلقًا، والفرق بين العمد، والنسيان، فيجب مع العمد، ولا يجب مع النسيان، والعذر. قاله القرطبيّ.
4 -
(ومنها): بيان ما كانت عليه الجاهليّة من الضلالات، والفسوق، وعدم المبالاة بكشف العورات، والله تعالى أعلم.
(4) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ})
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7513]
(3029) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ: اذْهَبِي، فَابْغِينَا شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لَهُنَّ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ [5]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 297.
2 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة [4]، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) وقع تصريح الأعمش بالسماع من أبي سفيان، قال الحافظ أبو بكر البزار: حدّثنا عمرو بن عليّ، حدّثنا عليّ بن سعيد، حدّثنا الأعمش، حدّثني أبو سفيان، عن جابر، قال: كان لعبد الله بن أبي بن سلول جارية. . . الحديث، صرّح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه، إنما هو صحيفة، حكاه البزار، نقله ابن كثير
(1)
.
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ) برفع "ابنُ"؛ لأنه
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 289.
صفة لـ"عبدُ الله"، لا لأبيّ، وأبيّ والد عبد الله، وسَلُول أمه، ولذا مُنعت من الصرف؛ للعلَميّة والتأنيث المعنويّ، ومن القاعدة أن همزة "ابن" الثاني تُكتب مع وقوعها بين علمين كالأُولى؛ لأن شرط حذفها كون العَلَم الثاني أبًا للأول، كـ"أبيّ"، وقد تقدّم تحقيق هذا في غير موضع، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.
(يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ) سيأتي في الرواية الثانية، أنهما أمتان له، يُقَالُ لإحداهما: مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَال لَهَا: أُمَيْمَةُ، وفي بعض الروايات سميت معاذة، فقد أخرج ابن أبي حاتم، عن السّدّيّ، قال: كان لعبد الله بن أبي جارية تدعى معاذة، فكان إذا نزل به ضيف، أرسلها إليه؛ ليواقعها؛ إرادة الثواب منه، والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر، فشكت ذلك إليه، فذكره أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبَيّ: من يعذرنا من محمد، يغلبنا على مماليكنا، فنزلت الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الزهريّ أن رجلًا من قريش أُسر يوم بدر، وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيرًا، وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية، يقال لها: معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبيّ يُكرهها على ذلك، ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشيّ، فيطلب فداء ولده، فأنزل الله:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}
(1)
.
(اذْهَبِي، فَابْغِينَا) بقطع الهمزة، ووصلها، يقال: أبغاه الشيءَ: طلبه له، وكَبَغَاه إيّاه، كَرَماه، أو أعانه على طلبه، قاله المجد رحمه الله
(2)
، فتبيّن بهذا أن بَغَى ثلاثيًّا، وأبغى رباعيًّا يتعديان إلى اثنين، فـ "نا" هو المفعول الأول، والمفعول الثاني قوله:(شَيْئًا)؛ أي: من أجرة الزنا. (فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لَهُنَّ {غَفُورٌ رَحِيمٌ}).
قال الإمام ابن جرير رضي الله عنه في "تفسيره": يقول تعالى ذِكره: زوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم، ولا تُكرهوا إماءكم على البغاء، وهو الزنى، إن
(1)
راجع: "الدر المنثور" 6/ 193.
(2)
"القاموس المحيط" ص 120.
أردن تحصنًا، يقول: إن أردن تعففًا عن الزنى؛ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، يقول: لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنى عرض الحياة، وذلك ما تَعْرِض لهم إليه الحاجة من رياشها، وزينتها، وأموالها، ومن يُكرههن، يقول: ومن يكره فتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهنّ على ذلك لهم غفور رحيم، ووزر ما كان من ذلك عليهم دونهن.
وذكر أن هذه الآية أُنزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول حين أكره أمته مُسيكة على الزنى. انتهى
(1)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة، يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف، والخلف، في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فإنه كان له إماء، فكان يُكرههنّ على البغاء؛ طلبًا لِخَراجهنّ، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم. انتهى
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مُكرِهًا، ويمكن أن ينهى عن الإكراه. وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد: لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنى، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وإلى هذا المعنى أشار ابن العربيّ، فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصّلوه، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين، فقال بعضهم: قوله: "إن أردن تحصنًا" راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنًا. وقال بعضهم: هذا الشرط في قول: "إن أردن" مُلْغًى، ونحو ذلك مما يضعف، والله الموفق.
(1)
"تفسير الطبريّ" 18/ 132.
(2)
"تفسير ابن كثير" 3/ 289.
وقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ أي: الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها، والولد يسترقّ، فيباع. وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها.
وقوله: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} ؛ أي: يقهرهن. {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} "لهن"{رَحِيمٌ} بهن، وقرأ ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وابن جبير:"لهن غفور" بزيادة لهنّ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لهن غفور رحيم" هكذا وقع في النسخ كلها: "لهن غفور رحيم" وهذا تفسير، ولم يُرَد به أن لفظة "لهنّ" منزلة، فإنه لم يقرأ بها أحد، وإنما هي تفسير، وبيان، يريد أن المغفرة والرحمة لهنّ؛ لكونهنّ مكرهات، لا لمن أكرههنّ.
وأما قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فخرج على الغالب؛ إذ الإكراه إنما هو لمريدة التحصن، أما غيرها فهي تسارع إلى البغاء من غير حاجة إلى الإكراه، والمقصود أن الإكراه على الزنى حرام، سواء أردن تحصنًا أم لا، وصورة الإكراه مع أنها لا تريد التحصن أن تكون هي مريدة الزنى بإنسان، فيُكرهها على الزنى بغيره، وكله حرام. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7513 و 7514](3029)، و (أبو داود) في "النكاح"(2311)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 419)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 31)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 37)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 199)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(18/ 132)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 229)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 9)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"تفسير القرطبيّ" 12/ 255.
(2)
"شرح النوويّ" 18/ 163.
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): بيان تحريم الزنا، على جميع الناس حُرّهم، وعبدهم.
3 -
(ومنها): بيان أن الإكراه بالزنا يُسقط الحدّ والإثم، وإنما يتحمّل الإثم المكرِه بكسر الراء.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه عبد الله بن أُبيّ من النفاق، وحبّه للفجور، حيث كان يُكره المسلمة العفيفة عليه، وهذا من جراءته، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7514]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ جَارَيةً لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، يُقَالُ لَهَا: مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا: أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حُسين البصريّ [10]، تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله الواسطيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يُقَالُ لَهَا: مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا: أُمَيْمَةُ) بتصغير الاسمين، وقال النوويّ: أما مُسيكة فبضم الميم، وقيل: إنهما معاذة وزينب، وقيل: نزلت في ستّ جَوَارٍ له، كان يُكرههنّ على الزنى: مُعاذة، ومُسيكة، وأُميمة، وعمرة، وأَرْوَى، وقُتيلة، والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 18/ 163.
(5) - (بابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ})
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7515]
(3030) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، فِي قَوْلِهِ عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُعْبَدُونَ، فَبَقِيَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، وَقَدْ أَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ [8]، تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ [5]، تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
3 -
(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد الله بن سَخْبَرة الكوفيّ [2]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.
4 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (فِي قَوْلِهِ عز وجل: {أُولَئِكَ} مبتدأ، وقوله ({الَّذِينَ يَدْعُونَ}) صفته، وضمير الصلة محذوف؛ أي: يدعونهم، والمعنى: أن أولئك المدعوّين، وقوله:({يَبْتَغُونَ}) خبرٌ، أو حال، والخبر قوله:"الذين يدعون"؛ أي: يدعون الناس إلى عبادته، وقرأ ابن مسعود:"تدعون" بالتاء علي الخطاب، والباقون بالياء على الخبر، ولا خلاف في "يبتغون" أنه بالياء، وقوله:({إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}) متعلّق بـ "يبتغون"؛ أي: يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة، قال القرطبيّ المفسّر: أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم،
والهاء والميم في "ربهم" تعود على العابدين، أو على المعبودين، أو عليهم جميعًا، وأما "يدعون" فعلى العابدين، و"يبتغون" على المعبودين.
وقوله: ({أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}) مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون "أيهم أقرب" بدلًا من الضمير في "يبتغون"، والمعنى: يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله.
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]؛ أي: مخوفًا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذر منه ويخاف.
وقال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": مفعول {يَدْعُونَ} محذوف، تقديره: أولئك الذين يدعونهم آلهة، يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وقرأ ابن مسعود:"تدعون" بالمثناة الفوقانية، على أن الخطاب للكفار، وهو واضح.
وقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} : معناه: يبتغون مَن هو أقرب منهم إلى ربهم، وقال أبو البقاء:{أَيُّهُمْ} مبتدأ، والخبر {أَقْرَبُ} ، وهو استفهام في موضع نصب بـ {يَدْعُونَ} ويجوز أن يكون بمعنى الذين، وهو بدل من الضمير في {يَدْعُونَ} ، كذا قال، وكأنه ذهب إلى أن فاعل {يَدْعُونَ} ، و {يَبْتَغُونَ} واحد، والله أعلم
(2)
.
(قَالَ) عبد الله بن مسعود: (كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أَسْلَمُوا)؛ أي: دخلوا في دين الإسلام، (وَكَانُوا يُعْبَدُونَ) بالبناء للمفعول؛ أي: يعبدهم بعض الناس، (فَبَقِيَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ) بالبناء للفاعل، (عَلَى عِبَادَتِهِمْ)، أي: عبادة هؤلاء الجنّ، وفي الرواية التالية:"واستمسك الإنس بعبادتهم"، (وَ) الحال أنه (قَدْ أَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ) وفي رواية للبخاريّ:"فأسلم الجنّ، وتمسَّك هؤلاء بدينهم"؛ أي: استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك؛ لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
وروى الطبريّ من وجه آخر عن ابن مسعود، فزاد فيه: "والإنس الذين
(1)
"تفسير القرطبيّ" 10/ 279 - 280.
(2)
"الفتح" 10/ 298.
كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم"، قال الحافظ: وهذا هو المعتمَد في تفسير هذه الآية.
وأما ما أخرجه الطبريّ من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "كان قبائل العرب يعبدون صنفًا من الملائكة، يقال لهم: الجنّ، ويقولون: هم بنات الله، فنزلت هذه الآية"، فإن ثبت فهو محمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدلّ على أنهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة.
وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن مسعود في حديث الباب: "فعَيَّرهم الله بذلك".
وكذا ما أخرجه من طريق أخرى ضعيفة، عن ابن عباس: أن المراد من كان يعبد الملائكة، والمسيح، وعزيرًا
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 7515 و 7516 و 7517 و 7518](3030)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4714 و 4715)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 380)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 394)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 222)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7516]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَاسْتَمْسَكَ الإِنْسُ بِعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}).
(1)
"الفتح" 10/ 297، "كتاب التفسير" رقم (4714).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ البصريّ [9]، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ [7]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7517]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) العسكريّ، أبو محمد الفرائضىّ، نزيل البصرة [10]، تقدم في "الإيمان" 23/ 200.
والباقون ذُكروا قريبًا، و"سليمان" هو: الأعمش.
[تنبيه]: رواية شعبة عن سليمان الأعمش هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:
(4438)
- حدّثنا بشر بن خالد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه في هذه الآية:{الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: "كان ناس من الجنّ يعبدون، فأسلموا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7518]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1748.
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ، كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، وَالإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَنَزَلَتْ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ [11]، تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) البصريّ [9]، تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبريّ البصريّ [8]، تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
4 -
(حُسَيْنُ) بن ذكوان المعلّم المكتب البصريّ [6]، تقدم في "الإيمان" 19/ 179.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ البصريّ [4]، تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيُّ) البصريّ [4]، تقدم في "الصيام" 38/ 2746.
[تنبيه]: قوله: "الزّمّانيّ" بكسر الزاي، وتشديد الميم، آخره نون: نسبة إلى زِمّان بن مالك بن صعب بن عليّ بني بكر بن وائل، بطن من ربيعة، قاله في "اللباب"
(1)
.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ) بن مسعود ابن أخي عبد الله بن مسعود، تقدّم قريبًا. و"عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه، ولله الحمد.
(6) - (بَابٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَالأئفَالِ، وَالْحَشْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7519]
(3031) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ: التَّوْبَةِ؟
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 74.
قَالَ: بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حَثَّى ظَنُّوا أَنْ لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا، قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الأَنْفَالِ، قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَالْحَشْرُ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُطِيع) بن راشد البكريّ، أبو محمد النيسابوريّ، نزيل بغداد [10]، تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير الواسطيّ، من كبار [7]، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل [5]، تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
والباقيان ذُكرا قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ)؛ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (سُورَةُ التَّوْبَةِ) فيه استفهام مقدّر؛ أي: أهذه سورة التوبة؛ أي: ما هي سورة التوبة؟ أو كيف نزلت؟، أو لماذا نزلت؟ وكذا يقدّر فيما بعده. (قَالَ) ابن عبّاس:(آلتَّوْبَةِ؟) هو استفهام إنكار، بدليل قوله:"هي الفاضحة"، ووقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر، عن هشيم:"سورة التوبة، قال: بل سورة الفاضحة". (قَالَ) ابن عبّاس: (بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ)؛ أي: اللائق بها أن تُسمّى بالسورة الفاضحة؛ لأنها فضحت عن سرائر المنافقين، كما أشار إليه بقوله:"ما زالت تنزل. . . إلخ"؛ يعني: أنه إنما يليق بها أن تسمّى بالفاضحة، لأن ما تضمّنته من فضائحهم أكثر مما تضمّنته من بيان التوبة، ومن سمّاها توبة، فلكونها ذكرت توبة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.
قال: (مَا زَالَتْ تَنْزِلُ)؛ أي: آياتها، (وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ)؛ أي: كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة 61]، (حَتَّى ظنُّوا)؛ أي: الناس الذين كانوا موجودين عند نزول هذه السورة، (أَنْ) مخففة من الثقيلة، فأصلها أنه، والضمير للشأن، (لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ) بالبناء للمفعول، (فِيهَا) وفي رواية البخاريّ:"حتى ظنّوا أنها لم تُبق أحدًا منهم إلا ذُكر فيها"، قال في "الفتح": قوله: "لم تبق" في رواية الكشميهنيّ: "لن
تبقي"، وهي أوجه؛ لأن الرواية الأولى تقتضي استيعابهم بما ذُكر من الآيات، بخلاف الثانية، فهي أبلغ، وفي رواية الإسماعيليّ: "أنه لا يبقى"
(1)
.
(قَالَ) سعيد: (قُلْتُ) لابن عبّاس أيضًا: (سُورَةُ الأنْفَالِ، قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ) وفي رواية البخاريّ: "قال: نزلت في بدر"؛ أي: لأنها مشتملة على بيان ما وقع فى غزوة بدر.
(قَالَ) سعيد: (قُلْتُ) لابن عبّاس أيضًا: (فَالْحَشْرُ) وللبخاريّ: "قلت: سورة الحشر"، (قَالَ) ابن عبّاس:(نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ) وللبخاريّ: "قل: سورة بني النضير"؛ قال الداوديّ: كأن ابن عبّاس كره تسميتها بالحشر؛ لئلا يُظنّ أن المراد يوم القيامة، وإنما المراد به هنا إخراج بني النضير
(2)
، أو لكونه مجملًا، فكره النسبة إلى غير معلوم، كذا قال، وعند ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس:"قال: نزلت سورة الحشر في بني النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النقمة"
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7519](3031)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4029) و"التفسير"(4882 و 4883 و 4645)، والله تعالى أعلم.
(7) - (بَابٌ فِي نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7520]
(3032) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ
(1)
"الفتح" 10/ 676، "كتاب التفسير" رقم (4882).
(2)
"الفتح" 10/ 676.
(3)
"الفتح" 10/ 90، "كتاب التفسير" رقم (4029).
رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَلَا وَإِنَّ الْخَمْرَ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا يَوْمَ نَزَلَ، وَهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَدِدْتُ أيُّهَا النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان [10]، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل [8]، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(أَبُو حَيَّانَ) التيميّ يحيى بن سعيد بن حيّان الكوفيّ [6]، تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
4 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الكوفيّ [3]، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان " 1/ 102.
6 -
(عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 9/ 3.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَيَّانَ) يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) وفي رواية ابن عُليّة عن أبي حيان: "حدّثنا الشعبيّ"، أخرجه النسائيّ. (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما: أنه (قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ"، (فَحَمِدَ) بكسر الميم، من باب فَهِمَ، (اللهَ، وَأَثْنَي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أمَّا بَعْدُ) من الظروف المبنيّة علي الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها. (أَلا) أداة استفتاح وتنبيه، وفيه حَذْف الفاء من جواب "أما"، قال ابن مالك رحمه الله: فيه جواز حَذْف الفاء في جواب "أما بعدُ"، فتعقّبه الحافظ بأنه من تصرّف الرواية، فقد جاء في رواية بلفظ:"خطب عمر على المنبر، فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر"، وليس فيه:"أما بعدُ"، وفي رواية بلفظ:"أما بعد فإن الخمر"، فظهر بهذا أن حذف الفاء
وإثباتها من تصرّف الرواة. انتهى
(1)
.
ومسألة الفاء بعد "أما" قد بيّنها ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
"أَمَّا" كَـ "مَهْمَا يَكُ مِنْ شَىْءٍ" وَفَا
…
لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا
وَحَذْفُ ذِي الْفَا قَلَّ فِي نَثْرٍ إِذَا
…
لَمْ يَكُ قَوْلٌ مَعَهَا قَدْ نُبِذَا
(وَإِنَّ الْخَمْرَ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا يَوْمَ نَزَلَ، وَهْيَ)؛ أي: والحال أنها (مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ) قال في "الفتح": الجملة حالية؛ أي: نزل تحريم الخمر في حال كونها تُصنع من خمسة، ويجوز أن تكون استئنافية، أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أن الخمر تُصنع من هذه الأشياء، لا أن ذلك يختص بوقت نزولها، والأول أظهر
(2)
.
وقوله: (مِنَ الْحِنْطَةِ) إلى آخره بدل من "خمسة"، أو من "أشياء"، و"الحنطة" بكسر الحاء المهملة، وسكون النون، وهي والقَمْح، والبرّ، والطعام واحد
(3)
. (وَالشَّعِيرِ) بفتح، فكسر، ويقال: بكسرتين أيضًا، وهو الحَبّ المعروف، قال الزجّاج: وأهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. أفاده في "المصباح"
(4)
.
[فائدة]: قال السيد محمد مرتضى الزبيديّ اللغوي في "شرح القاموس": قال عمر، بن خلف بن مكّيّ: كلُّ فَعِيل وسطه حرف حلق مكسور يجوز كسر ما قبله، أو كسر فائه؛ إتباعًا للعين، في لغة تميم، كشعير، ورحيم، ورغيف، وما أشبه ذلك، بل زعم الليث أن قومًا من العرب يقولون ذلك وإن لم تكن عينه حرف حلق، ككبير، وجليل، وكريم. انتهى كلام المرتضى
(5)
، فاحفظه فإنه مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(وَالتَّمْرِ) من ثمر النخل، كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُترك على النخل بعد إرطابه، حتى يَجِفّ، أو يقارب، ثم يُقطع، ويترك في الشمس حتى ييبس، قال أبو حاتم: وربما جُدّت النخلة، وهي باسرة، بعدما أَخَلّت
(6)
ليخفف عنها، أو لخوف السرقة، فتُترك حتى تكون
(1)
"الفتح" 12/ 598.
(2)
"الفتح" 12/ 613 - 614.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 154.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 315.
(5)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 304 في مادّة الراء.
(6)
أي: صار بَلَحها خَلالًا.
تمرًا، الواحدة تمْرَةٌ، والجمع تُمُورٌ، وتُمْرَانٌ بالضمّ، والتَّمْرُ يذكّر في لغة، ويؤنث في لغة، فيقال: هو التَّمْرُ، وهي التَّمْرُ. انتهى
(1)
.
(وَالزَّبِيبِ) اسم جمع، يذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الزبيب، وهي الزبيب، الواحدة زبيبة. (وَالْعَسَلِ) بفتحتين، يذكر، ويؤنّث، وهو الأكثر، ومن التأنيث قول الشاعر:
بِهَا عَسَلٌ طَابَتْ يَدَا مَنْ يَشُورُهَا
ويُصغّر على عُسيلة على لغة التأنيث؛ ذهابًا إلى أنها قطعة من الجنس، وطائفة منه، كما في حديث:"حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عسيلتك"
(2)
.
قال في "الفتح": هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد، والأبواب، في الأحاديث المرفوعة؛ لأن له عندهم حكمَ الرفع؛ لأنه خبر صحابيّ شَهِد التنزيل، أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر آية المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى آخرها، فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصًّا بالمتَّخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس الماضي، فإنه يدل على أن الصحابة فَهِموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، سواء كان من العنب، أم من غيرها.
وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صريحًا، فأخرج أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان من وجهين، عن الشعبيّ، أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر"، لفظ أبي داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيه:"أن النعمان خطب الناس بالكوفة"، ولأبي داود من وجه آخر عن الشعبيّ، عن النعمان، بلفظ:"إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البُر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا"، ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب السنن، والتي قبلها فيها الزبيب، دون العسل.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 76 - 77.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 409.
ولأحمد من حديث أنس، بسند صحيح عنه قال:"الخمر من العنب، والتمر، والعسل". ولأحمد من حديث أنس، بسند صحيح عنه قال:"الخمر والتمر، والعسل والحنطة، والشعير، والذرة" أخرجه أبو يعلي من هذا الوجه بلفظ: "حُرِّمت الخمر يوم حرميت، وهي .... "، فذكرها، وزاد الذرة.
وأخرج الخلعي في "فوائده" من طريق خلاد بن السائب، عن أبيه، رفعه، مثل الرواية الثانية، لكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق حديث ابن عمر:"نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسةَ أشربة، مافيها شراب العنب"
(1)
.
(وَالْخَمْرُ مَا خَامَر الْعَقْلَ)؛ أي: غطَّاه، أو خالطه، فلم يتركه على حاله، وهو من مجاز التشبيه، و"العقل": هو آلة التمييز، فلذلك حُرّم ما غطاه، أو غَيَّره؛ لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده؛ ليقوموا بحقوقه. قال الكرمانيّ: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل، من عصير العنب خاصة، كذا قال، وفيه نظر؛ لأن عمر رضي الله عنه ليس في مقام تعريف اللغة، بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعيّ، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع، هو ما خامر العقل، على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك، ولو سلّم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب، فالاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب، يسمى خمرًا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت عند مسلم، وأصحاب السنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة"، قال البيهقي: ليس المراد الحصر فيها؛ لأنه ثبت أن الخمر تُتَّخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا تختص بالمتخذ من العنب. أفاده في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيس.
قال عمر رضي الله عنه: (وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ) وفي الرواية التالية: "وثلاث"، فيكون
(1)
"الفتح" 12/ 614.
(2)
"الفتح" 12/ 615.
صفة موصوف؛ أي: أمور، أو أحكام ثلاث (وَدِدْتُ أَيُّهَا النَّاسُ)؛ أي: تمنيت، وإنما تمنى ذلك؛ لأنه أبعدُ من محذور الاجتهاد، وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورًا عليه، فإنه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل بالنص إصابة محضة. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا) وفي الرواية التالية:"وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عَهِد إلينا فيهنّ عهدًا ننتهي إليه"، وفي رواية للبخاريّ:"لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدًا"، قال الحافظ رحمه الله: وهذا يدلّ على أنه لم يكن عنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ فيها، ويُشعر بأنه كان عنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يَحتج معه إلى شيء غيره، حتى خطب بذلك جازمًا به. انتهى.
وقوله: (الْجَدُّ) وما عُطف عليه بدل من "ثلاثة"، أو من "أشياء"، (وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ منْ أَبْوَابِ الرِّبَا) أما الجد فالمراد قَدْر ما يَرِث؛ لأن الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، فقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قضى فيه بقضايا مختلفة.
وأما الكلالة بفتح الكاف، وتخفيف اللام فقد اختُلف في تفسيره، والجمهور على أنه من لا ولد له، ولا والد، قال السهيليّ: الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس؛ لأن الكلالة وراثة تكللت العصبة؛ أي: أحاطت بالميت، وإن عَنَيت المصدر قلت: ورثوه عن كلالة، وتُطلق الكلالة على الورثة مجازًا
(1)
.
وأما أبواب الربا فلعله يشير إلى ربا الفضل؛ لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياق عمر يدلّ على أنه كان عنده نصّ في بعضٍ من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفة البقية
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7520 و 7521 و 7522](3032)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4619) و"الأشربة"(5581 و 5588 و 5590)
(1)
"الفتح" 15/ 455.
(2)
"الفتح" 12/ 620.
و"الاعتصام"(7337)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3669)، و (الترمذيّ) في "الأشربة"(1872)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5580 و 5581 و 5582) و"الكبرى"(5088 و 5089 و 5090)، و (أحمد) في "الأشربة"(185)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17049)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 106)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 217)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5353 و 5358 و 5359 و 5388)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 288 - 289)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3011)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأنواع التي كانت تتّخذ منها الخمر وقت نزول آية تحريم الخمر، وهي هذه الخمسة.
2 -
(ومنها): ذِكر الأحكام على المنبر؛ لتشتهر بين السامعين.
3 -
(ومنها): ذكر "أما بعد" فيها، كما ثبت في رواية الإسماعيليّ.
4 -
(ومنها): التنبيه بالنداء.
5 -
(ومنها): التنبيه على شرف العقل وفضله.
6 -
(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: إنما عَدّ عمر رضي الله عنه الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل، بل كان أعزّ، فعدَّ عمر ما عُرف فيها، وجعل ما في معناها مما يُتَّخذ من الأرز وغيره خمرًا، إن كان مما يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس، وأخْذه من طريق الاشتقاق، كذا قال، ورَدّ بذلك ابن العربي، في جواب من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر خمر": معناه: مثل الخمر؛ لأن حذف مثل ذلك مسموع شائع، قال: بل الأصل عدم التقدير، ولا يصار إلى التقدير إلا إلى الحاجة.
[فإن قيل]: احتجنا إليه لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لبيان الأسماء.
[قلت]: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها، ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها، قال: وأيضًا لو لم يكن الفضيخ خمرًا، ونادى المنادي:"حُرِّمت الخمر" لم يبادروا إلى إراقتها، ولم يفهموا أنها داخلة في مسمى الخمر، وهم الفُصْحُ اللُّسْنُ.
[فإن قيل]: هذا إثبات اسم بقياس.
[قلنا]: إنما هو إثبات اللغة عن أهلها، فإن الصحابة رضي الله عنهم عرب فصحاء، فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة، ومن اللغة ما فهموه من الشرع. وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين، احتج بما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن عمر، بسند جيّد قال:"أما الخمر فحرام، لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة، فكل مسكر حرام"، قال: وجوابه أنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: "كل مسكر خمر"، فلا يلزم من تسمية المتَّخذ من العنب خمرًا، انحصار اسم الخمر فيه، وكذا احتجوا بحديث ابن عمر أيضًا:"حُرّمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء"، مراده: المتَّخذ من العنب، ولم يُرِد أن غيرها لا يسمى خمرًا، بدليل حديثه الآخر:"نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة خمسة أشربة، كلها تدعى الخمر، ما فيها خمر العنب". ذكره في "الفتح"
(1)
.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": جعل الطحاويّ هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة، في أن الخمر من شيئين، مع حديث عمر، ومن وافقه، أن الخمر من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر:"لقد حرمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء"، وحديث أنس:"إن الخمر حرمت، وشرابهم الفضيخ"، وفي لفظ له:"وإنا نَعُدّها يومئذٍ خمرًا"، وفي لفظ له:"إن الخمر يوم حرمت: البسر والتمر". قال: فلما اختلف الصحابة في ذلك، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد فهو خمر، وأن مستحله كافر، دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة؛ إذ لو عملوا به لكفّروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر، غير المتَّخذ من عصير العنب. انتهى.
ولا يلزم من كونهم لم يكفِّروا مستحل نبيذ التمر، أن يمنعوا تسميته خمرًا، فقد يشترك الشيئان في التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حُكم المسكر من نبيذ التمر، حُكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية، والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره،
(1)
"الفتح" 11/ 174.
بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي: أكثر ما يُتخذ الخمر من العنب والتمر، ويُحمَل حديث عمر ومن وافقه، على إرادة استيعاب ذِكر ما عُهد حينئذ أنه يتَّخذ منه الخمر، وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يُطلق على ما لا يتخذ من العنب؛ لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يُتَّخذ من غير العنب، أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة، وإن كانت موجودة فيها بقلّة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتَّخذ مما عداها كالعدم، وقد قال الراغب في "مفردات القرآن": سمّي الخمر لكونه خامرًا للعقل؛ أي: ساترًا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتَّخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجع أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا حقيقة، وكذا قال أبو نصر ابن القشيري في "تفسيره": سميت الخمر خمرًا؛ لسترها العقل، أو لاختمارها، وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، منهم أبو حنيفة الدينوري، وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي، قال: سميت الخمر؛ لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغيّر رائحتها، وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل.
نَعَم جزم ابنُ سِيدَهْ في "المحكم" بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرًا مجازًا. وقال صاحب "الفائق" في حديث:"إياكم والغبيراء، فإنها خمر العالَم": هي نبيذ الحبشة، متخذة من الذرة، سميت الغبيراء لِمَا فيها من الغبرة، وقوله:"خمر العالَم"؛ أي: هي مثل خمر العالم، لا فرق بينها وبينها.
قال الحافظ: وليس تأويله هذا بأَولى من تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم، وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتُصر من ماء العنب، إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر"، وقوله:"الخمر من هاتين الشجرتين"، ولأنه من مخامرة العقل، وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب
ظني، قال: وإنما سمي الخمر خمرًا؛ لتخمره، لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصًّا فيه، كما في النجم، فإنه مشتق من الظهور، ثم هو خاص بالثريا. انتهى.
[والجواب] عن الحجة الأولى: ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة، بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرًا، وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرًا، عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا، لَمَا أطلقوه. وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، قال: فدل على أن الخمر هو ما يُعتصر، لا ما يُنتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر، وقال أهل المدينة، وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر، وحكمه حكم ما اتُّخذ من العنب، ومن الحجة لهم: أن القرآن لَمّا نزل بتحريم الخمر، فَهِم الصحابة، وهم أهل اللسان، أن كل شيء يسمى خمرًا، يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، وعلى تقدير التسليم، فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع، كان حقيقة شرعية، وهي مقدَّمة على الحقيقة اللغوية.
[وعن الثانية]: ما تقدم من أن اختلاف مشترِكَين في الحكم في الغلظ، لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلًا، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ مَحْرمًا له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضًا فالأحكام الفرعية، لا يُشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حرامًا، بل يُحكم بتحريمه، إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمرًا، والله أعلم.
[وعن الثالثة]: ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو،
وكيف يستجيز أن يقول: لا لمخامرة العقل، مع قول عمر بمحضر الصحابة:
"الخمر ما خامر العقل"؟ كأن مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيُحمَل
قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر
خمرًا، فقال أبو بكر ابن الأنباري: سميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، قال: ومنه قولهم: خامره الداء؛ أي: خالطه. وقيل: لأنها تخمر العقل؛ أي: تستره، ومنه الحديث:"خَمِّروا آنيتكم"، ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول؛ لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية. وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُخمَّر حتى تُدرِك، كما يقال: خَمّرت العجين، فتَخمَّر؛ أي: تركته حتى أدرك، ومنه خمرت الرأي؛ أي: تركته حتى ظهر وتحرر. وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تَغلِي، ومنه حديث المختار بن فلفل، قلت لأنس: الخمر من العنب، أو من غيرها؟ قال:"ما خمّرت من ذلك، فهو الخمر"، أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها؛ لثبوتها عن أهل اللغة، وأهل المعرفة باللسان.
قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة؛ لأنها تُركت حتى أَدركت، وسكنت، فإذا شُربت خالطت العقل، حتى تغلب عليه، وتغطيه.
وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره، على صحتها وكثرتها، تُبطل مذهب الكوفيين القائلين: بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسُّنَّة الصحيحة، وللصحابة؛ لأنهم لما نزل تحريم الخمر، فهموا من الأمر باجتناب الخمر، تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يُسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولا استفصلوا، ولم يُشكِل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد، لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم؛ لِمَا كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلمّا لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصًّا، فصار القائل بالتفريق سالكًا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر رضي الله عنه بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرًا، لزم تحريم قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك، ثم ذكرها، قال:
وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف، فلا يصح منها شيء، على ما قال عبد الله بن المبارك، وأحمد، وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها، فهو محمول على نقيع الزبيب، أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار؛ جمعًا بين الأحاديث.
قال الحافظ: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في حديث سهل بن سعد الساعديّ أن أبا أسيد الساعديّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لعُرسه، فأنقعت امرأته له تمرات من الليل في تور، فسقته منه، ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب، أول ما يعصر، وإنما الخلاف فيما اشتدّ منهما، هل يفترق الحكم فيه أو لا، وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين، في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يُتخذ من العنب، مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم، وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يُتخذ من العنب، مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة، فنقل عن المزني، وابن أبى هريرة، وأكثر الأصحاب: أن الجميع يسمى خمرًا حقيقة، قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان: أبو الطيب، والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر، إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه، وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه، وقد نقل ابن المنذر، عن الشافعي، ما يوافق ما نقلوا عن المزني، فقال: قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب عمر، وعلي، وسعيد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة، والحسن، وسعيد بن جبير، وآخرون، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث.
ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة، يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، وقد أجاب بهذا ابن عبد البر، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي، دون اللغوي، والله أعلم.
قال الحافظ: وقد قدمت في "باب نزول تحريم الخمر، وهو من البُسر" إلزام من قال بقول أهل الكوفة: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، أنه يلزمهم أن يجوّزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه؛ لأن الصحابة لَمّا بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يُطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازًا، وإذا لم يجوّزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العنان، والتسليم أن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة، فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية، فالكل خمر حقيقة؛ لحديث:"كلُّ مسكر خمر"، فكلُّ ما اشتد كان خمرًا، وكل خمر يَحْرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم. وبالله تعالى التوفيق. انتهى من "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، فاغتنمه تَسعَد، والله تعالي أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7521]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أمَّا بَعْدُ أيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَثَلَاثٌ، أيُّهَا النَّاسُ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم تقدّموا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7522]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ (ح)، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
(1)
"الفتح" 12/ 615 - 619، "كتاب الأشربة" رقم (5588).
حَيَّانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عُلَيَّةَ فِي حَدِيثِهِ: الْعِنَبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى: الزَّبِيبِ، كمَا قَالَ ابْنُ مُسْهِرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: أما رواية ابن عليّة عن أبي حيّان، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3669)
- حدّثنا أحمد بن حنبل، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أبو حيّان، حدّثني الشعبيّ، عن ابن عمر، عن عمر، قال:"نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمرُ ما خامر العقل، وثلاثٌ ودِدتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا، حتى يَعْهَد إلينا فيهنّ عهدًا ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا". انتهى.
وأما رواية عيسى بن يونس عن أبي حيّان، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، مقرونًا بعبد الله بن إدريس، ويحيى بن عبد الملك، فقال:
(12191)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عيسى بن يونس، وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبي حيّان، وهو يحيى بن سعيد التيميّ، عن الشعبيّ، عن ابن عمر قال: سمعت عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من الخمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمرُ ما خامر العقل، وثلاثٌ أيها الناس ودِدتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يَعْهَد إلينا فيهنّ عهدًا يُنتَهَى إليه: الكلالة، والجدّ، وأبواب من أبواب الربا". انتهى
(1)
.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 245.
(8) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ})[الحج: 19]
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7523]
(3033) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا، إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ [10]، تقدم في "القسامة" 4/ 4365.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ المذكور في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو هَاشِمٍ) الرُّمّانيّ -بضمّ الراء، وتشديد الميم- يحيى بن دينار، وقيل: ابن الأسود، وقيل: ابن أبي الأسود، وقيل: ابن نافع الواسطيّ، ثقةٌ [6].
رأي أنسًا، روى عن أبي وائل، وأبي مجلز، وأبي العالية، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وأبي قِلابة، وغيرهم.
وروى عنه منصور بن المعتمر، وهو من أقرانه، والثوريّ، وشعبة، وقيس بن الربيع، والحمادان، وشعيب بن ميمون، وهشيم، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: كان فقيهًا صدوقًا، وذكره ابن سعد في تسمية من كان بواسط من الفقهاء والمحدثين، وقال: كان صدوقًا، وقال ابن عبد البرّ: لم يختلفوا في أن اسمه يحيى، وأجمعوا على أنه ثقة.
قال الجامع عفا الله عنه: أما قول ابن حبّان في "الثقات": أبو هاشم الرمانيّ اسمه يحيى بن أبي الأسود، واسم أبي الأسود: بشر، وقيل: دينار، كان يخطئ، يُعتَبر حديثه، إذا كان من رواية الثقات، لا من رواية الضعفاء؛
لأنه صدوق لم يكن سبب موهن به غير الخطأ، والخطأ متى لم يفحش لم يستحقّ صاحبه الترك. انتهى.
ففيه نظر لا يخفى، فقد سمعت أن الأئمة: أحمد، وابن معين، وأبا زرعة، والنسائيّ، وغيرهم اتّفقوا على توثيقه، وقال ابن عبد البرّ: وأجمعوا على توثيقه، فكيف يقول ابن حبّان: كان يُخطئ؟ إلى آخر كلامه، فهذا من العجائب، وأعجب منه سكوت الحافظ في "تهذيبه" عليه، ولم يعلّق عليه شيئًا، والله تعالى المستعان.
قال عبد الحميد بن بيان الواسطيّ عن أبيه: مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال ابن منجويه: مات سنة خمس وأربعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(أَبُو مِجْلَزٍ) -بكسر الميم، وسكون الجيم- لاحق بن حُميد بن سعيد السَّدوسيّ البصريّ، من كبار [3]، تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1547.
5 -
(قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ) -بضمّ العين المهملة، وتخفيف الموحّدة- الضُّبَعيّ، أبو عبد الله البصريّ مخضرم [2]، تقدم في "فضائل الصحابة" 33/ 6361.
6 -
(أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جُنادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير رحمه الله، تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
شرح الحديث:
(عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) الضبعيّ؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ) رضي الله عنه (يُقْسِمُ) بضمّ أوله، من الإقسام، وهو الحلف؛ أي: يحلف، وقوله:(قَسَمًا) بفتحتين: اسم من الإقسام، (إِنَّ) قوله تعالى:({هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}؛ أي: هذان الفريقان المتنازلان من المؤمنين والمشركين، {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)} [الحج: 19]؛ أي: متنازعان، {اخْتَصَمُوا}؛ أي: تنازعوا {فِي رَبِّهِمْ} ؛ أي: في دين ربهم، واختلفوا، وتقاتلوا، كلّ على نَصْر دينه، والخصم في الأصل مصدر، فيوحّد، ويذكّر غالبًا، كقوله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} [ص: 21]، ويجوز أن يثنّى، ويُجمع، ويؤنث، كهذه الآية، ولمّا
كان كلّ خصم فريقًا يجمع طائفة قال: {اخْتَصَمُوا} بصيغة الجمع، كقوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، فالجمع مراعاة للمعنى، وقال في "الكشّاف": الخصم صفة وُصف بها الفوج، أو الفريق، فكأنه قيل هذان فوجان، أو فريقان يختصمان، وقوله:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)} نظرًا للّفظ، و {اخْتَصَمُوا} نظرًا للمعنى، قال في "الدرّ": إن عنى بقوله: إن الخصم صفة بطريق الاستعمال المجازيّ فمسلّم؛ لأن المصدر يكثر الوصف به، وإن أراد أنه صفة حقيقة فخطؤه ظاهر؛ لتصريحهم بأن رجل خصم مثل رجل عدل. انتهى من "شرح القسطلانيّ"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "هذان" إشارة إلى الفريقين اللذين ذكرهما أبو ذرّ رضي الله عنه، وهما: عليّ، وحمزة، وعُبيدة، وهم المؤمنون، والفريق الآخر عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، التقيا يوم بدر في أول الحرب، فافتخر المشركون بدينهم، وانتسبوا إلى شركهم، وافتخر المسلمون بالإسلام، وانتسبوا إلى التوحيد، ولمّا خرج المشركون، ودعوا إلى البراز، خرج إليهم عوف ومعوِّذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة الأنصاريّ، فلما انتسبوا لهم قالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد قومنا، فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب، وعُبيدة بن الحارث، وعليّ رضي الله عنهم، فأمّا حمزة وعليّ فلم يُمهلا صاحبيهما، فقتلاهما، واختَلَفت بين عُبيدة وشيبة ضربتان، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة، وعليّ على شيبة، فقتلاه، واحتملا صاحبيهما، فمات من جرحه ذلك بالصفراء عند رجوعه.
وقال قتادة: هم: أهل الكتاب، افتخروا بسبق دينهم، وكتابهم، فقال المسلمون: كتابنا مهيمن على الكتب، ونبيّنا خاتم الأنبياء.
وقال مقاتل: أهل الملل في دعوى الحق.
وقوله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19]؛ أي: أُعدّت، كما يقطع
(1)
راجع: "الكوكب الوهّاج" 26/ 557 - 558.
من الثوب القميص، والسراويل، كما قال تعالى:{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)} [إبراهيم: 50]، فأُلبسوا والله ثيابًا العري خير منها، كما أُطعموا طعامًا، وسُقوا شرابًا، الجوع والظمأ خير منهما.
وقوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)} [الحج: 20] أي: يقطع به، ويُنضج، ويُذاب. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنَّهَا) تأكيد، (نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا)؛ أي: ظهروا لملاقاة أعدائهم (يَوْمَ بَدْرٍ)؛ أي: يوم غزوة بدر، وهو بفتح، فسكون: موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، ويقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا، على منتصف الطريق تقريبًا، وعن الشعبيّ أنه اسم بئر هناك، قال: وسُمِّيت بَدْرًا؛ لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بَدْرٌ، وقال الواقِديُّ: كان شيوخ غفار يقولون: بدر ماؤنا، ومنزلنا، وما مَلَكَه أحد قبلنا، وهو من ديار غفار
(2)
.
(حَمْزَةُ) بن عبد المطّلب بن هاشم (وَعَلِيُّ) بن أبي طالب (وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عبد المطّلب، (وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، ابْنَا رَبِيعَةَ) بن عبد شمس، (وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ) بن ربيعة المذكور قبله.
وفي رواية للبخاريّ: "نزلت في ستة من قريش"؛ يعني: ثلاثة من المسلمين، من بني عبد مناف، اثنين من بني هاشم، وواحد من بني المطلب، وثلاثة من المشركين، من بني عبد شمس بن عبد مناف.
[تنبيه]: لم يقع في هذه الرواية تفصيل المبارزين، وذكر ابن إسحاق أن عُبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة كانا أسنّ القوم، فبرز عُبيدة لعتبة، وحمزة لشيبة، وعليّ للوليد.
وعند موسى بن عقبة: برز حمزة لعتبة، وعُبيدة لشيبة، وعليّ للوليد، ثم اتفقا: فقتل عليّ الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختَلَف عُبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عُبيدة، فمات منها لمّا رجعوا بالصفراء، ومال حمزة وعليّ إلى الذي بارز عُبيدة، فأعاناه على قتله.
(1)
"المفهم" 7/ 363 - 364.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 38.
وعند الحاكم من طريق عبد خير، عن عليّ رضي الله عنه مثل قول موسى بن عقبة، وعند أبي الأسود، عن عروة مثله.
وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلماني أن شيبة لحمزة، وعُبيدة لعتبة، وعليًّا للولِيد، ثم قال الليث: إن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: قال بعض من لقيناه: اتفقت الروايات على أن عليًّا للوليد، وإنما اختَلَفت في عتبة وشيبة أيهما لعُبيدة وحمزة، والأكثر على أن شيبة لعُبيدة.
قال الحافظ: وفي دعوى الاتفاق نظر، فقد أخرج أبو داود من طريق حارثة بن مُضرِّب عن عليّ قال: تقدم عتبة، وتبعه ابنه وأخوه، فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قُم يا حمزة، قم يا عليّ، قم يا عبيدة"، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عُبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم مِلْنا على الوليد، فقتلناه، واحتملنا عُبيدة، قال: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السِّيَر من أن الذي بارزه عليّ هو الوليد هو المشهور، وهو اللائق بالمقام؛ لأن عُبيدة وشيبة كانا شيخين، كعتبة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد، فكانا شابين، وقد روى الطبرانيّ بإسناد حسن عن عليّ قال: أعنت أنا وحمزة عُبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يَعِب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك علينا، وهذا موافق لرواية أبي داود، فالله تعالى أعلم
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ، فقال: أخرجه البخاريّ عن أبي مِجلز، عن قيس، عن عليّ رضي الله عنه:"أنا أول من يجثو للخصومة"، قال قيس: وفيهم نزلت الآية، ولم يجاوز به قيسًا، ثم قال البخاريّ: وقال عثمان، عن جرير، عن منصور، عن أبي هاشم،
(1)
"الفتح" 34، "كتاب المغازي" رقم (3965).
عن أبي مِجلز قولَهُ، قال الدارقطنيّ: فاضطرب الحديث. انتهى.
قال النوويّ: لا يلزم من هذا ضَعف الحديث، واضطرابه؛ لأن قيسًا سمعه من أبي ذرّ، كما رواه مسلم هنا، فرواه عنه، وسمع من عليّ بعضه، وأضاف إليه قيس ما سمعه من أبي ذرّ، وأفتى به أبو مجلز تارةً، ولم يقل: إنه من كلام نفسه ورأيه، وقد عَمِلت الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بعدَهم بمثل هذا، فيفتي الإنسان منهم بمعنى الحديث عند الحاجة إلى الفتوى دون الرواية، ولا يرفعه، فإذا كان وقت آخر، وقصد الرواية رفعه، وذكر لفظه، وليس في هذا اضطراب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو جواب مقبول، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7523 و 7524](3033)، و (البخاريّ) في "المغازي"(3966 و 3968 و 3969) و"التفسير"(4743)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2862)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 410)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 357)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 149)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 292)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 65)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 416)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 418 و 419)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 276 و 9/ 130)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): بيان جواز المبارزة خلافًا لمن أنكرها، كالحسن البصريّ، وشَرَط الأوزاعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق للجواز إذن الأمير على الجبش.
3 -
(ومنها): بيان جواز إعانة المبارِز رفيقه.
4 -
(ومنها): بيان فضيلة ظاهرة لحمزة، وعليّ، وعُبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[7524]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي
هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ، لَنَزَلَتْ:{هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج: 19] بِمِثْلِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلهم تقدّموا قريبًا. و"وكيع" هو: ابن الجرّاح. و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ. و"سفيان" هو الثوريّ.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ)؛ يعني: أن كلًّا من وكيع، وعبد الرحمن بن مهديّ رويا هذا الحديث عن سفيان الثوريّ.
[تنبيه]: أما رواية وكيع عن سفيان الثوريّ عن أبي هاشم، فقد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(36683)
- حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي هاشم الواسطيّ، عن أبي مِجلز، عن قيس بن عُباد، قال: سمعت أبا ذرّ يُقسم، أُنزلت هؤلاء الآيات في هؤلاء الرهط الستة، يوم بدر: عليّ، وحمزة، وعُبيدة بن الحارث، وعتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . انتهى
(1)
.
وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن أبي هاشم، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(8203)
- أخبرنا محمد بن بشار، قال: أنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مِجلز، عن قيس بن عُباد، قال: سمعت أبا ذرّ يُقسم قَسَمًا، لقد أُنزلت هذه الآية:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في عليّ، وحمزة، وعُبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، اختصموا يوم بدر. انتهى
(2)
.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة -عفا الله عنه وعن والديه-:
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 357.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 58.
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الخامس والأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم -المسمَّى- البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" في الثلث الأخير من ليلة الخميس وهي السادسة عشرة من شهر ذي الحجة المبارك
(1)
(16/ 12/ 1433 هـ الموافق 1/ نوفمبر - تشرين الثاني / 2012 م).
وكان ذلك في مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.
[تنبيه]: إن من حسن حظي أن ذلك الوقت وقت نزول الربّ تبارك وتعالى، كما صحّ بذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يتنزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له"، متّفق عليه.
فأسألك اللَّهُمَّ أن تجعل هذا الكتاب خالصًا لوجهك الكريم، ومقبولًا مرضيًّا عندك وعند طلّاب العلم أجمعين، وسببًا للفوز بجنّات النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال الجامع عفا الله عنه: ينبغي لي أن أختم كتابي هذا بذكر حديث كفّارة المجلس المشهور الذي ينبغي للعبد أن يختم مجلسه به، مع ذكر سندي فيه، فأسوقه من رواية الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه"، فأقول:
أخبرني والدي العلامة النحرير، والدرّاكة الكبير عليّ بن آدم، والعلامة النحويّ عبد الباسط بن محمد بن حسن، والعلامة المقرئ حياة بن علي رحمهم الله تعالى إجازةً، كلهم عن العلامة المقرئ المحدث كبير أحمد بن عبد الرحمن الْعَدّيّ الحسنيّ الدّويّ، عن العلامة عبد الجليل بن يحيى الدّلّتّيّ، عن والده يحيى بن بشير الدلّتّيّ، عن والده بشير الدّلّتّيّ، عن المفتي داود بن أبي بكر الدّوّويّ، عن السيد سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن السيد
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة (24) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
أحمد بن محمد مقبول الأهدل، عن خاله عماد الدين يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن عليّ البطاح الأهدل، عن عمه يوسف بن محمد البطاح الأهدل، عن الطاهر بن حسين الأهدل، عن وجيه الدين عبد الرحمن بن عليّ الديبع الشيبانيّ، عن زين الدين الشرجيّ، عن نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلويّ، عن والده، وشيخه موفّق الدين علي بن أبي بكر بن شدّاد، كلاهما عن أحمد بن أبي الخير الشماخي، عن والده، عن شرف الدين أبي بكر بن أحمد بن محمد الشراحيّ اليمنيّ، عن الصالح مكين الدين زاهر بن رسم بن أبي الرجاء الأصفهانيّ، عن أبي الفتح عبد الملك بن عبد الله الهرويّ الكروخيّ، عن المشايخ الثلاثة. . .
(ح) وأخبرني شيخي العلامة المحدّث محمد بن رافع بن بصيري، عن شيخه محمد بن محمد أمين خير الباكستاني، نزيل مكة، عن محمد يحيى الكاندهلويّ، عن رشيد أحمد الجنجوهي، عن عبد الغنيّ المجددي، عن محمد إسحاق الدهلويّ المكيّ، عن عبد العزيز الدهلويّ، عن والده الشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلويّ، عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكرديّ المدنيّ، عن والده إبراهيم حسن الكرديّ المدنيّ، عن أبي العزائم سلطان بن أحمد المزّاحيّ، عن الشهاب أحمد بن خليل السبكيّ، عن النجم الغيطيّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن العزّ عبد الرحيم بن محمد بن الفرات القاهريّ، عن أبي حفص عمر بن حسن المراغيّ، عن الفخر بن البخاريّ، عن عمر بن طبرد البغداديّ، عن أبي الفتح عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل الهروي الكروخيّ، عن أبي عامر محمود بن القاسم بن محمد الأزديّ، وأبي نصر عبد العزيز بن محمد الترياقيّ، وأبي بكر أحمد بن عبد الصمد التاجر الْغُورَجيّ، قالوا: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد الله الْجَرّاحيّ المروزيّ، عن أبي العباس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبيّ، قال: أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، قال:
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ الْكُوفِيُّ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ، فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكر الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح" بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذا الحديث، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قال رحمه الله تعالى:
وقد ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس: ما أخرجه الترمذي في "الجامع"، والنسائي في "اليوم والليلة"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء"، والحاكم في "المستدرك" كلهم من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس في مجلس، وكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك"، هذا لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي برزة، وعائشة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، على شرط مسلم، إلا أنّ البخاري أعله برواية وهيب، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن كعب الأحبار، كذا قال في "المستدرك"، ووَهِم في ذلك، فليس في هذا السند ذِكر لوالد سهيل، ولا كعب، والصواب عن سهيل، عن عون، وكذا ذكره على الصواب في "علوم الحديث"، فإنه ساقه فيه من طريق البخاري، عن محمد بن سلام، عن مخلد بن يزيد، عن ابن جريج بسنده، ثم قال: قال البخاري: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن
عبد الله، قولَهُ، قال البخاري: هذا أَولى، فإنا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعًا من سهيل. انتهى.
وأخرجه البيهقي في "المدخل" عن الحاكم بسنده المذكور، في "علوم الحديث" عن البخاري، فقال: عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، كلاهما عن حجاج بن محمد، وساق كلام البخاري، لكن قال: لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا الحديث، إلا أنه معلول. وقوله: لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا، هو المنقول عن البخاري، لا قوله: لا أعلم في الدنيا في هذا الباب، فإن في الباب عدة أحاديث، لا تخفى على البخاري، وقد ساق الخليليّ في "الإرشاد" هذه القصة، عن غير الحاكم، وذكر فيها أن مسلمًا قال للبخاري: أتعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا؟ فقال: لا، إلا أنه معلول، ثم ذكره عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن موسى بن عقبة، عن عون بن عبد الله قولَهُ، وهو موافق لِمَا في "علوم الحديث"، في سند التعليل، لا في قوله: في هذا الباب، فهو موافق لرواية البيهقي في قوله: بهذا الإسناد، وكأن الحاكم وَهِمَ في هذه اللفظة، وهي قوله: في هذا الباب، وإنما هي: بهذا الإسناد، وهو كما قال؛ لأن هذا الإسناد، وهو ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، لا يوجد إلا في هذا المتن، ولهذا قال البخاري: لا أعلم لموسى سماعًا من سهيل؛ يعني: أنه إذا لم يكن معروفًا بالأخذ عنه، وجاءت عنه رواية خالف راويها، وهو ابن جريج، من هو أكثر ملازمة لموسى بن عقبة منه، رُجّحت رواية المُلازِم، فهذا يوجبه تعليل البخاري.
وأما من صححه، فإنه لا يرى هذا الاختلاف علة قادحة، بل يُجَوّز أنه عند موسى بن عقبة على الوجهين. وقد سبق البخاريَّ إلى تعليل هذه الرواية أحمد بن حنبل، فذكر الدارقطني في "العلل" عنه أنه قال: حديث ابن جريج وَهَمٌ، والصحيح قول وهيب: عن سهيل، عن عون بن عبد الله، قال الدارقطني: والقول قول أحمد، وعلى ذلك جرى أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، قال ابن أبي حاتم في "العلل": سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث؟ فقالا: هذا خطأ، رواه وهيب، عن سهيل، عن عون بن عبد الله
موقوفًا، وهذا أصح، قال أبو حاتم: يَحْتَمِل أن يكون الوهم من ابن جريج، ويَحتمل أن يكون من سهيل. انتهى.
قال الحافظ: وقد وجدناه من رواية أربعة عن سهيل، غير موسى بن عقبة، ففي "الأفراد" للدارقطني، من طريق عاصم بن عمرو، وسليمان بن بلال، وفي "الذكر" لجعفر الفريابي، من طريق إسماعيل بن عياش، وفي "الدعاء" للطبراني من طريق محمد بن أبي حميد، أربعتهم عن سهيل، والراوي عن عاصم، وسليمان هو الواقدي، وهو ضعيف، وكذا محمد بن أبي حميد، وأما إسماعيل، فإن روايته عن غير الشاميين ضعيفة، وهذا منها، وقد قال أبو حاتم: هذه الرواية ما أدري ما هي، ولا أعلم رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في شيء من طريق أبي هريرة، إلا من رواية موسى، عن سهيل. انتهى.
وقد أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء" من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعًا، وعن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد المقبري، عن عبد الله بن عمرو موقوفًا.
وذكر شيخ الإسلام، أبو الفضل، عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ في "النكت" التي جمعها على "علوم الحديث" لابن الصلاح: أن هذا الحديث ورد من رواية جماعة من الصحابة، عِدَّتهم سبعة زائدة على من ذكر الترمذي، وأحال ببيان ذلك على تخريجه لأحاديث "الإحياء".
قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه، فوجدته من رواية خمسة آخرين، فكملوا خمسة عشر نفسًا، ومعهم صحابي لم يُسَمَّ، فلم أضفه إلى العدد؛ لاحتمال أن يكون أحدهم، وقد خرّجت طرقه فيما كتبته على "علوم الحديث"، وأذكره هنا ملخصًا، وهم:
عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه عند الطبراني في "المعجم الكبير"، أخرجه موقوفًا، وعند أبي داود أخرجه موقوفًا، كما تقدم التنبيه عليه، وأبو برزة الأسلمي، وحديثه عند أبي داود، والنسائي، والدارمي، وسنده قوي، وجبير بن مطعم، وحديثه عند النسائي، وابن أبي عاصم، ورجاله ثقات، والزبير بن العوام، وحديثه عند الطبراني في "المعجم الصغير"، وسنده ضعيف،
وعبد الله بن مسعود، وحديثه عند ابن عدي في "الكامل"، وسنده ضعيف، والسائب بن يزيد، وحديثه عند الطحاوي في "مشكل الآثار"، والطبراني في "الكبير"، وسنده صحيح، وأنس بن مالك، وحديثه عند الطحاوي، والطبراني، وسنده ضعيف، وعائشة، وحديثها عند النسائي، وسنده قوي، وأبو سعيد الخدري، وحديثه في "كتاب الذكر" لجعفر الفريابي، وسنده صحيح، إلا أنه لم يصرح برفعه، وأبو أمامة، وحديثه عند أبي يعلى، وابن السني، وسنده ضعيف، ورافع بن خديج، وحديثه عند الحاكم، والطبراني في "الصغير"، ورجاله كل موثوقون، إلا أنه اختُلف على راويه في سنده، وأبي بن كعب، ذكره أبو موسي المديني، ولم أقف على سنده، ومعاوية، ذكره أبو موسى أيضًا، وأشار إلي أنه وقع في بعض رواته تصحيف، وأبو أيوب الأنصاري، وحديثه في "الذكر" للفريابي أيضًا، وفي سنده ضَعف يسير، وعلي بن أبي طالب، وحديثه عند أبي علي بن الأشعث، في "السنن" المروية عن أهل البيت، وسنده واه، وعبد الله بن عمر، وحديثه في "الدعوات" من "مستدرك الحاكم"، وحديث رجل من الصحابة لم يُسَمَّ، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من طريق أبي معشر زياد بن كليب، قال: حدثنا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ورجاله ثقات.
ووقع مع ذلك من مراسيل جماعة من التابعين، منهم الشعبي، وروايته عند جعفر الفريابي في "الذكر"، ويزيد الفقير، وروايته في "الكنى" لأبي بشر الدولابي، وجعفر أبو سلمة، وروايته في "الكنى" للنسائي، ومجاهد، وعطاء، ويحيى بن جعدة، ورواياتهم في زيادات البر والصلة، للحسين بن الحسن المروزي، وحسان بن عطية، وحديثه في ترجمته في "الحلية" لأبي نعيم، وأسانيد هذه المراسيل جياد، وفي بعض هذا ما يدل على أن للحديث أصلًا، قال: وقد استوعبت طرقها، وبيَّنت اختلاف أسانيدها، وألفاظ متونها فيما علّقته على "علوم الحديث" لابن الصلاح، في الكلام على الحديث المعلول.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: ورأيت ختم هذا "الفتح" بطريق من طرق هذا الحديث، مناسبة للختم، أسوقها بالسند المتصل العالي بالسماع والإجازة، إلى منتهاه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا أيضًا أصل سندي بالحافظ رحمه الله تعالي في هذا الحديث؛ اقتفاء لأثر المحدثين، وإحياء لسنتهم، فأقول:
أخبرني إجازةً الشيخ المسند الكبير محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكيّ، عن الشيخ عمر بن حمدان المحرسيّ، والشيخ علي بن فالح الظاهريّ المدنيّ، ثم المكيّ، كلاهما عن والد الثاني، فالح بن محمد الظاهريّ، عن السيد محمد بن علي السنوسيّ المكيّ، عن المعمر أبي المواهب المازونيّ، عن المسند المنلا إبراهيم بن حسن الكورانيّ المدنيّ، عن أحمد بن محمد المدنيّ الشهير بالْقُشَاشيّ، عن محمد بن أحمد الرمليّ، عن الزين زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن عليّ العسقلانيّ، قال:
قرأت على الشيخ الإمام العدل المسند المكثر الفقيه، شهاب الدين، أبي العباس أحمد بن الحسن بن محمد بن محمد بن زكريا القدسي الزينبي، بمنزله ظاهر القاهرة، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر الأيوبي، أنبأنا إسماعيل بن عبد المنعم بن الخيمي، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن أحمد بن باقا، أنبأنا أبو زرعة، طاهر بن محمد بن طاهر، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد. . .
(ح) وقرأته عاليًا على الشيخ الإمام المقرئ المفتي العلامة، أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن بن كامل، عن أيوب بن نعمة النابلسي، سماعًا عليه، أنبأنا إسماعيل بن أحمد العراقي، عن عبد الرزاق بن إسماعيل القومسي، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد الدُّونيّ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحسين الكسار، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق، الحافظ المعروف بابن السني، أنبأنا أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب النسائي، أنبأنا محمد بن إسحاق، هو الصغاني، حدثنا أبو مسلم، منصور بن سلمة الخزاعي، حدثنا خلاد بن سليمان، هو الحضرمي، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جلس مجلسًا، أو صلى تكلم بكلمات، فسألته عن ذلك؟ فقال: إن تكلم بكلام خير كان طابعًا عليه -يعني: خاتمًا عليه إلى يوم القيامة-، وإن تكلم بغير ذلك، كانت كفارة له: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". انتهى.
وبهذا انتهى الشرح المبارك -إن شاء الله تعالى- أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكل من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
"سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *