المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(83) - (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٥

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

(83) - (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18]، وهل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رَبّهُ لَيْلَةَ الإسْرَاءِ؟)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[439]

(174) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ

(1)

الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثنا عَبَّاد، وَهُوَ ابْنُ الْعَوَّام، حَدَّثنا

(2)

الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَألتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللهِ عز وجل: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 9]، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10]، (ت 234)، (خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عمر بن عبد الله بن المنذر بن مُصْعَب بن جَنْدَل الْكِلابيّ مولاهم، أبو سَهْل الواسطيّ، ثقةٌ [8].

رَوَى عن حميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وسعيد الْجُرَيريّ، وأبي مسلمة، سعيد بن يزيد، وابن عَون، وعوف الأعرابيّ، وحُصين بن عبد الرحمن، وسعيد بن أبي عروبة، وأبي مالك الأشجعيّ، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وغيرهم.

ورَوى عنه أحمد بن حنبل، وابنا أبي شيبة، وسعيد بن سليمان الواسطيّ، وأبو الربيع الزَّهْرانيّ، وعليّ بن مسلم، وعمران بن ميسرة، ومحمد بن عيسى بن الطّبّاع، ومحمود بن خِدَاش، ومحمد بن الصبّاح الدُّولابيّ، وحَدَّث عنه

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا أبو الربيع".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 5

إسماعيل ابن عُلَيَّة، وهو من أقرانه، وأحمد بن مَنِيع، وعَبّاد بن يعقوب، وغيرهم.

قال الحسن بن عَرَفة: سألني وكيع عنه أتُحَدِّث عنه؟ فقلت: نعم، قال: ليس عندكم أحد يُشبهه، وقال الفضل بن زياد، عن أحمد: كان يُشْبه أصحاب الحديث، وقال الأثرم، عن أحمد: مُضْطَرب الحديث، عن سعيد بن أبي عروبة، وقال ابن معين، والعجليّ، وأبو داود، والنسائيّ، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وقال ابن سعد: كان يَتَشيَّع، فأخذه هارون، فحَبَسه، ثم خَلَّى عنه، فأقام ببغداد، ومات سنة خمس وثمانين ومائة، وكذا أَرَّخَه غير واحد، وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ: مات سنة ثلاث، وقال حاتم بن الليث، عن سعيد بن سليمان: حدّثنا عبّاد بن العوّام، وكان من نُبَلاء الرجال في كل أمره، ومات سنة سِتّ، وكذا أَرَّخه أبو موسى الْعَنَزيّ، وأبو أمية، وقال أسلم الواسطيّ: مات سنة (87).

وقال ابن سعد: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وَوَثَّقَه البزار، وقال الْقَرَّابُ: وُلد سنة (118).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا (174) و (513): "يصلي، وأنا حذاءه

"، وأعاده، و (555): "يصلي في النعلين؟ قال: نعم"، و (1005): "كلُّ معروف صدقة"، و (1101): "إذا رأيتم الليل قد أقبل

"، و (1590): "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الفضّة بالفضّة

"، و (1623): "أفعَلْتَ هذا بولدك كلّهم

؛ ".

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان فَيْرُوز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت في حدود 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

4 -

(زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ) بن حُبَاشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقةٌ جليلٌ مخضرم [2](ت 1 أو 2 أَو 83) وهو (127)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 247.

والصحابيّ تقدّم في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 6

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فبصريّ، ثم بغداديّ، وعبّاد، فواسطيّ.

4 -

(ومنها): أن عبّاد بن العوّام هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وقد مرّ آنفًا عدد ما له فيه من الأحاديث.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخَضْرَم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي إسحاق الشَّيْبَانِيِّ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ) بكسر الزاي، وتشديد الراء (بْنَ حُبَيْشٍ) بضمّ الحاء المهملة، آخره شين معجمة، مصغّرًا (عَنْ قَوْلِ اللهِ عز وجل أي عن المعنى المراد به ({فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ})، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي فاقترب جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لَمّا هَبَط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قابُ قوسين، أي بقدرهما إذا مُدّا، قاله مجاهد، وقتادة، وقد قيل: إن المراد بذلك بُعْدُ ما بين وتد القوس إلى كَبِدِها، وقوله:({أَوْ أَدْنَى})، هذه الصيغة تُستعمل في اللغة لإثبات المخبَر عنه، ونفي ما زاد عليه، كقوله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} الآية [البقرة: 74]: أي ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها، أو تزيد عليها في الشدّة والقَسْوة، وكذا قوله تعالى:{يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الآية [النساء: 77]، وقوله:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]: أي ليسوا بأقلّ منها، بل هم مائة ألف حقيقةً، أو يزيدون عليها، فهذا تحقيقٌ للمُخْبَر به، لا شكّ ولا تردّد، فإن هذا ممتنع ها هنا، وهكذا هو في الآية:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} . انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": "القاب": ما بين القبضة والسِّيَة من القوس، قال

(1)

"تفسير ابن كثير" 13/ 254.

ص: 7

الواحديّ: هذا قول جمهور المفسرين إن المراد: القوس التي يُرْمَى بها، قال: وقيل: المراد بها الذراع؛ لأنه يقاس بها الشيء.

قال الحافظ: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"القاب": القَدْرُ، والقوسين: الذراعان، ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يُرْمَى بها لم يُمَثّل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلًا: قابَ رُمْح، أو نحو ذلك، وقد قيل: إنه على القلب، والمراد: قابَ قَوْسٍ؛ لأن القاب ما بين الْمَقْبِض إلى السِّيَة، فلكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته.

وقوله: {أَوْ أَدْنَى} أي أقرب، قال الزجاج: خاطب الله العرب بما أَلِفُوا، والمعنى: فيما تقدرون أنتم عليه، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه، لا تَرَدُّد عنده، وقيل:"أَوْ" بمعنى "بَلْ " والتقدير: بل هو أقرب من القدر المذكور.

وقال الألوسيّ رحمه الله: {فَكَانَ} أي جبريل؛ من النبيّ صلى الله عليه وسلم {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي قَوْسَي العرب؛ لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، و"القاب"، وكذا "القِيب"، و"القَاد"، و"القِيد"، و"القِيس": المقدار، وقرأ زيد بن عليّ:"قاد"، وقُرئ:"قِيد"، و"قدر"، وقد جاء التقدير بالقوس، كالرمح، والذراع، وغيرهما، ويقال على ما بين مَقبِض القوس وسيتها، وهي ما عُطف من طرفيها، فلكلّ قوس قابان، وفُسّر به هنا، قيل: وفي الكلام عليه قلبٌ، أي فكان قابي قوس.

وفي "الكشف": لك أن تقول: قابا قوس، وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد، والحسن: أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها، ولا حاجة إلى القلب عليه أيضًا، فإن هذا على ما قال الخفاجيّ إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهليّة تفعله إذا تحالفوا، فإنهم كانوا يُخرجون قوسين، ويُلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقًا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد، ثم يَنزعهما معًا، ويرمون بهما سهمًا واحدًا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يُمكن خلافه.

وعن ابن عبّاس: القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال، وإليه ذهب أبو

ص: 8

رزين، وذكر الثعلبيّ أنه من لغة الحجاز، وأيًّا ما كان فالمعنى على حذف مضاف: أي فكان ذا قاب قوسين، فكأنه قيل: فكان قريبًا منه.

وقوله: {فَأَوْحَى} أي جبريل؛ {إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أتى بالضمير، وإن لم يَجْرِ له تعالى ذكر؛ لكونه في غاية الظهور، ومثله كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} الآية [فاطر: 45]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]{مَا أَوْحَى} أي الذي أوحاه، والضمير المستتر لجبريل؛ أيضًا، وإبهام الموحَى به؛ للتفخيم، فهذا نظير قوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} الآية [طه: 78]، وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل، أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مرويّ عن الحسن، وهو الأحسن، وقيل: ضمير {أَوْحَى} هو الأول والثاني لله تعالى، والمراد بالعبد جبريل عليه السلام. انتهى كلام الآلوسيّ رحمه الله

(1)

.

(قَالَ) زِرّ (أَخْبَرَنِي) عبد الله (بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ) عليه السلام، وهذا ظاهره أنه موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، لكن مثل هذا لا يُقال بالرأي، فله حكم الرفع، على أنه جاء التصريح برفعه فيما أخرجه أبو عوانة، وأبو نعيم رحمه الله في "مستخرجيهما"، ولفظ أبي عوانة من طريق النُّفيليّ، عن زهير، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، قال: أتيت زِرّ بن حبيش، وعليّ درّتان، فسألته عن {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ، فقال: حدّثنا عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه رأى جبريل، له ستمائة جناح"

(2)

.

ولفظ أبي نعيم من طريق سليمان بن داود الهاشميّ، عن عبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ، قال: سألت زِرّ بن حُبَيش عن قول الله عز وجل: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} ، فقال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل، له ستمائة جناح"

(3)

.

(1)

"روح المعاني" 27/ 48 - 49.

(2)

"مسند أبي عوانة" 1/ 134 رقم الحديث (403).

(3)

"مستخرج أبي نعيم" 1/ 240 رقم الحديث (435).

ص: 9

وقوله: (لهُ سِتُّمِائةِ جَنَاحٍ) جملة في محل نصب علي الحال من جبريل عليه السلام.

و"الْجَناح - بفتح الجيم، وتخفيف النون، آخره حاء مهملة -: يُطلق على معان، قال الفيّوميّ رحمه الله: جَناح الطائر: بمنزلة اليد من الإنسان، والجمع: أَجْنحة. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "الْجَناح": اليد، جمعه: أجنحة، وأَجْنُحٌ، والْعَضُدُ، والإِبْطُ، والجانبُ، ونفسُ الشيء، ومن الدّرّ: نظمٌ يُعَرَّضُ، أو كلُّ ما جعلته في نظام، والْكَنَفُ، والناحيةُ، والطائفةُ من الشيء، ويُضمّ، والرَّوْشَنُ، والْمَنْظَرُ، وفَرَسٌ للْحَوْفَزَانِ بن شَرِيك، وآخر لبني سُليم، وآخر لمحمد بن مَسْلَمَةَ الأنصاريّ، وآخرُ لعُقبة بن أبي مُعيط، واسمٌ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب من هذه المعاني لما هنا: الكَنَفُ، والله تعالى أعلم.

وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه في حمله الآية على أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام، وأنه هو الداني المقترب من محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي ذهب إليه الكثيرون، منهم: أم المؤمنين عائشة، وأبو ذرّ، وأبو هريرة رضي الله عنه، وهو المذهب الراجح؛ لثبوت التصريح به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا كلام مع ما ثبتٌ عنه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[83/ 439 و 440 و 441](174)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3232)، و"التفسير"(4856 و 4857)، و (الترمذي) في "التفسير"(3277)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(358)،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 111.

(2)

"القاموس المحيط"196.

ص: 10

و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6427)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9055)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 203)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 371)، و (البغويّ) في "تفسيره"(4/ 249)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5337)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(402 و 403 و 404)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(435 و 436 و 438)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة الإسراء:

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد": اختلف الصحابة هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصحّ عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة، وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13، 14] إنما هو جبريل، وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله: هل رأيت ربك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نور أنّى أراه؟ "، أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر:"رأيت نورًا"، وقد حَكَى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس قول ابن عباس: إنه رآه مناقضًا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده، وقد صحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت ربي تبارك وتعالى"، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لَمَّا احتَبَسَ عنهم في صلاة المحمبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بَنَى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: نعم، رآه حقًّا، فإن رؤيا الأنبياء حقّ، ولا بدّ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى: إنه رآه بعيني رأسه يقظةً، ومَن حَكَى عنه ذلك فقد وَهِمَ عليه، ولكن قال مرةً: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحُكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة مِن تصرف بعض أصحابه: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك.

وأما قول ابن عباس: إنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً

ص: 11

أُخْرَى (13)} [النجم: 13]، والظاهر أنه مُستنَدُهُ، فقد صَحَّ عنه أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خُلِق عليها، وقول ابن عباس هذا هو مُستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة عقلًا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا، فقال مالك: إنما لم يُرَ سبحانه وتعالى في الدنيا؛ لأنه باق، والباقي لا يُرَى بالفاني، فماذا كان في الآخرة، ورُزِقوا أبصارا باقيةً، رأوا الباقي بالباقي، قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية، إلا من حيث القدرة، فإذا أقْدَر الله مَن شاء من عباده عليها لم يمتنع.

وقال الحافظ: وقع في "صحيح مسلم" ما يؤيد هذه التفرقة، في حديث مرفوع فيه:"واعلموا أنكم لن تَرَوا ربكم حتى تموتوا"، وأخرجه ابن خزيمة أيضًا من حديث أبي أُمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا، فقد امتنعت سَمْعًا، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا عجيب من الحافظ، كيف يحتجّ بقول مُختلَف فيه بين الأصوليين، ويترك النصوص التي جاءت بنفي رؤيته صلى الله عليه وسلم ربّه، كقول عائشة رضي الله عنها:"أنا أوّل من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربّك؟ فقال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا"، وكحديث أبي ذرّ رضي الله عنه: هل رأيت ربّك؟ قال: "لا، نورٌ أنّى أراه؟ "، فهل بعد هذا النصّ يمكن الاستدلال بما قاله بعض الأصوليين؟؛ إن هذا لشيء عُجَاب.

قال: وقد اختَلَفَ السلف في رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه، فذهبت عائشة، وابن مسعود إلى إنكارها، واختُلِف عن أبي ذرّ، وذهب جماعة إلى إثباتها، وحَكَى عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، أنه حَلَفَ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى

(1)

"زاد المعاد" 3/ 36 - 38.

ص: 12

ربه، وأخرج ابن خزيمة، عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذُكِر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجَزَم به كعب الأحبار، والزهريّ، وصا حبه معمر، وآخرون، وهو قول الأشعريّ، وغالب أتباعه.

ثم اختلفوا هل رآه بعينه، أو بقلبه؟ وعن أحمد كالقولين.

قال الحافظ رحمه الله: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقةٌ، وأخرى مقيدةٌ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها.

(فمن ذلك): ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضًا، من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال:"أتعجبون أن تكون الْخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد؟ "، وأخرجه ابن خزيمة بلفظ: "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة

" الحديث، وأخرج ابن إسحاق، من طريق عبد الله بن أبي سلمة، أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس، هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه: أن نعم.

(ومنها): ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية، عن ابن عباس في قوله تعالى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رأى ربه بفؤاده مرتين.

وله من طريق عطاء، عن ابن عباس قال: رآه بقلبه.

وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه.

وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس، ونفي عائشة بأن يُحْمَل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا الكلام في أمرين:

(الأول): أنه حقّق أن الذي ثبتٌ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في إثباته الرؤية إنما هو رؤية القلب، لا رؤية البصر، فإنه لم يثبت عنه ذلك.

(الثاني): أنه يُجمع بين إثباته، وبين نفي عائشة رضي الله عنهم بأنه أثبت الرؤية

ص: 13

القلبيّة، وهي نفت الرؤية البصريّة، فلا تعارض بين مذهبيهما، ويؤيّد هذا ظاهر استدلالها في نفيها الرؤية بآية {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الآية؛ لأنها ظاهرة في نفي إدراك البصر، ولا ينفي ذلك رؤية القلب، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالِمًا بالله تعالى على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه، كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يُشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين.

وروى ابن خزيمة بإسناد قويّ عن أنس رضي الله عنه قال: رأى محمد ربه.

وعند مسلم من حديث أبي ذرّ أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"نور أنَّى أراه؟ "، وفي رواية قال:"رأيت نورًا"، ولابن خزيمة عنه قال:"رآه بقلبه، ولم يره بعينه".

وبهذا يتبين مراد أبي ذرّ بذكره النورَ، أي: النورُ حال بين رؤيته له ببصره.

وقد رجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقوّاه بأنه ليس في الباب دليلٌ قاطعٌ، وغاية ما استُدِلّ به للطائفتين ظواهر متعارضة، قابلة للتأويل، قال: وليست المسألة من العمليات، فيُكْتَفَى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات، فلا يكتَفَى فيها إلا بالدليل القطعيّ

(1)

.

وجَنَحَ ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" إلى ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحَمَلَ ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا

(1)

هذا الذي قاله القرطبيّ من أن المعتقدات لا تثبت بالظنيّات، وسكت عليه الحافظ فيه نظر لا يخفى؛ لأنه مذهب المعتزلة ومن تابعهم حيث يقولون: إن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد، إذ لا تفيد إلا الظنّ، وهو مذهب باطل، مخالف لمذهب السلف، وقد أشبعت الكلام في هذا في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فراجعه تستفد علمًا، والله تعالى أعلم.

ص: 14

وقعت مرتين: مرة بعينه، ومرة بقلبه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يثبُت عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بعينه، إنما ورد ذلك من تفسير بعض الرواة عنه لكلامه، والذي ثبتٌ عنه رضي الله عنه في هذا أحاديث جزم فيها بمطلق الرؤية، وأخرى قيّد فيها الرؤية بأنها بالفؤاد، وقد سبق أن المطلق يُحمل على المقيّد" للأدلّة الأخرى.

والحاصل أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لربه بعينه في الدنيا ليس مما يمتنع عقلًا؛ إذ لو كان ممتنعًا لَمَا سألها موسى عليه السلام، لكن لم يَرِد نصّ صريح بأنه رآه بعين رأسه، بل وردت نصوص دالّة على نفيها، كحديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"نورٌ أنّى أراه؟ "، وحديث بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَعَلَّمُوا

(2)

أنه لن يَرَى أحد ربّه حتى يموت" رواه مسلم، وحديث عائشة رضي الله عنهما: هل رأيت ربّك؟ قال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا"، رواه ابن مردويه، وأصله في مسلم.

وخلاصة المسألة أنه قد تبيّن من مجموع ما سبق من الأدلة أن المذهب الصحيح عدم ثبوت رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه بعينه ليلة الإسراء، وأن ما نُقل عن بعض السلف في ذلك محمول على الرؤية القلبيّة، كما صرّح به ابن عبّاس رضي الله عنهما، وغيره، أنه قال: رآه بفؤاده، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[440]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيّ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11]، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام، لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاث) - بكسر الغين المعجمة، وتخفيف التحتانيّة - ابن

(1)

"الفتح" 8/ 474 - 475 "كتاب التفسير" رقم (4855).

(2)

قوله: "تَعَلَّمُوا" معناه: اعْلَمُوا.

ص: 15

طَلْق بن معاوية النَّخَعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

والباقون تقدّموا قبله، و"الشيبانيّ": هو سليمان بن فَيْروز.

وقوله: ({مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)})، قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: أي لم يَكْذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى، وجعل الله تلك رؤيةً، وقيل: كانت رؤية حقيقة بالصبر، والأول: مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي "صحيح مسلم" أنه رآه بقلبه، وهو قول أبي ذرّ، وجماعة من الصحاب رضي الله عنهم، والثانى: قول أنس، وجماعة. انتهى

(1)

.

و"ما" في قوله: {مَا كَذَبَ} نافية، وفي قوله:{مَا رَأَى} هو موصولة بمعنى "الذي" مفعول به لـ {كَذَبَ} ؛ على قراءة التشديد لأنه يتعدّى بنفسه، والعائد محذوف، أي الذي رآه، ويجوز أن تكون "ما" مصدريّة، أي رؤيته.

وأما على قراءة التخفيف، فـ {مَا} فهو على تقدير "في" الجارّة؛ لأنه يتعدّى بها، أي فيما رآه.

وقال الأَلُوسِيُّ رحمه الله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما قال فؤاده صلى الله عليه وسلم لَمّا رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبًا؛ لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، فهو من قولهم: كَذَب: إذا قال كَذِبًا، فما كذب بمعنى: ما قال الكذب.

وقيل: أي ما كَذَب الفؤاد البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام، وما في عالم الملكوت تُدرك أوّلًا بالقلب، ثم تنتقل منه إلى البصر.

قرأ أبو رجاء، وأبو جعفر، وقتادة، والْجَحْدريّ، وخالد بن إلياس، وهشام عن ابن عامر {مَا كَذَبَ} مشدّدًا، أي صدّقه، ولم يشكّ أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها.

وقال في "الكشف": إنه لَمّا قال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} أي من عند الله تعالى {يُوحَى} ذكر جلّ وعلا ما يُصوّر هذا المعنى، ويُفصّله ليتأكّد أنه وحي،

(1)

"تفسير القرطبيّ" 17/ 92.

ص: 16

وأنه ليس من الشعر، وحديثِ الكُهّان في شيء، فقال: عَلَّمَ صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى:{فَاسْتَوَى} ، وحديث قيامه بصورته الحقيقيّة؛ ليؤكّد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو، فقد رآه بصورة نفسه، وعَرَفه حقَّ معرفته، فلا يشتبه عليه بوجهٍ، وقوله تعالى:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} تتميم لحديث نزوله إليه صلى الله عليه وسلم، وإتيانه بالمنزَّل، وقوله سبحانه وتعالى:{فَأَوْحَى} أي جبريل ذلك الوحي الذي مرّ أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله، وإنما قال سبحانه وتعالى:{مَا أَوْحَى} ، ولم يأت بالضمير؛ تفخيمًا لشأن المنزَّل، وأنه شيء يَجِلّ عن الوصف، فأنَّى يستجيز أحد من نفسه أن يقول: إنه شعر، أو حديث كاهن، وإيثار "عبده" بدل "إليه": أي إلى صاحبكم لإفادة الاختصاص، وإيثار الضمير على الاسم الْعَلَم في هذا المقام؛ لترشيحه، وأنه ليس عبدًا إلا له عز وجل، فلا لبس؛ لشهرته بأنه عبد الله لا غير.

وجاز أن يكون التقدير: فأوحى الله تعالى بسببه، أي بسبب هذا الْمُعَلِّم إلى عبده، ففي الفاء دلالة على المعنى، وهذا وجه أيضًا سديد، ثم قال سبحانه وتعالى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} ، على معنى: أنه لَمّا عرفه، وحقّقه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك، ولو تَصَوَّر بغيو تلك الصورة أنه جبريل، فهذا نظم سِرّيٌّ مَرْعيّ فيه النُّكَت حقَّ الرعاية، مطابق للوجود، لم يُعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.

وهو كلام نفيسٌ، يُرجّح به ما رُوي عن عائشة رضي الله عنهما، الآتي - إن شاء الله تعالى -

(1)

.

والمسائل المتعلّقة بالحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[441]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا

(1)

"روح المعاني" 27/ 49.

ص: 17

شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِه، لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظ [10]، (ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الْوَرد الإمام الثبت الحجة الجِهبذ، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: ({لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}) اللام في جواب قسم محذوف، و {آيَاتِ رَبِّهِ} مفعول {رَأَى} ، و {مِنْ} اسم بمعنى "بعض"، {الْكُبْرَى} صفة لـ {آيَاتِ رَبِّهِ} ، ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحد، كقوله تعالى:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، والتقدير - والله أعلم -: والله لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى، والمراد ببعض الآيات هو: جبريل عليه السلام في صورته الأصليّة التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح.

ويحتمل أن تكون {مِنْ} زائدة، والمراد بالآيات حينئذ: جميع ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ومنه جبريل عليه السلام في صورته الأصلية.

قيل: ويحتمل أن تكون {الْكُبْرَى} صفةً لموصوف محذوف، وقوله:{مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} متعلّقٌ بمحذوف، حالٌ مقدّم من مؤخّر، والتقدير: والله لقد رأى الآية مندرجة في آيات ربّه، وواحدة منها، والمراد بالآية الكبرى: جبريل عليه السلام في صورته الأصليّة، والوجه الأول أولى، والله تعالى أعلم.

وتمام شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 18

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[442]

(175) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِك، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13] قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة أيضًا:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرسيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان، واسمه ميسرة، أبو محمد، ويقال: أبو سليمان، وقيل: أبو عبد الله الْعَرْزَميّ - بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وبالزاي المفتوحة - أحد الأئمة، ثقةٌ

(1)

[5].

رَوَى عن أنس بن مالك، وعطاء بن أبي رَباح، وسعيد بن جبير، وسَلَمة بن كُهَيل، وأنس بن سيرين، ومسلم بن يَنّاق، وابن الزبير، وعبد الله بن عطاء المكيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وابن المبارك، والقطان، وعبد الله بن إدريس، وزهير بن معاوية، وزائدة، وحفص بن غياث، وإسحاق الأزرق، وخالد بن عبد الله، وابن نمير، وعليّ بن مُسْهر، وعيسى بن يونس، وأبو عوانة، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وآخرون.

قال ابن مهديّ: كان شعبة يَعْجَب من حفظه، قال ابن المبارك، عن سفيان: حُفّاظ الناس: إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وذكر جماعة، وقال ابن عيينة، عن الثوريّ: حدثني الميزان، عبد الملك بن

(1)

في "التقريب": صدوق له أوهام. اهـ. والحقّ أنه ثقةٌ على الإطلاق، كما أطلق عليه الأئمة، وإنما تكلّم فيه شعبة لأجل حديث واحد، مع ثنائه عليه، ومن المعلوم تشدّد شعبة في هذا، فلا ينبغي الالتفات إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 19

أبي سليمان، وقال ابن المبارك: عبد الملك ميزان، وقال أبو داود: قلت لأحمد: عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: ثقةٌ، قلت: يُخطئ؟ قال: نعم، وكان من أحفظ أهل الكوفة إلا أنه رَفَع أحاديث عن عطاء، وقال الحسن بن حِبّان: سئل يحيى بن معين عن حديث عطاء، عن جابر في الشفعة، فقال: هو حديث لم يُحَدِّث به أحدٌ إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقةٌ، صدوقٌ، لا يُرَدُّ على مثله، قلت: تكلَّم فيه شعبة؟ قال: نعم، قال شعبة: لو جاء عبد الملك بآخر مثله لرميت بحديثه، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: هذا حديثٌ منكرٌ، وعبد الملك ثقةٌ، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: عبد الملك من الحفاظ، إلا أنه كان يخالف ابنَ جريج، وابنُ جريج أثبت منه عندنا، وقال الميمونيّ، عن أحمد: عبد الملك من أعيان الكوفيين، وقال أمية بن خالد: قلت لشعبة: ما لك لا تُحَدِّث عن عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فَرَرْتُ، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أحمد ويحيى يقولان: عبد الملك بن أبي سليمان ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ضعيفٌ، وهو أثبت في عطاء من قيس بن سَعْد، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيما أحبُّ إليك، عبد الملك بن أبي سليمان، أو ابنُ جريج؟ قال: كلاهما ثقةٌ، وقال ابن عمار الموصليّ: ثقةٌ حجة، وقال العجليّ: ثبتٌ في الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي سليمان: ثقةٌ متقنٌ فقيهٌ، وقال يعقوب بن سفيان أيضًا: عبد الملك فزاريّ، من أنفسهم، ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا ثبتًا، وقال الساجيّ: صدوقٌ، رَوَى عنه يحيى بن سعيد القطان جزءًا ضخمًا، وقال الترمذيّ: ثقةٌ مأمونٌ، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة، وقال: قد كان حدَّث شعبةُ عنه، ثم تركه لحديث الشفعة الذي تفرّد به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وكان من خيار أهل الكوفة، وحفظائهم، والغالب على مَن يَحفَظ، ويحدِّث أن يَهِمَ، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخٍ، ثَبْتٍ، صَحَّتْ عنه السنة بأوهام يَهِم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك حديث الزهريّ، وابن جُريج، والثوريّ، وشعبة؛ لأنهم

ص: 20

أهل حفظ وإتقان، وكانوا يُحدّثون من حفظهم، ولم يكونوا معصومين حتى لا يَهِموا في الروايات، والأولى في مثل هذا قبول ما يَروِي بتثبُّت، وترك ما صح أنه وَهِمَ فيه، ما لم يَفْحُش، فمن غلب خطؤه على صوابه استَحَقَّ الترك. انتهى.

قال الهيثم بن عديّ: مات في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد.

أخرج له البخاري في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.

3 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح - بفتح الراء، والموحّدة - واسم أبي رَبَاح: أسلم، القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضل، لكنه كثير الإرسال [3].

رَوَى عن ابن عباس، وابن عَمْرو، وابن عُمَر، وابن الزبير، ومعاوية، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن السائب المخزومي، وعَقِيل بن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة، ورافع بن خَديج، وأبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وأم هانئ، وأم كرز الكعبية، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه يعقوب، وأبو إسحاق السبيعي، ومجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو الزبير، والحكم بن عتيبة، والأعمش، والأوزاعي، وابن جريج، وعبد الكريم الجزري، وعمرو بن دينار، وابن إسحاق، وعُبيد الله العُمَريّ، ويزيد بن أبي حبيب، ويونس بن عبيد، وجرير بن حازم، وعليّ بن الحكم، وخلق كثير.

قال ابن المديني: هو مولى حَبِيبة بنت مَيْسرة بن أبي خُثَيم. وقال ابن سعد: كان من مُوَلَّدي الْجَنَد، ونشأ بمكة، وهو مولى لبني فِهْر، أو الْجُمَح، وانتهت إليه فتوى أهل مكة، وإلى مجاهد في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء، سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشلّ أعرج، ثم عَمِي بَعْدُ، وكان ثقةً فقيهًا عالِمًا، كثير الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: كان أبو عطاء نُوبِيًّا، وكان يعمل المكاتل، وذَكَرَ فيه ما تقدم من العيوب،

ص: 21

وزاد: وقُطعت يده مع ابن الزبير. وقال ضَمْرة بن ربيعة: سمعت رجلًا يقول: اسم أم عطاء بَرَكة. وقال ابن معين: كان مُعَلّم كُتَّاب. وقال خالد بن أبي نَوْف عن عطاء: أدركت مائتين من الصحابة. وعن ابن عباس أنه كان يقول: تجتمعون إلي يا أهل مكة، وعندكم عطاء؟ وكذا رُوي عن ابن عمر. وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر يقول للناس، وقد اجتمعوا عليه: عليكم بعطاء، هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: ما بقي أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء. وقال عبد العزيز بن أبي حاتم عن أبيه: ما أدركت أحدًا أعلم بالمناسك منه. وقال ابن أبي ليلى: كان عالِمًا بالحج، وكان يوم مات ابن مائة سنة، ورأيته يُفطِر في رمضان، ويقول: قال ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]: إني أطعم أكثر من مسكين، وقال عبد الله بن إبراهيم بن عُمر بن كَيْسان، عن أبيه: أذكر في زمن بني أمية صائحًا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء. وقال ربيعة: فاق عطاءٌ أهلَ مكة في الْفُتُوَّة. وقال قتادة: قال لي سليمان بن هشام: هل بمكة أحدٌ؟ قلت: نعم أقدم رجل في جزيرة العرب عِلْمًا، قال: مَنْ؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. وقال قتادة: إذا اجتمع لي أربعة، لم أُبَالِ مَن خالفهم: الحسن، وسعيد، وإبراهيم، وعطاء، قال: هؤلاء أئمة الأمصار. وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم يُخَيَّل إلينا أنه يُؤَيَّد. وقال عبد الحميد الْحِمَّاني عن أبي حنيفة: ما رأيت فيمن لقيتُ أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي. وقال الدَّيباج

(1)

: ما رأيت مفتيًا خيرًا من عطاء. وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات، وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال سلمة بن كُهيل: ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله إلا ثلاثة: عطاء، ومجاهد، وطاووس. وقال يحيى بن سعيد عن ابن جريج: كان المسجد فراشَ عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاةً. وقال عبد العزيز بن رُفيع: سئل عطاء عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ فقال: إني أستحيي من الله أن يُدَانَ في الأرض برأيي. وقال

(1)

هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان.

ص: 22

علي بن المديني عن يحيى القطّان: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضَرْب. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال محمد بن عبد الرحيم، عن علي ابن المديني: كان عطاء بآخره تركه ابن جريج، وقيس بن سعد. وقال ابن عيينة عن عُمر بن قيس المكي عنه: أعقِلُ مَقْتَل عثمان، وقال أبو حفص الباهلي، عن عمر بن قيس: سألت عطاء: متى وُلدت؟ قال: لعامين خَلَوَا من خلافة عثمان. وذَكَر أحمد بن يونس الضبي أنه وُلد سنة (27). وقال أبو المليح الرَّقّيّ: مات سنة (114). وقال ميمون: ما خَلَّفَ بعده مثله. وقال يعقوب بن سفيان، والبخاري عن حيوة بن شُريح، عن عباس بن الفضل، عن حماد بن سلمة: قَدِمت مكة، وعطاء حي، فقلت: إذا أفطرت دخلت عليه، فمات في رمضان. وقال أحمد وغير واحد: مات سنة (114)، وقال القطان: مات سنة (114) أو (115)، وقال ابن جريج، وابن عيينة، وآخرون: مات سنة (115)، وقال خليفة: مات سنة (117).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (154) أحاديث.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) صلى الله عليه وسلم تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشيخه ذُكر في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وعبد الملك أخرج له البخاريّ في التعاليق.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ: عبد الملك، عن عطاء.

4 -

(ومنها): أن عطاء، وعبد الملك هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكلّ منهما عند المصنّف من الأحاديث.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 23

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) في تفسير قوله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13] قَالَ (أبو هريرة رضي الله عنه (رَأَى جِبْرِيلَ) عليه السلام، يعني أن المراد بالمرئيّ هنا هو جبريل عليه السلام، فهو كتفسير ابن مسعود رضي الله عنه السابق.

قال النوويّ رحمه الله: وهكذا قاله أيضًا أكثر العلماء، قال الواحديّ: قال أكثر العلماء: المراد: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأى ربه سبحانه وتعالى، وعلى هذا معنى:{نَزْلَةً أُخْرَى} ويعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عَرَجاتٌ في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات، فكلُّ عَرْجة نَزْلَةٌ. انتهى.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} : {نَزْلَةً} ومصدر في موضع الحال، كأنه قال: ولقد رآه نازلًا نزلةً أخرى، قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه، روى مسلم، عن أبي العالية، عنه قال:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 11 - 13]، قال:"رآه بفؤاده مرتين"، فقوله:{نَزْلَةً أُخْرَى} يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له صعودٌ ونزول مرارًا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عَرْجةٍ نَزْلةٌ، وعلى هذا قوله تعالى:{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 14] أي: ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، وفي بعض تلك النزلات.

وقال ابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} إنه جبريل عليه السلام، ثَبَتَ هذا أيضا في "صحيح مسلم"، وقال ابن مسعود: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ جبريل بالأفق الأعلى، له ستمائة جناح، يُنثر من ريشه التهاويل

(1)

الدّرّ والياقوت"

(2)

، ذكره المهدويّ. انتهى كلام

(1)

"التهاويل": الأشياء المختلفة الألوان.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح، برقم (3720).

وفي رواية (3561): عن عبد الله قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كلُّ جناح منها قد سَدّ الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم"، وفي رواية (3720): عن ابن مسعود، أنه قال=

ص: 24

القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الألوسيّ رحمه الله: {وَلَقَدْ رَآهُ} أي رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها {نَزْلَةً أُخْرَى} أي مرّة أخرى من النزول، وهي فَعْلَةٌ من النزول، أُقيمت مقام المرّة، ونُصِبت نصبها على الظرفيّة؛ لأن أصل المرّة مصدر مرّ يمُرُّ، ولشدّة اتّصال الفعل بالزمان يُعبّر به عنه، ولم يقل:"مرّةً" بدلها؛ ليُفيد أن الرؤية في هذه المرّة كانت بنزول ودنوّ، كالرؤية في المرّة الأولى الدالّ عليها ما مرّ، وقال الحوفيّ وابن عطيّة: إن {نَزْلَةً} منصوب على المصدريّة للحال المقدّرة، أي نازلًا نزلةً، وجوّز أبو البقاء كونه منصوبًا على المصدريّة لرأى من معناه، أي رؤية أخرى، وفيه نظر، والمراد من الجملة القسميّة نفي الريبة والشكّ عن المرّة الأخيرة، وكانت ليلة الإسراء. انتهى كلام الألوسيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[83/ 442](175)، و (ابن منده) في "الإيمان"(753)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[443]

(176) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِك، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَآه بِقَلْبِهِ).

=في هذه الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال رسول الله: "رأيت جبريل عند سدرة المنتهى، عليه ستمائة جناح، ينثر من ريشه التهاويل، الدر والياقوت".

(1)

"تفسير القرطبيّ" 17/ 94.

(2)

"روح المعاني" 17/ 50.

ص: 25

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَفْصٌ) هو ابن غياث المذكور قبل حديث.

2 -

(ابْنُ عَبَّاس) (هو عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما تقدّم تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وعَبْدُ الْمَلِكِ: هو ابن أبي سليمان الْعَرْزَميّ.

وقوله: (رَآهُ بِقَلْبِهِ) وفي الرواية التالية: "رآه بفؤاده مرّتين".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما: من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى بقلبه، هو الذي صحّ عنه، وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وأما ما يُعزى إليه من أنه قال: إنه رآه بعينه، أو بعين رأسه، أو ببصره، فلم يثبت عنه بسند صحيح، وإنما قاله بعض الرواة مفَسِّرًا لما وقع في بعض رواياته أنه قال: رأى ربه من غير تقييد بالفؤاد، والحقّ أن يُحْمَل ما أطلقه على ما قيّده، فتتفق الروايتان على معنى واحد.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" بعد إيراده رواية المصنّف هذه ما نصّه: وكذا رواه سماك عن عكرمة، عن ابن عبّاس مثله، وكذا قال أبو صالح، والسُّدّيّ، وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، وفي رواية عنه: أنه أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيَّدة بالفؤاد، ومن رَوَى عنه بالبَصَر، فقد أغرب، فإنه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم؛ وقول البغويّ في "تفسيره": وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس، والحسن، وعكرمة فيه نظرٌ. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه قد تبيّن بما سبق أنه لم يثبت بسند صحيح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربّه ببصره، وإنما صحّ عنهم قولهم: رأى ربّه، بالإطلاق، أو رأى ربّه بقلبه، أو بفؤاده بالتقييد، فتنبّه لهذا المهمّ، فقد اشتهر في كتب المتأخّرين نسبة هذا القول إلى الصحابة رضي الله عنهم غلطًا منهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"تفسير ابن كثير" 13/ 256 - 257.

ص: 26

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[83/ 443 و 444 و 445](176)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(398 و 399 و 400 و 401)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(439 و 440)، و (ابن منده) في "الإيمان"(754 و 755 و 756 و 757 و 758 و 759)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[444]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ الْأَشَجُّ: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحُصَيْن، أَبِي جَهْمَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} وقَالَ: رَآهُ بِفُؤَادهِ مَرَّتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ وَرعٌ لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(زَيادُ بْنُ الْحُصَيْن، أَبُو جَهْمَةَ) - بفتح الجيم، وسكون الهاء - هو: زياد بن الْحُصَين بن قيس الْحَنْظليّ الْيَرْبُوعيّ، ويقال: الرِّيَاحيّ، أبو جَهْمَة البصريّ، ثقةٌ يُرسل [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي العالية.

ورَوَى عنه الأعمش، وعاصم الأحول، وعُبيد المكتب، وعوف الأعرابيّ، وفُضيل بن عمرو، وفِطْر بن خليفة، ومغيرة بن مِقْسَم.

ص: 27

قال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: أبو جَهْمَة، عن ابن عباس مرسلٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجَهْ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(أَبو الْعَالِيَةِ) هو: رُفَيع - مصغّرًا - بن مِهْرَان - بكسر الميم - الرِّيَاحيّ البصريّ، ثقةٌ، كثير الإرسال [2](ت 90) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 425.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أن شيخ المصنّف الأشجّ أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، وزياد، وأبو العالية، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وبحر الأمة، وحبرها.

وقوله: (بِفُؤَاد): "الْفُؤَاد" بالضمّ: الْقَلب، وهو مذكّر، والجمع أَفْئِدة، قاله الفيّوميّ

(1)

. وقال ابن منظور: الفُؤاد: القلب؛ لتفؤُّده، وتوقّده، مذكّر لا غيرُ، صرّح بذلك اللِّحْيانيّ، يكون ذلك لنوع الإنسان وغيره من أنواع الْحَيَوان الذي له قَلْبٌ، قال يَصِف ناقةً [من الطويل]:

كَمِثْلِ أَتَانِ الْوَحْشِ أَمَّا فُؤَادُهَا

فَصَعْبٌ وَأَمَّا ظَهْرُهَا فَرَكُوبُ

والفؤاد: القلب، وقيل: وسطه، وقيل: الفُؤاد: غِشَاءُ القلب، والقلبُ حبّته، وسُوَيداؤُهُ، والجمع أفئدة، قال سيبويه: ولا نعلمه كُسِّرَ على غير ذلك. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[445]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَش، حَدَّثنَا أَبُو جَهْمَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ).

(1)

"المصباح المنير" 2/ 482.

(2)

"لسان العرب" 3/ 328 - 329.

ص: 28

رجال هذا الإسناد أربعة، تقدّموا في الإسنادين السابقين.

[تنبيه]: رواية حفص، عن الأعمش هذه التي أحالها المصنّف على الرواية السابقة، أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله في "كتاب الإيمان"، فقال:

(756)

وأنبأ يحيى بن آدم، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن زياد بن الْحُصين أبي جَهْمَة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، في قوله:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} قال: رآه بقلبه مرتين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[446]

(177) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُن، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟

(2)

قَالَتْه: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا، فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِيني، وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلمْ يَقُلِ اللهُ عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]؟، فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأمَّة، سَأَل عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْن، رَأَيْتُهُ

(3)

مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاء، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ"

(4)

، فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]؟، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَن اللهَ يَقُولُ:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51]؟، قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ

(1)

"كتاب الإيمان " لابن منده 2/ 759.

(2)

وفي نسخة: "قلت: وما هنّ؟ ".

(3)

وفي نسخة: "ورأيته" بالواو.

(4)

وفي نسخة: "ما بين السماء والأرض".

ص: 29

أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كتَابِ الله، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ المعروف بابن عُلَيّة، وهي أمه، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(دَاوُدَ) بن أبي هند القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقن [5](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) هو: عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابد مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.

6 -

(عَائِشَة) بنت الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: داود، والشعبيّ، ومسروق.

4 -

(ومنها): أن مسروقًا، سُمي به؛ لأنه سرقه إنسان في صغره، ثم وُجد، وغيّر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه اسم الأجدع إلى عبد الرحمن، قال:

ص: 30

الأجدع شيطان، فأُثبت في الديوان مسروق بن عبد الرحمن

(1)

.

5 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة رحمه الله، ففيها خلاف شهير، وهي من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، ومن المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مَسْرُوقٍ) في رواية الترمذي زيادة قصة في سياقه، فقد أخرج من طريق مُجالد، عن الشعبيّ، قال: لَقِيَ ابن عباس كعبًا بعرفة، فسأله عن شيء، فَكَبَّرَ كعبٌ حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال له كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه، هكذا في سياق الترمذيّ، وعند عبد الرزاق من هذا الوجه: فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمدًا رأى ربه مرتين، فكَبَّر كعب، وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلّم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأى محمد ربه

الحديث، ولابن مردويه من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ، عن عبد الله بن الحارث بن نَوْفل، عن كعب مثله، قال - يعني الشعبيّ -: فأتى مسروق عائشة، فذكر الحديث، فظهر بذلك سبب سؤال مسروق لعائشة رضي الله عنها عن ذلك، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ: كُنْتُ مُتَكِئًا) قال الأبيّ رحمه الله: يحتمل أنه لعذر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى هذا الاحتمال، لأن الاتّكاء من الأمور المباحة، فهي جائزة بدون عذر، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجلس متّكئًا، فقد ثبتٌ في "الصحيحين" حديث أبي بكرة رضي الله عنه: وكان صلى الله عليه وسلم متّكئًا، فجلس، فقال:"ألا وقول الزور"، فما زال يكرّرها، وإنما كره الاتّكاء في حال الأكل، فقال:"لا آكل متّكئًا"، رواه البخاريّ، وقد فُسّر المتكئ هنا بالجالس المتمكّن في جلوسه، كالذي يتربّع

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تهذيب الكمال" 27/ 452 - 454.

(2)

"الفتح" 8/ 472 - 473.

(3)

"شرح الأبيّ" 1/ 327.

(4)

راجع: "النهاية" 1/ 193.

ص: 31

(عِنْدَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ) كنية مسروق (ثَلَاثٌ) مبتدأ سوّغ الابتداء به مع كونه نكرةً مراعاة الوصف، أو الإضافة، أي: من الخصال، أو ثلاث خصال، (مَنْ) بفتح الميم شرطيّة (تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ) بكسر الفاء، وسكون الراء: هي الكذب، يقال: فَرَى الشيءَ يَفْري فَرْيًا، من باب رَمَى، وافترى يفتري افتراء: إذا اختلقه، وجَمْعُ الفِرْية فِرى بكسر، ففتح، قال مسروق (قُلْتُ: مَا هُنَّ؟) وفي نسخة: "وما هنّ" بالواو (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (مَنْ) شرطيّة (زَعَمَ) من باب قَتَلَ، وأكثر ما يُطلق فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب، كما هنا، فإن بعض هذه الأشياء من الأمور الباطلة بلا خلاف، وهي ما عدا الرؤيةَ، والرؤية منها على ما رأته عائشة رضي الله عنها (أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ) أي يقظةً، ببصره؛ لأنه الذي نفته عائشة رضي الله عنها، فأما ما كان منامًا فلم تنفه فقد ثبتٌ ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الترمذيّ بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلةَ ربي تبارك وتعالى، في أحسن صورة - قال: أحسبه قال: في المنام - فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بَرْدَها بين ثدييّ - أو قال: في نحري - فعلمت: ما في السماوات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، قال: في الكفارات، والكفارات: المكثُ في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، إذا صليتَ فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً، فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاءُ السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل، والناس نيام"

(1)

.

(فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ) أي الكذب (قَالَ) مسروق (وَكُنْتُ مُتَّكِئًا، فَجَلَسْتُ) أي حتى يتمكّن من مراجعتها (فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي) بقطع الهمزة، أمر من الإنظار، وهو الإمهال، أي أمهليني، يقال: أنظرته الدَّين بالألف:

(1)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "جامعه"(3157).

ص: 32

إذا أخّرته، والنَّظِرَةُ مثلُ كَلِمَةٍ بالكسر: اسم منه، وفي التنزيل العزيز:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، أي فتأخيرٌ، ونَظَرته الدينَ ثلاثيًّا لغة، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: نَظَرَه، وانتظره، وتنظّره، تَأَنَّى عليه، قال: وأنظره: أخّره، والنَّظِرة كفَرِحة: التأخير في الأمر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أفاد ما ذُكر أنه يجوز في "أنظريني" قطع الهمزة، ووصلها، فالقطع على أنه من "أنظر" الرباعيّ بمعنى أخّر، فيكون المعنى أخّريني حتّى أتمكّن من سؤالي إياك، والوصلُ على أنه من "نظر" الثلاثيّ بمعنى تأنّى، ويكون المعنى تأَنّيْ، وتمهّلي في شأني، وعلى كلّ فقوله:(وَلَا تُعْجِلِيني) عطف مؤكِّد على مؤكَّد.

[تنبيه]: "تُعْجِليني" هنا بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإعجال رباعيًّا، يقال: أعجله، وعجّله: إذا استحثه على الإسراع، وحمله عليه، هذا هو الصواب في ضبطه، وأما ما وقع في النسخ المطبوعة من ضبطه بالقلم بفتح أوّله، وثالثه، مضارعًا لعَجِلَ الثلاثيّ، كفَرِحَ، فغلطٌ؛ لأن عَجِل الثلاثيّ لازم، لا يتعدّى، وما هنا متعدّ إلى المفعول به، وهو ياء المتكلّم، فراجع كتب اللغة

(3)

، تعلم صحَّة ما قلت لك، والله تعالى أعلم.

(ألَمْ يَقُلِ اللهُ عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)}؟) ذكر مسروق هذا استدلالًا على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى ليلة المعراج، وذلك لظنّه أن الضمير المنصوب في {رَآهُ} لله سبحانه وتعالى، مع أن الصواب في معناه: أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، كما هو واضح من سياق الآيات، وهي {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 19 - 23] الآيات.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح {رَآهُ بِالْأُفُقِ} وأي البيّن، وهي الرؤية الأولى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 612.

(2)

"القاموس المحيط" ص 436.

(3)

راجع: "الصحاح" 4/ 1435 - 1436، و"القاموس" ص 927، و"المصباح" 2/ 394.

ص: 33

التي كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 5 - 10]، قال: والدليل على أن المراد بذلك جبريل عليه السلام، والظاهر - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لَمْ يُذكر فيها إلَّا هذه الرؤية، وهي الأولي، وأما الثانية، وهي المذكورة في قوله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 13 - 16]، فتلك إنما ذُكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد الإسراء. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

.

وقال الألوسيّ رحمه الله: {وَلَقَدْ رَآهُ} وأي وبالله تعالى لقد رأى صاحبُكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرسولَ الكريم جبريل عليه السلام على كُرسيّ بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها، له ستمائة جناح {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق، كما روي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، وسفيان، وفي رواية عن مجاهد: أنه صلى الله عليه وسلم رآه نحو جياد، وهو مشرق مكة، وقيل: المراد به مطلع رأس السرطان، فإنه أعلى المطالع لأهل مكة، وهذه الرؤية كانت فيما بعد أمر غار حراء، وحكى ابن شجرة: أنه أفق السماء الغربيّ، وليس بشيء، وأخرج الطبرانيّ، وابن مردويه عن ابن عبّاس أنه قال في الآية: رآه في صورته عند سدرة المنتهي، والأفق على هذا قيل: بمعنى الناحية، وقيل: سُمّي ذلك أفقًا مجازًا. انتهى كلام الألوسيّ رحمه الله

(2)

.

({وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}) هذا أيضًا مما استدلّ به مسروق على رؤيته صلى الله عليه وسلم ربّه حيث ظنّ أيضًا أن الضمير لله سبحانه وتعالى، مع أن الصواب أنه لجبريل عليه السلام، كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لَمّا سألته عنه، كما أوضحه بقوله:(فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأَمّة، سَأَل عَنْ ذَلِكَ) أي عن المعنى المراد بالآية (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ) أي إن الذي أريد بالضمير في {رَآهُ} وهو جبريل عليه السلام (لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ) بالبناء للمفعول، أي خلقه الله تعالى (عَلَيْهَا، غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ) أي المرة التي وقعت

(1)

"تفسير ابن كثير" 14/ 271.

(2)

"روح المعاني" 30/ 60 - 61.

ص: 34

له في الأرض قبل الإسراء، والمرة التي وقعت له في السماء عند سدرة المنتهي، كما بيّنته الآية (رَأَيْتُهُ) وفي نسخة:"ورأيته" بالواو، والظاهر أن الأولى هي الصحيحة (مُنْهَبِطًا) أي حال كونه نازلًا (مِنَ السَّمَاء، سَادًّا) أي مغطّيًا (عِظَمُ خَلْقِهِ) قال النوويّ رحمه الله: ضُبط بوجهين: أحدهما بضمّ العين، وإسكان الظاء، والثاني بكسر العين، وفتح الظاء، وكلاهما صحيح. انتهى

(1)

.

والمعنى: قد غطّى كبر ذاته (مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "ما بين السماء إلى الأرض"، وهو صحيح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر النوويّ صحّة هذا الوجه، ولم يُبيّن ما فيه من الإشكال، ووجهه أن لفظ "بين" يقتضي الدخول على متعدد، فتقول: جلست بين زيد وعمرو، ولا تقول: جلست بين زيد، فكيف قال:"ما بين السماء إلى الأرض"، مع أن القياس أن يقول: ما بين السماء والأرض؟.

والجواب: أن في الكلام محذوفًا؟ لدلالة السياق عليه، تقديره:"في تحتها"، أي سادًّا عظم خلقه ما بين السماء، في تحتها إلى الأرض، وسيأتي نظير هذا في "الصلاة"

(2)

في حديث أبي بَرْزَة الأسلميّ رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية"، أي في فوقها إلى المائة، وسنتكلّم عليه هناك - إن شاء الله تعالى -.

وأشار في هامش نسخة محمد ذهني بلفظ: "ما بين السماء والأرض"، وهو واضح.

(فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها محتجّةً على تأكيد ما نفته من رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه ببصره (أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]؟) قال النوويّ تبعًا لغيره: لَمْ تَنْفِ عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابيّ إذا قال قولًا، وخالفه غيره منهم، لَمْ يكن ذلك القول حجةًا تفاقًا، والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 9 - 10.

(2)

سيأتي برقم (461).

ص: 35

وتعقّبه في "الفتح"، فقال: جزمه بأن عائشة لَمْ تَنْفِ الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة، فإنه قال في "كتاب التوحيد": النفي لا يوجب علمًا، ولم تَحْك عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لَمْ يَرَ ربه، وإنما تأولت الآية. انتهى.

وهو عجيبٌ، فقد ثبت ذلك عنها في "صحيح مسلم" الذي شرحه الشيخ - يعني النوويّ - فعنده من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن مسروق في الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئًا، فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} ؟ قالت: أنا أول هذه الأمة، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"إنما هو جبريل"، وأخرجه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أوَّلُ من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال:"لا، إنما رأيت جبريل، منهبطًا".

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ومن قال: إنه صلى الله عليه وسلم خاطبها - يعني عائشة رضي الله عنها على قدر عقلها، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه، كابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، فإنه هو المخطيّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن المحاولة في الردّ على عائشة رضي الله عنها بأنها لَمْ تسمع في هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا غير صحيحة؛ لأنَّها ما نفت إلَّا بما ثبت لديها، وسمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم "، فبطل ما ذكره النوويّ وغيره من نفيهم سماعها منه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: في هذه الآية - يعني {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الآية - أقوال للسلف:

[أحدهما]: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في "الصحاح"، و"المسانيد"، و"السنن"، كما قال مسروق، عن عائشة أنَّها قالت:"من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أبصر ربه، فقد كذب"، وفي رواية: "على الله، فإن الله تعالى قال:

(1)

"تفسير ابن كثير" 13/ 263.

ص: 36

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عَيّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي الضُّحَي، عن مسروق، وغير واحد عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه. وخالفها ابن عباس، فعنه إطلاق الرؤية، وعنه:"رآه بفؤاده مرتين".

وقال ابن أبي حاتم: ذكر محمد بن مسلم، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، حدثنا يحيى بن معين، قال: سمعت إسماعيل ابن علية، يقول في قول الله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قال: هذا في الدنيا، وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك.

[وقال آخرون]: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وهذا مُخَصَّصٌ بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة.

[وقال آخرون] من المعتزلة بمقتضى ما فَهِمُوه من الآية: إنه لا يُرَى في الدنيا ولا في الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دَلَّ عليه كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الكتاب فقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، وقال تعالى عن الكافرين:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: فدَلَّ هذا على أن المؤمنين لا يُحجبون عنه تبارك وتعالى.

وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجَرِير، وصُهَيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، في العَرَصات، وفي رَوْضَات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه آمين.

[وقيل]: المراد بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : أي العقول، رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين، عن الفلاس، عن ابن مهديّ، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين، قارئ أهل مكة، أنه قال ذلك.

وهذا غريبٌ جدًّا، وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتَقَد أن الإدراك في معنى الرؤية، والله تعالى أعلم.

[وقال آخرون]: لا منافاة بين إثبات الرؤية، ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخصّ من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ثم اختَلَفَ هؤلاء

ص: 37

في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلَّا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن مَنْ رَأَى القمر، فإنه لا يُدرك حقيقته، وكُنْهه، وماهيّته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى.

[وقال آخرون]: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وفي "صحيح مسلم":"لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا.

قال الْعَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال: لا يحيط بصر أحد بالْمَلِك

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة الْقَنّاد، حدثنا أسباط، عن سماك، عن عكرمة، أنه قيل له:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال: ألست ترى السماء؟ قال: بلي، قال: فكلَّها تَرَى؟، وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في الآية:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.

وقال ابن جرير: حدثنا سَعْد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا خالد بن عبد الرَّحمن، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي، في قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} .

[وقال آخرون] في الآية بما رواه الترمذي في "جامعه"(3279) وابن أبي عاصم في "كتاب السنة"(437)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"، وابن مردويه أيضًا، والحاكم في "مستدركه"(2306) من حديث الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى، فقلت: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الآية؟ فقال لي: لا أُمَّ لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي

(1)

أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(12/ 13694)، وعطيّة العوفيّ ضعيف.

ص: 38

رواية: لا يقوم له شيء، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في "صحيح مسلم"(179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفض القسط، ويرفعه، يُرفَع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

قال الإمام ابن كثير رحمه الله ما حاصله: نفيُ الإدراكِ الخاصِّ لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه، فلا تدركه الأبصار، ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فالذي نفته الإدراك الذي بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر، ولا للملائكة، ولا لشيء.

وقوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي يحيط بها، ويعلمها على ما هي عليه؛ لأنه خلقها، كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، وقد يكون عَبَّر بالأبصار عن المبصرين، كما قال السُّدّيّ في قوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} : لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق.

وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قال: اللطيف باستخراجها، الخبير بمكانها، والله أعلم.

وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن لقمان فيما وعظ به ابنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

، وهو نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

ثم استدلّت عائشة رضي الله عنها أيضًا بآية أخرى على ما قالته من نفي الرؤية،

(1)

"تفسير ابن كثير" 6/ 122 - 128.

ص: 39

فقالت: (أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51] هكذا في النسخ التي عندي، {وَمَا كَانَ} بالواو كما هو التلاوة، وقال النوويّ في "شرحه": قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} وهكذا هو في معظم الأصول بحذف الواو، والتلاوةُ:{وَمَا كَانَ} بإثبات الواو، ولكن لا يضرّ هذا في الرواية، والاستدلال؛ لأن المستدل ليس مقصوده التلاوة على وجهها، وإنما مقصوده بيان موضع الدلالة، ولا يؤثِّر حذف الواو في ذلك، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة في الحديث، منها: قوله: "فأنزل الله تعالى: "وأقم الصلاة طرفي النهار، وقوله تعالى:{وأقم الصلاة لذكري} ". هكذا هو في روايات الحديثين في "الصحيحين"، والتلاوة بالواو فيهما. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ: في معظم النسخ، لكن الواقع في النسخ الموجودة عندي بالواو كما هو التلاوة، حتى في النسخة التي عليها شرح النوويّ، والنسخ التي شرحها الأبيّ، والسنوسيّ، ونسخة محمد ذهني، وهي أحسن النسخ التي اعتمدت عليها في هذا الشرح غالبًا، فكلها وقع فيها كالتلاوة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصّه: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل، وهو أنه تبارك وتعالى تارةً يَقْذِف في رُوع النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في "صحيح ابن حبان" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن رُوح القدس نَفَثَ في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا الطلب".

وقوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كما كان لموسى عليه الصلاة والسلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحُجِب عنها، وفي "الصحيح": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "ما كلَّم الله أحدًا إلَّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كِفَاحًا

(1)

"، كذا جاء في الحديث، وكان قد قُتل يوم أُحُد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا.

(1)

أي مواجهة، ليس بينهما حجاب، ولا رسول. اهـ. "النهاية" 4/ 185.

ص: 40

وقوله عز وجل: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كما ينزل جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فهو علي عليم خبير حكيم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ـ والآية، هذا دليل ثانٍ استَدَلّت به عائشة رضي الله عنها على ما ذهبت إليه من نفي الرؤية، وتقريره أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه: وهي الوحي بأن يُلْقِي في رُوعه ما يشاء، أو يكلِّمة بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولًا، فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم.

والجواب أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقًا، قاله القرطبيّ، قال: وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لَمْ يقع حالة الرؤية. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ الله، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قال في "الفتح": ظاهره اتّحاد الشرط والجزاء؛ لأن معنى {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} لم تبلّغ، لكن المراد من الجزاء لازمه، فهو كحديث:"ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

واختُلِف في المراد بهذا الأمر، فقيل: المراد بلِّغْ كما أُنزل، وهو على ما فهِمت عائشة وغيرها، وقيل: المراد بلّغه ظاهرًا، ولا تخشَ من أحد، فإن الله يَعصمك من الناس، والثاني أخصّ من الأول، وعلى هذا لا يتّحد الشرط والجزاء، لكن الأول قول الأكثر؛ لظهور العموم في قوله:{ومَا أَنْزَلَ} ، والأمر للوجوب، فيجب عليه تبليغ كلّ ما أُنزل إليه، ورجّح الأخير ابن التين، ونسبه لأكثر أهل اللغة.

وقد احتجّ أحمد بن حنبل بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لَمْ يَرِد في القرآن، ولا من الأحاديث أنه مخلوقٌ، ولا ما يدُلّ على أنه مخلوقٌ،

(1)

"تفسير ابن كثير" 12/ 294 - 295.

(2)

"الفتح" 8/ 475 "كتاب التفسير" رقم (4856).

ص: 41

ثم ذكر عن الحسن البصريّ أنه قال: لو كان ما يقوله الجعد حقًّا لبلّغه النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال الألوسيّ رحمه الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} إلى الثقلين كافّةً، وهو نداء تشريف؛ لأن الرسالة منّة الله تعالى الْعُظمي، وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذانٌ أيضًا بما يوجب الإتيان بما أُمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما أُوحي إليه، {بَلِّغْ} أي أوصِل {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع ما أُنزل كائنًا ما كان {مِنْ رَبِّكَ} أي مالك أمرك، ومبلّغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عِدَةٌ ضِمنيّةٌ بحفظه صلى الله عليه وسلم، وكلاءته، أي بلّغه غير مراقب في ذلك أحدًا، ولا خائف أن ينالك مكروه أبدًا، {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} أي ما أُمرت به من تبليغ الجميع {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي في أدّيت شيئًا من رسالته؛ لما أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لَمْ تؤدّ بعضها، فكأنك أغفلت أداءها جميعًا، كما أن من لَمْ يؤمن ببعضها كان كمن لَمْ يؤمن بكلّها؛ لإدلاء كلّ منها بما يُدليه غيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلَّغًا غير مبلَّغ، مؤمَنًا به، غيرَ مؤمَنٍ به، ولأن كتمان بعضها يضيّع ما أُدّي منها، كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به.

قال: ومما ذكرنا في تفسير الشرطيّة يُعلَم أن لا اتّحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناءً على أن المآل: إن لَمْ تُبلّغ الرسالة لَمْ تُبلِّغ الرسالة، جعله نظير:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

حيث جَعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد: وشعري شعري المشهور بلاغته، والمستفيضة فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنَّها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين؛ لاشتهاره بها، وأنه غنيّ عن ذكرها؛ لشهرتها وذِياعها، وكذلك - كما قال ابن الْمُنَيّر - أريد في الآية؛ لأن عدم تبليغ الرسالة أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرّ في الأفهام أنه عظيم، شنيعٌ، ينعى على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر

(1)

"الفتح" 13/ 513 "كتاب التوحيد" رقم الحديث (7531).

ص: 42

العلم من العالم أمرٌ فظيع، فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء؛ للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كلَّ من سمع عدم تبليغ الرسالة فَهِم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامًّا، حيث قال سبحانه وتعالى:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} ، ولم يقل: وإن لَمْ تبلّغ الرسالة في بلّغت الرسالة؛ ليتغايرا لفظًا، وإن اتّحدا معني، وهذا أحسن رونقًا، وأظهر طلاوةً من - تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحطّ عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحُقّ له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك. انتهى كلام الألوسيّ رحمه الله

(1)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ) هكذا في رواية المصنّف: "ومن زعم أنه يُخبر

إلخ" بالضمير، وهو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن الغريب أن ابن التين نقل عن الداوديّ أنه قال: قوله في هذا الطريق: "من حدثك أن محمدًا يعلم الغيب" ما أظنه محفوظًا، وما أحد يَدَّعِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم من الغيب إلَّا ما عُلِّم. انتهى.

قال الحافظ: وليس في الطريق المذكورة هنا التصريح بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع فيه بلفظ:"من حدَّثك أنه يَعْلَم"، وأظنه بَنَى على أن الضمير في قول عائشة:"من حدثك أنه" لمحمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في الذي قبله، حيث قالت:"مَن حدَّثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ثم قالت: من حَدَّثك أنه يعلم ما في غد".

ووقع في رواية إبراهيم النخعيّ، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ثلاث من قال واحدةً منهنّ، فقد أعظم على الله الفرية: من زعم أنه يعلم ما في غد

"الحديث، أخرجه النسائيّ، وظاهر هذا السياق أن الضمير للزاعم، ولكن وَرَدَ التصريح بأنه لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، من طريق عبد ربه بن سعيد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، بلفظ: "أعظمُ الفرية على الله مَن قال: إن محمدًا رأى ربه، وإن محمدًا كَتَمَ شيئًا من الوحي -،

(1)

"روح المعاني" 6/ 188 - 189.

ص: 43

وإن محمدًا يَعْلَم ما في غد"، وهو عند مسلم من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن داود، وسياقه أتمّ، ولكن قال فيه: "ومَن زَعَم أنه يُخبر بما يكون في غد"، هكذا بالضمير، كما في رواية إسماعيل معطوفًا على مَن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَم شيئًا.

قال: وما ادعاه من النفي مُتَعَقَّب، فإن بعض مَن لَمْ يَرْسَخ في الإيمان، كان يظنّ ذلك، حتى كان يَرَى أن صحة النبوة تستلزم اطّلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَلَّت، فقال زيد بن اللَّصِيت - بصاد مهملة، وآخره مثناة، وِزن عَظِيم -: يزعم محمد أنه نبيّ، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن رجلًا يقول: كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلَّا ما علمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وهي في شعب كذا، قد حبستها شجرة" فذهبوا، فجاؤوه بها، فأعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلَّا ما علّمه الله، وهو مطابق لقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] الآية. انتهى

(1)

.

(وَاللهُ يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، يقول الله سبحانه وتعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلِّمًا لجميع الخلق: إنه لا يعلم أحدٌ من أهل السماوات والأرض من الملائكة والإنس والجنّ وغيرهم الغيب إلَّا الله عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له

(2)

.

فـ {مَنْ} فاعل {يَعْلَمُ} ، والظرف صلتها، و {الْغَيْبَ} ومفعول به، {اللَّهُ} بدل من {مَنْ} ، أو {اللَّهُ} مبتدأ وخبره محذوف، والاستثناء منقطع

(3)

، أي: لكن الله يعلمه، والمعنى: أنه لا يعلم أحد الغيب إلَّا الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(1)

"الفتح" 13/ 376 "كتاب التوحيد" رقم (7378).

(2)

"تفسير ابن كثير" 10/ 425.

(3)

قاله ابن كثير وغيره، راجع "تفسير ابن كثير" 10/ 425، "تفسير سورة النمل".

ص: 44

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[83/ 446 و 447 و 448 و 449](177)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4612 و 4855)، و"التوحيد"(7380 و 7531)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3068 و 3278)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(11408)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 49 و 50 و 236 و 241)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 224 و 225)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(60)، و (البيهقي) في "الأسماء والصفات"(ص 435)، و (ابن منده) في "الإيمان"(763 و 764 و 765 و 766 و 767 و 768)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(27/ 50)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(405 و 406 و 407 و 408 و 409 و 410)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(441 و 442 و 443 و 444 و 445)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): نفي رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه، وقد سبق أن المراد رؤيته في الدنيا؛ لأنه لا خلاف بين أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، فلا تخالف عائشة رضي الله عنها في هذا، وأيضًا المنفيّ هو الرؤية بالبصر، فلا يُخالف ما ثبت عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بقلبه، وقد سبق تحقيق هذا كلّه، فلا تكن من الغافلين.

2 -

(ومنها): اهتمام عائشة رضي الله عنها بالبحث عن المسائل العلميّة، حيث سبقت غيرها في سؤال المراد بآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} .

3 -

(ومنها): بيان كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم برؤية جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وقد سدّ أفق السماء مرّتين، وهذا أمر غريب؛ لأن القوى البشريّة لا تَقْوى على مثل هذا، إلَّا بعونه سبحانه وتعالى.

4 -

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى لا تُحيط به أبصار المخلوقين، وهو محيط بها سبحانه وتعالى.

5 -

(ومنها): أنه لا يمكن في هذه الدنيا لأيّ بشر أن يخاطبه الله تعالى معاينة، وإنما يوحي وحيًا، أو يكلِّمه من وراء الحجاب، أو يُرسل إليه ملكًا، ولا ينافي هذا ما تقدّم من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في والد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إن الله

ص: 45

تعالى كلّمه كفاحًا؛ لأن ذلك في البرزخ، وحكم الآخرة يختلف عن حكم الدنيا، كما ثبتت رؤيته للمؤمنين هناك، بخلافها في الدنيا.

6 -

(ومنها): بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلّغ جميع ما أُرسل بتبليغه، وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": قال الزهريّ: من الله الرسالة، وعلى الرسول التبليغ، وعلينا التسليم. انتهى.

وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بتبليغه، وأدائه الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفًا، أو أكثر، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إنكم مسؤولون عنّي في أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلّغتَ، وأدّيت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وَينْكُتها إلى الناس:"اللهم اشهد، اللهم اشهد"، ثلاث مرات.

7 -

(ومنها): أدب طالب العلم، فإن مسروقًا كان متّكئًا، فلما أراد أن يسأل عائشة رضي الله عنها جلس؛ لأن الايماء يخالف تواضع طالب العلم.

8 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في قول عائشة رضي الله عنها: "والله يقول"، وقول مسروق:"ألم يقل الله" بصيغة المضارع تصريح من عائشة ومسروق رضي الله عنهما بجواز قول المستدل بآية من القرآن: إن الله سبحانه وتعالى "يقول"، وقد كَرِه ذلك مُطَرِّف بن عبد الله بن الشخّير التابعيّ المشهور، فرَوَى ابن أبي داود بإسناده عنه، أنه قال: لا تقولوا: إن الله يقول، ولكن قولوا: إن الله قال، وهذا الذي أنكره مُطَرِّف رحمه الله خلاف ما فعلته الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فالصحيح المختار جواز الأمرين، كما استعملته عائشة رضي الله عنها، ومن في عصرها وبعدها من السلف والخلف، وليس لمن أنكره حجةٌ، ومما يَدُلُّ على جوازه من النصوص قول الله سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، وفي "صحيح مسلم" رحمه الله، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يقول الله سبحانه وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 9.

ص: 46

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[447]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَزَادَ: قَالَتْ: وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا، مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْه، لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2، وهو أحد المشايخ التسعة الذين يَروِي عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

[تنبيه]: كون عبد الوهّاب هذا هو الثقفيّ هو الذي صرّح به الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف"(11/ 725)، وأخرج الحديث أبو عوانة في "مسنده"(1/ 135) رقم (406) من طريق آخر، فصرّح بأنه عبد الوهّاب بن عطاء، ودونك نصّه:

"حدّثنا الصغانيّ، وأبو أميّة، قالا: ثنا عبد الوهّاب بن عطاء، قال: حدّثنا داود، عن الشعبيّ

" إلخ.

فلا يستبعد أن يكون هو المراد في سند المصنّف هنا؛ لأنهما يرويان عن داود بن أبي هند، لكن مما يؤيّد كونه هنا عبد الوهّاب الثقفيّ أنه لَمْ يذكر في "التهذيبين"

(1)

محمد بن المثنّى فيمن روى عن ابن عطاء، بل عن الثقفيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تهذيب الكمال" 18/ 503 و 509، و"تهذيب التهذيب" 2/ 638.

ص: 47

و"داود" هو ابن أبي هند تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (هَذَا الْإِسْنَادِ) يعني الإسناد الذي قبله.

وقوله: (وَزَادَ) الضمير لعبد الوهّاب.

وقوله: (لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ) أي لأن هذه الآية فيها بيان المعاتبة له، ومع ذلك لَمْ يكتمها، بل بلّغها للأمة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية ابن عُليّة الماضية، أخرجها الإمام النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(6/ 432)، فقال:

(11408)

أنا محمد بن المثنى، قال: حدثني عبد الوهاب، نا داود، عن عامر، عن مسروق، أن عائشة قالت: ثم يا أبا عائشة، ثلاثٌ من قال بواحدة منهنّ، فقد أعظم على الله الفِرْية، قال: وكنت متكئًا، فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني، ولا تُعْجِليني، أرأيت قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]؟ قالت: إنما هو جبريل عليه السلام رآه مرةً على خَلْقه، وصورته التي خُلِق عليها، ورآه مرةً أخرى حين هَبَطَ من السماء إلى الأرض سادًّا عِظَم خَلْقه ما بين السماء والأرض، قالت: أنا أول من سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال:"هو جبريل"، ومن زعم أنه يَعْلَم ما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65]، ومن زعم أن محمدًا كتم شيئًا، مما أنزل الله عليه، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]، قالت: لو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم كاتِمًا شيئًا مما أُنزل عليه، لَكَتَم هذه الْآيَةَ:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. انتهى.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث زيادةً على المسائل السابقة:

(المسألة الأولى): في تفسير هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

ص: 48

وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}:

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهو الذي أنعم الله عليه: أي بالإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعمت عليه: أي بالعتق من الرقّ وكان سيدًا، كبير الشأن، جليل القدر، حبيبًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال له: الْحِبّ، ويقال لابنه أسامة: الْحِبّ ابن الْحِبّ.

قالت عائشة رضي الله عنهما: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلَّا أَمَّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه، رواه الإمام أحمد، عن سعيد بن محمد الوراق، ومحمد بن عبيد، عن وائل بن داود، عن عبد الله الْبَهِيّ، عنها

(1)

.

وقال البزاز في "مسنده" بسند صحيح، عن عُمَر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنت في المسجد، فأتاني العباس، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما فقالا: يا أسامة، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقلت: علي والعباس يستأذنان، فقال صلى الله عليه وسلم:"أتدري ما حاجتهما؟ " قلت: لا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم:"لكني أدري"، قال: فأذن لهما، قالا: يا رسول الله جئناك لتخبرنا: أيُّ أهلك أحبُّ إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أحب أهلي إليّ فاطمة بنت محمد"، قالا: يا رسول الله ما نسألك عن فاطمة، قال صلى الله عليه وسلم:"فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه".

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّجه بابنة عمته، زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنهما، وأمها أمية بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير، وستين درهمًا، وحمارًا، وملحفةً، ودِرعًا، وخمسين مدًّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكثت عنده قريبًا من سنة، أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} وقال الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (226 و 254 و 6281).

ص: 49

وذكر ابن أبي حاتم، وابن جرير ها هنا آثارًا عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صَفْحًا؛ لعدم صحتها، فلا نوردها

(1)

. انتهى المقصود من كلام ابن كثير رحمه الله.

({وَإِذْ}) ظرف متعلّق بـ "اذكُر" مقدَّرًا ({تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ}) بالإسلام ({وَأَنعَمْتَ عَلَيْهِ}) بالإعتاق، وهو زيد بن حارثة، كان من سبي الجاهليّة، اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأعتقه، وتبنّاه ({أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}) في أمر طلاقها ({وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}) هو ما أعلمه الله تعالى به من أن زيدًا سيُطلّقها، ويَنكحها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاتبه الله تعالى، قال: لَمْ قُلتَ: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنَّها ستكون من أزواجك؟ وهذا القول هو المنصور المعوّل عليه عند الجمهور ({وَتَخْشَى النَّاسَ}) أي أن يقولوا: تزوّج زوجة ابنه ({وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}) في كلّ شيء.

وقال في "الفتح": قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة، أخرج البخاريّ في "التوحيد" من صحيحه" عن أنس رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"اتَّقِ اللهَ، وأمسك عليك زوجك"، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتِمًا شيئًا لكتم هذه الآية، قال: وكانت تفتخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحديث، وأخرجه أحمد بلفظ:"أتى رسولَ الله زيدُ بن حارثة، فجاءه زيد يشكوها إليه، فقال له: أمسك عليك زوجك، واتق الله"، فنزلت إلى قوله {زَوَّجْنَاكَهَا} قال: يعني زينب بنت جحش، وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة، من طريق السُّدّيّ، فساقها سياقًا واضحًا حسنًا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أُميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه،

(1)

أشار به إلى القصّة التي يذكرها كثير من المفسّرين، من أنه صلى الله عليه وسلم أحبّ زينب، وتمنّى أن يفارقها زيد حتى يتزوّجها، وهو منكر من القول، وزور، فلا ينبغي لمسلم أن يتفوّه به؛ لأن فيه هضمًا لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحطًّا عن قدر النبوّة، نسأل الله تعالى السلامة والعافية من ذلك.

ص: 50

فكَرِهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بعدُ أنَّها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يَتَّقِيَ الله، وكان يَخْشَى الناس أن يعيبوا عليه، ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وقد كان قد تبنى زيدًا.

وعند ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن زيد، عن عليّ بن الحسين بن عليّ، قال: أعلم الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه، قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: اتق الله، وأمسك عليك زوجك، قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه.

قال الحافظ: وقد أطنب الترمذيّ الحكيم في تحسين هذه الرواية، وقال: إنها من جواهر العلم المكنون، وكأنه لَمْ يقف على تفسير السديّ الذي أوردته، وهو أوضح سياقًا وأصح إسنادًا إليه؛ لضعف عليّ بن زيد بن جُدْعان.

ورَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إن زينب اشتدّ عليّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: اتق الله، وأمسك عليك زوجك، قال: والنبيّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أن يُطَلِّقها، وَيخشَى قالة الناس. ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم، والطبريّ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد.

والحاصل أن الذي كان يخفيه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنَّها ستصير زوجته، والذي كان يَحْمِله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أَبْلَغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يُدْعَى ابنًا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم.

وقال ابن العربيّ: إنما قال صلى الله عليه وسلم لزيد: أمسك عليك زوجك اختبارًا لما عنده من الرغبة فيها، أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النَّفْرَة التي نشأت من تعاظمها عليه، وبَذَاءة لسانها، أَذِنَ له في طلاقها، وليس في

ص: 51

مخالفة مُتَعلَّق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به، والله أعلم.

وروى أحمد، ومسلم، والنسائيّ، من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: لَمّا انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد:"اذكرها عليّ"، قال: فانطلقتُ، فقلت: يا زينب أبشري، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا، حتى أُؤَامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن.

وهذا أيضًا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زَوْجُها هو الخاطبَ؛ لئلا يَظُنَّ أحدٌ أن ذلك وقع قهرًا بغير رضاه.

وفيه أيضًا اختبار ما كان عنده منها، هل بقي منه شيء أم لا؟.

وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة، ودعائها عند الْخِطبة قبل الإجابة، وأن من وَكَل أمره إلى الله عز وجل يسر الله له ما هو الأحظ له، والأنفع دنيا وأخرى. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ورُوي عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدًا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكَّى زيد للنبيّ صلى الله عليه وسلم خُلُق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب، والوصية: اتق الله في قولك، وأمسك عليك زوجك، وهو يعلم أنه سيفارقها، ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يُرِد أن يأمره بالطلاق لِمَا عَلِم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قولٌ من الناس في أن يتزوج زينبَ بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر، من أن خشي الناسَ في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: أمسك مع علمه بأنه يطلق، وأعلمه أن الله أحقّ بالخشية، أي في كلّ حال.

قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، والعلماء الراسخين، كالزهريّ، والقاضي بكر بن العلاء القشيريّ، والقاضي أبي بكر بن العربيّ،

(1)

"الفتح" 8/ 383 - 385 "كتاب التفسير" رقم (4787 - 4789).

ص: 52

وغيرهم، والمراد بقوله تعالى:{وَتَخْشَى النَّاسَ} إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نَهَى عن تزويج نساء الأبناء، وتَزَوَّج بزوجة ابنه، فأما ما رُوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم هَوِيَ زينب امرأة زيد، وربما أَطْلق بعض الْمُجّان لفظ عَشِقَ، فهذا إنما يَصْدُر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مُسْتَخِفّ بحرمته، قال الترمذيّ الحكيم في "نوادر الأصول"، وأسند إلى علي بن الحسين قوله: فعليُّ بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرًا من الجواهر، ودرًّا من الدرر، أنه إنما عَتَب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ؟.

وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لَمْ يؤمر بالتوبة، ولا بالاستغفار منه؟ وقد يكون الشيء ليس بخطيئة، إلَّا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يَفْتَتِن الناس. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: المنعَم عليه في هذه الآية، هو زيد بن حارثة رضي الله عنه كما بيّناه، ورُوي أن عمه لقيه يومًا، وكان قد ورد مكة في شُغل له، فقال: ما اسمك يا غلام؟ قال: زيد، قال: ابن مَن؟ قال: ابن حارثة، قال: ابن من؟ قال: ابن شَرَاحيل، قال: في اسم أمك؟ قال: سعدي، وكنت في أخوالي طيّ، فضمه إلى صدره، وأرسل إلى أخيه وقومه، فحَضَروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبد الله، فأتوه، وقالوا: هذا ابننا، فَرُدّه علينا، فقال: أَعْرِضُ عليه، فإن اختاركم فخذوا بيده، فبَعَث إلى زيد، وقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: فأيَّ صاحب كنت لك؟ فبكي، وقال: لِمَ سألتني عن ذلك؟ قال: أخيّرك، فإن أحببت أن تَلْحق بهم فالحقْ، وإن أردت أن تقيم، فأنا مَن قد عرفت، فقال: ما أختار عليك أحدًا، فجذبه عمه، وقال: يا زيد اخترت العبودية على أبيك وعمك؟ فقال: إي والله،

(1)

"تفسير القرطبيّ" 14/ 190 - 191.

ص: 53

العبودية عند محمد أحبّ إليّ من أكون عندكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشهَدُوا أني وارث وموروث"، فلم يزل يقال: زيد بن محمد، إلى أن نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، ونزل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): قال الإمام أبو القاسم، عبد الرَّحمن السهيليّ رحمه الله: كان يقال: زيد بن محمد حتى نزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، فقال: أنا زيد بن حارثة، وحُرِّم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد، فلما نَزَعَ عنه هذا الشرف، وهذا الفخر، وعَلِمَ الله وحشته من ذلك، شَرَّفه بخِصِّيصة لَمْ يكن يَخُصَّ بها أحدًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، يعني من زينب، ومَن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم، حتى صار اسمه قرآنًا يُتْلَى في المحاريب، نَوَّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له، وعِوَضٌ من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له، ألا ترى إلى قول أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه حين قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] "، قال: وسمّاني؟ قال: "نعم"، فبكى، متّفق عليه، وكان بكاؤه من الفرح، حين أُخبر أن الله تعالى ذكره؟، فكيف بمن صار اسمه قرآنًا يُتلى مُخَلَّدًا لا يَبِيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجَنَّة كذلك أبدًا، لا يزال على السنة المؤمنين، كما لَمْ يزل مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باقٍ، لا يبيد؟، فاسم زيد هذا في المصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكرهُ في التلاوة السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين، إلَّا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة؛ تعويضًا من الله تعالى له مما نَزَع عنه.

وزاد في الآية أن قال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي بالإيمان، فدَلّ على أنه من أهل الجَنَّة، عَلِمَ ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ 14/ 194.

ص: 54

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[448]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله، لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، وَحَدِيثُ دَاوُدَ أَتَمُّ وَأَطْوَلُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله الهَمْدانيّ الكوفيّ المذكور قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفي المذكور قبل باب أيضًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد

(1)

البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ) أي تعجّبًا من قوله هذا، واستنكارًا لجهله مثل هذا.

وقوله: (لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي) أي قام من الفَزَع لِمَا حَصَل عندها من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه، واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شُميل: الْقَفّ - بفتح القاف، وتشديد الفاء - كالْقُشَعْريرة، وأصله التقبّض والاجتماع؛ لأن الجلد ينقبض عند الفزع، فيقوم الشعر لذلك، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ) الضمير لإسماعيل، أي ساق إسماعيل بن أبي خالد متن الحديث مع بيان القصّة التي جرت بين عائشة رضي الله عنهما ومسروق رحمه الله.

(1)

قيل: اسم أبيه سعد، وقيل: هُرْمُز، وقيل: كثير.

(2)

"الفتح" 8/ 473.

ص: 55

وقوله: (وَحَدِيثُ دَاوُدَ أتمُّ) يعني أن حديث داود بن أبي هند أتمّ سيَاقًا.

وقوله: (وَأَطْوَلُ) عطف تفسير لـ"أتمّ".

[تنبيه]: رواية إسماعيل التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية داود بن أبي هند، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(4855)

حدثنا يحيي، حدثنا وكيعٌ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، قال: قلت لعائشة رضي الله عنهما: يا أمتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قَفّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدَّثكهن فقد كَذَب؟: من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقد كذَبَ، ثم قرأت:{لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد، فقد كَذَب، ثم قرأت:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، ومن حدَّثك أنه كَتَمَ، فقد كذَبَ، ثم قرأت:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين. انتهى.

وقوله: "يا أمتاه" أصله يا أمّ، والهاء للسكت، فأضيف إليها ألف الاستغاثة، فأبدلت تاء، وزيدت هاء السكت بعد الألف، ووقع في كلام الخطابيّ: إذا نادوا قالوا: يا أمه عند السكت، وعند الوصل: يا أمتاه بالمثنّاة، فإذا فتحوا للندبة قالوا: يا أمتاه، والهاء للسكت، وتعقّبه الكرمانيّ بأن قول مسروق: يا أمتاه ليس للندبة؛ إذ ليس هو تفجّعًا عليها، قال الحافظ: وهو كما قال. انتهى.

وقولها: "أين أنت من ثلاث": أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاث، وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها، ومعتقدًا كَذِب من يَدَّعِي وقوعها؟.

وقولها: "ولكن رأى جبريل في صورته مرتين"، وفي رواية الكشميهنيّ:"ولكنه"، وهذا جواب عن أصل السؤال الذي سأل عنه مسروق، كما تقدم بيانه، وهو قوله:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} ، وقوله:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 56

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[449]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَال، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون بن فيروز، وقال بَحْشَل: اسم أبي زائدة هُبَيرة الْهَمْدانيّ الْوَادعيّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وعامر الشعبيّ، وفِرَاس، وسماك بن حَرْب، وسعد بن إبراهيم، وخالد بن سلمة، ومُصْعَب بن شيبة، وعبد الملك بن عُمَير، وغيرهم.

ورَوى عنه ابنه يحيي، والثوريّ، وشعبة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، والقطان، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال القطان: ليس به بأس، وليس عندي مثل إسماعيل بن أبي خالد، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: إذا اختلف زكريا وإسرائيل، فإن زكريا أحبّ إليّ في أبي إسحاق، ثم قال: ما أقربهما، وحديثهم عن أبي إسحاق لَيِّن، سمعا منه بآخره، وقال عبد الله، عن أبيه: ثقةٌ حلو الحديث، ما أقربه من إسماعيل بن خالد، وقال عباس، عن ابن معين: صالح، وقال عثمان، عنه: زكريا أحبّ إليّ في كلّ شيء، وابن أبي ليلى ضعيف، وقال العجليّ: كان ثقةً، إلَّا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره، ويقال: إن شَريكًا أقدم سماعًا منه، وقال أبو زرعة: صُويلح، يُدَلِّس كثيرًا عن الشعبيُّ، وقال أبو حاتم: لَيِّن

ص: 57

الحديث، كان يُدَلِّس، وإسرائيل أحبّ إليّ منه، ويقال: إن المسائل التي كان يرويها عن الشعبيّ لَمْ يسمعها منه، إنما أخذها عن أبي حَرِيز، وقال الآجريّ، عن أبي داود: زكريا أرفع منه، يعني من أجلح مائة درجة، قال أبو داود: وزكريا ثقة، إلَّا أنه يُدَلِّس، قال يحيى بن زكريا: لو شئت سَمَّيت لك مَن بين أبي وبين الشعبيّ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو بكر الْبَرْديجيّ: ليس به بأس، وقال يعقوب بن سفيان، وأبو بكر البزار: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثيرَ الحديث، وقال ابن قانع: كان قاضيًا في الكوفة.

قال ابن نمير: مات سنة (147)، وقال أبو نعيم: مات سنة (148)، وقال محمد بن سعد، وعمرو بن عليّ: سنة (149). وقال ابن حبان في "الثقات": اسم أبي زائدة: فيروز، وقيل: خالد، مات سنة (148) أو (149).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

3 -

(ابْنُ أَشْوَعَ) - بفتح الهمزة، وإسكان الشين المعجمة، وفتح الواو، وبالعين المهملة - هو: سعيد بن عمرو بن أشوع الْهَمْدانيّ الكوفيّ، قاضيها، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [6].

رَوَى عن شُريح بن النعمان الصائديّ، وشُريح بن هانئ، وحسن بن ربيعة، والشعبيّ، وأبي بُرْدة بن أبي موسى، ويزيد بن سَلَمة الْجُعْفيّ، ولم يدركه، وغيرهم.

ورَوَى عنه سعيد بن مسروق الثوريّ، وابنه سفيان بن سعيد، وخالد الحذّاء، وزكرياء بن أبي زائدة، وليث بن أبي سُليم، وحبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وعِدّةٌ، وحَدّث عنه أبو إسحاق السبيعيّ، وعبد الملك بن عُمير، وهما أكبر منه.

قال ابن معين: مشهورٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال البخاري في "التاريخ الأوسط": رأيت إسحاق بن راهويه يَحتجّ بحديثه، وقال الحاكم: هو شيخ من ثقات الكوفيين، يُجْمَع حديثه، وقال الْجُوزَجانيّ: غالٍ زائغٌ، يعني: في التشيع.

قال ابن سعد: تُوُفّي في ولاية خالد بن عبد الله، وأَرَّخه ابنُ قانع سنة (120).

ص: 58

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث (177)، وحديث (1680): "القاتل والمقتول في النار

"، و (593): "إن الله كَرِه لكم ثلاثًا: قيل، وقال

".

والباقون تقدّموا قبله، و"عامرٌ" هو الشعبيّ.

وقَوْله: ({ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}) أي ثم دنا جبريل؛ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدلَّى: أي زاد في القرب، التدلّي هو النزول بقرب الشيء، فالترتيب على هذا طبيعيّ، وقيل: التدلّي هو الامتداد إلى جهة السفل، والكلام على التقديم والتأخير، قال النوويّ: قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: معنى التدلّي: الامتداد إلى جهة السفل، هكذا هو الأصل، ثم استُعْمِل في القرب من العلوّ، هذا قول الفرّاء، وقال صاحب "النظم": هذا على التقديم والتأخير؛ لأن المعنى: "ثم تَدَلَّى، فدنا"، لأن التدلي سبب الدنوّ، قال ابن الأعرابيّ: تَدَلَّى: إذا قَرُب بعد علوّ، قال الكلبيّ: المعنى دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم، فقرُب منه، وقال الحسن، وقتادة: ثم دنا جبريل بعد استوائه في الأُفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ({فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى})"القاب": ما بين القَبْضَة، والسِّيَة، ولكل قَوْس قابان، والقاب في اللغة أيضًا: القدر، وهذا هو المراد بالآية عند جميع المفسرين، والمراد القوس التي يُرْمَى عنها، وهي القوس العرببة، وخُصّت بالذكر على عادتهم.

وذهب جماعة إلى أن المراد بالقوس الذراع، هذا قول عبد الله بن مسعود، وشقيق بن سَلَمة، وسعيد بن جبير، وأبي إسحاق السبيعي، وعلى هذا معنى القوس ما يُقاس به الشيء، أي يُذْرَع، قالت عائشة رضي الله عنها، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم: هذه المسافة كانت بين جبريل والنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقول الله تعالى: {أَوْ أَدْنَى} معناه: أو أقرب، قال مقاتل: بل أقرب، وقال الزجاج: خاطب الله تعالى العباد على لغتهم، ومقدار فهمهم، والمعنى: أو أدنى فيما تُقَدِّرون أنتم، والله تعالى عالم بحقائق الأشياء من غير شَكّ،

ص: 59

ولكنه خاطبنا على ما جَرَت به عادتنا، ومعنى الآية: أن جبريل عليه السلام مع عِظَم خلقه، وكثرة أجزائه، دنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الدُّنُوّ، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وقد تقدّم البحث بأوسع من هذا، فارجع إليه، والله تعالى أعلم.

وقوله: ({فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}) المراد من العبد محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: جبريل، وفي تقدير المعنى أَراء للمفسّرين، أشهرها وأكثرها: فأوحى جبريل؛ إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لَمْ يجر له ذكرٌ؛ لأنه لا يلتبس، كقوله تعالى:{مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ [فاطر: 45]. {مَا أَوْحَى} أي ما أوحى الله تعالى إليه، وأبهمه؛ تفخيمًا لشأن الموحى به.

وقيل: المعنى: فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وقيل: فأوحى الله إلى عبده جبريل؛ ما أوحى، فبلّغ جبريل محمدً صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه، وكلّ هذه الأقوال صالحة على أن الذي دنا فتدلّى جبريل عليه السلام، أما على قول من يرى أنه رب العزّة، فلا يناسبه إلَّا القول الثاني، ولكن سبق أن هذا القول ضعيف جدًّا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسّر الآية لعائشة بأن المراد بها أنه رأى جبريل عليه السلام، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، فماذا بعد تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (فِي صُورَةِ الرِّجَالِ) تقدّم منهم دِحية بن خليفة الكلبيّ.

وقوله: (فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ)"الأُفُق" بضمّتين: الناحية من الأرض، ومن السماء، والجمع آفاق، والنسبة إليه أُفُقيّ، ردًّا إلى الواحد، وربّما قيل: أَفَقيّ بفتحتين؛ تخفيفًا على غير قياس، حكاهما ابن السّكّيت، وغيره

(2)

، وقد تقدَّم تمام شرح الحديث، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 11.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 17.

ص: 60

(84)(بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "نُورٌ أَنَّى أَرَاه؟ "، وفي رواية: "رَأَيْتُ نُورًا")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[450]

(178) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التُّسْتَريّ - بضمّ المثنّاة، وسكون المهملة، وفتح المثنّاة، ثم راء - نزيل البصرة، أبو سعيد التميميّ مولاهم، ثقةٌ، من كبار [7].

رَوَى عن الحسن، وابن سيرين، وابن أبي مُليكة، وعطاء، وقتادة، وأبي الزبير، وإبراهيم بن العلاء الْغَنَويّ، وعبد الله بن يسار المكيّ، وقيس بن سعد، وليث بن أبي سُليم، وأيوب، وعمرو بن دينار.

ورَوَى عنه وكيع، وبهز بن أسد، وعبد الرَّحمن بن مهديّ، وعبد الملك بن إبراهيم الْجُدّيّ، وابن المبارك، وأبو أسامة، وعبد الصمد، ويزيد بن هارون، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وحجاج بن منهال، وأبو عُمَر الْحَوْضيّ، وسهل بن بَكّار، وسليمان بن حرب، وأبو سلمة، والقعنبيّ، وعليّ بن الجعد، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: يزيد بن إبراهيم أثبت من جرير بن حازم، وقال ابن أبي خيثمة: سئل ابن معين، عن يزيد بن إبراهيم، والسَّرِيّ بن يحيى أيهما أثبت؟ فقال: يزيد لا شك فيه، والسريّ ثقة، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: هشام بن حسان أحبّ إليك في ابن سيرين، أو يزيد بن إبراهيم؟ فقال: ثقتان، قلت: فيزيد، أو جعفر بن حيّان؟ قال: يزيد، قال عثمان: وسمعت أبا الوليد يقول: يزيد أثبت عندنا من هشام، وقال يزيد بن زريع: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحسن أثبت

ص: 61

من يزيد بن إبراهيم، وقال عبد الرَّحمن بن الحكم: ليس في أصحاب الحسن أثبت منه، وقال محمود بن غيلان: ذُكر يزيد بن إبراهيم عند وكيع، فقال: ثقةٌ ثقة، وقال ابن المدينيّ: ثبت في الحسن وابن سيرين، وقال يحيى بن سعيد: يزيد بن إبراهيم عن قتادة ليس بذاك، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقة من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين، وقال زياد بن أيوب، عن سعيد بن عامر: ثنا يزيد بن إبراهيم الصدوق المسلم، وقال ابن سعد: كان ثقةً ثبتًا، وكان عفان يرفع أمره، وقال ابن عديّ: وليزيد أحاديث مستقيمة عن كلِّ من يروي عنه، وإنما أُنكرت أحاديث رواها عن قتادة، عن أنس، وهو ممن يُكْتَب حديثه، ولا بأس به، وأرجو أن يكون صدوقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه أيضًا أحمد بن صالح، وعمرو بن عليّ، وابن نمير، وقال علي بن أشكاب: ثنا أبو قَطَن، ثنا يزيد بن إبراهيم التُّسْتَريّ الذهب الْمُصَفَّى، وقال عثمان الدارميّ، عن أبي الوليد: ما رأيت أكيس منه، كان يُحدِّث عن الحسن، فيُغْرِب، ويحدثنا عن ابن سيرين، فيلحَنُ، يعني: أنه كان يحدِّث كما سمع.

قال الحافظ: وفرَّق أبو محمد بن حزم في "كتاب الحج" من "الْمُحَلَّى" بين يزيد بن إبراهيم التستريّ، وبين يزيد بن إبراهيم الراوي عن قتادة، فقال: إن التستري ثقة ثبت، والراوي عن قتادة ضعيفٌ، ولا أدري من هو سلفه في جعله اثنين؟. انتهى

(1)

.

وقال أبو الوليد الطيالسيّ: مات سنة إحدى وستين ومائة، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة اثنتين، وقال ابن ابنه محمد بن سعيد بن إبراهيم: مات سنة ثلاث وستين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث (178)، وحديث (2222):"لا عدوي، ولا غُول، ولا صفر"، و (2665): "إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه

".

2 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس، رأس الطبقة [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 404 - 405.

ص: 62

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) العُقيليّ - بالضمّ - أبو عبد الرَّحمن، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة، فيه نصْبٌ [3].

رَوَى عن أبيه على خلاف فيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن أبي الْجَدْعاء، وعبد الله بن سُراقة، وأقرع مؤذن عمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الكريم، ومحمد بن سيرين، وعاصم الأحول، وقتادة، وحميد الطويل، وأيوب السختياني، وبُدَيل بن مَيْسرة العقيليّ، والْجُريريّ، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: روى عن عمر، قال: وقالوا: كان عبد الله بن شقيق عثمانيًا، وكان ثقة في الحديث، وروى أحاديث صالحة. وقال يحيى بن سعيد: كان سليمان - التيمي سيئ الرأي في عبد الله بن شقيق. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وكان عثمانيًا، يُبغِض عليًّا. وقال ابن عدي: ما بأحاديثه بأس - إن شاء الله تعالى -، وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: ثقة، وقال العجلي: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ، وقال الْجُرَيريّ: كان عبد الله بن شقيق مُجَاب الدعوة، كانت تمر به السحابة، فيقول: اللهم لا تَجُوز كذا وكذا حتى تُمْطِر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تُمْطر، حكاه ابن أبي خيثمة في "تاريخه".

قال الهيثم بن عديّ، ومحمد بن سعد: تُوُفي في ولاية الحجاج على العراق. وقال خليفة: مات بعد المائة. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (108).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

4 -

(أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جُنادة على الأصحّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تُوُفّي سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والباقيان تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم.

ص: 63

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وعبد الله بن شقيق، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن عبد الله بن شَقِيق، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ) الْعُقَيليّ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الْغِفَاريّ رضي الله عنه، وفي الرواية التالية أنه قال: قلت لأبي ذرّ: لو رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أيّ شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أساله: هل رأيتَ ربّك؟

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نُورٌ) خبر لمحذوف، أي هو نورٌ، فيه وصف الله تعالى بأنه نورٌ، وهو صفة من صفاته تعالى ثابت له بهذا الحديث وغيره، كما ثبتت له الصفات الأخرى على ما يليق بجلاله وعظمته، دون تشبيه ولا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - (أَنَّى أَرَاهُ") أي كيف أراه؟، و"أَنَّى" - بفتح الهمزة، وتشديد النون، مقصورًا - قال الفيّوميّ: استفهام عن الجهة، تقول: أنّى يكون هذا؟ أي: من أي وجه وطريق؟. انتهى

(1)

.

والاستفهام هنا إنكاريّ، بمعنى: النفي، ويحتمل أن يكون للتعجّب، والمعنى: حجابه النور، فكيف أراه؟ أي منعني النور من الرؤية.

وقال النوويّ رحمه الله: بتنوين "نُورٌ"، وبفتح الهمزة في "أَنَّى"، وتشديد النون وفتحها، و"أَرَاه" بفتح الهمزة، هكذا رواه جميعُ الرواة في جميع الأصول والروايات، ومعناه: حجابه نورٌ، قال المازريّ رحمه الله: الضمير عائد على الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أن النور مَنَعَني من الرؤية، كما جَرَت العادة بإغشاء الأنوار الأبصارَ، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 28.

ص: 64

وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التالية: "رأيت نورًا" معناه: رأيت النور، فحسبُ، ولم أر غيره. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نورٌ أَنَّى أراه؟ " هكذا رويناه، وقيّدناه برفع "نورٌ" وتنوينه، وفتح "أَنَّى" التي بمعنى "كيف" الاستفهاميّة، ورواية من زَعَم أنه رواه:"نورانيّ" ليست بصحيحة النقل، ولا موافقة للعقل، ولعلها تصحيف، وقد أزال هذا الوهم الرواية الأخرى حيث قال:"رأيت نورًا"، ورفع "نورٌ" على فعل مضمر تقديره: غلبني نور، أو حجبني نور، و"أنَّى أَرَاه" استفهام على جهة الاستبعاد لغلبة النور على بصره، كما هي عادة الأنوار الساطعة، كنور الشمس، فإنه يُغشي البصر، ويحيره إذا حدّق نحوه، ولا يعارض هذا "رأيتُ نورًا"، فإنه عند وقوع بصره على النور رآه، ثم غلب عليه بعدُ، فضعُف عنه بصره، ولا يصحّ أن يُعتقد أن الله تعالى نورٌ، كما اعتقده هشام الجواليقيّ، وطائفة المجسّمة، ممن قال: هو نورٌ لا كالأنوار؛ لأن النور لون قائم بالهواء، وذلك على الله تعالى محال عقلًا ونقلًا. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا يصحّ أن يُعتقد أن الله نور

إلخ" كلام باطلٌ، كيف لا يُعتقد، وقد صحّت النصوص بذلك؟ ومحاولته الردّ على من قال: نورٌ لا كالأنوار باطلٌ أيضًا، فكيف، وهو نفسه يُثبت لله تعالى ذاتًا، ويقول: لا كذوات المخلوقين، وصفات لا كصفات المخلوقين؟، فكذا قول من قال: إن الله تعالى نورٌ لا يشبه النور المخلوق، بل على ما يليق بجلاله.

والحاصل أن إثبات كون الله تعالى نورًا على الحقيقة دون تشبيه، ولا تعطيل، بل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى هو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 12.

(2)

"المفهم" 1/ 407.

ص: 65

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[84/ 450 و 451](178)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3282)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(474)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 205 و 207)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(58)، و (ابن منده) في "الإيمان"(770 و 771 و 772 و 773 و 774)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(383 و 384)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(446 و 447).

(المسألة الثالثة): ذكر المازريّ رحمه الله أنه رُوي: "نُورانيّ" - بفتح الراء، وكسر النون، وتشديد الياء - قال: ويَحْتَمِل أن يكون معناه راجعًا إلى ما قلناه: أي خالق النور المانع لي من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال، قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لَمْ تقع إلينا، ولا رأيتها في شيء من الأصول إلَّا ما حكاه أبو عبد الله المازريّ، ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نورًا؛ إذ النور من جملة الأجسام والله سبحانه وتعالى يَجِلّ عن الاتّصاف بذلك، هذا مذهب جميع أئمة المسلمين، خلافًا لبعض المجسّمة، كهشام الْجَوَاليقيّ، ومن تبعه ممن قال: نورٌ لا كالأنوار، ومعنى قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وما جاء في الأحاديث من تسميته سبحانه وتعالى بالنور: معناه: ذو نورهما، وخالقه، وقيل: هادي أهل السموات والأرض، وقيل: مُنَوِّر قلوب عباده المؤمنين، وقيل: معناه ذو البهجة والجمال، وهذا يرجع إلى المعنى الأول، أي مالكهما وربّهما، أو لنفي النقائص والْغِيَرِ والْحَوَادث. انتهى كلام القاضي

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر القاضي عياض تبعًا للمازريّ، ونقله النوويّ، وسكت عليه في شرح هذا الحديث على هذا الوجه، وفيه نظر من وجهين:

(أحدهما): أن رواية "نورانيّ" لَمْ تثبت أصلًا، كما يفيده كلام عياض، بل هي مصحّفة، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، فقد قال العلامة شمس الدين ابن القيّم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "نُورٌ

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 751 - 752.

ص: 66

أنّى أراه": معناه: كان ثَمَّ نورٌ، أو حال دون رؤيته النور، فأَنّى أراه، قال: ويدلّ عليه أن في بعض ألفاظ "الصحيح": "هل رأيت ربّك؟ " فقال: "رأيتُ نورًا".

قال: وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتّى صحّفه بعضهم، فقال:"نورانيّ أراه" على أنَّها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة، وهذا خطأٌ لفظًا ومعني، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لَمّا اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربّه، وكان قوله:"أنَّى أراه" كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث، وردّه بعضهم باضطراب لفظه، وكلّ هذا عُدولٌ عن موجب الدليل.

وقد حَكَى عثمان الدارميّ في "كتاب الرّدّ" له إجماع الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ ربّه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عبّاس رضي الله عنهما من ذلك، وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلافٍ في الحقيقة، فإن ابن عبّاس لَمْ يقل: رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين، حيث قال: إنه رآه، ولم يقُل: بعيني رأسه، ولفظ أحمد كلفظ ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قال ابن القيّم: ويدلّ على صحّة ما قاله شيخنا في معنى حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "حجابه النور"، فهذا النور هو - والله أعلم - النور المذكور في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"رأيت نورًا". انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بهذا أن لفظة "نورانيّ" غير ثابتة، فلا ينبغي التشاغل في توفيقها مع الروايتين الأخريين، والله تعالى أعلم.

(الثاني): أن الإشكال الذي ذكروه في أن وصف الله تعالى بأنه نور يلزمه التشبيه، إنما يرد على مذهب الأشاعرة المتكلّمين الذين يؤوّلون الصفات، ما عدا الصفات السبع المعروفة خشية التشبيه، ولا يَرِد على مذهب السلف القائلين بإثبات ما أثبته الله تعالى من ذلك في كتابه، أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه، وقد جزم ابن تيميّة رحمه الله بأن الذي ثبت عن السلف هو القول:

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى" لابن تيميّة 6/ 507 - 508.

ص: 67

بأن الله تعالى نور على الحقيقة دون تشبيه، ولا تأويل، ولا تعطيل، قال: بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفيّة، وجمهور الصفاتيّة، من أهل الكلام والفقهاء والصوفيّة وغيرهم، وهو قول أبي سعيد بن كُلّاب، ذكره في الصفات، وردّ على الجهميّة تأويل اسم النور، وهو شيخ المتكلّمين الصفاتيّة من الأشعريّة الشيخ الأول، وحكاه عنه أبو بكر بن فورك في كتاب "مقالات ابن كلاب"، والأشعريّ، ولم يذكروا تأويله إلَّا عن الجهميّة المذمومين باتّفاق، وهو أيضًا قول أبي الحسن الأشعريّ، ذكره في "الموجز"، وقد أطنب شيخ الإسلام في تقرير هذه المعاني، والردّ على المخالف بما لا تراه عند غيره

(1)

، فتمسّك به، فإنه الكنز المكنون، زادني الله تعالى وإياك حرصًا على اتباع الحقّ.

وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: والله سبحانه وتعالى سَمَّى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجَعَلَ دار أوليائه نورًا يتلألأ، قال الله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].

وقد فسّر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بكونه منوّر السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتُقّ له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسني، والنور يضاف إليه سبحانه وتعالى على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله، فالأول كقوله عز وجل:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور:"أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت"

(2)

، وفي الأثر الآخر:

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى" 6/ 374 - 396.

(2)

لَمْ أجد من ذكره بهذا اللفظ.

ص: 68

"أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات"

(1)

. فأخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله، كما أخبر تعالى أن الأرض تُشرق يوم القيامة بنوره، وفي "معجم الطبراني"، و"السنة" له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"

(2)

. وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول مَن فَسّرها بأنه هادي أهل السموات والأرض، وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.

وقال رحمه الله

(3)

في نونيّته:

وَ"النُّورُ" مِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا وَمِن

أَوْصَافِهِ سُبْحَانَ ذِي الْبُرْهَانِ

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَلَامًا قَدْ حَكَا

هُ الدَّارِمِي عَنْهُ بِلَا نُكْرَانِ

مَا عِنْدَهُ لَيْلٌ يَكُونُ وَلَا نَهَا

رٌ قُلْتُ تَحْتَ الْفُلْكِ يُوجَدُ ذَانِ

نُورُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى مِنْ نُورِهِ

وَالأَرْضِ كَيْفَ النَّجْمُ وَالْقَمَرَانِ

مِنْ نُورِ وَجْهِ الرَّبِّ جل جلاله

وَكَذَا حَكَاهُ الْحَافِظُ الطَّبَرَانِي

فِيهِ اسْتَنَارَ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ مَعْ

سَبْعِ الطِّبَاقِ وَسَائِرِ الأَكْوَانِ

وَكِتَابُهُ نُورٌ كَذَلِكَ شَرْعُهُ

نُورٌ كَذَا الْمَبْعُوثُ بِالْفُرْقَانِ

وكَذَلِكَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْفَتَى

نُورٌ عَلَى نُورٍ مَعَ الْقُرْآنِ

وحِجَابُهُ نُورٌ فَلَوْ كَشَفَ الْحِجَا

بَ لأَحْرَقَ السُّبُحَاتُ لِلأَكْوَانِ

وَإِذَا أَتَى لِلْفَصْلِ يُشْرِقُ نُورُهُ

فِي الأَرْضِ يَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ

وَكَذَاكَ دَارُ الرَّبِّ جَنَّاتُ الْعُلَى

نُورٌ تَلألأَ لَيْسَ ذَا بُطْلَانِ

(1)

ضعيف أخرجه الطبرانيُّ في "الكبير"، وقال الهيثميّ: فيه ابن إسحاق مدلّس، وبقيّة رجاله ثقات، "مجمع الزوائد" 6/ 35.

(2)

هذا الأثر أخرجه الطبرانيّ 9/ 200، حديث (8886)، قال الهيثميّ رحمه الله في "المجمع" 1/ 85: فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في "الثقات". اهـ.

(3)

أي ابن القيّم رحمه الله.

ص: 69

وَالنُّورُ ذُو نَوْعَيْنِ مَخْلُوقٌ وَوَصْـ

فٌ مَا هُمَا وَاللهِ مُتَّحِدَانِ

وَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ ذُو نَوْعَيْنِ مَحْـ

سُوسٌ وَمَعْقُولٌ هُمَا شَيْئَانِ

احْذَرْ تَزِلُّ فَتَحْتَ رِجْلِكَ هُوَّةٌ

كَمْ قَدْ هَوَى فِيهَا عَلَى الأَزْمَانِ

مِنْ عَابِدٍ بِالْجَهْلِ زَلَّتْ رِجْلُهُ

فَهْيَ إِلَى قَعْرِ الْحَضِيضِ الدَّانِي

لَاحَتْ لَهُ أَنْوَارُ آثَارِ الْعِبَا

دَةِ ظَنَّهَا الأَنْوَارَ لِلرَّحْمَن

فَأَتَى بِكُلّ مُصيبَةٍ وَبَلِيَّةٍ

مَا شِئْتَ مِنْ شَطَحٍ وَمِنْ هَذَيَانِ

(1)

وَكَذَا الْحُلُولِيُّ هُوَ خَدْنُهُ

مِن هَاهُنَا حَقًّا هُمَا أَخَوَانِ

وَيُقَابِلُ الرَّجُلَيْنِ ذُو التَعْطِيلِ وَالْـ

حُجُبِ الْكَثِيفَةِ مَا هُمَا سِيَّانِ

ذَا فِي كَثَافَةِ طَبْعِهِ وَظَلَامِهِ

وَبِظُلمَةِ التَّعْطِيلِ هَذَا الثَّانِي

وَالنُّورُ مَحْجُوبٌ فَلَا هَذَا وَلَا

هَذَا لَهُ مِنْ ظُلْمَةٍ يَرَيانِ

(2)

[فائدة]: في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية [النور: 35].

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: هذا مثلٌ لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أُبَيّ بن كعب وغيره، وقد اختُلِف في مفسر الضمير في {نُورِهِ} ، فقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: مفسره المؤمن، أي مثل نور المؤمن، والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى، والمعنى: مثلُ نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده، وأعظمُ عباده نصيبًا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا مع ما تضمنه عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظًا ومعنًى، وهذا النور يضاف إلى الله تعالى؛ إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه،

(1)

قال في "مدارج السالكين": ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة الحقّ، وإنما وصوله إلى شواهد الحقّ، ومن زعم غير هذا فلغلبة الوهم عليه، وحسن ظنه بترّهات القوم وخَيالاتهم، قال: ولا ريب أن القلوب تشاهد أنوارًا بحسب استعداداتها، وتقوى تارةً، وتضعف تارة، ولكن تلك أنوار الأعمال والإيمان والمعارف، وصفاء البواطن والأسرار، لا أنَّها نور الذات المقدّسة، فإن الجبل لَمْ يثبت لليسير من ذلك النور حتى تدكدك، وخرّ موسى صعقًا مع عدم تجلّيه له، فما الظنّ بغيره؟! انتهى.

(2)

"النونيّة" 2/ 237 - 239.

ص: 70

ويضاف إلى العبد؛ إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل، ومحلّ وحالٌ، ومادّة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل.

فالفاعل هو الله تعالى، مُفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء، والقابل العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحالُ همته وعزيمته وإرادته، والمادّة قوله وعمله، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية، فيه من الأسرار والمعاني، وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تَقَرُّ به عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.

وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:

[أحدهما]: طريقة التشبيه المركَّب، وهي أقرب مأخذًا، وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمّتها بنور المؤمن من غير تعرُّض لتفصيل كلّ جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامّةُ أمثال القرآن، فتأمل صفة المشكاة، وهي كُوَّةٌ

(1)

تَنْفُذ لتكون أجمع للضوء، قد وُضع فيها المصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة، تشبه الكوكب الدُّرّيّ في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان، وأتمها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القَرَاح

(2)

، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل هي في وسط القَرَاح مَحْمِيّة بأطرافه، تصيبها الشمس، أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب، هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصّه به.

[والطريقة الثانية]: طريقة التشبيه المفَصَّل: فقيل: المشكاة صدر المؤمن، والزجاجة قلبه، شُبِّه قلبه بالزجاجة؛ لرقّتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن، فإنه قد جَمَع الأوصاف الثلاثة، فهو يَرْحَم، ويُحسِن، ويتحنَّن، ويُشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم

(1)

"الْكَوّة" بفتح الكاف، وضمها: الثقبة في الحائط.

(2)

"القراح" بالفتح: وزانُ كلام: هي المزرعة التي ليس عليها بناء، ولا فيها شجر.

ص: 71

على ما هي عليه، ويباعد الكَدَر والدَّرَن والوَسَخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله تعالى، ويَغلُظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى.

وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقّها، وأصلبها وأصفاها، والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق، وهي مادّة المصباح التي يتقد منها، والنور على النور نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نورًا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يَسْمَع ما فيه بالأثر، ثم يَبْلُغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه، ونَطَق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي، فَيُرِيه عقله وفطرته وذوقه أنّ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان، ويتوافقان، فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشُّبَه الباطلة، والخيالات الفاسدة، من الظنون الجهليات التي يُسَمِّيها أهلها القواطع العقليات، فهي في حدره، كما قال تعالى:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40].

فانظر كيف انتظمت في هذه الآياتِ طوائف بني آدم أتم انتظام؟، واشتملت عليهم أكمل اشتمال؟.

فإن الناس قسمان:

[القسم الأول]: هم: أهل الهدى والبصائر الذين عَرَفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى، وأن كلّ ما عارضه فشبهات يشتبه على من قَلّ نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئًا له حاصل ينتفع به، وهي: {

كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40].

ص: 72

وهؤلاء هم أهل الهدى، ودين الحقّ، أصحاب العلم النافع، والعمل الصالح الذين صدّقوا الرسول في أخباره، ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات، ولا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون، أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوّكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، مُمْحِلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب، إِنْ عندهم إلَّا نُخَالة الأفكار، وزُبالة

(1)

الأذهان، التي قد رَضُوا بها، واطمأنوا إليها، وقدَّموها على السنة والقرآن، إن في حدورهم إلَّا كبر ما هم ببالغيه، أوجبه لهم اتباعُ الهوى ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.

[القسم الثاني]: أهل الجهل والظلم الذين جَمَعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، وهؤلاء قسمان:

(أحدهما): الذين يحسبون أنهم على علم وهدي، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهلُ الجهلِ المركب الذين يَجهلون الحقّ، ويعادونه، ويعادون أهله، وينصرون الباطل، ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء، إلا إنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لَمْ يجده شيئًا، وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب، الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان، كما هو حال من أَمَّ السراب، فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنه وَجَد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل الدرّ، وقَدِم إلى ما عَمِل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباءً منثورًا؛ إذ لَمْ يكن

(1)

بضم الزاي، يقال: ما في البئر زُبالة: أي شيء، قاله في "ق".

ص: 73

خالصًا لوجهه، ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علومًا نافعة كذلك هباءً منثورًا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.

و"السَّرَاب": ما يُرَى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يَسْرُب

(1)

على وجه الأرض، كأنه ماء يجري، و"القيعة": القاع، وهو: المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه، ولا فيه وادٍ، فشُبِّه علوم من لَمْ يأخذ علومه وأعماله من الوحي بسراب، يراه المسافر في شدة الحرّ فيؤُمُّه فيخيب ظنه، ويجده نارًا تلظي، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حُشِر الناس، واشتد بهم العطش بَدَت لهم كالسراب، فيحسبونه ماءً، فإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب، فعَتَلُوهم إلى نار الجحيم، فسُقُوا ماءً حميمًا فقطّع أمعاءهم، وذلك الماء الذي سُقُوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى، صَيَّرها الله تعالى حميمًا سقاهم إياه، كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو تلك المعلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تُسمى ولا تُغني من جوع، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103، 104]، وهم الذين عُنُوا بقوله:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، وهم الذين عُنُوا بقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167].

(والقسم الثاني) من هذا المصنّف: أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاط بهم من كلّ وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضلّ سبيلًا، فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء، من غير نور من الله تعالى، {كَظُلُمَاتٍ} جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوي، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحقّ الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم؛ ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور،

(1)

بضمّ الراء من باب قعد.

ص: 74

فإن المعرض عما بَعَث الله تعالى به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت بصيرته الْخُفّاشية ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من النور جَدَّ في الهرب منه، وكاد نوره يَخْطَف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى، كما قيل [من الطويل]:

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِه

وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

فإذا جاء إلى زُبالة الأفكار، ونُخالة الأذهان، جال ومال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طَلَع نور الوحي، وشمس الرسالة، انحجر في حُجْرة الحشرات. انتهى كلام الإمام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وإنما نقلته بطوله؛ لفوائده الكثيرة، وعوائده الغزيرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[451]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ع) وَحَدَّثَنِي

(2)

حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِم، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَسَألتُهُ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدْ سَأَلْتُ، فَقَالَ:"رَأَيْتُ نُورًا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف بـ "بندار"، ثقة حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2، هو أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستّة دون واسطة، كما مرّ غير مرّة.

(1)

راجع: "اجتماع الجيوش الإسلاميّة" ص 49 - 58.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 75

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدّستوائيّ البصريّ، صدوقٌ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هو: هشام بن أبي عبد الله، واسمه سَنْبَر، كجَعْفر، أبو بكر البصريّ الدّستوائيّ، ثقة ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب، واسمه يوسف بن الحجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

5 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن عبد الله الباهليّ الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [10](ت 22)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

6 -

(هَمَّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 164)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70، والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (قَدْ سَأَلْتُ) هكذا الرواية بحذف المفعول: أي سألته.

وقوله: (رأيتُ نورًا) قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه هذا الحديث ما نصّه: قال أبو حاتم: معناه: أنه لَمْ يَرَ ربّه، ولكن رأى نورًا عُلْويًّا من الأنوار المخلوقة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الرواية لا تخالف الرواية التي قبلها: "نورٌ أنّى أراه"، فإن مؤدّى العبارتين أنه صلى الله عليه وسلم ير ربّه ببصره، وإنما رأى نورًا، وهو حجابه سبحانه وتعالى، فالروايتان بمعنى واحد.

ثم إن هذا الذي دلّ عليه حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: من أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ ير ربّه هو الحقّ الذي ينبغي التمسّك به؛ لأنه الذي دلّت عليه ظواهر الآياتِ والأحاديث، وهو المنقول عن معظم السلف، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه قال: إنه رآه ببصره، وإنما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره أنه رآه بفؤاده.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الرؤية فالذي ثبت في "الصحيح" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربّه بفؤاده مرّتين، وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عبّاس أثبت رؤية الفؤاد.

(1)

"الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 1/ 255.

ص: 76

قال الجامع عفا الله عنه: هذا جمع وجيهٌ يَجمع الأقوال، فتمسّك به، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: والألفاظ الثابتة عن ابن عباس رضي الله عنهما هي مطلقة، أو مقيّدة بالفؤاد، تارةً يقول: رأى محمد ربّه، وتارةً يقول: رآه محمد، ولم يثبت عن ابن عبّاس لفظ صريحٌ بأنه رآه بعينه، وكذلك الإمام أحمد تارةً يُطلق الرؤية، وتارةً يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل أحد: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عبّاس، ففهم منه رؤية العين، وليس في الأدلّة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا في الكتاب والسنّة ما يدلّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ، كما في "صحيح مسلم" عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربّك؟ فقال: "نورٌ أَنَّى أراه؟ "، وقد قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]، ولو كان أراه نفسه بعينه، لكان ذكر ذلك أولي، وكذلك قوله تعالى:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18]، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.

وفي "الصحيحين" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، وهذه رؤيا الآياتِ؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدّقه قوم، وكذّبه قوم، ولم يُخبرهم بأنه رأى ربّه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك، لذكره، كما ذكر ما دونه.

وقد ثبت بالنصوص الصحيحة، واتفاق سلف الأمة أنه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، إلَّا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصّةً، واتّفقوا على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة عِيانًا، كما يرون الشمس والقمر. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسُ،

(1)

"مجموع الفتاوى" 6/ 507 - 510.

ص: 77

فتمسّك به، تسلك سبيل الهدى والرشاد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(85) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ"، وَقَوْلِهِ: "حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ

إلخ")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[452]

(179) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، حَدَّثنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَار، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْل، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ - لَوْ كشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انتهى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "عَنِ الْأَعْمَشِ"، وَلَمْ يَقُلْ: "حَدَّثنَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في"الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق بن الحارث بن سلمة بن كعب بن وائل بن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الْجَمَليّ - بفتح الجيم والميم - المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمي، ثقة عابد، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5].

رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي وائل، ومرة الطيب، وسعيد بن

ص: 78

المسيب، وعبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن الحارث النَّجْراني، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وأبو إسحاق السبيعي، وهو أكبر منه، والأعمش، ومنصور، وزيد بن أبي أنيسة، ومسعر، والعلاء بن المسيب، وإدريس بن يزيد الأودي، والأوزاعي، والمسعودي، وحصين بن عبد الرَّحمن، وغيرهم.

قال البخاري عن علي: له نحو مائتي حديث. وقال سعيد الأُرَاطيّ

(1)

: زَكّاه أحمد بن حنبل. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، كان يرى الإرجاء. وقال حفص بن غياث: ما سمعت الأعمش يُثني على أحد إلَّا على عمرو بن مرّة، فإنه كان يقول: كان مأمونًا على ما عنده. وقال بقية عن شعبة: كان أكثرهم علمًا. وقال معاذ بن معاذ عن شعبة: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلَّا يدلس إلَّا ابن عون، وعمرو بن مرّة. وقال قُرَاد عن شعبة: ما رأيت عمرو بن مرّة في صلاة قط، إلَّا طننت أنه لا ينفتل حتى يستجاب له. وقال عبد الملك بن ميسرة في جنازته: إني لأحسبه خير أهل الأرض. وقال مسعر: لَمْ يكن بالكوفة أحب إلي، ولا أفضل منه. وقال ابن عيينة عن مسعر: كان عمرو من معادن الصدق. وقال عبد الرَّحمن بن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو يخطئ، منهم: عمرو بن مرّة. وقال جرير عن مغيرة: لَمْ يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء، فتهافت الناس فيه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُكنى أبا عبد الرَّحمن، وكان مرجئًا، ووثقه ابن نمير، ويعقوب بن سفيان.

وقال أبو نعيم، وأحمد بن حنبل: مات سنة (116)، وقيل: مات سنة (118).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا.

4 -

(أَبُو عُبَيْدَةَ) بن عبد الله بن مسعود الْهُذَليّ، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، الكوفيّ، ثقة، من كبار [3].

(1)

قال في "القاموس": وذو أُراط كغُراب: موضعان. انتهى.

ص: 79

رَوَى عن أبيه، ولم يسمع منه، وعن أبي موسى الأشعري، وعمرو بن الحارث بن الْمُصْطَلِق، وكعب بن عُجْرة، وعائشة، وأم زينب الثقفية، والبراء بن عازب، ومسروق، وغيرهم.

ورَوى عنه إبراهيم النخعيّ، وأبو إسحاق السبيعي، وسعد بن إبراهيم، وعمرو بن مرّة، والمنهال بن عمرو، ونافع بن جبير بن مطعم، وغيرهم.

قال شعبة عن عمرو بن مرّة: سألت أبا عبيدة: هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا. وقال المفضل الغلابي عن أحمد: كانوا يُفَضِّلون أبا عبيدة على عبد الرَّحمن. وقال الترمذي: لا يُعرَف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لَمْ يسمع من أبيه شيئًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": قلت لأبي: هل سمع أبو عبيدة من أبيه؟ قال: يقال: إنه لم يسمع، قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يَروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة، قال: خرجت مع أبي لصلاة الصبح، فقال أبي: ما أدري ما هذا؟ وما أدري عبدُ الله بن أبي هند من هو؟. وقال الترمذي في "العلل الكبير": قلت لمحمد: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يَعرِف اسمه، وقال: هو كثير الغلط. وقال الدارقطني: أبو عبيدة أعلم بحديث أبيه من حُنَيف بن مالك ونظرائه. وقال صالح بن أحمد: ثنا ابن المديني، ثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: قلت لشعبة: إن عثمان الْبُرّيّ حدثنا عن أبي إسحاق، أنه سمع أبا عبيدة، أنه سمع ابن مسعود، فقال: أَوّهْ، كان أبو عبيدة ابن سبع سنين، وجَعَل يضرب جبهته. انتهى.

قال الحافظ: هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لَمْ يسمع من أبيه، ليس بقائم، ولكن راوي الحديث عثمان ضعيف. انتهى، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم.

وقال شعبة عن عمرو بن مرّة: فُقِد عبدُ الرَّحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شدّاد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ليلة دُجَيل، وكانت سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة (82).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا الحديث (179)، وأعاده بعده، وحديث (864): "انظروا إلى هذا الخبيث

ص: 80

يخطب قاعدًا

"، و (1000): "تصدّقن يا معشر النساء

"، و (2355): "أنا محمد، وأحمد، والمقفّي

"، و (2759): "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل

" ..

5 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171، والباقيان تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه له شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمرو، عن أبي عبيدة.

6 -

(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش.

7 -

(ومنها): أن أبا عُبيدة مشهور بكنيته، والأصحّ أنه لا اسم له غيرها.

8 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، أمّره عُمر بن الخطّاب، ثمّ عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الْحَكَمين بصفّين، وأثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حسن قراءته، فقد أخرج عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".

وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" مطوَّلًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(21874): حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا مالك، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: خرج بُريدة عشاءً، فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيده، فأدخله المسجد، فإذا صوت رجل يقرأ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تُرَاه مرائيًا؟ "، =

ص: 81

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي قام صلى الله عليه وسلم خطيبًا في الصحابة صلى الله عليه وسلم، حال كونه مذكّرًا لهم بخمس كلمات.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "قام فينا

إلخ" فيه ثلاثة أوجه من الإعراب:

[أحدها]: أن يكون "فينا" و"بخمس" حالين مترادفين، أو متداخلين، وذلك أن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الحال الأولى، أي قام خطيبًا فينا، مذكّرًا بخمس كلمات.

[وثانيها]: أن يكون "فينا" متعلّقًا بـ "قام" بأن يُضَمَّنَ معنى "خَطَب"، و"بخمس" حالًا، أي خطب قائمًا مذكّرًا بخمس كلمات، و"قام" في الوجهين بمعنى القيام على ما ورد في حديث أوس بن حُذيفة الثقفيّ رضي الله عنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينصرف إلينا بعد العشاء، فيُحدّثنا قائمًا على رجليه، حتى يُراوح بين قدميه من طول القيام".

[وثالثها]: أن يعلّق "بخمس" بـ "قام"، ويكون "فينا" بيانًا، كأنه لَمّا قيل:"قام بخمس"، فقيل: في حقّ من؟، أجيب: في حقّنا، وجهتنا، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69]، ذكر في "الكشّاف" في قوله تعالى:

= فأسكتَ بريدةُ، فإذا رجل يدعو، فقال: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت الأحد الصمد الذي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال النبيّ:"والذي نفس محمد بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أَعْطَى، وإذا دُعي به أجاب"، قال: فلما كان من القابلة خَرَج بُريدة عشاءً، فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيده، فأدخله المسجد، فإذا صوت الرجل يقرأ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتقوله مراء؟ "، فقال بريدة: أتقوله مراءٍ يا رسول الله؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا بل مؤمن منيبٌ، لا بل مؤمن منيب"، فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الأشعريّ - أو: إن عبد الله بن قيس -، أُعطي مِزْمارًا من مزامير آل داود"، فقلت: ألا أخبره يا رسول الله؟ قال: بلى، فأَخْبِره، فأخبرته، فقال: أنت لي صديقٌ، أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث. وهذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح.

ص: 82

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، قيل: مع من؟ قيل: معه، وكذلك قدّر في قوله سبحانه وتعالى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فعلى هذا "قام" بمعنى قام بالأمر: أي تشَمَّرَ، وتجلَّد له، فالمعنى: أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له، قال الله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، وقال الله سبحانه وتعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: وفي الوجه الثالث لو جُعل "فينا" متعلّقًا بـ "قام" من غير اعتبار، أي قام بخمس كلمات في حقّنا، ولأجل انتفاعنا كان صحيحًا، والأقرب أن المعنى: قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجارّان متعلّقان بالقيام، وهو على ظاهره، وذلك أن يُجعل القيام مِن قام بالأمر، ويُجعل "فينا" بيانًا متعلّقًا به أيضًا. انتهى

(2)

.

(بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ) أي بخمس جُمَل، فالمراد بالكلمة هنا الجملة المركبة المفيدة، وهو إطلاق لغويّ، كما يسمّون القصيدة كلمةً، وإليه أشار ابن مالك في "الخلاصة":

وَكِلْمَةٌ بهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَم

ومنه قوله عز وجل {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} الآية [المؤمنون: 100]، إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ] [المؤمنون: 99]، وقولهم: لا إله إلَّا الله كلمة الإخلاص، ومنه ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبِيد:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ"

[تنبيه]: المراد بالكلمات هنا: الْجُمَل المترابطة في المعنى:

[فالكلمة الأولى]: قوله: "إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام".

[الثانية]: قوله: "يَخفِض القسط، ويرفعه".

[الثالثة]: قوله: "يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل".

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 548.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 128.

ص: 83

[الرابعة]: قوله: "حجابه النور - أو - النار".

[والخامسة]: قوله: "لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

ويحتمل أن تكون الكلمة الأولى هي قوله: "إن الله لا ينام"، والثانية قوله:"ولا ينبغي له أن ينام"، والثالثة قوله:"يخفض القسط ويرفعه"، والرابعة قوله: "يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار

إلخ"، والخامسة قوله: "حجابه النور

إلخ"، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ) أي بالفعل؛ لأن النوم من النقائص؛ إذ هو انغمار، وغلبةٌ على العقل، يَسقُط به الإحساس، والله تعالى منزّه عن ذلك، وهو مستحيل عليه، وهذا كقوله عز وجل:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ} والآية [البقرة: 255]، (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) أي بالاحتمال، فإن النوم مستحيلٌ عليه سبحانه وتعالى، وكلمة "لا ينبغي" تستعمل في المستحيلات والممنوعات، مثل هذا، ومثل قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]، وقوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء: 211]، وقوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية [يس: 69].

وقال القاري رحمه الله: (وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ) نفيٌ للجواز تأكيدًا لنفي الوقوع على سبيل التتميم، أي لا يكون، ولا يصحّ، ولا يستقيم، ولا يمكن له النوم؛ لأنه أخو الموت

(1)

. وقال السنديّ رحمه الله: الكلمة الأولى دالّةٌ على عدم صدور النوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذُكرت الكلمة الثانية بعد الأولى. انتهى

(2)

.

(يَخْفِضُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب (الْقِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ) قال القاضي عياض: قال الهرويّ: قال ابن قتيبة: "القِسْط": الميزان، وسُمِّي قِسْطًا؛ لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل، قال: والمراد أن الله تعالى يَخفِض الميزان، ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزّان يده، ويَخفضها عند الوزن، وهذا

(1)

"شرح المرقاة" 1/ 128.

(2)

"شرح السندي" 1/ 128.

ص: 84

تمثيل لما يُقَدِّر تَنْزِيله، فشبّه بوزن الميزان، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]: أي أنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزّان الذي يزن، فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف يجوز عليه النوم، وهو الذي يتصرّف أبدًا في ملكه بميزان العدل؟.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهذا تمثيل

إلخ"، غير صحيح؛ لأنه يدلّ على أن الميزان هنا ليس حقيقةً، بل هو مجاز، وهو معنى باطل، مناف لما ثبت في النصوص الصحيحة من إثبات الميزان، والوزن به حقيقةً لا مجازًا، وكذا قوله: "فأمره كأمر الوزان" فيه نظر لا يخفى، فتنبّه لهذه الدقائق، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قِسط كل مخلوق، أي نصيبه، يخفضه فيُقَتِّره، ويرفعه فيوسعه

(1)

.

وقال الطيبيّ: المعنى الأول للقسط هو الأولى؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يرفع الميزان ويخفضه". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: قال ابن قتيبة: القِسْط: الميزان، وسُمّي بذلك؛ لأن القسط هو العدل، وذلك إنما يحصل، ويُعرف بالميزان في حقوقنا، وأراد به ها هنا ما يوزن به أعمال العباد المرتفعة إليه، وأرزاقهم الواصلة إليهم، كما قال الله تعالى:{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]، و"القُسطاس" بضم القاف، وكسرها: هو أَقْوَمُ الموازين، وقيل: أراد بالقسط هنا الوزن الذي هو قسط كلّ مخلوق، يَخفضه، فيُقتِّره، ويرفعه، فيوسّعه، وقيل: إن القسط هو العدل نفسه، ويُراد به الشرائع والأحكام، كما قال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الآية [الحديد: 25]، أي النَّصَفَة في الأحكام والعدل المأمور به في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية [النحل: 90]، فتارة يرفعه بمعنى: يُعليه، ويُظهره بوجود

(1)

راجع: "شرح مسلم للنوويّ" 3/ 13، و"شرح السنديّ" 1/ 128.

(2)

"الكاشف" 2/ 549.

ص: 85

الأنبياء، وأصحابهم، وأتباعهم العاملين به، وتارة يَخفضه بمعنى يُذهبه، ويُخفيه بدروس الشرائع، ورجوع أكثر الناس عن المشي على منهاجها، ويَحْتَمِلُ أن يكون رَفْعُها قبضها، كما قال صلى الله عليه وسلم في الأمانة: إنها تُرفع من القلوب

(1)

، وكما قال:"أول ما تَفقِدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة"

(2)

، بل كما قال:"عليكم بالعلم قبل أن يُرفع"

(3)

، وخفضها: إيجادها في الأرض، ووضعها. انتهى كلام القرطبيّ

(4)

.

(يُرْفَعُ) بالبناء للمفعول (إِلَيْهِ) أي للعرض عليه سبحانه وتعالى، فالرفع على ظاهره، وقيل: معنى الرفع إليه: الرفع إلى خزائنه، كما يقال: حُمل المال إلى الملك، فيُضبط إلى يوم الجزاء، ويُعرَض عليه، وإن كان هو سبحانه وتعالى أعلم به؛ ليأمر ملائكته بإمضاء ما قضى لفاعله جزاءً له على فعله، والمعنى الأولى أولى، والله تعالى أعلم.

(عَمَلُ اللَّيْلِ) أي المعمول فيه (قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ) أي قبل أن يُؤتَى بعمل النهار، وهو بيان لمسارعة الكرام الكتبة إلى رفع الأعمال، وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات، وعرضهم على الله تعالى، فإن الفاصل بين الليل والنهار آنٌ لا يجزي، وهو آخر الليل، وأول النهار.

وقيل: قبل أن يُرفع إليه عمل النهار، والأول أبلغ، قاله التوربشتيّ.

وقيل: الثاني أبلغ؛ لأن فيه بيان عظيم شأن الله تعالى، وقوّة عباده المكرمين، وحسن قيامهم بما أُمروا، ولأن لفظ العمل مصدر، فكأنه قال: يُرفع إليه عمل الليل، أي المعمول في الليل قبل عمل النهار، فلا حاجة إلى

(1)

رواه الشيخان، وغيرهما من حديث حُذيفة رضي الله عنه، وقد تقدّم للمصنّف برقم (143)، وهو عند البخاريّ برقم (6497).

(2)

قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ رحمه الله: رواه الطبرانيّ، ورجاله رجال الصحيح، غير شدّاد بن معقل، وهو ثقة. انتهى. "المجمع" 7/ 330.

(3)

رواه ابن عديّ في "الكامل" 5/ 1813، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 1/ 28، وفيه عثمان بن أبي عاتكة، وهو ضعيف.

(4)

"المفهم" 1/ 409 - 410.

ص: 86

تقدير لفظ الشروع، كاحتياجه إلى تقدير الرفع في المعنى الأول.

(وَعَمَلُ النَّهَارِ) بالرفع عطفًا على "عملُ الليل"(قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) وفي الرواية الآتية: "وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْل، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ"، قال النوويّ: معنى الرواية الأولى - والله أعلم -: يُرفع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده، ومعنى الرواية الثانية:"يُرفَع إليه عملُ النهار في أول الليل الذي بعده، ويُرْفَع إليه عمل الليل في أول النهار الذي بعده، فإن الملائكة الحفَظَة يَصْعَدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويَصْعَدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أولى الليل"، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وذكر القاري رحمه الله في "شرح المشكاة" ما معناه: وهو بيان لمسارعة الملائكة الموكّلين برفع أعمال النهار بعد العصر، والليل بعد الصبح، وأنهم يقطعون في هذا الزمن القليل تلك المسافة الطويلة التي تزيد على سبعة آلاف سنة على ما رُوي: أن مسيرة ما بين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة سنة، وما بين كلّ سماءين كذلك، وسَمْكُ كلّ سماء كذلك، وتقدير "رَفْع" في الأول، و"رَفْع" أو "فِعْل" في الثاني هو الذي دلّ عليه الحديث الآخر: إن أعمال النهار ترفع بعد صلاة العصر، وأعمال الليل تُرفع بعد صلاة الصبح، فلا يقع رفع عمل الليل إلا بعد فعلٍ من عمل النهار، وأما رفع عمل النهار فيقع قبل فِعْلِ أو رَفعِ شيء من عمل الليل؛ لأن بين ابتداء رفعها وعمل الليل فاصلًا يسع ذلك بالنسبة إلى القدرة الباهرة. فالحاصل أن قوله:"قبل عمل النهار" يتعيّن فيه تقدير "رَفْع"، ولا يصحّ تقدير "فِعل" فيه، وقوله:"قبل عمل الليل" يصحّ فيه كلٌّ منهما، وتقدير الفعل أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، فتأمل ذلك لتعلم فساد ما أطلقه بعض الشارحين. انتهى

(2)

.

(حِجَابُهُ النُّورُ) مبتدأ وخبره، يعني: أن حجاب الله سبحانه وتعالى الذي احتجب به من خلقه النور، قال النوويّ في "شرحه": أصل الحجاب في اللغة المنع والسَّتْرُ، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى مُنَزَّه عن

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 13.

(2)

"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 285.

ص: 87

الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسُمِّي ذلك المانع نورًا أو نارًا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة؛ لشعاعهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام النوويّ هذا فيه إيماء إلى أن الحجاب هنا مجاز، وليس حقيقةً، وسيأتي الردّ عليه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

وقال التوربشتيّ: أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الْحُجُب المعهودة، فهو مُحْتَجِبٌ عن الخلق بأنوار عزّه وجلاله، وأشعّة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تُدهَش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتتحيّر البصائر، ولو كُشف ذلك الحجاب، فتجلّى لما وراءه من حقائق الصفات، وعظمة الذات لم يَبقَ مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحلّ، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئيّ، وهو هنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبّر به عنه

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فقام ذلك المنع

إلخ"، هذا أيضًا من نوع ما سبق للنوويّ من دعوى المجاز، وسيأتي الرّدّ عليه.

والحاصل أن الصواب كون الحجاب حقيقة، لا مجاز فيه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ) يعني أن لفظ "النور" إنما وقع في رواية أبي كُريب، وأما شيخه أبو بَكر بن أبي شيبة، فرواه بلفظ:"النار"، ولا تنافي بين الروايتين، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ما معناه: إن تردّد الراوي في لفظ "النور"، و"النار" لا اختلاف في المعنى؛ لأن هذه النار التي كلّم الله تعالى بها موسى؛ يقال لها: نار ونور، كما سمَّى الله تعالى نار المصباح نورًا، بخلاف النار المظلمة، كنار جهنّم، فتلك لا تُسمَّى نورًا، فالأقسام ثلاثة: إشراقٌ بلا إحراق، وهو النور المحض، كالقمر، وإحراق بلا إشراق، وهي النار المظلمة، وما هو نار ونور، كالشمس، ونارِ المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين. انتهى

(3)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

راجع: "الكاشف" 2/ 550.

(3)

"مجموع الفتاوى" 6/ 387.

ص: 88

(لَوْ كشَفَهُ) أي الحجاب (لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ) أي أنوار وجهه سبحانه وتعالى، قال النوويّ في "شرحه":"السُّبُحات" بضم السين والباء، ورفع التاء في آخره، وهي جمع سُبْحَة، قال صاحب "العين"، والهرويّ، وجميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين: معنى "سُبُحاتُ وجهِهِ": نوره، وجلاله، وبهاؤه.

وذكر في "الكاشف" عن بعضهم في معنى "سبحات وجهه" أنها الأنوار التي إذا رآها الراؤون من الملائكة سبّحوا، وهلّلوا؛ لما يروعهم من جلال الله وعظمته. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هذا البعض يحتاج إلى نقل صحيح، والله تعالى أعلم.

(مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ") المراد جميعُ المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة "من" لبيان الجنس، لا للتبعيض، والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته، وهو الحجاب المسمى نورًا أو نارًا، وتَجَلَّى لخلقه لأحرق جلال وجهه جميع مخلوقاته.

قال الطيبيّ رحمه الله: وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في "بصره" إلى الخلق، و"ما" في "ما انتهى" بمعنى:"من" و"من خلقه" بيان له، والأول هو الوجه - يعني: أن رجوع ضمير "بصره" إلى الله تعالى هو المعنى الصحيح - بل فساد هذا المعنى لا خفاء فيه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "عَنِ الْأَعْمَشِ"، وَلَمْ يَقُلْ: "حَدَّثَنَا") يعني: أن شيخه أبا بكر قال في روايته: "عن الأعمش" بـ "عن"، ولم يذكر لفظ:"حدّثنا"، كما قاله شيخه الآخر، وهو أبو كُريب.

قال النوويّ رحمه الله: هذا من احتياط الإمام مسلم رحمه الله، وورعه، وإتقانه، وهو أنه رواه عن أبي كريب، وأبي بكر، فقال أبو كريب في روايته:"حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش"، وقال أبو بكر:"حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش"، فلما اختَلَفت عبارتهما في كيفية رواية شيخهما: أبي معاوية بَيَّنَها مسلم رحمه الله، فحصل فيه فائدتان:

[إحداهما]: أن "حدّثنا" للاتصال بإجماع العلماء، وفي "عن" خلاف كما قدمناه في الفصول وغيرها، والصحيح الذي عليه الجماهير، من طوائف

ص: 89

العلماء، أنها أيضًا للاتِّصال إلا أن يكون قائلها مدلسًا، فَبَيَّن مسلم ذلك.

[والثانية]: أنه لو اقتَصرَ على إحدى العبارتين، كان فيه خَلَلٌ، فإنه إن اقتصر على "عن" كان مُفَوِّتًا لقوّة "حدّثنا"، وراويًا بالمعنى، وإن اقتصر على "حدَّثنا" كان زائدًا في رواية أحدهما راويًا بالمعنى، وكل هذا مما يُجْتَنَب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[85/ 452 و 453 و 454](179)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(195 و 196)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(491)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 و 401 و 405)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(379 و 380 و 381 و 382)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(448 و 449 و 450 و 451)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 19 - 20)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(266)، و (ابن منده) في "الإيمان"(775 و 777 و 778 و 779)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 180 و 181)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(91)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 304)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحالة النوم على الله كل سبحانه وتعالى؛ لكونه من النقائص.

2 -

(ومنها): أن الله تعالى يُعزّ من يشاء ويهدي من يشاء من عباده، كما قال عز وجل:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].

3 -

(ومنها): أن الأعمال ترفع إليه كل يوم وكلّ ليلة، وهذا معنى قوله عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية [فاطر: 10].

ص: 90

4 -

(ومنها): إثبات الحجاب له سبحانه وتعالى، وهو النور الحائل بينه وبين خلقه، ولولاه لاحترقوا.

5 -

(ومنها): الردّ على الجهميّة فيما أنكرته من الصفات، وهو الوجه، والبصر، ورفع القسط، وخفضه، فكلها صفات ثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.

6 -

(ومنها): ما قال الإمام عثمان بن سعيد الدارميّ رحمه الله في كتاب الرّدّ على المريسيّ: إنما كانت تَحرق سُبُحات وجهه سبحانه وتعالى لو كشفها كلّ شيء في الدنيا؛ لأن الله تعالى كَتَب الفناء عليها، وركَّب ما ركّب من جوارح الخلق للفناء، فلا تحتمل نور البقاء، فتحترق به، أو تُدكّ، كما دُكّ الجبل، فإذا كان يوم القيامة رُكّبت الأبصار والجوارح للبقاء، فاحتملت النظر إلى وجهه الكريم، وإلى سُبُحاته، ونور وجهه من غير أن تحرق أحدًا، كما لو أن أجسَمَ رَجُلٍ وأَعْظَمه وأكمله لو أُلقي في الدنيا في تنّور مسجور لصار رمادًا في ساعة، فهو يتحرق في نار جهنم ألف عام وأكثر، ونارُها أشدّ حرًّا من نار الدنيا سبعين ضعفًا، لا يصير منها رمادًا، ولا يموت، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]؛ لأن أجسامهم، وأبصارهم، وأسماعهم تُركَّب يومئذ للبقاء، فاحْتَمَلت من عذاب جهنّم ما لم تكن تحتمل جزءًا من ألف جزء من عذاب الدنيا، وكذلك أولياء الله تعالى تحتمل أبصارهم النظر إلى وجه الله تعالى يوم القيامة، ولو قد أدركهم شيء من سُبُحات وجهه في الدنيا لاحترقوا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحتملها أبصارهم. انتهى كلام الدارميّ رحمه الله،

(1)

وهو تحقيق مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال النوويّ في "شرحه": وأما الحجاب: فأصله في اللغة المنع والستر، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى مُنَزَّه عن الجسم، والحدّ، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسُمِّي ذلك

(1)

"نقض الدارميّ" 2/ 755 - 758.

ص: 91

المانع نورًا أو نارًا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة؛ لشعاعهما، والمراد بالوجه الذاتُ، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه، جميعُ المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى مُحيط بجميع الكائنات، ولفظة "من" لبيان الجنس، لا للتبعيض، والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته، وهو الحجاب المسمى نورًا أو نارًا، وتَجَلَّى لخلقه، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النووي تبعًا للقاضي عياض، وغيره من الأشاعرة المؤوّلين مما لا يخفى ما فيه من الفساد:

(فمن ذلك): تأويل الحجاب ودعوى كونه مجازًا عن منع الرؤية، وهذا باطلٌ؛ لأن النصوص أثبتت لله سبحانه وتعالى الحجاب، فمذهب السلف أن الحجاب ثابت لله سبحانه وتعالى على حقيقته، كما أثبتته النصوص، فهو يحجب بصر خلقه عنه بنوره، فلا أحد يُدركه سبحانه وتعالى، قال الإمام عثمان بن سعيد الدارميّ رحمه الله في كتابه الردّ على بشر المريسيّ: إنما نقول: احتجب الله بهذه النار عن خلقه بقدرته وسلطانه، لو قُدّر كشفها لأحرق نور الربّ، وجلاؤه كلَّ ما أدركه بصره، وبصره مدرك كلّ شيء، غير أنه يُصيب به ما يشاء، ويَصرفه عما يشاء، كما أنه حين تجلّى لذلك الجبل خاصّةً من بين الجبال جعله دكًّا، ولو تجلّى لجميع جبال الأرض لصارت دكّاء كما صار جبل موسى، ولو تجلّى لموسى لجعله دكًّا، وإنما خرّ صعقًا؛ لما هاله من صوت الجبل. انتهى

(2)

.

(ومن ذلك): تفسيره الوجه بالذات، فإنه منه مصير إلى نفي صفة الوجه، وهو غير صحيح، بل الوجه صفة ثابتة لله تعالى، كما أثبتها لنفسه في كتابه، حيث قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، وحيث أثبته هذا الحديث الصحيح، وغيره من الأحاديث الصحيحة، ولا يلزم من إثباتنا له تشبيهه بخلقه، فأيّ فرق بين إثباتنا له الذات، وبين إثباتنا له الوجه؟، فإن كان يلزم من الوجه التشبيه لزم من الذات أيضًا، لكن نقول: له ذات لا تشبه الذوات، ووجه لا يشبه الوجوه، وبصرٌ لا يُشبه الأبصار، ويدٌ لا تشبه الأيدي، وغير ذلك من

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 13 - 14.

(2)

"نقض الدارميّ على المريسيّ" 2/ 750 - 754.

ص: 92

صفات الكمال، وهذا هو مذهب السلف، وهو الصراط المستقيم، فعليك بلزومه إن أردت الهدى والعزّ المستديم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الخامسة): ذكر الطيبيّ رحمه الله في "الكاشف" هنا وجوهًا متعلّقة بلطائف المعاني، والمحسّنات البديعيّة، أحببت إيرادها مع التعقيب على ما يحتاج إلى التعقيب عليه:

[أحدها]: أن قوله: "لا ينبغي له أن ينام" جملة معترضة، واردة على التتميم؛ صونًا للكلام عن المكروه، فإن قوله:"لا ينام" لا ينفي جواز النوم، كما قال الأشرف، فعقّب به لدفع ذلك التجويز، قال أبو الطيّب [من الطويل]:

وَتَحْتَقِرُ الدُّنْيَا احْتِقَارَ مُجَرِّبٍ

تَرَى كُلَّ مَا فِيهَا وَحَاشَاكَ فَانِيَا

فإن "حاشاك" تتميم في غايةً الحسن، ومعنى "لا ينبغي" لا يصحّ، ولا يستقيم النوم؛ لأنه مناف لحال ربّ العالمين.

[وثانيها]: "يخفض، ويرفع، وعمل الليل، وعمل النهار" من باب التضادّ، والمطابقة، والخفض، والرفع في القرينتين مستعارتان للمعاني من الأعيان.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "مستعارتان

إلخ" غير صحيح؛ لأن الاستعارة من المجاز، فهو يريد أن لا يثبت صفة الخفض والرفع لله تعالى على ظاهرها، وقد سبق أن نبّهنا على مثل هذا، فالحقّ أنها ثابتة له، ولا حاجة إلى المجاز؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذّر الحقيقة، وهنا لم يتعذّر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[وثالثها]: "لو كشفه" من الشرط والجزاء، استئنافيّة، مبيّنة للكلام السابق، كأنه لما قيل: إن حجابه النور، وعُرِّف الخبر المفيد للتخصيص اتّجه للسائل أن يقول: لم خُصّ الحجاب بالنور؟ أجيب: بأنه لو كان من غيره لاحترق.

قال الجامع: هذه الفائدة غير واضحة، والله تعالى أعلم.

[ورابعها]: الجملة الفعليّة في النفي والإثبات كلها واردة على صيغة المضارع؛ لإرادة الاستمرار، فالمنفيّان فيها يدلان على الدوام من غير انقطاع،

ص: 93

والأربع المثبتة على التجدد مع الاستمرار، وأما الجملة الاسميّة فدلالتها على سبيل الثبات والدوام في هذا العالم، والشرطيّة منبئة عن ذلك؛ لما دلّت على أنها مخالفة للنور المتعارف.

قال: وفيه دليل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربّه تعالى لقوله في الدعاء: "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا".

قال الجامع: مسألة رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء ببصره قد حقّقنا القول فيها، وأن جمهور السلف على نفيها، للحديث الصحيح المتقدّم:"نور أنى أراه"، وغيره، ومن نُقل عنه إثباتها كابن عبّاس فإن الصحيح أنه أثبتها بالفؤاد، لا بالعين، فتنبّه.

وأما استدلال الطيبيّ عليها بالحديث المذكور، فمما لا يخفى بُعده على بصير، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: وأما المؤمنون إذا صَفَت بشريّتهم عن الكُدُورات في دار الثواب، فيُرزَقُون هذه المنحة السنيّة، والرتبة العليّة.

[وخامسها]: أن معنى الحديث بأسره مسبوك من معنى آية الكرسيّ، فإن قوله سبحانه وتعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، إلى قوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} [البقرة: 255] مشعر بصفة الإكرام، ومنه إلى الخاتمة مشير إلى صفة الجلال؛ لما فيه من المنع عن الشفاعة إلا بإذنه، ومن ذكر الكرسيّ الذي هو سرير الملك، وهو مناسب لحديث الحجاب، وكذلك الحديث إلى قوله:"حجابه النور" مُنْبِيءٌ عنٍ صفة الإكرام، ومنه إلى آخره عن صفة الجلال، فتكون صفة الجلال محتجبةً بصفة الإكرام، فلو كشف حجاب الإكرام لتلاشت الأشياء، وتفنى بتجلي صفات الجلال الكائنات، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27].

ومن أسمائه الحسنى، وصفاته العظمى النور، قال الله تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69].

وبيانه أن قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} مقرّر للكلام السابق، قال في "الكشّاف": وهو تأكيد لـ {الْقَيُّومُ} ؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّومًا، وهو مثل قوله:"لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"، وقوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} كالتعليل لمعنى القيّوميّة، أي كيف ينام، وهو مالك ما

ص: 94

في السماوات وما في الأرض، ومربيهم، ومدبّر أمور معاشهم ومعادهم؟ وإلى الأول الإشارة بقوله:"يخفض القسط ويرفعه"، وإلى الثاني بقوله: "يُرفَع إليه عمل الليل

إلخ".

[فإن قلت]: فأين معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية في الحديث؟.

[قلت]: تخصيص ذكر البصر الذي هو نوع من طريق العلم مُلَوّح إليه، فما أجمعه من كلمات! وما أفصحه من عبارات! ولعمر الله إن هذا الحديث سيّد الأحاديث، كما أن آية الكرسيّ سيدة الآيات. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله، وهو بحث جيّد مع ما سبق في بعضه من المناقشة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[453]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ "مِنْ خَلْقِهِ"، وَقَالَ:"حِجَابُهُ النُّورُ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبتٌ حجة إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والأعمش تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) لا تنافي بينه وبين الرواية السابقة "بخمس كلمات"؛ إذ يُحمل بضمّ الرابعة، والخامسة، أو الأولى والثانية في كلمة واحدة، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 95

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ) ضمير "ذَكَرَ" لجرير.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ "مِنْ خَلْقِهِ") يعني أن جريرًا أسقط في روايته لفظ "من خلقه"، واقتصر على قوله:"ما انتهى إليه بصره".

وقوله: (وَقَالَ: "حِجَابُهُ النُّورُ) يعني أنه روى بلفظ "حجابه النور"، ولم يذكر "النار"، وقد سبق اختلاف شيخي المصنّف على أبي معاوية فيه كما نبّه عليه في كلامه السبق.

لكن الذي وقع عند ابن منده في الإيمان من رواية جرير بلفظ "النار"، فقد أخرجه من طرق عنه، كما سيأتي بعض الطرق في التنبيه التالي، ولعل المصنّف رحمه الله وقع له بلفظ "النور"، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية جرير هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على أبي معاوية، أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله في "الإيمان" (2/ 770) فقال:

(777)

أنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل، ثنا أحمد بن سلمة (ح) وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن نعيم، قالا: ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير (ح)، وأنبأ عبد الرحمن بن يحيى، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود، أنبأ عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفض القسط، ويرفعه، يُرْفَع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[454]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ

(1)

، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي

(1)

وفي نسخة: "ومحمد بن بشّار".

ص: 96

مُوسَى، قَالَ:"قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعٍ: إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ، وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْل، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ المذكور قبل باب.

2 -

(وَابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد بن بشّار بُنْدار المذكور في الباب الماضي.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بـ "غُنْدر"، أبو عبد الله الْهُذَليّ البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور المذكور قبل باب.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(86) - (بَابُ إِثْبَاتِ رُؤْيةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ سبحانه وتعالى فِي الآخِرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[455]

(180) - (حَدَّثنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَد، وَاللَّفْظُ لِأَبِي غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَد، حَدَّثنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاء، عَلَى وَجْهِه، فِي جَنَّةِ عَدْنٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ)

(1)

هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ بن

(1)

بفتح الجيم، وسكون الهاء، وفتح الضاد.

ص: 97

صُهْبان الأزديّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10](ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ)

(1)

هو: مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

3 -

(إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ المعروف بابن راهويه المذكور قبل حديث.

4 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَمّيّ، أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9].

رَوَى عن أبي عمران الْجَوْنيّ، وداود بن أبي هند، ومنصور، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ومطر الوراق، وعطاء بن السائب، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وعليّ، ويحيى، وأبو موسى، وبُنْدار، والحميدي، وأبو غسان المسمعي، والحسن بن عرفة، وغيرهم.

قال أحمد: كان ثقة. وقال ابن معين: لم يكن به بأس. وقال القواريري: كان حافظًا. وقال أبو زرعة، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال عمرو بن عليّ: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول يوم مات: ما مات لكم منذ ثلاثين سنة شبههُ، أو مثله، أو أوثق منه. وقال العجليّ: ثقة.

قال أبو داود: مات سنة (187)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (188)، وقال ابن قانع: مات سنة (189)، ويقال: سنة (190)، وحكى الْقَرّاب القولين في "تاريخه".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث (180)، وحديث (572): "إنه لو حَدَثَ في الصلاة شيء

"، و (2109): "أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المصوّرون"، و (2300): "لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء

"، و (2625): "إذا طبختَ مرقةً، فأكثر ماءها

"، و (2838): "في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوّفة

".

(1)

"غسّان" بفتح الغين المعجمة، يجوز صرفه، وعدمه، و"المسمعيّ" - بكسر الميم الأولى، وفتح الثانية -: نسبة مِسْمَع بن ربيعة جدّ قبيلة.

ص: 98

5 -

(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) هو: عبد الملك بن حبيب الأزديّ، ويقال: الكنديّ البصريّ، أحد العلماء، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4].

رَأَى عمران بن حصين، ورَوى عن جندب بن عبد الله البجلي، وأنس، وأبي فِرَاس، ربيعة بن كعب الأسلمي، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبيد، وسليمان التيمي، وابن عون، وأبو عامر الخزاز، وشعبة، وأبان، وأبو قُدامة الحارث بن عبيد، وهمام بن يحيى، والحمادان، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، واسمه عبد الرحمن، كذا قال. وقال غيره: سنة تسع. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثلاث وعشرين، وقد قيل: سنة ثمانية. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال الحاكم: لم يصح سماعه من عائشة، وصح سماعه من أنس.

وفي الطبراني بإسناد صحيح، عن حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجونيّ، قال: بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، فاستفتيت جندبًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

6 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ) الْأَشْعَرِيُّ الكوفيّ، يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وابن عباس، والأسود بن هلال.

وروى عنه أبو جمرة الضُّبَعيّ، وأبو عمران الْجَوْنيّ، وبدر بن عثمان، وعبد الله بن أبي السَّفَر، والأجلح بن عبد الله الْكِنديّ، وأبو إسحاق السبيعي، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم.

قال الآجريّ: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أُراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشام، جاءه أبو غادية الجهنيّ، قاتل عَمّار، فأجلسه إلى جانبه، وقال: مرحبًا بأخي. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: اسمه كنيته، مات في

ص: 99

ولاية خالد، ومن زَعَم أن اسمه عامر فقد وَهِمَ، عامر اسم أبي بردة. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن سعد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث، يُستضعَف، ومات في ولاية خالد، وكان أكبر من أخيه أبي بردة. وقال خليفة: مات سنة ست ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث، هذا (180)، وحديث (614):"الوقت بين هذين"، و (635):"من صلّى البردين دخل الجنّة"، و (1902): "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف

"، و (2711): "اللهم باسمك أحيا

"، و (2838): "إن للمؤمن في الجنة لخيمة

"، وكرّره ثلاث مرّات.

7 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن قيس بن سُليم، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة شيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير إسحاق، فمروزيّ، وأبي بكر فكوفيّ، وأما الصحابيّ فقد سكن البصرة والكوفة.

3 -

(ومنها): أنهم رجال الجماعة، غير إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه، وأبي غسّان فتفرّد به المصنّف، وأبو داود.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ لأبي غسّان، قال: حدّثنا أبو عبد الصمد" يعني أن سياق هذا المتن لشيخه أبي غسّان، وأما الآخران فروياه بالمعنى، ثم إن أبا غسّان ذكر شيخه بكنيته، فقال:"حدّثنا أبو عبد الصمد"، وأما الآخران فصرّحا باسمه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبو عمران، عن أبي بكر.

6 -

(ومنها): أن أبا بكر اسمه كنيته على الأصحّ، كأخيه أبي بُردة، ويقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر.

ص: 100

7 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: أبو بكر، عن أبي موسى رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه الْأَشْعَرِيّ، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَنَّتَانِ) خبر لمبتدأ محذوف، أي هما جنتان، ويجوز أن يكون مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة وقوعه موقع التفصيل، على حدّ قول الشاعر [من المتقارب]:

فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ

فَثَوْبٌ لَبسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ

والشاهد "فثوبٌ لبستُ"، وكذلك "وثوبٌ أجرّ"

(1)

.

وفي رواية أبي عوانة في "مسنده:، وابن منده في "الإيمان"، من طريق أبي قُدامة الحارث بن عُبيد الإياديّ، عن أبي عمران الْجَوْنيّ: "جنّاتُ الْفِردوس أربع: ثنتان آنيتهما، وحليّهما، وما فيهما من ذهب، وثنتان من فضّة آنيتهما، وحليّهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن، وهذه الجنات تشخُب

(2)

من جنات عدن، ثم تصدّع بعدُ أنهارًا". انتهى

(3)

.

وقوله: (مِنْ فِضَّةٍ) خبر لـ "جنّتان"، على الثاني، أي كائنتان من فضّة، وقوله:(آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا) بدل اشتمال من "جنّتان"، أو من ضمير "كائنتان"، أو "آنيتهما" فاعل بالجارّ والمجرور؛ لاعتماده على مسند إليه، أو "من فضّة" خبر مقدّم، و"آنيتهما" مبتدأ مؤخّر، والجملة خبر "جنّتان"، وكذلك إعراب قوله:(وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا) وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت البنانيّ، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال حماد: لا أعلمه إلا قد رفعه قال: "جنتان من ذهب للمقربين، ومن دونهما جنتان من ورِقٍ لأصحاب اليمين"، أخرجه الطبريّ، وابن أبي حاتم، ورجاله ثقات.

(1)

راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 138.

(2)

من باب نصر: أي تدرّ، وتسيل.

(3)

"مسند أبي عوانة" 1/ 137 رقم (412)، و"الإيمان" لابن منده 2/ 772 رقم (781).

ص: 101

قال الحافظ: وفيه رَدّ على ما حكيته عن الترمذي الحكيم أن المراد بقوله تعالى: "ومن دونهما جنتان" الدنوّ، لا أنهما دون الجنتين المذكورتين قبلهما، وصرح جماعة بأن الأوليين أفضل من الأخريين، وعكس بعض المفسرين، والحديث حجة للأولين.

قال الطبريّ: اختُلف في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} [الرحمن: 62] فقال بعضهم: معناه في الدرجة، وقال آخرون: معناه في الفضل.

وقوله: "جنتان" إشارة إلى قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} ، وتفسير له.

[فإن قلت]: هذا يدلّ على أن الجنتين من ذهب لا فضّة فيهما، وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله حَدِّثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة

" الحديث، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبان، وله شاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الطبرانيّ، وسنده حسن، وآخر عن أبي سعيد رضي الله عنه، أخرجه البزار، ولفظه: "خَلَقَ الله الجنة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة

" الحديث.

[وأجيب]: بأنه يُجمَع بأن الأول صفة ما في كل جنة من آنية وغيرها، والثاني صفة حوائط الجنان كلها، ويؤيده أنه وقع عند البيهقي في "البعث" في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"إن الله أحاط حائط الجنة لبنةً من ذهب، ولبنة من فضة"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب. (وَمَا) نافية (بَيْنَ الْقَوْمِ) أي أهل الجنّة (وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) زاد في رواية ابن ماجه: تبارك وتعالى (إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ) قال السنديّ رحمه الله: الظاهر أن المراد برداء الكبرياء نفس صفة الكبرياء على أن الإضافة بيانيّة، وهذا هو الموافق لحديث:"الكبرياء ردائي"

(2)

، وحينئذ لا يخفى أن ظاهر هذا الحديث يفيد أنهم لا يرونه تعالى،

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 533 "كتاب التوحيد" رقم الحديث (7434 - 7447).

(2)

أخرجه مسلم (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".

وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من طريق الأغر أبي مسلم، عن=

ص: 102

فإنه إذا كان رداء الكبرياء مانعًا عن نظر أهل جنّة عدن، فكيف غيرهم؟، وصفة الكبرياء من لوازم ذاته تعالى، لا يمكن زوالها عنه، فيدوم المنع بدوامها، إلا أن يقال: هي مانعة عن دوام النظر، لا عن أصل النظر، على أن معنى قوله:"وبين أن ينظروا" أي: وبين أن يُديموا، فلولا هي لدام نظرهم، وذلك لأن المنع من مقتضيات المعاملة بهذه الصفة، وهي غير لازمة، وبهذا صارت صفة الكبرياء مانعةً عن دوام النظر، دون أصله، فليُتأمّل.

ويمكن أن يقال: المراد برداء الكبرياء هو المعاملة بمقتضاها، لا نفس صفة الكبرياء، كما هو مقتضى الإضافة؛ إذ الأصل التغاير، لا التباين، وهو المناسب بالتعبير بالرداء، بناءً على أن الرداء عادةً لا يلزم اللابس لزوم الإزار، وحينئذ، فرداء الكبرياء، وإن كان مانعًا من أصل النظر، لكنه غير لازم، فيمكن النظر، وعلى الوجهين فالحديث مسوقٌ لإفادة كمال قرب أهل جنّة عدن منه تعالى. انتهى

(1)

.

وقال المازريّ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تَفْهَم، ويُخرِج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس؛ ليُقَرِّب تناولهم لها، فعبّر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك.

وقال عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرًا، وهي أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى:{جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24]، فمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم برداء الكبرياء على وجهه، ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره، أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له، وعَلِم أن الله مُنَزَّهٌ عن الذي يقتضيه ظاهرها، إما أن يُكَذِّب نقلَتها، وإما أن يؤوّلها، كأن يقول: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانعِ إدراكَ أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداءَ الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته، وموانع عظمته. انتهى ملخصًا.

= أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار".

(1)

"شرح السنديّ" 1/ 121.

ص: 103

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى عياض هنا الاستعارة غير صحيحة، فالحقّ إثبات رداء الكبرياء على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى كما أثبته هذا النصّ الصحيح المتّفق على صحّته، ولا يلزم منه التشبيه؛ لأنه إنما يلزم لو قلنا: رداء كرداء الخلق، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال الطيبي: قوله: "على وجهه" حال من "رداء الكبرياء".

وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات، فإما مُفَوَّضٌ، وإما مُتَأَوَّلٌ بأن المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "متأول بأن المراد بالوجه الذات" هذا التأويل خطأ، والصواب إجراء النصّ على ظاهره على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى، فمن فعل ذلك فقد سلك جادّة أهل السنة والجماعة، ولا يستلزم ذلك النقص ولا التشبيه، وأيضًا فلو جاء التشبيه من إثبات الوجه، للزم في إثبات الذات التي أُوِّل إليها؛ إذ لا فرق بينهما، فالواجب إثبات الوجه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كثبوت الذات له من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، فهذا هو الباب المطّرد الواسع في باب الأسماء والصفات، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، ومستمسك العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السييل.

ثم استشكل الكرمانيّ ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة.

ثم أجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر؛ إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعًا من الرؤية، فعَبَّر عن زوال المانع عن الإبصار بإزالة المراد. انتهى.

وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية، فكأن في الكلام حذفًا تقديره بعد قوله:"إلا رداء الكبرياء"، فإنه يَمُنّ عليهم برفعه، فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، فكأنّ المراد أن المؤمنين إذا تبوؤوا مقاعدهم من الجنة، لولا ما عندهم من هيبة ذي الجلال، لَمَا حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حَفّهم برأفته، وتفضّل عليهم بتقويتهم على النظر إليه سبحانه وتعالى.

قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: ثم وجدت في حديث صهيب رضي الله عنه -

ص: 104

في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى رضي الله عنه الحجاب المذكور في حديث صهيب رضي الله عنه يعني: الحديث الآتي بعد هذا - وأنه سبحانه وتعالى يكشف لأهل الجنة إكرامًا لهم.

وقال القرطبي في "المفهم": الرداء استعارة كَنَى بها عن العظمة، كما في الحديث الآخر:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"، وليس المراد الثياب المحسوسة، لكن المناسبة أن الرداء والإزار لمّا كانا متلازمين للمخاطب من العرب، عَبّر عن العظمة والكبرياء بهما. ومعنى حديث الباب: أن مُقْتَضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يُرِيهم وجهه كمالًا للنعمة، فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء فكأنه رفع عنهم حجابًا كان يمنعهم.

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى القرطبيّ الاستعارة غير صحيحة، بل الحديث لا مجاز فيه، بل هو على حقيقته، على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، وقد سبق تحقيق هذا غير مرّة، والله تعالى وليّ التوفيق.

ونقل الطبري عن علي رضي الله عنه وغيره في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قال: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.

(فِي جَنَّةِ عَدْنٍ") راجع إلى القوم، قاله في "الفتح"، فهو متعلِّق بحال من ضمير "ينظرون"، قاله السنديّ، وقال عياض: معناه راجع إلى الناظرين، أي: وهم في جنة عدن، لا إلى الله، فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه وتعالى.

وقال القرطبي: يتعلق بمحذوف في موضع الحال من "القوم"، مثل: كائنين "في جنة عدن"، وقال الطيبي: قوله: "في جنة عدن" متعلّق بمعنى الاستقرار في الظرف، فيفيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنة، وإليه أشار التوربشتي بقوله: يشير إلى أن المؤمن إذا تبوأ مقعده، والحجب مرتفعة، والموانع التي تحجب عن النظر إلى ربه مُضْمَحِلَّة إلا ما يصدّهم من الهيبة، كما قيل:

أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا

أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِهِ

ص: 105

فإذا حَفّهم برأفته ورحمته، رفع ذلك عنهم تفضلًا منه عليهم

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[86/ 455](180)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4878 و 4880)، و"التوحيد"(7444)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(3528)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 419)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(186)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(529)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(13/ 148)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 411 و 416)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(545)، و (الدارميّ) في "سننه"(282)، و (ابن أبي عاصم) في "السنة" رقم (613)، و (الدولابيّ) في "الكنى"(2/ 71)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(412 و 413 و 414)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(452)، و (ابن منده) في "الإيمان"(780 و 181)، و (اللالكائي) في "شرح أصول الاعتقاد"(831)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(130)، وفي "الأسماء والصفات"(302)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(4379، 4380). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة.

2 -

(ومنها): إثبات الردّ على الجهميّة في إنكارهم صفات الله تعالى، من صفة رداء الكبرياء، وصفة الوجه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ورؤية المؤمنين في الآخرة.

3 -

(ومنها): إثبات وجود الجنة، وأنها مخلوقة الآن.

4 -

(ومنها): إثبات تفاوت الجنة فيما بين درجاتها؛ إذ بعضها من

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 531 - 535.

ص: 106

الذهب، وبعضها من الفضّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[456]

(181) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبِيِّضْ وُجُوهَنَا؟، أَلمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ) الْقَوَاريريّ، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ وله (85) سنة (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) - بضمّ الموحّدة، ونونين مخفّفين - هو: ثابت بن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت بضع 120) وله (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(صُهَيْبٌ) بن سِنَان بن مالك، ويقال: خالد بن عبد عمرو بن عُقيل، ويقال: طُفيل بن عامر بن جَنْدَلة بن سعد بن خُزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النَّمِر بن قاسط، أبو يحيى، وقيل: أبو غَسّان

ص: 107

النَّمَريُّ المعروف بالرُّوميّ، أصله من النَّمِر بن قاسط سَبَتْهُ الروم من نِينَوَى، وزعم عُمارة بن وَثِيمة أن اسمه عبد الملك، وقال ابن سعد: كان أبوه أو عمه عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة، فسَبَت الروم صُهيبًا، وهو غلام، فنشأ بينهم فابتاعه كلب منهم، فاشتراه عبد الله بن جُدْعان التيمي منهم، فأعتقه، ويقال: بل هَرَب صُهيب من الروم إلى مكة، فحالف عبد الله بن جُدعان، وأسلم قديمًا، وهاجر، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم بقباء، وشَهِد بدرًا والمشاهد بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر وعلي رضي الله عنهم، وعنه بنوه: حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد، وابن عمر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وأسلم مولى عمر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكعب الأحبار، وسعيد بن المسيب، وشعيب بن عمرو بن سليم، وابن ابنه زياد بن صيفي بن صهيب، وغيرهم.

قال ابن سعد: مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، وقيل: بلغ (73) سنة، وقال يعقوب بن سفيان: وهو ابن (84) سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص، وقال أبو زكريا الْمَوْصِليّ في "الطبقات": كان من المستضعفين بمكة، والمعذَّبين في الله، أسلم بعد بضعة وثلاثين رجلًا، وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صهيب سبق الروم"، وقيل: فيه نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، وإليه أوصى عمر أن يصلي بالنالس، حتى يجتمع أهل الشورى على رجل

(1)

.

رَوَى له الجماعة، وله أحاديث، له عند البخاريّ حديث، وعند المصنّف ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث (181)، و (2999): "عَجَبًا لأمر المؤمن إن أمره كلّه خير

"، و (3005): "كان ملِكٌ فيمن كان قبلكم

"، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

"الإصابة" 3/ 364 - 366، و"تهذيب الكمال" 13/ 237 - 240، و"تهذيب التهذيب" 2/ 218.

ص: 108

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وحماد بن سلمة أخرج له البخاريّ حديثًا وحدًا في "الرِّقاق".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى عبد الرحمن، فمدنيّ، ثم كوفيّ، وصهيب رضي الله عنه فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن حماد بن سلمة أثبت من روى عن ثابت.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

6 -

(ومنها): أن صهيبًا هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وقد عرفت أن له فيه ثلاثة أحاديث فقط، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ صُهَيْبٍ) بن سِنَان الرُّوميّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةً) وفي رواية ابن ماجه: "إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ الله تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟) وفي رواية ابن ماجه: "نَادَى مُنَادٍ، يَا أَهْلَ الْجَنَّة، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا، يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ"(فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ) من التبييض (وُجُوهَنَا؟) وفي رواية ابن ماجه: "فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّل اللهُ مَوَازِينَنَا؟ ".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ " هذا لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبّة والشوق، وإنما يَليق ذلك بمن مات بين الخوف والرجاء، فلما حصل على الأمن من المخوف، والظفَر بالمرجوّ الذي كان تشوّق إليه قَنِعَ به، ولَهَا عن غيره، وأما من مات محبًّا لله، مشتاقًا لرؤيته، فلا يكون همّه إلا طلب النظر لوجهه الكريم لا غيرُ، ويدلّ على صحّة ما قلته أن المرْء يُحشر على ما يموت عليه، كما عُلم من الشريعة، بل أقول: إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا يُنبَّه بالسؤال، بل يُعطيه أمنيّته ذو الفضل والإفضال، ومذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم، كما نطق بذلك الكتاب، وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة

ص: 109

عشر من الصحابة رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة، منهم المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقليّة، كاشتراط البنية المخصوصة والمقابلة، واتّصال الأشعّة، وزوال المانع من القرب المفرط، والْبُعد المفرط، والْحُجُب الحائلة، في خَبْط لهم وتحكّم، وأهلُ الحقّ لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلًا سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئيّ، لكن يقترن بالرؤية بحكم العادة أحوال يجوز في العقل شرعًا تبدّلها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا يليق بمن مات

إلخ " فيه نظر لا يخفى؛ لأن نصّ الحديث مطلق، لم يفرّق بين طائفة، وطائفة، وأيضًا استدلاله على ذلك بأن من مات يُحشر

إلخ محلّ نظر أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الحشر، وإنما هو بعد دخول الجنة، والاستقرار فيها، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

(أَلَمْ تُدْخِلْنَا) بضمّ أوله، من الإدخال (الْجَنَّةَ؟، وَتُنَجِّنَا) بضمّ أوله، وتشديد الجيم، من التنجية، ويَحْتَمل أن يكون بتخفيف الجيم، من الإنجاء (مِنَ النَّارِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَكْشِفُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الكشف (الْحِجَابَ) أي يزيله، ويرفعه، والظاهر أنه رداء الكبرياء الذي تقدم في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وقال السنديّ: لا تعارض بين الأحاديث التي وردت في الرؤية مختلفةً في الكيفيّة؛ لكونها تكون مرارًا متعدّدةً. انتهى.

(فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا) وفي رواية ابن ماجه: "فَيَنْظُرُونَ إِلَيْه، فَوَاللهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا (أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل") زاد في رواية ابن ماجه: "وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ"، و"أَقَرّ" من قرّت عينه تَقِرّ - بفتح القاف، وكسرها، من بابي عَلِمَ، وتَعِبَ -.

قال في "القاموس": وقرّت عينه تَقِرُّ بالكسر والفتح قَرَّةً - بالفتح - وتُضمّ، وقُرُورًا: بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوّفةً إليه. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 413 - 414.

(2)

"القاموس المحيط" ص 415.

ص: 110

وقال في "اللسان": واختلفوا في اشتقاق ذلك، فقال بعضهم: معناه بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دَمْعَةً باردةً، وللحزن دَمعةً حارّة، وقيل: من الْقَرَار، أي رأت ما كانت متشوّفةً إليه، فقرّت ونامت، وأقرّ الله عينه وبعينه، وقيل: أعطاه حتى تقرّ، فلا تطمح إلى من هو فوقه. وقيل: أَقرّ الله عينه مشتقّ من الْقَرُور، وهو الماء البارد، وقيل: أقرّ الله عينك، أي صادفت ما يُرضيك، فتقرّ عينك من النظر إلى غيره، وقيل: أقرّ الله عينه: أنام الله عينه، والمعنى: صادف سُرورًا، يُذهب سَهَره، فينام. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث صهيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في الكلام على هذا الحديث: هذا الحديث هكذا رواه المصنّف، والترمذي في "جامعه"، وابن ماجه في "سننه"، وغيرهم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو عيسى الترمذيّ، وأبو مسعود الدمشقيّ، وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعًا عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد، وحماد بن واقد، عن ثابت، عن ابن أبي ليلى من قوله، ليس فيه ذكرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ذكرُ صهيب رضي الله عنه. قال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم": وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحّة الحديث، فقد قدّمنا في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء، وأصحاب الأصول، والمحقّقون من المحدّثين، وصححه الخطيب البغداديّ أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متّصلًا، وبعضهم مرسلًا، أو بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا حُكم بالمتّصل وبالمرفوع؛ لأنهما زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير من كلّ الطوائف. انتهى

(2)

.

(1)

"لسان العرب" 5/ 86.

(2)

"شرح صحيح مسلم" للنووي 3/ 17.

ص: 111

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله من إطلاقه القول: بقبول زيادة الثقة مطلقًا، وكذا الحكم للموصول والمرفوع على الإطلاق، ليس هو المختارَ عند المحدّثين، بل المختار عندهم أن القبول يدور مع القرائن، فإن قامت قرينة لترجيح الوصل والرفع على ضدّهما حُكِم به، وإلا فلا، وكذا القول في زيادة الثقة، وقد استوفيت تحقيق هذا البحث في "شرح المقدمة"، فراجعه تستفد.

ثم إن ما قاله النووي من الترجيح هنا مقبول؛ لأن الذي وصله هو حماد بن سَلَمة، وهو مُقَدَّم في ثابت على غيره، فترجّح روايته.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ" في ذكر طبقات أصحاب ثابت البنانيّ: الطبقة الأولى الثقات، كشعبة، وحماد بن زيد، وسليمان بن المغيرة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأثبت هؤلاء كلهم في ثابت حمادُ بن سلمة، كذا قال أحمد في رواية ابن هانئ: ما أحدٌ روى عن ثابت أثبتُ من حماد بن سلمة.

وقال ابن معين: حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البنانيّ، وقال أيضًا: حماد بن سلمة أعلم الناس بثابت، ومن خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد.

وقال ابن المدينيّ: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم مِن بعده سليمان بن المغيرة، ثم من بعده حماد بن زيد، وهي صحاح، يعني: أن أحاديث هؤلاء الثلاثة عن ثابت.

وقال أبو حاتم الرازيّ: حماد بن سلمة في ثابت وعليّ بن زيد أحبّ إليّ من همّام، وهو أحفظ الناس، وأعلم الناس بحديثهما، بَيّن خطأ الناس، يعني: أن من خالف حمادًا في حديث ثابت وعليّ بن زبد قُدِّم قول حماد عليه، وحُكم بالخطأ على مخالفه.

وحَكَى مسلم في "كتاب التمييز" إجماعَ أهل المعرفة على أن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وحَكى ذلك عن يحيى القطان، وابن معين، وأحمد، وغيرهم من أهل المعرفة.

وقال الدارقطنيّ: حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت. انتهى ما ذكره

ص: 112

ابن رجب رحمه الله تعالى

(1)

.

قلت: فتبيّن بهذا أن رواية حماد بن سلمة بالوصل والرفع هي الراجحة، ولذلك أودعها الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه"، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثالثة): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[86/ 456 و 457](181)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2552)، و"التفسير"(3105)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(187)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1315)، و (أحمد) في "مسنده" 4/ 332 و 6/ 15، و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(171)، و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(472)، و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(271)، و (الطبريّ) في "التفسير"(17626)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(411)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(453، 454)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7314 و 7315)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7441)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 180 - 181)، و (الآجريّ) في "التصديق بالنظر"(34 و 35 و 36)، و (ابن منده) في "الإيمان"(782 و 784 و 786 و 875)، و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد"(778 و 833)، و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(446)، و"الاعتقاد"(124)، وفي "الأسماء والصفات"(307)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(4393). والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، وهي مجمع عليها عند أهل السنّة والجماعة، وإنما خالفت فيها الفرق الضالّة، كالجهميّة، والمعتزلة.

2 -

(ومنها): الردّ على الفرق الضالّة التي أنكرت الصفات، ورؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، وخالفت نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة.

3 -

(ومنها): بيان المراد من {الْحُسْنَى} في قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26]، وهو أولى التفاسير، وأصوبها للآية الكريمة؛ لأن أولى ما فُسّر به النصّ ما جاء في النصّ.

(1)

راجع: "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب 2/ 499 - 500.

ص: 113

4 -

(ومنها): إكرام الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بندائهم لإنجاز موعده لهم.

5 -

(ومنها): أن النظر إلى وجهه الكريم أعظم ما يُعطاه العبد من نعيم الجنة، فكلّ نعيم الجنة دونه، اللهم اجعلنا ممن تُعطيه النظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[457]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب (90)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45، وحمّاد ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (وَزَادَ) الضمير ليزيد بن هارون.

وقوله: (ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) ظاهر هذه الرواية أنه قرأ الآية بعد ما تقدّم من الحديث، ويخالفه ما في "سنن ابن ماجه"، ولفظه: عن صُهيب، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله مَوْعِدًا يريد أن يُنْجِزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يُثَقِّل الله موازيننا، ويُبَيِّض وجوهنا، ويُدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر، يعني: إليه، ولا أقرّ لأعينهم".

فظاهر هذا أنه بدأ بتلاوة الآية قبل الحديث.

ص: 114

ويجاب: بأنه لا تعارض بينهما؛ لأن الواو في رواية ابن ماجه لا ترتّب، فتُحمل على رواية مسلم بـ "ثُمّ"، فتأمل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية عبد الرحمن بن مهديّ أخرجها الحافظ أبو نُعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 245)، فقال:

(453)

حدثنا أبو بكر، عبد الله بن يحيى الطَّلْحيّ، ثنا عبد الله بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، نودوا: يا أهل الجنة إنّ لكم عند الله مَوْعِدًا لم تروه، قالوا: ما هو؟ ألم يُبَيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُدَحْرِجنا عن النار؟، قال: فيَكْشِف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم منه"، ثم تلا هذه الآية:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].

[تنبيه آخر]: (اعلم): أن تفسير هذه الآية الكريمة، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] بهذا الحديث هو أصحّ ما جاء في تفسيرها، وقد فُسّرت بما هو أعمّ من ذلك.

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": يُخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقوله تعالى:{وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادةً على ذلك أيضًا، ويَشْمَل ما يُعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قُرَّة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقُّونها بعملهم، بل بفضله ورحمته.

وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسُّدّيّ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم

ص: 115

من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أورد حديث صهيب رضي الله عنه هذا من رواية الإمام أحمد، ثم قال: وهكذا رواه مسلم، وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به.

وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا شَبِيب، عن أبان، عن أبي تَمِيمة الْهُجَيميّ: أنه سمع أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي: يا أهل الجنة - بصوت يَسمع أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل"، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذَليّ، عن أبي تميمة الهجيمي به.

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "النظر إلى وجه الرحمن عز وجل".

وقال أيضًا: حدثنا ابن عبد الرحيم، حدثنا عمر بن أبي سلمة، سمعت زُهيرًا، عمن سمع أبا العالية، حدثنا أُبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله عز وجل:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل"، ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من حديث زهير به. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(87) - (بَابُ بَيَانِ مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[458]

(182) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ

(1)

"تفسير ابن كثير" ص 638.

ص: 116

نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ " قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تبارك وتعالى فِي صُورَة غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ، مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَان، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَان، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِه، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَاد، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّار، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّار، يَعْرِفُونَهُمْ بأَثَرِ السُّجُود، تَأْكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُود، حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أثَرَ السُّجُود، فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّار، وَقَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاة، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْل، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَاد، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّار، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّار، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،

ص: 117

وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللهُ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّار، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّة، وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّة، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ، لَا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ، وَيَدْعُو اللهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّة، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّة، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُور، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ تبارك وتعالى مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ اللْهُ مِنْهُ، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَتَمَنَّى، حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ". قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِه، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) النسائيّ، ثم البغداديّ المذكور قبل بابين.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

ص: 118

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت المشهور، رأس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل: غير ذلك، وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 486.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات (57 أو 58 أو 59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبغداديين، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، ورواية الابن عن أبيه: يعقوب، عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ: أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) في التقييد بيوم القيامة إشارة إلى أن السؤال لم يقع عن الرؤية في الدنيا؛ لأنه لا يمكن، فقد أخرج المصنّف رحمه الله من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا:"واعلموا أنكم لن تَرَوا ربكم حتى تموتوا"، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى قريبًا، فلا تكن من الغافلين.

وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عند الترمذيّ أن هذا السؤال وقع على سبب، وذلك أنه ذَكَر الحشرَ، والقولَ:"لِتَتَّبعْ كلُّ أمة ما كانت تَعْبُد"، وقولَ المسلمين:"هذا مكانُنا حتى نَرَى ربنا"، قالوا: وهل نراه؟

ص: 119

فذكره، وفي رواية جرير قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم ستُعْرَضون على ربكم، فترونه كما ترون هذا القمر

" الحديث مختصر، قال الحافظ رحمه الله: ويحتمل أن يكون الكلام وقع عند سؤالهم المذكور. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ ") بضم أوله، وبالضاد المعجمة، وتشديد الراء، بصيغة المفاعلة، من الضَّرَر، وأصله: تُضَارِرُون، بكسر الراء وبفتحها: أي لا تَضُرُّون أحدًا، ولا يَضُرُّكم بمنازعة، ولا مجادلة، ولا مضايقة.

وجاء "تُضَارُونَ" بتخفيف الراء، من الضَّيْر، وهو لغة في الضُّرّ: أي لا يخالف بعضٌ بعضًا، فيُكَذِّبه، وينازعه، فيضيره بذلك، يقال: ضاره يَضِيره.

وقيل: المعنى: لا تَضَايَقُون، أي لا تَزَاحمون، كما جاء في الرواية الأخرى:"لا تَضَامُّون" بتشديد الميم، مع فتح أوله.

وقيل: المعنى: لا يَحْجُب بعضكم بعضًا عن الرؤية، فيَضُرَّ به، وحَكَى الجوهريّ: ضَرَّنِي فلان: إذا دنا مني دنوًّا شديدًا، قال ابن الأثير: فالمراد المضارَّة بالازدحام.

وقال النوويّ: أوله مضموم مثقَّلًا ومخففًا، قال: ورُوِيَ "تَضَامُّون" بالتشديد مع فتح أوله، وهو بحذف إحدى التاءين، وهو من الضّمّ، وبالتخفيف مع ضم أوله من الضيم، والمراد: الْمَشَقَّة والتعَبُ، قال: وقال عياض: قال بعضهم في الذي بالراء، وبالميم بفتح أوله والتشديد، وأشار بذلك إلى أن الرواية بضم أوله مخففًا ومثقلًا، وكله صحيحٌ، ظاهر المعنى.

ووقع في رواية البخاريّ: "لا تضامون، أو تضاهون" بالشك، ومعنى الذي بالهاء: لا يَشْتَبِه عليكم، ولا تَرْتابون فيه، فيعارض بعضُكم بعضًا، ومعنى الضيم: الغلبة على الحقّ، والاستبداد به: أي لا يَظْلِم بعضُكم بعضًا، ووقع في رواية:"هل تُمَارون" بضم أوله، وتخفيف الراء: أي تجادلون في ذلك، أو يَدخُلكم فيه شكّ من الْمِرْية، وهو الشكّ، وجاء بفتح أوله، وفتح الراء، على

(1)

"الفتح" 11/ 454 "كتاب الرقاق" رقم (6574).

ص: 120

حذف إحدى التاءين، وفي رواية للبيهقيّ:"تتمارون بإثباتهما"

(1)

.

(قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللهِ) أي لا نتضارّ في ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ ") جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونها غير محجوبة بسحاب (قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ) المراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح، وزوال الشك، ورفعِ المشقة والاختلاف.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا تشبيه للرؤية، ولحالة الرائي، لا المرئيّ، ومعناه: أنكم تستوون في رؤية الله تعالى من غير مضارّة، ولا مزاحمة كما تستوون في رؤية الشمس والبدر عيانًا

(2)

.

وقال البيهقيّ: سمعت الشيخ أبا الطيب الصُّعْلُوكيّ يقول: "تُضَامُّون" - بضم أوله، وتشديد الميم - يريد: لا تجتمعون لرؤيته في جِهَة، ولا ينضم بعضكم إلى بعض، فإنه لا يُرَى في جهة، ومعناه بفتح أوله: لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم، معناه: لا تُظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه في جهاتكم كلِّها، وهو متعالٍ عن الجهة، قال: والتشبيه برؤية القمر لتعيين الرؤية دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نفي الجهة في رؤية الله تعالى - كما قال بعض المحقّقين - هو قول الأشاعرة والماتريديّة، ونُفاة العلوّ عن الله تعالى، والحقّ أن الله سبحانه وتعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون من فوقهم، وهو في علوّه الذي أثبته لنفسه، وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة، والله تعالى أعلم.

وقال الزين ابن الْمُنَيِّر: إنما خَصّ الشمس والقمر بالذكر، مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية، وأعظم خَلْقًا من مجرد الشمس والقمر؛ لِمَا خُصَّا به من عظيم النور والضياء، بحيث صار التشبيه بهما فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغًا شائعًا في الاستعمال.

وقال ابن الأثير: قد يَتَخَيَّل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئيّ،

(1)

"الفتح" 11/ 455 "كتاب الرقاق"(6574).

(2)

"المفهم" 1/ 415.

ص: 121

وهو غَلَطٌ، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية، وهو فعل الرائي، ومعناه: أنه رؤية مُزاجٌ عنها الشكّ، مثل رؤيتكم القمر.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: في عطف الشمس على القمر مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف؛ لأن القمر لا يُدْرِك وصفه الأعمى حسًّا، بل تقليدًا، والشمس يدركها الأعمى حسًّا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلًا، فحسن التأكيد بها، قال: والتمثيل واقعٌ في تحقيق الرؤية لا في الكيفية؛ لأن الشمس والقمر مُتَحَيِّزان، والحق سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.

وقال الحافظ: وليس في عطف الشمس على القمر إبطال لقول من قال في شرح حديث جرير: الحكمة في التمثيل بالقمر أنه تتيسر رؤيته للرائي بغير تكلّف، ولا تحديق يَضُرّ بالبصر، بخلاف الشمس، فإنها حكمة الاقتصار عليه، ولا يَمنع ذلك ورود ذكر الشمس بعده في وقت آخر، فإن ثبت أن المجلس واحد خَدَشَ في ذلك.

ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن: "لا تمارون في رؤيته تلك الساعة، ثم يَتَوَارَى".

وقد اعترض ابن العربيّ على رواية العلاء، وأنكر هذه الزيادة، وزعم أن المراجعة الواقعة في حديث الباب تكون بين الناس وبين الواسطة؛ لأنه لا يُكَلِّم الكفار، ولا يرونه ألبتة، وأما المؤمنون فلا يرونه إلا بعد دخول الجنة بالإجماع. انتهى.

(يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال في "الفتح": في رواية شعيب: "يَحْشُر"، وهو بمعنى: الجمع، وقوله في رواية شعيب:"في مكان" زاد في رواية العلاء: "في صعيد واحد"، ومثله في رواية أبي زرعة، عن أبي هريرة بلفظ:"يَجمَع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمعهم الداعي، ويَنْفذهم البصر".

قال النوويّ: الصعيد الأرض الواسعة المستوية، و"يَنفُذهم" بفتح أوله، وسكون الفاء، بعدها ذال معجمة: أي يَخْرِقهم بمعجمة وقاف حتى يجوزهم، وقيل: بالدال المهملة: أي يستوعبهم، قال أبو عبيدة: معناه: ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم، وقال غيره: المراد بصر الناظرين، وهو أولى.

ص: 122

وقال القرطبي: المعنى: أنهم يجمعون في مكان واحد، بحيث لا يخفى منهم أحدٌ لو دعاهم داع لسمعوه، ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم، قال: ويحتمل أن يكون المراد بالداعي هنا من يدعوهم إلى العرض والحساب؛ لقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6].

وزاد العلاء بن عبد الرحمن في روايته: "فَيَطَّلِع عليهم رب العالمين"، قال ابن العربيّ: لم يزل الله مطلعًا على خلقه، وإنما المراد إعلامه باطلاعه عليهم حينئذ.

ووقع في حديث ابن مسعود عند البيهقيّ في "البعث"، وأصله في النسائيّ:"إذا حُشِر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصةً أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رؤوسهم، حتى يُلْجِم العرق كلَّ بَرّ منهم وفاجر".

ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد: أنه "يُخَفَّف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة"، وسنده حسن، ولأبي يعلى عن أبي هريرة:"كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرُب"، وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر:"ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار".

(فَيَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ) أي فليذهب معه حتى يستوفي أجره منه (فَيَتَّبعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: في التنصيص على ذكر الشمس والقمر، مع دخولهما فيمن عُبِد من دون الله التنويهُ بذكرهما لعظم خلقهما.

ووقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "ثم يُنادِي منادٍ من السماء: أيها الناس أليس عدلٌ من ربكم الذي خلقكم، وصوّركم، ورزقكم، ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولى؟ قال: فيقولون: بلى، ثم يقول: لتنطلق كل أمة إلى من كانت تعبد"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن:"ألا ليتبع كلُّ إنسان ما كان يعبد"، ووقع في رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في "مسند الحميديّ"، و"صحيح ابن خزيمة"، وأصله في مسلم بعد قوله:"إلا كما تُضارُّون في رؤيته": "فيَلْقَى العبدَ، فيقول: ألم أكرمك، وأزوّجك، وأسخّر لك؟، فيقول: بلى، فيقول: أظننت أنك مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني

" الحديث، وفيه: "ويلقى الثالثَ،

ص: 123

فيقول: آمنتُ بك، وبكتابك، وبرسولك، وصلّيت، وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهدًا؟، فيُخْتَم على فيه، وتنطق جوارحه، وذلك المنافق، ثم ينادي منادٍ: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد".

(وَيَتَّبعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ)"الطواغيت": جمع طاغوت، وهو الشيطان، والصنم، ويكون جمعًا ومفردًا ومذكَّرًا ومؤنثًا، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ: "الطواغيت": جمع طاغوت، وهو الكاهن، والشيطان، وكلُّ رأس في الضلال، والمراد به في الحديث: الأصنام، ويكون واحدًا، كقوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، وقد يكون جمعًا كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} الآية [البقرة: 257]، وطاغوت وإن جاء على وزن لاهوت، فهو مقلوب؛ لأنه من طَغَى، ولاهوت غير مقلوب؛ لأنه من لاه، بمنزلة الرغبوت والرهبوت والرحموت، قاله في "الصحاح"

(1)

.

وقال الطبريّ رحمه الله: الصواب عندي أن الطاغوت كلُّ طاغ طَغَى على الله، يُعبَد من دونه، إما بقهر منه لمن عَبَد، وإما بطاعة ممن عَبَد إنسانًا كان أو شيطانًا أو حيوانًا أو جمادًا، قال: فاتباعهم لهم حينئذ باستمرارهم على الاعتقاد فيهم.

ويحتمل أن يتبعوهم بأن يساقوا إلى النار قهرًا، ووقع في حديث أبي سعيد عند البخاريّ في "التوحيد":"فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب كلِّ الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم".

وفيه إشارة إلى أن كلَّ من كان يعبد الشيطان ونحوه، ممن يَرْضَى بذلك، أو الجماد والحيوان، داخلون في ذلك، وأما من كان يَعْبُد من لا يَرْضَى بذلك، كالملائكة والمسيح فلا.

لكن وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون، فينطلقون"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن:"فيتمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره"، فأفادت هذه الزيادة تعميم من كان يعبد

(1)

"المفهم" 1/ 416.

ص: 124

غير الله إلا من سيُذْكَر من اليهود والنصارى، فإنه يخص من عموم ذلك بدليله الآتي ذكره بالتمثيل، فقال ابن العربيّ: يحتمل أن يكون التمثيل تلبيسًا عليهم، ويحتمل أن يكون التمثيل لمن لا يستحق التعذيب، وأما مَن سواهم فيحضرون حقيقةً؛ لقوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].

(وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يُحْمَل على أعم من ذلك، فيدخل فيه جميع أهل التوحيد حتى من الجن، ويدلّ عليه ما في بقية الحديث:"إنه يبقى من كان يعبد الله من بَرّ وفاجر".

قال الحافظ: ويؤخذ أيضًا من قوله في بقية الحديث: "فأكون أولّ من يُجيز"، فإن فيه إشارةً إلى أن الأنبياء بعده يُجِيزون أممهم.

(فِيهَا مُنَافِقُوهَا) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية إبراهيم بن سعد:"فيها شافعوها"، أو "منافقوها"، شك إبراهيم، والأول المعتمد، وزاد في حديث أبي سعيد الآتي:"حتى يبقى مَن كان يعبد الله من بَرّ وفاجر وغُبَّرات أهل الكتاب" بضم الغين المعجمة، وتشديد الموحدة، وفي رواية مسلم:"وغُبَّر" وكلاهما جمع غابر، أو "الغُبَّرات" جمع "غُبَّر"، وهو جمع غابر، ويجمع أيضًا على أغبار، وغُبَّرُ الشيء: بَقِيَّته، وجاء بسكون الموحدة، والمراد هنا: من كان يوحّد الله منهم، وصَحّفه بعضهم في مسلم بالتحتانية بلفظ التي بالاستثناء، وجَزَم عياض وغيره بأنه وَهَمٌ.

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: لم يذكر في الخبر مآل المذكورين، لكن لما كان من المعلوم أن استقرار الطواغيت في النار عُلِم بذلك أنهم معهم في النار، كما قال تعالى:{فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98].

ووقع في رواية سهيل: "فتتبع الشياطينَ والصليبَ أولياؤهم إلى جهنم"، ووقع في حديث أبي سعيد من الزيادة:"ثم يُؤتَى بجهنم كأنها سَرَابٌ" بمهملة، ثم موحدة، فيقال لليهود: "ما كنتم تعبدون

" الحديث، وفيه ذكر النصارى، وفيه: "فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى مَن كان يعبد الله من بَرّ أو فاجر".

وفي رواية هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عند ابن خزيمة، وابن منده،

ص: 125

وأصله في مسلم: "فلا يبقى أحدٌ كان يعبد صنمًا، ولا وثنًا، ولا صورةً إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن: "فيُطْرَح منهم فيها فوج، ويقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟

" الحديث.

وكان اليهود، وكذا النصارى، ممن كان لا يعبد الصلبان لَمّا كانوا يَدَّعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين، فلما حَقَّقوا على عبادة مَن ذُكِر من الأنبياء أُلحقوا بأصحاب الأوثان، ويؤيده قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة: 6] الآية.

فأما من كان متمسكًا بدينه الأصليّ، فخرج بمفهوم قوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وعلى ما ذُكر من حديث أبي سعيد: يبقى أيضًا مَن كان يُظهر الإيمان من مُخْلِص ومنافق. انتهى

(1)

.

(فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تبارك وتعالى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ) وفي رواية البخاريّ: "فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون"، وفي حديث أبي سعيد الآتي بعده:"أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها"، عند البخاريّ:"في صورته التي رأوه فيها أول مرة"، وفي رواية هشام بن سعد:"ثم يتبدى لنا الله في صورته التي رأيناه فيها أول مرة".

قال في "الفتح": وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى، فقيل: هو عبارة عن رؤيتهم إياه؛ لأن العادة أن كل مَن غاب عن غيره، لا يمكن رؤيته إلا بالمجيء إليه، فعَبَّر عن الرؤية بالإتيان مجازًا، وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به، مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث.

قال الجامع عفا الله عنه: القول الثاني هو الحقّ، وأما الأول فهو المذهب الذي يسلكه أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم الذي يؤوّلون الصفات، ويُحيلونها عن ظواهرها وحقائقها، ويحملونها على المجاز، وهو مذهب باطلٌ.

فالحقّ أن صفة الإتيان والمجيء دلّ عليها الكتاب والسنة، كهذا الحديث، وكقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ

(1)

"الفتح" 11/ 457 "كتاب الرقاق" رقم (6574).

ص: 126

وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} [البقرة: 210]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، وهي من الصفات الفعليّة المتعلّقة بالمشيئة، وقد تضمّنت معنى الصفة والفعل، فالحقّ الذي كان عليه سلف الأمة الصالحون بلا مرية ولا شكّ، أنها ثابتة لله عز وجل بهذا النصّ، كثبوت الاستواء والنزول، وغير ذلك مما جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة.

وقد ردّ ابن القيّم رحمه الله على من ادّعى أن الإتيان والمجيء مجاز من اثني عشر وجهًا، أبطل فيها تأويل هذه الصفة، ونقض دعوى كون ما ورد من ذلك من مجاز الحذف، والتقدير: وجاء أمر ربّك، ومما قاله: إن في السياق ما يُبطل هذا التقدير، وهو قوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} فعطف مجيء الملك على مجيئه سبحانه وتعالى يدلّ على تغاير المجيئين، وأن مجيئه سبحانه وتعالى حقيقةٌ كما أن مجيء الملك حقيقة، بل مجيء الرب أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك، وكذلك قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، ففرّق بين إتيان الملائكة، وإتيان الربّ، وإتيان بعض آيات الرب، فقسّم ونوّع، ومع هذا التقسيم يمتنع أن يكون القسمان واحدًا، فتأمله، ولهذا منع عقلاء الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه، وقالوا: هذا يأباه التقسيم والترديد. انتهى

(1)

.

وقيل: فيه حذفٌ تقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض، قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لِمَا رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك؛ لأنه مخلوق.

قال الجامع: هذا أيضًا تأويل باطلٌ، قد عرفت بطلانه مما سبق، ويردّه سياق النصّ، ومما يُبطله أيضًا ما وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن بلفظ:"فيَطَّلِع عليهم رب العالمين"، فهل هذا يقبل التأويل بالملك، إن هذا إلا اختلاق، اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه آمين.

قال: ويحتمل وجهًا رابعًا، وهو أن المعنى: يأتيهم الله بصورة أي بصفة تظهر لهم من الصور المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك، فإذا

(1)

راجع: "مختصر الصواعق المرسلة" 2/ 106 - 107.

ص: 127

قال لهم هذا الملك: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك. انتهى.

قال الجامع: هذا أيضًا تأويل باطلٌ؛ إذ فيه نفي الصورة، وتأويلها بالصفة، والحقّ أن الصورة ثابتة لله تعالى كثبوت الصفة بلا فرق، فالصورة غير الصفة، وكلاهما ثابتتان لله تعالى، فله صفات تليق بجلاله، وصورة تليق بجلاله، كثبوت ذاته العليّة من دون فرق.

وبهذا صرّح الأئمة: أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن خزيمة، وابن قتيبة، وأبو إسماعيل الهرويّ، وغيرهم، وقد قال ابن قتيبة آخر كلامه على حديث الصورة: والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإِلْف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه: بكيفيّة ولا حدّ. انتهى كلام ابن قتيبة رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، فتمسّك به، وعَضّ عليه بناجذيك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: وأما قوله بعد ذلك: "فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها"، فالمراد بذلك الصفة، والمعنى: فيتجلى الله لهم بالصفة التي يعلمونه بها، وإنما عرفوه بالصفة، وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته؛ لأنهم يرون حينئذ شيئًا لا يشبه المخلوقين، وقد علموا أنه لا يشبه شيئًا من مخلوقاته، فيعلمون أنه ربهم، فيقولون: أنت ربنا، وعبّر عن الصفة بالصورة؛ لمجانسة الكلام لتقدم ذكر الصورة.

قال الجامع: قد عرفت أن تأويل الصورة بالصفة غير صحيح، بل الحقّ أن الصورة ثابتة له سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، فتبصّر.

قال: وأما قوله: "نعوذ بالله منك"، فقال الخطابيّ: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر من المنافقين، قال القاضي عياض: وهذا لا يصح، ولا يستقيم

(1)

راجع: "تأويل المختلف" لابن قتيبة ص 221، و"السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 268 و 2/ 480، و"التوحيد" لابن خزيمة 1/ 81 - 96 مع التعليق عليه.

ص: 128

الكلام به، وقال النوويّ: الذي قاله القاضي صحيح، ولفظ الحديث مصرِّح به، أو ظاهرٌ فيه. انتهى.

ورجحه القرطبي في "التذكرة"، وقال: إنه من الامتحان الثاني يتحقق ذلك، فقد جاء في حديث أبي سعيد:"حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب".

وقال ابن العربيّ: إنما استعاذوا منه أوّلًا؛ لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله، ولهذا وقع في "الصحيح":"فيأتيهم الله في صورة - أي: بصورة - لا يعرفونها"، وهي الأمر باتباع أهل الباطل، فلذلك يقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي: إذا جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق.

قال الجامع: تأويل ابن العربيّ أيضًا من نظير ما قبله، فإنه فسّر الصورة بالأمر باتّباع أهل الباطل، وهذا مما لا يقبله من له أدنى فهم، فتبصّر.

وقال ابن الجوزيّ: معنى الخبر: يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة، ومن صور الملائكة بما لم يَعْهَدوا مثله في الدنيا، فيستعيذون من تلك الحال، ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه، وهي الصورة التي عَبَّر عنها بقوله:"يكشف عن ساق": أي عن شدّة.

قال الجامع: تأويل ابن الجوزيّ أيضًا من نوع ما سبق، فقد أخرج النصّ عن معناه الواضح إلى معنى ركيك، فلا ينبغي الالتفات إليه.

وقال القرطبيّ: هو مقام هائل يَمتحن الله به عباده؛ ليميز الخبيث من الطيّب، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين، زاعمين أنهم منهم، ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت، كما جاز في الدنيا، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة، قالت للجميع: أنا ربكم، فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك؛ لِمَا سبق لهم من معرفته سبحانه وتعالى، وأنه منزه عن صفات هذه الصورة، فلهذا قالوا: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا، حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب: أي يَزِلّ فيوافق المنافقين، قال: وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء، ولعلهم الذين اعتقدوا الحقّ، وجزموا عليه من غير بصيرة، قال: ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين: هل بينكم وبينه علامة؟.

وهذه الزيادة أيضًا من حديث أبي سعيد، ولفظه: "آية تعرفونها؟

ص: 129

فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيصير ظهره طبقًا واحدًا": أي يستوي فَقَار ظهره، فلا ينثني للسجود، وفي لفظ لمسلم:"فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه، إلا أُذن له في السجود": أي سَهُل له، وهُوِّن عليه، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقًا واحدًا، كلما أراد أن يسجد خَرّ لقفاه.

وفي حديث ابن مسعود نحوه، لكن قال:"فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه، قال: فيَكْشِف عن ساق، فيقعون سُجُودًا، وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر".

وفي رواية أبي الزَّعْراء عنه عند الحاكم: "وتبقى ظهور المنافقين طبقًا واحدًا، كأنما فيها السفافيد"، وهي بمهملة وفاءين جمع سَفُّود بتشديد الفاء، وهو الذي يدخل في الشاة إذا أريد أن تُشْوَى.

ووقع في رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عند ابن منده: "فيوضع الصراط، ويتمثل لهم ربهم

"، فذكر نحو ما تقدم، وفيه: "إذا تعرّف لنا عرفناه"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن: "ثم يَطّلع عز وجل عليهم، فيُعَرِّفهم نفسه، ثم يقول: أنا ربكم، فاتبعوني، فيتبعه المسلمون".

وقوله في هذه الرواية: "فيعرّفهم نفسه": أي يُلْقِي في قلوبهم علمًا قطعيًّا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى، وقال الكلاباذي في "معاني الأخبار": عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرَّفهم بها نفسه.

ومعنى كشف الساق: زوالُ الخوف والهول الذي غَيّرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم.

قال الجامع عفا الله عنه: تأويل الساق بهذا المعنى تأويل قبيح؛ إذ فيه نفي صفة الساق عن الله سبحانه وتعالى، فالحقّ ثبوت الساق لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، كثبوت اليد، والعين، والوجه، والقدم، وغير ذلك، فكلّها صفة لله تعالى حقيقة، على ما يليق بجلاله، لا تماثل صفات المخلوقين، ولا يجوز تأويلها، أو تعطيلها عن الله تعالى، كسائر الصفات الثابتة له في نصوص الكتاب، والسنن الصحيحة، والله تعالى أعلم.

ص: 130

ووقع في رواية هشام بن سعد: "ثم نرفع رؤوسنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرّة، فيقول: أنا ربكم، فنقول: نعم أنت ربنا".

قال الحافظ: وهذا فيه إشعار بأنهم رأوه في أول ما حُشِروا، والعلم عند الله تعالى، وقال الخطابيّ: هذه الرؤية غير الرؤية التي تقع في الجنة إكرامًا لهم، فان هذه للامتحان، وتلك لزيادة الإكرام، كما فُسِّرت به الحسنى وزيادة، قال: ولا إشكال في حصول الامتحان في الموقف؛ لأن آثار التكاليف لا تنقطع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار، قال: ويُشبه أن يقال: إنما حَجب عنهم تحقّقَ رؤيته أوّلًا لِمَا كان معهم من المنافقين الذين لا يستحقون رؤيته، فلما تميزوا رَفَع الحجاب، فقال المؤمنون حيمئذ: أنت ربنا.

قال الحافظ: وإذا لوحظ ما تقدم من قوله: "إذا تعرّف لنا عرفناه"، وما ذكرتُ من تأويله ارتفع الإشكال.

وقال الطيبيّ: لا يلزم بأن الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحد منهما ما يُخَصّ بالأخرى، فإن القبر أولُ منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره، والتحقيق أن التكليف خاصّ بالدنيا، وما يقع في القبر، وفي الموقف هي آثار ذلك.

ووقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من الزيادة: "ثم يقال للمسلمين: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم"، وفي لفظ:"فيُعْطَون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يُعطَى نوره مثل الجبل، ودون ذلك، ومثل النخلة، ودون ذلك، حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه"، ووقع في رواية مسلم عن جابر رضي الله عنه:"ويعطى كل إنسان منهم نورًا - إلى أن قال -: ثم يطفئ نور المنافقين"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن مردويه:"فيُعْطَى كل إنسان منهم نورًا، ثم يوجّهون إلى الصراط، فما كان من منافق طفئ نوره"، وفي لفظ: "فإذا استووا على الصراط سَلَب الله نور المنافقين، فقالوا للمؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم

" الآية، وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند ابن أبي حاتم: "وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يَغْشَى الناسَ أمرٌ من أمر الله، فتبيضّ وجوه، وتسودّ وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر، فتغشى الناس الظلمةُ، فيقسم النور، فيختص بذلك المؤمن، ولا يُعْطَى الكافر ولا المنافق منه شيئًا، فيقول

ص: 131

المنافقون للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم

الآية، فيرجعون إلى المكان الذي قُسِم فيه النور، فلا يجدون شيئًا، فيُضْرَب بينهم بسور"

(1)

.

(فَيَقُولُ) الله سبحانه وتعالى امتحانًا (أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ) أي لأنك لست بربّنا الذي كنا نعبده، ونوحّده، وننزه عن سمات المخلوقين (هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ) بالعلامات التي عرّفنا بها نفسه (فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ) تقدّم قريبًا أن الإتيان صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله، لا تشبه إتيان المخلوقين، وكذلك الصورة صفة ثابتة له تعالى على الوجه اللائق به، ولا تسلك سبجل المعتدين، فتؤوّل مع المؤوّلين، وتحرّف الصفات عما هي عليه، هداني الله وإياك الصراط المستقيم. (فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا) سبحانك لا نحصي ثناء عليه، أنت كما أثنيت على نفسك.

(فَيَتَّبِعُونَهُ) أي يتبعون ربهم إلى حيث يأمرهم (وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ) ببناء الفعل للمفعول.

[تنبيه]: حُذِف من هذا السياق ما سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه في ذكر الشفاعة لفصل القضاء، كما حُذِف من حديث أنس ما ثبت هنا من الأمور التي تقع في الموقف، فينتظم من الحديثين أنهم إذا حُشِروا وقع ما في حديث الباب من تساقط الكفار في النار، ويبقى مَن عداهم في كرب الموقف، فيستشفعون، فيقع الإذن بنصب الصراط، فيقع الامتحان بالسجود؛ ليتميّز المنافق من المؤمن، ثم يَجُوزون على الصراط، ووقع في حديث أبي سعيد رضي الله عنه هنا:"ثم يُضْرَب الجسرُ على جهنم، وتَحِلُّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ"، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ) بفتح الظاء، وسكون الهاء: أي يمدّ الصراط عليها، و"الصراط" في اللغة: هو الطريق، وفيه لغاتٌ: الصاد، والسين، والزاي، وهو هنا: الطريق من أرض المحشر إلى الجنّة، وهو منصوبٌ على متن جهنّم، أدقّ

(1)

"الفتح" 11/ 458 - 460 "كتاب الرقاق"(6574).

(2)

11/ 460.

ص: 132

من الشعر، وأحدّ من السيف، وهو المسمّى بالجسر في الحديث الآخر.

و"جهنّم": اسم من أسماء النار التي يُعذّب بها في الآخرة، قال الجوهريّ: هو ملحقٌ بالخماسيّ بتشديد الحرف الثالث منه، ولا ينصرف؛ للتعريف والتأنيث، وهو فارسيّ معرَّبٌ، ورَكِيّةٌ جِهِنَّامٌ: أي بعيدة القعر

(1)

.

(فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ) بضم أوله، وكسر ثانيه، آخره زاي، من الإجازة، وفي رواية:"يجوز بأمته"، وفي لفظ:"يُجيزها"، والضمير لجهنم، قال الأصمعيّ: جاز الوادي: مَشَى فيه، وأجازه: قطعه، وقال غيره: جاز وأجاز بمعنى واحد.

وقال النوويّ: المعنى: أكون أنا وأمتي أول من يَمْضِي على الصراط ويقطعه، يقال: جاز الوادي وأجازه: إذا قطعه وخَلَّفه.

وقال القرطبيّ: يحتمل أن تكون الهمزة هنا للتعدية، من قولهم:"أجيزي صُوفةُ": أي أجِزْنا، وذلك أن صُوفَةَ كان رجلًا مُعظّمًا في قريش يُقتدى به في مناسك الحجّ، فلا يجوز أحدٌ في شيء من مواقفه حتى يجوز، فكان الناس يستعجلونه، فيقولون: أَجِزْ صُوفةُ: أي ابتدئ بالجواز حتى نَجُوز بعدك، فكان يمنعهم بوقوفه، ويُجيزهم بجوازه، ثم بقي ذلك في ولده، فقيل للقبيلة:"أجِيزِي صوفةُ"، فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته على الصراط، فلا يجوز أحدٌ حتى يجوز هو وأمته، فكأنه يُجيز الناس. انتهى

(2)

.

ووقع في حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند الحاكم: "ثم ينادي منادٍ: أين محمد وأمته؟ فيقوم، فتتبعه أمته بَرّها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيَطْمِس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون من يمين وشمال، وينجو النبيّ والصالحون".

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب"، وفيه:"فتُفْرِجُ لنا الأمم عن طريقنا، فنَمُرّ غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء".

(1)

"المفهم" 1/ 419.

(2)

"المفهم" 1/ 420.

ص: 133

(وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ) إشارة إلى حين الجواز على الصراط، وإلا ففي وقت آخر تُجادل كلّ نفس عن نفسها.

(إِلَّا الرُّسُلُ) معناه لشدّة الأهوال، والمراد: لا يتكلّم في حال الإجازة، وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلّم الناس فيها، وتُجادل كلّ نفس عن نفسها، ويسأل بعضهم بعضًا، ويتلاومون، ويُخاصم التابعون المتبوعين، والله أعلم

(1)

.

(وَدَعْوَى الرُّسُلِ) ولفظ البخاريّ: "ودعاء الرسل"(يَوْمَئِذ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) هذا من كمال شفقتهم ورحمتهم للخلق، وفيه أن الدعوات تكون بحسب المواطن، فيُدعى في كل موطن بما يليق به

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "ولا يتكلم يومئذ أحدٌ إلا الرسل"، وفي رواية:"ولا يكلمه إلا الأنبياء"، ووقع في رواية العلاء:"وقولهم: اللهم سلم سلم"، وللترمذي من حديث المغيرة:"شعار المؤمنين على الصراط: رَبِّ سَلِّم سَلِّم"، والضمير في الأول للرسل، ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل تنطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فسُمِّي ذلك شعارا لهم، فبهذا تجتمع الأخبار، ويؤيده قوله في رواية سهيل:"فعند ذلك حَلَّت الشفاعة، اللهم سلم سلم".

وفي حديث أبي سعيد من الزيادة: "فيَمُرُّ المؤمن كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب"، وفي حديث حُذيفة وأبي هريرة معا:"فيمز أولهم كمَرّ البرق، ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير، وشدّ الرحال، تجري بهم أعمالهم"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن:"ويوضع الصراط، فيمرّ عليه مثل جياد الخيل والركاب"، وفي حديث ابن مسعود:"ثم يقال لهم: انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمرّ كطرف العين، ثم كالبرق، ثم كالسحاب، ثم كانقضاض الكوكب، ثم كالريح، ثم كشدّ الفرس، ثم كشد الرحل، حتى يمر الرجل الذي أُعطي نوره على إبهام قدمه يَحْبُو على وجهه ويديه ورجليه، يجر بيد، ويعلَّق يدٌ، ويجر برجل، وُيعَلَّق رجلٌ، وتضرب جوانبه النار، حتى يخلُص"، وعند ابن أبي حاتم في "التفسير" من طريق أبي

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 20 - 21.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 21.

ص: 134

الزَّعْراء، عن ابن مسعود:"كمرّ البرق، ثم الريح، ثم الطير، ثم أجود الخيل، ثم أجود الإبل، ثم كعدو الرجل، حتى إن آخرهم رجلٌ نوره على موضع إبهامي قدميه، ثم يتكفأ به الصراط"، وعند هناد بن السريّ، عن ابن مسعود بعد الريح:"ثم كأسرع البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، ثم مشيًا، ثم آخرهم يَتَلَبّط على بطنه، فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك"، ولابن المبارك من مرسل عبد الله بن شقيق:"فيجوز الرجل كالطرف، وكالسهم، وكالطائر السريع، وكالفرس الجواد المضمر، ويجوز الرجل يَعْدُو عَدْوًا، ويمشي مَشْيًا، حتى يكون آخر من ينجو يحبو"

(1)

.

(وَفي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ) وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معًا: "وفي حافتي الصراط كلاليب مُعَلَّقةٌ، مأمورة بأخذ من أُمرت به"، وفي رواية سُهيل:"وعليه كلاليب النار".

و"كَلاليب": جمع كَلُّوب بفتح الكاف، وضمّ اللام المشدّدة، وهي حديدة معطوفة الرأس، يُعلَّق فيها اللحم، وتُرسل في التنّور، قال صاحب "المطالع": هي خشبةٌ في رأسها عقافة حديد، وقد تكون حديدًا كلّها، ويقال لها أيضًا: كُلّاب

(2)

.

قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: هذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث الماضي: "حُفّت النار بالشهوات"، قال: فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار؛ لأنها خطاطيفها.

وفي حديث حُذيفة: "وتُرسل الأمانة والرحِمُ، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا": أي يقفان في ناحيتي الصراط، وهي بفتح الجيم والنون، بعدها موحدة، ويجوز سكون النون، والمعنى: أن الأمانة والرحم؛ لعظم شأنهما، وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما، يوقفان هناك للأمين والخائن، والمواصل والقاطع، فيُحاجّان عن المحِقّ، ويشهدان على المبطل.

قالِ الطيبيّ: ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية [الأحزاب: 72]، وصلة الرحم

(1)

"الفتح" 11/ 461.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 21.

ص: 135

ما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الآية [النساء: 1]، فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وفطرتي الإيمان والدين القويم. انتهى

(1)

.

(مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ) بفتح السين، وسكون العين المهملتين، بلفظ التثنية، و"السَّعْدان": جمع سَعْدانة، وهو نبات ذو شوك يُضرَب به المثل في طيب مَرْعَاه، قالوا: مَرْعًى ولا كالسَّعْدان، قال في "الفتح"

(2)

، وقال القرطبيّ:"السَّعْدان": نبتٌ كثير الشوك، شوكه كالخطاطيف والْمَحَاجن. انتهى

(3)

.

وقوله: (هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ ") استفهام تقرير؛ لاستحضار الصورة المذكورة (قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم "فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَان، غَيْرَ أنَّهُ) الضمير للشأن (لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا) أي الشوكة (إِلَّا اللهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: قيّدناه عن بعض شيوخنا برفع الراء، على أن تكون "ما" استفهامًا خبرًا مقدَّمًا، و"قدرُ" مبتدأ، أو بنصبها على أن تكون "ما" زائدة، و"قدرَ" مفعول "يَعْلَمُ". انتهى

(4)

.

(تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ) بفتح الطاء، ويجوز كسرها، يقال: خَطِفَ، وخَطَفَ بكسر الطاء، وفتحها، والكسر أفصح، ويجوز أن يكون معناه: تخطفهم بسبب أعمالهم، ويجوز أن يكون معناه: تخطفهم على قدر أعمالهم، قاله النوويّ

(5)

.

وقال في "الفتح": قال ثعلب في "الفصيح": خَطِفَ بالكسر في الماضي، وبالفتح في المضارع، وحَكَى القزاز عكسه، والكسر في المضارع أفصح.

قال الزين ابن الْمُنَيِّر: تشبيه الكلاليب بشوك السَّعْدان خاصّ بسرعة اختطافها، وكثرة الانتشاب فيها مع التَّحَرُّز والتَّصَوُّن؛ تمثيلًا لهم بما عَرَفوه في الدنيا، وأَلِفُوه بالمباشرة، ثم استثنى إشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما، وفي رواية السّدّيّ:"وبحافتيه ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس".

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 461.

(2)

11/ 461.

(3)

"المفهم" 1/ 420.

(4)

"المفهم" 1/ 420.

(5)

"شرح النوويّ" 3/ 21.

ص: 136

ووقع في حديث أبي سعيد الآتي: "قلنا: وما الجسر؟ قال: مَدْحَضَةٌ مَزَلَّةٌ": أي زَلَقٌ تَزْلِقُ

(1)

فيه الأقدام.

ووقع عند مسلم: "قال أبو سعيد: بلغني أن الصراط أحدُّ من السيف، وأدَقُّ من الشعرة"، ووقع في رواية ابن منده من هذا الوجه:"قال سعيد بن أبي هلال: بلغني"، ووصله البيهقيّ عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مجزُومًا به، وفي سنده لِين، ولابن المبارك، عن مرسل عُبَيد بن عُمير:"إن الصراط مثل السيف، وبِجَنبتيه كلاليب، إنه ليؤخذ بالكَلُّوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر"، وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه، وفيه:"والملائكة على جنبتيه، يقولون: رب سَلِّم سَلِّم".

وجاء عن الفضيل بن عياض قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مُسْتوٍ أدَقُّ من الشعرة، وأَحَدُّ من السيف، على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامرٌ مَهْزُولٌ من خشية الله"، أخرجه ابن عساكر في ترجمته، وهذا مُعْضَلٌ لا يثبت.

وعن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغنا أن الصراط أدَقّ من الشعر على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادي الواسع"، أخرجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا، وهو مرسلٌ، أو معضلٌ.

وأخرج الطبريّ من طريق غُنيم بن قيس أحدِ التابعين قال: "تُمَثَّل العار للناس، ثم يناديها منادٍ: أمسكي أصحابك، ودعي أصحابي، فتخسف بكُلّ وليّ لها، فهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون نَدِيّةً ثيابهم"، ورجاله ثقات، مع كونه مقطوعًا. انتهى

(2)

.

(فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ) ذكر القاضي عياض رحمه الله أنه رُوِيَ على ثلاثة أوجه:

[أحدها]: "المؤمن يَقِي بعمله" بالميم والنون، و"يَقِيَ" بالياء والقاف.

[والثاني]: "الْمُوثَقُ" بالمثلثة والقاف.

(1)

من باب تَعِبَ: أي تسقط.

(2)

"الفتح" 11/ 462 "كتاب الرقاق"(6574).

ص: 137

[والثالث]: "الْمُوبَقُ، يَعْنِي بعمله"، "فالموبَق" بالباء الموحدة والقاف، و"يَعْنِي" بفتح الياء المثنّاة، وبعدها العين، ثم النون، قال القاضي: هذا أصحها، وكذا قال صاحب "المطالع": هذا الثالث هو الصواب، قال: وفي "يقي" على الوجه الأول ضبطان: أحدهما: بالباء الموحدة، والثاني: بالياء المثنّاة من تحتُ من الوقاية.

قال النوويّ: والموجود في معظم الأصول ببلادنا هو الوجه الأول. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "فمنهم الْمُوبَق بعمله " بالباء بواحدة من أسفلُ، كذا للعذريّ، ومعناه: الْمُهْلَكُ بعمله السيّئ، وللطبريّ:"الْمُوثَقُ بعمله" بالثاء المثلّثة من الوثاق، وللسمرقنديّ:"المؤمن بقي بعمله"، وكلّها صحيح، والأول أوضحها. انتهى

(2)

.

(وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بالجيم والزاي، من المجازاة، وهكذا هو في أصول بلادنا في هذا الموضع، وذكر القاضي عياض رحمه الله في ضبطه خلافًا، فقال: رواه العذريّ وغيره: "الْمُجَازَى" كما ذكرناه، ورواه بعضهم:"الْمُخَرْدَل" بالخاء المعجمة، والدال، واللام، ورواه بعضهم في البخاريّ "الْمُجَرْدَل" بالجيم، فأما الذي بالخاء فمعناه: الْمُقَطَّع: أي بالكلاليب، يقال: خردلتُ اللحم: أي قظَعته، وقيل: خَرْدَلتُ: بمعنى: صَرَعتُ، ويقال: بالذال المعجمة أيضًا، والْجَرْدَلة بالجيم: الإشراف على الهلاك والسقوط. انتهى.

[تنبيه]: وقع عند البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ بلفظ:"ومنهم الْمُخَرْدَلُ، ثم ينجو".

قال في "الفتح": قوله: "ومنهم الْمُخَرْدَل" بالخاء المعجمة، وفي رواية شعيب:"ومنهم مَن يُخَرْدَل"، ووقع في رواية الأصيلي هنا بالجيم، وكذا لأبي أحمد الجرجانيّ، في رواية شعيب، ووهّاه عياض، والدال مهملة للجميع، وحَكَى أبو عُبيد فيه إعجام الذال، ورَجَّحَ ابن قرقول الخاء المعجمة، والدال

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 21.

(2)

"المفهم" 1/ 420.

ص: 138

المهملة، وقال الْهَرَويّ: المعنى: أنّ كلاليب النار تُقَطِّعه، فيَهْوِي في النار، قال كعب بن زهير في "بانت سعاد"، قصيدته المشهورة [من البسيط]:

يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا

لَحْمٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ

فقوله: "معفور" بالعين المهملة والفاء: أي واقعٌ في التراب، و"خَرَاديل": أي هو مُقَطّعٌ قِطَعًا، ويحتمل أن يكون من الْخَرْدَل: أي جُعِلت أعضاؤه كالْخَرْدل، وقيل: معناه: أنها تُقَطِّعهم عن لحوقهم بِمَن نَجَا، وقيل: الْمُخَرْدل: المصروع، ورجحه ابنُ التين، فقال: هو أنسب لسياق الخبر.

ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذَرّ: "فمنهم الْمُخَرْدَل، أو الْمُجازَى، أو نحوه"، ولمسلم عنه:"الْمُجَازَى" بغير شك، وهو بضم الميم، وتخفيف الجيم من الجزاء.

وقوله: "ثم يَنْجُو" في رواية إبراهيم بن سعد: "ثم يَنجلي" بالجيم: أي يَتَبَيَّن، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة: أي يُخَلَّى عنه، فيرجع إلى معنى:"ينجو"، وفي حديث أبي سعيد:"فناجِ مُسَلَّمٌ، ومَخْدُوشٌ، ومَكْدُوسٌ في جهنم، حتى يَمُرّ أحدهم، فيُسْحَب سَحْبًا".

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: يؤخذ منه أن المارّين على الصراط ثلاثة أصناف: ناجٍ بلا خُدُوش، وهالكٌ من أول وَهْلة، ومتوسطٌ بينهما يُصابُ، ثم ينجو، وكلُّ قسم منها ينقسم أقسامًا، تُعْرَف بقوله:"بقدر أعمالهم".

واختُلِف في ضبط "مَكْدوس"، فوقع في رواية مسلم بالمهملة، ورواه بعضهم بالمعجمة، ومعناه: السَّوقُ الشديد، ومعنى الذي بالمهملة: الراكب بعضُهُ على بعض، وقيل:"مُكَرْدَسٌ"، والمكردس فَقَار الظهر، وكَرْدَسَ الرجل خَيْلَه جعلها كَراديس: أي فَرَّقها، والمراد أنه ينكفئ في قعرها.

وعند ابن ماجه من وجه آخر، عن أبي سعيد، رفعه:"يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، على حَسَك كحَسَك السَّعْدان، ثم يستجيز الناس، فناجٍ مُسَلَّم، ومَخْدُوشٌ به، ثم ناجٍ، ومُحتَبَسٌ به، ومنكوسٌ فيها". انتهى

(1)

.

(حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ) قال الزين ابن الْمُنَيِّر: إذا

(1)

"الفتح" 11/ 462 - 463.

ص: 139

أضيف إلى الله معناه: القضاء، وحلوله بالمقضيّ عليه، والمراد إخراج الموَحِّدين وإدخالهم الجنة، واستقرار أهل النار في النار، وحاصله أن المعنى: يفرغ الله: أي من القضاء بعذاب من يَفْرُغ عذابه، ومن لا يَفْرُغ، فيكون إطلاق الفراغ بطريق المقابلة، وإن لم يُذْكَر لفظها.

وقال ابن أبي جمرة: معناه: وَصْلُ الوقت الذي سبق في علم الله أنه يرحمهم، وقد ثبت في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن الإخراج يقع بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند أبي عوانة، والبيهقيّ، وابن حبان في حديث حُذيفة:"يقول إبراهيم: يا رباه حَرّقت بَنِيّ، فيقول: اخرجوا"، وفي حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم أن قائل ذلك آدم عليه السلام، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "فما أنتم بأشدّ مناشدةً في الحقّ، قد يتبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، إذا رأوا أنهم قد نَجَوْا في إخوانهم المؤمنين، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلّون معنا

" الحديث، هكذا في رواية الليث عند البخاريّ في "التوحيد".

ويُحْمَل على أن الجميع شَفَعُوا، وتَقَدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم قبلهم في ذلك.

ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبرانيّ بسند حسن، رفعه: "يدخل من أهل القبلة النار مَن لا يُحْصِي عدَدَهم إلا الله بما عَصَوُا الله، واجترؤوا على معصيته، وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشفاعة، فأُثني على الله ساجدًا كما أثني عليه قائمًا، فيقال لي: ارفع رأسك

" الحديث.

ويؤيده أن في حديث أبي سعيد: "تَشفع الأنبياء، والملائكة، والمؤمنون"،، ووقع في رواية عمرو بن أبي عمرو، عن أنس رضي الله عنه عند النسائيّ ذِكْرُ سبب آخر لإخراج الموحدين من النار، ولفظه:"وفَرَغَ من محاسبة الناس، وأَدْخَل مَن بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله، لا تشركون به شيئًا، فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنّهم من النار، فَيُرْسِل إليهم، فيُخْرَجون".

وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه عند ابن أبي عاصم، والبزار، رفعه: "وإذا اجتَمَع أهلُ النار في النار، ومعهم مَن شاء الله من أهل القبلة، يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم، وقد صِرتم معنا في النار؟ فقالوا: كانت لنا ذنوبٌ، فأُخذنا بها، فيأمر الله مَن

ص: 140

كان من أهل القبلة، فأُخرجوا، فقال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين".

وفي الباب عن جابر رضي الله عنه أخرجه البخاريّ، وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند ابن مردويه.

ووقع في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ثم يقال: ادعوا الأنبياء فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون".

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند ابن أبي عاصم، والبيهقيّ، مرفوعًا:"يُحْمَلُ الناسُ على الصراط، فَيُنَجِّي الله من شاء برحمته، ثم يُؤذن في الشفاعة للملائكة، والنبيين، والشهداء، والصديقين، فيشفعون، ويُخْرِجون".

(وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ) أي من النار (بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب، عن الزهريّ:"وأراد أن يُخرج من النار من أراد أن يُخرج، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله".

(أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) وفي

حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار، فأخرجوه"، وفي حديث أنس رضي الله عنه الآتي في الشفاعة:"فيَحُدّ لي حدًّا، فأخرجهم".

قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بأن الملائكة يؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة.

ووقع في حديث أبي سعيد أيضًا بعد قوله: "مثقال ذَرَّة": "فيُخرِجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها خيرًا"، وفيه:"فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يَبْقَ إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضةً من النار، فيُخرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطّ".

وفي حديث معبد، عن الحسن البصريّ، عن أنس رضي الله عنه:"فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأُخرجنّ من قال: لا إله إلا الله".

وفي حديث جابر رضي الله عنه: "ثم يقول الله: أنا أُخرج بعلمي، وبرحمتي"، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه:"أنا أرحم الراحمين، أَدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئًا".

ص: 141

قال الطيبيّ رحمه الله: هذا يؤذن بأن كلّ ما قُدِّر قبل ذلك بمقدار شعيرة، ثم حبة، ثم خردلة، ثم ذَرّة، غيرُ الإيمان الذي يُعَبَّر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين:

[أحدهما]: ازدياد اليقين، وطمأنينة النفس؛ لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وأثبت لعدمه.

[والثاني]: أن يراد العملُ، وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد:"لم يعملوا خيرًا قطّ".

وقال البيضاويّ: وقوله: "ليس ذلك لك": أي أنا أفعل ذلك تعظيمًا لاسمي، وإجلالًا لتوحيدي، وهو مخصِّصٌ لعموم حديث أبي هريرة رحمه الله:"أسعد الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله مخلصًا"، قال: ويحتمل أن يُجْرَى على عمومه، ويُحْمَل على حال، ومقام آخر.

وقال الطيبيّ: إذا فسرنا ما يختص بالله تعالى بالتصديق المجرّد عن الثمرة، وما يختص برسوله صلى الله عليه وسلم هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين، أو العمل الصالح حصل الجمع.

وقال الحافظ: ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن المراد بقوله:"ليس ذلك لك" مباشرةُ الإخراج، لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين، فأجيب إلى أصل الإخراج، ومُنِع من مباشرته، فنُسبت إلى شفاعته في حديث:"أسعد الناس"؛ لكونه ابتدأ بطلب ذلك، والعلم عند الله تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الاحتمالات عندي، وأقربها ما قاله البيضاويّ رحمه الله، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: لم يذكر الرسالة إما لأنهما لَمّا تلازما في النطق غالبًا وشَرْطًا اكتَفَى بذكر الأولى، أو لأن الكلام في حقّ جميع المؤمنين: هذه الأمة وغيرها، ولو ذُكِرت الرسالة لكَثُر تعداد الرسل.

(1)

"الفتح" 11/ 464.

ص: 142

قال الحافظ: الأول أولى، ويَعْكُر على الثاني أنه يُكتَفَى بلفظ جامع، كأن يقول مثلًا: ونؤمن برسله، وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة، ممن زَعَمَ أن من وَحّد الله من أهل الكتاب يخرج من النار، ولو لم يؤمن بغير مَن أُرسل إليه، وهو قول باطلٌ، فإن مَن جَحَد الرسالة كَذَّب الله، ومن كَذَّب الله لم يوحده

(1)

.

(فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ) أي عرف الملائكة الذين أمروا بإخراجهم، وقوله:(يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ) جملة مستأنفة، استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، تقديره: بأي علامة يعرفونهم، ويُميّزونهم عن غيرهم؟، فأجاب بأنهم يَعرفونهم بأثر السجود.

وفي رواية البخاريّ: "فيعرفونهم بعلامة آثار السجود"، قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: تُعْرَف صفة هذا الأثر مما وَرَد في قوله - سُبحانهُ تعالى - {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية [الفتح: 29]؛ لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار، فتبقى صفتها باقية، وقال غيره: بل يَعرفونهم بالْغُرّة، وفيه نظرٌ؛ لأنها مختصة بهذه الأمة، والذين يُخْرَجون أعم من ذلك.

(تَأُكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أثَرَ السُّجُودِ) وقوله: (حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأكُلَ أثَرَ السُّجُودِ) علّة لعدم أكل النار أثر السجود: أي لأن الله تعالى حرّم على النار أكل أثر سجود بني آدم.

وقال في "الفتح": هو جواب عن سؤال مقدر، تقديره: كيف يعرفون أثر السجود مع قوله في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم: "فأماتهم الله إماتةً، حتى إذا كانوا فَحْمًا أَذِن الله بالشفاعة"، فإذا صاروا فَحْمًا كيف يتميز محل السجود من غيره، حتى يُعْرَف أثره؟.

وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء التي دَلّ عليها خبر أبي سعيد رضي الله عنه، بأن الله منع النار أن تُحْرِق أثر السجود من المؤمن.

وهل المراد بأثر السجود نفس العضو الذي يَسْجُد، أو المراد مَن سَجَد؟ فيه نظرٌ، والثاني أظهر.

(1)

"الفتح" 11/ 464.

ص: 143

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليلٌ على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالفٌ لعذاب الكفّار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم، إما إكرامًا لموضع السجود، وعِظَم مكانهم من الخضوع لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خُلِق آدم، والبشَر عليها، وفُضِّلُوا بها على سائر الخلق.

قال الحافظ رحمه الله: الأول منصوص، والثاني مُحْتَمِلٌ، لكن يُشكِل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار، وليس كذلك.

قال النووي رحمه الله: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة، وهي: الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، وبهذا جَزَم بعض العلماء، وقال عياض: ذِكْرُ الصورة، ودارات الوجوه يدُلّ على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصّةً، خلافًا لمن قال: يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث:"أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه"، وفي حديث سمرة رضي الله عنه:"وإلى ركبتيه"، وفي رواية هشام بن سعد، في حديث أبي سعيد:"وإلى حِقْوه".

قال النوويّ: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم:"إن قومًا يخرجون من النار، يحترقون فيها إلا دارات وجوههم"، فإنه يُحْمَل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصًّا بهم، وغيره عامًّا، فيُحْمَل على عمومه إلا ما خُصَّ منه.

قال الحافظ: إن أراد أن هؤلاء يُخَصُّون بأن النار لا تأكل وجوههم كلّها، وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصّةً، وهو الجبهة سَلِمَ من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حقّ الجميع إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغُرّة كما تقدم النقل عمن قاله، وما تَعَقّبه بأنها خاصّة بهذه الأمة، فيضاف إليها التحجيل، وهو في اليدين والقدمين، مما يَصِل إليه الوضوء، فيكون أشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين، لا تخصيص الكفين والقدمين، ولكن ينقص منه الركبتان.

وما استَدَلَّ به القاضي من بقية الحديث، لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع

ص: 144

الانغمار؛ لأن تلك الأحوال الأُخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا.

ودَلّ التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار؛ إكرامًا لمحل السجود، ويُحمل الاقتصار عليها على التنويه بها؛ لشرفها.

وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا الحديث أن من كان مسلمًا، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج؛ إذ لا علامة له، لكن يُحْمَل على أنه يَخرج في القبضة؛ لعموم قوله:"لم يعملوا خيرًا قطّ"، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي، وهل المراد بمن يَسْلَم من الإحراق مَن كان يَسجُد، أو أعمّ من أن يكون بالفعل أو القوّة؟ الثاني أظهر؛ لِيَدْخُل فيه مَن أسلم مثلًا، وأخلص، فَبَغَته الموت قبل أن يسجد.

قال الحافظ: ووجدت بخط أبي رحمه الله تعالى، ولم أسمعه منه، من نظمه ما يوافق مختار النوويّ، وهو قوله [من الكامل]:

يَا رَبٌّ أَعْضَاءَ السُّجُودِ عَتَقْتَهَا

(1)

مِنْ عَبْدِكَ الْجَانِي وَأَنْتَ الْوَاقِي

وَالْعِتْقُ يَسْرِي بِالْغِنَى يَا ذَا الْغِنَى

فَامْنُنْ عَلَى الْفَانِي بِعِتْقِ الْبَاقِي

(2)

(فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ) ببناء الفعل للمفعول، وقوله:(وَقَدِ امْتَحَشُوا) جملة في محلّ نصب على الحال: أي حال كونهم ممتحشين، قال القرطبيّ رحمه الله: صوابه: بفتح التاء والحاء، ومعناه: احترقوا، يقال: امتحش الْخُبز: أي احترق، ويقال: مَحَشَته النار، وأمحشته، والمعروف: أمحشَهُ، قال صاحب "العين": وقد رواه بعضهم: "امتُحِشُوا" مبنيًّا لما لم يُسَمّ فاعله: أي أُحرِقوا، والصواب الأول. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": "امتَحَشُوا" بفتح المثنّاة، وضمّ المعجمة: أي احترقوا، والْمَحْشُ: احتراق الجلد، وظهور العظم، قال عياض: ضبطناه عن متقني شيوخنا، وهو وجه الكلام، وعند بعضهم بضم المثنّاة، وكسر الحاء،

(1)

هكذا النسخة "عتَقتها" ثلاثيًّا، وهو الموافق للوزن، لكن لم أر من قال من أهل اللغة: إن الثلاثيّ يتعدّى، بل صرّح في "المصباح "(2/ 392) بأنه لا يتعدّى، وإنما المتعدّي "أعتق" رباعيًّا، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 11/ 465.

(3)

"المفهم" 1/ 421 - 422.

ص: 145

ولا يعرف في اللغة: "امتحشه" متعدّيًا، وإنما سُمِعَ لازمًا، مطاوع مَحَشتُهُ، يقال: مَحَشته، وأمحشته، وأنكر يعقوب بن السِّكِّيت الثلاثيّ، وقال غيره: مَحَشَه، فامتَحَشَ وأمحشه الحرّ: أحرقه، والنار أحرقته، وامتحش هو غَضَبًا، وقال أبو نصر الفارابيّ: والامتحاش: الاحتراق.

ووقع عند أبي نعيم من رواية أحمد بن إبراهيم بن مِلْحَان، عن يحيى بن بكير:"فيُخْرِجون مَن عَرَفُوا"، ليس فيه:"قد امْتَحَشُوا"، وإنما ذَكَرها بعد قوله:"فيَقبِض قبضةً"، وكذا أخرجه البيهقيّ، وابن منده، من رواية رَوْح بن الْفَرَج، ويحيى بن أبي أيوب الْعَلَّاف، كلاهما عن يحيى بن بكير به.

قال عياض: ولا يبعد أن الامتحاش يَخْتَصّ بأهل القبضة، والتحريم على النار أن تأكل صورة الخارجين أوّلًا قبلهم، ممن عَمِلَ الخير على التفصيل السابق، والعلم عند الله تعالى

(1)

.

(فَيُصَبُّ) بالبناء للمفعول (عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ) أي الماء الذي من يشربه، أو يتطهّر به لم يمت أبدًا

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "فيُصَبّ عليهم ماء، يقال له: ماء الحياة"، وفي حديث أبي سعيد الآتي:"فيُلْقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة"، والأفواه جمع فوهة على غير قياس، والمراد بها الأوائل، وفي تسمية ذلك النهر به إشارةٌ إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك.

(فَيَنْبُتُونَ) بضمّ الموحّدة، يقال: نَبَتَ نَبْتًا، من باب نصر، والاسم: النبات

(3)

، (مِنْهُ) أي بسبب ذلك الماء، فـ "من" سببيّة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "فينمون منه" بالميم والنون، وهو صحيحٌ، ومعناه: ينبتون بسببه. انتهى

(4)

. (كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحدة: بُزُور البقول والْعُشْب، تنبُت في الصحراء والبراري، وجوانبِ السيول، وجمعها: حِبَبٌ بكسر المهملة، وفتح الموحدة، بعدها مثلها، وأما الْحَبَّة بفتح أوله، فهي ما يزرعه الناس، وجمعها حبوب بضمتين، ووقع في حديث أبي

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 465 - 466.

(2)

"المفهم" 1/ 422.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 590.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 23.

ص: 146

سعيد عند البخاريّ: "فينبتون في حافتيه"، وفي رواية لمسلم: كما تَنْبُت الْغُثَاءة، بضم الغين المعجمة، بعدها مثلثة مفتوحة، وبعد الألف همزة، ثم هاء تأنيث، هو في الأصل كلُّ ما حَمَله السيل من عِيدَان، ووَرَق، وبُزُور، وغيرها، والمراد به هنا ما حَمَله من البُزُور خاصّة، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) بالحاء المهملة المفتوحة، والميم المكسورة: أي ما يَحْمِله السيل، وهو ما جاء به السيل من طين، أو غُثَاء، ومعناه: محمول السيل، والمراد به التشبيه في سُرْعة النبات، وحُسنه، وطراوته

(2)

.

وقال في "الفتح": وفي رواية يحيى بن عُمَارة: "إلى جانب السيل"، والمراد أنّ الْغُثَاء الذي يجيء به السيل، يكون فيه الْحِبّة، فيقع في جانب الوادي، فتُصبح من يومها نابتةً، ووقع في رواية:"في حَمِئَة السيلِ " بعد الميم همزة، ثم هاء، وقد تُشْبَع الميم، فيصير بوزن عَظِيمة، وهو ما تَغَيَّر لونه من الطين، وخُصَّ بالذكر؛ لأنه يقع فيه النبت غالبًا.

قال ابن أبي جمرة رحمه الله.: فيه إشارة إلى سُرْعة نباتهم؛ لأن الْحِبّة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع، لِمَا يجتمع فيه من الطين الرِّخْو الحادث مع الماء، مع ما خالطه من حرارة الزِّبْل المجذوب معه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "حَمِيلُ السيل": ما يَحمِله من طين وغُثَاء، فإذا اتّفق أن يكون فيه حِبّةٌ، فإنها تنبُت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتًا، فشبّه صلى الله عليه وسلم سُرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبّة، وهذا معنى قول المازريّ، وبقي عليه من التشبيه المقصود بالحديث نوعٌ آخر دلّ عليه ما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه حيث قال:"ألا ترونها تكون إلى الحجر، ما يكون منها إلى الشمس أُصيفر وأُخيضر، وما يكون منها إلى الظلّ يكون أبيض"، وهو تنبيه على أنّ ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة منهم يسبق إليه البياض المستحسَن، وما يكون منهم إلى جهة النار، يتأخر النُّصُوع عنه، فيبقى أُصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض، ويستوي الحسن والنور، ونَضَارة النعمة عليهم.

(1)

11/ 466.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 23.

(3)

"الفتح" 11/ 466.

ص: 147

قال: ويَحْتَمِل أن يشير بذلك إلى أن الذي يُباشر الماء - يعني: الذي يُرَشّ عليهم - تشتدّ سُرعة نُصُوعه، وأن غيره يتأخر عنه البياض، لكنه يسري إليه سريعًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ) أي ثانيًا، يعني يُكمل إخراج الموحّدين من النار (وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّار، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ) وقع في حديث حُذيفة رضي الله عنه وصفُ هذا الرجل أنه كان نَبّاشًا، وذلك فيما أخرجه البخاريّ في أخبار بني إسرائيل: "أن رجلًا كان يسيء الظن بعمله، فقال لأهله: أحرقوني

" الحديث، وفي آخره: "كان نبّاشًا"، ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي عوانة، وغيرهما: وفيه: "ثم يقول الله: انظروا هل بقي في النار أحدٌ، عَمِلَ خيرًا قطّ؟، فيجدون رجلًا، فيقال له: هل عملت خيرًا قطّ؟، فيقول: إني كنت أُسامح الناس في البيع

" الحديث، وفيه: "ثم يُخرجون من النار رجلًا آخر، فيقال له: هل عملت خيرًا قطّ؟ فيقول: إني أَمرت ولدي: إذا مِتّ فأحرقوني

" الحديث، وجاء من وجه آخر أنه كان يسأل الله أن يُجيره من النار، ولا يقول: "أدخلني الجنة"، أخرجه الحسين المروزي في زيادات "الزهد" لابن المبارك، من حديث عوف الأشجعيّ، رفعه: "قد عَلِمتُ آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، رجلٌ كان يسأل الله أن يجيره من النار، ولا يقول: أدخلني الجنة، فماذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، بقي بين ذلك، فيقول: يا رب قَرِّبني من باب الجنة، أنظر إليها، وأَجِدُ من رِيحها، فيُقَرِّبه، فيرى شجرة

" الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضًا، قال الحافظ رحمه الله: وهذا يقوّي التعدد، لكن الإسناد ضعيف.

وذَكَر القاضي عياض رحمه الله أنه جاء في حديث آخر: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنّة دخولًا فيها"، قال: فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان، وإما نوعان، أو جنسان، وعبّر فيه بالواحد عن الجماعة؛ لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك.

(1)

"المفهم" 1/ 422.

ص: 148

ويحتمل أن يكون الخروج بمعنى: الورود، وهو الجواز على الصراط، فيتّحد المعنى، إما في شخص واحد، أو أكثر.

قال الحافظ رحمه الله: وقع عند مسلم من رواية أنس، عن ابن مسعود ما يقوّي الاحتمال الثاني، ولفظه:"آخر من يدخل الجنّة رجلٌ، فهو يمشي مرّة، ويكبو مرّة، وتسفعه النار مرّةً، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجّاني منك"، وعند الحاكم من طريق مسروق، عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع.

ووقع في "نوادر الأصول" للترمذي الحكيم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن أطول أهل النار فيها مُكْثًا من يمكث سبعة آلاف سنة"، وسند هذا الحديث وَاهٍ والله أعلم.

وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار، وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة، وبين آخر من يخرج ممن يَبْقَى مارًّا على الصراط، فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز؛ لأنه أصابه من حَرّها وكربها ما يُشارك به بعض مَن دخلها.

وقد وقع في "غرائب مالك" للدارقطنيّ، من طريق عبد الملك بن الحكم، وهو وَاهٍ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، رفعه:"إن آخر مَن يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له: جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين"، وحَكَى السهيليّ: أنه جاء أن اسمه هَنّاد، وجوَّز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين، والآخر للآخر. انتهى

(1)

.

(فَيَقُولُ) ذلك الرجل (أَيْ) حرف نداء (رَبِّ) أصله "ربّي" بياء المتكلّم، فخفّف بحذفها، وتقدّم أن فيه ستّ لغات، قد أشار ابن مالك رحمه الله إلى الخمسة منها في "الخلاصة" بقوله:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا

كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا

ونبدل الشطر الثاني هنا، فنقول:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا

كَرَبِّ رَبِّي رَبَّ رَبَّا رَبِّيَا

(1)

"الفتح" 11/ 467.

ص: 149

والسادسُ رَبُّ بالضمّ؛ إجراء له مجرى المفرد؛ اكتفاءً بنيّة الإضافة

(1)

، والله تعالى أعلم.

(اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّار، فَإِنَّهُ) الضمير للشأن (قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا) - بفتح القاف، والشين المعجمة المخففة، وحُكِي التشديد، ثم باء موحدة -: أي آذاني، وغيّر جلدي، وصُورتي، وسوّدني، وأحرقني، قاله الحربيّ، والجوهريّ، وقال الخطابيّ: قَشَبَه الدخان: إذا مَلأ خَيَاشيمه، وأخذ بِكَظَمِهِ

(2)

، وأصل الْقَشْب: خَلْطُ السم بالطعام، يقال: قَشَبه: إذا سَمَّهُ، ثم استُعْمِل فيما إذا بلغ الدخان، والرائحة الطيبة منه غايته.

وقال النوويّ: معنى قَشَبَني: سَمَّني، وآذاني، وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة، وقال الداوديّ: غَيَّر جلدي، وصورتي.

قال الحافظ: ولا يخفى حسن قول الخطابيّ، وأما الداوديّ فكثيرًا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها، ولا يحافظ على أصول معانيها.

وقال ابن أبي جمرة: إذا فسرنا الْقَشْب بالنَّتَن والْمُسْتَقْذَر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة، وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك.

وقال ابن القَطّاع: قَشَبَ الشيءَ: خَلَطه بما يُفْسِده من سُمّ أو غيره، وقَشَبَ الإنسانَ: لطخه بسوء كأن اغتابه وعابه، وأصله السّمّ، فاستُعمِل بمعنى: أصابه المكروه، إذا أهلكه، أو أفسده، أو غَيَّره، أو أزال عقله، أو تقذَّره هو، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) قال القاضي عياض رحمه الله: روايتنا في مسلم بالمدّ، والمشهور الْقَصْرُ، وحَكَى أبو حنيفة الدِّينَوَريّ رحمه الله فيه المدّ، وخطّأه عليّ بن حمزة، قال المازري: أي تلهّبها، وقال ابن قتيبة: اشتعالها، قال ابن ولاد: الذَّكَا: تلهّب النار مقصور. انتهى كلام القاضي

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وأحرقني ذكاؤها": كذا للأصيليّ، وكريمة هنا

(1)

راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة، مع حاشية الخضريّ" 2/ 122 - 123.

(2)

"الْكَظَمُ" محرّكةً: الْحَلْقُ، أو الفم، أو مخرج النفَسِ. انتهى. "القاموس" ص 1041.

(3)

"الفتح" 11/ 467.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 803 - 804.

ص: 150

بالمد، وكذا في رواية إبراهيم بن سعد، وفي رواية أبي ذَرّ وغيره:"ذَكَاها" بالقصر، وهو الأشهر في اللغة، وقال ابن القطاع: يقال: ذَكَت النارُ تذكو ذَكًا بالقصر، وذُكُوًّا بالضم وتشديد الواو: أي كَثُرَ لَهَبُها، واشتدّ اشتعالها ووَهَجُها، وأما ذَكَا الغلامُ ذَكَاءً بالمدّ، فمعناه: أسرعت فِطْنته.

وقال النوويّ: المدّ والقصر لغتان، ذكره جماعة فيها.

وتعقّبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة، ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المدّ إلا عن أبي حنيفة الدِّينَوريّ في "كتاب النبات" في مواضع منها ضربُ العرب المثلَ بِجَمْرِ الْغَضَا لذكائه، قال: وتعقّبه علي بن حمزة الأصبهانيّ، فقال: ذَكَا النارِ مقصور، ويكتب بالألف؛ لأنه واويّ، يقال: ذَكَت النارُ تَذْكُو ذُكُوًّا وذَكَا النار، وذُكُوّ النار بمعنىً، وهو التهابها، والمصدر ذَكًا، وذُكُوّ، وذَكْوٌ بالتخفيف والتثقيل، فأما الذّكَاء بالمد: فلم يأت عنهم في النار، وإنما جاء في الفَهْم.

وقال قرقول في "المطالع" وعليه يَعْتَمِد الشيخ: وقع في مسلم: "فقد أحرقني ذَكَاؤها" بالمد، والمعروف في شدّة حر النار القصر، إلا أن الدينوريّ ذكر فيه المدّ، وخَطّاه علي بن حمزة، فقال: ذَكَتِ النارُ ذَكًا وذُكُوًّا، ومنه طيب ذَكِيّ: منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد: فمعناه تمام الشيء، ومنه ذكاء القلب.

وقال صاحب "الأفعال": ذكا الغلام والعقل: أسرع في الفِطْنة، وذَكَا الرجلُ ذَكَاءً من حِدّة فكره، وذكت النارُ ذَكًا بالقصر: توقّدت. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أبو حنيفة الدينوريّ

(1)

إمام مشهور في اللغة ثقةٌ في نقله، فما قاله من جواز المدّ والقصر في ذَكا النار هو الصواب؛ لأن من حفِظَ حجة على من لم يحفظ.

والحاصل أنه بعد صحّة الوجهين على ما نقله المحقّقون من المحدّثين،

(1)

هو: أحمد بن داود الدِّينوريّ، كان نحويًّا لغويّا مع الهندسة والحساب، راويةً ثقة، ورعًا زاهدًا، إمامًا في مذهب الكوفيين والبصريين، من مصئفاته "تفسير القرآن"، "الفصاحة"، "لحن العامّة"، "الشعر والشعراء"، "النبات". توفي (282 هـ) وقيل غير ذلك. انظر "بغية الوعاة" 1/ 306.

ص: 151

وأثبتها هذا الإمام لغةً، فلا التفات إلى إنكار عليّ بن حمزة، وتبعه مغلطاي، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُوَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله"، قال في "الفتح": قد استُشكِل كون وجهه إلى جهة النار، والحال أنه ممن يَمُرّ على الصراط طالبًا إلى الجنة، فوجهه إلى الجنة، لكن وقع في حديث أبي أمامة:"أنه يَتَقَّلب على الصراط ظهرًا لبطن"، فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره، فصادف أن وجهه كان مِن قِبَل النار، ولم يَقْدِر على صرفه عنها باختياره، فسأل ربه في ذلك. انتهى.

(ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: هَلْ عَسَيْتَ) بفتح السيِن المهملة، وكسرها، والفتح أولى، قرأ نافع قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} الآية [محمد: 22] بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَالْفَتْحَ وَالْكَسْرَ أَجِزْ فِي السِّينِ مِنْ

نَحْوِ "عَسَيتُ" وَانْتِقَا الْفَتْحِ زُكِنْ

قال ابن السّكّيت: ولا يُنطق في "عسيت" بمستقبل. انتهى

(1)

.

(إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ) أي صرفتُ وجهك عن النار، وقوله:(أَنْ تَسْأَل غَيْرَهُ؟) خبر "عسى"، والمعنى: هل يُتَوَقَّع منك سؤال ذلك، وهو استفهام تقرير؛ لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع إلى المخاطب، لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء الْعِنَان إلى الْخَصْم؛ ليبعثه ذلك على التفكر في أمره، والإنصاف من نفسه، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَيَقُولُ: لَا أَسْألُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ) جمع ميثاق، بمعنى العهود، فهو تأكيد لما قبله (مَا شَاءَ اللهُ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ) وفي رواية للبخاريّ: "فيُصْرَف وجهُهُ عن النار" بضم أوله، على البناء للمجهول، ووقع في رواية أنس، عن ابن مسعود الآتي عند المصنّف، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد، والبزار نحوه أنه: "فتُرفع له شجرة، فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة، فَلأَستَظِلَّ بظلها، وأشربَ من مائها، فيقول الله: لعلي

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 24.

(2)

11/ 468.

ص: 152

إن أعطيتك تسألني غيرها؟ فيقول: لا يا ربّ، ويعاهده أن لا يسأل غيرها، وربه يَعْذِره؛ لأنه يَرَى ما لا صبر له عليه"، وفيه: أنه "يدنو منها، وأنه تُرفع له شجرة أخرى أحسن من الأولى عند باب الجنة، ويقول في الثالثة: ائذن لي في دخول الجنة"، وكذا وقع في حديث أنس عند البخاريّ في "التوحيد" من طريق حميد عنه رفعه: "آخرُ من يَخرُج من النار تُرفع له شجرة"، ونحوه للمصنّف من طريق النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد، بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قِبَلَ الجنة، ومُثِّلت له شجرة".

ويُجْمَع بأنه سقط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه هنا ذكر الشجرات، كما سقط من حديث ابن مسعود ما ثَبَت هنا من طلب القرب من باب الجنة، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّة، وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ قَدِّمْني) وفي لفظ البخاريّ: قَرِّبني (إِلَى بَابِ الْجَنَّة، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: ألَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ) وفي لفظ للبخاريّ: "فيقول: أليس قد زعمتَ"(لَا تَسْألني غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ؟ ويلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ) تكرير لدعائه، أي رلت قدّمني إلى بابها، (ويدْعُو اللهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَل غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ عُهُودٍ ومَوَاثِيقَ) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: إنما بادر للحلف من غير استخلاف؛ لما وقع له من قُوّة الفرح بقضاء حاجته، فوَطَّن نفسه على أن لا يطلب مزيدًا، وأَكَّدَه بالحلف. انتهى.

(فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّة، فَإذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّة، انْفَهَقَتْ) بفتح الفاء والهاء والقاف، ومعناه: انفتحت، واتّسعت، والمتفيهق: المتوسّع في كلامه، والمتكلّف فيه

(2)

. (لَهُ الْجَنّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ) - بالخاء المعجمة، والياء المثنّاة تحتُ - هذا هو الصحيح المعروف في الروايات والأصول، وحَكَى القاضي عياض رحمه الله أن بعض الرواة في مسلم رواه:

(1)

11/ 468 "كتاب الرقاق"(6574).

(2)

"المفهم" 1/ 423.

ص: 153

"الْحَبْر" - بفتح الحاء المهملة، وإسكان الباء الموحدة

(1)

- ومعناه: السرور، وإفراط التنعّم، ومنه قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 15] أي يُنعّمون، ويُسرّون، قال صاحب "المطالع" كلاهما صحيح، قال: والثاني أظهر، ورواه البخاريّ:"الْحَبْرَة والسرور"، والْحَبْرة: الْمَسَرَّة. انتهى

(2)

.

(فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ) وفي رواية البخاريّ: "فإذا رأى ما فيها سَكَتَ"، وفي رواية له:"فإذا بلغ بابَها، ورَأَى زَهْرَتها، وما فيها من النَّضْرَة"، والمراد: أنه يَرَى ما فيها من خارجها، إما لأن جِدارها شَفّاف، فَيُرَى باطنها من ظاهرها، كما جاء في وصف الْغُرَف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يَحصُل له من سُطُوع رائحتها الطيبة، وأنوارها المضيئة، كما كان يحصل له أَذَى لَفْحِ النار، وهو خارجها، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الصواب؛ إذ قوله: "ورَأَى زَهْرَتها، وما فيها من النَّضْرَة" ظاهر في كونه رأى وشاهد ما في داخلها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: ألَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَل غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ وَيْلَكَ) وفي رواية للبخاريّ: "ويحك"(يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ لَا كُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ) وكذا وقع عند البخاريّ في "كتاب الصلاة" بلفظ: "لا أكون أشقى خلقك"، وللقابسيّ:"لأكونَنّ"، قال ابن التين: المعنى: لئن أبقيتني على هذه الحالة، ولم تدخلني الجنة لأكوننّ، والألف في الرواية الأولى زائدة، وقال الكرمانيّ: معناه: لا أكون كافرًا.

قال الحافظ: هذا أقرب مما قال ابن التين، ولو استَحْضَر رواية:"لا تجعلني أشقى خلقك" ما احتاج إلى التكلف الذي أبداه، فإن قوله:"لا أكون"

(1)

وضبطه عياض بفتح الباء، راجع "إكمال المعلم" 2/ 806، وفي "القاموس" ما يفيد جواز الوجهين، راجعه: ص 334.

(2)

"المفهم" 1/ 423، و"شرح النوويّ" 3/ 24.

ص: 154

لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الطلب، يدل عليه قوله:"لا تجعلني".

ووجه كونه أشقى أن الذي يُشاهد ما يُشاهده، ولا يَصِل إليه يصير أشدّ حسرةً ممن لا يشاهد، ولفظ البخاريّ هنا:"يا رب لا تجعلني أشقى خلقك"، والمراد بالخلق هنا مَن دَخَلَ الجنة، فهو لفظ عامّ أُريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمرّ خارجًا عن الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر، لو استمر خارج الجنة، وهم من داخلها.

قال الطيبيّ رحمه الله: معناه: يا رب قد أعطيتُ العهد والميثاق، ولكن تفكرتُ في كرمك ورحمتك، فسألت. انتهى

(1)

.

(فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ تبارك وتعالى مِنْهُ) قال النوويّ: قال العلماء: ضَحِك الله تعالى منه هو رضاه بفعل عبده، ومحبته إياه، وإظهار نعمته عليه، وإيجابها عليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: مراد النوويّ بقوله: العلماء علماء الأشاعرة المتأخّرون، لا علماء السلف، كما يعترف به هو في مواضع كثيرة من شرحه بأن هذا مذهب الخلف، وأما مذهب السلف فبعيد عن التأويل، فظهر بهذا أن تأويله هذا، وقد سبقه المازريّ والقاضي عياض، والقرطبيّ غير صحيح، والحقّ الذي عليه السلف أن صفة الضحك ثابتة لله تعالى حقيقةً على ما يليق بجلاله وعظمته، بلا تكييف، ولا تشبيه مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد نقل نحو هذا البيهقيّ عن متقدّمي الأشاعرة أيضًا

(2)

.

وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "ذِكرُ إثبات ضحك ربنا عز وجل بلا صفة تصف ضحكه جلّ ثناؤه، ولا يُشبّه ضحكه بضحك المخلوقين، بل نؤمن بأنه يضحك، كما أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جلّ وعلا؛ إذ الله عز وجل استأثر بصفة ضحكه، لم يُطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال به النبيّ صلى الله عليه وسلم، مصدّقون بذلك بقلوبنا، منصتون عما لم يُبيَّن لنا مما استأثر الله تعالى بعلمه. انتهى كلامه رحمه الله

(3)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، فتمسّك به تكن من المفلحين، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 469 "كتاب الرقاق"(6574).

(2)

"الأسماء والصفات" ص 591 - 598.

(3)

"كتاب التوحيد" 2/ 563 - 581.

ص: 155

(فَإذَا ضَحِكَ اللهُ مِنْهُ، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللهُ لَهُ: تَمَنَّهْ) الهاء للسكت جيء بها للوقف؛ لكون الفعل معتلّ الآخر، كما قال في "الخلاصة":

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ

بِحَذْفِ آخِرٍ كـ"أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كـ"ع" أَوْ

كـ"يَع" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا

(فَيَسْأَلُ رَبَّهُ، ويتَمنَّى، حَتَّىَ إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ مِن كَذَا وَكَذَا) أي يقول له: تَمَنَّ من الشيء الفلانيّ، ومن الشيء الآخر، يُسَمِّي له أجناس ما يَتَمَنَّى، وهذا من عظيم رحمته سبحانه وتعالى، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"ويُلَقِّنه الله ما لا علم له به"(حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِيُّ) وفي رواية أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد: "فيسأل، ويتمنى مقدار ثلاثة أيام، من أيام الدنيا"، (قَالَ اللهُ تَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ) مبتدأ وخبره: أي ذلك الذي تمنّيته، كائن لك، وقوله:(وَمِثْلُهُ مَعَهُ") جملة في محلّ نصب على الحال.

(قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) وقائل "قال عطاء" هو ابن شهاب الزهريّ (وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) مبتدأ خبره قوله: (مَعَ أَبِي هُرَيرَةَ) أي جالس معه، والجملة في محلّ نصب مقول "قال عطاء" (لَا يرُدُّ عَلَيْهِ) وفي رواية للبخاريّ:"لا يُغيّر عليه شيئًا"، وهو بمعناه (مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا) يعني أن أبا سعيد الخدريّ لا يردّ على أبي هريرة رضي الله عنهما شيئًا مما حدّث به؛ لكونه حقًّا موافقًا لما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) ردًّا على أبي هريرة حيث خالف ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان أبو هريرة أيضًا سمع ذلك (وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أبا هُرَيْرَةَ) الجملة مقول "قال أبو سعيد"(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إلَّا قَوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) الأقرب في وجه الجمع بينهما أن يقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَعلمه الله أوّلًا بما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم تَكَرَّم الله تعالى، فزاد ما في رواية أبي سعيد رضي الله عنه، فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعه أبو هريرة رضي الله عنه.

ووقع في حديث أنس عن ابن مسعود رضي الله عنه: "يُرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها"، ووقع في حديث حُذيفة عن أبي بكر: "انظر إلى مُلك أعظم

ص: 156

مَلِك، فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول: أتسخر بي، وأنت الملك؟ ".

ووقع عند أحمد من وجه آخر، عن أبي هريرة، وأبي سعيد جميعًا في هذا الحديث: فقال أبو سعيد: ومثله معه، فقال أبو هريرة: وعشرة أمثاله، فقال أحدهما لصاحبه: حَدِّث بما سمعتَ، وأُحدّث بما سمعتُ، وهذا مقلوب، فإن الذي في "الصحيح" هو المعتمد.

وقد وقع عند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في "الصحيح"، نعم وقع في حديث أبي سعيد الطويل عند البخاريّ في "التوحيد" من طريق أخرى عنه، بعد ذكر مَن يخرج من عُصاة الموحدين، فقال في آخره:"فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه"، فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل.

قال الحافظ: ويمكن أن يُجْمَع أن يكون عشرة الأمثال، إنما سمعه أبو سعيد في حقّ آخر أهل الجنة دخولًا، والمذكور هنا في حقّ جميع مَن يَخْرُج بالقبضة، وجمع عياض بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سَمِعَ أولًا قوله:"ومثله معه"، فحدّث به، ثم حدَّث النبيّ صلى الله عليه وسلم بالزيادة، فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال: سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معًا، أوّلًا، ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعدُ.

قال الجامع عفا الله عنه: الجمع الذي ذكره عياضٌ رحمه الله هو الأقرب عندي، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

ثم ظاهر قوله: "لك ذلك وعشرة أمثاله" أن العشرة زائدة على الأصل، ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود:"لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا"، وحُمِل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا، فيطابق حديث أبي سعيد، ووقع في رواية عن ابن مسعود:"لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها"، والله أعلم.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هو موصول بالسند المذكور، وليس معلّقًا (وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةِ)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 157

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[87/ 458 و 459 و 460](182)، و"الزهد والرقاق"(2968)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6573)، و"التوحيد"(7437)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20856)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2383)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 275 - 276 و 293 - 294 و 533 - 534)، و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(241 و 242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(419، 420، 421 و 422 و 423)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(455 و 456 و 457)، و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(455 و 476)، و (الآجرّيّ) في "التصديق"(28)، و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد"(814)، و (ابن منده) في "الإيمان"(805 و 806)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7429)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4346)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 460)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معرفة طريق الرؤية.

2 -

(ومنها): ما قال النووي رحمه الله: مذهب أهل السنة: أن رؤية المؤمنين ربهم ممكنة، ونفتها المبتدعة من المعتزلة، والخوارج، وهو جهلٌ منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة، ولا مقابلة المرئيّ، وإن جَرَت العادة بذلك فيما بين المخلوقين. انتهى

(1)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: وقول من أثبت الرؤية، وَوَكَل علم حقيقتها إلى الله فهو الحقّ، وكذا قول من فسّر الإتيان بالتجلي هو الحق؛ لأن ذلك قد تقدمه قوله:"هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر؟ " وزيد في تقرير ذلك وتأكيده، وكلّ ذلك يدفع المجاز عنه، والله أعلم. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 15.

ص: 158

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الطيبيّ رحمه الله من عدم المجاز هنا هو الحقّ، لكن تفسيره الإتيان بالتجلّي، غير صحيح، بل الصواب أن الإتيان والمجيء من الصفات الفعليّة لله سبحانه وتعالى على الحقيقة على وجه يليق بجلاله، كما هو مذهب السلف، وقد أسلفت تحقيقه قريبًا، فلا تكن من الغافلين.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وقد تأوّلت المعتزلة الرؤية في هذه الأحاديث بالعلم، فقالوا: إن معنى رؤية الله تعالى أنه يُعلم في الآخرة ضرورةً، وهذا خطا لفظًا ومعنًى.

أما اللفظ: فهو أن الرؤية بمعنى: العلم تتعدّى إلى مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وهي هنا تعدّت إلى مفعول واحد، فهي للإبصار، ولا يصحّ أن يقال: إن الرؤية بمعنى: المعرفة؛ لأن العرب لم تستعمل رأيتُ بمعنى: عرفتُ، لكن بمعنى: علمت، أو أبصرت، واستعملت "علمت" بمعنى: عرفت، لا "رأيت" بمعنى: عرفت.

وأما المعنى: فمن وجهين:

[أحدهما]: أنه صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ رؤية الله تعالى بالشمس، وذلك التشبيه لا يصحّ إلا بالمعاينة.

[وثانيهما]: أن الكفّار يعلمونه تعالى في الآخرة بالضرورة، فترتفع خصوصيّة المؤمنين بالكرامة، وبلذّة النظر، وذلك التأويل منهم تحريفٌ، حَمَلهم عليه ارتكاب الأصول الفاسدة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: في الابتداء بذكر القمر قبل الشمس متابعة للخليل عليه السلام فكما أُمر صلى الله عليه وسلم باتباعه في الملة اتبعه في الدليل، فاستَدَلّ به الخليل؛ على إئبات الوحدانية، واستدَلّ به الحبيب صلى الله عليه وسلم على إثبات الرؤية، فاستدَلّ كلّ منهما بمقتضى حاله؛ لأن الخلة تصح بمجرد الوجود، والمحبة لا تقع غالبًا إلا بالرؤية.

5 -

(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: إنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفًا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له، وإن لم يباشِرْ ذلك.

(1)

"المفهم" 1/ 415 - 416.

ص: 159

6 -

(ومنها): ما قاله الكلاباذيّ رحمه الله: إن إمساك الرجل أوّلًا عن السؤال حياءٌ من ربه عز وجل، والله يُحِبّ أن يسأل؛ لأنه يحبّ عبده المؤمن، فيباسطه بقوله أوّلًا:"لعلك إن أُعطيت هذا تسأل غيره؟ "، وهذه حالة المقَصِّر، فكيف حال المطيع، وليس نقضُ هذا العبد عهدَهُ، وتركُه ما أقسم عليه جهلًا منه، ولا قِلَّة مبالاة، بل علمًا منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به؛ لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاةً للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ على يمين، فرأى خيرًا منها، فليُكَفِّر عن يمينه، وليأت الذي هو خيرٌ"، فعَمَلُ هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفيرُ قد ارتفع عنه في الآخرة.

7 -

(ومنها): بيان جواز مخاطبة الشخص بما لا تُدْرَك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم برؤية ربهم، ثم ضرب لهم مثلًا بما يعرفون من رؤية الشمس والقمر.

8 -

(ومنها): بيان أن الأمور التي في الآخرة، لا تُشَبَّه بما في الدنيا إلا في الأسماء والأصل، مع المبالغة في تفاوت الصفة.

9 -

(ومنها): جواز الاستدلال على العلم الضروريّ بالنظريّ.

10 -

(ومنها): أن الكلام إذا كان محتملًا لأمرين يأتي المتكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع.

11 -

(ومنها): أن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار.

12 -

(ومنها): أن فيه فضيلةَ الإيمان؛ لأنه لَمّا تلبس به المنافق ظاهرًا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور، وغير ذلك.

13 -

(ومنها): بيان أن الصراط مع دِقّته وحِدّته يَسَعُ جميع المخلوقين منذ آدم؛ إلى قيام الساعة.

14 -

(ومنها): فيه أن النار مع عِظَمِها وشِدّتها لا تتجاوز الحد الذي أُمِرت بإحراقه، والآدميّ مع حَقَارة جِرْمه يُقْدِم على المخالفة، ففيه معنى شديد من التوبيخ، وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، ففيه إشارةٌ إلى توبيخ الطُّغَاة والْعُصَاة.

ص: 160

15 -

(ومنها): بيان فضل الدعاء، وقوَّة الرجاء في إجابة الدعوة، ولو لم يكن الداعي أهلًا لذلك في ظاهر الحكم، لكن فضل الكريم واسع.

16 -

(ومنها): أن في قوله في المرّة الثانية: "ما أغدرك! " إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم، إلا بعد أن يتكرر ذلك منه.

17 -

(ومنها): أن فيه إطلاقَ اليوم على جزء منه؛ لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد، وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه.

18 -

(ومنها): أن فيه جوازَ سؤال الشفاعة، حيث إنه ثبت في بعض رواياته سؤال أهل الموقف من الأنبياء أن يشفعوا لهم، خلافًا لمن منع محتجًّا بأنها لا تكون إلا لمذنب، قال القاضي عياض رحمه الله: وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب، وغير ذلك، مع أن كل عاقل معترف بالتقصير، فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كلُّ عامل يخشى أن لا يُقْبَل عمله، فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله، قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة، وهو خلاف ما دَرَجَ عليه السلف في أدعيتهم.

19 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه جواز تكليف ما لا يطاق؛ لأن المنافقين يؤمرون بالسجود، وقد مُنِعُوا منه، كذا قيل، قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة التكليف بما لا يُطاق كثر فيها النزاع، وقد ذكرت تفاصيله، وبيان الراجح منه بدليله في كتابي "التحفة المرضيّة"، وشرحها "المنحة الرضيّة"، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

20 -

(ومنها): واستَدَلّ به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين، وبعض أهل الكتاب يرون الله تعالى مع المؤمنين، وهو غلط؛ لأن في سياق حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رؤوسهم من السجود، وحينئذ يقولون: أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين، ومن ذُكِر معهم، وأما الرؤية التي اشتَرَكَ فيها الجميع قبلُ، فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم تفنيد القول: بأن الصورة صورة الملك، فتنبّه.

ص: 161

قال الحافظ رحمه الله: ولا مدخل أيضًا لبعض أهل الكتاب في ذلك؛ لأن في بقية الحديث أنهم يَخرُجون من المؤمنين ومن معهم، ممن يظهر الإيمان، ويقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ وأنهم يتساقطون في النار، وكلُّ ذلك قبل الأمر بالسجود. انتهى.

21 -

(ومنها): بيان أن جماعةً من مذنبي هذه الأمة يُعَذّبون بالنار، ثم يُخْرَجون بالشفاعة والرحمة، خلافًا لمن نَفَى ذلك عن هذه الأمة، وتأوّل ما ورد بضروب مُتَكَلَّفة، والنصوص الصريحة متضافرة متظاهرة بثبوت ذلك.

22 -

(ومنها): أن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار؛ لاختلاف مراتبهم، مِن أخذ النار بعضهم إلى ساقه.

23 -

(ومنها): بيان أن النار لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون كما ثبت في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فيكون عذابهم إحراقهم، وحبسهم عن دخول الجنة سريعًا كالمسجونين، بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلًا؛ ليذوقوا العذاب، ولا يَحْيَوْن حياةً يستريحون بها، على أن بعض أهل العلم أَوّل ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله:"يموتون فيها إماتةً" بأنه ليس المراد أن يحصل لهم الموت حقيقةً، وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم، وذلك للرفق بهم، أو كَنَى عن النوم بالموت، وقد سَمَّى الله النوم وفاةً، ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنهم إذا دخلوا النار ماتوا، فإذا أراد الله إخراجهم، أَمَسَّهُم أَلَمَ العذاب تلك الساعة.

24 -

(ومنها): بيان ما طُبعَ عليه الآدميّ من قوّة الطَّمَع، وجَوْدة الحيلة في تحصيل المطلوب، فطَلَبَ أَوّلًا أن يُبْعَد من النار؛ ليحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طَلَب الدنوّ منهم، وقد وقع في بعض طرقه طلب الدنوّ من شجرة بعد شجرة إلى أن طَلَب الدخول.

25 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن صفات الآدميّ التي شُرِّف بها على الحيوان تعود له كلُّها بعد بعثته، كالفكر، والعقل، وغيرهما. انتهى مُلَخَّصًا من كلام أبي محمد بن أبي جمرة رحمه الله، نقله الحافظ رحمه الله في "الفتح" مع زيادات في غضون كلامه، ونقله بتصرّف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 470 - 471 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6574 - 6576).

ص: 162

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[459]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنْدِيّ الحافظ، صاحب "السنن"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنة (م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الْحَكَم بن نافع الْبَهْرَانيّ الحمصيّ مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبت [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

3 -

(شُعَيْبٌ) بن أبي حَمْزة، واسمه دينار الأمويّ مولاهم، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت بعد 90) وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) فاعل "ساق" ضمير شعيب، يعني أن شعيب بن أبي حمزة روى هذا الحديث متابعًا لإبراهيم بن سعد عن الزهريّ بمثل معنى ما رواه.

[تنبيه]: رواية شعيب هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية إبراهيم بن سعد، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6574)

حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، أخبرني سعيد وعطاء بن يزيد، أن أبا هريرة أخبرهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي هريرة، قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:

ص: 163

"هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ "، قالوا: لا يا رسول الله، قال:"هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال:"فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يَجْمَع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويُضْرَب جِسْرُ جهنم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فأكون أوّلَ مَن يُجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم، وبه كلاليب مثل شَوْك السَّعْدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يَعْلَم قدر عظمها إلا الله، فتَخْطِف الناسَ بأعمالهم، منهم الموبَقُ بعمله، ومنهم الْمُخَرْدَل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يُخْرِج من النار من أراد أن يُخرج، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يُخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحَرَّم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم، قد امْتَحَشوا، فَيُصَبُّ عليهم ماءٌ، يقال له: ماءُ الحياة، فينبتون نباتَ الْحِبَّة في حَمِيل السيل، ويبقى رجل منهم مُقْبِلٌ بوجهه على النار، فيقول: يا رب قد قَشَبَني ريحها، وأحرقني ذَكَاؤها، فاصوف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله، فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيَصْرِف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب قَرِّبني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك! فلا يزال يدعو، فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيُقَرِّبه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها، سَكَتَ ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة، ثم يقول: أوَ ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: يا رب، لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يَضْحَك، فإذا ضَحِكَ منه، أَذِنَ له بالدخول فيها، فإذا دَخَل

ص: 164

فيها، قيل له: تَمَنَّ من كذا، فيتمنى، ثم يقال له: تَمَنَ من كذا، فيتمنى حتى تنقطع به الأمانيّ، فيقول له: هذا لك، ومثله معه"، قال أبو هريرة: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولًا"، قال عطاء: وأبو سعيد الخدريّ جالس مع أبي هريرة، لا يُغَيِّر عليه شيئًا من حديثه، حتى انتهى إلى قوله: هذا لك ومثله معه، قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا لك، وعشرة أمثاله"، قال أبو هريرة: حفظت: "مثله معه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[460]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّة، أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ زاهد [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنّفٌ شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عتبة، ثقةٌ [4](ت 132) على الأصحّ (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

ص: 165

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ باليمنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبو هريرة رضي الله عنه يمنيّ دَوْسِيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "هذا ما حدّثنا أبو هريرة

إلخ"، وقد تقدّم البحث عنها مستوفًى في "المقدّمة"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ) بفتح الهاء، وتشديد الميم (بْنِ مُنبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل، أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى الحديث الآتي، فـ "هذا" مبتدأ خبره قوله:(مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) أي همّام (أَحَادِيثَ) هي الأحاديث المشهورة بـ "صحيفة همّام بن منبّه"، وهي (138) حديثًا، بسند واحد: عبد الرزّاق، عن معمر، عن همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أخرج الشيخان منها أحاديث كثيرة بالاشتراك والانفراد، وهذا الحديث هو (55) منها.

(مِنْهَا) أي من تلك الأحاديث، والجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إذ هو مبتدأ محكيّ لقصد لفظه ("إِنَّ أَدْنَى) اسم "إنّ"(مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ) أي منزلته، فالمراد بالمقعد المنزلة، وقوله:(مِنَ الْجَنَّةِ) أي في الجنّة، فـ "من" بمعنى "في" متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه كائنًا في الجنة، وقوله:(أَنْ يَقُولَ لَهُ) في تأويل المصدر خبر "إنّ".

والمعنى - كما قال الطيبيّ رحمه الله

(1)

-: إن أدنى منزلة أحدكم في الجنّة أن ينال أمانيّه كلّها، بحيث لا تبقى له أُمنيّةٌ، ونحوه قول الشاعر [من البسيط]:

لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئًا أُؤَمِّلُهُ

تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنيَا بِلَا أَمَلِ

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3560 - 3561.

ص: 166

أي قول الله تعالى في حقّه (تَمَنَّ) حُذف مفعوله؛ ليفيد التعميم، أي كلّ ما تشتهيه (فَيَتَمَنَّى) أي ما يحضره (وَيَتَمَنَّى) أي ما يُذكّره ربّه - عزَّوجل -، فقد سبق في حديث أبي هريرة الماضي قوله:"حتى إن الله ليذكّره من كذا وكذا"(فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟) أي انتهت أمانيّك (فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ") قد سبق أن أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه قد حفظ زيادة على أبي هريرة رضي الله عنه: "ذلك له، وعشرة أمثاله"، وهي زيادة مقبولة.

وسيأتي أيضًا حديث أبي سعيد الخدريّ رحمه الله قريبًا بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة

" الحديث، وزاد فيه: "ويُذَكِّره الله: سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله"، قال: "ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه، من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول: ما أُعطي أحدٌ مثل ما أعطيت".

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند حسن (10511) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة إن له لسبعَ درجات، وهو على السادسة، وفوقه السابعة، وإن له لثلاثَمائة خادم، ويُغْدَى عليه، ويراح كلَّ يوم ثلاثمائة صَحْفة، ولا أعلمه إلا قال: من ذهب، في كل صحفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذّ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول: يا رب لو أَذِنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم، لم ينقص مما عندي شيء، وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة، سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهنّ ليأخذ مقعدها قدرَ ميل من الأرض".

وفيه شهر بن حَوْشَب، وهو حسن الحديث.

وسيأتي للمصنّف رحمه الله قريبًا

(1)

حديثُ المغيرة بن شعبة رحمه الله وفيه بيان أدنى أهل الجنّة منزلةً، وأعلاهم، ولفظه: قال: سأل موسى ربّه: ما أدنى أهل الجنة منزلةً؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف، وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا

(1)

سيأتي بعد ستة أحاديث برقم (189).

ص: 167

أَخَذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولَذّت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُّ غَرَسْتُ كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تَرَ عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يَخْطُر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] الآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[87/ 460]، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 315)، (وأبو عوانة) في "مسنده"(436)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(457)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[461]

(183) - (وَحَدَّثَني سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَني حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "نَعَمْ، قَالَ

(1)

: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤيةِ الشَّمْس بِالظَّهِيرَةِ صحْوًا، لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟، وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا، لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟

(2)

(1)

وفي نسخة: "نعم، هل تضارّون؟ " بحذف "قال"، وفي أخرى:"نعم، فهل تضارُّون؟ ".

(2)

وفي نسخة: "ليس فيه سحاب".

ص: 168

قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَة، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤيةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَة، أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالأنصَاب، إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّار، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَاب، فَيُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، أَلا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّار، كَأنَّهَا سَرَابٌ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّار، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، أَلا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، كَأنَّهَا سَرَابٌ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّار، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أتاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُور مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟

(1)

تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، أَفْقَرَ مَا كنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيةٌ، فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ للهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِه، إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بالسُّجُود، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِياءً، إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ

(2)

، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ

(3)

: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ:

(1)

وفي نسخة: "فماذا تنتظرون؟ ".

(2)

وفي نسخة: "فيقول: أنا ربكم".

(3)

وفي نسخة: "فيقولون".

ص: 169

يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ، مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ، وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ، فِيهَا شُوَيْكَةٌ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْن، وَكَالْبَرْق، وَكَالرِّيح، وَكَالطَّيْر، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَاب، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَل، وَمَكْدُوسٌ

(1)

فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّار، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً للهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ

(2)

، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ للهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإخْوَانِهِمِ الَّذِينَ فِي النَّار، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّار، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْه، وَإِلَى رُكْبَتَيْه، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِه، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتتا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيث، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّار، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أفوَاهِ الْجَنَّة، يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاة، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْل، ألَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَر، أَوْ إِلَى الشَّجَر، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، كأنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى

(1)

وفي نسخة: "ومكدوش".

(2)

وفي نسخة: "في استيفاء الحقّ".

ص: 170

بِالْبَادِيَةِ؟، قَالَ: فَيَخْرُجُونَ

(1)

كَاللُّؤْلُؤ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ

(2)

، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّة، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أفضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سَهْل، أبو محمد الْهَرَويّ، ثم الْحَدَثَانيّ، ويقال: الأنباريّ صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قُدماء [10]، (ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

[تنبيه]: تقديم المصنّف رحمه الله روايته عن سُويد بن سعيد هذه على روايته عن عيسى بن حماد، مع أن سويدًا متكلّم فيه يردّ قول من يزعم أن مسلمًا يقدّم دائمًا الأحاديث التي ليس في أسانيدها طعن، فإن عيسى بن حماد الذي روى عنه المصنّف بعد هذا متابعةً أوثق منه، مجمع على توثيقه، وروايته أخرجها البخاريّ في "الصحيح"، عن يحيى بن بكير، عن الليث، وهذا يقع كثيرًا من المصنّف رحمه الله، والظاهر أنه يقدّم ما يراه أنسب، إما في سياق المتن، أو غير ذلك، ولا يلتزم الترتيب في الأسانيد، وسأنبّه على مثل هذا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8].

رَوَى عن زيد بن أسلم، وموسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن أبي سَلِمَة التِّنّيسيُّ، وابن وهب، والهيثم بن خارجة،

(1)

وفي نسخة: "فيُخْرَجُون" بالبناء للمفعول.

(2)

وفي نسخة: "الخواتيم".

ص: 171

وآدم بن أبي إياس، وسعيد بن منصور، وسويد بن سعيد، وغيرهم، ورَوَى عنه الثوري، وهو أكبر منه.

قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ليس به بأس، قلت: إنهم يقولون: عَرَضَ على زيد بن أسلم، فقال: ثقة. وقال ابن معين: ثقة إنما يُطعَن عليه أنه عرض. وقال أيضًا: قد رَوَى الثوري عن أبي عمر الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة. وقال مرة: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال في موضع آخر: يُكتب حديثه، ومحله الصدق، وفي حديثه بعض الوهم. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به. وقال الآجري عن أبي داود: يُضَعّف في السماع. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال الساجيّ: في حديثه ضعْفٌ. وقال الأزديّ: رَوَى عن العلاء مناكير، يتكلمون فيه، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: لا يُلتَفت إلى قول الأزديّ.

قال أحمد، وابن يونس، وغيرهما: توفي سنة (181).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

[تنبيه]: اختُلف في نسبة حفص بن ميسرة هذا: هل هو إلى صنعاء الشام، أم إلى صنعاء اليمن؟ فقال الأكثرون: إنه من صنعاء الشام، وممن قال بهذا: أحمد، والبخاريّ، والنسائيّ، والفلاس، ومحمد بن المثنى، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم، وقال أبو حاتم: إنه من صنعاء اليمن، وعليه يدلّ صنيع ابن أبي داود، قال أبو القاسم: وهو أشبه

(1)

. والله تعالى أعلم.

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدَويّ، مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقة فقيه، يُرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الْهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقة فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان الأنصاريّ الصحابيّ ابن

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 460.

ص: 172

الصحابيّ رضي الله عنهما مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل: (74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو وابن ماجه، وحفص، فما أخرج له الترمذيّ، وأخرج له أبو داود في "المراسيل".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فحدَثَانيّ، وحفص، فعسقلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: زيد، عن عطاء.

5 -

(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنه، روى (117) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَن نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ) أي ترونه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم موضّحًا لهم كيف يرونه (هَلْ تُضَارُّونَ) تقدّم أنه بتشديد الراء مفاعلة من الضرّ، أو بتخفيفها، من الضير، وهو بمعناه (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ) أي وقت انتصاف النهار، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الظهيرة": الهاجرة، وذلك حين تزول الشمس. انتهى

(1)

. (صَحْوًا) أي حين لا سحاب، قال المجد:"الصحو": ذهاب الغيم والسُّكْر. انتهى

(2)

، وقال الفيّوميّ: أصحت السماء بالألف، فهي مصحية: انكشف غيمها، وأنكر الكسائيّ استعمال اسم الفاعل من الرباعيّ، فقال: لا يقال: أصحت، فهي مصحيةٌ، وإنما يقال: أصحت، فهي صَحْوٌ، وأصحى اليومُ، فهو مصح، وأصحينا: صِرْنا في صَحْوٍ، قال السجستانيّ: والعامّة تظنّ أن الصَّحْو لا يكون إلا ذهاب الغيم، وليس كذلك،

(1)

"المصباح" 2/ 387.

(2)

"القاموس" ص 1172.

ص: 173

وإنما الصحو تفرّق الغيم مع ذهاب البرد. انتهى

(1)

، فقوله:(لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟) تأكيد للصحو (وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا، لَيْسَ فِيهَا) أي في السماء بقرينة المقام، وإن لم يَجر لها ذكرٌ، قاله في "المرقاة"، وفي نسخة:"ليس فيه" بضمير المذكّر، وهو واضح، أي في القمر (سَحَابٌ؟ "، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "مَا) نافية (تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَة، إِلَّا كلمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤيةِ أَحَدِهِمَا) معناه: لا تُضَارُّون أصلًا كما لا تضارون في رؤيتهما أصلًا

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: كان الظاهر أن يقال: لا تضارّون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أُخرج مخرج قوله

(3)

[من الطويل]:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أي لا تشكّون إلا كما تشكّون في رؤية القمرين، وليس في رؤيتهما شكّ، ولا تشكّون فيه البتّة. انتهى

(4)

.

(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)"كان"، هنا تامّة بمعنى جاء ووقع، و"يومُ" مرفوع على الفاعليّة، ويحتمل أن تكون ناقصةً، و"يوم" منصوب على أنه خبرها، واسمها محذوف، أي إذا كان الزمن يومَ القيامة (أَذَنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى منادٍ (لِيَتَّبعْ) بفتح حرف المضارعة، وتشديد التاء، وكسر الموحّدة، مضارع اتّبع، من باب الافتعال، ويحتمل أن يكون بسكون التاء، وفتح الموحّدة مضارع تَبعَ ثلاثيًّا (كلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ، مِنَ الْأَصْنَامِ) بفتح الهمزة جمع صَنَم بفتحتين: هو الوثَنَ المتّخذ من الحجارة، أو الخشب، ويقال: الصنم: المتّخذ من الجواهر المعدنيّة التي تذوب، والوَثَن: هو المتّخذ من حجر، أو خشب، وقال ابن فارس: الصنم: ما يُتّخذ من خشب أو نُحاس، أو فضّة، والجمع أصنام

(5)

. (وَالْأنصَابِ) بفتح الهمزة أيضًا: جمع

(1)

"المصباح المنير" 1/ 334.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 26.

(3)

يعني: أنه من باب المدح بما يُشبه الذّمّ للتأكيد.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3509.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 349.

ص: 174

نُصُب بضمّتين: حجرٌ نُصِبَ، وعُبد من دون الله، وقيل: النُّصبُ جمع واحدها نِصَابٌ، قيل: هي الأصنام، وقيل: غيرها، فإن الأصنام مصوَّرةٌ منقوشةٌ، والأنصاب بخلافها

(1)

. (إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ) أي يقعون فيها (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ) بفتح أوله وثالثه، وسكون الموحّدة: مضارع بَقِيَ (إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ) بفتح الموحّدة، وتشديد الراء، يقال: بَرّ الرجل يَبَرّ بِرًّا، وزانُ عَلِمَ يَعْلَمُ علْمًا، فهو بَرّ بالفتح، وبارّ: أي صادق، أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأول: أبرار، وجمع الثاني: بَرَرَةُ، مثلُ كافر وكفرة

(2)

. (وَفَاجِرٍ) أي فاسق، وهو خلاف البرّ (وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ) - بضم الغين المعجمة، وفتح الباء الموحدة المشددة -: جمع غابر، كما قال في "الخلاصة":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

ومعناه: بقاياهم (فَيُدْعَى الْيَهُودُ) بالبناء للمفعول، وقدم اليهود بسبب تقدم ملتهم على ملة النصارى (فَيُقَالُ لَهُمْ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية قائل ذلك لهم، والظاهر أنه الملك الموكل بذلك (مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟)"ما" استفهاميّة، أي: أيّ شيء كنتم تعبدون في الدنيا؟ (قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ) قال في "الفتح": هذا فيه إشكال؛ لأن المتصف بذلك بعض اليهود، وأكثرهم ينكرون ذلك، ويمكن أن يجاب بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان مُتَّصِفًا بذلك، ومَن عداهم يكون جوابهم ذِكْرُ مَن كفروا به، كما وقع في النصارى، فإن منهم من أجاب بالمسيح ابن الله مع أن فيهم من كان بزعمه يعبد الله وحده، وهم الاتحادية الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم (فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ) قال الكرمانيّ رحمه الله: التصديق والتكذيب لا يرجعان إلى الحكم الذي أشار إليه، فإذا قيل: جاء زيد بن عمرو بكذا، فمن كَذَّبه أنكر مجيئه بذلك الشيء، لا أنه ابن عمرو، وهنا لم ينكر عليهم أنهم عَبَدُوا، وإنما أنكر عليهم أن المسيح ابن الله.

قال: والجواب عن هذا أن فيه نفي اللازم، وهو كونه ابن الله؛ ليلزم نفي الملزوم وهو عبادة ابن الله.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 607.

(2)

المصدر السابق 1/ 43.

ص: 175

قال: ويجوز أن يكون الأول بحسب الظاهر، وتحصل قرينة بحسب المقام، تقتضي الرجوع إليهما جميعًا، أو إلى المشار إليه فقط.

وقال ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث: أن المنافقين يتأخرون مع المؤمنين، رجاءَ أن ينفعهم ذلك، بناء على ما كانوا يظهرونه في الدنيا، فظنوا أن ذلك يستمرّ لهم، فميّز الله تعالى المؤمنين بالغرّة والتحجيل؛ إذ لا غُرّة للمنافق، ولا تحجيل.

قال الحافظ رحمه الله: قد ثبت أن الغرّة والتحجيل خاصّ بالأمة المحمدية، فالتحقيق أنهم في هذا المقام يتميزون بعدم السجود، وبإطفاء نورهم بعد أن حَصَلَ لهم، وَيحْتَمِل أن يحصل لهم الغرة والتحجيل، ثم يسلبان عند إطفاء النور.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظَنّ المنافقون أن تستُّرهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا؛ جهلًا منهم.

وَيَحْتَمِل أن يكونوا حُشِروا معهم؛ لما كانوا يُظهِرونه من الإسلام، فاستمرّ ذلك حتى ميّزهم الله تعالى منهم.

قال: ويَحْتَمِل أنهم لَمّا سَمِعوا: "لِتَتَّبعْ كلُّ أمة مَن كانت تعبد"، والمنافق لم يكن يعبد شيئًا بَقِي حائرًا حتى مُيِّز. انتهى

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: هذا ضعيفٌ؛ لأنه يقتضي تخصيص ذلك بمنافق كان لا يعبد شيئًا، وأكثر المنافقين كانوا يعبدون غير الله من وثن وغيره. انتهى

(2)

.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ) هو معنى قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30].

(فَمَاذَا تَبْغُونَ؟) أي أيّ شيء تطلبون؟ (قَالُوا: عَطِشْنَا) بكسر الطاء، من باب تَعِبَ (يَا رَبَّنا فَاسْقِنَا) يحتمل أن تكون الهمزة للوصل، مِن سقى ثلاثيًّا، من قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ويحتمل أن تكون للقطع مِن أسقى رباعيًّا، من قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} الآية [الجن: 16].

(1)

"المفهم" 1/ 416.

(2)

"الفتح" 11/ 458.

ص: 176

(فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، ألا) هي هنا أداة تحضيض، كما في قوله تعالى:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [التوبة: 13]، والتحضيض: هو طلب الشيء بحثّ وإزعاج، وأما الْعَرض، فهو طلبه بلين ورفق

(1)

. (تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ) بالبناء للمفعول (إِلَى النَّار، كَأنَّهَا سَرَابٌ) - بفتح السين المهملة، وتخفيف الراء -: قال المجد: هو ما تراه نصف النهار، كأنه ماء. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: "السَّرَابُ": هو الذي يتراءى للناس في الأرض القفر، والقاع المستوي وسط النهار في الحر الشديد، لامعًا مثل الماء، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فالكفار يأتون جهنم - أعاذنا الله الكريم، وسائر المسلمين منها، ومن كل مكروه - وهم عِطاشٌ، فيحسبونها ماءً، فيتساقطون فيها. انتهى

(3)

.

وقال ابن منظور: السّرَابُ: الآلُ، وقيل: السرَابُ: الذي يكون نصف النهار لاطئًا بالأرض، لاصقًا بها، كأنه ماءٌ جارٍ، والآلُ: الذي يكون بالضحى، يَرفع الشُّخُوصَ، وَيزهاها كالملا بين السماء والأرض، وقال ابن السّكّيت: السرابُ: الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء، وهو يكون نصف النهار، وقال الأصمعيّ: الآل والسراب واحدٌ، وخالفه غيره، فقال: الآل من الضحى إلى زوال الشمس، والسراب بعد الزوال إلى صلاة العصر، واحتجّوا بأن الآل يرفَعُ كلَّ شيء حتى يصير آلًا: أي شَخْصًا، وأن السراب يَخفِض كلّ شيء حتى يصير لازقًا بالأرض، لا شخص له، وقال يونس: تقول العرب: الآل من غُدْوة إلى ارتفاع الضحى الأعلى، ثم هو سرابٌ سائرَ اليوم، وقال أبو الهيثم: سُمّي السراب سَرَابًا؛ لأنه يَسْرِبُ سُرُوبًا: أي يجري جَرْيًا. انتهى

(4)

.

(يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا) بكسر الطاء، يقال: حَطِمَ الشيءُ حَطَمًا، من باب

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 69 - 70.

(2)

"القاموس المحيط" ص 90.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 26.

(4)

"لسان العرب" 1/ 465.

ص: 177

تَعِبَ، فهو حَطِمٌ: إذا تكَسّر، ويتعدّى بالحركة، فيقال: حَطَمته حَطْمًا، من باب ضَرَبَ، فانحطم، وحطّمته بالتشديد مبالغةٌ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْحَطْمُ": الكسر، والإهلاك، و"الْحُطَمة": اسم من أسماء النار؛ لكونها تَحْطِم ما يُلْقَى فيها

(2)

.

(فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّار، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، ألا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، كَأنَّهَا سَرَابٌ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّار، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أتاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُور مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا) قال النوويّ: معنى "رأوه فيها": عَلِمُوها له، وهي صفته المعلومة للمؤمنين، وهي أنه لا يُشبهُهُ شيء، وقد تقدم الإتيان والصورة. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن النوويّ تبعًا للقاضي عياض، وغيره ممن يؤوّلون صفة الإتيان والصورة، وقدّمنا أن هذا مذهب غير صحيح، وأن الحقّ ثبوتهما له سبحانه وتعالى كما أثبتها هذا الحديث الصحيح، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من ذلك تشبيه، كما زعمت المعطّلة، والمؤوّلة، فنثبتهما ونعتقد أنهما ثابتان له على ما يليق به إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: معنى قولهم هذا: التضرّع إلى الله تعالى في كشف هذه الشدّة عنهم، وأنهم لَزِمُوا طاعته سبحانه وتعالى، وفارقوا في الدنيا الناس الذين زاغوا عن طاعته سبحانه، من قراباتهم وغيرهم، ممن كانوا يَحتاجون في معايشهم، ومصالح دنياهم إلى معاشرتهم؛ للارتفاق بهم، وهذا كما جَرَى للصحابة المهاجرين وغيرهم، ومن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 141.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 26.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 27.

ص: 178

أشبههم من المؤمنين في جميع الأزمان، فإنهم يُقاطعون مَن حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع حاجتهم في معايشهم إلى الارتفاق بهم، والاعتضاد بمخالطتهم، فآثروا رِضَى الله تعالى على ذلك، وهذا معنًى ظاهرٌ في هذا الحديث، لا شكّ في حسنه، وقد أنكر القاضي عياض رحمه الله هذا الكلام الواقع في "صحيح مسلم"، وادَّعَى أنه مُغَيَّرٌ، وليس كما قال، بل الصواب ما ذكرناه.

انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(فَيَقُولُ: أنا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ) هكذا هو في الأصول: "ليكاد أن ينقلب" بإثبات "أن"، وإثباتُها مع "كاد" لغة قليلة، كما أن حذفها مع "عسى" لغة قليلة بالعكس، كما قال في "الخلاصة":

وَكَوْنُهُ

(1)

بِدُونِ "أَنْ" بَعَدَ "عَسَى"

نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

وقوله: "ينقلب" - بياء مثناة من تحتُ، ثم نون، ثم قاف، ثم لام، ثم باء موحدة - ومعناه - والله أعلم - ينقلب عن الصواب، ويرجع عنه للامتحان الشديد الذي جرى، قاله النوويّ

(2)

.

(فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ، فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال النوويّ: ضُبط "يكشف" بفتح الياء، وضمّها، وهما صحيحان.

وقال في "الفتح": هذا يحتمل أن الله عَرّفهم على ألسنة الرسل من الملائكة، أو الأنبياء أن الله جَعَل لهم علامة تجليه الساق، وذلك أنه يمتحنهم بإرسال مَن يقول لهم: أنا ربكم، والى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الآية [إبراهيم: 27]، وهي وإن ورد أنها في عذاب القبر، فلا يبعد أن تتناول يوم الموقف أيضًا.

قال: وأما الساق: فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قال: عن شِدّة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق: إذا اشتدّت، ومنه:

قَدْ سَنَّ أَصْحَابُكَ ضَرْبَ الأَعْنَاقْ

وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ

(1)

أي الخبر.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 27.

ص: 179

وجاء عن أبي موسى الأشعريّ في تفسيرها: "عن نور عظيم"، قال ابن فُورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وقال المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة، ولغيرهم نقمةٌ، وقال الخطابيّ: تَهِيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قُدرته التي تَظهر بها الشدة، وأسند البيهقيّ الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كلُّ منهما حسن، وزاد:"إذا خَفِي عليكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر"، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابيّ في إطلاق الساق على الأمر الشديد:

فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا

وأسند البيهقيّ من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة، قال الخطابيّ: وقد يُطلَق ويراد النفس. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة الساق قد اختلف فيها السلف هل هي من الصفات أم لا؟، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله إجماع السلف على عدم تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وأنه طالع أكثر من مائة تفسير نُقِلت عن الصحابة، فلم يجد في شيء منها أن أحدًا تأوّل نصوص الصفات، ثم قال: وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، فرُوي عن ابن عبّاس وطائفة: أن المراد به الشدّة، أن الله يكشف عن الشدّة في الآخرة، وعن أبي سعيد، وطائفة أنهم عدّوها من الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في "الصحيحين" - يعني هذا الحديث - قال: ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدلّ على أن هذه من الصفات، فإنه قال:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يُضفها إلى الله، ولم يقل: عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الآية من الصفات هو الظاهر، ولذلك أورد الحديث الإمام البخاريّ في "التفسير" عند قوله:"باب يوم يُكْشَف عن ساق" مستدلًّا على أن ما دلّت عليه الآية هو الذي دلّ عليه الحديث، وإذا قلنا: إن

(1)

"مجموع الفتاوى" 6/ 394 - 395.

ص: 180

الساق من الصفات، فهو كاليد، والأصابع، والوجه، والقدم، وغير ذلك مما أثبته النصّ الصحيح لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ للهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) أي مختارًا من جهة نفسه، مخلصًا لله تعالى، لا لجهة اتّقاء الخلق، وتعلّق الرجاء بهم (إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُود، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً) أي احترازًا من السيف، أو خوفًا من لوم الناس وعتابهم له (وَرِياءً) أي مراءاةً للناس، ومسامعة لهم (إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً) بفتح الطاء والباء، قال الهرويّ وغيره: الطَّبَقُ: فَقَارُ الظهر، أي صار فَقَارةً واحدةً كالصفحة، فلا يقدر على السجود (كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ) أي سقط (عَلَى قَفَاهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده، وقد استدل بعض العلماء بهذا مع قوله تعالى:{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] على جواز تكليف ما لا يطاق، وهذا استدلال باطل، فإن الآخرة ليست دار تكليف بالسجود، وإنما المراد امتحانهم.

وقال ابن بطال: تَمَسّك به من أجاز تكليف ما لا يطاق من الأشاعرة، واحتجوا أيضًا بقصة أبي لهب، وأن الله كلفه الإيمان به مع إعلامه بأنه يموت على الكفر، ويَصْلَى نارًا ذات لهب، قال: ومنع الفقهاء من ذلك، وتمسّكوا بقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وأجابوا عن السجود بأنهم يُدْعَون إليه تبكيتًا؛ إذ أدخلوا أنفسهم في المؤمنين الساجدين في الدنيا، فدُعُوا مع المؤمنين إلى السجود، فتعذر عليهم، فأظهر الله بذلك نفاقهم، وأخزاهم، قال: ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، بل إظهار خزيهم، ومثله:"كُلِّفَ أن يَعْقِد شعيرة"، فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة. انتهى.

قال الحافظ: ولم يُجِب عن قصة أبي لهب، وقد ادَّعَى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإيمان فقط، وهي مسألة طويلة الذيل، ليس هذا موضع ذكرها. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 13/ 438 "كتاب التوحيد" رقم (7440 - 7447).

ص: 181

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أني استوفيت البحث المتعلّق بتكليف ما لا يُطاق في نظمي "التحفة المرضيّة" وشرحها، فارجع إليهما تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: (اعلم): أن هذا الحديث قد يُتَوَهَّم منه أن المنافقين يرون الله تعالى مع المؤمنين، وقد ذهب إلى ذلك طائفة، حكاه ابن فُورك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تعالى

"، قال النوويّ: وهذا الذي قالوه باطل، بل لا يراه المنافقون بإجماع من يُعْتَدّ به من علماء المسلمين، وليس في هذا الحديث تصريح برؤيتهم الله تعالى، وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الصورة، ثم بعد ذلك يرون الله تعالى، وهذا لا يقتضي أن يراه جميعهم، وقد قامت دلائل الكتاب والسنة على أن المنافق لا يراه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه آخر]: وقع في رواية البخاريّ: "ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعةً، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا"، فذكر العلامة جمال الدين بن هشام في "المغني" أنه وقع في البخاري في هذا الموضع "كَيْ" مجرَّدةً، وليس بعدها لفظ "يسجد"، فقال بعد أن حَكَى عن الكوفيين أنّ "كي" ناصبة دائمًا، قال: ويرُدُّه قولهم: "كيمه" كما يقولون: "لِمَهْ"، وأجابوا: بأن التقدير "كي تفعل ماذا؟ "، ويلزمهم كثرة الحذف، وإخراج "ما" الاستفهامية عن الصدر، وحذف ألفها في غير الجرّ، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب، وكل ذلك لم يَثْبُت. نعم، وقع في "صحيح البخاري" في تفسير {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [القيامة: 22]: "فيذهب كيما، فيعود ظهره طبقًا واحدًا"، أي كيما يسجد، وهو غريب جدًّا، لا يحتمل القياس عليه. انتهى كلامه.

قال الحافظ بعد نقل كلام ابن هشام هذا ما نصّه: وكأنه وقعت له نسخة، سَقَطت منها هذه اللفظة، لكنها ثابتة في جميع النسخ التي وَقَفتُ عليها، حتى إن ابن بطال ذكرها بلفظ "كي يسجدَ" بحذف "ما"، وكلام ابن هشام يوهم أن البخاريّ أورده في "التفسير"، وليس كذلك، بل ذكرها في

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 29.

ص: 182

"التوحيد" فقط. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال النوويّ: هكذا ضبطناه "صورته" بالهاء في آخرها، ووقع في أكثر الأصول، أو كثير منها في "صورة" بغير هاء، وكذا هو في "الجمع بين الصحيحين" للحميديّ، والأول أظهر، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحقّ، ومعناه: وقد أزال المانع لهم من رؤيته، وتجلى لهم. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ: أنا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ) أي يُجعَلُ ويُمَدّ (الْجِسْرُ) بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، وهو الصراط (عَلَى جَهَنَّمَ) أي على متنها وظهرها (وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ) بكسر الحاء، وقيل: بضمّها، ومعناها: أنها تَقَعُ، ويؤذن فيها (ويَقُولُونَ) أي الرسل؛ لأنه لا يتكلّم في ذلك الوقت غيرهم، كما سبق قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يتكلّم يومئذ إلا الرسل"(اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) أي سلّمنا، وسلّم أممنا من ضرر الصراط، وتكراره مرتين المراد به الكثرة، أو باعتبار كلّ واحد من أهل الشفاعة، أو للإلحاح في الدعاء كما هو من آدابه

(3)

. (قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ) بفتح الدال، وسكون الحاء المهملة، وتنوينه، هو من دَحَضَ بمعنى: زَلّ، ومنه: دَحَضَت الشمس: أي مالت، وحُجَّة داحضةٌ: أي لا ثَبَات لها، ووقع في "صحيح البخاريّ" في رواية أبي ذر عن الكشميهنيّ:"الدَّحْضُ: الزَّلَقُ {لِيُدْحِضُوا} لِيَزلِقُوا، {زَلَقًا}: لا يثبت فيه قدم". انتهى.

فقوله: (مَزِلَّةٌ) تأكيد لـ"دَحْضٌ"، وهو بفتح الميم، وفتح الزاي، وكسرها، وتشديد اللام، لغتان مشهورتان: هو الموضع الذي تزلّ فيه الأقدام، ولا تستقرّ فيه، ويقال: بالكسر في المكان، وبالفتح في المقال

(4)

. (فِيهِ خَطَاطِيفُ) بالفتح: جمع خُطّاف، بضم الخاء في المفرد، وقوله:(وَكَلَالِيبُ) بالفتح أيضًا: جمع كَلّوب، وهو بمعنى: الخَطاطيف، وهي الحديدة المعوجّة، يُختطَف بها الشيءُ: أي يُستلَبُ، ويؤخذُ بسرعة (وَحَسَكٌ) - بفتح الحاء والسين المهملتين -:

(1)

"الفتح" 13/ 437 - 438.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 29.

(3)

راجع: "المرقاة" 9/ 535.

(4)

"فتح" 13/ 438.

ص: 183

هو شَوْكٌ صَلْبٌ من حديد

(1)

، وقال صاحب "التهذيب" وغيره:"الْحَسَكُ": نبات له ثَمَرٌ خَشِنٌ، يتعلق بأصواف الغنم، ورُبّما اتُّخِذ مثله من حديد، وهو من آلات الحرب. انتهى

(2)

.

(تَكُونُ بِنَجْدٍ) أي توجد بالبلد المعروف بهذا الاسم، وهو بفتح النون، وسكون الجيم: هو في الأصل ما ارتفع من الأرض، والجمع نُجُود، مثلُ فَلْس وفُلُوس، والمراد هنا البلد المعروف، وهو من ديار العرب مما يلي العراق، وليس من الحجاز، وإن كان من جزيرة العرب، قال في "التهذيب": كلُّ ما وراء الْخَنْدق الذي خَنْدقه كسرى على سواد العراق، فهو نَجْدٌ إلى أن تميل إلى الحرّة، فإذا مِلْتَ إليها، فأنت في الحجاز، وقال الصغانيّ: كلُّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. انتهى

(3)

.

(فِيهَا شُوَيْكَةٌ) تصغير شوكة (يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ) تقدّم ضبطها ومعناها في الحديث الماضي.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ: "وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ، لها شوكةٌ عُقيفاء، تكون بنجد".

قال في "الفتح": قوله: "مُفَلْطَحَةٌ" بضم الميم، وفتح الفاء، وسكون اللام، بعدها طاء، ثم حاء مهملتان، كذا وقع عند الأكثر، وفي رواية الكشميهنيّ:"مُطَلْفَحَةٌ" بتقديم الطاء، وتأخير الفاء واللام قبلها، ولبعضهم كالأول، لكن بتقديم الحاء على الطاء، والأول هو المعروف في اللغة، وهو الذي فيه اتّساع، وهو عَرِيض، يقال: فَلْطَحَ الْقُرْصَ: بَسَطَهَ، وعَرَضَهُ.

وقوله: "شَوْكَةٌ عَقِيفَةٌ" بالقاف، ثم الفاء، بوزن عَظِيمة، ولبعضهم عُقَيْفَاء بصيغة التصغير ممدود. انتهى.

(فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ) أي على الصراط (كَطَرْفِ الْعَيْنِ) أي مثل إطباق جَفْن العين، قال في "اللسان": الطَّرْفُ: إطباقُ العين على الْجَفْن، طَرَفَ يَطْرِف طَرْفًا: لَحَظَ، قال: والطَّرْف: تحريك الْجُفُون في النظر. انتهى

(4)

. (وَكَالْبَرْقِ)

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 29.

(2)

"الفتح" 13/ 438.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 593.

(4)

"لسان العرب" 9/ 213.

ص: 184

بفتح، فسكون (وَكَالرِّيح، وَكَالطَّيْر، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ) من إضافة الصفة للموصوف، قال في "النهاية":"الأجاويد": جمع أجواد، وهو جمع جواد، وهو الفرس السابق الجيّد

(1)

. (وَالرِّكَابِ) بالراء، وتخفيف الكاف: أي الإبل، واحدتها راحلة من غير لفظها، فهو عطفٌ على الخيل، والخيل جمع الفرس من غير لفظه.

والمعنى: أنهم في مرورهم على الصراط متفاوتون على حسب أعمالهم، فمن بلغ من العمل، والإخلاص الدرجة القصوى، كان مروره كطرف العين، والذي يليه كالبرق، وهكذا، والله تعالى أعلم.

(فَنَاجٍ) الفاء للتفريع، أو للتفصيل، وقد قسم المارّة على الصراط بطريق الإجمال على ثلاث فِرَق، بحسب مراتبهم في العقيدة والعمل والمعرفة، والمعنى: فمنهم ناجٍ (مُسَلَّمٌ) بفتح اللام المشدّدة: أي ينجو من العذاب، ولا يثاله مكروه من ذلك (وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ) أي ومنهم مجروح مخلَّص، يعني: أنه يُخدَش بالْكَلُّوب، ثم يُرسل: أي يُطلق من ذلك الكلّوب، ويتجاوزه، وقيل: معنى "مخدوش": أي الذي يُخدّش بالكلّوب، فيُرسل إلى النار من عصاة أهل الإيمان، و"مرسل": أي مطلق من القيد والْغُلّ بعد أن عُذّب مدّة. انتهى، والمعنى الأول أقرب وأوضح، والله تعالى أعلم.

(وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) أي: ومنهم مدفوع في نار جهنّم، قال في "النهاية": وتكدّس الإنسانُ: إذا دُفع من ورائه، فسَقَطَ، ويُروى بالشين المعجمة من الْكَدْش، وهو السوق الشديد، والْكَدْش: الطرد، والْجَرْح أيضًا. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنهم ثلاثة أقسام: قسمٌ يَسْلَم، فلا يناله شيء أصلًا، وقسم يُخْدَش، ثم يُرْسَل، فيَخْلُص، وقسمٌ يُكَرْدس، ويُلْقَى، فيسقط في جهنم.

وأما مَكْدُوسٌ: فهو بالسين المهملة، هكذا هو في الأصول، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن أكثر الرواة، قال: ورواه الْعُذريّ بالشين المعجمة، ومعناه بالمعجمة: السَّوْق، وبالمهملة: كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه:

(1)

"النهاية" 1/ 312.

(2)

"النهاية" 4/ 155.

ص: 185

تَكَدَّست الدواب في سيرها: إذا رَكِبَ بعضُها بعضًا

(1)

.

(حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ) بفتح الخاء المعجمة، واللام: أي نجوا، يقال: خَلَصَ الشيءُ من التَّلَفِ خُلُوصًا من باب قَعَدَ، وخَلاصًا، ومَخْلَصًا: سَلِمَ ونَجَا، وخَلَصَ الماءُ من الْكَدَر: صَفَا، وخَلّصته بالتثقيل: مَيّزته من غيره

(2)

.

قال القاريّ رحمه الله: "حتى" غاية لمرور البعض على الصراط، وسقوط البعض في النار، وقال الطيبيّ رحمه الله:"حتى" غاية قوله: "مكدوس في نار جهنّم"، أي: يبقى المكدوس في النار حتى يخلُص بعد العذاب بمقدار ذنبه، أو بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بفضل الله تعالى، ووُضع "المؤمنون" في موضع الراجع إلى المكدوس؛ إشعارًا بالعليّة، وأن صفة الإيمان منافية للخلود في النار. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) جواب "إذا"(مَا مِنْكُمْ) خطاب للمؤمنين (مِنْ أَحَدٍ)"من" زائدة، "وأحد" اسم "ما" الحجازيّة، أو هو مبتدأ على أنها تميميّة (بِأَشَدَّ) خبر "ما"(مُنَاشَدَةً) منصوب على التمييز (للهِ) متعلّق بـ "مناشدة"(فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ) متعلّق بـ "مناشدةً" أيضًا، ومعنى الاستقصاء: المبالغة في المطالبة، قال المجد رحمه الله: واستقصى في المسألة، وتَقَصى: بلغ الغاية. انتهى

(4)

. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلّق بـ "أشدّ"، أي بأشدّ مناشدةً منكم، فوُضع المظهر موضع المضمر (للهِ) متعلّق بـ "مناشدة" (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "أشدّ" (لإخْوَانِهِمِ) أي لأجل إخراج إخوانهم (الَّذِينَ فِي النَّارِ) قال النوويّ رحمه الله: اعلم: أن هذه اللفظة - يعني "استقصاء الحقّ" - ضُبِطَت على أوجه:

[أحدها]: "استيضاء" بتاء مثناة من فوقُ ثم ياء مثناة من تحتُ، ثم ضاد معجمة.

[والثاني]: "استضاء" بحذف المثنّاة من تحتُ.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 29 - 30.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 177.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3530.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1192.

ص: 186

[والثالث]: "استيفاء" بإثبات المثنّاة من تحتُ، وبالفاء بدل الضاد.

[والرابع]: "استقصاء" بمثناة من فوقُ، ثم قاف، ثم صاد مهملة. فالأول موجود في كثير من الأصول ببلادنا، والثاني: هو الموجود في أكثرها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" للحميديّ، والثالث: في بعضها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحقّ الحافظ، والرابع: في بعضها، ولم يذكر القاضي عياض غيره، وادَّعَى اتفاق النُّسَخِ عليه، وادَّعَى أنه تصحيف، وَوَهَمٌ، وفيه تغيير، وأن صوابه ما وقع في كتاب البخاري من رواية ابن بُكير:"بأشدّ مناشدَةً في استقصاء الحقّ - يعني: في الدنيا - من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم"، وبه يتم الكلام، ويتوجه، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله.

قال النوويّ: وليس الأمر على ما قاله، بل جميع الروايات التي ذَكَرناها صحيحة، لكل منها مَعنًى حَسَنٌ، وقد جاء في رواية يحيى بن بكير، عن الليث:"فما أنتم بأشدّ مناشدة في الحقّ، قد تبيّن لكم من المؤمنين يومئذ للجبّار تعالى وتقدس، إذا رأوا أنهم قد نَجَوْا في إخوانهم"، وهذه الرواية التي ذكرها الليث، توضح المعنى، فمعنى الرواية الأولى والثانية: إنكم إذا عَرَضَ لكم في الدنيا أمرٌ مُهِمٌّ، والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه، وناشدتموه في استيضائه، وبالغتم فيها، لا تكون مناشدة أحدكم مناشدةً بأشدّ من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم، وأما الرواية الثالثة والرابعة: فمعناهما أيضًا: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقّه، أو استقصائه، وتحصيله من خَصمه والْمُعْتَدِي عليه بأشدّ من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو توجيهٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(يَقُولُونَ) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأن سائلًا قال: فماذا يقولون في هذه المناشدة؛ فأجاب بأنهم يقولون (رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ) ولفظ البخاريّ: "إخواننا الذين كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا"(فَيُقَالُ لَهُمْ) لفظ البخاريّ: "فيقول الله تعالى: اذهبوا

"

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 30 - 31.

ص: 187

(أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ) أي بالصفة الآتية (فَتُحَرَّمُ) بالبناء للمفعول، أي تُمنَع (صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ) أي بأن تأكلها، أو تسوّدها (فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْه، وَإِلَى رُكبَتَيْه، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ) أي بإخراجه (فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ) أي مقداره (مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْر، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا) قال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معنى الخير هنا اليقين، قال: والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان؛ لأن الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزؤ لشيء زائد عليه، من عمل صالح، أو ذِكْرٍ خَفِيٍّ، أو عمل من أعمال القلب، من شفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، ونيّة صادقة، ويدل عليه قوله في الرواية الأُخرى في الكتاب:"يَخْرُج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ كذا"، ومثله الرواية الأخرى:"يقول الله تعالى: شَفَعَت الملائكة، وشَفَع النبيون، وشَفَع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيَقْبض قبضة من النار، فيُخْرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط"، وفي الحديث الآخر:"لأخْرِجنّ من قال: لا إله إلا الله"، قال القاضي رحمه الله: فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم يُؤذَن في الشفاعة فيهم، وإنما دَلَّت الآثار على أنه أُذِن من عنده شيء زائد على مجرد الإيمان، وجُعِل للشافعين من الملائكة والنبيين - صلوات الله وسلامه عليهم - دليلًا عليه، وتفرّد الله عز وجل بعلم ما تُكِنّه القلوب، والرحمة من ليس عنده إلا مجرد الإيمان، وضَرَبَ بمثقال الذرة المثل لأقل الخير، فإنها أقل المقادير، قال القاضي: وقوله تعالى: من كان في قلبه ذَرّةٌ، وكذا، دليل على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حَضَر له القلب، وصحبته نية، وفيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو مذهب أهل السنة، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 825 - 829.

ص: 188

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقل النوويّ كلام عياض، ولم يتعقّبه في قوله: "لأن الإيمان هو التصديق، لا يتجزّأ

إلخ"، وهذا جار على اعتبار أن الأعمال من ثمرات الإيمان، ومكمّلاته، كما هو واضحّ من هذا الكلام، والحقّ أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، يزيد وينقص، فالعمل داخلٌ في مسمّى الإيمان، وجزء منه، وقد سبق في أوائل هذا الشرح في مباحث الإيمان أن الحقّ كون العمل داخلًا في مسمّى الإيمان لغة، كما حقّقه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، بل هو على ظاهره، فالإيمان درجات من حيث الاعتقادُ، ومن حيث العملُ، قابل للتجزئة، فليس يقين الأنبياء كيقين سائر الناس، ولا يقين الصحابة كيقين من بعدهم، ولا يقين أبي بكر كيقين بقية الصحابة رضي الله عنهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا) هكذا هو "خيرًا" بإسكان الياء: أي صاحب خير.

(وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيث، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40] أي لأن الآية لا يشكّ فيها المؤمن، وهي نصّ على أن من عنده شيء قليل من الحسنات، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُضيعها، بل يثيبه عليها.

(فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ) قال النوويّ رحمه الله: بفتح الفاء، وإنما ذكرته وإن كان ظاهرًا؛ لأني رأيت مُنْ يُصَحِّفه، ولا خلاف فيه، يقال: شَفَعَ يَشْفَع شفاعة، فهو شافع، وشفيع، والْمُشَفِّع بكسر الفاء الذي يَقْبَل الشفاعة، والْمُشَفَّع بفتحها الذي تُقْبَل شفاعته. انتهى.

(وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ) أي ممن يرحم (إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي الذي وسِعَت رحمته كلَّ شيءٍ، والذي رحمة كلّ أحد في جنب رحمته كلا شيء (فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ) معناه: يجمع جماعة (فَيُخْرِجُ) الله تعالى (مِنْهَا) أي من النار (قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) أي ليس له خير زائد على مجرّد الإيمان (قَدْ عَادُوا) أي صاروا، والجملة صفة بعد صفة لـ "قوم"، أو حال

ص: 189

منه (حُمَمًا) قال النوويّ رحمه الله: معنى "عادوا": صاروا، وليس بلازم في "عاد" أن يصير إلى حالة كان عليها قبل ذلك، بل معناه صار.

و"الْحُمَمُ" بضم الحاء، وفتح الميم الأولى المخففة، وهو الْفَحْم، الواحدة حُمَمَة.

(فَيُلْقِيهِمْ) أي يطرحهم الله تعالى (فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ) أي أوائلها (يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ) قال النوويّ رحمه الله: أما "النهر" ففيه لغتان معروفتان: فتح الهاء وإسكانها، والفتح أجود، وبه جاء القرآن العزيز، و"الأفواه" فجمع فُوَّهَة، بضم الفاء، وتشديد الواو المفتوحة، وهو جَمْغ سُمِعَ من العرب على غير قياس، وأَفْوَاهُ الأَزِقَّة والأنهار: أوائلها، قال صاحب "المطالع": كأن المراد في الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: ويُمكن أن يكون الأفواه كناية عن أبواب الجنّة، وهو الملائم لدخولهم إياها على أحسن الهيئة. انتهى

(2)

.

(فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ) ببناء الفعلين للفاعل، و"الْحِبّة" بكسر الحاء المهملة: اسم جامع لبذور الصحراء مما ليس بقوت (فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) بفتح الحاء المهملة، وكسر الميم: ما يحمله السيل من غُثاء وطين، ونحو ذلك، وشبّههم بها؛ لسرعة نباتها، وحسنها، وطراوتها (أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَر، أَوْ إِلَى الشَّجَر، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ) بتصغيرهما، وفي نسخة بتكبيرهما (وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ) مكبّرًا، وفي نسخة:"أُبَيِّض" بتشديد الياء المكسورة مصغّرًا، وقال النوويّ رحمه الله:"يكون" في الموضعين الأولين تامّة، ليس لها خبر، معناها ما يقع، و"أُصيفر"، و"اخيضر" مرفوعان، وأما قوله:"يكون أبيض" فـ "يكون" فيه ناقصة، و"أبيض" منصوب على أنه خبرها. انتهى.

(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ؟) أي حيث عرفت كيف تنبت الحبّة، ودقّقت في وصف ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ) قال النوويّ رحمه الله:"اللؤلؤ": معروف، وفيه أربع قراءات في السبع: بهمزتين في

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 32.

(2)

"المرقاة" 9/ 539.

ص: 190

أوله وآخره، وبحذفهما، وبإثبات الهمزة في أوله دون آخره، وعكسه. انتهى.

(فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ) - بفتح التاء وكسرها - ويقال أيضًا: خَيْتَام وخاتام، قال صاحب "التحرير": المراد بالخواتم هنا أشياء من ذهب، أو غير ذلك، تُعَلَّق في أعناقهم؛ علامة يُعْرَفون بها، قال: معناه: تشبيه صفائهم وتلألئهم باللؤلؤ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: "الخاتم" فيه عشر لغات، نظمها الحافظ العراقيّ رحمه الله، فقال [من البسيط]:

خُذْ عَدَّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نِظَامُ

خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتِمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيْتَمٌ وَخَيْتَامُ

وَهَمْزُ مَفْتُوحٍ تَاءٍ تَاسِعٌ وَإِذَا

سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَاتَامُ

(1)

(يَعْرِفُهُمْ أَهْل الْجَنَّة، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ) أي يقولون: هؤلاء عتقاء الله (الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أفضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا").

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قرأت في "تنقيح الزركشيّ": وقع هنا في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بعد شفاعة الأنبياء: "فيقول الله: بقيت شفاعتي، فيُخْرِج من النار مَن لم يعمل خيرًا"، وتمسك به بعضهم في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار، ورُدَّ بوجهين:

[أحدهما]: أن هذه الزيادة ضعيفةٌ؛ لأنها غير متّصلة، كما قال عبد الحق في "الجمع".

[والثاني]: أن المراد بالخير المنفيّ ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث، هكذا قال، والوجه الأول غلط منه، فإن الرواية متصلةٌ هنا، وأما نسبة ذلك لعبد الحقّ فغلطٌ على غلط؛ لأنه لم يقله إلا في

(1)

"تاج العروس" 8/ 266.

ص: 191

طريق أخرى، وقع فيها:"أَخْرِجُوا من كان في قلبه مثقال حبة خَرْدل من خير"، قال: هذه الرواية غير مُتَّصِلة، ولما ساق حديث أبي سعيد الذي في هذا الباب ساقه بلفظ البخاريّ، ولم يتعقبه بأنه غير مُتَّصِل، ولو قال ذلك لتعقبناه عليه، فإنه لا انقطاع في السند أصلًا، ثم إن لفظ حديث أبي سعيد هنا، ليس كما ساقه الزركشيّ، وإنما فيه:"فيقول الجبّار بقيت شفاعتي، فيخرج أقوامًا، قَدِ امْتَحَشُوا"، ثم قال في آخره:"فيقول أهل الجنة: هؤلاء عُتَقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قَذَموه"، فيجوز أن يكون الزركشيّ ذكره بالمعنى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الْخُدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[87/ 461 و 462 و 463](183)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4581 و 4919)، و" التوحيد"(7439)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2598)، و (أحمد) في "مسنده"(10743 و 10816 و 11488)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(430 و 431 و 432 و 433)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(458 و 459 و 460 و 461 و 462)، و (ابن منده) في "الإيمان"(816 و 817 و 818 و 819).

وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب:

[462]

(

) - (قَالَ مسْلِم) رحمه الله (قَرَأْتُ عَلَى عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ الْمِصْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّفَاعَة، وَقُلْتُ لَهُ: أُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْكَ، أَنَّكَ سَمِعْتَ مِنَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لِعِيسَى بْنِ حَمَّادٍ: أَخْبَرَكُمُ

ص: 192

اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَنَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤيةِ الشَّمْس، إِذَا كَانَ يَوْمٌ صَحْوٌ؟ " قُلْنَا: لَا، وَسُقْتُ الْحَدِيثَ حَتَّى انْقَضَى آخِرُهُ، وَهُوَ نَحْوُ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:"بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ، فَئقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَة، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْف، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَمَا بَعْدَهُ، فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ زُغْبَةُ الْمِصْرِيُّ) هو: عيسى بن حماد بن مسلم بن عبد الله التُّجِيبيّ، أبو موسى، لقبه زُغْبَة - بضم الزاي، وسكون الغين المعجمة، بعدها موحّدة - وهو لقب له، ولأبيه أيضًا، ثقة [10].

رَوَى عن الليث بن سعد، وهو آخر من حَدّث عنه من الثقات، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورِشْدين بن سعد، وابن وهب، وابن القاسم، وجماعة

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازي، وأبو زرعة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقة رَضِيّ، وقال أبو داود: لا بأس به. وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال الدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن يونس: جاوز في سنه التسعين، تُوفي في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وقال ابن حبان: مات سنة (9). وقال أبو عَمْرو الْكِنْديّ في "الموالي": زُغْبَة لقب أبيه حماد، وزعم الشيرازي أنه لقب عيسى، والصواب الأول، ويؤيده أن الطبراني لَمّا رَوَى عن أخيه أحمد، قال: ثنا أحمد بن حماد زُغْبة، وقال ابن قانع: عيسى زُغبة.

ص: 193

وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط

(1)

، هذا الحديث (183)، و (480): "نهاني حبّي أن أقرأ راكعًا

"، و (517): "يصلي في ثوب واحد ملتحفًا

"، و (700): "يوتر على راحلته"، و (1497): "اللهم بَيّن، فوضعت شبيهًا بالرجل

"، و (1703): "إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها

"، و (2709): "لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله

".

2 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 412.

3 -

(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمَحيّ، ويقال: السَّكْسَكِيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، مولى ابن الصَّبِيغ، ثقةٌ فقيهٌ [6].

رَوَى عن سعيد بن أبي هلال، وعطاء بن أبي رباح، والزهريّ، وأبي الزبير، والْمُثَنَّى بن الصبّاح، وغيرهم.

ورَوَى عنه سعيد بن أبي أيوب، ونافع بن يزيد، ويحيى بن أيوب، والليث، وحَيْوَة بن شُرَيح، وبكر بن مُضَر، وابن لَهِيعة، والمفضل بن فَضَالة، وهو آخر مَن حَدَّث عنه بمصر، وجماعة.

قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن يونس: كان فقيهًا مُفتيًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: مصريّ ثقةٌ، وقال البخاريّ: قال زيد بن الْحُبَاب: هو السَّكْسَكيّ.

قال ابن يونس: تُوُفّي سنة (139) فيما ذكر حرملة.

وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا (183)، وحديث (1409): "لا ينكح المحرم

"، و (1599): "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن

"، و (1946): "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي

"، و (1977): "ومن كان له ذبح، فليذبحه

"، و (2490): "اهجوا قريشًا، فإنه

"، و (2792): "تكون الأرض يوم القيامة خبزة

".

(1)

وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم تسعة أحاديث. انتهى، ولعله تصحّف على الناسخ سبعة إلى تسعة، فليُحرّر.

ص: 194

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: هو مدنيّ الأصل، صدوقٌ [6].

رَوَى عن جابر، وأنس مرسلًا، وزيد بن أسلم، وأبي الرجال، محمد بن عبد الرحمن، وربيعة، وأبي الزناد، وأبي حازم بن دينار، وعُمارة بن غَزِيَّة، وعمرو بن مسلم، وعون بن عبد الله، وقتادة، وغيرهم.

ورَوَى عنه سعيد المقبريّ، وهو أكبر منه، وخالد بن يزيد المصريّ، وعمرو بن الحارث، وهشام بن سعد، والليث، ويحيى بن أيوب، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم.

قال أبو حاتم: لا بأس به، وحديثه عن جابر أورده البخاريّ مُعَلَّقًا متابعةً، ووصله الترمذيّ، وقال: هذا مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يُدرك جابرًا، وقال خَلَفٌ في "الأطراف": لم يسمع من جابر، وقال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله -، وقال الساجيّ: صدوقٌ، كان أحمد يقول: ما أدري أيّ شيء يَخْلِط في الأحاديث، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، ووثقه ابن خزيمة، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، والخطيب، وابن عبد البرّ، وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم يسمع سعيد من أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقال ابن حزم: ليس بالقويّ، ولعله اعتمد على قول الإمام أحمد فيه، قال الحافظ: وقرأت بخط السبكيّ الكبير: أفادنا مسعود الحارثيّ أنّ اسم أبي هلال والد سعيد هذا مرزوق، وكان مسعود يقول: هو من خَبَايا الزَّوَايَا.

وقال ابن يونس: وُلد بمصر سنة (17)، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، قال: ويقال: تُوُفّي سنة خمس وثلاثين ومائة، وقال غيره: مات سنة (133)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (149).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (قَالَ مسْلِم) هو ابن الحجّاج، صاحب الكتاب.

وقوله: (وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ") فاعل "زاد" ضمير اللّيث بن سعد: أي زاد الليث على رواية حفص قوله: "فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ

ص: 195

مَا رَأَيْتُمْ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَة، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ".

وقال النوويّ في "شرحه": قوله: "وزاد بعد قوله: بغير عمل عملوه، ولا قَدَم قَدَّموه" هذا مما قد يُسْأَل عنه، فيقال: لم يتقدم في الرواية الأولى ذكره القَدَمَ، وإنما تقدّم "ولا خير قدّموه"، وإذا كان كذلك، لم يكن لمسلم أن يقول: زاد بعد قوله: "ولا قَدَم"؛ إذ لم يَجْر للقَدَم ذكر.

وجوابه أنّ هذه الرواية التي فيها الزيادة وقع فيها: "ولا قَدَمٍ" بدل قوله في الأولى: "خير"، ووقع فيها الزيادة، فأراد مسلم رحمه الله بيان الزيادة، ولم يمكنه أن يقول: زاد بعد قوله: "ولا خير قدّموه "؛ إذ لم يَجْر له ذِكْرٌ في هذه الرواية، فقال: زاد بعد قوله: "ولا قَدَم قذَموه": أي زاد بعد قوله في روايته: "ولا قَدَمٍ قَدَّموه"، واعلم أيها المخاطب أن هذا لفظه في روايته، وأن زيادته بعد هذا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ.

و"الْقَدَم" هنا بفتح القاف والدال، ومعناه: الخير، كما في الرواية الأخرى، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قال أبو سعيد: بلغني

إلخ)، هكذا في رواية المصنّف، وليست هذه الزيادة في رواية البخاريّ الآتية، وهي عند ابن منده في "كتاب الإيمان" أخرجه من الوجه الذي أخرجه منه البخاريّ، ولكن قال: "قال سعيد بن أبي هلال

(2)

: بلغني أن الجسر

إلخ"، فجعل الكلام لسعيد بن أبي هلال، لا لأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "بلغني

إلخ " يحتمل أن يكون مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لم يذكر الواسطة إليه، ويحتمل أن يكون مما نُقل من أخبار أهل الكتاب، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 34.

(2)

وقع في النسخة: "سعيد بن أبي بلال" بالباء بدل الهاء، وهو تصحيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 196

(وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ: فَيَقُولُونَ

إلغ) يعني أن قوله: "ربنا أعطيتنا

إلخ " في رواية حفص، وليس في رواية الليث.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وما بعده" مطوف على: "فيقولون: ربنا"، أي ليس فيه:"فيقولون: ربنا، ولا ما بعده". انتهى.

وقوله: (فأقر به عيسى) معناه: أقرَّ بقوله له أَوَّلًا: أخبركم الليث بن سعد إلى آخره.

[تنبيه]: رواية الليث التي أحالها المصنّف هنا على رواية حفص بن ميسرة أخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(7439)

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال:"هل تضارون في رؤية الشمس والقمر، إذا كانت صحوًا؟ " قلنا: لا، قال:"فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما" - ثم قال -: "ينادي منادٍ ليذهب كلُّ قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بَرّ أو فاجر، وغُبَّراتٍ من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تُعْرَض كأنها سرابٌ، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولدٌ، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى مَن كان يعبد الله من بَرّ أو فاجر، فيقال لهم: ما يَحْبِسُكم، وقد ذهب النّاس؟ فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منّا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديًا ينادي: لِيَلْحَقْ كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أوّلَ مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء،

ص: 197

فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كلُّ مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثم يُؤتى بالجسر، فيُجْعَل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مَدْحَضَةٌ مَزَلَّةٌ، عليه خَطاطيف، وكَلاليب، وحَسَكَةٌ، مُفَلْطَحَةٌ، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السَّعْدان، المؤمنُ عليها كالطَّرْف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فنَاجٍ مُسَلَّمٌ، ونَاج مَخْدُوشٌ، ومَكْدُوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يُسْحَبُ سَحْبًا، فما أنتم بأشدّ لي مناشدةً في الحقّ قد تبيّن لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نَجَوْا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويُحَرّم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون مَن عَرَفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عَرَفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون مَن عَرَفوا.

قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقوامًا قد امْتَحَشُوا، فيُلْقَون في نهر بأفواه الجنة، يقال له ماء الحياة، فَيَنْبُتون في حافتيه، كما تنبت الْحِبَّة في حَمِيل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيُجعَل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدّموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 198

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[463]

(

) - وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، بِإِسْنَادِهِمَا نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِه، وَقَدْ زَادَ، وَنَقَصَ شَيْئًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9](ت 6 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

3 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) المدنيّ، أبو عبّاد، ويقال: أبو سَعْد القرشيّ مولاهم، صدوقٌ، له أوهامٌ، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7].

رَوَى عن زيد بن أسلم، ونافع مولى ابن عمر، وعمرو بن شعيب، وأبي الزبير، وسعيد المقبريّ، وأبي حازم بن دينار، ونعيم المجمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه الليث، والثوريّ، ووكيع، وابن أبي فُديك، وابن وهب، وابن مهديّ، وأبو عامر العَقَديّ، ومعاوية بن هشام، وجعفر بن عون، وأبو نعيم، والقعنبيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم، عن أحمد: لم يكن هشام بالحافظ، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: هشام بن سعد كذا وكذا، كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وقال أبو طالب، عن أحمد: ليس هو مُحْكَم الحديث، وقال حرب: لم يَرْضَه أحمد، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ضعيف، وداود بن قيس أحبّ إليّ منه، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالحٌ، وليس بمتروك الحديث، وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: ليس بذاك القويّ، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ليس بشيء، كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وقال العجليّ: جائز الحديث، حسن الحديث، وقال أبو زرعة: محله الصدق، وهو أحب إليّ من ابن إسحاق، وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه، ولا يحتجّ به، هو ومحمد بن

ص: 199

إسحاق عندي واحد، وقال الآجريّ، عن أبي داود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال مرّة: ليس بالقويّ، ورَوَى ابن عديّ أحاديث، منها حديثه عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أفطر في رمضان، فقال له: "أعتق رقبة

" الحديث، وقال مرة: عن الزهري، عن أنس، قال: والروايتان جميعًا خطأ، وإنما رواه الثقات عن الزهريّ، عن حميد، عن أبي هريرة، وهشام خالف فيه الناس، وله غير ما ذكرتُ، ومع ضعفه يُكْتَب حديثه، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يُسْتضعَف، وكان مُتَشَيِّعًا، وقال ابن أبي شيبة، عن عليّ بن المدينيّ: صالح، وليس بالقويّ، وقال الساجيّ: صدوق، وذكره ابن الْبَرْقِيّ في "باب من نُسِبَ إلى الضعف، ممن يُكْتَب حديثه"، قال: وقال لي ابن معين: ضعيف، حديثه مختلطٌ، وقال الخليليّ: أنكر الحفاظ حديثه في الْمُوَاقِع في رمضان، من حديث الزهريّ، عن أبي سلمة، قالوا: وإنما رواه الزهريّ عن حميد، قال: ورواه وكيع عن هشام بن سعد، عن الزهريّ، عن أبي هريرة منقطعًا، قال أبو زرعة الرازيّ: أراد وكيع الستر على هشام بإسقاط أبي سلمة، وذكره يعقوب بن سفيان في "الضعفاء"، وقال الحاكم: أخرج له مسلم في الشواهد. انتهى.

قيل: مات في أول خلافة المهديّ، وقيل: مات سنة ستين ومائة

(1)

.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

4 -

(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ المذكور في السند الماضي.

وقوله: (بِإِسْنَادِهِمَا) يعني بإسناد حفص بن ميسرة، وإسناد سعيد بن أبي هلال الراويين في الطريقين المتقدمين عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، ومراد المصنّف رحمه الله بهذا أن زيد بن أسلم رواه عن عطاء، عن أبي سعيد الخدريّ، ورواه عن زيد بهذا الإسناد ثلاثة من

(1)

قال الحافظ رحمه الله: المهديّ وَليَ في أواخر سنة تسع وخمسين، فالقولان بمعنى واحد، في سنة تسع، ذكره ابن قانع. انتهى. "تهذيب التهذيب" 4/ 271.

ص: 200

أصحابه: حفص بن ميسرة، وسعيد بن أبي هلال، وهشام بن سعد، فأما روايتا حفص وسعيد فتقدمتا مبيّنتين في الكتاب، وأما رواية هشام فهي من حيث الإسناد بإسنادهما، ومن حيث المتن نحو حديث حفص، والله عز وجل أعلم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية هشام بن سعد التي أحالها المصنّف هنا، أخرجها أبو نعيم في "المستخرج"(1/ 248)، فقال:

(458)

حدثنا أبو بكر عبد الله بن يحيى بن معاوية الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا جعفر بن عون، ثنا هشام بن سعد، ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نَرَى ربنا يوم القيامة؟ قال:"هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا، ليس فيها سحاب؟ "، قال: قلنا: لا يا رسول الله، قال:"هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا، ليس فيها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "ما تضارون في رؤيته يوم القيامة، إلا كما لا تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يومُ القيامة نادى مناد: ألا يَلْحَقُ كلُّ أمة بما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد صنمًا، ولا وثنًا، ولا صورةً إلا ذهبوا، حتى يتساقطوا في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده، من بَرّ وفاجر، وغُبَّرات أهل الكتاب، ثم تُعْرَض جهنم، كأنها سراب يَحْطِم بعضُها بعضًا، ثم يُدْعَى اليهود، فيقول: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: عزيرًا ابن الله، فيقول: كذبتم، ما اتخذ الله صاحبةً ولا ولدًا، فماذا تريدون؟ قال: فيقولون: أي ربنا ظَمِئنا، فيقول: ألا تَرِدون؟ فيذهبون حتى يتساقطوا في النار، قال: ثم يُدْعَى النصارى، فيقول: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: المسيح ابن الله، فيقول: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تريدون؟ فيقولون: ربنا ظَمِئنا، فاسْقنا، فيقول: أفلا تَرِدون؟ فيذهبون حتى يتساقطوا في النار، فيبقى مَن كان يعبد الله من بَرّ وفاجر، ثم يَتَبَدَّى الله في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة، فيقول: يا أيها الناس، لَحِقَت كلُّ أمة بما كانت تعبد، وبقيتم، فلا يُكَلِّمه يومئذ

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 34 - 35.

ص: 201

إلا الأنبياء، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا، وكنا إلى صحبتهم أحوج، لَحِقَت كلُّ أمة بما كانت تعبد، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نَعْبُد، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول: هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيَكْشِف عن ساق، فنخرّ سُجَّدًا أجمعون، ولا يبقى أحدٌ كان يسجد في الدنيا سمعةً ولا رياءً، ولا نفاقًا إلا على

(1)

ظهره طبقًا واحدًا، كلما أراد أن يسجد خَرّ على قفاه، ثم يَرْفَعُ بَرَّنَا ومُسِيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم، أنت ربنا، ثلاث مرات، ثم يُضْرَب الجسر على جهنم، قال: قلنا: وما الجسر؟ يا رسول الله، بأَبِينا أنت وأُمِّنا، قال: دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، له كَلاليب وخَطاطيف، وحَسَد، يكون بنجد عُقَيفَاء

(2)

، يقال له: السَّعْدان، فيَمُرُّ المؤمنون كلمح البرق، وكالطَّرْف، وكالريح، وكالطير، وكأجود الخيل والراكب، فناجٍ مرسل، ومخدوشٌ مرسلٌ، ومكدوس في نار جهنم، والذي نفسي بيده، ما أحدكم بأشدّ مناشدةً في الحق يراه مسألة المؤمنين

(3)

في إخوانهم، إذا رأوا أن قد خَلَصوا من النار، يقولون: أي ربنا إخواننا إخواننا كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، ويُجاهدون معنا، قد أخذتهم النار، فيقول: اذهبوا، فمن عَرَفتم صورته، فأخرجوه، وتُحَرَّم صورهم على النار، فيجدون الرجلَ قد أخذته النار إلى قدميه، وإلى أنصاف ساقيه، وإلى ركبتيه، وإلى حِقْويه، فيُخرجون منها بشرًا كثيرًا، ثم يعودون، فيتكلمون، فيقول: اذهبوا فما وجدتم في قلبه مثقال قِيراط خير، فأخرجوه، فيخرجون منها بشرًا كثيرًا، ثم يعودون، يتكلمون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه نصف قيراط خير، فأخرجوه، فيخرجون منها بشرًا كثيرًا، ثم يعودون، فيتكلمون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال

(1)

هكذا النسخة، والذي في "الإيمان" لابن منده:"إلا عاد ظهره طبقًا واحدًا"، والظاهر أن "على" هنا مصحّفة من "عاد"، والله أعلم.

(2)

وقع في النسخة: "عقيقًا" بقافين، والظاهر أنه غلطٌ فليُتنبّه.

(3)

هكذا النسخة، والذي في "الإيمان" لابن منده:"في الحقّ يراه مضيئًا له من المؤمنين في إخوانهم"، والظاهر أن ما هنا فيه تصحيف، والله تعالى أعلم.

ص: 202

ذرة، فأخرجوه، قال: وكان أبو سعيد إذا حَدّث بهذا الحديث قال: إن لم تُصَدّقوني، فاقرؤوا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]، فيقولون: ربنا لم نَذَر فيها خيرًا، فيقول: هل بقي إلا أرحم الراحمين؟ فيقول: قد شفعت الملائكة، والأنبياء، وشفع المؤمنون، فهل بقي إلا أرحم الراحمين؟ قال: فيأخذ قبضة من النار، فيَخْرُجُ قومًا

(1)

قد عادوا حُمَمَةً، لم يعملوا خيرًا قط، فيُطرحون في نهر الجنة، يقال له: نهر الحياة، فينبتون فيه - والذي نفسي بيده - كما تنبت الحبة في حَمِيل السيل، ألم تروها وما يليها من الظل أُصَيفر، وما يليها من الشمس أُخيضر؟ قال: قلنا: يا رسول الله كأنك كنت في الماشية، قال: فينبتون كذلك، قال: فيخرجون أمثال اللؤلؤ، فيُجْعَل في رقابهم الخواتيمُ، ثم يرسلون في الجنة، فهؤلاء الجهنميون، هؤلاء الذين أخرجهم الله من النار بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقول الله عز وجل: من وجدتم؟

(2)

، فيأخذون حتى ينتهون

(3)

، ثم يقولون: لو يعطينا الله ما أخذنا، فيقول الله عز وجل: فأنا أعطيكم أفضل ما أخذتموه، فيقولون: يا ربنا، وما أفضل ما أخذنا؟ فيقول: رضواني، فلا أسخط"

(4)

.

وقوله: (وَقَدْ زَادَ، وَنَقَصَ شَيْئًا) يعني أن هشام بن سعد زاد في روايته على رواية حفص وسعيد بن أبي هلال بعض الزيادات، ونقص منها بعضًا.

فمما زاده قوله: "ثم تُعرَض جهنم كأنها سَرابٌ يَحطِم بعضُها بعضًا" بعد قوله: "وغُبّرات أهل الكتاب".

وقوله: "فنَخِرّ سُجّدًا أجمعون" بعد قوله: "فيكشف عن ساق".

(1)

كان في النسخة: "فيخرجوا قوم"، وهو تصحيف بلا شكّ، والإصلاح من "الإيمان" لابن منده 2/ 800:"فيُخرِجُ قومًا"، وهو وليّ التوفيق.

(2)

هكذا النسخة، والصواب ما في "الإيمان" لابن منده (2/ 800)، "فيقول الله لهم: خذوا، فلكم ما أخذتم"، فتأمل.

(3)

ولفظ ابن منده: "حتى ينتهوا"، وهو واضح.

(4)

"المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم 1/ 248 - 249 رقم (458).

ص: 203

وقوله: "ثلاث مرات" بعد قوله: "فيقولون: نعم، أنت ربنا".

وقوله: "بأبينا أنت وأمنا" بعد قوله: "وما الجسر يا رسول الله؟ ".

وقوله: "ويُجاهدون معنا" بعد قوله: "ويحجون معنا".

وقوله: "وإلى حِقْويه" بعد قوله: "وإلى ركبتيه".

وقوله: "إذا حَدّث بهذا الحديث" بعد قوله: "وكان أبو سعيد".

وقوله: "والذي نفسي بيده" بعد قوله: "فينبتون".

وقوله: "فيأخذون حتى ينتهون" بعد قوله: "خذوا فلكم ما أخذتم"

(1)

.

ومما نقصه: قوله: "لا نشرك بالله شيئًا، مرتين أو ثلاثًا، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب" بعد قوله: "نعوذ بالله منك".

وقوله: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار" بعد قوله: "ومكدوس في نار جهنم".

ومما غيّره قوله: "مثقال قِيراط خير" بدل قوله: "مثقال دينار من خير"، هذا ملخّص التفاوت بين روايتي حفص بن ميسرة، وهشام بن سعد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(88) - (بَابُ إِثْبَاتِ الشَّفَاعَة، وَإِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[464]

(184) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيَلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أخْبَرَنِي

(2)

مَالِكُ بْنُ أَنَس، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِه، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ

(1)

ولفظ مسلم: "فما رأيتموه فهو لكم"، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 204

وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَمًا، قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاة، أَوِ الْحَيَا، فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْل، أَلمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ؟ صَفْرَاءَ مُلْتَوَيةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السَّعْديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقة فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

4 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، واسم أبي حسن: تميم بن عمرو، فيما قيل، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعبّاد بن تميم، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وعباس بن سهل بن سعد، ودينار القَرّاط، وأبي الحباب سعيد بن يسار، ويوسف بن محمد بن ثابت بن قيس بن شَمّاس، وأبي زيد مولى بني ثعلبة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم.

ورَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهما من أقرانه، وأيوب، ومالك، وابن جريج، ووهيب بن خالد، وإبراهيم بن طَهْمان، ورَوْح بن القاسم، وزائدة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعبد العزيز الماجشون، والدراورديّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ صالحٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال العجليّ، وابن نمير: ثقةٌ، نقله ابن خَلْفُون. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة إلا أنه اختُلِف عنه في حديثين: "الأرض كلها مسجد"، و"كان يسلّم عن يمينه"، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين:

ص: 205

صُويلح، وليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البرّ: مات سنة (140).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

[تنبيه]: ذكر الحافظ المزيّ رحمه الله في "تهذيب الكمال": أن عمرو بن يحيى هذا ابنُ بنت عبد الله بن زيد، فتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: هذا وَهَمٌ تَبعَ فيه صاحب "الكمال"، وسببه ما في رواية مالك، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه:"أن رجلًا سأل عبد الله بن زيد، وهو جدُّ عمرو بن يحيى"، فظَنُّوا أن الضمير يعود على عبد الله، وليس كذلك، بل إنما يعود على الرجل، وهو عمرو بن أبي حَسَن عَمُّ يحيى، وقيل له: جَدّ عمرو بن يحيى تَجَوُّزًا؛ لأن العم صِنْوُ الأب، وأما عمرو بن يحمى: فأمُّهُ فيما ذكر محمد بن سعد في "الطبقات" حُمَيدة بنت محمد بن إياس بن الْبُكَيْر، وقال غيره: أم النعمان بنت أبي حَيّة، فالله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

5 -

(أَبُوهُ) هو: يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدريّ.

وروى عنه ابنه عمرو، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة، وعُمار بن غَزِيّة، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، والزهريّ، وأبو طُوَالة.

قال ابن إسحاق: كان ثقةً، وقال النسائيّ، وابنُ خِرَاش: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 312 - 313.

ص: 206

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ) هكذا روى يحيى بن عُمارة حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا بالاختصار، اختصره من الحديث الماضي، وهو من حديث مالك رحمه الله، وليس في "الموطّا"، قال الدارقطنيّ: هو غريمث صحيحٌ

(1)

. (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ) فيه إشارة إلى أن دخول الجنّة برحمة الله سبحانه وتعالى، لا بالعمل، وإن كان سببًا له، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يُدخل أحدًا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسَدِّدوا، وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يَستعتب".

وأخرجا أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سَدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا، فإنه لا يُدْخِل أحدًاا لجنة عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة".

(وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة: أي مقدار حبّة، و"المثقال: كالمقدار لفظًا ومعنى، مِفْعَال من الثقل، وفي "العباب": مثقال الشيء: ميزانه من مثله، فقوله تعالى:{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]: أي وزن ذرّة، قال:

(1)

"الفتح" 11/ 438 "كتاب الإيمان" رقم (22).

ص: 207

وَكُلٌّ يُوَافِيهِ الْجَزَاءُ بِمِثْقَالِ

أي بوزن

(1)

. (مِنْ خَرْدَلٍ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء: نباتٌ معروفٌ يُشَبّه به الشيء القليل البليغ في القلّة، وقوله:(مِنْ إِيمَانٍ) بيان لمثقال حبّة، وهو إشارة إلى ما لا أقلّ منه، قال الخطابيّ: هو مَثَلٌ ليكون عِيَارًا في المعرفة، لا في الوزن؛ لأن ما يُشكِل في المعقول يُرَدّ إلى المحسوس لِيُفهم، وقال إمام الحرمين: الوزن للصُّحُف المشتملة على الأعمال، ويَقَع وزنها على قدر أجور الأعمال، وقال غيره: يجوز أن تُجَسَّد الأعراض، فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع، لا دخل للعقل فيه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن الوزن ثبت للصحُف، وللأعمال نفسها، وللشخص نفسه، والذي يظهر أن في بعض الأحوال توزن الأعمال، كما هو صريح معظم النصوص، وفي بعضها توزن الصحائف، كما في حديث البطاقة، وفي بعضها يوزن الشخص نفسه، كما في حديث:"يجاء بالرجل العظيم، فلا يزن عند الله جناح بعوضة"، والله تعالى أعلم.

والمراد بحبّة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد؛ لقوله في الرواية الأخرى: "أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعَمِلَ من الخير ما يَزِنُ ذَرّة"

(2)

. (فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرَجُونَ) بالبناء للمفعول (مِنْهَا) أي من النار (حُمَمًا) بضمّ الحاء المهملة، وفتح الميم المخفّفة، وهو الْفَحْم (قَدِ امْتَحَشُوا) بفتح التاء، مبنيًّا للفاعل، على المختار، وقيل: بضمّها، مبنيًّا للمفعول، ومعناه: احتَرَقُوا (فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاة، أَوِ الْحَيَا) بالشك، وقد تبيّن الشاكّ في رواية البخاريّ في "الإيمان" حيث قال:"شكّ مالك"، و"الحيا" مقصور، وهو المطر، سُمّي حيًّا؛ لأنه تحيا به الأرض، ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون، وتَحْدُث فيهم النضارة، كما يحدُث ذلك بالمطر في الأرض.

ووقع في رواية غير كريمة في البخاريّ بلفظ "الحياء" بالمدّ، قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية بالمدّ، ولكريمة وغيرها بالقصر، وبه جزم الخطابيّ، وعليه المعنى؛ لأن المراد: كلُّ ما تَحْصُل به الحياة، والحيا بالقصر

(1)

"عمدة القاري" 1/ 272.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 92.

ص: 208

هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة، من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الْخَجَل. انتهى

(1)

.

(فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ) بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدِّينَوريّ: الْحِبّة جمع بُزُور النبات، واحدتها حَبّة بالفتح، وأما الْحَبّ: فهو الحنطة والشعير، واحدتها حَبّة بالفتح أيضًا، وإنما افترقا في الجمع، وقال أبو المعالي في "المنتهى": الْحِبَّة بالكسر: بُزُور الصحراء، مما ليس بقوت. انتهى.

وقيل: اللام في "الْحِبّة" للعهد، ويراد به حِبّة الحمقاء، وهي الرِّجْلة بالكسر، سميت بالحمقاء؛ لأنها تنبت في جانب السيل، فيُتلفها، ثم تنبت، فيُتلفها، وهكذا

(2)

.

(إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ) بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله:"السيل": معروف، وجمعه سُيُول، وهو مصدر في الأصل، مِن سال الماء يَسِيل سَيْلًا، من باب باع، وسَيَلانًا: إذا طغا، وجرى، ثم غَلَبَ السيل في الْمُجْتَمِعِ من المطر الجاري في الأودية. انتهى

(3)

.

وفي رواية: "حميل السيل"، وهو فعيل بمعنى مفعول: أي محمول السيل، وهو ما جاء به من طين، أو غُثَاء، وفي رواية "حمأة السيل" وهو ما تغيّر لونه من الطين، وكلّه بمعنًى، فإذا اتّفق فيه حبّة على شطّ مجراه، فإنها تنبت سريعًا

(4)

.

(أَلَمْ تَرَوْهَا) خطاب لكلّ من يتأتى منه الخطاب (كَيْفَ تَخْرُجُ؟ صَفْرَاءَ) تأنيث الأصفر، من الصفرة، وهو لون دون الحمرة، والأصفر أيضًا الأسود، فالذكر أصفر، والأنثى صفراء، قاله الفيّوميّ

(5)

. (مُلْتَوَيةً) أي منعطفة منثنيةً، وانتصاب "صفراء"، و"ملتوية" على الحال، وهما إما متداخلان، أو مترادفان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 1/ 92 "كتاب الإيمان" رقم (22).

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 273.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 299.

(4)

"عمدة القاري" 1/ 273.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 342.

ص: 209

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[88/ 464 و 465](184)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(22)، و"التفسير"(4581)، و"الرقاق"(6560)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنم"(2598)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 5 و 11 و 19 و 20 و 25 و 48 و 56 و 78 و 90)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(454 و 455)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(461 و 462)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(182 و 222)، و (ابن منده) في "الإيمان"(821 و 822 و 823 و 836)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4357). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات الشفاعة، وهو مجمع عليه بين أهل السنّة والجماعة، وإنما أنكره المبتدعة، كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): الرّدّ على المرجئة حيث دلّ على دخول طائفة من عصاة المؤمنين النار؛ إذ مذهبهم أنه لا يضرّ مع الإيمان معصية، فلا يدخل العاصي النار، وهو مذهب باطل بدلائل الكتاب والسنّة، وإجماع أهل السنة.

3 -

(ومنها): الرّدّ على المعتزلة حيث دلّ على عدم تخليد أصحاب الكبائر في النار، خلافًا لهم، وهو مذهب باطلٌ أيضًا بدلائل الكتاب والسنّة، وإجماع أهل السنّة.

4 -

(ومنها): بيان تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.

5 -

(ومنها): بيان أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله: "حبة خردل من إيمان"؛ إذ المراد ما زاد على أصل التوحيد، كما سبق بيانه.

6 -

(ومنها): أنه استدلّ به الغزاليّ بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك، وحال بينه وبين النطق به الموت، وقال في حقّ من قدر على ذلك، فأخّر، فمات: يحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة، فيكون غير مخلّد في النار، ويحتمل غير ذلك، ورجّح غيره الثاني، فيحتاج إلى تأويل قوله:"في قلبه"، فيقدّر فيه محذوفٌ، تقديره منضمّ إلى

ص: 210

النطق به مع القدرة عليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اشتراط النطق للقادر عليه مع الاعتقاد هو الحقّ؛ لظواهر النصوص الكثيرة، فلا يكفي مجرّد الاعتقاد، إلا لغير القادر، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في البحث عن الشفاعة:

قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وأمثالهما، وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف، ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومَنَعَت الخوارج، وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48]، وبقوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في "صحيح مسلم" وغيره صريحة في بطلان مذهبهم، وأنها في المذنبين، وفي إخراج مَنِ استوجب النار، لكن الشفاعة بمجموعها على خمسة أقسام

(2)

:

[أولها]: مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي الإراحة من هول الموقف، وتعجيل الحساب، كما سيأتي بيانها عند ذكرها في "صحيح مسلم".

[الثانية]: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه وردت أيضًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها مسلم رحمه الله، وسننبه عليها في موضعها.

[الثالثة]: الشفاعة لقوم استوجبوا النار

(3)

، فيَشْفَع فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن

(1)

"الفتح" 11/ 438 "كتاب الرقاق" رقم (6571 - 6572).

(2)

سيأتي له أنه زاد سادسة، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، وزاد غيره أنواعًا أخرى من الشفاعة، سيأتي قريبًا بيانها - إن شاء الله تعالى -.

(3)

ذكر ابن القيّم رحمه الله أنه لم يظفر بدليل على ما شاع لدى كثير من الناس من ذكرهم =

ص: 211

شاء الله تعالى، وسننبه على موضعها قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

[الرابعة]: فيمن دَخَل النار من المذنبين، فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، والملائكة، وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث، حتى لا يبقى فيها إلا الكافرون، ومن حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود، كما جاء في الحديث.

[الخامسة]: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وهذه لا ينكرها المعتزلة، ولا ينكرون أيضًا شفاعة الحشر الأَوّل.

قال القاضي عياض رحمه الله: وقد عُرِف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يُلْتَفت إلى قول من قال: إنه يكره أن يسأل الإنسان الله تعالى أن يرزقه الله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكونها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدّمنا لتخفيف الحساب، وزيادة الدرجات، ثم كل عاقل معترف بالتقصير، محتاج إلى العفو، غير مُعْتَدٍّ بعمله، مُشفق من أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائلَ أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب، وهذا كله خلاف ما عُرِف من دعاء السلف والخلف. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" ما حاصله: إن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم، ويحدّثون بما سمعوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأخرج البيهقيّ في "البعث" من طريق شَبِيب بن أبي فَضَالة: ذَكَروا عند عمران بن حصين رضي الله عنهما الشفاعة، فقال رجل: إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلًا، فغَضِب، وذكر له ما معناه: إن الحديث يُفَسّر القرآن.

وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه قال:"مَن كَذّب بالشفاعة، فلا نصيب له فيها".

= شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوم استوجبوا النار، فيشفع فيهم، فلا يدخلونها. انتهى.

قال الجامع: هكذا قال، ولكن سيأتي بيان دليلها قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 821 - 826.

ص: 212

وأخرج البيهقيّ في "البعث" من طريق يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس رضي الله عنهما: خَطَب عمر رضي الله عنه، فقال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يُكَذّبون بالرجم، ويكذبون بالدّجّال ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار. ومن طريق أبي هلال، عن قتادة قال: قال أنس: يخرج قوم من النار، ولا نُكَذِّب بها كما يكذب بها أهل حَرُوراء - يعني الخوارج -.

قال ابن بطال رحمه الله: أنكرت المعتزلة، والخوارج الشفاعة في إخراج مَن أُدخل النار من المذنبين، وتمسكوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48]، وغير ذلك من الآيات، وأجاب أهل السنة: بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترةً، ودَلّ عليها قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحديّ، فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد، وزَيَّفَهُ، وقال الطبريّ: قال أكثر أهل التأويل: المقام المحمود هو الذي يقومه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كَرْب الموقف، ثم أَخرَج عِدّة أحاديث في بعضها التصريح بذلك، وفي بعضها مُطْلَقَ الشفاعة.

[فمنها]: حديث سلمان رضي الله عنه قال: "فيُشَفِّعه الله في أمته، فهو المقام المحمود"، ومن طريق رِشْدين بن كُرَيب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"المقام المحمود: الشفاعة"، ومن طريق داود بن يزيد الأوديّ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: سئل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الشفاعة، ومن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه رفعه:"أكون أنا وأمتي على تَلّ، فيكسوني ربي حُلّةً خضراء، ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود"، ومن طريق يزيد بن زريع، عن قتادة: ذُكِر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أول شافع، وكان أهل العلم يقولون: إنه المقام المحمود، ومن حديث أبي مسعود رضي الله عنه رفعه:"إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود، إذا جيء بكم حُفَاةً عُرَاةً، وفيه: ثم يكسوني ربي حُلّةً، فألبسها، فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحدٌ، يغبطني به الأولون والآخرون"، ومن طريق ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: "المقام المحمود:

ص: 213

الشفاعة"، ومن طريق الحسن البصري مثله، قال الطبريّ: وقال ليث، عن مجاهد في قوله تعالى:{مَقَامًا مَحْمُودًا} : يُجلسه معه على عرشه، ثم أسنده، وقال: الأول أولى على أن الثاني ليس بمدفوع، لا من جهة النقل، ولا من جهة النظر.

وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حُمِلَ على ما يليق به، وبالغ الواحدي في رَدّ هذا القول، وأما النّقّاش فنقل عن أبي داود، صاحب "السنن" أنه قال: من أنكر هذا فهو مُتَّهَمٌ، وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه عند الثعلبيّ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي الشيخ، وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال:"إن محمدًا يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ"، أخرجه الطبريّ.

قال الحافظ رحمه الله: فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يُحْمَل ما جاء عن مجاهد وغيره.

والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لكن الشفاعة التي وَرَدت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان:

[الأول]: العامّة في فصل القضاء.

[والثاني]: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار، وحديث سلمان الذي ذكره الطبريّ أخرجه ابن أبي شيبة أيضًّا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذيّ، وحديث كعب أخرجه ابن حبان، والحاكم، وأصله في مسلم، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد، والنسائيّ، والحاكم، وجاء فيه أيضًا عن أنس، وعن ابن عمر، وعن جابر عند الحاكم من رواية الزهريّ، عن علي بن الحسين عنه، واختُلِف فيه على الزهريّ، فالمشهور عنه أنه من مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، وقال إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، عن عليّ، عن رجال من أهل العلم. أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه، وفيه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عند ابن مردويه، وعنده أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص، ولفظه؛ سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال:"هو الشفاعة"، وعن أبي سعيد عند الترمذيّ، وابن ماجه.

وقال الماوردي في "تفسيره": اختُلِف في المقام المحمود على ثلاثة

ص: 214

أقوال، فذكر القولين: الشفاعة والإجلاس، والثالث: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، قال القرطبيّ: هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعًا، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن سعيد بن أبي هلال، أحدِ صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهلُ الجمع، قال الحافظ: وخامسًا، هو ما اقتضاه حديث حُذيفة رضي الله عنه، وهو ثناؤه على ربه، ولكنه لا يغاير الأول أيضًا، وحَكَى القرطبيّ سادسًا، وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد، والنسائيّ، والحاكم، قال: "يشفع نبيكم رابعَ أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم، لا يشفع أحدٌ في أكثر مما يشفع فيه

" الحديث، وهذا الحديث لم يُصَرَّح برفعه، وقد ضعفه البخاريّ، وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع". قال الحافظ: وعلى تقدير ثبوته، فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام المحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجَوّز المحب الطبري سابعًا، وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك، فقال بعد أن أورده: هذا يشعر بأن المقام الشفاعة، ثم قال: ويجوز أن تكون الإشارة بقوله: "فأقول" إلى المراجعة في الشفاعة، قال الحافظ: وهذا هو الذي يتجه، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامّة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه، وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، وقيامه أقرب من جبريل، كلُّ ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه؛ ليُقْضَى بين الخلق، وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار، فمن توابع ذلك.

واختُلِف في فاعل الحمد من قوله: {مَقَامًا مَحْمُودًا} فالأكثر على أن المراد به أهلُ الموقف، وقيل: النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأول أرجح؛ لما ثَبَت من حديث ابن عمر بلفظ:{مَقَامًا مَحْمُودًا} يحمده أهل الجمع كلهم، ويجوز أن يُحْمَل على أعمّ من ذلك: أي مقامًا يحمده القائم فيه، وكل مَن عرفه، وهو مطلق في كل ما يَجْلِب الحمد، من أنواع الكرامات، واستَحْسَن هذا أبو حيان، وأيّده بأنه نكرةٌ، فدَلّ على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا.

ص: 215

وقال ابن بطال رحمه الله: سَلَّم بعضُ المعتزلة وقوع الشفاعة، لكن خَصّها بصاحب الكبيرة الذي تاب منها، وبصاحب الصغيرة الذي مات مصرًّا عليها.

وتُعُقِّب بأن من قاعدتهم أن التائب من الذنب لا يُعَذَّب، وأن اجتناب الكبائر يُكَفِّر الصغائر، فيلزم قائله أن يخالف أصله.

وأُجيب بأنه لا مغايرة بين القولين؛ إذ لا مانع من أن حصول ذلك للفريقين إنما حصل بالشفاعة، لكن يحتاج مَن قَصرها على ذلك إلى دليل التخصيص، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، ولم يخص بذلك من تاب.

وقال عياض رحمه الله: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف، وهي الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، والشفاعة في رفع الدرجات، وأنكرت ما عداهما.

قال الحافظ: وفي تسليم المعتزلة الثانية نظرٌ، وقال النوويّ تبعًا لعياض: الشفاعة خمس: في الإراحة من هول الموقف، وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا، فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة، وفي رفع الدرجات.

ودليل الأولى سيأتي التنبيه عليه في شرح حديث أنس رضي الله عنه الطويل في الشفاعة الآتي قريبًا.

ودليل الثانية قوله تعالى في جواب قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي، أمتي": "أَدْخِل الجنة من أمتك مَن لا حساب عليهم"، قال الحافظ: كذا قيل، ويظهر لي أن دليله سؤاله صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فأجيب.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا تنافي في الاستدلال بالحديثين، فتأمله، والله تعالى أعلم.

ودليل الثالثة قوله في حديث حُذيفة رضي الله عنه عند مسلم: "ونبيّكم على الصراط يقول: رب سلِّم"، وله شواهد سيأتي ذكرها في شرح حديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة.

ودليل الرابعة سيأتي أيضًا في شرح حديث أنس رضي الله عنه عنه مبسوطًا.

ودليل الخامسة قوله في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: "أنا أول شفيع في

ص: 216

الجنة"، قال الحافظ رحمه الله: كذا قاله بعض مَن لقيناه، وقال: وجه الدلالة منه أنه جَعَلَ الجنة ظرفًا لشفاعته، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأني سأبيّن أنها ظرف في شفاعته الأولى المختصة به، والذي يُطْلَب هنا أن يشفع من لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس رضي الله عنه الآتي بلفظ: "أنا أول الناس يشفع في الجنّة" ظاهر فيما قاله هذا البعض، وما تعقّبه به الحافظ، ففيه نظر لا يخفى، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وأشار النووي في "الروضة" إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يذكر مستندها.

وأشار عياض إلى استدراك شفاعة سادسة، وهي التخفيف عن أبي طالب في العذاب، كما سيأتي بيانه في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

وزاد بعضهم شفاعة سابعة، وهي الشفاعة لأهل المدينة؛ لحديث سعد رضي الله عنه رفعه:"لا يَثْبُت على لأوائها أحد إلا كنت له شهيدًا، أو شفيعًا"، أخرجه مسلم، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع من مات بها"، أخرجه الترمذيّ.

قال الحافظ رحمه الله: وهذه غير واردة؛ لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأُوَل، ولو عُدّ مثل ذلك لَعُدّ حديث عبد الملك بن عباد، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"أول من أشفع له أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف"

(1)

، أخرجه البزار، والطبرانيّ. وأخرج الطبرانيّ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه:"أول من أشفع له أهل بيتي، ثم الأقرب، فالأقرب، ثم سائر العرب، ثم الأعاجم"

(2)

.

وذكر القزويني في العروة الوثقى شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم، ولم يذكر مستندها، قال الحافظ: ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة.

(1)

حديث ضعيف، راجع "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (2142).

(2)

موضوع، راجع "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 161.

ص: 217

وزاد القرطبيّ أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، وهذه أفردها النقاش بالذكر، وهي واردة، ودليلها يأتي في حديث الشفاعة الطويل الآتي - إن شاء الله تعالى -.

وزاد النقاش أيضًا شفاعته في أهل الكبائر من أمته، وليست واردة؛ لأنها تدخل في الثالثة، أو الرابعة.

قال الحافظ رحمه الله: وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى، وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبرانيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد برحمة الله، والظالم لنفسه، وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وأرجح الأقوال في أصحاب الأعراف: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا موضوع؛ لأن في سنده موسى بن عبد الرحمن الصنعانيّ، وهو وضّاع

(1)

، كما قال الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 10/ 378، فلا يصلح لإثبات ما ادّعاه الحافظ من هذا القسم في الشفاعة، فتنبّه

(2)

، والله تعالى أعلم.

قال: وشفاعة أخرى، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرًا قطّ، ومستندها رواية الحسن، عن أنس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه، ولا يمنع مِن عَدّها قول الله تعالى له:"ليس ذلك إليك"؛ لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه قد صَدَرت، وقبولها قد وقع، وترتب عليها أثرها.

قال الجامع عفا الله عنه: استدلال الحافظ رحمه الله على هذا النوع من

(1)

قال ابن حبّان: دجال وضع على ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس كتابًا في التفسير، وقال ابن عديّ: منكر الحديث، وأورد له هذا الحديث، وأحاديث أخرى، ثم قال: هذه الأحاديث بواطيل، انظر "ميزان الاعتدال" 4/ 211 - 212.

(2)

وأورد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "ضعيف الجامع الصغير" برقم (3331) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ: "السابقُ والمقتصدُ يدخلان الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرًا، ثم يدخل الجنة"، وحكم عليه بأنه ضعيف، فتنبّه.

ص: 218

الشفاعة بحديث أنس رضي الله عنه المذكور، غير ظاهر، كما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم.

قال: فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يَرِدُ كما تَرِد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين، وغير ذلك؛ لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، مع ما أسلفته من التعقّب في بعضه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[465]

(

) - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ (ح)، وَحَدَّثنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِهَذَا الاسْنَاد، وَقَالَا:"فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ، يُقَالَ لَهُ: الْحَيَاةُ"، وَلَمْ يَشُكَّا، وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ:"كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ"، وَفِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ:"كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِئَةٍ، أَوْ حَمِيلَةِ السَّيْلِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(وُهَيْب) بن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: ابن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

5 -

(عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ) بن أوس بن الْجَعْد، أبو عثمان الواسطيّ البزار الحافظ، مولى أبي الْعَجْفاء السلميّ، سكن البصرة، ثقةٌ ثبتٌ [10].

رَوَى عن الحمادين، وهُشيم، وشَرِيك، وأبي عوانة، وخالد بن عبد الله،

ص: 219

وعبد السلام بن حرب، وأبي معاوية، وشعيب بن إسحاق، ووكيع، وابن أبي زائدة، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وأبو داود، وروى البخاريّ أيضًا والباقون له بواسطة عبد الله بن محمد الْمُسْنَديّ، وحجاج بن الشاعر، وعبد الله الدارميّ وأحمد بن سليمان الرُّهَاويّ، وعُثمان بن خُرَّزاذ، والعباس بن جعفر بن الزِّبْرِقان، وغيرهم.

قال إبراهيم بن الجنيد: سمعت يحيى بن معين يقول: حدثنا عمرو بن عون، وأطنب في الثناء عليه، وقال العجلئ: ثقة، كان رجلًا صالحًا، وقال الدُّوريّ: سمعت يزيد بن هارون يقول: عمرو بن عون ممن يزداد كل يوم خيرًا، وقال أبو زرعة: قَلّ من رأيت أثبت منه، وقال أبو حاتم: ثقةٌ حجةٌ، وكان يَحفظ حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة خمس وعشرين ومائتين، كذا قال أبو حاتم بن الليث الجوهريّ، وكذا قاله البخاريّ، وأبو داود ظنًّا، وكذا جزم به ابن قانع نقلًا عن حفيده، وزاد: في شعبان، وقال مسلمة في "الصلة": ثقةٌ، وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ أحد عشر حديثًا

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (184)، وحديث (1605):"لا يحتكر إلا خاطئ".

6 -

(خَالِد) بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقة ثبت [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

وعمرو بن يحيى المازنيّ تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا) أي وُهيبٌ، وخالد الطحان.

وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بإسناد عمرو السابق، وهو: عن أبيه يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَا: "فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ، يُقَالَ لَهُ: الْحَيَاةُ"، وَلَمْ يَشُكَّا) يعني أن وُهيبًا وخالدًا روياه بلفظ: "الحياة" ولم يشكّا كما شك مالك، فقال:"في نهر الحياة، أو الحيا".

(1)

الذي في برنامج الحديث (صخر) أنه له في "صحيح البخاريّ"(12) حديثًا.

ص: 220

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ: "كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ في جَانِبِ السَّيْلِ") يعني أن خالدًا الطحان رواه بلفظ: "كما تنبت الغُثَاءة" بدل قول مالك: "كما تنبت الْحِبّة"، و"الْغُثَاءَةُ" بضم الغين المعجمة، وبالثاء المثلّثة المخفّفة، وبالمدّ، وآخره هاء: هو كلّ ما جاء به السيل، وقيل: المراد ما احتمله السيل من البذور، وجاء في غير "صحيح مسلم" بلفظ:"كما تنبت الْحِبّة في غُثاء السيل" بحذف الهاء من آخره، وهو ما احتمله السيل من الزبَد، والْعِيدَان، ونحوهما من الأقذاء، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: "كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِئَةٍ، أَوْ حَمِيلَةِ السَّيْلِ") يعني أن وهيب بن خالد رواه بلفظ: "كما تنبت الحِبّة في حمئة السيل، أو حميلة السيل" بالشكّ.

أما الأول: فهو "حَمِئَةٌ" بفتح الحاء، وكسر الميم، وبعدها همزة، وهي الطين الأسود الذي يكون في أطراف النهر.

وأما الثاني: فهو "حَمِيلة"، وهي واحد الْحَمِيل المذكور في الروايات الأُخَر، بمعنى المحمول، وهو الغثاء الذي يَحتمله السيل، والله تعالى أعلم

(2)

.

[تنبيه]: رواية وُهيب التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية مالك، أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6560)

حدثنا موسى، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجوه، فيُخْرَجون قد امْتَحَشُوا، وعادوا حُمَمًا، فيُلْقَون في نهر الحياةُ، فينبتون كما تنبت الْحِبّة في حَمِيل السيل، أو قال: حَمِية السيل"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألم تَرَوْا أنها تَنْبُتُ صفراء مُلْتَوِيَةً؟ ". انتهى.

وأما رواية خالد الطحّان التي أحالها هنا أيضًا، فقد أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله في "الإيمان"(2/ 807)، فقال:

(823)

وأنبأ محمد بن عبيد الله بن أبي رجاء، ثنا موسى بن هارون، ثنا

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 37.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 37.

ص: 221

وهب بن بقية، ثنا خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال الله برحمته: انظُرُوا من كان في قلبه حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار، قال: فأُخرجوا قد عادوا حُمَمًا، فيُلْقَون في نهر يسمى نهر الحياة، فيَنْبُتُون كما تنبت الْغُثَاءة في جانب السيل، ألم تَرَوا أنها تأتي صفراء ملتويةً؟ ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[466]

(185) - (وَحَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ

(1)

، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ، فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَة، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّة، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّة، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّة، تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَاَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) المذكور قبل باب.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(أَبُو مَسْلَمَةَ) هو: سعيد بن يزيد بن مَسْلَمة الأَزْديّ، ويقال: الطّاحِيّ، أبو مَسلمة البصريّ القصير، ثقة [4].

رَوَى عن أنس، وأبي نَضْرَة، وعكرمة، وأبي قِلابة، ومُطَرِّف، ويزيد ابني عبد الله بن الشِّخِّير، والحسن البصريّ، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "يعني: ابن مفضّل".

ص: 222

ورَوَى عنه شعبة، وإبراهيم بن طَهْمان، وحماد بن زيد، وعباد بن الْعَوّام، وخالد بن عبد الله، وبِشْر بن المفضل، وابن علية، ويزيد بن زُريع، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، ووثقه ابن سعد، والعجليّ، وأبو بكر البزار، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) هو: الْمُنْذر بن مالك بن قُطَعَةَ الْعَبْديّ الْعَوَقِيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) الْخُدريّ رضي الله عنه المذكور قبله، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

5 -

(ومنها): أن الصحابيّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، كما أسلفته قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخُدْريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ) ووقع في النسخة التي شرح عليها النوويّ بلفظ: "أهل النار

إلخ" بدون "أما"، فقال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في معظم النسخ: "أهلُ النار"، وفي بعضها: "أما أهلُ النار" بزيادة "أما"، وهذا أوضح، والأول صحيح، وتكون الفاء في "فإنهم" زائدةً، وهو جائزٌ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "أما" على النسخة التي فيها "أما أهل

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 37.

ص: 223

النار"، فهي حرف شرط وتوكيد، وليست هنا للتفصيل، وإن كان غالب أحوالها أن تأتي له لكنها ليست له، كما بيّنه ابن هشام في "مغنيه"

(1)

، وجوابها قوله: "فإنهم لا يموتون

إلخ"، وقوله: (الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا) صفة لـ "أهل النار" (فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا) أي حتى يستريحوا من ألم العذاب (وَلَا يَحْيَوْنَ) بفتح أوله، مضارع حَيِي، من باب تَعِبَ: أي ولا يحيون حياةً ينتفعون بها، ويجدون فيها لذّة المعيشة، بل يكونون دائمًا متقلّبين في عذاب أليم.

وقال النوويّ رحمه الله: الظاهر من معنى الحديث - والله أعلم - أن الكفار الذين هم أهل النار، والمستحقون للخلود، لا يموتون فيها، ولا يَحْيَون حياةً ينتفعون بها، ويستريحون معها، كما قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]، وكما قال تعالى:{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} [الأعلى: 13]، وهذا جارٍ على مذهب أهل الحقّ أن نعيم أهل الجنة دائم، وأن عذاب أهل الخلود في النار دائمٌ. انتهى

(2)

.

(وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ارتكابهم الذنوب الموجبة لدخول النار (أَوْ) للشكّ من الرا وي (قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ، فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً) أي أماتهم الله، فالفاعل ضمير يعود على الله؛ لعلمه، وإن لم يُذكر، وفي بعض النسخ:"فأماتتهم"، فالضمير للنار.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن ناس أصابتهم النار

إلخ": معناه: أن المذنبين من المؤمنين يُميتهم الله تعالى إماتةً بعد أن يُعَذّبوا المدة التي أرادها الله تعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقية، يَذْهَب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يُميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدّة التي قدَّرها الله تعالى، ثم يَخرُجون من النار موتى، قد صاروا فَحْمًا، فَيُحْمَلون ضَبَائر كما تُحْمَل الأمتعة، ويُلْقَون على أنهار الجنة، فيُصَبّ عليهم ماءُ الحياة، فيَحْيَون، ويَنبُتون نَبَاتَ الْحِبّة في حَمِيل السيل، في سرعة نباتها وضعفها، فتَخْرُج لضعفها صَفْراء مُلْتَوِيةً، ثم تشتدّ قوتهم بعد ذلك،

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 57.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 38.

ص: 224

ويصيرون إلى منازلهم، وتَكْمُلُ أحوالهم، فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ومعناه.

وحَكَى القاضي عياض رحمه الله فيه وجهين: أحدهما أنها إماتة حقيقيةٌ، والثاني: ليس بموت حقيقيّ، ولكن يَغِيب عنهم إحساسهم بالآلام، قال: ويجوز أن تكون آلامهم أخَفّ، فهذا كلام القاضي، والمختار ما قدمناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام منقّح مفيد، والله تعالى أعلم.

(حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا) بفتح الفاء، وسكون الحاء المهملة، وقد تفْتَحُ، أفاده الفيّوميّ رحمه الله، وقال المجد رحمه الله: "الْفَحَمُ: محرّكة، وبالفتح، وكأمير: الْجَمْرُ الطافئ، والْفَحْمَةُ: واحدته. انتهى

(2)

. (أُذِنَ) بالبناء للمفعول، أي أَذِنَ الله تعالى للملائكة، والأنبياء، والصالحين (بِالشَّفَاعَةِ) وفي نسخة:"في الشفاعة"(فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في الروايات، والأصول:"ضَبَائر ضبائر" مكررٌ مرتين، وهو منصوب على الحال، وهو بفتح الضاد المعجمة، وهو جمع ضَبَارة، بفتح الضاد، وكسرها، لغتان، حكاهما القاضي عياض، وصاحب "المطالع"، وغيرهما، أشهرهما الكسر، ولم يذكر الهرويّ وغيره إلا الكسر، ويقال فيها أيضًا: إِضْبَارة، بكسر الهمزة، قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تَفْرِقَة، ورُوِي:"ضِبَارَاتٍ ضَبَارَاتٍ". انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الضّبَائرُ: الجماعاتُ في تفرقة، واحدتها ضِبَارةٌ، مثلُ عِمَارة وعَمَائِر، وكلُّ مُجتمع: ضِبَارةٌ، وفي رواية أخرى: "فيُخرجون ضِبَارات ضِبَاراتٍ" وهو جمع صِحّة للضّبَارة، والأول: جمع تكسير". انتهى

(4)

.

(فَبُثُّوا) بضمّ الباء الموحدة، بعدها ثاء مثلثة: أي فُرِّقُوا (عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّة، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّة، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ) أي صُبّوا على هؤلاء الضبائر (فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ) بنصب "نَبَاتَ" على المفعوليّة المطلقة، و"الْحِبّة" بالكسر بُزور الصحراء (تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ") أي محموله من الْغُثاء وغيره، وقد تقدّم البحث في الْحِبّة، والحميل مستوفًى في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 38.

(2)

القاموس المحيط" ص 1032.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 38.

(4)

"النهاية" 3/ 71 - 72.

ص: 225

فراجعه تستفد. (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) لم أر من سمّاه (كَاَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ) أي: حيث علم كيفيّة نبات الحِبّة في جانب السيل؛ لأنه لا يصف هذا الوصف الدقيق إلا من عاش في البادية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[88/ 466 و 467](185)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4309)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 5 و 11 و 20 و 25 و 78 - 79 و 90)، و (الدارميّ) في "السنن"(2/ 331)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(184)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 274 و 279 و 282)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(456 و 457 و 458)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(463 و 464)، و (ابن منده) في "الإيمان"(820 و 821 و 823 و 824 و 825 و 826 و 827 و 828 و 829 و 833 و 834 و 835)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه إثبات الشفاعة، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في المسألة الرابعة من الحديث الماضي.

2 -

(ومنها): بيّن أن أصحاب النار الذين حكم الله تعالى بكونهم مخلّدين فيها، من الكفّار، وغيرهم، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون حياة تسرّهم، كما أخبر الله تعالى بذلك، فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36].

3 -

(ومنها): أن العُصاة من أهل الإيمان الذي أُدخلوا النار، فإن الله تعالى يرحمهم بأن يميتهم، فيصيروا حُمَمًا حتى لا يحسّوا بألمها، وشدّة عذابها.

ص: 226

4 -

(ومنها): أن فيه الرّدّ على الخوارج، والمعتزلة الذين يحكمون بخلود أهل الكبائر في النار، وأنهم لا يَخرُجون منها أبدًا، وهو مذهب باطلٌ بنصوص الكتاب والأحاديث الصحيحة.

5 -

(ومنها): أن الله تعالى يأذن للملائكة، والأنبياء، والمؤمنين أن يشفعوا في أهل التوحيد، فيُخرجوهم من النار.

6 -

(ومنها): أن أهل الجنّة يؤمرون بإفاضة الماء على هؤلاء الذين صاروا حُمَمًا على أبواب الجنّة، حتى يَحْيَوْا حياةً جديدة؛ ليعيشوا معهم في أطيب عيش، وأهنئه، نعيم بلا نكد، وملك إلى الأبد، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[467]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: "فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى المعروف بالزَّمِن المذكور قبل بابين.

2 -

(وَابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد المعروف ببندار المذكور قبل بابين أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر المذكور قبل بابين أيضًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور المذكور قبل بابين أيضًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ) فيه بيان سماع أبي مسلمة من أبي نضرة، بخلاف السند الماضي، فإنه كان بالعنعنة.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني رواية شعبة موافقة لرواية بشر بن المفضل، إلا أنه خالفه في اختصار الحديث، حيث لم يذكر قوله: "فقال رجال

إلخ".

ص: 227

[تنبيه]: رواية شعبة هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية بشر بن المفضّل، أخرجها الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 252)، فقال:

(463)

حدثني أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي مَسْلَمة، قال: سمعت أبا نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن أهل النار الذين هم أهل النار، لا يموتون فيها، ولا يحيون، ولكنها تُصِيب قومًا بذنوبهم، أو خطاياهم، حتى إذا صاروا فَحْمًا، أُذِن في الشفاعة، فيَخرُجون ضَبَائر، فيُلْقَون على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة أهريقوا عليهم من الماء، فَيَنْبُتون كما تَنْبت الْحِبّة في حميل السيل"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(89) - (بَابُ بَيَانِ آخِرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[468]

(186) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، كِلَاهُمَا

(1)

عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ،

(1)

قوله: "كلاهما" هكذا في بعض النسخ، قال النوويّ رحمه الله في "شرحه" (3/ 39): وقع في معظم النسخ "كليهما" بالياء، ووقع في بعضها "كلاهما" بالألف مصلَحًا، وقد قدّمت في الفصول التي في أول الكتاب بيان جوازه بالياء. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله عنه: وجهه بالياء أن يكون مفعولًا لفعل مقدّر، أي أعني كليهما، ويحتمل أن يقرأ بالألف، وإن كان مكتوبًا بالياء؛ لإجل الإمالة، والله تعالى أعلم.

ص: 228

فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِن لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي؟، أَوْ أَتَضْحَكُ بِي؟، وَأَنْتَ الْمَلِكُ"، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: فَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، شهيرٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المعروف بابن راهويه المذكور قبل بابين.

3 -

(جَرِير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، قاضي الريّ، المذكور قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد الله السّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"ج 1 ص 296.

5 -

(إِبْرَاهِيم) بن يزيد بن قيس النَّخَعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة ثبتٌ، يرسل كثيرًا [5](ت 96) (ع، تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَبِيدة) - بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة - بن عَمْرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السَّلْمانيّ - بسكون اللام، ويقال: بفتحها - المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ، تابعيّ كبير، مخضرم، ثقة ثبت [2].

رَوَى عن علي، وابن مسعود، وابن الزبير، ورَوَى عنه عبد الله بن سَلِمة المرادي، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سيرين، وأبو حسان الأعرج، وأبو الْبَخْتريّ الطائي، وعامر الشعبي، وغيرهم.

ص: 229

قال الشعبي: كان شُرَيح أعلمهم بالقضاء، وكان عَبِيدة يوازيه، وقال أشعث عن محمد بن سيرين: أدركت الكوفة، وبها أربعة ممن يُعَدّ في الفقه، فمن بدأ بالحارث ثَنّى بعبيدة، أو العكس، ثم علقمة الثالث، وشُريح الرابع، ثم يقول: وإن أربعة أحسنهم شُريح لَخِيَار، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة جاهلي، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، وكان من أصحاب علي وعبد الله، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه، وقال ابن نُمير: كان شُريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عَبِيدة، ويُروَى عن ابن سيرين: ما رأيت رجلًا أشدّ توقيًا منه، وكلُّ شيء روي عن إبراهيم عن عَبِيدة سوى رأيه، فإنه عن عبد الله إلا حديثًا واحدًا.

وقال محمد بن سعد: قال محمد بن عمر: هاجر عَبِيدة زَمَنَ عمر رضي الله عنه.

وقال ابن معين: كان عيسى بن يونس يقول: السَّلَمَاني مفتوحة. وعَدَّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: علقمة أحبُّ إليك أو عَبِيدة؟ فلم يُخَيِّر، قال عثمان: هما ثقتان. وقال علي بن المديني، وعمرو بن علي الفلاس: أصحُّ الأسانيد محمد بن سيرين، عن عَبِيدة عن علي. وقال العجلي: كلُّ شيءٍ رَوَى محمدٌ

(1)

عن عَبِيدة، سوى رأيه فهو عن عليّ، وكلُّ شيء رَوَى عن إبراهيم، فذكر مثل ما تقدم.

قال ابن نُمير وغيرُ واحد: مات سنة اثنتين وسبعين، وقال قعنب: مات سنة (72) أو (73). وقال الترمذي: سنة (73)، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سنة (74)، وكذا أرّخه ابن حبان في "الثقات"، وصححه، وقد قال البخاري في "تاريخه": حدثنا ابن بشار، ثنا ابن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي حَصين قال: أوصى عَبيدة أن يصلي عليه الأسود، خَشِي أن يصلي عليه المختار، فبادر فصلى عليه، وهذا إسناد صحيح، رواه ابن سعد أيضًا عن أبي داود، عن شعبة، ومقتضاه أن عَبِيدة مات قبل سنة تسعين بمدة؛ لأن المختار قُتِل سنة (67) بلا خلاف.

(1)

أي ابن سيرين.

ص: 230

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه إسحاق، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: إبراهيم، عن عَبِيدة.

5 -

(ومنها): أن عَبِيدة هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدد ما روى له المصنّف فيه.

[تنبيه]: جملة من يُسمّى بعَبِيدة بفتح، فكسر في الكتب الستة تسعة

(1)

، منهم في "الصحيحين" ثلاثة:

1 -

(الأول): هذا المترجم هنا عند الجماعة.

2 -

(والثاني): عَبِيدة بن حُميد الكوفيّ المعروف بالحذّاء، صدوقٌ نحويّ، ربّما أخطأ، من الطبقة الثامنة، مات سنة تسعين، وقد جاوز الثمانين.

3 -

(والثالث): عَبِيدة بن سفيان الحضرميّ المدنيّ، ثقة من الثالثة، عند المصنّف، والأربعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ) قال القاري: الظاهر أنهما متلازمان، فالجمع بينهما للتوضيح، ولا يبعُد أن يكون احترازًا مما عسى

(1)

راجع البقيّة في: "تقريب التهذيب" ص 230 - 231.

ص: 231

أن يتوهّم من حبس أحد في الموقف من أهل الجنّة حينئذ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: جاء نحو هذا في آخرِ مَن يَجُوزُ على الصراط، قال: فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان، وإما نوعان، أو جنسان، وعَبَّر فيه بالواحد عن الجماعة؛ لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود، وهو الجواز على الصراط، فيتحد المعنى، إما في شخص واحد، أو أكثر، ويقوّي الاحتمال الثاني ما سيأتي في الحديث الثالث من رواية أنس عن ابن مسعود رضي الله عنهما، ولفظه: آخِرُ مَن يدخل الجنة رجلٌ، فهو يمشي مرّةً، وَيكْبُو مرّةً، وتَسْفَعه النار مرّةً، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نَجّاني منكِ. وعند الحاكم من طريق مسروق، عن ابن مسعود، ما يقتضي الجمع، قاله في "الفتح"

(2)

.

(رَجُلٌ) تقدّم الخلاف في اسم هذا الرجل في شرح الحديث الطويل الماضي، (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا) - بفتح المهملة، وسكون الموحّدة - منصوب على الحال، أو مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي يحُبو حَبْوًا، مِن حَبَا الصبيّ، مِن باب "قال": إذا دَرَج على بطنه، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الْحَبْوُ": أن يمشي على يديه وركبتيه، أو اسْته، وحَبَا البعير: إذا بَرَك، ثم زَحَفَ من الإعياء، وحبا الصبيّ: إذا زَحَفَ على اسْتِهِ. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: حَبَا الرجلُ: إذا مشى على يديه، وبطنه، وحبا الصبيّ: إذا مشى على اسْتِه، وأشرف بصدره. انتهى

(5)

.

ووقع في رواية الأعمش، عن إبراهيم، التالية بلفظ "زَحْفًا"، وهما متقاربا المعنى، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الْحَبْوُ: الْمَشيُ على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على اليدين والركبتين، وربما قالوا: على يديه

(1)

"المرقاة" 9/ 551.

(2)

11/ 452.

(3)

"المصباح" 1/ 120.

(4)

"النهاية" 1/ 336.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1145.

ص: 232

ومَقْعَدته، وأما الزَّحْف: فقال ابن دُرَيد وغيره: هو المشيُ على الاسْتِ مع إفراشه بصدره، فحصل من هذا أن الحبو والزحف متماثلان، أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما حُمِلَ على أنه في حالٍ يَزْحَفُ وفي حالٍ يَحْبُو. انتهى

(1)

.

(فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا) وفي نسخة: "قال: فيأتيها" بزيادة "قال"، يعني أنه يجيء قريبًا منها، أو فيدخلها (فَيُخَيَّلُ) بالبناء للمفعول: أي يُصوَّر (إِلَيْهِ أَنَّهَا) أي الجنّة (مَلْأَى) فَعْلَى تأنيث ملآن: أي ممتلئة بالسكّان (فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى) أي فليس لي مكان فيها (فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ، فَادْخُل الْجَنَّةَ) قال القاريّ رحمه الله: المراد بها جنس الجنّة، أو جنّة بخصوصها. انتهى

(2)

. (فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا) قال القاري رحمه الله: أي في سعتها، وقيمتها. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وقيمتها" فيه نظر لا يخفى؛ إذ جميع ما في الدنيا لا يساوي قيمةَ أقلّ قليل في الجنّة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها"، رواه البخاريّ، والله تعالى أعلم.

(وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا) أي زيادة عليها في الكميّة والكيفيّة، وفيه إيماء إلى قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فالمؤمن لَمّا ترك الدنيا، وهي كانت كالحبس في حقّه، جوزي بمثلها عَدلًا، وعشرة أضعافها فضلًا

(4)

، والله تعالى أعلم.

(أَوْ) للشكّ من الراوي (إِن لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا) وفي رواية الأعمش الآتية: فيقال له: "أتذكُر الزمان الدي كنت فيه؟ - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى، فيقال له: لك الذي تمنّيتَ، وعشرة أضعاف الدنيا".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فيقول الله تعالى له: اذهب فادخل الجنة، فان لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها"، وفي الرواية الأخرى:"لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا"، هاتان الروايتان بمعنى واحد، وإحداهما تفسير للأخرى،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 39.

(2)

"المرقاة" 9/ 552.

(3)

"المرقاة" 9/ 552.

(4)

راجع: "المرقاة" 9/ 552.

ص: 233

فالمراد بالأضعاف الأمثال، فإن المختار عند أهل اللغة أن الضعف المثل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى في الكتاب:"فيقول الله تعالى: أيُرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ "، وفي الرواية الأخرى:"أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟، فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك، وعشرة أمثاله"، فهاتان الروايتان لا تُخالفان الأُوليين، فإن المراد بالأولى من هاتين أن يقال له أوّلًا: لك الدنيا ومثلها، ثم يزاد إلى تمام عشرة أمثالها، كما بيّنه في الرواية الأخيرة، وأما الأخيرة فالمراد بها أن أحد ملوك الدنيا، لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض، بل يَمْلِك بعضًا منها، ثم منهم من يَكْثُر البعض الذي يملكه، ومنهم من يَقِلّ بعضه، فيُعْطَى هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات، وذلك كله قدر الدنيا، ثم يقال له: لك عشرة أمثال هذا، فيعود معنى هذه الرواية إلى موافقة الروايات الأخرى المتقدّمة، ولله الحمد، وهو أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(قالَ) صلى الله عليه وسلم وفي بعض النسخ بحذف "قال"(فَيَقُولُ) الرجل (أَتَسْخَرُ) بفتح الخاء المعجمة: أي أتستهزئ (بِي؟) قال النوويّ رحمه الله: وقع في الروايات "أتسخر بي"، وهو صحيح، يقال: سَخِرتُ منه، وسَخِرت به، والأول هو الأفصح الأشهر، وبه جاء القرآن، والثاني: فصيح أيضًا، وقد قال بعض العلماء: إنه إنما جاء بالباء لإرادة معناه، كأنه قال: أتهزأ بي. انتهى

(1)

.

(أَوْ أَتَضْحَكُ بِي؟، وَأَنْتَ الْمَلِكُ") جملة حالية من فاعل "تضحك"، و"أو" للشكّ، وفي رواية الأعمش:"أتسخر بي؟ "، ولم يشكّ، وفي رواية أنس، عن ابن مسعود:"أتستهزئ بي، وأنت ربّ العالمين؟ ".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أو أتضحك

إلخ"، هذا شكّ من الراوي، هل قال: "أتسخر بي؟، أو قال: أتضحك بي؟ "، فإن كان الواقع في نفس الأمر أتضحك بي؟، فمعناه: أتسخر بي؟؛ لأن الساخر في العادة يضحك ممن يَسْخَر به، فوُضع الضحك موضع السخرية مجازًا.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 40.

ص: 234

قال: وأما معنى "أتسخر بي؟ " هنا ففيه أقوال:

[أحدها]: قاله المازريّ: إنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث، دون لفظه؛ لأنه عاهد الله مرارًا أن لا يسأله غير ما سأل، ثم غَدَرَ، فَحَلّ غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدّر الرجل أن قول الله تعالى له:"ادخل الجنة"، وتردده إليها، وتخييل كونها مملوءة ضرب من الإطماع له، والسخرية به؛ جزاءً لِمَا تقدم من غدره، وعقوبةً له، فسَمَّى الجزاءَ على السخرية سخرية، فقال: أتسخر بي؟ أي: تعاقبني بالإطماع؟.

[والقول الثاني]: قاله أبو بكر الصوفي: إن معناه نفي السخرية التي لا تجوز على الله تعالى، كأنه قال: أَعْلَم أنك لا تهزأ بي؛ لأنك رب العالمين، وما أعطيتني من جزيل العطاء، وأضعاف مثل الدنيا حقّ، ولكن العجب أنك أعطيتني هذا، وأنا غير أهل له، قال: والهمزة في "أتسخر بي" همزة نفي، كما في قوله تعالى:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الأعراف: 155] على أحد الأقوال، قال: وهو كلامُ مُتَدَلِّلٍ عَلِمَ مكانه من ربه، وبَسْطَهُ له بالإعطاء.

[والقول الثالث]: قاله القاضي عياض: أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من هذا الرجل، وهو غير ضابط لما قاله؛ لِمَا ناله من السرور ببلوغ ما لم يَخْطُر بباله، فلم يضبط لسانه دَهَشًا وفَرَحًا، فقال، وهو لا يعتقد حقيقةَ معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، وهذا كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرجل الآخر: إنه لم يَضبِط نفسه من الفرح، فقال:"أنت عبدي، وأنا ربك"

(1)

.

وقال القرطبيّ في "المفهم": أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه: إنه استَخَفَّه الفرَح، وأدهشه، فقال ذلك، وقيل: قال ذلك؛ لكونه خاف أن يُجَازَى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات، وارتكاب المعاصي، كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟، فهو كقوله عز وجل:{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]، وقوله:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]: أي يُنْزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 40.

(2)

"المفهم" 424 - 425.

ص: 235

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استهزاء الله تعالى بالمنافقين ونحوهم

(1)

، وسُخريّته بهم من صفات الله تعالى التي يقابل بها من يستحقّها، وهي على الحقيقة اللائقة به سبحانه وتعالى، ولا تؤوّل، بل يجب الإيمان بها كما وردت، من غير تعطيل، ولا تحريف، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، كسائر صفات الله عز وجل من الضحك، والفرح، والرضا، والغضب، ونحوها، ولكنها تأتي في المقابلة، كالمكر والخديعة، وأما تفسيرها بإنزال الجزاء بالمستحقّين له، فليس معنى لها، وإنما هو من لوازمها المترتّبة عليها، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ) بفتح الضاد، وكسر الحاء المهملة، قال المجد رحمه الله: ضَحِكَ كَعَلِمَ، وناسٌ يقولون: ضِحِكْتُ بكسر الضاد، ضَحْكًا بالفتح والكسر، وبكسرتين، وكَكَتِفٍ، وتضحّك، وتضاحك، فهو ضاحكٌ، وضَحّاكٌ، وضَحُوكٌ، ومِضْحاكٌ، وضُحَكَةٌ، كهُمَزَة، وكحُزُقّةٍ: كثير الضحك. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَحِكَ من زيد، وضَحِكَ به ضَحِكًا، وضَحْكًا، مثلُ كَلِيم، وكَلْمٍ: إذا سَخِرَ منه، أو عَجِبَ، فهو ضاحك، وضحّاكٌ مبالغة. انتهى

(3)

.

(حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) بالجيم والذال المعجمة، قال أبو العباس ثعلب، وجماهير العلماء، من أهل اللغة، وغريب الحديث، وغيرهم: المراد بالنواجذ هنا الأنياب، وقيل: المراد هنا الضواحك، وقيل: المراد بها الأضراس، وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة، ولكن الصواب عند الجماهير ما قدمناه

(4)

.

وزاد في رواية ابن مسعود: "فضَحِكَ ابن مسعود، فقالوا: مِمّ تضحك؟ فقال: هكذا فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن ضَحِك رب العالمين، حين قال الرجل:

(1)

انظر ما كتبه الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل في تعليقاته على "فتح الباري" 11/ 540.

(2)

"القاموس المحيط" ص 852.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 358.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 40.

ص: 236

أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر".

قال البيضاويّ: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجازٌ، بمعنى الرضا، وضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: نسبة الضحك مجاز غير صحيح، بل الحقّ أن نسبة الضحك إلى الله تعالى حقيقةٌ، وليس بمجاز، فقد ثبتت هذه الصفة له سبحانه وتعالى في الأحاديث الصحاح، وحقّقها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفعل تأسّيًا بربّه سبحانه وتعالى، فله سبحانه وتعالى ضحك يليق بجلاله، لا يشبه ضحك المخلوقين.

والحاصل أن الضحك صفة فعليّة ثابتة لله سبحانه وتعالى متعلّقة بمشيئته، كالرضا، والمحبّة، والغضب، ونحوها، فلا تؤوّل بالرضا، بل يجب الإيمان بها على حقيقتها اللائقة به سبحانه وتعالى، من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل ذوي الانحراف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ: فَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً) قال الكرمانيّ رحمه الله: ليس هذا من تَتِمّة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام الراوي نقلًا عن الصحابة، أو عن غيرهم، من أهل العلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قائل: "فكان يقال

إلخ"، هو إبراهيم النخعيّ، كما بيّنه ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، حيث قال بعد سوق الحديث ما نصُّهُ: قال إبراهيم: وكان يقال: إن ذلك الرجل أدنى أهل الجنة منزلةً. انتهى.

وأما قائل المقالة المذكورة: فهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثَبَتَ ذلك في أول حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي للمصنّف بعد حديثين، ولفظه: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً رجلٌ صرف الله وجهه عن النار

"، وساق القصة، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي بعد حديث أبي سعيد ضي الله عنه - رفعه: "قال: سأل

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 453.

ص: 237

موسى ربه: ما أدنى أهل الجنّة منزلة

" الحديث، وقد تقدّم للمصنّف أيضًا

(1)

من طريق همّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة، أن يقال له: تَمَنّ، فيتمنى، ويتمنى، فيقول: هل تمنّيت؟ فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت، ومثله معه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[89/ 468 و 469](186)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6571)، و"التوحيد"(7511)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2595)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4339)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه "(13/ 119 - 120)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 378 - 379 و 460)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 159 و 317)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7427 و 7431 و 7475)، و (ابن منده) في "الإيمان"(842 و 843 و 844)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(426 و 427 و 428)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(465 و 466 و 467)، وفي "صفة الجنّة"(444)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10339 و 10340)، و (البيهقيّ) في "البعث"(95)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4356)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه بيان آخر أهل النار خروجًا منها.

2 -

(ومنها): بيان سعة فضل الله سبحانه وتعالى، وإكرامه لعبده المؤمن، وإن سبقت له سوابق المخالفات والعصيان، إلا أنه سبحانه وتعالى يتفضّل عليه بالتجاوز عنها، ويُعطيه ما لم يخطُر بباله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

(1)

تقدّم برقم (182).

ص: 238

3 -

(ومنها): بيان إثبات صفة الضحك لله سبحانه وتعالى، فقد ثبتت في هذا الحديث الصحيح، وفي أحاديث أخرى صحيحة، فهي ثابتة له سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، كما سبق تحقيقه آنفًا.

4 -

(ومنها): بيان جواز الضّحِك، وأنه ليس بمكروه في بعض المواطن، ولا بمسقط للمروءة، إذا لم يجاوز به الحدّ المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[469]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْرِفُ اَخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّار، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ

(2)

، قَالَ: فَيَذْهَبُ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ؟، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ، وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي، وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ "، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْب) هو: محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطًة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

(2)

وفي نسخة: "ادخل الجنة"، بدون الفاء.

ص: 239

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

4 -

(الْأَعْمَشُ) هو سليمان بن مِهْرَان الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أبا بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، وشرح الحديث يُعلم مما قبله، فلا حاجة إلى إعادته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[470]

(187) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِم، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَثنَا ثَابِت، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا، الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْك، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأوَّلينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَة، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة، فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْه، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِل بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ؛ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلمْ تُعَاهِدْنِي، أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا، تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلُهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْه، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ

ص: 240

تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَاب الْجَنَّة، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْن، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ؛ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبّ، هَذِه، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا، فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّة، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؛ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ " فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلا تَسْأَلُونِّي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنَي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِم) الصفّار البصريّ الحافظ المذكور قبل بابين.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَة) أبو سلمة البصريّ المذكور قبل بابين أيضًا.

3 -

(ثَابِت) بن أسلم البنانيّ البصريّ المذكور قبل بابين أيضًا.

4 -

(أَتس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير مات رضي الله عنه سنة (32) أو (39) وقد جاوز مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وابن مسعود، فكوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة.

ص: 241

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ" رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء يجوز أن تكون تفصيليّةَّ، أَبْهَمَ أَوّلًا دَخوله الجنّة، ثم فصّل كيفيّة دخوله فيها ثانيًا، وأن تكون لتعقيب الإخبار، وإن تَقَدَّمَ ما بعدها على ما قبلها في الوجود، فوقعت موقع "ثُمّ" في هذا المعنى، كأنه قيل: أُخبركم عقب هذا القول حاله، فهو يمشي قبل دخوله في الجنّة مرّةً. انتهى

(1)

. (وَيَكبُو) أي يسقط على وجهه، يقال: كَبَا يَكْبُو كَبْوًا بفتح، فسكون، وكُبُوًّا بضمّتين، وتشديد الواو: انكبّ على وجهه، قاله المجد

(2)

.

ووقع عند أبي عوانة بلفظ: "فينكبّ"(مَرَّةً) أخرى (وَتَسْفَعُهُ النَّارُ) بفتح التاء، وسكون السين المهملة، وفتح الفاء: أي تضرب وجهه، وتُسَوّده، وتؤثّر فيه أَثَرًا، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تسفعه النار": أي تُعلم في وجهه علامةَّ، يقال: سفعتُ الشيءَ: إذا جعلت عليه علامةً، يريد: أثرًا من النار. انتهى.

وقال ابن الملك: "تسفعه": أي تلفحه لفحًا يسيرًا، فيتغيّر لون بشرته، وقيل: أي: تُعلّمه علامة، أي: أثَرَّا مَنها، وفي "القاموس":"سَفَعَ الشيءَ" كمنعه: أعلمه، ووَسمَهُ، وسَفَعَ السَّمُومُ وجهَهُ: لَفَحَهُ لَفْحًا يسيرًا، قال: ولفحت النار بحرّها: أحرقت. انتهى

(3)

.

(مَرَّةً) أخرى (فَإِذَا مَا) زائدة (جَاوَزَهَما) أي تَعَدّى النار التي آذته بحرّها وسمومها (الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تبَارَكَ) أي تقدّس، وتنزّه، وهي صفة خاصّة بالله تعالى، قاله المجد

(4)

. وقال القاري: "تبارك": تعظّم، وتعالى، أو تكاثر خيره. انتهى

(5)

. (الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ) هذا فَرَحٌ بما أُعطيه من النجاة من سَفْعِ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3535.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1194.

(3)

"القاموس المحيط" ص 218 وص 655.

(4)

المصدر السابق ص 839.

(5)

"المرقاة" 9/ 546.

ص: 242

النار (لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ) جواب قسم محذوف: أي والله لقد أعطاني الله (شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) أَقْسَم بالله تعالى من شدّة الفرح أنّ نجاته نعمة ما ظفر بها أحد من العالمين: أي ممن كان على مثل حاله الذين خلّفهم وراءه؛ إذ لم ير أهل الجنّة حتى يعرف أنهم أعطوا أفضل مما أُعطيه بكثير، وقال القاري: ولعلّ وجهه أنه ما رأى أحدًا مشاركًا له في خروجه من النار، ولم يدر أن الأبرار في دار القرار. (فَتُرْفَعُ) بالبناء للمفعول (لَهُ شَجَرَةٌ) أي عندها عين ماء كما يأتي في قوله:"وأشرب من مائها"(فَيَقُولُ: أَيْ) حرف نداء (رَبِّ) تقدّم أن فيه في حالة النداء ستّ لغات (أَدْنِنِي) بقطع الهمزة، أمرٌ من الإدناء رباعيًّا: أي قرّبني (مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة، فَلِأَسْتَظِلَّ) بكسر اللام الأولى، ونصب الفعل كذا في "المرقاة"، وتعقّبه بعض المحقّقين، فقال: ولا يخفى ما فيه، والصواب أن تُسَكّن اللام؛ لكونها للأمر مقرونةً بالفاء، ويُجزَم بها الفعل، وما عُطِف عليه، فإن أمر المتكلّم نفسه بفعل مقرون باللام فصيحٌ، ورد في الكتاب العزيز، والحديث الشريف، قال تعالى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وقال صلى الله عليه وسلم:"قوموا فلأصلِّ لكم"، متّفقٌ عليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التعقّب غير صحيح؛ إذ الظاهر أن الرواية بنصب الفعل، وتوجيهه ما ذكره الطيبيّ رحمه الله، قال: الفاء فيه سببتة، واللام مزيدة للتأكيد، أو عكسه. انتهى

(1)

.

وحاصل ما أشار إليه أن الفعل منصوب بـ "أن" مضمرةً بعد الفاء السببيّة الواقعة بعد الطلب، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضيْنِ "أَنْ" وَسَتْر حَتْمٌ نَصَبْ

وعلى هذا فاللام زائدة للتأكيد، أو الفعل منصوب بـ "أن" مضمرةً أيضًا بعد "لام كي"، وعلى هذا فالفاء زائدة للتأكيد، والله تعالى أعلم.

(بِظِلِّهَا) أي ظلّ تلك الشجرة (وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا) أي مسألتك، أو أُمنيّتك، وقوله:(سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟)

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3536.

ص: 243

جواب الشرط، وهو دالّ على خبر "لعلّ"

(1)

، وفي بعض النسخ:"إن أعطيتكها أن تسألني غيرها"(فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ) أي يجعله معذورًا، أي غير ملوم، وهو بفتح أوله، وكسر ثالثه، من العَذْر ثلاثيًّا، أو بضم أوله، وكسر ثالثه، من الإعذار رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: "عَذَرْتُهُ فِيما صَنَعَ عَذْرًا، من باب ضَرَبَ: رَفَعتُ عنه اللَّوْمَ، فهو معذورٌ: أي غير ملوم، والاسم الْعُذْرُ، وتُضَمّ الذال للاتباع، وتُسَكَّن، والجمع أعذار، قال: وأعذرته بالألف لغة، واعتذر: أي طَلَب قبول معذرته، واعتذر عن فعله: أظهر عُذْره. انتهى

(2)

.

(لِأَنَّهُ) أي العبد (يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله رحمه الله: كذا هو في الأصول في المرتين الأُوليين، وأما الثالثة فوقع في أكثر الأصول:"ما لا صبر له عليها"، وفي بعضها:"عليه"، وكلاهما صحيحٌ، ومعنى "عليها" أي نعمةً لا صبر له عليها: أي عنها. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: معنى كلام النوويّ رحمه الله أن "ما" عبارة عن نعمة، و"على" بمعنى "عن"، والله تعالى أعلم.

(فَيُدْنِيهِ) أي يقرّبه (مِنْهَا) أي من تلك الشجرة (فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، ويَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أي أخرى (هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى) لأن ربّه سبحانه وتعالى أراد له الترقّي من الأدنى إلى الأعلى (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ) وفي نسخة: "يا ربّ"(أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ؛ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا) قال القاري رحمه الله: الواو لمطلق الجمع؛ لأن الظاهر أن الاستراحة بظلِّها قبل الشرب من مائها. انتهى

(4)

. (لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: هو حالٌ تنازع فيه "أستظلّ"، و"أشرب" (فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْألَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ) أي الربّ سبحانه وتعالى الَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا، تَسْأَلُنِي) بالرفع: أي تطلب منّي (غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْه، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ

(1)

"المرقاة" 9/ 546.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 398.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 42.

(4)

"المرقاة" 9/ 547.

ص: 244

بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أي ثالثة (عِنْدَ بَابِ الْجَنَّة، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْن، فَيَقُولُ: أَيْ رَب أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ؛ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: منصوب المحلّ بفعل يفسّره ما بعده: أي أسألك هذه، وقوله:(لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، أو مستأنفة (وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ) ولفظ أبي عوانة:"والربّ يعلم أنه سيسأله غيرها"(لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا) وفي بعض النسخ: "عليه"، وقد سبق توجيه الوجهين قريبًا (فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا، فَيَسْمَعُ) وفي نسخة: "فسَمِعَ"(أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أي في مؤانستهم مع أزواجهم، أو في محاورتهم مع أصحابهم، فأراد الاستئناس بهم، أو في غنائهم، فأراد التقرّب ليلتذّ بأنغامهم (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا، فيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الياء، وإسكان الصاد المهملة، ومعناه: يَقْطَع مسألتك مني، قال أهل اللغة:"الصَّرْيُ" بفتح الصاد، وإسكان الراء: هو القطع، ورُوي في غير "صحيح مسلم":"ما يَصْرِيك مني؟ "، قال إبراهيم الحربيّ: هو الصواب، وأنكر الرواية التي في "صحيح مسلم" وغيره:"ما يَصْرِيني منك"، قال النوويّ: وليس هو كما قال، بل كلاهما صحيح، فإن السائل متى انقَطَع من المسؤول انقَطَع المسؤول منه، والمعنى: أَيُّ شيء يُرْضِيك، وَيقْطَع السؤال بيني وبينك؟. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما يصريني منك؟ ": أي ما يقطع مسألتك، ويمنعك من سؤالي؟ يقال: صَرَيتُ الشيءَ: إذا قَطعته، وصَرَيتُ الماء، وصَرّيته: إذا جمعته، وحَبَسته، وقال التوربشتيّ رحمه الله: صَرَى الله عنه شَرّه: إذا رَفَعَه، وصَرَيته: منعته، وصَرَيتُ ما بينهم صَرْيًا: أي فَصَلتُ، يقال: اختصمنا إلى الحاكم، فصَرَى ما بيننا: أي قَطَعَ ما بيننا وفَصَلَ، وحسن أن يقال: ما يفصل بيني وبينك؟.

والمعنى هنا: ما الذي يُرضيك حتى تترك مناشدتك؟ فقد أجبتك إلى ما سألت كرّةً بعد كرّة، وأخذتُ ميثاقك أن لا تعود، ولا تسأل غيره، وأنت لا

ص: 245

تفي بذلك، فما الذي يَفصِل بيني وبينك في هذه القضيّة؟ ففيه بيان فضل الله العظيم على عباده، وسعة رحمته وكرمه وبرّه ولطفه بهم، حيث يُخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على الاستزادة، فما أكرم جوده الجسيم، وما أعظم برّه العميم!.

(أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ") ولفظ أبي عوانة: "وأنت ربّ العزّة"، إنما قال هذا لغلبة الفرح والسرور عليه، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الكلام صادرٌ عنه، وهو غير ضابط لما قال من شدّة السرور ببلوغ ما لم يَخطُر بباله، فلم يضبط لسانه دهشةً وفَرَحًا، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، ونحوُهُ ما جاء في حديث التوبة من قول الرجل لَمّا وجد راحلته، وما حملته:"اللهم أنت عبدي، وأنا ربّك"، متّفقٌ عليه.

(فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ: أَلَا) بالتخفيف: أداة تحضيض (تَسْأَلُونِّي) قال القاري رحمه الله: بتشديد النون، وتخفف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القاري من الضبط بالوجهين يعتمد على صحة الرواية بهما، فإن صحّت بأحدهما فهو المعتمد، ولم أجد من حقّق الرواية، غير أن النُّسخ مضبوطة بالقلم بالتشديد، والله تعالى أعلم.

(مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

قال التوربشتيّ: الضحك من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانا متّفقين في اللفظ، فإنهما متباينان في المعنى، وذلك أن الضحك من الله سبحانه وتعالى يُحمل على كمال الرضا عن العبد، هارادة الخير ممن يشاء أن يرحمه من عباده. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله التوربشتيّ من معنى ضحك الله سبحانه وتعالى تفسير باللازم، يريد بذلك أن الضحك مجاز، وليس حقيقةً، وهذا غير صحيح،

(1)

"المرقاة" 9/ 549.

ص: 246

فالحقّ، والصواب أن الضحك ثابت لله سبحانه وتعالى حقيقةً على ما يليق بجلاله، وقد تقدّم البحث مستوفًى، فلا تك من الغافلين، والله تعالى أعلم.

وقال البيضاويّ: إنما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجابًا، وسرورًا بما رأى من كمال رحمة الله تعالى، ولطفه على عبده المذنب، وكمال الرضا عنه، وأما ضَحِك ابن مسعود رضي الله عنه فكان اقتداءً بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب في بيان سبب ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي ثبت عنه، لا ما قاله البيضاويّ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم بيان سببه هنا لَمّا قالوا له: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: "من ضَحِك رب العالمين"، فهل بعد بيانه صلى الله عليه وسلم بيان؟، هيهات هيهات، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، والله تعالى أعلم.

(حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ") ولفظ أبي عوانة: "ولكني على ما أشاء قدير".

قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: لم استدركه؟، قلت: عن مقدّر، فإنه تعالى لَمّا قال له:"أيرضيك أن أُعطيك الدنيا، ومثلها معها؟ "، فاستبعده العبد؛ لِمَا رأى أنه ليس أهلًا لذلك، وقال:"أتستهزئ بي؟ " قال سبحانه وتعالى له: نعم كنتَ لست أهلًا له، لكني أجعلك أهلًا له، وأُعطيك ما استبعدته؛ لأني على ما أشاء قادر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[89/ 470](187)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 391 - 392 و 410 - 411)، (وأبو يعلى) في "مسنده" (4980

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3537.

ص: 247

و 5290)، و (الدارميّ) في "الردّ على المريسيّ"(ص 532)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 231 و 318 - 319)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7427 و 7430 و 7431)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(372 و 373)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(467)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9775)، و (ابن منده) في "الإيمان"(841)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 474)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4355)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(90) - (بَابُ بَيَانِ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فِيهَا)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يقدّم هذه الأحاديث الأربعة التي أوردها في بيان معرفة منزلة آخر أهل الجنة قبل حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يُدخل الله أهل الجنة الجنة

"؛ لتتّسق أحاديث الشفاعة، كما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[471]

(188) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَبِي بُكَيْرٍ

(1)

، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْن محَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، رَجُلٌ صَرَفَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّة، وَمَثَّلَ لَه شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ

(2)

، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَة، أَكُونُ فِي ظِلِّهَا

(3)

"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ

(4)

، وَلَمْ يَذْكرْ:"فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ "

(1)

وفي نسخة: "حدّثني يحيى - يعني ابن أبي بكير -".

(2)

وفي نسخة: "يا ربّ".

(3)

وفي نسخة: "لأكون في ظلّها".

(4)

وفي نسخة: "بمثل حديث ابن مسعود".

ص: 248

إِلَى آخِرِ الْحَدِيث، وَزَادَ فِيهِ: "وَيُذَكِّرُهُ اللهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ: هُوَ لَكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِه، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ

(1)

زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِين، فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا، وَأَحْيَانَا لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أُعْطيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر - بفتح النون، وسكون المهملة - الأسدي القيسي، أبو زكريا الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9].

رَوَى عن حريز بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإبراهيم بن نافع المكي، وإسرائيل، وزائدة، وزهير بن محمد، وزهير بن معاوية، وشعبة وسفيان، وأبي جعفر الرازي، وغيرهم.

وروى عنه حفيده عبد الله بن محمد بن يحيى، وعبد الله بن الحارث البغدادي، وأبو بكر بن أبي شيبة، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ، ومحمد بن أحمد بن أبي خَلَف، وأبو خيثمة، وأبو موسى، وأحمد بن سعيد الدارمي، وغيرهم.

قال الأثرم عن أحمد: كان كَيّسًا. وقال حرب بن إسماعيل: سمعت أحمد يُثْنِي عليه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: قال علي ابن المديني: ابن أبي بكير ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد المائتين. وقال أبو موسى: مات سنة ثمان. وقال ابن قانع: مات سنة تسع ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) التَّمِيميّ، أبو المنذر الْخُرَاسانيّ المروزيّ الخرقي من أهل قرية من قرى مَرْوَ، تُسَمَّى خرق، ويقال: إنه من أهل هَرَاة، ويقال:

(1)

وفي نسخة: "فتدخل فيه".

ص: 249

من أهل نيسابور، قَدِمَ الشام، وسَكَنَ الحجاز، ثقةٌ إلا في رواية أهل الشام عنه، فإنها ضعيفة

(1)

[7].

رَوَى عن زيد بن أسلم، وشَريك بن أبي نَمِر، وعاصم الأحول، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل، ومحمد بن المنكدر، وموسى بن عُقبة، وموسى بن وَرْدان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، وسُهيل بن أبي صالح، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو داود الطيالسيّ، ورَوْح بن عُبادة، وأبو عامر الْعَقَديّ، وعبد الرحمن بن مَهْديّ، والوليد بن مسلم، ويحيى بن أبي بُكَير الكرمانيّ، وأبو عاصم، وأبو حذيفة، وغيرهم.

قال حنبل عن أحمد: ثقةٌ، وقال أبو بكر المروزيّ عن أحمد: لا بأس به، وقال الْجُوزَجَانيّ عن أحمد: مستقيم الحديث، وقال الميمونيّ عن أحمد: مقارَبُ الحديث، وقال البخاريّ: قال أحمد: كأن زهيرًا الذي رَوَى عنه أهل الشام زهيرٌ آخر، قال البخاريّ: ما رَوَى عنه أهلُ الشام فإنه مناكير، وما رَوَى عنه أهل البصرة، فإنه صحيح، وقال الأثرم عن أحمد: في رواية الشاميين عن زهير يروون عنه مناكير، ثم قال: أما رواية أصحابنا عنه فمستقيمة، عبد الرحمن بنِ مهديّ، وأبي عامر، وأما أحاديث أبي حفص ذاك التِّنِّيسيّ عنه، فتلك بواطيل موضوعة، أو نحو هذا، فأما بواطيل فقد قاله، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالحٌ لا بأس به، وقال عثمان عن يحيى: ثقةٌ، وقال معاوية، عن يحيى: ضعيفٌ، وقال العجليّ: جائز الحديث، وذكره أبو زرعة في أسامي الضعفاء، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حفظه سُوءٌ، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق؛ لسوء حفظه، فما حدَّث به من حفظه ففيه أغاليط، وما حدَّث من كتبه فهو صالحٌ، وقال عثمان الدارميّ، وصالح بن محمد: ثقةٌ صدوقٌ، زاد عثمان: وله أغاليط كثيرة، وقال النسائيّ: ضعيفٌ،

(1)

هذا هو الذي يظهر لي من ترجمته، وإلا فظاهر التقريب أنه ذكر تضعيفه بسبب رواية أهل الشام عنه، ولم يذكر أنه ثقة، ولا صدوق، وهذا من الغريب، والله تعالى أعلم.

ص: 250

وقال في موضع آخر: ليس بالقويّ، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وعند عمرو بن أبي سلمة - يعني: التَّنِّيسيّ - عنه مناكير، وقال يعقوب بن شيبة: صدوقٌ صالحُ الحديث، وقال أبو عروبة الْحَرّانيّ: كأن أحاديثه فوائد، وقال ابن عديّ: ولعل أهل الشام أخطئوا عليه، فإنه إذا حدّث عنه أهل العراق، فروايتهم عنه شبه المستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به، وقال موسى بن هارون: أرجو أنه صدوقٌ، وقال الحاكم أبو أحمد: في حديثه بعض المناكير، وفي "تاريخ نيسابور" بإسناد عن عيسى بن يونس، ثنا زُهير بن محمد، وكان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، ويخالف، وقال الساجيّ: صدوق، منكر الحديث، وقال العجليّ: لا بأس به، وهذه الأحاديث التي يرويها أهل الشام عنه ليست تُعجبني.

وذكره البخاري في فصل من مات من الخمسين ومائة إلى الستين، ذكر ابن قانع أنه مات سنة (162).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (188)، وحديث (211): "إن أدنى أهل النار عذابًا

".

4 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السّمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقة [6] مات في خلافة المنصور (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

5 -

(النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ)

(1)

الزرقيّ الأنصاريّ، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [4](خ م ت س ق) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 484، والصحابيّ تقدّم قريبًا، وكذا شرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي، وإنما أشرح بعض ما يُشكلُ وما زاد عليه، فأقول:

قوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الضمير لأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ؟ "فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ

إلخ) يعني أن أبا سعيد رضي الله عنه

(1)

أبو عَيّاش - بالشين المعجمة - الزرقيّ الأنصاريّ الصحابيّ المعروف، اختُلف في اسمه، قيل: زيد بن الصامت، وقيل: زيد بن النعمان، وقيل: عُبيد، وقيل: عبد الرحمن. انتهى. "شرح النوويّ" 3/ 43.

ص: 251

لم يذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "فيقول: يا ابن آدم

" إِلَى آخِرِ الْحَدِيث، فقوله: "فيقول

إلخ " مفعول به لـ "يذكُر" محكيّ؛ لقصد لفظه.

وقوله: (وَزَادَ فِيهِ: "وَيُذَكِّرُهُ اللهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا) يعني أن أبا سعيد رضي الله عنه زاد على حديث ابن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ويذكّره الله

إلخ"، فقوله: "ويذكّره الله

إلخ " مفعول زاد، محكيّ، كسابقه، وهو بتشديد الكاف، من التذكير، بمعنى يُعلمه، وقوله: "سل كذا وكذا" مقول لقول مقدّر حال من فاعل "يذكّر": أي يذكّره قائلًا: سل

إلخ.

وقوله: (الأَمَانِيُّ) بفتح الهمزة: جمع أمنيّة بضمها، وهي ما يتمنّاه الإنسان: أي يقصده.

وقوله: (ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ) أي قصره الذي أُعدّ له في الجنّة.

وقوله: (زوْجَتَاهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ثبت في الروايات والأصول "زوجتاه " بالتاء، تثنية زوجة بالهاء، وهي لغة صحيحة معروفة، وفيها أبيات كثيرة من شعر العرب، وذكرها ابن السّكّيت، وجماعات من أهل اللغة. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنَ الْحُورِ الْعِينِ) قال ابن الأثير رحمه الله: هنّ نساء أهل الجنّة، واحدتهنّ حَوْرَاء، وهي الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَتَقُولَانِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بالتاء المثنّاة من فوقُ، وإنما ضَبَطتُ هذا، وإن كان ظاهرًا؛ لكونه مما يَغْلَط فيه بعضُ مَن لا يميز، فيقوله بالمثنّاة من تحتُ، وذلك لحن، لا شكّ فيه، قال الله تعالى:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: 122]، وقال تعالى:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص: 23]، وقال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، وقال تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} [الرحمن: 50]. انتهى كلامه

(3)

.

وقوله: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا، وَأَحْيَانَا لَكَ) معناه: الذي خلقك

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 44.

(2)

"النهاية" 1/ 458.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 44.

ص: 252

لنا، وخلقنا لك، وجمع بيننا في هذه الدار الدائمة السرور، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا الذي أحاله المصنّف رحمه الله على حديث ابن مسعود رضي الله عنه ساقه الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 142)، فقال:

(424)

حدثنا عباس الدُّوريّ، والصغانيّ، ومحمد بن إسماعيل الصائغ، بمكة، قالوا: ثنا يحيى بن أبي بُكير، قال: ثنا زُهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عَيّاش، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً، رجلٌ صَرَفَ اللهُ وجهه عن النار قِبَلَ الجنة، ومَثَّل له شجرةً، ذات ظلّ، فقال: أي رب قَدِّمني إلى هذه الشجرة، أكونُ في ظلها، وآكل من ثمرها، قال الله له: فهل عسيتَ إن أعطيتك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا، وعِزَّتك، فيُقَدِّمه الله إليها، فتُمَثَّلُ له شجرة أخرى، ذات ظلّ، وثمرة، وماء، فيقول: أي ربّ قَدِّمني إلى هذه الشجرة، أكونُ في ظلها، وآكل من ثمرها، وأشرب من مائها، فيقول له: هل عسيتَ إن فعلتُ أن تسألني غيره؟ فيقول: لا، وعزّتك، لا أسألك غيره، فَيَبْرُز له باب الجنة، فيقول: أي ربّ قَدِّمني إلى باب الجنة، فأكون تحت نِجَاف

(1)

الجنة، فأنظر إلى أهلها، فيُقَدِّمه الله إليها، فيرى أهل الجنة، وما فيها، فيقول: أي رب أدخلني الجنة، فيدخله الله الجنة، فإذا دخل الجنة، قال: هذا لي، فيقول الله له: تَمَنَّ فيتمنى، ويُذَكِّره الله: سَلْ من كذا، سَلْ من كذا، حتى إذا انقطعت به الأَمَانيّ، قال الله له: هو لك، وعشرة أمثاله، ثم يدخل الجنة تَبْدُر

(2)

عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، فيقول: ما أعطي أحدٌ مثل ما أعطيتُ".

(1)

قيل: هو أُسْكُفّة الباب، وقال الأزهريّ: أعلاه. انتهى. "النهاية" 5/ 22، وقال المجد رحمه الله:"النَّجَف" محرَّكةً وبهاء: مكانٌ لا يعلوه الماءُ، مستطيل، مُنقادٌ، ويكون في بطن الوادي، وقد يكون ببطن من الأرض، جمعه: نِجَافٌ - بالكسر - أو هي أرضٌ مستديرة مشرفةٌ على ما حولها. انتهى. "القاموس المحيط" ص 769.

(2)

يقال: بَدَرَ إلى الشيء بُدُورًا، وبادر إليه مبادرةً، وبِدَارًا، من باب قَعَدَ، وقاتل: أسرع. انتهى. "المصباح" 1/ 38.

ص: 253

قال الصائغ في حديثه: "الحمد لله الذي خَبَأَك لنا، وخَبَأَنا لك".

انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الْخُدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 471](188)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 27)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(424)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(468)، و (ابن منده) في "الإيمان"(840)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[472]

(189) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، وَابْنِ أَبْجَرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، رِوَايَةً - إِنْ شَاءَ اللهُ - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ

(2)

، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ، يُخْبِرُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ عَلَى الْمِنْبَر، يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

قَالَ:

(3)

وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَم، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثنَا مُطَرِّفٌ، وَابْنُ أَبْجَرَ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَر، قَالَ سُفْيَانُ: رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا - أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ - قَالَ: "سَألَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ

(1)

"مسند أبي عوانة" 1/ 142 رقم (424).

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا سفيان".

(3)

ثبتت علامة التحويل (ح) هنا في بعض النسخ، بدل قوله:"قال".

ص: 254

الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ، وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أترْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِه، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبّ، قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية [السجدة: 17] ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ)

(1)

الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" جـ 4 ص 19.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(بِشْر بْنُ الْحَكَمِ) بن حَبيب بن مِهْرَان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن النيسابوريّ، ثقةٌ زاهدٌ فقيهٌ [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكّيّ، ثقة ثبتٌ حافظٌ حجةٌ إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة) " جـ 1 ص 383.

5 -

(مُطَرِّفُ) - بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة - (ابْنُ طَرِيفٍ) - بفتح أوله، وكسر ثانيه - الحارثيّ، ويقال: الخارفيّ، أبو بكر، يقال: أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6].

رَوَى عن الشعبي، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وحبيب بن أبي ثابت، وسليمان بن الجهم، وسلمة بن كهيل، وعطية العوفي، وغيرهم.

(1)

بالثاء المثلّثة بعد العين المهملة: منسوبٌ إلى جدّه الأشعث.

ص: 255

ورَوَى عنه أبو عوانة، وهشيم، وأبو جعفر الرازي، وعليّ بن مسهر، وغيرهم.

قال أحمد وأبو حاتم: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: قلت لأحمد: أصحابُ الشعبي مَنْ أحبهم إليك؟ قال: ليس عندي فيهم مثل إسماعيل بن أبي خالد، قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال: مطرف، وقال في موضع آخر: الشيبانيّ، ومطرف، وحصين، هؤلاء ثقات. وقال مرة عن أبي داود: بَيَانٌ فوق مُطَرّف، ومطرف ثقة، وابن أبي السَّفَر دونه، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الشافعي قال: ما كان ابن عيينة بأحد أشد إعجابًا منه بمطرف. وقال علي ابن المديني: حدثنا سفيان، حدثنا مُطَرِّف، وكان ثقة. وقال محمد بن عمرو الباهلي عن ابن عيينة: قال مطرف: ما يُسرني أني كذبت كذبةً، وأن لي الدنيا وما فيها. وقال داود بن عُلْبَة: ما أعرف عربيًّا ولا عجميًا أفضل من مُطَرِّف بن طَرِيف. وقال العجليّ: صالح الكتاب، ثقة ثبت في الحديث، ما يُذكر عنه إلا الخير في المذهب. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق، وليس بثبت. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت. قال ابن حبان: مات سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل: سنة اثنتين وأربعين. وقال البخاري: قال عبد الله بن الأسود، عن أبي عبد الله البَجَليّ: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثلاث وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (154) و (189)(1161) و (1599) و (1961) و (2049) وأعاده بعده، و (2586) و (2685).

6 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ) بن حيّان - بالتحتانيّة - ابن أبجر - بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، وفتح الجيم - الْهَمْدَانيّ، ويقال: الكنانيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [5]

(1)

.

رَوَى عن أبي الطّفَيل، وعكرمة، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وطلحة بن مُصَرِّف، وواصل الأحدب، والشعبيّ وأبي رَزِين لَقِيط، وغيرهم.

(1)

جعله في "التقريب" من السادسة، والصواب ما هنا؛ لأنه سمع من أبي الطفيل، وهو صحابيّ، كما نبّه عليه النوويّ رحمه الله في "شرحه" 3/ 44.

ص: 256

ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، والثوريّ، وزهير بن معاوية، وعبد الله بن إدريس، وعبيد الله الأشجعيّ، وابن عيينة، وأبو أسامة، وغيرهم.

قال البخاريّ، عن عليّ: له نحو أربعين حديثًا، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: عبد الملك بن أبجر ثقةٌ، وقال سفيان: حدثنا مَن لم تَرَ عيناك مثله ابنُ أبجر، وقال أيضًا: هو من الأبرار، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: هو أحبّ إلينا من إسرائيل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن إدريس: قال لي الأعمش: ألا تَعْجَبُ من عبد الملك بن أبجر، جاء رجل، فقال: إني لم أَمْرَض قطّ، وأنا أشتهي أن أَمْرَض، قال؛ كُلْ سَمَكًا مالِحًا، واشرب نَبِيذًا مَرِيسًا واقعُد في الشمس، واستمرض الله، قال: فجعل الأعمش يَضْحَك، ويقول: كأنما قال له: استَشْفِ الله، وقال العجليّ: كان ثقةً ثبتًا في الحديث، صاحب سنة، وكان من أطبّ الناس، فكان لا يأخذ عليه أجرًا، وَلَمّا حضرت الثوريّ الوفاة أوصى أن يُصَلّي عليه ابنُ أبجر، وكان الثوريّ يقول: بالكوفة خمسةٌ، يزدادون كل يوم خيرًا، فعَدّه فيهم، قال: وكانت به قُرْحةٌ لو كانت بالبعير لَمَا أطاقها، فكانوا إذا سألوه عنها، قال: ما أرضاني عن الله عز وجل، وقال يعقوب بن سفيان: كان من خيار الكوفيين، وثقاتهم.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (189) و (869) و (996) و (1265).

7 -

(الشَّعْبِيِّ) هو: عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت بعد المائة) عن نحو (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

8 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم قبل الحديبية، ووليَ إفرة البصرة، ثم الكوفة، مات رضي الله عنه سنة (50) على الصحيح (ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه: ابن أبي عمر، فمكيّ، وبشر، فنيسابوريّ، كما تقدّم آنفًا.

ص: 257

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن أبجر، عن الشعبيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "يرفعه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية: "رفعه" قد تقدّم أن هذا، وكذا قولهم:"روايةً"، أو "يَنْمِيه"، أو "يَبْلُغ به" كلها ألفاظ موضوعة عند أهل الحديث لإضافة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، فكلّها مرفوعة حكمًا، بمعنى:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك.

وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَهَكَذَا "يَرْفَعُهُ""يَنْمِيهِ"

"رِوَايَةً""يَبْلُغْ بِهِ""يَرْوِيهِ"

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُطَرِّفٍ) بن طَرِيف (وَابْنِ أَبْجَرَ) هو: عبد الملك بن سعيد الآتي بعدُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، رِوَايَةً) أي حال كونه ينقله نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله:(إِنْ شَاءَ اللهُ) هذا الشكّ والاستثناء في هذا الطريق لا يضرّ في صحّة الحديث؛ لأنه جزم به في الروايات الباقية

(1)

.

وقوله: (عَنِ الْمُغِيرَةِ) تقدّم أنه يقال: بضم الميم، وكسرها، لغتان، والضم أشهر

(2)

(بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه (قَالَ) أي الشعبيّ (سَمِعْتُهُ) أي المغيرة رضي الله عنه (عَلَى الْمِنْبَرِ) متعلّق بحال محذوف، أي حال كونه قائمًا، وقوله:(يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال أيضًا، إما مترادفان، أو متداخلان.

وقوله: (قَالَ) الفاعل ضمير المصنّف رحمه الله، وفي نسخة مكتوب بدل "قال" علامة التحويل (ح)، وقوله:(وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ) في محلّ نصب مقول "قال"، وقوله:(وَاللَّفْظُ لَهُ) أي لفظ متن الحديث المسوق هنا لشيخه بشر بن الحكم، وأما سعيد، وابن أبي عمر، فروياه بالمعنى، وقوله:(قَالَ سُفْيَانُ) أي ابن عيينة (رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا) أي رفع الحديث، ونسبه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 45.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 46.

ص: 258

أحد شيخيه: مطرِّف، أو ابن أبجر، وهو عبد الملك بن سعيد بن حيّان بن أبجر، وقوله:(أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ) أي أظنّ الذي رفعه هو ابن أبجر.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن أحدهما رفعه، وأضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر وقفه على المغيرة، فقال:"عن المغيرة قال: سأل موسى عليه السلام"، والضمير في "أحدهما" يعود على مُطَرِّف، وابن أبجر، شيخي سفيان، فقال أحدهما:"عن الشعبيّ، عن المغيرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سأل موسى عليه السلام"، وقال الآخر:"عن الشعبيّ، عن المغيرة قال: سأل موسى عليه السلام"، قال: ثم إنه يحصل من هذا أن الحديث رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا، وقد قدمنا في الفصول المتقدّمة في أول الكتاب أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه الفقهاء، وأصحاب الأصول، والمحققون من المحدثين، أن الحديث إذا رُوي متصلًا، ورُوي مُرسلًا، ورُوي مرفوعًا، ورُوي موقوفًا، فالحكم للموصول والمرفوع؛ لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير، من أصحاب فنون العلوم، فلا يقدح اختلافهم ههنا في رفع الحديث ووقفه، لا سيما وقد رواه الأكثرون مرفوعًا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله من تقديم المرفوع والموصول دائمًا، ونسبه إلى الجماهير، وإلى المحقّقين، قد تقدّم الردّ عليه، وأن مذهب المحقّقين، والحفّاظ المتقنين، كشعبة، والقطان، وابن مهديّ، وابن حنبل، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وابن خزيمة، والدارقطنيّ، وغيرهم من نَقَدَة الأخبار، والجهابذة الأحبار أنهم لا يُطلقون القول في ذلك، بل يسلكون مسلك التدقيق، والبحث عن القرائن المحتفّة بالحديث، فإذا ترجّح لديهم أحد الأمرين قدّموه، سواء كان الرفع، والوصل، أو الوقف، والإرسال.

والحاصل أن لهم دراسة خاصّة في كلّ حديث يحكمون بما يترجّح لديهم، وأما القول: بالإطلاق الذي قاله النوويّ، فإنه ليس مذهب المحقّقين، وإنما سلكه بعض أهل العلم، وهو الذي يسلكه دائمًا ابن حبّان، وابن حزم،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 45.

ص: 259

والنوويّ، ونحوهم، فتبصّر، ولا تسلك مسلك التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (سأَلَ مُوسَى) النبيّ؛ (رَبَّهُ) سبحانه وتعالى (مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟) كذا هو في الأصول "ما أدنى"، وكان الظاهر أن يقال:"من أدنى"؛ لأنه سؤال عن الشخص، لكن هذا أيضًا صحيح؛ لأنه يُحمل على أن السؤال عن الصفة، فعبّر بـ "ما"، فيكون معناه: ما صفة، أو ما علامة أدنى أهل الجنة؟

(1)

(قَالَ) الله سبحانه وتعالى (هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ) بالبناء للمفعول (أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي يتفضّل الله عليه، فيأمره أن يدخل الجنّة (فَيَقُولُ) الرجل (أَيْ رَبِّ) أي يا ربّ (كَيْفَ) أي كيف أدخل الجنة، ولا مكان فيها؟ (وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟) قال ابن الأثير: بفتح الهمزة، والخاء: أي نزلوا منازلهم. انتهى

(2)

. وقال القاضي عياض رحمه الله: بفتح الهمزة والخاء: جمع أَخْذَة، وهو ما أخذوه من كرامة مولاهم، وحَصّلوه، أو يكون معناه قَصَدُوا مقاصدهم، وساروا سُبُلهم إلى منازلهم، قال: وذكره ثعلب بكسر الهمزة، يقال: ما أخَذَ إِخْذه: أي ما قصد قصده، وإِخْذُ القوم: طريقهم، وسبيلهم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن عطف جملة "وأخذوا" على ما قبلها للتأكيد، والله تعالى أعلم.

(فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ) بحذف حرف النداء، أي يا ربّ (فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِه، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ) يقال: لَذّ الشيءُ يَلَذُّ، من باب تَعِبَ لَذَاذًا، ولَذَاذَةً بالفتح: صار شَهيًّا، فهو لَذّ، ولَذِيذٌ، ولَذِذْتُهُ أَلَذّهُ: وجدته كذلك، يتعدّى، ولا يتعدّى

(4)

، وما هنا من المتعدّي، وحُذف مفعوله؛ لكونه فضلة: أي لذّته عينك (فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبّ، قَالَ) موسى عليه السلام (رَبِّ) أي يا ربّ

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 45 - 46.

(2)

"النهاية" 1/ 29.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 820.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 552.

ص: 260

(فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟) أي فما أعلى أهل الجنّة منزلة؟، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده":"أي ربّ، فأيّ أهل الجنّة أرفع منزلةً؟ "(قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ) بضم التاء للمتكلّم، ومعناه: اخترتُ واصطفيتُ، قاله النوويّ، وفي رواية أبي عوانة:"قال: إياها أردتُ، وسأحدّثك عنهم"(غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: معناه اصطفيتهم، وتوليتهم، فلا يتطَرَّق إلى كرامتهم تغيير. انتهى.

(فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) حُذِف مفعول هذه الأفعال اختصارًا؛ للعلم به، تقديره:"ما أكرمتهم به، وأعددته لهم".

(قَالَ) الضمير للشعبيّ رحمه الله، كما بيّنته رواية ابن منده، ولفظه:"قال الشعبيّ"، فبيانها في كتاب الله القرآن:{فَلَا تَعْلَمُ} الآية

(1)

، وستأتي الرواية في التنبيه الآتي (وَمِصْدَاقُهُ) بكسر الميم: أي دليله، وما يُصَدّقه (فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل) قوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} الآية [السجدة: 17]) أي فلا يعلم أحدٌ عظمة ما أخفى الله تعالى لهم في الجنّات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطّلع على مثلها أحدٌ، لَمَّا أَخْفَوا أعمالهم أخفى الله لهم من الثواب جزاءً وفاقًا، فإن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن رحمه الله: أخفى قوم عملهم، فأخفى الله تعالى لهم ما لم تَرَ عينٌ، ولم يخطر على قلب بشر

(2)

.

ومعنى "أُخِفي": خُبِئ، وسُتِر، و"القرّة": بمعنى: اسم الفاعل: أي ما يَحصُلُ به القَرِير: أي الفَرَح والسرور، أي فلا يلتفتون إلى غيره.

فقوله: {أُخْفِيَ} فيه قراءتان سبعيّتان: قرأ حمزة {أُخْفِيَ} فعلًا مضارعًا مسندًا لضمير المتكلّم، فلذلك سُكّنت ياؤه؛ لأنه مرفوع، وقرأ الباقون (أخفيَ) فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، فمن ثَمّ فُتِحت ياؤه.

و"ما" يَحْتَمِل أن تكون موصولةً: أي لا تَعلَم الذي أخفاه الله تعالى.

ويَحْتَمِلُ أن تكون استفهاميّةً معلِّقَةً لـ {تَعْلَمُ} ، فإن كانت متعدّية لاثنين سدّت مسدّهما، أو لواحد سدّت مسدّه، وإذا كانت استفهاميّة فعلى قراءة من

(1)

"الإيمان لابن منده" 2/ 822 رقم (846).

(2)

راجع: "تفسير ابن كثير" 11/ 98.

ص: 261

قرأ ما بعدها فعلًا ماضيًا تكون في محلّ رفع بالابتداء، والفعل بعدها الخبر، وعلى قراءة من قرأه مضارعًا تكون مفعولًا مقدّمًا، و {مِنْ قُرَّةِ} حال من "ما"، أفاده السمين الحلبيّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: في معنى هذا الحديث ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سَمِعَت، ولا خَطَر على قلب بشر - ذُخْرًا بَلْهَ ما أُطْلِعتُم عليه - ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17] "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 472 و 473](189)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3198)، و (الحميديّ) في "مسنده"(761)، و (الطبريّ) في "تفسيره "(21/ 104)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 70 - 71)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6216 و 7426)، و (ابن منده) في "الإيمان"(845 و 846)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 989)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(425)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(469 و 470)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 317 - 318)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[473]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ عَبْدِ

(1)

راجع: "الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 9/ 87 - 88.

ص: 262

الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "إِنَّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ اللهَ عز وجل عَنْ أَخَسِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا حَظًّا"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ الْأَشْجَعِيُّ) هو: عبيد الله بن عُبيد الرحمن

(1)

، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ، أثبتُّ الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

والباقون تقدّموا في السند السابق.

وقوله: (عَنْ أَخَسِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه بالخاء المعجمة، وبعدها السين المشدَّدة، وهكذا رواه جميعُ الرواة، ومعناه: أدناهم، كما تقدم في الرواية الأُخرى. انتهى

(2)

.

وقوله: (حَظًّا) منصوب على التمييز.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ) الضمير لعبيد الله الأشجعيّ، يعني أنه ساق تمام الحديث بنحو رواية سفيان بن عيينة الماضية.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الرواية تخالف الرواية السابقة، حيث إنها موقوفة على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وقد رجّح العلماء المرفوع، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخراجه ما نصّه: ورواه بعضهم عن الشعبيّ، عن المغيرة، ولم يرفعه، والمرفوع أصحّ. انتهى

(3)

.

وما قاله الترمذيّ موافق لصنيع المصنّف رحمه الله، حيث أخرجه في "صحيحه، مقدّمًا المرفوع إشارةً إلى ترجيحه، وإنما أخرج الموقوف بيانًا للاختلاف، قال الحافظ ابن منده رحمه الله بعد إخراج الحديث ما نصّه: أخرجه

(1)

بتصغير اسمه، واسم أبيه.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 46 - 47.

(3)

راجع: "جامع الترمذيّ" في "التفسير" برقم (3198).

ص: 263

مسلم، عن أبي كريب، في إِثْر حديث ابن عيينة؛ لِيُبَيِّن الحديث الموقوف من المرفوع. انتهى

(1)

.

وهذا الاختلاف لا يضرّ في الصحّة، وذلك لأن ابن عيينة أوثق من الأشجعيّ، فزيادته مقبولة، وأيضًا إن الموقوف في مثل هذا له حكم المرفوع؛ لأن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ليس ممن اشتهر بالرواية عن أهل الكتاب، فيكون مما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: رواية الأشجعيّ التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية ابن عيينة، أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله في "الإيمان"(2/ 821)، فقال:

(846)

أخبرني أبي، حدثني أبي، ثنا أبو كريب، ثنا عبيد الله بن عبيد الرحمن

(2)

الأشجعيّ، ثنا عبد الملك بن أبجر، قال: سمعت الشعبيّ يقول: سمعت المغيرة بن شعبة، وهو على المنبر: "إن موسى؛ سأل الله عز وجل عن أخس أهل الجنة منها حظًّا، فقيل له: ذاك رجل يُؤْتَى، وقد دخل الناس الجنة، فيقال له: ادخل، فيقول: أين؟ وقد أخذ الناس أَخَذَاتهم، فيقال: اعْدُدْ أربعةً من ملوك الدنيا، فيكون لك مثل الذي كان لهم، ولك أخرى شهوةُ نفسك، فيقول: أشتهي كذا، وأشتهي كذا، ويقال: لك أخرى، لذةُ عينك، فيقول: أَلَذُّ كذا، وألذّ كذا، فيقال: لك عشرة أضعاف، ومثل ذلك، وسأله عن أعظم أهل الجنة فيها حظًّا، فقال: ذلك على ختمته عليه

(3)

يوم خلقتُ السموات والأرض، قال الشعبي: فبيانها في كتاب الله القرآنِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الإيمان" لابن منده 2/ 822 رقم (846).

(2)

لفظ "الرحمن" ساقط من النسخة.

(3)

كذا بالأصل "على ختمته"، ووقع في رواية عنده سابقة على هذه بلفظ:"ختمت عليها"، ولعل ما في هذه الرواية دخله التصحيف، والله تعالى أعلم.

ص: 264

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[474]

(190) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُويدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِه، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ

(1)

صِغَارُ ذُنُوبِه، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِه، أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْه، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ، لَا أَرَاهَا هَا هُنَا"، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور في الباب الماضي.

4 -

(الْمَعْرُورُ

(2)

بْنُ سُويدٍ) الأسديّ، أبو أُميّة الكوفيّ، ثقة [2] عاش مائة وعشرين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

5 -

(أَبُو ذَرٍّ) الْغِفَاريّ، جُندب بن جُنادة على الأصحّ الصحابيّ المشهور، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "فيعرض الله عليه".

(2)

بالعين المهملة، والراء المكرّرة.

ص: 265

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الْغِفاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ) أي فيها (وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ) خبر لمحذوف، أي هو رجل (يُؤْتَى بهِ) بالبناء للمفعول (يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيُقَالُ) بالبناء للمفعول أيضًا، أي يقول الله سبحانه وتعالى لملائكته (اعْرِضُوا عَلَيْهِ) بوصل الهمزة، وكسر الراء، من العرض ثلاثيًّا، قال المجد رحمه الله: عَرَضَ له كذا يَعْرِضُ - من باب ضرب -: ظهر عليه وبدا، كَعَرِضَ، كَسَمِعَ، وعَرَضَ له الشيءَ: أظهره له، وعَرَضَ عليه الشيءَ: أراه إيّاه. انتهى

(1)

. والمعنى الأخير هو المناسب هنا، أي أَرُوهُ (صِغَارَ ذُنُوبِه، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا) أي أخفوها عنه، واستروها عليه؛ لئلا يشتدّ خوفه، ويَقنط من رحمة الله تعالى، وفي رواية لأبي عوانة:"ويُخْبأ عنه كبارها"(فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"فَيَعْرِضُ الله عليه"(صِغَارُ ذُنُوبِهِ) وقوله: (فَيُقَالُ) بيان لمعنى العرض، وكيفيّته (عَمِلْتَ) بفتح أوله، وكسر ثانيه (يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أي في الوقت الفلانيّ، فالمراد باليوم مطلق الوقت (كَذَا وَكَذَا) أي من عمل السيّئات (وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا) أي من ترك الطاعات، وفي رواية لأبي عوانة: "فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا، وعمِلت يوم كذا وكذا، وعمِلت يوم كذا وكذا

(2)

ثلاث مرّات" (فَيَقُولُ) أي في كلّ منهما، أو بعدهما جميعًا، قاله القاري رحمه الله

(3)

. (نَعَمْ) أي عَمِلته (لَا

(1)

"القاموس المحيط" ص 580.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر أن فيه سقطًا، إذ حقّه أن يكون لفظه "عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا"، والله تعالى أعلم.

(3)

"المرقاة" 9/ 552.

ص: 266

يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ) شيئًا مما سئل عنه، والجملة مستأنفة، أو في محلّ نصب على الحال، وفي رواية أبي عوانة:"وهو مقرّ ليس بمنكر"(وَهُوَ مُشْفِقٌ) أي خائف، والجملة في محلّ نصب على الحال (مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِه، أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ)"أن" مصدريّة، والفعل مبنيّ للمفعول، والمصدر المؤوّل بدل من "كبار"، أي من عرضها عليه؛ لأن العذاب المترتّب عليها أكبر وأشدّ (فَيُقَالُ لَهُ) وفي رواية أبي عوانة:"فإذا أراد الله به خيرًا قال: أعطوه مكان كلّ سيّئة حسنة"(فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً) أي يبدّل الله تعالى بفضله، وكريم عفوه سيئاتك هذه حسنات، فتُعطى بدل كلّ سيّئة حسنةً.

قال القاري رحمه الله: هذا إما لكونه تائبًا إلى الله تعالى، وقد قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70].

قال: لكن يُشكل بأنه كيف يكون آخر أهل النار خروجًا؟، ويمكن أدى يقال: فَعَلَ بعد التوبة ذنوبًا استحقّ بها العقاب، وأما وقوع التبديل له فمن باب الفضل من ربّ الأرباب، قال: والثاني أظهر، ويؤيّده أنه حينئذ طمِعَ في كَرَم الله سبحانه وتعالى. انتهى

(1)

.

(فَيَقُولُ) الرجل لَمّا رأى سعة فضل الله تعالى، وعظيم إحسانه، مع كثرة إساءته إليه (رَبِّ) بحذف حرف النداء، أي يا رب، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحة الإعراب":

وَحْذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ: "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

(قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ) أي من كبار الذنوب (لَا أَرَاهَا هَا هُنَا") أي في صحائف الأعمال، أو في مقام التبديل، قال أبو ذرّ رضي الله عنه (فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) زاد في رواية لأبي عوانة: "ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].

و"النواجذ": جمع نَاجِذٍ، وهو السنّ بين الضِّرْس والناب، قال ثعلب: المراد الأنياب، وقيل: الناجذ آخر الأضراس، وهو ضِرسُ الْحُلُم؛ لأنه ينبُتُ

(1)

"المرقاة" 9/ 553.

ص: 267

بعد البلوغ، وكمال العقل، وقيل: الأضراس كلُّها نواجذ، قال في "البارع": وتكون النواجذ للإنسان، والحافر، وهي من ذوات الخفّ الأنياب. انتهى

(1)

.

وإنما ضَحِك النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّبًا من طمع الرجل في أن يعوّض من كبائره حسنات، بعد أن كان مشفقًا أشدّ الإشفاق على المؤاخذة بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 474 و 475](190)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2596)، وفي "الشمائل"(229)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 571 و 170)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7375)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(434 و 435)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(471)، و (ابن منده) في "الإيمان"(847 و 848 و 849)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 54)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4360)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[475]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، وَوَكِيعٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"ابن نمير": هو محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبو معاوية": هو: محمد بن خازم الضرير، و"وكيع": هو ابن الجرّاح، و"أبو بكر بن أبي شيبة": هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، و"أبو

(1)

"المصباح المنير" 2/ 593.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 268

كريب": هو محمد بن العلاء، و"الأعمش": هو سليمان بن مِهْران، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: [إن قلت]: لم لم يجمع المصنّف رحمه الله رحمه الله بين الأسانيد الثلاثة، فيقول: حدثنا ابن نمير، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، كلهم عن أبي معاوية، ووكيع، كلاهما عن الأعمش؟.

[قلت]: إنما لم يفعل ذلك؛ لأن شيوخه الثلاثة لم يتّفقوا في الرواية عن أبي معاوية، ووكيع كليهما، فابن أبي شيبة، لا يروي عن أبي معاوية، وأبو كريب لا يروي عن وكيع، وابنُ نمير روى عنهما جميعًا، فصنيع المصنّف رحمه الله هو الذي يفصّل هذا التفصيل، فلو سلك مسلك الجمع لأدّى إلى ظنّ أن الثلاثة يروون عنهما جميعًا مع أنه خلاف الواقع، وهذا من دقائق صنيع المحدّثين رحمهم الله، ولا سيّما المصنّف رحمه الله، فإن له منه الأحظَّ الأوفرَ، كما أقرّ له بذلك الحفّاظ الجهابذة، حتى فضّلوه على البخاريّ في هذا الجانب، ولبعضهم في هذا المعنى [من الطويل]:

تَنَازَعَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ

لأَيِّهِمَا فِي الْفَضْلِ كَانَ التَّقَدُّمُ

فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّةً

كَما فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ

وقد أسلفت تحقيق هذا البحث في "شرح المقدّمة" مستوفًى، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ) الضمير لأبي معاوية، ووكيع.

وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش الماضي، وهو: عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية وكيع، التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية عبد الله بن نمير، أخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 146)، فقال:

(435)

حدثنا ابن أبي رجاء الْمِصِّيصيّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله لي الله عليه وسلم -: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرِضُوا عليه صغار ذنوبه، ويُخْبَأُ عنه كِبَارها، فيقال: عَمِلت يوم كذا كذا وكذا، وعَمِلت يوم كذا وكذا، وعملت يوم

ص: 269

كذا وكذا

(1)

، ثلاث مرات، قال: وهو مُقِرٌّ، ليس بمنكر، وهو مُشْفِقٌ من الكبائر أن تجيء، قال: فإذا أراد الله به خيرًا، قال: أعطوه مكانَ كلِّ سيئة حسنةً، فيقول: يا رب إن لي ذنوبًا ما رأيتها ها هنا"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بَدَت نواجذه، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].

وأخرجه أيضًا ابن منده في "الإيمان"، (2/ 822)، فقال:

(848)

أنبأ الحسين بن عليّ، ثنا الحسن بن عامر، ثنا عبد الله بن محمد بن إبراهيم الْعَبْسيّ، (ح) وأنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا محمد بن أبي بكر المقَدَّميّ، قالا: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم أول أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا من النار، يُؤْتَى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرِضُوا عليه صغار ذنوبه، ويُخَفى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيُقِرُّ، لا ينكره، وهو مُشْفِقٌ من الكبائر، فيقال: أعطوه مكان كلّ سيئة عَمِلها حسنةً، فيقول: إن لي ذنوبًا ما أراها ها هنا"، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك

(2)

حين ذكر هذا الحديث، حتى بَدَت نواجذه. انتهى.

وأما رواية أبي معاوية، فأخرجها ابن منده في "الإيمان"(2/ 823) أيضًا، فقال:

(849)

أنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل، ومحمد بن يعقوب، قالا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا هناد، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سُوَيد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن فيه سقطًا، إذ حقّه أن يكون لفظه:"عملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا"، فليحرر، والله تعالى أعلم.

(2)

هكذا النسخة: "وضحك" بالواو، والظاهر إن صحّت النسخة تكون الجملة حالًا بتقدير "قد"، أي والحال أنه قد ضحك، والله تعالى أعلم.

ص: 270

خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة، يؤتى برجل، فيقال: سلوه عن صغار ذنوبه، وتُخْفَى كبارها، فيقال له: عَمِلت كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا"، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحِكَ حتى بَدَت نواجذه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[476]

(191) - (حَدَّثَنِي

(1)

عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ رَوْحٍ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُود، فَقَالَ:"نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ، أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاس، قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟، فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ، وَعَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ كلَالِيبُ، وَحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر، سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يُحَاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَأ نَجْمٍ فِي السَّمَاء، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَشْفَعُونَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّة، وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ، حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْل، وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا").

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 271

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن يحيى الْيَشْكُريّ، أبو قُدَامة السّرَخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ الْقَيْسِيُّ) هو: رَوْحُ بن عُبَادة بن العلاء بن حَسّان الْقَيْسِيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيفُ [9].

رَوَى عن أيمن بن نابل، ومالك، والأوزاعيّ، وابن جريج، وابن عون، وابن أبي ذئب، وحبيب بن الشهيد، وابن أبي عَروبة، وشعبة، وحجاج بن أبي عثمان، وعوف، والسفيانين، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو خيثمة، وأحمد بن حنبل، وأبو قُدَامة السَّرَخْسيّ، وبندار، وابن نُمَير، وأبو موسى، وهارون الحمال، وعبد الله الْمُسْنَديّ، وعلي بن المدينيّ، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن منيع، والْجُوزَجانيّ، والحارث بن أبي أسامة، ومحمد بن يونس الْكُدَيميّ، وبشر بن موسى، وخلق كثير.

قال ابن المدينيّ: نظرت لرَوْح بن عُبادة في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف، وقال يعقوب بن شيبة: كان أَحَدَ مَن يَتَحَمّل الْحَمَالات، وكان سَرِيًّا مَرِيًّا كثير الحديث جدًّا، صدوقًا، سمعت علي بن عبد الله يقول: من المحدثين قومٌ لم يزالوا في الحديث، لم يُشْغَلُوا عنه، نَشَأوا، فطلبوا، ثم صَنَّفوا، ثم حدّثوا، منهم: رَوْحُ بن عُبادة، قال: وحدثني محمد بن عُمر، قال: سألت ابن معين عن رَوْح، فقال: ليس به بأس، صدوق، حديثه يدل على صدقه، قال: قلت ليحيى: زَعَمُوا أن يحيى القطان كان يتكلم فيه، فقال: باطلٌ، ما تكلم يحيى القطان فيه بشيء، هو صدوقٌ، قال يعقوب: وسمعت علي ابن المديني، يذكر هذه القصة، فلم أَضبِطها عنه، فحدثني عبد الرحمن بن محمد عنه، قال: كانوا يقولون: إن يحيى بن سعيد كان يتكلم في روح بن عبادة، قال عليّ: فإني لَعِند يحيى بن سعيد يومًا، إِذْ جاءه رَوْح بن عُبادة، فسأله عن شيء من حديث أشعث، فلما قام، قلت ليحيى: تعرفه؟ قال: لا، قلت: هذا رَوْح بن عُبادة، قال: ما زلت أَعْرِفه

ص: 272

بطلب الحديث، وبكَتْبِه، قال علي: لقد كان عبد الرحمن يَطْعَن عليه في أحاديث ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، مسائل كانت عنده، قال عليّ: فقَدِمْتُ على مَعْن بن عيسى، فسألته عنها، فقال: هي عند بصريّ لكم، قال عليّ: فأتيتُ ابن مهديّ، فأخبرته، فأحسبه قال: اسْتَحِلَّهُ لي، قال يعقوب بن شيبة: وقال محمد بن عُمر: قال ابن معين: الْقَوَاريريُّ يحدث عن عشرين شيخًا من الكذّابين، ثم يقول: لا أُحَدِّث عن رَوح بن عُبادة، قال يعقوب: وكان عَفّان لا يرضى أمر رَوْح بن عُبادة، قال: فحدثني محمد بن عمر، قال: سمعت عفّان يقول: هو عندي أحسن حديثًا من خالد بن الحارث، وأحسن حديثًا من يزيد بن زُريع، فَلِمَ تركناه؟، يعني: كأنه يَطْعَنُ عليه، فقال له أبو خيثمة: ليس هذا بحجة، كلُّ من تركته أنت ينبغي أن يُتْرَك، أما رَوْحٌ فقد جاز حديثه الشأن فيمن بقي، قال يعقوب: وأحسَب أن عفان لو كان عنده حجة، مما يَسْقُط بها رَوْح بن عُبادة لاحتج بها في ذلك الوقت، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان القواريريّ لا يُحَدِّث عن رَوح، وأكثرُ ما أنكره عليه تسعمائة حديث حَدَّث بها عن مالك سماعًا، وقال: وسمعت الْحُلْوانيّ يقول: أوّلُ من أظهر كتابه رَوح بن عُبادة، وأبو أسامة، يريد أنهما رَوَيا ما خولفا فيه، فأَظْهَرا كتبهما حجةً لهما؛ إذ روايتهما موافقةٌ لما في كُتبهما، وقال أبو مسعود الرازيّ: طُعِن على رَوْح بن عبادة ثلاثة عشر، أو اثنا عشر، فلم يَنْفُذ قولهم فيه، وقال الخطيب: كان كثير الحديث، وصَنَّفَ الكتب في السنن والأحكام، وجمع التفسير، وكان ثقةً، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: روحٌ، والْخَفّاف، وأبو زيد النحويّ، أيهم أحب إليك في ابن أبي عروبة؟ فقال: روح، وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: صدوقٌ ثقةٌ، وذكره أبو عاصم، فأثنى عليه، وقال: كان ابن جريج يَخُصّه كلَّ يوم بشيء من الحديث، وقال رَوْح: سمعت عن سعيد قبل الاختلاط، ثم غِبْتُ، وقَدِمُت، فقيل: إنه اختلط، وقال الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو بكر البزار في "مسنده": ثقةٌ مأمونٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء الله، وقال ابن عَمّار: جئت إلى ابن مهديّ، فقيل له: كَتبتَ عن روح، عن شعبة، عن أبي الفيض، عن معاوية، حديث:"مَن كذب عليّ"، فقال: أخطأ، وتكلم في روح، ثم قال: حدّثنا شعبة، عن رجل، عن أبي الفيض،

ص: 273

وقال أبو خيثمة: لم أسمع في روح شيئًا أشدّ عندي من شيء دَفَعَ إليّ محمد بن إسماعيل صاحبنا كتابًا بخطه، فكان فيه: حدثنا عفّان، ثنا غلام من أصحاب الحديث، يقال له: عُمارة الصيرفيّ، أنه كان يكتب عن رَوْح بن عبادة، وعلي بن المدينيّ، فحدّثهم بشيء عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، فقال له: هذا عن الحكم، فقال روح لعليّ: ما تقول؟ فقال: صدق، هو عن الحكم، فقال: فأخذ القلم، فَمَحَى منصورًا، وكَتَبَ الحكم، قال عفان: فسألت عليًّا عن حكاية عمارة، فصدّقه، وقال أبو زيد الهرويّ: كنا عند شعبة، فسأله رجل عن حديث، وكانت في الرجل عَجَلَة، فقال شعبة: لا والله، حتى تلزمني كما لزمني هذا لروح، وهو بين يديه، وقال محمد بن يحيى: قرأ روح على مالك، فَبَيَّن السماع من القراءة، وقال الغلابيّ: سمعت خالد بن الحارث ذَكَرَه بجميل، وقال أبو داود، عن أحمد: لم يكن به بأس، ولم يكن مُتَّهَمًا بشيء، وكان قد جَرَى ذكر روح وأبي عاصم، فقال: كان روح يُخْرِج الكتاب، وقال الخليليّ: ثقةٌ أكثرَ عن مالك، وروى عنه الأئمة.

قال خليفة وغيره: مات سنة (205)، وقال محمد بن يونس الْكُدَيميّ: مات سنة (207)، والأول أصحّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الحافظ المزيّ رحمه الله

(1)

، فتعقّبه الحافظ، فقال: الْكُدَيميّ هو ابن امرأة روح، فقوله راجح، وقد وافقه عليه يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، ولكن جَزَم بسنة خمس البخاريّ، وابن المثنى، وابن حبان أيضًا

(2)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وَأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه يدلّس، ويرسلُ [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

(1)

راجع: "تهذيب الكمال" 9/ 245.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 614 - 615.

ص: 274

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق، يدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عَمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وقد جاوز (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفناه آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، من ابن جريج، وقد سكن جابر رضي الله عنه مكة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي الزبير المكيّ رحمه الله (أَنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول، أي يسأله بعض الناس (عَنِ الْوُرُودِ) أي ورود الأمم النار، كما بيّنه الله عز وجل في قوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم: 71](فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَة، عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ، أَيْ ذَلِكَ فوْقَ الناسِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من "صحيح مسلم"، واتَّفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيفٌ، وتغييرٌ، واختلاط في اللفظ، قال الحافظ عبد الحقّ في كتابه "الجمع بين الصحيحين": هذا الذي وقع في كتاب مسلم تخليط من أحد الناسخين، أو كيف كان، وقال القاضي عياض: هذه صورة الحديث في جميع النسخ، وفيه تغييرٌ كثيرٌ وتصحيفٌ، قال: وصوابه: "نَجيء يوم القيامة على كُوم"، هكذا رواه بعض أهل الحديث، وفي

ص: 275

كتاب ابن أبي خيثمة، من طريق كعب بن مالك:"يُحْشَرُ الناس يوم القيامة على تَلٍّ، وأمتي على تَلّ"، وذكر الطبريّ في "التفسير" من حديث ابن عمر:"فَيَرْقَى هو - يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته على كُوم فوق الناس"، وذكر من حديث كعب بن مالك:"يُحشَر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تَلّ". قال القاضي: فهذا كله يُبَيِّن ما تَغَيَّر من الحديث، وأنه كان أظلم هذا الحرف على الراوي، أو امَّحَى، فعَبَّر عنه بكذا وكذا، وفسره بقوله: أي فوق الناس، وكَتَبَ عليه "انظر" تنبيهًا، فجمع النَّقَلَةُ الكلَّ، ونَسَّقُوه على أنه من متن الحديث، كما تراه. هذا كلام القاضي، وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين، والله تعالى أعلم.

قال القاضي: ثم إن هذا الحديث جاء كلُّه من كلام جابر موقوفًا عليه، هذا من شرط مسلم؛ إذ ليس فيه ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما ذَكَره مسلم، وأدخله في المسند؛ لأنه رُوِيَ مسندًا من غير هذا الطريق، فذكر ابن أبي خيثمة، عن ابن جريج، يرفعه بعد قوله:"يَضحك"، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فَيَنطلق بهم"، وقد نَبَّهَ على هذا مسلم بعد هذا في حديث ابن أبي شيبة وغيره، في الشفاعة، وإخراج من يخرج من النار، وذكر إسناده، وسماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعنى بعض ما في هذا الحديث، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا اختلف الرواة فيه على ابن جريج، في الرفع والوقف، والأكثرون على وقفه، فقد رواه عنه موقوفًا روح عند المصنّف، وأبو عاصم عند ابن منده، وحجاج بن محمد عنده أيضًا، ورواه عنه مرفوعًا روح بن عبادة، رواه عنه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(3/ 383)، ورواه أيضًا ابن لهيعة عنده (345) فقد رواه أحمد عن موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، أنه سأل جابرًا رضي الله عنه عن الورود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن يوم القيامة على كُوم فوق الناس، فيُدعى بالأمم بأوثانها

" الحديث.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 47 - 48.

ص: 276

فتبيّن بهذا أن الأرجح فيه الوقف؛ لأن الذي رفعه من الثقات روح فقط، على خلاف فيه، وأما ابن لَهِيعة فضعيفٌ، لكن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يُقال بالرأي، ولم يشتهر جابر في الرواية عن أهل الكتاب، فلهذا أورده المصنّف رحمه الله هنا، على أن جابرًا رضي الله عنه صرّح بسماع بعضه من النبيّ صلى الله عليه وسلم في رواية عمرو بن دينار التالية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: فتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا) أي مع أوثانها التي كانت تعبدها، وهو بفتح الهمزة: جمع وَثَن بفتحتين، وهو الصنم، سواء كان من خشب، أو حجر، أو غيره، ويُجمع أيضًا على وُثُن بضمّتين، مثلُ أَسَد وأُسُد، ويُنسب إليه من يتديَّن بعبادته على لفظه، فيقال: رجلٌ وَثَنيّ، وقوم وَثَنيّون، وامرأةٌ وَثنيّة، ونساء وثنيّات

(1)

، وقوله:(وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ) من عطف العامّ على الخاصّ، وقوله:(الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ) بالرفع بدل من "الأمم"، و"أل" بدل من المضاف إليه، أي يُدعى أوّلها، ثم الذي يليه، وهكذا (ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ) تقدّم بيان معنى إتيان الله تعالى، ومجيئه، وأن ذلك من صفات فعله، كالنزول، والاستواء، فهو ثابت له سبحانه وتعالى، على ما يليق بجلاله، فلا وجه لتأويله كما يفعل الشرّاح، فتنبّه لذلك، فإنه من مزالّ الأقدام (فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟) "من" استفهاميّة، و"تنظرون" بمعنى تنتظرون (فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ) قال النوويّ: تَقَدَّم قريبًا معنى الضحك، وأما التجلّي فهو الظهور، وإزالة المانع من الرؤية، ومعنى "يتجلى يضحك": أي يظهر، وهو راض عنهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت آنفًا أن هذا تأويل غير صحيح، بل الصواب أن الضحك ثابت لله تعالى على الحقيقة كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وأما الرضا فإنه من لوازم الضحك، وليس هو معنى الضحك، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ) بالجرّ على البدل لـ "إنسان"، (نُورًا) مفعول ثان لـ "يُعْطَى".

(1)

"المصباح المنير" 2/ 647 - 648.

ص: 277

أما المؤمن فإنه يُعطى على مقتضى الوعد السابق، كما وعدهم الله تعالى بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} الآية [الحديد: 19]، وبقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28]، وغير ذلك من الآيات.

وأما المنافق، فإظهارًا لمخادعته المؤمنين بإظهار إيمانه، فيُعطى نورًا، ثم يُطفأ ذلك النور، في وقت تشتدّ إليه حاجتهم، فيطلبون من المؤمنين أن يقتبسوا منهم النور، فيردّون عليهم أشدّ الردّ، كما بيّن الله عز وجل ذلك بقوله:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد: 13 - 14].

(ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ) أي يتّبعون توجيهه سبحانه وتعالى (وَعَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ)"الْجِسْرُ": بفتح الجيم، وكسرها: ما يُعْبَرُ عليه، مَبْنيًّا كان أو غير مبنيّ، جمعه جُسُور

(1)

. (كَلَالِيبُ) بالفتح: كَلُّوب، أو كُلّاب بالضمّ، ويُسمّى الْمِهْمَاز، وهي حديدة معطوفةٌ، كالْخُطّاف، وفي "التهذيب": الْكُلّاب، والْكَلّوب: خشبة في رأسها عُقّافة

(2)

منها، أو من حديد

(3)

كالْكُلّاب (وَحَسَك) بفتحتين: جمع حَسَكَة: وهي شوكة صُلْبةٌ معروفة، قاله ابن الأثير

(4)

. (تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ) قال النوويّ رحمه الله: رُوي بفتح الياء وضمها، وهما صحيحان، معناهما ظاهر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وجه الفتح أنه مضارع طَفِئ، يقال: طَفِئت النار تَطْفَأُ بالهمزة، من باب تَعِبَ طُفُوءًا على فُعُول: خَمَدَتْ

(5)

، وأما وجه الضمّ،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 101.

(2)

"الْعُقّافة كالرّمّانة": خشبة في رأسها حُجْنَة - أي تقوّس - يُمَدّ بها الشيء، كالْمِحْجَن. اهـ. "ق" ص 755.

(3)

"لسان العرب" 1/ 725.

(4)

"النهاية" 1/ 386.

(5)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 375.

ص: 278

فعلى أنه مضارع أُطفِئ رباعيًّا، مغيّر الصيغة، فرفع "نورُ" على الأول على الفاعليّة، وعلى الثاني على أنه نائب فاعل، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من الأصول، وفي أكثرها "المؤمنين" بالياء. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن نسخة "المؤمنين" تكون مع لفظة "يُنْجِي"، فيكون الفاعل ضميرًا يعود إلى الله تعالى، و"المؤمنين" منصوب على المفعوليّة، والله تعالى أعلم.

(فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ) بضمّ، فسكون: أي جماعة، قال المجد رحمه الله:"الزُّمْرَة" بالضمّ: الفَوْجُ، والجماعة في تفرقة، جمعه: زُمَر. انتهى

(1)

، وقوله:(وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) جملة في محلّ نصب على الحال من "أوّل"، وإن كان نكرةً؛ لتخصّصه بالإضافة، كما قال في "الخلاصة":

وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ

لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ

مِنْ بَعْدِ نَفْي أَوْ مُضَاهِيهِ كَـ "لَا

يَبْغِي امْرُؤ عَلَى امْرِئٍ مُسْتَسْهِلَا"

وأما "القفر"، فقال الأزهريّ رحمه الله: يُسمّى القمرُ لليلتين من أول الشهر هلالًا، وفي ليلة ستّ وعشرين، وسبع وعشرين أيضًا هلالًا، وما بين ذلك يُسمّى قَمَرًا، وقال الفارابيّ، وتبعه في "الصِّحاح": الهلال لثلاث ليالٍ من أول الشهر، ثم هو قمرٌ بعد ذلك، وقيل: الهلال: هو الشهر بعينه، وسُمّي القمر به؛ لبياضه، يقال: ليلةٌ مُقْمِرَةٌ: أي بيضاء، وحِمَارٌ أقمرُ: أي أبيض، ذكره الفيّوميّ

(2)

.

وأما "البدر": فهو القمر ليلة كماله، وهو في الأصل مصدرٌ، يقال: بَدَر القمر بَدْرًا، من باب قتل، قاله الفيّوميّ، وقال ابن منظور:"البدرُ": القمر إذا امتلأ، وإنما سُمي بدرًا؛ لأنه يبادر بالغروب طلوع الشمس، وفي "الْمُحْكم": لأنه يبادر بطلوعه غروب الشمس؛ لأنهما يتراقبان في الأفق صُبْحًا، وقال الجوهريّ: سُمّي بَدْرًا؛ لمبادرته الشمس بالطلوع، كأنه يُعَجِّلها المغيب، وسُمِّي بدرًا؛ لتمامه، وسُمّيت ليلة البدر؛ لتمام قمرها. انتهى

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 361 - 362.

(2)

"المصباح المنير" 5/ 512 و 639.

(3)

"لسان العرب" 4/ 49.

ص: 279

(سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يُحَاسَبُونَ) بالبناء للمفعول: أي ليس عليهم محاسبة على أعمالهم؛ لرفعة قدرهم عند الله سبحانه وتعالى، فأعمالهم كلّها صالحة، مقبولة، لا تحتاج إلى المحاسبة عليها (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضوَأ نَجْمٍ فِي السَّمَاء، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ) بكسر الحاء، من باب ضرب: وهو ضدّ تحرُم، أي تباح، ويَأذن الله تعالى بها، ويحتمل أن يكون من حلّ الدين يَحِلُّ بالكسر أيضًا: إذا ثبت، ووجب: أي تثبت، وتحقّق (وَيَشْفَعُونَ) الضمير للشفعاء، وهم: الأنبياء، والملائكة، والمؤمنون، كما بُيّن في الروايات الأخرى (حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ) بالبناء للمفعول، و"حتى" يحتمل أن تكون بمعنى "كي" التعليليّة، فينتصب الفعل بعدها بـ "أن" مضمرة بعدها، كما في قوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة: 217].

ويحتمل أن تكون ابتدائيّة، فيرتفع الفعل بعدها، كما في قوله تعالى:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} الآية [البقرة: 214] في قراءة نافع بالرفع، وكقول الشاعر [من الكامل]:

يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ

لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ

وكقوله [من الطويل]:

سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلُّ مَطِيَّهُمْ

وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ

(مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً) واحدة الشعير، قال الفيّومي رحمه الله:"الشَّعِير": حَبٌّ معروفٌ، قال الزجّاج: وأهل نجد يؤنّثونه، وغيرهم يذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. انتهى

(1)

. (فَيُجْعَلُونَ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ) بكسر الفاء، وتخفيف النون، مثلُ كتاب: الْوَصِيد، وهو سَعَةٌ أَمَام البيت، وقيل: ما امتدّ من جوانبه

(2)

، (وَيَجْعَلُ) بفتح أوله مبنيًّا للفاعل (أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه: أي يصبّون (عَلَيْهِمُ الْمَاءَ، حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول ببلادنا "نَبَاتَ الشيء"، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وعن بعض رواة مسلم:"نَبَاتَ الدِّمْنِ" يعني: بكسر الدال، وإسكان

(1)

"المصباح" 1/ 315.

(2)

"المصباح" 2/ 482.

ص: 280

الميم، وهذه الرواية هي الموجودة في "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحقّ، وكلاهما صحيح، لكن الأول هو المشهور الظاهر، وهو بمعنى الروايات السابقة:"نَبَاتَ الْحِبَّة في حَمِيل السيل"، وأما "نَبَاتُ الدّمْن": فمعناها أيضًا كذلك، فإن الدِّمْن: الْبَعْرُ، والتقدير: نباتَ ذي الدِّمْن في السيل، أي كما يَنْبُت الشيء الحاصل في الْبَعْر والْغُثَاء الموجود في أطراف النهر، والمراد التشبيه به في السرعة والنَّضَارة، وقد أشار صاحب "المطالع" إلى تصحيح هذه الرواية، ولكن لم يُنَقّح الكلام في تحقيقها، بل قال: عندي أنها رواية صحيحة، ومعناه: سُرْعة نبات الدِّمْن، مع ضعف ما يَنْبُت فيه، وحُسْن مَنْظَره، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ) بضم الحاء المهملة، وتخفيف الراء، وضميره يعود على الْمُخْرَج من النار، ومعنى حُرَاقه: أَثَرَ النار.

(ثُمَّ يَسْأَلُ) الضمير للمخرَج أيضًا: أي يسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعطيه من نعيم الجنّة ما تهواه نفسه، وتتمنّاه (حَتَّى تُجْعَلَ) بالبناء للمفعول (لَهُ الدُّنْيَا، وَعَشَرَة أَمْثَالِهَا مَعَهَا") وقد تقدّم في الأحاديث الماضية أنه يقال ذلك بعد أن يتمنّى، ويتمنّى، حتى تنقطع به الأمانيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 476](191)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 345 و 383)، و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(269 و 270)، و (ابن منده) في "الإيمان"(850)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(363 و 364)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(472)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 49.

ص: 281

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[477]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنِهِ

(1)

، يَقُولُ:"إِنَّ اللهَ يُخْرِجُ نَاسًا مِنَ النَّار، فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عمرو) بن دينار الأثرم مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون تقدّموا قريبًا.

ومن لطائف هذا الإسناد: أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما - وقع له من الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة، وهو (18) من رباعيات الكتاب، وأن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أهل مكّة، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

لِمَكَّةٍ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو وَذَا

عَنْ جَابِرٍ وَللْمَدِينَةِ خُذَا

ابْنَ أَبِي حَكِيمِ عَنْ عَبِيدَةِ

الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ

وقوله: (إِنَّ اللهَ يُخْرِجُ نَاسًا مِنَ النَّارِ) أي بالشفاعة، كما تفسّره الرواية التالية، وتمام شرح الحديث يأتي في الحديث رقم [480]- إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: هذا الحديث عدّه بعضهم

(2)

في أفراد المصنّف رحمه الله، وليس كذلك، فقد أخرجه البخاريّ أيضًا، كما أوضحته في التخريج، غاية ما هنالك أن الراوي عن عمرو بن دينار اختلف، فقد أخرجه البخاريّ من رواية حماد بن

(1)

وفي نسخة: "بأذنيه".

(2)

هو الشيخ عبد الله بن صالح الْعُبَيلان، صاحب "كتاب إرشاد القاري إلى أفراد مسلم عن البخاري".

ص: 282

زيد، عن عمرو، وهي الرواية الآتية للمصنّف بعد هذا، وأخرجه المصنّف هنا من رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو، وهذا لا يُؤدّي إلى دعوى انفراد المصنّف فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 477 و 478 و 479]، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6558)، وفي "الأدب المفرد"(818)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1703 و 1804)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1245)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 345 و 381 و 383)، و (عبد الله بن أحمد) في "السنّة"(269 و 270)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(839 و 840 و 841)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1831 و 1973)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7483)، و (ابن منده) في "الإيمان"(850)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(344)، و (الفسويّ) في "التاريخ"(2/ 212)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[478]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ"؟ قَالَ

(1)

: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة أيضًا:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزَّهْرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

(1)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 283

والباقيان تكلّمنا عنهما في السند الماضي، وهذا السند هو (19) من رباعيات الكتاب.

وقوله: (قال: نعم) أي سمعته يقول ذلك، وأخرجه البخاريّ أطول مما هنا في "كتاب الرقاق" من "صحيحه"، فقال:

(6558)

حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد، عن عمرو، عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج من النار بالشفاعة، كأنهم الثَّعَارِير"، قلت: ما الثَّعَارير؟ قال: الضَّغَابيسُ، وكان قد سَقَطَ فمه، فقلت لعمرو بن دينار: أبا محمد، سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يَخْرُج بالشفاعة من النار"؟ قال: نعم. انتهى.

قوله: "يَخْرُج من النار بالشفاعة" كذا للأكثر، من رواة البخاريّ بحذف الفاعل، وثبت في رواية أبي ذرّ، عن السرخسيّ، عن الْفَرَبْريّ:"يَخْرُج قومٌ"، وكذا للبيهقي في "البعث" من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي النعمان، شيخ البخاريّ فيه، وكذا لمسلم، عن أبي الربيع الزهرانيّ، عن حماد بن زيد - يعني: هذه الرواية - ولفظه: "إن الله يُخرج قومًا من النار بالشفاعة"، وله من رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو، سمع جابرًا - يعني الرواية الماضية - مثله، لكن قال:"ناسٌ من النار، فيدخلهم الجنة"، وعند سعيد بن منصور، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو، فيه سند آخرُ أخرجاه، من رواية عمرو، عن عُبيد بن عُمير، فذكره مرسلًا، وزاد:"فقال له رجل - يعني لعُبيد بن عُمير - وكان الرجلُ يُتَّهَم برأي الخوارج، ويقال له: هارونُ أبو موسى: يا أبا عاصم، ما هذا الذي تُحَدِّث به؟ فقال: إليك عَنّي، لو لم أسمعه من ثلاثين، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لم أُحَدِّث به"

(1)

.

وقوله: "كأنهم الثعارير" - بمثلثة مفتوحة، ثم مهملة - واحدها ثُعْرُور، كعُصْفُور.

وقوله: "قال: الضغابيس" - بمعجمتين، ثم موحدة، بعدها مهملة - أما الثعارير: فقال ابن الأعرابيّ: هي قِثّاءٌ صِغَارٌ، وقال أبو عبيدة مثله، وزاد: ويقال: بالشين المعجمة، بدل المثلثة، وكأن هذا هو السبب في قول الراوي:"وكان عمرو ذهب فمه": أي سقطت أسنانه، فنطق بها ثاء مثلثة، وهي شين معجمة، وقيل: هو نبت في أصول الثُّمَام، كالقطن، ينبت في الرَّمْل، ينبسط

(1)

"الفتح" 11/ 433 - 434 "كتاب الرقاق" رقم (6558).

ص: 284

عليه، ولا يطول، ووقع تشبيههم بالطَّرَاثيث، في حديث حذيفة رضي الله عنه، وهي بالمهملة، ثم المثلثة، هي: الثُّمَام بضم المثلثة، وتخفيف الميم، وقيل: الثُّعْرُور: الأَقِطُ الرَّطْب، وأغرب القابسيّ، فقال: هو الصَّدف الذي يَخْرُج من البحر، فيه الجوهر، وكأنه أخذه من قوله في الرواية الأخرى:"كأنهم اللؤلؤ"، ولا حجة فيه؛ لأن ألفاظ التشبيه تختلف، والمقصود الوصف بالبياض والدّقّة.

وأما الضغابيس: فقال الأصمعيّ: شيء يَنْبُت في أصول الثُّمام، يُشْبِه الْهِلْيَوْن

(1)

، يُسْلَقُ، ثم يؤكل بالزيت والخلّ، وقيل: ينبت في أصول الشجر، وفي الإذخِر، يَخرُج قدر شبر في دِقّة الأصابع، لا وَرَقَ له، وفيه حُمُوضة.

وفي "غريب الحديث" للحربي: الضّغْبُوس: شجرةٌ على طول الأصبع، وشُبِّه به الرجل الضعيف، وأغرب الداوديّ، فقال: هي طيور صغار، فوق الذباب، ولا مُستند له فيما قال.

[تنبيه]: هذا التشبيه لصفتهم بعد أن يَنْبُتوا، وأما في أول خروجهم من النار، فإنهم يكونون كالفحم، كما تقدّم في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، بلفظ:"فيخرجون منها حُمَمًا، قد امتَحَشُوا".

وقوله: "فقلت لعمرو" القائل: حماد، وعمرو هو ابن دينار، وأراد به الاستثبات في سماعه له من جابر رضي الله عنه، وسماع جابر له، ولعل سبب ذلك رواية عمرو له عن عُبيد بن عُمَير مرسلًا، وقد حَدَّث سفيان بن عيينة بالطريقين، كما سبق التنبيه عليه، أفاده في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[479]

(

) - (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثنَا قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْعَنبرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَني يَزِيدُ الْفَقِيرُ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله،

(1)

قال في "القاموس"(ص 1117): "الْهِلْيَوْنُ": كبِرْذَوْن: نبتٌ معروفٌ حارّ رَطْبٌ باهيّ. انتهى.

(2)

11/ 437 "كتاب الرقاق" رقم (6558).

ص: 285

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ

(1)

مِنَ النَّار، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا، إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ، حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أنه قد يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

3 -

(قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْعَنْبَرِيُّ) التميميّ الكوفيّ، ثقة [7].

رَوَى عن علقمة بنَ وائل بن حُجْر، ويزيد بن صُهَيب الفَقِير، وعُمير بن سعيد، وأبي بكر بن حفص الزهريّ، والضحاك بن مُزاحِم، وجَوّاب التيميّ.

ورَوَى عنه ابن المبارك، وأبو أحمد الزُّبيريّ، وعبيد الله بن موسى، والعلاء بن بَدْر، وأبو نعيم، وقبيصة، قال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ما رَفَع رأسه للسماء تعظيمًا لله.

أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط، والنسائي حديثًا واحدًا في الصلاة.

4 -

(يَزِيدُ الْفَقِيرُ) هو: يزيد بن صُهَيب الفقير - بفتح الفاء وكسر القاف - قيل له ذلك؛ لأنه كان يشكو فَقَار ظهره

(2)

، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن جابر، وأبي سعيد، وابن عمر.

وروى عنه سَيّار أبو الحكم، والحَكَم بن عُتيبة، وقيس بن سُليم، وبَسّام الصيرفيّ، ومِسْعَر، والمسعوديّ، وأبو حنيفة، ومحمد بن أبي أيوب الثقفيّ، والأعمش، وجعفر بن بُرْقان، وآخرون.

(1)

وفي نسخة: "يَخْرُجُونَ" بالبناء للفاعل.

(2)

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قيل له: الفقير؛ لأنه أصيب في فَقَار ظهره، فكان يَأْلَم منه، حتى ينحني له. انتهى.

ص: 286

قال ابن سعد: تَحَوَّل من الكوفة، فنزل مكة، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم، وابن خِرَاش: صدوقٌ، زاد ابن خِرَاش: جليلٌ عزيز الحديث، وقال أبو زرعة أيضًا: يُكتَب حديثه، وقال غيره: كان يشكو فَقَار ظهره، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (191) وأعاده بعده، وحديث (521): "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهنّ أحد قبلي

".

وقوله: (إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ) جمع دَارَةٍ، وهي ما يُحيط بالوجه من جوانبه، ومعناه: أن النار لا تأكل دارة الوجه؛ لكونها محل السجود، ووقع هنا إلا دارات الوجوه، وسبق في الأحاديث السابقة:"إلا مواضع السجود"، وقد سبق هناك الجمع بينهما، فلتراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ") هكذا هو في الأصول "حتى يدخلون" بالنون، وهو صحيح، وهي لغة، وذلك على اعتبار استحضار الصورة المستقبلة؛ لأن شرط رفع المضارع بعد "حتى" أن يكون حالًا حقيقةً، أو تقديرًا، كما أشار ابن مالك رحمه الله إليه في "الخلاصة"، حيث قال:

وَتلْوَ "حَتَّى" حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

وتمام شرح الحديث، ومسائله تأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[480]

(

) - (وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ، قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارج، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ، ذَوِي عَدَدٍ، نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاس، قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَة، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَالِسٌ إِلَى سَارِيةٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ

ص: 287

الْجَهَنَّمِيِّينَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ الله، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟ وَاللهُ يَقُولُ:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وَ:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أتقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عليه السلام؟، يَعْنِي: الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيه، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم المَحْمُودُ، الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ، قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاط، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْه، قَالَ: وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ، أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّار، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، قَالَ: يَعْنِي: فَيَخْرُجُونَ، كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِم، قَالَ: فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّة، فَيَغْتَسِلُونَ فِيه، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ، فَرَجَعْنَا، قُلْنَا

(1)

: وَيْحَكُمْ، أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَرَجَعْنَا، فَلَا وَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) هو: أبو نعيم، ودُكين لقب أبيه، واسمه: عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول الْمُلائيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 218)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) الثقفيّ الكوفيّ، وكان بعضهم يقول فيه: محمد بن أيوب، فيُخطئ، ثقةٌ

(2)

[7].

رَوَى عن يزيد الفقير، وعامر الشعبيّ، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن الْمُزَنيّ، ومحمد بن عبد الله بن قارب الثقفيّ، وقيس بن مسلم الْجَدَليّ، وأبي عَوْن الثقفيّ، وهلال الوزان، وأبي صادق، والقاسم بق عبد الرحمن الشاميّ.

ورَوَى عنه وكيع، وعبد الله بن إدريس، وطلحة بن يحيى الزُّرَقيّ، وخلاد بن يحيى، وأبو نعيم.

(1)

وفي نسخة: "فرجعنا، وقلنا".

(2)

قال عنه في "التقريب": صدوق، والصواب ما ذكرته هنا، كما يظهر من أقوال الأئمة فيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 288

قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، ويعقوب بن سفيان: ثقة، وقال أبو حاتم: صالحٌ، كان خلاد بن يحيى يَغْلَط في اسم أبيه، يقول: ثنا محمد بن أيوب، وإنما هو ابن أبي أيوب.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه فبغداديّ، وجابر رضي الله عنه، فمكيّ.

3 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، كما سبق قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عن يَزِيدَ الْفَقِيرِ) بوزن عظيم، تقدّم أنه لُقّب بهذا لأنه كان يشكو فَقَار ظهره، لا أنه ضدّ الغنيّ، أنه (قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي) هكذا هو في الأصول والروايات: "شَغَفَنِي" بالغين المعجمة، ومعناه: لَصِقَ بشَغَاف

(1)

قلبي، وهو غِلافه، وقيل: سُويداؤه، قال الله تعالى:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30]، ورُوِي أيضًا بالعين المهملة، وهو بمعناه، وقد قُرئ أيضًا:"شَعَفَها"، وحقيقة معناه: بَرَحَ بها، وقيل: معناه أخذ قلبها حبّه من أعلاه، وشَعَفُ كلّ شيء أعلاه، وقيل: بلغ دخل قلبها، قاله القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

(رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ) سُمّوا بذلك؛ لخروجهم على الناس، أو لخروجهم عن طاعة الإمام، أَو لخروجهم عن مذهب أهل السنّة والجماعة، ورأيهم: هو أن أصحاب الكبائر يُخَلَّدون في النار، ولا يخرج منها أحدٌ ممن

(1)

"شَغَاف القلب" بفتح الشين: غشاؤه، قاله في "المصباح" 1/ 316.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 845 - 846.

ص: 289

دخلها، وهو مذهبٌ باطلٌ؛ منابذ لنصوص الكتاب والسنّة، ومخالف لمذهب أهل السنّة والجماعة (فَخَرَجْنَا) أي من الكوفة (فِي عِصَابَةٍ) بكسر العين المهملة، هو في الأصل من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين، كالْعُصْب بضمّ، فسكون

(1)

، يعني أنهوا من بلادهم وهم جماعة كثيرة، كما وصفهم بقوله:(ذَوِي عَدَدٍ) أي أصحاب عدد كثير (نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ) بضم الحاء، من باب نصر (ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ) أي نقوم فيهم، مُظهِرين مذهب الخوارج، داعين إليه، وحاثّين عليه (قَالَ) يزيد (فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ) النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم (فَإِذَا) هي الفُجائيّة (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وهو مبتدأ خبره جملة (يُحَدِّثُ الْقَوْمَ) وقوله:(جَالِسٌ) خبر خبر (إِلَى سَارَيةٍ) أي أُسْطُوانة، وجمعها سَوَارٍ، مثلُ جارية وجَوَارٍ (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "يُحدِّث" (قَالَ) يزيد (فَإِذَا هُوَ) أي جابر رضي الله عنه (قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ) أي أصحاب جهنّم الذين دخلوا فيها بسبب ذنوبهم (قَالَ) يزيد (فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم (مَا) استفهاميّة، أي أيُّ شيء (هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟) بضمّ أوله، وكسر الدال المشدّدة، من التحديث، وفيه حُذف العائد، أي به (وَاللهُ يَقُولُ:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ) أي أذللته، وأهنته (وَ) يقول أيضًا ({كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}) يعني الآيتين تدلّان على أن من أُدخل النار لا يخرج منها أبدًا، وأراد يزيد بذلك الاحتجاج على جابر رضي الله عنه في إثباته الشفاعة.

وقد اتّفق لجابر رضي الله عنه مثل هذا مع طلق بن حبيب، فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بسنده عن طلق بن حبيب، قال: كنت من أشد الناس تكذيبًا بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كلَّ آية ذكرها الله عز وجل، فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق أَتُرَاك أقرأ لكتاب الله مني؟، وأعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فاتَّضَعْتُ له، فقلت: لا والله بل أنت أقرأ لكتاب الله مني، وأعلم بسنته مني، قال: فإن الذي قرأتَ أهلُها هم المشركون، ولكن قوم أصابوا ذنوبًا، فعُذِّبوا بها، ثم أُخْرِجوا، صُمَّتَا - وأهوى

(1)

راجع: "القاموس" ص 107.

ص: 290

بيديه إلى أذنيه - إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَخْرُجون من النار"، ونحن نقرأ ما تقرأ. انتهى

(1)

.

وأخرج ابن حبان في "صحيحه" بسند صحيح، عن عمرو بن دينار، يقول: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بأذنيّ هاتين، وأشار بيده إلى أذنيه، يُخْرِج الله قومًا من النار، فيدخلهم الجنة، فقال له رجل في حديث عمرو: إنّ الله يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} الآية [المائدة: 37]، فقال جابر بن عبد الله: إنكم تجعلون الخاصّ عامًا، هذه للكفار، اقرؤوا ما قبلها، ثم تلا:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 36، 37] هذه للكفّار

(2)

.

(فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟) أي فأيُّ شيء حديثكم هذا في الشفاعة؟ المنافية - في زعمهم - لما دلّت عليه الآيتان (قَالَ) يزيد (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عليه السلام؟، يَعْنِي) به المقام (الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيهِ) حيث وعده ووعده الحقّ بقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79](قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَإِنَّهُ) أي ذلك المقام (مَقَامُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والْمَحْمُودُ) أي يَحمده فيه الأولون والآخرون (الَّذِي يُخْرِجُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإخراج رباعيًّا (اللهُ بِهِ) أي بسبب شفاعته صلى الله عليه وسلم (مَنْ يُخْرِجُ)"من" موصولة مفعول "يُخرِج"(قَالَ) يزيد (ثمَّ نَعَتَ) جابر رضي الله عنه (وَضْعَ الصِّرَاطِ) أي على متن جهنّم (وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ) بفتح الميم، وتشديد الراء مصدر مرّ، من باب نصر، أي مرورهم على ذلك الصراط (قَالَ) يزيد (وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ) أي ما قاله جابر رضي الله عنه في وصف

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (14125) وفي سنده سعيد بن المهلّب، روى عنه اثنان، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: لا أعرف من هو؟. راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 46 - 47.

(2)

"صحيح ابن حبّان"(16/ 526) رقم (7483) تحقيق شعيب الأرنؤوط.

ص: 291

الصراط، ومرور الناس عليه؛ لكونه كلامًا طويلًا، لكنّه يحفظ بعض ما تضمّنه، كما أشار إليه بقوله:(قَالَ) يزيد (غَيْرَ أَنَّهُ) أي جابرًا رضي الله عنه (قَدْ زَعَمَ) أي قال؛ لأن زعم، وإن كان الغالب فيها أن تستعمل للباطل، لكنها قد تُستعمل للحقّ، كما سبق بيان ذلك مستوفًى غير مرّة. (أَنَّ) بالفتح؛ لسدّها مسدّ المصدر، حيث وقعت مفعولًا لـ"زعم"، كما قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

(قَوْمًا يَخْرُجُونَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الخروج ثلاثيًّا (مِنَ النَّار، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا) أي بعد دخولهم في النار (قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ) هذه العناية من المصنّف، أو من شيخه؛ لأن أبا نعيم أخرجه في "مستخرجه"، من طريق عليّ بن عبد العزيز، وسهل بن بحر، كليهما عن الفضل بن دُكين، فلم يذكراها، ولفظه: "قال: فيخرجون

إلخ"، فلم يذكراها (كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بالسينين المهملتين: الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة، وهو جَمْعُ سِمْسِم، وهو هذا السِّمْسِم المعروف الذي يُسْتَخْرَج منه الشَّيْرَج، قال الإمام أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزريّ المعروف بابن الأثير رحمه الله: معناه - والله أعلم - أن السماسم جمع سِمْسِم، وعِيدانه تراها إذا قُلِعَت، وتُرِكت في الشمس؛ لِيُؤخَذ حَبُّها دِقَاقًا سُودًا، كأنها مُحْترِقةٌ، فشُبِّه بها هؤلاء، قال: وطالما طَلَبت هذه اللفظة، وسألت عنها، فلم أجد فيها شافيًا، قال: وما أشبه أن تكون اللفظة مُحَرَّفةً، وربما كانت عِيدان السّاسَمُ، وهو خَشَبٌ أسود، كالأبنوس، هذا كلام أبي السعادات.

و"السّاسَمُ" الذي ذكره هو بحذف الميم، وفتح السين الثانية، كذا قاله الجوهريّ وغيره.

وأما القاضي عياض: فقال: لا يُعْرَف معنى السَّمَاسم هنا، قال: ولعله صوابه عِيدان السّاسَم، وهو أشبه، وهو عُود أسود، وقيل: هو الأبنوس.

وأما صاحب "المطالع"، فقال: قال بعضهم: السماسم: كلُّ نبت ضعيف، كالسمسم، والْكُزْبُرة

(1)

.

(1)

بضم الكاف، والباء، وقد تفتح الباء. اهـ. "ق".

ص: 292

وقال آخرون: لعله السّأَسِم مهموز، وهو الأبنوس، شَبَّهَهم به في سَوَاده، فهذا مختصر ما قالوه فيه، والمختار أنه السِّمْسِم كما قدمناه على ما بيّنه أبو السعادات، والله أعلم.

(واعلم): أنه وقع في كثير من الأصول والكتب: "كأنها عِيدان السماسم"، بألف بعد الهاء، والصحيح الموجود في معظم الأصول والكتب:"كأنهم" بميم بعد الهاء، وللأول أيضًا وَجْهٌ، وهو أن يكون الضمير في "كأنها" عائدًا على الصُّوَر، أي كأن صورهم عِيدان السماسم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": المراد بعيدان السماسم: ما يَنْبُت فيه السمسم، فإنه إذا جُمِع، ورُمِيت العيدان تصير سُودًا دِقَاقًا، وزعم بعضهم أن اللفظة مُحَرَّفة، وأن الصواب السَّاسَمُ بميم واحدة، وهو خشب أسود، والثابت في جميع طُرُق الحديث بإثبات الميمين، وتوجيهه واضح. انتهى

(2)

.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا) بفتح الهاء، وسكونها، قال الفيّوميّ رحمه الله:"النّهْرُ": الماء الجاري المتّسِعُ، والجمع: نُهُرٌ بضمّتين، وأَنْهُرٌ، و"النَّهَرُ" بفتحتين لغةٌ، والجمع: أنهار، مثلُ سَبَبٍ وأسباب. انتهى

(3)

. (مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّة، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ) أي في ذلك النهر (فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ) بالفتح: جمع قِرْطَاس بكسر القاف، وضمها، لغتان، وهو الصحيفة التي يُكْتَب فيها، شَبَّهَهُم بالقراطيس؛ لشدّة بياضهم بعد اغتسالهم، وزوال ما كان عليهم، والله تعالى أعلم

(4)

.

(فَرَجَعْنَا، قُلْنَا) وفي نسخة: "وقلنا"(ويحَكُمْ) قال ابن الأثير رحمه الله: هي كلمة ترحّم، وتوجّع، تقال لمن وقع في هَلَكَة لا يستحقّها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجّب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرفع، وتضاف، ولا تُضاف، يقال: ويحَ زيدٍ، وويْحًا له، ووْيحٌ له. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 51 - 52.

(2)

"الفتح" 11/ 437 "كتاب الرقاق" رقم (6558).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 627.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 52.

(5)

"النهاية" 5/ 235.

ص: 293

وقال الجوهريّ رحمه الله: "ويحٌ" كلمةُ رحمة، و"ويلٌ" كلمة عذاب، وقيل: هما بمعنى واحد، وهما مرفوعتان بالابتداء، يقال: ويحٌ لزيد، وويلٌ له، ولك أن تقول: ويْحًا لزيد، وويلًا له، فتنصبهما بإضمار فعل، وكأنك قلت: ألزمه الله ويحًا، وويلًا، ولك أن تقول: ويحك، وويح زيد، وويلك، وويل زيد بالإضافة، فتنصبهما أيضًا بإضمار فعل. انتهى

(1)

.

(أَتُرَوْنَ) بالبناء للفاعل، بمعنى تعلمون، ويحتمل أن يكون بمعنى أتظنّون، وعلى هذا فيكون الفعل أن يكون مبنيًّا للمفعول، ومعناه معلوم، ويجوز أن يكون مبنيًّا للفاعل، ومعناه أيضًا أتَظُنّون (الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) المراد بالشيخ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو استفهام إنكار وجَحْد: أي لا يُظَنُّ به الكذب بلا شك (فَرَجَعْنَا، فَلَا وَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: رَجَعْنا من حجّنا، ولم نتَعَرَّض لرأي الخوارج، بل كَفَفْنا عنه، وتُبْنا منه، إلا رجلًا منّا، فإنه لم يوافقنا في الانكفاف عنه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ويحتمل أن يكون معنى رجعنا: أي مما اعتقدناه من رأي الخوارج، وعزمنا عليه من دعوة الناس إليه، والحثّ عليه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ) هو من كلام حجّاج بن الشاعر شيخ المصنّف، والمراد بأبي نُعيم هو: الفضل بن دُكين - بضم الدال المهملة - المذكور في أول الإسناد، وهو شيخ شيخه، وهذا الذي فَعَلَه أدبٌ معروف، من آداب الرُّواة، وهو أنه ينبغي للراوي إذا رَوَى بالمعنى أن يقول عقب روايته:"أو كما قال"؛ احتياطًا، وخوفًا من تغيير وقع فيه، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَالَ" وَمَا أَشْبَههُ

كَالشَّكِّ فِيمَا أَبْهَمَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الصحاح" 1/ 364.

ص: 294

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 480](191)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 355)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(476)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن طائفة من عصاة المؤمنين يدخلون النار.

2 -

(ومنها): إثبات عدم خلود أصحاب الكبائر في النار، بل يخرُجون منها.

3 -

(ومنها): إثبات الشفاعة لأصحاب الكبائر، وقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وأبو داود، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح غريب

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه الردَّ على ثلاث طوائف من المبتدعة، فهو ردّ على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وأن من دخلها لا يخرُج منها، على خلاف بينهما في حكمه، وهو أن الخوارج يقولون: بأنه كافر، والمعتزلة يقولون: بأنه في منزلة بين المنزلتين، ولكن النتيجة واحدة، وهي التخليد في النار، وهذا اعتقاد باطلٌ مصادم للنصوص وإجماع أهل السنة والجماعة.

وهو أيضًا ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: إن الموحّد لا يدخل النار، وإنه لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا أيضًا ضلال مبين.

والحقّ الذي دلّت عليه آيات الكتاب، والسنن الصحيحة، وهو الذي عليه أهل السنّة والجماعة وسطٌ بين الإفراط والتفريط، فمرتكب الكبيرة مؤمن

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(12810)، وأبو داود في "سننه"(4739)، والترمذيّ في "جامعه"(2359).

ص: 295

بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهو تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، إن شاء عفا عنه، وغفر له، وأدخله الجنّة ابتداءً، وإن شاء أدخله النار، ثم أخرجه منها، إما بعفوه، وإما بشفاعة الشافعين، ولا يُخلَّد أحد من أهل التوحيد في النار، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[481]

(192) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، وَثَابِتٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ، فَيُعْرَضُونَ عَلَى الله، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ، إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا، فَلَا تُعِدْني فِيهَا، فَيُنْجِيهِ اللهُ مِنْهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ) هو: هُدْبة - بضم الهاء، وسكون الدال - ابن خالد بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9](ت 230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

[تنبيه]: اختُلف في "هدّاب، وهُدبة" أيهما الاسم، وأيهما اللقب، فقيل: هدّاب لقبٌ، واسمه هُدْبة، وقيل: هدّاب اسمه، وهُدبة لقبه، وذكره المصنّف رحمه الله في (34) موضعًا من هذا الكتاب، وذكره في كلّها بـ"هدّاب"، والظاهر أنه يرى أنه اسمه، وخالفه البخاريّ، فذكره في (18) موضعًا من "صحيحه" فلم يذكره إلا بـ"هدبة"، والظاهر أنه يرى أنه الاسم، والله تعالى أعلم.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) المذكور في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو عِمْرَانَ) هو: عبد الملك بن حبيب الْجَوْنيّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [4](ت 128) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

4 -

(ثَابت) بن أسلم البنانيّ المذكور قبل باب.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدّم قبل باب.

ص: 296

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (20) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى أسانيده، كما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وحماد بن سلمة أخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا في "الرقاق".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وهو من المعمّرين، ونال البركة العظمى بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ) بالبناء للفاعل، و"أربعة" فاعله، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، و"أربعة" نائب فاعله (مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ) وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخرج رجلان من النار، فيُعرَضان على الله، ثم يؤمر بهما إلى النار، فيلتفت أحدهما، فيقول: يا ربّ ما كان هذا رجائي، قال: وما رجاؤك؟ قال: كان رجائي إذ أخرجتني منها أن لا تُعيدني، فيرحمه الله، فيُدخله الجنّة".

وأخرجه البغويّ في "شرح السنّة"، من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، وأبي عمران الْجَونيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُخرَج قوم من النار - قال أبو عمران: أربعةٌ، وقال ثابت: رجلان - فيُعرَضون على ربّهم

" الحديث، فتبيّن بهذه الرواية أن الذي وقع عند المصنّف هنا بلفظ أربعة، هو رواية أبي عمران.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يُذكَر في هذا الحديث مآل غير هذا الرجل الواحد الذي أدخله الله الجنّة، هل دخلوا الجنة، أم لا؟.

وقد أخرج الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلين ممن دخل النار اشتدّ صياحهما، فقال الرب عز وجل: أخرجوهما، فلما

ص: 297

أُخرجا قال لهما: لأي شيء اشتدّ صياحكما؟ قالا: فَعَلْنا ذلك لترحمنا، قال: إن رحمتي لكما أن تنطلقا، فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، فينطلقان، فيُلْقِي أحدهما نفسه، فيجعلها عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر، فلا يُلقي نفسه، فيقول له الرب عز وجل: ما منعك أن تُلقي نفسك، كما ألقى صاحبك؟ فيقول: يا رب إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعدما أخرجتني، فيقول له الرب: لك رجاؤك، فيدخلان جميعًا الجنة برحمة الله"، قال أبو عيسى: إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأنه عن رشدين بن سعد، ورشدين بن سعد هو ضعيف عند أهل الحديث، عن ابن أنعم، وهو الإفريقيّ، والأفريقيّ ضعيف عند أهل الحديث. انتهى

(1)

.

فلو صحّ هذا الحديث لتبيّن أن الرجل الآخر أيضًا دخل الجنّة، إلا أنه ضعيف، كما قال الترمذيّ، فالله تعالى أعلم بأحوال عباده.

(فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللهِ) ببناء الفعل للمفعول، يقال: عَرَضتُ الشيء على فلان: إذا أريته إيّاه

(2)

. (فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ) أي بعد أن يؤمر به إلى النار امتحانًا، كما بيّنته رواية ابن حبّان المذكورة (فَيَقُولُ: أَيْ) حرف نداء (رَبّ، إِذْ) تعليليّةً، فهو تعليل مقدّم على المعلَّل، وهو قوله:"فلا تُعدني"، أي لأنك (أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا، فَلَا تُعِدْنِي فِيهَا) بضم التاء، من الإعادة (فَيُنْجِيهِ) من الإنجاء، أو من التنجية (اللهُ مِنْهَا) أي بعد إعادته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 481](192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(632)، و (ابن منده) في "الإيمان"(760)، و (أبو عوانة) في

(1)

راجع: "جامع الترمذيّ" رقم (2599).

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 580.

ص: 298

"مسنده"(461 و 462)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(477)، وفي "الحلية"(2/ 315 و 6/ 253)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4362)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[482]

(193) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ - وقَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ: - فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا، حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ، أَبُو الْخَلْق، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِه، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِه، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ، فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ، حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ، قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى، رُوحَ الله، وَكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، رُوحَ الله، وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ، وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُني مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ، يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّار، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَقعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ

ص: 299

تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيه، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّار، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ"، قَالَ: فَلَا أَدْرِي، فِي الثَّالِثَة، أَوْ فِي الرَّابِعَة، قَالَ: "فَأَقُولُ: يَا رَبّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"، قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ)

(1)

البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ)

(2)

البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله الْيَشكريّ الواسطيّ البزّاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبثٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (21) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، كالسند الماضي، والله تعالى أعلم.

(1)

بفتح الجيم، وبعدها حاء مهملة ساكنة، ثم دال مهملة مفتوحة: نسبة إلى جدّ له اسمه جَحْدر. اهـ. "شرح النوويّ" 3/ 53.

(2)

بضم الغين المعجمة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة: منسوب إلى غُبَر، جدّ قبيلة. اهـ. "شرح النوويّ" 3/ 53.

ص: 300

شرح الحديث:

(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه.

[تنبيه]: حديث أنس رضي الله عنه هذا أورده المصنّف رحمه الله هنا مطوّلًا من طريق أبي عوانة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ، ثلاثتهم عن قتادة عنه، ومن طريق معبد بن هلال، عن أنس، وفيه زيادة للحسن، عن أنس، وأخرجه أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من رواية أبي زرعة، عنه، ومن رواية أبي حازم، عنه، ومن رواية ربعيّ بن حِرَاش، عن حُذيفة رضي الله عنه.

وأخرجه البخاريّ في "الرقاق" من طريق أبي عوانة، وفي "التفسير" من رواية هشام الدستوائيّ، ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، وفي "التوحيد" من طريق هَمّام أربعتهم عن قتادة، وأخرجه أيضًا أحمد من رواية شَيْبان، عن قتادة، وفي "التوحيد" من طريق معبد بن هلال، عن أنس، وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حُمَيد، عن أنس باختصار.

وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس، عن أنس، وأخرجه أيضًا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة، من طريق معتمر، عن حميد، عن أنس، وعند الحاكم من حديث ابن مسعود، والطبرانيّ من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسيّ.

ورواه البخاريّ أيضًا في "التفسير" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذيّ من رواية العلاء بن يعقوب عنه.

وأخرجه أيضًا في "التوحيد" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وله طُرُق، عن أبي سعيد مختصرة.

وأخرجه أبو عوانة من رواية حذيفة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرجه البخاريّ في "الزكاة" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما باختصار، وعند كلّ منهم ما ليس عند الآخر، وسأنبّه تبعًا للحافظ رحمه الله

(1)

ما عند كل منهم من فائدة، مستوعبًا - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَ) رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وفي

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 440 (6565).

ص: 301

رواية معبد بن هلال الآتية: "إذا كان يومُ القيامة ماجَ الناسُ بعضهم في بعض".

وأول حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمِعهم الداعي، ويَنْفُذهم البصر، وتَدْنُو الشمس، فيبلُغُ الناسَ من الغمّ والكرب ما لا يُطيقون، ولا يَحْتَملون"، وزاد في رواية إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن عُمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة فيه:"وتدنو الشمس من رؤوسهم، فيَشْتَدُّ عليهم حرُّها، وَيشُقّ عليهم دُنُوّها، فينطلقون من الضَّجَر والْجَزَع مما هم فيه"، وهذه الطريق ستأتي للمصنّف رحمه الله عن زُهير بن حرب، عن جرير بن عبد الحميد، لكن لم يَسُق لفظها.

وأول حديث أبي بكر رضي الله عنه: "عُرِضَ عليّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، يَجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فَيُفْظَعُ الناسُ

(1)

لذلك، والعَرَق كاد يُلجمهم"، وفي رواية معتمر: "يَلْبَثون ما شاء الله من الحبس"، وعند المصنّف من حديث المقداد رضي الله عنه: "أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدرَ مِيل".

وفي حديث سلمان رضي الله عنه: "تُعْطَى الشمس يوم القيامة حَرّ عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس، فَيَعْرَقُون، حتى يَرْشَح العرق في الأرض قامةً، ثم يرتفع الرجل حتى يقول: عق عق"، وفي رواية النضر بن أنس:"لِغَمّ ما هم فيه، والخلق مُلْجَمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزُّكْمَة، وأما الكافر فيغشاه الموت"

(2)

، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه رفعه: "إني لسيد الناس

(1)

يقال: أُفْظِع يُفظَعُ بالبناء للمفعول: إذا نزل به أمرٌ شديد. اهـ. "المصباح" 2/ 478.

(2)

قال الإمام أحمد رحمه الله في "المسند": (12359) حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون، أبو الخطاب الأنصاريّ، عن النضر بن أنس، عن أنس، قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إني لقائم أنتظر أمتي، تَعْبُر على الصراط، إذ جاءني عيسى، فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد، يسألون، أو قال: يجتمعون إليك، ويدعون الله عز وجل أن يُفَرِّق جمع الأمم إلى حيث يشاء الله؛ لِغَمِّ ما هم فيه، والخلق =

ص: 302

يوم القيامة، بغير فخر، وما من الناس إلا مَن هو تحت لوائي، ينتظر الفَرَج، وإن معي لواءَ الحمد"، ووقع في رواية هشام، وسعيد، وهمام: "يجتمع المؤمنون، فيقولون"، وتبيّن من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس أرجح، لكن الذي يَطْلُب الشفاعة هم المؤمنون، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ - وقَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ: - فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: معنى اللفظتين متقاربان، فمعنى الأولى: أنهم يَعْتَنُون بسؤال الشفاعة، وزوال الْكَرْب الذي هم فيه، ومعنى الثانية: أن الله تعالى يُلْهِمهم سؤال ذلك، والإلهام أن يُلْقِي الله تعالى في النفس أمرًا يَحْمِل على فعل الشيء، أو تركه، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا) أي طلبنا الشفاعة، قال الطيبيّ رحمه الله:"لو" هي المتضمّنة للتمنّي والطلب، قال في "أساس البلاغة": شَفَعْتُ له إلى فلان، وأنا شافعه، وشَفِيعه، واستشفعني إليه، فَشَفْعتُ له، واستشفع بي، قال الأعشى [من الطويل]:

مَضَى زَمَنٌ وَالنَّاسُ يَسْتَشْفِعُونَ بِي

فَهَلْ لِي إِلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ

(3)

(عَلَى رَبِّنَا) وفي رواية هشام الدستوائيّ، وسعيد بن أبي عروبة بلفظ:"إلى ربنا"، وتُوَجَّه بأنه ضُمِّن معنى استشفعنا: سَعَينا؛ لأن الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى؛ ليستعين به على ما يَرُومه، وفي

= مُلْجَمون في العرق، وأما المؤمن فهو عليه كالزُّكمة، وأما الكافر فيتغشاه الموت، قال: قال لعيسى: انتظر حتى أرجع إليك، قال: فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قام تحت العرش، فلقي ما لم يَلْقَ ملك مُصْطَفًى، ولا نبي مُرْسَلٌ، فأوحى الله عز وجل إلى جبريل: اذهب إلى محمد، فقل له: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تُشَفَّع، قال: فَشُفِّعتُ في أمتي، أن أُخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا، قال: فما زلت أتردد على ربي عز وجل، فلا أقوم مقامًا إلا شُفِّعت حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال: يا محمد، أدخل من أمتك من خلق الله عز وجل مَن شَهِد أنه لا إله إلا الله يومًا واحدًا مخلصًا، ومات على ذلك"، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم.

(1)

11/ 440 رقم (6565).

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 53.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3517.

ص: 303

حديث حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهم معًا الآتي: "يَجْمَع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حتى تَنْزَلِف لهم الجنة، فيأتون آدم

"، و"حتى" غاية لقيامهم المذكور، ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يَقَع حين تَنزَلِف لهم الجنة، ووقع في أول حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض

" الحديث، وفيه: "فيفزع الناس ثلاث فَزَعَات، فيأتون آدم

" الحديث.

قال القرطبيّ رحمه الله: كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زَفَرَت فَزِع الناس حينئذ، وجَثَوا على ركبهم. انتهى.

(حَتَّى يُرِيحَنَا) بضمّ أوله، من الإراحة، يقال: أرحته: أي أسقطتُ عنه ما يجد من تَعَبه

(1)

، وقال الطيبيّ: ونصبه بـ"أن" المقدّرة بعد الفاء الواقعة جوابًا لـ"لو"، والمعنى: لو استشفعنا أحدًا إلى ربّنا، فيشفع لنا، فيُخلّصنا مما نحن فيه من الكرب والحبس. انتهى

(2)

.

(مِنْ مَكَانِنَا هَذَا) وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند ابن حبان: "إن الرجل لَيُلْجِمه العَرَق يوم القيامة، حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار"، وفي رواية ثابت، عن أنس رضي الله عنه:"يطول يومُ القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فَلْيَشْفَع لنا إلى ربنا، فلْيَقْضِ بيننا"، وفي حديث سلمان رضي الله عنه:"فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم"، وفي رواية حذيفة، وأبي هريرة رضي الله عنهما:"فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة".

(قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ) هو من باب قوله: "أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي"، وهو مبهمٌ، فيه معنى الكمال، لا يُعلَم ما يُراد منه، ففسّره بما بعده من قوله: "أبو الخلق، خَلَقك الله بيده

إلخ"، قاله الطيبيّ رحمه الله (أَبُو الْخَلْقِ) المراد به البشر (خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ) فيه إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ولا تؤوّل بالقدرة (وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ) الإضافة فيه إضافة تشريف، كما بيت الله، وناقة الله، وزاد في رواية همام:

(1)

"المصباح" 1/ 244.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3517.

ص: 304

"وأسكنك جنته، وعَلَّمك أسماء كل شيء"، أي أسماء المسمّيات (وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ، فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ، حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا) أي هذا المكان العظيم، والموقف الأليم (فَيَقُولُ) آدم عليه السلام:(لَسْتُ هُنَاكُمْ) لفظة "هنا" موضوعة للمكان القريب المشار إليه، فإذا ألحقت بها كاف الخطاب تكون للبعيد، فالمعنى هنا: أنا بعيد من مقام الشفاعة، فلست أهلًا لها، قال البيضاويّ رحمه الله: أي يقول لهم آدم عليه السلام: لستُ في المكان والمنزل الذي تحسبونني، يريد به مقام الشفاعة. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله: هو كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة، قاله تواضعًا وإكبارًا لما يسألونه، قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي، بل لغيري، وقد وقع في رواية معبد بن هلال:"فيقول: لست لها"، وفي رواية حذيفة:"لست بصاحب ذاك"، وهو يؤيد الإشارة المذكورة، قاله في "الفتح"

(1)

. (فَيَذْكُرُ) آدم عليه السلام اعتذارًا عن التقاعد عن الشفاعة، ومبيّنًا سببه (خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ) فيه حذف العائد إلى الموصول، تقديره:"أصابها"، زاد همام في روايته:"أكلَهُ من الشجرة، وقد نُهِي عنها"، وهو بنصب "أكلَهُ" بدل من قوله:"خطيئته"، ويجوز أن يكون بيانًا للضمير المبهم المحذوف، نحو قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} الآية [فصلت: 12].

وفي رواية هشام: "فيذكُر ذنبه، فيستحي"، وفي رواية ابن عباس:"إني قد أُخْرِجتُ بخطيئتي من الجنة"، وفي رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد:"وإني أذنبت ذنبًا، فأُهْبِطت به إلى الأرض"، وفي رواية حذيفة، وأبي هريرة معًا:"هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ "، وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور:"إني أخطأت، وأنا في الفردوس، فإن يُغْفَرْ لي اليومَ حسبي"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن ربي غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضبَ بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيتُ، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري"(فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا) أي تلك الخطيئة (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ) زاد في رواية: "إلى الأرض"، وفي رواية هشام: "فإنه أول

(1)

11/ 441 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

ص: 305

رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدًا شاكرًا"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سَمّاك الله عبدًا شكورًا"، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "فينطلقون إلى نوح، فيقولون: يا نوح اشفَعْ لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك، واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين دَيّارًا".

ويُجْمَع بينهما بأن آدم سبق إلى وصفه بأنه أول رسول، فخاطبه أهل الموقف بذلك.

[تنبيه]: قد استُشْكِلت هذه الأولية بأن آدم نبيٌّ مرسلٌ، وكذا شيثٌ، وإدريس، وهم قبل نوح عليهم الصلاة والسلام.

[وأجيب]: بأنّ الأولية مقيَّدة بقوله: "أهل الأرض"؛ لأن آدم، ومن ذكر معه عليه السلام، لم يُرْسلوا إلى أهل الأرض جميعًا.

واستُشْكِل أيضًا بحديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ مرفوعًا: "أُعطِيتُ خمسًا لم يُعطهنّ أحد

" الحديث، وفيه: "وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصّةً، وبُعثتُ إلى الناس كافّةً

".

أُجيب بأن العموم لم يكن في أصل بعثة نوح عليه السلام، وإنما اتّفق باعتبار حصر الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما بعثة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم فهي في أصلها عامّة لقومه، ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أُهلك قومه، أو إن الثلاثة كانوا أنبياء، ولم يكونوا رسلًا، والى هذا جنح ابن بطال في حقّ آدم، وتعقّبه عياض بما صححه ابن حبّان من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث، وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس، فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل، وهو إلياس.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي ذر رضي الله عنه، وإن صححه ابن حبّان، إلا أنه ضعيف، فلا يصلح للاحتجاج به، على أنه فلا يلزم من إنزال الصحف أن يكون المنزل عليه رسولًا؛ لاحتمال أن يكون ليعمل به في خاصّة نفسه، أو

ص: 306

لا يكون فيه أمر ونهي، بل مواعظ ونصائح تختصّ به، فتنبّه

(1)

.

ومن الأجوبة أيضًا أن رسالة آدم عليه السلام كانت إلى بنيه، وهم مُوَحِّدون؛ ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار، يدعوهم إلى التوحيد، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ) نوح عليه السلام (لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ) نوح عليه السلام (خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا) في رواية هشام: "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم"، وفي رواية شيبان:"سؤال الله"، وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم، لكن قال:"وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"فيقول: ليس ذاكم عندي"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إني دعوت بدعوة أغرَقَتْ أهلَ الأرض".

ويُجْمَع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين:

[أحدهما]: نَهْيُ الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم، فَخَشِي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك.

[ثانيهما]: أن له دعوةً واحدةً محققَةَ الإجابة، وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فخَشِيَ أن يطلُبَ، فلا يجابَ.

وقال بعض الشراح: كان الله وَعَدَ نوحًا أن ينجيه وأهله، فلما غَرِقَ ابنه ذكر لربه ما وعده، فقيل له: المراد مِن أهلك مَن آمن، وعمل صالحًا، فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم.

(1)

هو ما أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" 2/ 76 - 81 من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، وهو حديث طويل جدًّا، أوله: "دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وحده

" وفيه: "قلت: يا رسول الله كم كتابًا أنزل الله؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أُنزل على شيث خمسون صحيفة

" الحديث، وفي سنده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسّانيّ، وهو متروك الحديث، وكذّبه أبو زرعة وغيره، وتفرّد بروايته. انظر: "ميزان الاعتدال" 1/ 72 - 73، و"لسان الميزان" 1/ 180 - 181.

(2)

11/ 442 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

ص: 307

[تنبيهان]:

(الأول): سقط من حديث حذيفة المقرون بأبي هريرة رضي الله عنهما الآتي بعد ستة أحاديث ذكرُ نوح، فقال في قصة آدم:"اذهبوا إلى ابني إبراهيم"، وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على مَن حَفِظَ.

(الثاني): ذكر أبو حامد الغزالي في "كشف علوم الآخرة": أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يُغْتَرّ بشيء منها. انتهى، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا) وفي رواية معبد بن هلال: "ولكن عليكم بإبراهيم، فهو خليل الله".

قال القاضي عياض رحمه الله: أصل الْخُلّة

(1)

الاختصاص، والاستصفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى مَن خاللت، مأخوذ من الْخَلّة، وهي الحاجة، فسُمّي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه قَصَرَ حاجته على ربه سبحانه وتعالى حين أتاه الملك، وهو في الْمَنْجَنيق؛ ليُرمى به في النار، فقال: ألك حاجة؟، قال: أما إليك فلا

(2)

، وقيل: الخلة صَفَاء المودّة التي توجب تَخَلُّل الأسرار، وقيل: معناها المحبة والإلطاف، قال الشاعر [من الخفيف]:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي

وَلذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا

انتهى كلام القاضي رحمه الله

(3)

.

وقال ابن الأنباريّ: الخليل معناه: المحب الكامل المحبة، والمحبوب الْمُوفِّي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خَلَلٌ، قال الواحديّ: هذا القول هو الاختيار؛ لأن الله عز وجل خليل إبراهيم وإبراهيم خليل الله، ولا

(1)

بالضم والكسر: المصادقة، أفاده في "ق".

(2)

هذا أثر غير صحيح، أخرجه الطبريّ موقوفًا على من لم يُسمّ من أصحاب معتمر بن سليمان، راجع:"تفسير الطبريّ" 17/ 45.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 858 - 859.

ص: 308

يجوز أن يقال: الله تعالى خليل إبراهيم من الْخَلّة التي هي الحاجة، والله تعالى أعلم

(1)

.

(فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم) زاد أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه: "فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبيّ الله، وخليله من أهل الأرض، قُمْ اشفع لنا إلى ربك"، وذكر مثل ما لآدم قولًا وجوابًا، إلا أنه قال: قد كنت كذبت ثلاث كذبات، وذكرهُنّ (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا) وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه:"ليس ذاكم عندي"، وفي رواية هَمّام:"إني كنت كذبت ثلاث كذبات"، زاد شيبان في روايته:"قوله: إني سقيم، وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته: أخبريه أني أخوك"، وفي رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"فيقول: إني كَذَبْتُ ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا مَاحَلَ بها عن دين الله"، و"مَاحَلَ" - بمهملة - بوزن جادَلَ، ومعناه.

ووقع في رواية حُذيفة رضي الله عنه المقرونة: "لستُ بصاحب ذاك، إنما كنت خليلًا من وراء وراء"، وضُبِطَ بفتح الهمزة، وبضمها، واختَلَف الترجيحُ فيهما، قال النوويّ: أشهرهما الفتح بلا تنوين، ويجوز بناؤهما على الضم، وصوّبه أبو البقاء، والكنديّ، وصوّب ابن دِحْية الفتح، على أن الكلمة مركبة، مثل شَذَرَ مَذَرَ، وإن ورد منصوبًا منونًا جاز، ومعناه: لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، قال صاحب "التحرير": كلمة تقال على سبيل التواضع: أي لست في تلك الدرجة، قال: وقد وقع لي فيه معنى مَلِيحٌ، وهو أن الفضل الذي أُعطيته كان بسِفَارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله بلا واسطة، وكرر "وراء" إشارةً إلى نبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الصحيح عدم ثبوت الرؤية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ببصره؛ لأنه صحّ عنه ذلك، فالقول به ضعيف، وما نُقل عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره يُحمل على أنه رآه بقلبه، لا ببصره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال البيضاوي: الحقّ أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض

(1)

راجع: "شرح مسلم" للنوويّ 3/ 55 - 56.

ص: 309

الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها؛ استصغارًا لنفسه عن الشفاعة، مع وقوعها؛ لأن من كان أعرف بالله، وأقرب إليه منزلةً كان أعظم خوفًا. انتهى.

(وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا بإجماع أهل السنّة على ظاهره، وأن الله تعالى كلّم موسى حقيقةً كلامًا سمعه بغير واسطة، ولهذا أكّده بالمصدر، أي في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فالكلام صفة ثابتةٌ لله تعالى لا يُشبه كلام غيره. انتهى

(1)

. (وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ) وفي رواية معبد بن هلال: "ولكن عليكم بموسى، فهو كليم الله"، وفي رواية الإسماعيليّ:"عبدًا أعطاه الله التوراة، وكلَّمه تكليمًا"، زاد همام في روايته:"وقرَّبه نجيًّا"، وفي رواية حُذيفة المقرونة بأبي هريرة الآتية:"اعمِدُوا إلى موسى".

(قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فَضَّلَك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا، فذكر مثل آدم قولًا وجوابًا، لكنه قال: إني قتلت نفسًا لم أُومَرْ بقتلها".

(فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا) وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور: "إني قتلت نفسًا بغير نفس، وإن يَغْفِر لي اليوم حسبي"، وفي حديث أبي هريرة:"إني قتلت نفسًا، لم أُومر بقتلها، وذكر مثل ما في آدم"، (وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى، رُوحَ الله، وَكلِمَتَهُ) وفي رواية هشام: "عبد الله، ورسوله، وكلمته، ورُوحه"، وفي حديث أبي بكر:"فإنه كان يُبْرِئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى"(فَيَأْتُونَ عِيسَى، رُوحَ الله، وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) وفي حديث أبي هريرة: "فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكَلَّمت الناس في المهد صبيًّا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه"، مثل آدم قولًا وجوابًا، لكن قال: ولم يذكر ذنبًا، لكن وقع في رواية الترمذيّ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"إني عُبِدت من دون الله"، وفي رواية أحمد، والنسائيّ،

(1)

"شرح مسلم" 3/ 57.

ص: 310

من حديث ابن عباس: "إني اتُّخِذتُ إلهًا من دون الله"، وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه، وزاد:"وإن يَغْفِر لي اليومَ حسبي"

(1)

. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) وفي رواية معتمر عند ابن خزيمة: "انطلقوا إلى مَن جاء اليوم مغفورًا له، ليس عليه ذنبٌ"، وفي رواية ثابت أيضًا:"خاتم النبيين قد حَضَرَ اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد خُتِم عليه، أكان يُقْدَر على ما في الوعاء حتى يُفَضّ الخاتم؟ "، وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه: "فيرجعون إلى آدم، فيقول أرأيتم

إلخ"، وفي حديث أبي بكر: "ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم، فإنه أول مَن تَنْشَقّ عنه الأرض".

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، فقيل: المتقدم ما قبل النبوة، والمتأخر العصمة بعدها، وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل، وقيل: المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع ذلك.

قال الحافظ: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا.

ويستفاد من قول عيسى عليه السلام في حق نبيّنا صلى الله عليه وسلم هذا، ومن قول موسى عليه السلام فيما تقدم:"إني قتلت نفسًا بغير نفس، وإن يَغْفِر لي اليوم حسبي"، مع أن الله قد غَفَر له بنص القرآن التفرقة بين مَن وقع منه شيء، ومن لم يقع شيء أصلًا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصيرًا عن مقام الشفاعة، مع وجود ما صَدَر منه بخلاف نبيّنا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثَمَّ احتَجَّ عيسى بأنه صاحب الشفاعة؛ لأنه قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بمعنى أن الله أَخْبَر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في "فتح الباري"، فله الحمد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اختاره الحافظ رحمه الله من أن المراد أنه

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 442 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

ص: 311

مغفور له، غير مؤاخذ أن لو وقع هو الذي لا يترجّح عندي غيره، وأما ما اختاره بعضهم من أن المراد ما وقع منه عن سهو وغَفْلة وتأويل، ففيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ لا فرق حينئذ بينه وبين موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم ما يفعلون شيئًا يخالفون فيه مراد الله تعالى إلا عن سهو، أو تأويل، فلم يوجد الفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم، حتى يوصف بأنه يحقّ له أن يشفع؛ لأنه غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر، كما وصفه عيسى عليه السلام بذلك إلا بالمعنى الذي تقدّم، فتبّصر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَيَأْتُونِي) وفي رواية النضر بن أنس، عن أبيه:"حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تَعْبُر الصراط؛ إذ جاء عيسى، فقال: يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك، يسألون لتدعو الله أن يُفَرِّق جمع الأمم إلى حيث يشاء؛ لِغَمِّ ما هم فيه"، فأفادت هذه الرواية تَعْيِين موقف النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وُصِفَ من كلام أهل الموقف كلّه يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار، كما تقدّم بيانه قريبًا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعًا يسألونه في ذلك.

وقد أخرج الترمذيّ وغيره من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه في نزول القرآن على سبعة أحرف، وفيه:"وأَخَّرتُ الثالثةَ ليوم يَرْغَبُ إليّ فيه الخلق، حتى إبراهيم عليه السلام".

ووقع في رواية معبد بن هلال: "فيأتوني، فأقول: أنا لها، أنا لها"، زاد عقبة بن عامر رضي الله عنه عند ابن المبارك في "الزهد":"فَيَأْذَن الله لي، فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريحٍ شَمَّها أحدٌ"، وفي حديث سلمان رضي الله عنه عند أبي بكر بن أبي شيبة:"يأتون محمدًا، فيقولون: يا نبي الله، أنت الذي فَتَحَ الله بك، وخَتَمَ، وغَفَرَ لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنًا، وترى ما نحن فيه، فقُمْ فاشفع لنا إلى ربنا، فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة"، وفي رواية معتمر:"فيقول: أنا صاحبها"

(1)

.

(فَأَسْتَأْذِنُ) وفي رواية هشام: "فأنطلق حتى أستأذن"(عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي)

(1)

المصدر السابق.

ص: 312

قال القاضي عياض رحمه الله: معناه - والله أعلم - فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها، والمقام المحمود الذي ادّخره الله تعالى له، وأعلمه أنه يبعثه فيه، قال: وجاء في حديث أنس، وحديث أبي هريرة ابتداء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد سجوده وحمده، والإذن له في الشفاعة بقوله:"أمتي أمتي"، وقد جاء في حديث حذيفة بعد هذا في هذا الحديث نفسه: قال: فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيقوم، ويؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمرّ أولهم كالبرق، وساق الحديث، وبهذا يتصل الحديث؛ لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، وهي الإراحة من الموقف، والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حَلّت الشفاعة في أمته صلى الله عليه وسلم وفي المذنبين، وحَلّت الشفاعة للأنبياء والملائكة، وغيرهم - صلوات الله وسلامه عليهم - كما جاء في الأحاديث الأُخَر، وجاء في الأحاديث المتقدّمة في الرؤية، وحشر الناس اتّباعُ كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة، ووضع الصراط، فيحتمل أن الأمر باتباع الأمم ما كانت تعبد هو أول الفصل والإراحة من هول الموقف، وهو أول المقام المحمود، وأن الشفاعة التي ذُكِر حلولها هي الشفاعة في المذنبين على الصراط، وهو ظاهر الأحاديث، وأنها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره كما نُصّ عليه في الأحاديث، ثم ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار، وبهذا تجتمع متون الحديث، وتترتب معانيها - إن شاء الله تعالى - هذا آخر كلام القاضي، والله تعالى أعلم

(1)

.

وتعقّب في "الفتح" قول عياض: "فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها"، بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول، والإذن له إنما هو في دخول الدار، وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} الآية [يونس: 25] على القول بأن المراد بالسلام هنا: الاسم العظيم، وهو من أسماء الله تعالى.

قيل: الحكمة في انتقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لَمّا كانت مقام عرض وحساب، كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 865 - 867.

ص: 313

الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثَمَّ يُسْتَحَبّ أن يتحرى للدعاء المكان الشريف؛ لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة.

قال الحافظ رحمه الله: وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاحَ باب الجنة، وقد ثبت في "صحيح مسلم" أنه أوّلُ من يستفتح باب الجنة، وفي رواية علي بن زيد، عن أنس رضي الله عنه عند الترمذيّ:"فآخذ حلقة باب الجنة، فأُقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي، ويُرَحِّبون، فأَخِرُّ ساجدًا"، وفي رواية ثابت، عن أنس، عند مسلم:"فيقول الخازن: مَنْ؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك"، وله من رواية المختار بن فلفل، عن أنس، رفعه:"أنا أوّلُ من يَقْرَع باب الجنة"، وفي رواية قتادة، عن أنس:"آتي بابَ الجنة، فأستفتح، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبًا بمحمد"، وفي حديث سلمان:"فيأخذ بحلقة الباب، وهي من ذهب، فيقرَعُ الباب، فيقال: مَن هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له، حتى يقوم بين يدي الله، فيستأذن في السجود، فيؤذن له"، وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"فيأتي جبريل ربه، فيقول: ائذن له"

(1)

.

(فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ، وَقَعْتُ سَاجِدًا) وفي رواية أبي بكر رضي الله عنه: "فآتي تحت العرش، فأقعُ ساجدًا لربي"، وفي رواية لابن حبان، من طريق ثوبان، عن أنس:"فيتجلى له الربّ، ولا يتجلى لشيء قبله"، وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى، رفعه:"يُعَرِّفني الله نفسه، فأسجد له سجدةً يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحةٍ يرضى بها عني"(فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ) زاد في رواية: "أن يَدَعَني"، وفي حديث عبادة بن الصامت:"فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا شاكرًا له"، وفي رواية معبد بن هلال:"فأقوم بين يديه، فَيُلْهِمني مَحَامِدَ لا أقدر عليها الآنَ، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرّ له ساجدًا"، وفي حديث أبي بكر الصديق:"فينطلق إليه جبريل، فيخرّ ساجدًا، قدر جمعة"(فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية النضر بن أنس:"فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد، فقل له: ارفع رأسك"، فعلى هذا فالمعنى:

(1)

المصدر السابق 11/ 444 - 445.

ص: 314

يقول لي على لسان جبريل (قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ) بالبناء للمفعول، وبالهاء الساكنة، وهي هاء السكت تزاد للوقف، كما قال في "الخلاصة":

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ

بِحَذْفِ آخِرٍ كَـ"أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

(اشْفَعْ تُشَفَّعْ) بالبناء للمفعول: أي تكون مقبول الشفاعة، وفي رواية:"وسَلْ تعطه، وقل تسمع، واشفع تشفع" بالواو، ووقع في حديث أبي بكر:"فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه خَرّ ساجدًا قدر جمعة"، وفي حديث سلمان:"فَيُنَادَى: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، وادع تُجَبْ"(فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ، يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي) وفي رواية ثابت: "بمحامد لم يَحْمَده بها أحدٌ قبلي، ولا يحمده بها أحدٌ بعدي"، وفي حديث سلمان:"فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق"، وكأنه صلى الله عليه وسلم يُلْهَم التحميد قبل سجوده، وبعده، وفيه، ويكونُ في كل مكان ما يليق به، وقد ورد ما لعله يُفَسِّر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائيّ، ومُصَنَّف عبد الرزاق، ومُعْجَم الطبرانيّ من حديث حذيفة رضي الله عنه رفعه:"قال: يجمع الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والْمَهْدِيّ من هَدَيت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك، لا مَلْجَأ ولا منجا منك إلا إليك"، زاد عبد الرزاق:"سبحانك رب البيت"، فذلك قوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، قال ابن منده في "كتاب الإيمان": هذا حديث مُجْمَع على صحة إسناده، وثقة رواته. انتهى.

(ثُمَّ أَشْفَعُ) وفي رواية معبد بن هلال: "فأقول: ربِّ أمتي أمتي أمتي"، وفي حديث أبي هريرة نحوه (فَيَحُدُّ لِي حَدًّا) أي يُبَيّن لي في كل طَوْر من أطوار الشفاعة حدًّا أَقِف عنده، فلا أتَعَدّاه، مثل أن يقول: شَفّعتُك فيمن أخلّ بالجماعة، ثم فيمن أخلّ بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنى، وعلى هذا الأسلوب، كذ حكاه الطيبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الطيبيّ في بيان معنى قوله: "فيَحدّ لي حدًّا"، والأولى فيه - كما حقّقه الحافظ رحمه الله ما دلّ عليه سياق الأخبار، أن المراد به تفضيل مراتب الْمُخْرَجين في الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد، عن يحيى القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في آخر هذا الحديث

ص: 315

بعينه قال: "فيُخْرِج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرةً، ثم يُخرِج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرّة، ثم يُخرِج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذَرّة".

وفي رواية ثابت عند أحمد أيضًا: "فأقول: أي رب أمتي أمتي، فيقول: أَخْرِج من كان في قلبه مثقال شعيرة" ثم ذكر نحو ما تقدم، وقال:"مثقال ذَرّة"، ثم قال:"مثقال حبة من خردل"، ولم يذكر بقية الحديث.

ووقع في طريق النضر بن أنس قال: "فَشُفِّعْتُ في أمتي أن أُخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا، فما زِلْتُ أتردّد على ربي، لا أقوم منه مقامًا إلا شُفِّعْتُ".

وفي حديث سلمان رضي الله عنه: "فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبة من خردل، فذلك المقام المحمود".

(فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّار، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) قال في "الفتح": قال الداوديّ رحمه الله: كأن راوي هذا الحديث رَكَّب شيئًا على غير أصله، وذلك أن في أول الحديث ذكرَ الشفاعة في الإراحة من كَرْب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف، والمرور على الصراط، وسقوط مَن يسقط في تلك الحالة في النار، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج، وهو إشكال قويّ.

وقد أجاب عنه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة رضي الله عنه المقرون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد قوله: "فيأتون محمدًا، فيقوم، ويؤذن له، أي في الشفاعة، وتُرْسَل الأمانة والرحم، فيقومان جَنْبَي الصراط يمينًا وشمالًا، فَيَمُرّ أوّلكم كالبرق

" الحديث، قال القاضي عياض رحمه الله: فبهذا يَتَّصِل الكلام؛ لأن الشفاعة التي لَجَأَ الناس إليه فيها هي الإراحة من كَرْب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج.

وقد وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم

(1)

بعد ذكر الجمع في

(1)

تقدّم في الباب (88) برقم (466).

ص: 316

الموقف الأمرُ باتّباع كلّ أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حُلُول الشفاعة بعد وضع الصراط، والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كلِّ أمة ما كانت تعبد هو أولَ فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها.

وخلاصة القول: إنه يُحمل على أن بعض الرواة حَفِظَ ما لم يحفظه الآخر.

فظهر من هذا أنه صلى الله عليه وسلم أوّل ما يَشفَع ليُقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار، ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحًا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما اختَصَرَ في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مُطَوَّلًا

(1)

من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأُذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد، فيَشْفَع لِيُقْضَى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيؤمئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلهم".

ووقع في حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه عند أبي يعلى: "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تَمُرّ أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرُّون".

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما من رواية عبد الله بن الحارث عنه، عند أحمد: فيقول عز وجل: "يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "كتاب الزكاة" من "صحيحه"، فقال:(1475) حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَة لحم"، وقال:"إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يَبْلُغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم " - وزاد عبد الله بن صالح: حدثني الليث، حدثني ابن أبي جعفر - "فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلهم". انتهى، وأخرجه مسلم أيضًا في "الزكاة"(1040) مختصرًا على المسألة.

ص: 317

عَجِّلْ حسابهم"، وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد، وأبي يعلى: "فأقول: أنا لها، حتى يَأْذَن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه، نادى منادٍ أين محمد وأمته؟

" الحديث.

وقد سبق بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل.

وتَعَرَّض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر، فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس، والكرب، والشدّة التي كان أهل الموقف فيها، من دُنُوّ الشمس إلى رؤوسهم، وكربهم بِحَرِّها، وسَفْعِها، حتى أَلجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها.

قال الحافظ: وهو احتمال بعيدٌ إلا أن يقال: إنه يقع إخراجان، وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه، والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، ويكون قوله فيه: فيقول: "مَن كان يعبد شيئًا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف، ونصب الصراط، والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور، فيتحدا.

وأجاب القرطبي رحمه الله عن أصل الإشكال بأن في قوله آخرَ حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة، بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: أَدْخِل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب"، قال: في هذا ما يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طُلِب من تعجيل الحساب، فإنه لَمّا أُذن له في إدخال من لاحساب عليه، دلّ على تأخير من عليه حساب ليحاسب.

ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى: "فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فَشَفِّعني في أهل الجنة، يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شَفَّعتك فيهم، وأذنت لهم في دخول الجنة"، وفيه إشعار بأن العرض، والميزان، وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم يُنَادي المنادي: لِيَتَّبعْ كلُّ أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط، والمرور عليه، فَيُطفَأُ

ص: 318

نور المنافقين، فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يَسْقُط، ويوقف بعضُ مَن نجا عند القنطرة للمقاصّة بينهم، ثم يدخلون الجنة.

قال الحافظ بعد ذكر ما سبق: ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصريّ، نزيل مصر، ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون - وقد ضعفه الدارقطنيّ، وقال أبو حاتم الرازيّ: صدوق، وقال أبو زرعة: رُبّما وَهِمَ، وقال ابن عديّ: يُكتب حديثه مع ضعفه، فَنَقَل فيه عن الكلبيّ، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، بقيت زُمْرَةٌ من آخر زمر الجنة، إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم، فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم، وقد بَلَغَت النار منهم كُلَّ مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشكّ والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال: فيَصْرُخُون عند ذلك، يدعون ربهم، فيَسْمَعُهم أهل الجنة، فيأتون آدم

"، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبلُ واحدًا واحدًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق، فيأتي رب العزة، فيسجد له، حتى يأمره أن يرفع رأسه، ثم يسأله: ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: ربِّ أُناس من عبادك أصحاب ذنوب، لم يُشركوا بك، وأنت أعلم بهم، فَعَيَّرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول: وعزتي لأُخرجنَّهم، فيُخْرِجهم قد احتَرَقُوا، فينضح عليهم من الماء، حتى ينبتوا، ثم يدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

قال: فهذا لو ثَبَتَ لرفع الإشكال، لكن الكلبيّ ضعيف، ومع ذلك لم يُسْنِده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدًا بعد واحد إنما يقع في الموقف، قبل دخول المؤمنين الجنة، والله تعالى أعلم.

قال: وقد تمسّك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدًا من الموحدين لا يدخل النار أصلًا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تَسْفَعُهم، أو تَلْفَحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطلٌ، وأقوى ما يُرَدّ به

ص: 319

عليه ما سيأتي للمصنّف في "كتاب الزكاة" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة مانع الزكاة: "ما من صاحب إبل، لا يؤدّي حقّها منها، إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بقاع قَرْقَر أوفر ما كانت، تطؤه بأخفافها، وتَعَضّه بأفواهها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين العباد، فَيَرَى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار

" الحديث بطوله، وفيه ذكر الذهب، والفضة، والبقر، والغنم، وهو دالٌّ على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقةً، زيادة على كرب الموقف.

وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أنّ الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول: لا إله إلا الله، فَيَغْضَب الله لهم، فيخرجهم، وهو مما يُرَدُّ به على المبتدعة المذكورين. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَعُودُ، فَأَقعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي) أي يتركني ساجدًا، (مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيه، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّار، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ"، قَالَ: فَلَا أَدْرِي، فِي الثَّالِثَة، أَوْ فِي الرَّابِعَةِ)، وفي رواية هشام:"فأَحُدّ لهم حدًّا، فأُدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيًا، فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحدّ لهم حدًّا ثالثًا، فأدخلهم الجنة، ثم أرجع"، هكذا في أكثر الروايات، ووقع عند أحمد، من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:"ثم أعود الرابعة، فأقول: يا ربّ ما بقي إلا من حبسه القرآن"، ولم يشكّ، بل جَزَم بأن هذا القول يقع في الرابعة، ووقع في رواية معبد بن هلال، عن أنس: أن الحسن حَدَّث معبدًا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة"، وفيه قول الله له:"ليس ذلك لك، وأن الله يُخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وإن لم يعمل خيرًا قط"، فعلى هذا فقوله:"حبسه القرآن" يتناول الكفار، وبعض العصاة، ممن وَرَد في القرآن في حقّه التخليد، ثم يُخرج العصاة في القبضة، ويبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حقّ العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم.

(1)

"الفتح" 11/ 447 - 448 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

ص: 320

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَأَقُولُ: يَا رَبّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"، قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ)، يعني محمد بن عُبيد شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) يعني أنه صرّح بأن هذا التفسير لقتادة، لا لأنس رضي الله عنه، وأما شيخه أبو كامل، فلم يبيّن ذلك، بل قال: أي وجب عليه الخلود.

قال النوويّ رحمه الله: وهذا التفسير صحيحٌ، ومعناه: مَن أخبر القرآن أنه مُخَلَّد في النار، وهم الكفار، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 4]، وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحقّ، وما أجمع عليه السلف أنه لا يُخلَّد في النار أحدٌ مات على التوحيد، والله تعالى أعلم

(1)

.

ووقع في رواية هشام، وسعيد عند البخاريّ:"فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود"، وسقط من رواية سعيد عند المصنّف:"ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام: "إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود"، فتعين أن قوله:"ووجب عليه الخلود" في رواية هشام عند البخاريّ مدرج في المرفوع؛ لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة، فسَّر به قوله:"مَن حَبَسه القرآن"، أي: من أخبر القرآن بأنه يُخَلَّد في النار.

ووقع في رواية همام عند البخاريّ في "التوحيد" بعد قوله: "أي وجب عليه الخلود": "وهو المقام المحمود الذي وعده الله"، وفي رواية شيبان:"إلا من حبسه القرآن"، يقول: وَجَب عليه الخلود، وقال:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله:"إلا من حبسه القرآن": قال: فحدَّثنا أنس بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرة

" الحديث، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس، من روايته عن الحسن البصريّ، عن أنس، قال: "ثم أقوم الرابعة، فأقول: أي ربّ ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول لي: ليس ذلك لك"، فذكر بقية الحديث في إخراجهم

(2)

، والله

(1)

"شرح مسلم" 3/ 58 - 59.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 448 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

ص: 321

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 482 و 483 و 484 و 485 و 486](193)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4476)، و"الرقاق"(6565)، و"التوحيد"(7410 و 7510 و 7516)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 450 - 451)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2010)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 116 و 244)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 247 - 248 و 249 - 250)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6464)، و (ابن منده) في "الإيمان"(861 و 862 و 863 و 864)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(444 و 445 و 446 و 447)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(478 و 479 و 481 و 480 و 482)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(804 و 805 و 806 و 807 و 808 و 809 و 810)، و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد"(830)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 191 و 315)، وفي "الاعتقاد"(89 و 192 و 194)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات الشفاعة، والردّ على المبتدعة في إنكارهم ذلك.

2 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: استَدَلَّ بهذا الحديث من جوّز الخطايا على الأنبياء عليهم السلام، كقول: كلّ مَن ذُكِر فيه ما ذَكَرَ، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة، وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويَلتَحِق بها ما يُزْرِي بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يَقْدَح في الإبلاغ، من جهة القول، واختَلَفُوا في الفعل، فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو، لكن لا يَحْصُل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله، من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقًا، وأوّلوا الأحاديث، والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن

ص: 322

يكون بتأويل من بعضهم، أو بسهو، أو بإذن، لكن خَشُوا أن لا يكون ذلك موافقًا لمقامهم، فأشفقوا من المؤاخذة، أو المعاتبة. قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة، وإن قالوا بعصمتهم مطلقًا؛ لأن مَنْزَعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقًا، ولا يجوز على النبي الكفر، ومَنْزَعنا أن أمّة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله، فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء الواحد، والنهي عنه في حالة واحدة، وهو باطل. ثم قال: ما ذُكر في حديث الباب لا يَخرُج عما قلناه؛ لأن أكل آدم من الشجرة، كان عن سهو، وطَلَب نوح نجاة ولده، كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض، وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرًا، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم البحث في هذا مستوفًى، وأن القول الراجح: إن الأنبياء معصومون فيما يُبلّغون عن الله تعالى مطلقًا، وعن الكبائر، والمداومة على الصغائر، وهذا هو الذي عليه المحقّقون؛ لموافقته لظواهر النصوص، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

3 -

(ومنها): أنه قد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم، أن مَن دخل النار، من العصاة، لا يَخرُج منها؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعمّ من ذلك، فقد ثَبَتَ تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعلّ التأييد في حقّ من يتأخر بعد شفاعة الشافعين، حتى يُخْرَجوا بقبضة أرحم الراحمين، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحاح، فيكون التأييد مؤقتًا.

4 -

(ومنها): أن فيه إطلاق صفة الغضب على الله تعالى على حقيقتها، ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، كبقيّة صفاته سبحانه وتعالى من السمع، والبصع، والقدرة، والرضا، والمحبّة، وغير ذلك، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وأما تأويله بما يظهر من انتقامه ممن عصاه، بإرادة إيصال السوء، ونحو ذلك مما ذكره الشرّاح كالنوويّ وغيره، فإنه تحريف، مخالف لظواهر

ص: 323

النصوص، ومذهب السلف الصالح، فتنبّه لذلك، فإنه من مزالّ الأقدام، زلّ به كثير ممن ينتسب إلى العلم من المتأخّرين.

5 -

(ومنها): أن فيه تفضيل نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق؛ لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظَهَر فضله عليهم في هذا المقام العظيم، وهي الشفاعة العظمى، حيث إنهم اعتذروا عن القيام بما طُلب منهم، وأخبروا أنهم لا يقدرون عليه، وأن صاحبه الذي اختصّه الله سبحانه وتعالى هو محمد صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ رحمه الله: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول: نفسي نفسي، وبين من يقول: أمتي أمتي، لكان كافيًا.

6 -

(ومنها): أن فيه تفضيلَ الأنبياء المذكوربن فيه على مَن لم يُذْكَر فيه؛ لتأهلهم لذلك المقام العظيم، دون من سواهم.

وقد قيل: إنما اختَصّ المذكورون بذلك؛ لمزايا أخرى، لا تتعلق بالتفضيل، فآدم؛ لكونه والد الجميع، ونوح؛ لكونه الأب الثاني، وإبراهيم؛ للأمر باتباع ملّته، وموسى؛ لأنه أكثر الأنبياء تبعًا، وعيسى؛ لأنه أولى الناس بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الحديث الصحيح.

ويحتمل أن يكونوا اختَصُّوا بذلك؛ لأنهم أصحاب شرائع، عَمِلَ بها مَن بين مَن ذُكِرَ أَوَّلًا ومَن بعده.

7 -

(ومنها): أن من طَلَب من كبير أمرًا مُهِمًّا أن يُقَدِّم بين يدي سؤاله وصف المسؤول بأحسن صفاته، وأشرف مزاياه؛ ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله.

8 -

(ومنها): أن المسؤول إذا لم يَقْدِر على تحصيل ما سُئل يَعتذر بما يُقبل منه، وَيدُلّ على مَن يَظُنّ أنه أهلٌ للقيام بذلك، فالدال على الخير كفاعله.

9 -

(ومنها): أنه ينبغي أن يُثْنِي على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته، ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع.

10 -

(ومنها): أن فيه استعمال ظرف المكان في الزمان؛ لقوله: "لست هناكم"؛ لأن "هنا" ظرف مكان، فاستُعملت في ظرف الزمان؛ لأن المعنى: لست في ذلك المقام، كذا قاله بعضهم.

ص: 324

وفيه نظر؛ بل الصواب أنها على بابها من كونها ظرف مكان، لكنه معنويّ، لا حسّي، مع أنه يمكن حمله على الحسيّ؛ لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش، يتحقق ذلك أيضًا.

11 -

(ومنها): أن فيه العملَ بالعامّ قبل البحث عن المخَصِّص؛ أخذًا من قصة نوح عليه السلام في طلبه نجاة ابنه، وقد يَتمسّك به مَن يرى بعكسه، ولكل وجهة، لكن الأول أظهر.

12 -

(ومنها): أن الناس يوم القيامة يَستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام، كما تقدم في صدر الحديث.

13 -

(ومنها): أن فيه أنهم يستشير بعضهم بعضًا، ويُجْمِعون على الشيء المطلوب، وأنهم يُغَطَّى عنهم بعضُ ما علموه في الدنيا؛ لأن في السائلين مَن سَمِع هذا الحديث، ومع ذلك فلا يستحضر أحدٌ منهم أن ذلك المقام يَختصّ به نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وَهْلَةٍ، ولَمَا احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبيّ، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترتب عليه، من إظهار فضل نبيّنا صلى الله عليه وسلم، كما تقدم تقريره. ذكر هذه الفوائد في "الفتح"

(1)

.

14 -

(ومنها): أنه إنما قال كلُّ واحد من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -: "لست هناكم، أو لست لها" تواضعًا وإكبارًا لما يُسألونه، وقد تكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة، وهذا المقام ليس له، بل لغيره، وكل واحد منهم يدلّ على الآخر، حتى انتهى الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم عَلِمُوا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم معيّنًا، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك، إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

(1)

11/ 448 - 450 "كتاب الرقاق" رقم (6565).

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 864.

ص: 325

15 -

(ومنها): أنه فيه تقديمَ ذوي الأسنان والآباء على الأبناء في الأمور التي لها بال، وأما مبادرة النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك، وإجابته لدعوتهم، فلتحققه صلى الله عليه وسلم أن هذه الكرامة، والمقام له صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله القاضي رحمه الله أيضًا

(1)

.

16 -

(ومنها): أن الحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم، ومن بعده - صلوات الله وسلامه عليهم - في الابتداء، ولم يُلْهَموا سؤال محمد صلى الله عليه وسلم هي - والله أعلم - إظهار فضيلة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداءً، لكان يَحتمل أن غيره يَقدر على هذا، ويُحَصِّله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى، وأصفيائه، فامتنعوا، ثم سألوه، فأجاب، وحَصَل غرضهم، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة، وعظيم الإدلال والأُنس، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[483]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، أَوْ يُلْهَمُونَ ذَلِكَ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ، أَوْ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأُقولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المذكور قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار المذكور قبل باب.

3 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الأصحّ (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

4 -

(سَعِيد) بن أبي عروبة مِهْرَان الْيَشْكُريّ، أبو النضر البصريّ، ثقة

(1)

المصدر السابق.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 56.

ص: 326

حافظٌ له تصانيف، أثبت الناس في قتادة، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالبصريين، كالإسنادين السابقين، وأن شيخيه من المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، والله تعالى أعلم.

وقوله: (بمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ) يعني أن حديث سعيد بن أبي عروبة مماثل لحديث أبي عوانة.

وقوله: (وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "قال" ضمير سعيد.

وقوله: (ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ) أي آتي ربّي المرة الرابعة.

وقوله: (أَوْ أَعُودُ الرَّابِعَةَ)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"آتي"، أو "أعود".

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية أبي عوانة، أخرجها الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (6/ 309):

(31677)

حدثنا محمد بن بشر، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، ويُلْهَمون ذلك، فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر، وخلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلّمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا، يُرِحْنا من مكاننا هذا، قال: لست هناكم، ويشكو إليهم، أو يذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه، ولكن ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول أُرسل إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحيي ربه، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا موسى عبدًا كلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم قتل النفس بغير نفس، فيستحيي ربه من ذلك، ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه، فيأتون عيسى، فيقول: لست لذلكم، ولست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني" - قال الحسن -:

ص: 327

قال: "فأنطلق، فأمشي بين سِمَاطَين

(1)

من المؤمنين" - انقطع قول الحسن - "فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيَدَعُني ما شاء الله أن يَدَعَني، فيقال: أو يقول: ارفع رأسك، قل تسمع، وسل تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده تحميدًا يُعَلِّمنيه، فأشفع، فيَحُدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه ثانية، فإذا رأيت ربي، وقعت ساجدًا، فيَدَعُني ما شاء الله أن يَدَعَني، ثم يقول مثل قوله الأول، قل تُسمَع، وسل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده تحميدًا يُعَلّمنيه، فأشفع، فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه ثالثة، فإذا رأيت ربي، وقعت ساجدًا، فيَدَعُني ما شاء الله أن يَدَعَني، فيقال: سل تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده تحميدًا، يُعلّمنيه، فأشفع، فيحدُّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه في الرابعة، فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[484]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَجْمَعُ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ" بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ: "فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوق ربما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

(1)

"السِّماط": الجماعة من الناس.

(2)

"مصنّف ابن أبي شيبة" 6/ 313.

ص: 328

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) أي بمثل حديث أبي عوانة، وسعيد بن أبي عروبة.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ التي أحالها المصنّف هنا، أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(1/ 153)، فقال:

(444)

حدثنا الصَّغَانيّ، قال: ثنا رَوح بن عُبادة (ح)، وحدثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا هشام الدستوائيّ، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْمَع المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لستُ هناك، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا نوحًا، أول الرسل بعثه الله، فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناكم، ويَذكُر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطايا أصابها، ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكَلَّمه تكليمًا، فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه، فيأتون عيسى، فيقول: لستُ هناكم، ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدًا، فيَدَعني ما شاء الله أن يَدَعَني، ثم يقال لي: ارفع محمدُ، قل تسمع، وسل تُعْطَ، واشفع تُشَفَّع، فأحمد ربي بتحميد، يُعَلِّمنيه، ثم أشفع، فيَحُدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي، وقعت له ساجدًا له، فيَدَعُني ما شاء الله أن يَدَعَني، ثم يقال لي: ارفع محمدُ، قل تُسمَع، وسل تُعطا

(1)

، واشفع تُشَفَّع، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيَدَعُني ما شاء الله أن يَدَعَني، ثم يقال: ارفع محمدُ، قل تُسمَع، وسل تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع، فأحمد

(1)

كذا النسخة.

ص: 329

ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[485]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهِشَامٌ، صَاحِبُ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

(ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ قتَادَةَ، حَدَّثنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً" - زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِي رِوَايَتِهِ - قَالَ يَزِيدُ: فَلَقِيتُ شُعْبَةَ، فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيث، فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا بهِ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِيث، إِلَّا أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ مَكَانَ الذَّرَّةِ ذُرَةً، قَالَ يَزِيدُ: صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامَ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) التميميّ، أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 123.

3 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ)

(1)

هو: مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقة [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

(1)

قوله: "أبو غسّان " يجوز صرف غسّان، وتركه، وقوله:"الْمِسْمَعيّ" بكسر الميم الأولى، وفتح الثانية: منسوب إلى مِسْمَع جدّ القبيلة. اهـ. "شرح النوويّ" 3/ 61.

ص: 330

والباقون تقدّموا في السند السابق.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، فللمصنّف فيه إسنادان، أحدهما عن محمد بن منهال، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، والثاني عن أبي غسّان الْمِسْمَعيّ، عن معاذ بن هشام الدستوائيّ، عن أبيه، فيجمتع كلّ من سعيد، وهشام على قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وفائدة التحويل هو الاختصار؛ لأنه لو ساق الإسنادين بتمامهما لطال عليه.

3 -

(ومنها): أن قتادة صرّح في الإسناد الثاني بالتحديث عن قتادة، فزالت تهمة التدليس، فإنه مشهور بالتدليس، فلو اقتصر على الإسناد الأول المعنعن لربّما أُسيء الظنّ فيه، فأزال بذكر الإسناد الثاني ذلك الاتّهام.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، كالأسانيد الأربعة الماضية.

5 -

(ومنها): أن فيه قوله: "صاحبُ الدّستوائيّ". قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الدال، وإسكان السين المهملتين

(1)

، وبعدهما مثناة من فوقُ مفتوحة، وبعد الألف ياء من غير نون، هكذا ضبطناه، وهذا هو المشهور في كتب الحديث، قال صاحب "المطالع": ومنهم من يزيد فيه نونًا بين الألف والياء

(2)

، وهو منسوب إلى دَسْتَوَاء وهي كُورة من كُور الأَهْواز، كان يبيع الثياب التي تُجْلَب منها، فَنُسِب إليها، فيقال: هشام الدَّسْتَوائي، وهشامٌ صاحبُ الدستوائيّ، أي صاحب الثوب الدّسْتوائيّ، وقد ذكره مسلم في أول كتاب الصلاة بعبارة أُخرى، أوهمت لَبْسًا، فقال في "باب صفة الأذان": حدثني أبو غَسّان، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا معاذ بن هشام، صاحبِ الدستوائيّ، فتوهّم صاحب "المطالع" أن قوله:"صاحب الدستوائيّ" مرفوعٌ، وأنه صفة لمعاذ، فقال: يقال: صاحب الدستوائيّ، وإنما هو ابنه،

(1)

وضبطه السمعانيّ بضمّ التاء المثنّاة من فوقُ، وفي "الأنساب" للرشاطيّ: قال سيبويه: يقال في دَسْتَواء: دَسْتَوَانيّ، مثلُ بَحْرانيّ بالنون. اهـ. "عمدة القاري" 1/ 406.

(2)

أي بدل الهمزة، فيقول:"دستوانيّ" بدل "دستوائيّ".

ص: 331

وهذا الذي قاله صاحب "المطالع" ليس بشيء، وإنما "صاحبِ" هنا مجرورٌ صفةٌ لهشام، كما جاء مُصَرَّحًا به في هذا الموضع الذي نحن الآن. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن فيه "سعيد بن أبي عروبة"، هكذا يُرْوَى في كتب الحديث وغيرها "عروبة" بدون "أل"، وأنكر ذلك ابن قتيبة، فقال في كتابه "أدب الكتاب": الصواب "ابن أبي العروبة" بالألف واللام، واسم أبي عروبة مِهْران. انتهى. وسعيد هذا ممن اختلط في آخر عمره، وأن المختَلِط لا يُحْتَجّ بما رواه في حال الاختلاط، أو شككنا هل رواه في الاختلاط أم في الصحة؟ لكن الذي عليه المحقّقون أن ما كان في "الصحيحين" عن المختلطين فمحمول على أنه عُرِف أنه رواه قبل الاختلاط، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفًى في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد

(1)

.

7 -

(ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن هشام"، وقد تقدم في مواضع كثيرة بيان فائدته، وذلك أن المصنّف رحمه الله لم يذكر له شيخه قوله:"ابن هشام"، بل قال:"حدّثنا معاذ" فقط، فأراد أن يبيّنه لمن يروي له، ولم يَسْتَجِز أن يقول:"معاذ بن هشام" وإن كان صحيحًا؛ لكونه لم يسمعه من شيخه، فقال:"وهو ابن هشام"، فصلًا بين ما رواه عن شيخه، وبين ما زاده للبيان، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في ألفيّة الحديث، حيث قال:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ

فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ"أَنَّ" أَوْ بِـ"هُوْ"

أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَه

أَجِزْهُ فَي الْبَاقَي لَدَى الْجُمْهُورِ

وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ

وهذا وأشباهه مما كَرّرتُ ذكره - كما قال النوويّ رحمه الله أَقصِد به المبالغة في الإيضاح، والتسهيل، فإنه إذا طال العهد به قد يُنْسَى، وقد يَقِف على هذا الموضع مَن لا خِبْرَة له بالموضع المتقدم، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح المقدّمة" 1/ 282 - 283.

ص: 332

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة، أنه قال:(حَدَّثَنَا: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ) بفتح الياء من الخروج، مبنيًّا للفاعل، فـ"مَن قال" فاعله، أو بضمها، من الإخراج، مبنيًّا للمفعول، فـ"مَنْ قال" نائب فاعله، وإنما طوى ذكر الفاعل؛ لشهرته؛ لأنه من المعلوم أن أحدًا لا يُخرجه من النار إلا الله تعالى (مِنَ النَّارِ مَنْ) موصولة، صلتها قوله:(قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فيه دليلٌ على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول هنا القول النفسيّ، فالمعنى: من أقرّ بالتوحيد، وصَدَّق، فالإقرار لا بدّ منه، فلهذا أعاده في كلّ مرّة، والتفاوت يحصل في التصديق.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن النطق للقادر عليه شرط، وإنما يُعذر من لا يقدر، إما للعجز، أو لضيق الوقت، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.

[فإن قيل]: فكيف لم يذكر الرسالة؟.

[أجيب]: بأن المراد هو المجموع - أي لا إله إلا الله، محمد رسول الله - وذلك لأن الجزء الأول صار عَلَمًا على المجموع، كما تقول: قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، والمراد السورة كلّها، والله تعالى أعلم

(1)

.

(وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ) فيه إطلاق الخير على الإيمان، والخير في الأصل: ما يَتقرّب به العبد إلى الله تعالى، وأعلى ذلك الإيمان، كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ العمل أفضلُ؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل:"ثم ماذا؟ قال: "حجٌّ مبرور" (مَا يَزِنُ) أي يَعْدِل (شَعِيرَةً) بفتح أوله، وكسر ثانيه، (ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً) بضم الموحّدة، وتشديد الراء المفتوحة: وهي القَمْحَة، ومقتضى هذا أن وزن البرّة دون وزن الشعيرة؛ لأنه قدّم الشعيرة، وأتبعه بالبرّة، ثمّ بالذّرة، وذلك نظرًا للجرم؛ لأنها أكبر جرمًا منها، قاله

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 129 "كتاب الإيمان" رقم (45).

ص: 333

العينيّ

(1)

، وقال الحافظ: هو كذلك في بعض البلاد

(2)

. (ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةَ") - بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء - قيل: هي أَقل الأشياء الموزونة، وقيل: هي الْهَبَاء الذي يَظهَر في شُعاع الشمس، مثل رؤوس الإِبَر، وقيل: هي النملة الصغيرة، ويُروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا وَضَعتَ كَفّك في التراب، ثم نفضتها، فالساقط هو الذَّرّ، ويقال: إن أربع ذَرّات وَزْنُ خَرْدَلَة، وللبخاريّ في أواخر "كتاب التوحيد" من طريق حُميد عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"أُدخل الجنة مَن كان في قلبه خَرْدلة، ثم مَن كان في قلبه أدنى شيء"، وهذا معنى الذَّرّة، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالذَّرَّة واحدة الذَّرّ، وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل، وهي بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء. انتهى

(4)

.

(- زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ) أي شيخه الأول محمد بن منهال (فِي رِوَايَتِهِ - قَالَ: يَزِيدُ) أي ابن زريع (فَلَقِيتُ) بكسر القاف، من باب تَعِبَ (شُعْبَةَ) بن الحجّاج الإمام المشهور (فحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ) أي بما حدّثه به سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة (فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله:(بِالْحَدِيثِ) توكيد للضمير المجرور في قوله: "حدّثنا به"(إِلَّا أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ مَكَانَ الذَّرَّةِ) أي بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء (ذُرَةً) أي بضم الذال المعجمة، وتخفيف الراء المفتوحة، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الذُّرَة" حبّ معروفٌ، ولامها محذوفةٌ، والأصل ذُرَوٌ، أو ذُرَيٌ، فحُذفت اللام، وعُوِّضَ عنها الهاء. انتهى

(5)

. (قَالَ يَزِيدُ) بن زُريع (صَحَّفَ فِيهَا) قال الفيّوميّ رحمه الله: التصحيف: تغيير اللفظ حتى يتغيّر المعنى المرادُ من الموضع، وأصله الخطأُ، يقال: صَحَّفَه، فتصحّف: أي غيَّره، فتغيَّر حتى الْتَبَس. انتهى

(6)

، وقوله:(أَبُو بِسْطَامَ) مرفوع على الفاعليّة، وهو كنية شعبة، أي غيّر في ضبط هذه اللفظة، وكأن

(1)

"عمدة القاري" 1/ 408.

(2)

"الفتح" 1/ 129.

(3)

1/ 129 "كتاب الإيمان" رقم (45).

(4)

"شرح مسلم" 3/ 61.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 208.

(6)

"المصباح المنير" 1/ 334.

ص: 334

الحامل له على ذلك كونها من الحبوب، فناسبت الشعيرةَ والْبُرَّةَ

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: اتفقوا على أن هذا تصحيف من شعبة رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: زاد البخاريّ بعد هذا ما نصُّهُ: (44) قال أبو عبد الله: قال أبان: حدّثنا قتادة، حدثنا أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "من إيمان"، مكان "من خير". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: قال أبان هو ابن يزيد العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في "كتاب الأربعين" له من طريق أبي سَلَمَة، قال: حدثنا أبان بن يزيد، فذكر الحديث، وفائدة إيراد البخاريّ له من جهتين:

[إحداهما]: تصريح قتادة فيه بالتحديث، عن أنس.

[ثانيتهما]: تعبيره في المتن بقوله: "من إيمان" بدل قوله: "من خير"، فبيّن أن المراد بالخير هنا الإيمان.

[فإن قيل]: على الأُولى لِمَ لَمْ يَكتف بطريق أبان السالمة من التدليس، ويسوقها موصولةً؟.

[فالجواب]: أنّ أبان، وإن كان مقبولًا، لكن هشام أتقن منه، وأضبط، فَجَمَعَ البخاريّ بين المصلحتين، والله تعالى وليّ التوفيق

(3)

. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 485]، و (البخاريّ) في "الإيمان"(45)، وفي "التوحيد"(7450 و 7516)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنم"(2593)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4312)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 113 و 173 و 276)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(453)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(481)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 129 "كتاب الإيمان" رقم (45).

(2)

راجع: "شرح مسلم" 3/ 61.

(3)

"الفتح" 1/ 129 رقم (45).

ص: 335

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل في هذا الحديث لبعض الناس ما يزن شعيرة، وهكذا، فدلّ على أنه يزيد وينقص، وقد احتجّ به الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فأورده تحت ترجمة "بابُ زيادة الإيمان ونُقصانه"، وهذا هو المذهب الحقّ الذي عليه جمهور السلف، فإنهم يقولون: الإيمان قول وعملٌ واعتقاد، قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد وينقُص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في بابه، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

2 -

(ومنها): بيان أن صاحب الكبيرة من الموحّدين لا يكفّر بها، ولا يُخلَّد في النار.

3 -

(ومنها): بيان دخول بعض العصاة من الموحّدين النار.

4 -

(ومنها): أنه لا يكفي في قبول الإيمان مجرّد معرفة القلب، دون النطق بالشهادتين، ولا النطق بهما، مع عدم الاعتقاد، فلا بدّ منهما جميعًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[486]

(

) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ، قَالَ: انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْه، وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِت، فَدَخَلْنَا عَلَيْه، وَأَجْلَسَ ثَابتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِه، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَة، يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَة، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الله، فَيَأْتُونَ

(1)

وفي نسخة: "حدثني".

ص: 336

إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ كَلِيمُ الله، فَيُؤْتَى مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ رُوحُ الله، وَكَلِمَتُهُ، فَيُؤتَى عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَأُوتَى، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ

(1)

، فَأَسْتَاْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْه، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ، لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ الله

(2)

، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأقولُ: رَبِّ

(3)

أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ، أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِد، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ

(4)

، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ

(5)

، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ، مِنْ خَرْدَلٍ، مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَانطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِد، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأقولُ: يَا رَبّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى، مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ، مِنْ خَرْدَلٍ، مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّار، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ".

هَذَا حَدِيثُ أنسٍ الَّذِي أَنْبَأَنَا بِه، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه، فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّان، قُلْنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَن، فَسَلَّمْنَا عَلَيْه، وَهُوَ مُسْتَخْفٍ، فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْه، فَسَلَّمْنَا عَلَيْه، فَقُلْنَا

(6)

: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ، أَبِي حَمْزَةَ، فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ

(7)

حَدِيثٍ، حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَة، قَالَ: هِيَه، فَحَدَّثْنَاهُ

(1)

وفي نسخة: "أنطلق" بدون فاء.

(2)

وفي بعض النسخ: "إلا أن يُلْهِمَنِيهِ الله".

(3)

وفي نسخة: "يا ربّ".

(4)

وفي نسخة: "فيقال: يا محمد".

(5)

وفي نسخة بحذف "لك".

(6)

وفي نسخة: "قلنا"، وفي أخرى:"وقلنا".

(7)

وفي نسخة: "بمثل".

ص: 337

الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هِيَه، قُلْنَا: مَا زَادَنَا، قَالَ: قَدْ حَدَّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ، وَلَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا، مَا أَدْرِي، أَنَسِيَ الشَّيْخُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ، فَتَتَّكِلُوا؟ قُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا، فَضَحِكَ، وَقَالَ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} الآية [الأنبياء: 37]، مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ هَذَا، إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ، "ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَة، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِد، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ

(1)

، أَوْ قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي، وَكِبْرِيَائِي، وَعَظَمَتِي، وَجِبْرِيَائِي، لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله". قَالَ: فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَن، أَنَّهُ حَدَّثنَا بِه، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، أُرَاهُ قَالَ: قَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ يَوْمِئِذٍ جَمِيعٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) هو: سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أبو الربيع العتكيّ"، هو بفتح العين والتاء، وهو أبو الربيع الزهرانيّ الذي يُكَرّره مسلم في مواضع كثيرة، واسمه سليمان بن داود، قال القاضي عياض رحمه الله: نَسَبهُ مسلم مَرّةً زَهْرانيًّا، ومَرّةً عَتَكيًّا، ومَرّةً جَمَع له النسبين، ولا يجتمعان بوجه، وكلاهما يرجع إلى الأزد، إلا أن يكون للجمع سببٌ، من جِوَارٍ أو حِلْف، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ) - بفتحتين - البصريّ، ثقة [4].

رَوَى عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ، وأنس بن مالك، والحسن البصريّ، ونُفَيع أبي داود الأعمى، وعن رجل من أهل الشام.

ورَوَى عنه قتادة، وهو من أقرانه، وسليمان التَّيْمِيّ، وسعيد بن

(1)

وفي نسخة: "ليس ذلك لك".

(2)

"شرح مسلم" 3/ 61.

ص: 338

عبد العزيز، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وسعيد بن إياس الْجُرَيريّ، وأبو جَنَدل، لَبِيد بن حَيّان النُّميريّ، والحمادان، ومعتمر بن سليمان.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: مشهور، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (193)، وحديث (2951): "بُعثتُ أنا والساعة كهاتين

"، و (2953): "إِنْ عُمِّر هذا لم يدركه الهرَم حتى تقوم الساعة

"، وله في البخاريّ حديث الباب فقط.

[تنبيه]: قوله: "الْعَنَزيّ" - بفتح العين المهملة، والنون، بعدها زاي -: نسبة إلى عَنَزَة بن أسد بن ربيعة بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان، قاله في "اللبّ"

(1)

.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شُعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، مصنِّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به، [10](ت 227) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في السند الماضي، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد، أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (22) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما سبق غير مرّة، وفيه قوله:"واللفظ له"، يعني أن متن هذا الحديث الذي ساقه هنا هو لفظ شيخه سعيد بن منصور، وأما شيخه أبو الربيع، فرواه بمعناه، وقد تقدّم تمام البحث في هذا غير مرّة، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وهو خامس الأسانيد المتتالية المسلسلة كلها بالبصريين، قال النوويّ رحمه الله: هذه الأسانيد رجالها كلهم بصريون، وهذا الاتّفاق في غاية من الْحُسْن، ونهاية من النُّدُور، أعني اتّفاق خمسة أسانيد، في "صحيح مسلم" متواليةً، جميعهم بصريّون، والحمد لله على ما هدانا له. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وأما شرح الحديث، ومسائله، فقد تقدّمت مستوفاةً في حديث أنس

(1)

"لبّ اللباب" 2/ 123.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 60.

ص: 339

الطويل المتقدّم، فلا حاجة إلى التطويل بإعادتها، بل أذكر هنا إيضاح بعض ما فيه غرابة فقط، فأقول:

قوله: (وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ) أي أخذنا ثابتًا الْبُنَانيّ شفيعًا يشفع لنا عند أنس رضي الله عنه؛ لكونه مقرّبًا إليه، وكثير الملازمة له، فقد تقدّم أنه لازمه أربعين سنة، قال ابن التين رحمه الله: فيه تقديم الرجل الذي هو من خاصّة العالم؛ ليسأله. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "فذهبنا معنا بثابت البنانيّ إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة"، وفيه:"فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أوّلَ من حديث الشفاعة".

وقوله: (فَانْتَهَيْنَا) أي وصلنا (إِلَيْهِ) أي إلى أنس رضي الله عنه.

وقوله: (وَأَجْلَسَ ثَابِتًا) بالبناء للفاعل، أي أمر أنس ثابتًا أن يجلس (مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ) وفيه أنه ينبغي للعالم، وكبير المجلس أن يُكرم فضلاء الداخلين عليه، ويُميِّزهم بمزيد إكرام في المجلس وغيره

(2)

.

(فَقَالَ لَهُ) أي قال ثابتٌ لأنس رضي الله عنه (يَا أَبَا حَمْزَةَ) كنية أنس رضي الله عنه كنّاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببَقْلة كان يَجتنيها

(3)

، قال الأزهريّ: البقلة التي جناها أنس رضي الله عنه كان في طعمها لَذْعٌ، فسُمّيت حَمْزَة بفعلها، يقال: رمّانة حامزة، أي فيها حُمُوضةٌ

(4)

.

وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) قد تقدّم أن في "البصرة" ثلاث لغات: فتح الباء، وضمها، وكسرها، والفتح هو المشهور.

(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)"كان" هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها، وهو "يومُ"، كما قال في "الخلاصة":

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

(مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يقال: ماج البحر: إذا اضطربت أمواجه: أي اختلطوا، واضطربوا متحيّرين، مقبلين، ومدبرين، فيما بينهم.

(1)

"الفتح" 13/ 484.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 61.

(3)

راجع: "الإصابة" 1/ 276.

(4)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقّن 1/ 422.

ص: 340

وقوله: (لَسْتُ لَهَا) أي لست أهلًا للشفاعة، قال الطيبيّ رحمه الله: اللام فيه مثلها في قوله تعالى: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية [الحجرات: 3]، قال في "الكشّاف": اللام متعلّقة بمحذوف، وهي في قولك: أنت لهذا الأمر: أي كائنٌ له، ومختصّ به، وعلى هذا قوله:"أنا لها"، وقوله:"ليس ذلك لك"

(1)

.

وقوله: (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام أي الزموه، فالباء زائدة، أو المعنى: تشفّعوا، وتوسّلوا به

(2)

.

وقوله: (فَأُوتَى) بالبناء للمفعول، أي يأتيني الناس.

وقوله: (بمَحَامِدَ) جمع حمد، على غير قياس، كمحاسن، جمع حُسْن، أو جمع محمدة

(3)

.

وقوله: (لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "لا أقدر عليه"، وهو صحيح، ويعود الضمير في "عليه" إلى "الحمد". انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد النوويّ رحمه الله أن الظاهر أن يقول: "عليها" ليعود الضمير على المحامد، ولكن صحّت الرواية بالتذكير، فيؤوّل بأنه يعود على الحمد المفهوم من "أحمده"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ أَخِرُّ) - بكسر الخاء المعجمة، وضمّها، وتشديد الراء، من بابي ضرب، ونصر - ومصدره الْخَرّ بالفتح، والْخُرُور بالضمّ: وهو السقوط، أو من عُلْو إلى سُفْل

(5)

.

وقوله: (أُمَّتِي أُمَّتِي) أي ارحمهم، واغفر لهم، وكرّره للتأكيد.

وقوله: (فَأَخْرِجْهُ) ثلاث مرّات، قال النوويّ رحمه الله: أما الثاني، والثالث، فاتَّفَقت الأصول على أنه:"فأخرجه" بضميره صلى الله عليه وسلم وحده، وأما الأول: ففي بعض الأصول: "فأخرجوه"، كما ذكرنا على لفظ الجمع، وفي بعضها:"فأخرجه"، وفي أكثرها:"فأخرجوا"، بغير هاء، وكله صحيح، فمن رواه:"فأخرجوه" يكون خطابًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الملائكة، ومن حَذَفَ الهاء،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3522.

(2)

"المرقاة" 9/ 522.

(3)

"المرقاة" 9/ 522.

(4)

"شرح مسلم" 3/ 62.

(5)

"القاموس" ص 346.

ص: 341

فلأنها ضمير المفعول، وهو فضلةٌ، يكثر حذفه

(1)

، كما قال في "الخلاصة":

........................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

وقوله: (أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول مكَرَّرٌ ثلاث مرات. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال الكرمانيّ: قوله: "أدنى أدنى" التكرير للتأكيد، ويحتمل أن يراد التوزيع على الحبّة والخردل، أي أقلّ حبّة من أقلّ خردلة، من الإيمان، ويُستفاد منه صحة القول بتجزّؤ الإيمان، وزيادته ونقصانه. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب السلف، وأهل السنة، ومن وافقهم من المتكلمين، في أن الإيمان يزيد وينقص، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق هذه القاعدة، وتحرير القول فيها، مستوفًى في أول "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ) هذا من قول معبد بن هلال العنزيّ رحمه الله، يعني أن هذا الذي تقدّم بطوله ما حدّثنا به أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقوله: (بِظَهْرِ الْجَبَّانِ) أي بظاهرها، وأعلاها المرتفعِ منها، قال أهل اللغة:"الْجَبّان"، و"الْجَبّانة" - بفتح الجيم، وتشديد الباء -: هما الصحراء، ويُسَمّى بهما المقابر؛ لأنها تكون في الصحراء، وهو من تسمية الشيء باسم موضعه

(5)

.

وقوله: (لَوْ مِلْنَا) أي عَدَلنا (إِلَى الْحَسَنِ) هو الحسن بن أبي الحسن البصري الإمام المشهور.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 63.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 63.

(3)

"الفتح" 13/ 483 رقم (7510).

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 63.

(5)

"شرح النوويّ" 3/ 64.

ص: 342

وقوله: (وَهُوَ مُسْتَخْفٍ) يعني أنه كان مُتَغَيِّبًا؛ خوفًا من الحجاج بن يوسف الجائر الظالم.

وقوله: (فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ) وفي رواية البخاريّ: "وهو متَوَارٍ في منزل أبي خَلِيفة"، واسم أبي خليفة: حجّاج بن عتّاب العبديّ البصريّ، والد عمر بن أبي خليفة، سماه البخاريّ في "تاريخه"، وتبعه الحاكم أبو أحمد في "الكنى"، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (يَا أَبَا سَعِيدٍ) كنية الحسن البصريّ رحمه الله.

وقوله: (هِيَهِ) بكسر الهاء، وإسكان الياء، وكسر الهاء الثانية، قال أهل اللغة: يقال في استزادة الحديث: إِيه، ويقال: هِيهِ بالهاء بدل الهمزة، قال الجوهريّ: إِيهِ اسمٌ سُمِّي به الفعل؛ لأن معناه: الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث، أو عَمَلٍ: إِيهِ بكسر الهاء، قال ابن السِّكِّيت: فإن وصلتَ نَوَّنتَ، فقلتَ: إِيهٍ حدّثْنا، قال: وقول ذي الرُّمّة [من الطويل]:

وَقَفْنَا فَقُلْنَا إِيهِ عَنْ أُمِّ سَالِمٍ

وَمَا بَالُ تَكْلِيمِ الدِّيَارِ الْبَلَاقِعِ

فلم يُنوِّن، وقد وصل؛ لأنه قد نوى الوقف.

قال ابن السّرِيّ: إذا قلت: إيهِ يا رجلُ، فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كأنك قلت: هات الحديث، وإن قلت: إِيهٍ بالتنوين، كأنك قلت: هات حديثًا ما؛ لأن التنوين تنكيرٌ، وذو الرُّمّة أراد التنوين، فتركه للضرورة، فإذا أسكَتَّه، وكففته، فإنك تقول: إيهًا عنّا. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ) - بفتح الجيم، وكسر الميم - ومعناه: مُجْتَمِع القوّة والحفظ، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": مجتمع العقل، وهو إشارة إلى أنه كان حينئذ لم يدخل في الكبر الذي هو مظِنّة تفرّق الذهن، وحدوث اختلاط الحفظ. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَنَسِيَ الشَّيْخُ) أراد بالشيخ أنسًا رضي الله عنه.

(1)

13/ 484 "كتاب التوحيد" رقم (7510).

(2)

"الصحاح" 5/ 1782 - 1783.

(3)

"الفتح" 13/ 484.

ص: 343

وقوله: (فَتَتَّكِلُوا) أي تعتمدوا على هذا الحديث، فتتركوا الاجتهاد في العمل.

وقوله: (فَضَحِكَ) فيه أنه لا بأس بضحك العالم بحضرة أصحابه، إذا كان بينه وبينهم أُنْسٌ، ولم يَخْرُج بضحكه إلى حدٍّ يُعَدّ تركًا للمروءة.

وقوله: (وَقَالَ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]) فيه جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الموطن، وقد ثبت في "الصحيح" مثله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا طَرَقَ فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما ثم انصرَفَ، وهو يقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، ونظائر هذا كثيرة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: ("ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الروايات، وهو الظاهر، وتَمّ الكلام على قوله:"أحدثكموه"، ثم ابتداء تمام الحديث، فقال:"ثم أَرْجِعُ"، ومعناه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم أرجع إلى ربي

إلخ".

وقوله عز وجل: (وَجِبْرِيَائِي) - بكسر الجيم -: أي عظمتي، وسلطاني، أو قهري.

وقوله: (لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) معناه: لأتفضلنّ عليهم بإخراجهم من غير شفاعة، كما تقدم في الحديث السابق:"شَفَعَت الملائكةُ، وشَفَع النبيون، وشَفَع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين".

وقوله: (فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَن، أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِه، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ

إلخ) إنما ذكره تأكيدًا، ومبالغةً في تحقيقه وتقريره في نفس المخاطب، وإلا فقد سبق هذا في أول الكلام، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": قال ابن التين: قال هنا: "لستُ لها"، وفي غيره:"لست هناكم"، قال: وأسقط هنا ذكر نوح، وزاد:"فأقول: أنا لها"، وزاد:"فيقول: أمتي أمتي"، قال الداوديّ: لا أراه محفوظًا؛ لأن الخلائق اجتمعوا، واستشفعوا، ولو كان المراد هذه الأمة خاصّةً، لم تذهب إلى غير نبيها، فدَلَّ على أن المراد الجميع، وإذا كانت الشفاعة لهم في فصل القضاء،

(1)

"شرح مسلم" 3/ 65.

ص: 344

فكيف يَخُصّها بقوله: "أمتي أمتي"، ثم قال: وأوّلُ هذا الحديث ليس متصلًا بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة، وبين قوله:"فأشفع" أمور كثيرة من أمور القيامة.

وقد أجاب القاضي عياض عن هذا الاستشكال بأن معنى الكلام: فيؤذن له في الشفاعة الموعود بها في فصل القضاء، وقوله:"ويلهمني" ابتداءُ كلام آخر، وبيانٌ للشفاعة الأخرى الخاصة بأمته، وفي السياق اختصار، وقد تقدّم الجواب بأتمّ من هذا في شرح الحديث الطويل، فراجعه تستفد

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[487]

(194) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَاتَّفَقَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيث، إِلَّا مَا يَزِيدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْحَرْفِ بَعْدَ الْحَرْف، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضِ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ

(2)

إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَر، خَلَقَكَ اللهُ بيَدِه، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِه، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ، فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟

(3)

فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ

(1)

راجع: فتح الباري ج: 13 ص: 476.

(2)

وفي نسخة: "ألا تنظرون إلى من يشفع لكم".

(3)

وفي نسخة: "ألا ترى ما قد بلغنا".

ص: 345

غَضَبًا، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَة، فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ

(1)

، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْض، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ، دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ الله، وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْض، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِه، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ

(2)

وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاس، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟

(3)

فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا، لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْد، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُوني، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أنتَ رَسُولُ الله، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاء، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا

(1)

وفي نسخة: "نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح".

(2)

وفي نسخة: "برسالته".

(3)

وفي نسخة: "ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا"، بزيادة "إلى" في الموضعين، وفي نسخة بزيادتها في الأول دون الثاني.

ص: 346

تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْش، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ، وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِه، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْه، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ

(1)

، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَن، مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّة، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَاب، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْن، مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّة، لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

4 -

(أَبُو حَيَّانَ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة - هو: يحيى بن سعيد بن حَيّان التيميّ، أبو حيّان الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

5 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابي الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.

(1)

وفي نسخة: "واشفع" بالواو.

ص: 347

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بمن اشتَهَر بالكنى، أبو حيّان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن قوله: "واتّفقا في سياق الحديث" فيه إشارة إلى مسألة اصطلاحيّة، قد تقدّم بيانها غير مرّة، وذكرها السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَلَوْ رَوَى مَتْنًا عَنَ اشْيَاخٍ

(1)

وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ

مُقْتَصِرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ

يُبَيِّنِ اخْتِصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أَوْ قَالَ قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ

وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى عَلَى خُلْفٍ حَكَوْا

وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ

مَعْ "قَالَ" أَوْ "قَالَا" فَذَاكَ أَحْسَنُ

6 -

(ومنها): أن المراد بالحرف في قوله: "إلا ما يزيد أحدهما من الحرف بعد الحرف" ما يشمل الكلمة، والجملة؛ إذ يُطلق الحرف على ذلك كلّه، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ) بالبناء للمفعول أيضًا (إِلَيْهِ الذِّرَاعُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الذراع: اليد من كلّ حَيَوَان، لكنها من الإنسان من الْمِرْفَق إلى أطراف الأصابع، وذراع القياس أنثى في الأكثر، ولفظ ابن السّكّيت: والذراع أُنثى، وبعض العرب يُذكر، قال ابن الأنباريّ: وأنشدنا أبو العبّاس، عن سَلَمَة، عن الفرّاء شاهدًا على التأنيث قول الشاعر:

(1)

المراد بالجمع ما فوق الواحد، بدليل قوله:"توافقا"، فتنبّه.

ص: 348

أَرْمِي عَلَيْهَا وَهْيَ فَرْعٌ أَجْمَعُ

وَهْيَ ثَلَاثُ أَذْرُعٍ وَإِصْبَعُ

وعن الفرّاء أيضًا: الذراع أُنثى، وبعض عُكْلٍ يُذَكِّر، فيقول: خمسة أذرُع، قال ابن الأنباريّ: ولم يَعْرِف الأصمعيّ التذكير، وقال الزجّاج: التذكير شاذّ غير مختار، وجمعها أَذْرُع، وذُرْعَان، حكاه في "الْعُبَابِ"، وقال سيبويه: لا جمع لها غير أَذْرُع. انتهى

(1)

.

(وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ) قال القاضي عياض رحمه الله: محبته صلى الله عليه وسلم للذراع، وإعجابه بها؛ لِنُضْج لحمها، وسُرْعة استمرائه له، مع زيادة لَذَّته، وحلاوة مَذَاقه على سائر لحم الشاة، وبُعْده عن مواضع الأذى الذي كان يتّقيه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وقد رَوَى الترمذيّ بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كانت الذراع أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غِبًّا، فكان يَعْجَل إليها؛ لأنها أعجلها نُضْجًا.

(فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً) هو بالسين المهملة، قال القاضي عياض رحمه الله: أكثر الرواة رووه بالمهملة، ووقع لابن ماهان بالمعجمة، وكلاهما صحيح، بمعنى: أَخَذَ بأطراف أسنانه، قال الهرويّ: قال أبو العباس: النَّهْسُ بالسين المهملة بأطراف الأسنان، وبالشين المعجمة بالأضراس، قال القاضي: قال غيره: هو نَشْرُ اللحم، قال النضر: نُهِشَتْ عَضُداه: أي دُقّتا. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي المقدّم عليهم، والسيّد: هو الذي يسود قومه، أي يفوقهم بما جَمَعَ من الخصال الحميدة بحيث يَلجؤون إليه، ويُعوِّلون عليه في مهمّاتهم، قال الشاعر:

فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدتَنَا

وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخُلْ

وقد تحقّق كمال تلك المعاني كلّها لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الذي يَحمَده، وَيغْبِطه فيه الأولون والآخرون، وَيشهَد له بذلك النبيّون والمرسلون، وهذه حكمة عَرْض الشفاعة على خيار الأنبياء عليهم السلام، فكلُّهم تبرّأ منها، ودلّ على غيره إلى أن بلغت محلّها، واستقرّت في نصابها

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 207 - 208.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 874.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 872 - 873.

(4)

"المفهم" 1/ 426.

ص: 349

وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: السيد الذي يفوق قومه، والذي يُفْزَع إليه في الشدائد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة؛ لارتفاع السؤدد فيها، وتسليم جميعهم له ذلك، ولكون آدم عليه السلام، وأولاده تحت لوائه صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]: أي انقطعت دَعَاوَى الدُّعاة في الْمُلك في ذلك اليوم، وبقي الْمُلك الحقّ لله وحده الذي قَهَر جميع الجبابرة، والمدَّعين الملكَ، وأفناهم، ثم أعادهم، وحَشَرَهم عُرَاةً فُقَراء. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم تَحَدُّثًا بنعمة الله تعالى، وقد أمره الله تعالى بهذا، ونصيحةً لنا بتعريفنا حقه صلى الله عليه وسلم.

(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ"سيّد"، قال في "الفتح": وخصّه بالذكر؛ لظهور ذلك له يومئذ، حيث تكون الأنبياء كلّهم تحت لوائه، ويبعثه الله تعالى المقام المحمود. انتهى

(2)

.

(وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟) أي هل تعلمون بأيّ شيء كنت سيّد الناس؟ وقوله: (يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) جملة استئنافيّة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، والتقدير هنا: كيف ذاك؟ وقد جاء هذا السؤال مصرَّحًا به في رواية عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة الآتية: "فلما رأى أصحابه لا يسألونه، قال: أَلَا تقولون: كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول الله؟ قال: يقوم الناس لربّ العالمين

". (فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ) المراد بـ"الصّعِيد": الأرض الواسعة المستوية (فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ) بفتح الياء، وبالذال المعجمة، وذكر الْهَرَويّ، وصاحب "المطالع"، وغيرهما أنه رُوي بضم الياء، وبفتحها، قال صاحب "المطالع": رواه الأكثرون بالفتح، وبعضهم بالضم، وقال الهرويّ: قال الكسائيّ: يقال: نَفَذَني بصرُهُ: إذا بلغني، وجاوزني، قال: ويقال: أنفذتُ القومَ: إذا خَرَقْتَهُم، ومشيتَ في وسطهم، فإن جُزْتهم حتى تُخَلِّفَهم، قلت: نَفَذتهم بغير ألف، وقيل: يقال فيها: بالألف.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 873 - 874.

(2)

"الفتح" 6/ 429 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3340 - 3341).

ص: 350

وقال الهرويّ: قال أبو عبيد: معناه: ينفذهم بصر الرحمن تبارك وتعالى، حتى يأتي عليهم كلِّهم، وقال غير أبي عبيد: أراد: تَخْرِقُهم أبصار الناظرين؛ لاستواء الصعيد، والله تعالى قد أحاط بالناس أولًا وآخرًا. انتهى.

وقال صاحب "المطالع": معناه: أنه يُحيط بهم الناظر، لا يخفى عليه منهم شيءٌ؛ لاستواء الأرض، أي ليس فيها ما يَستتر به أحدٌ عن الناظرين، قال: وهذا أولى من قول أبي عبيد: يأتي عليهم بَصَرُ الرحمن سبحانه وتعالى؛ لأن رؤية الله تعالى تُحيط بجميعهم في كل حال، في الصعيد المستوي وغيره. انتهى.

وقال ابن الأثير الجزريّ رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في أن المراد بصر الرحمن سبحانه وتعالى، أو بصر الناظر من الخلق: قال أبو حاتم السِّجستانيّ: أصحاب الحديث يَرْوُونه بالذال المعجمة، وإنما هو بالمهملة: أي يبلغ أوّلَهُم وآخرَهم حتى يراهم كلَّهم، ويستوعبهم، مِنْ نَفَدَ الشيء، وأنفدته، قال: وحمل الحديث على بَصَر الناظر أولى من حمله على بصر الرحمن. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: فَحَصَلَ خلافٌ في فتح الياء وضمها، وفي الذال والدال، وفي الضمير في "ينفذهم"، والأصح فتح الياء، وبالذال المعجمة، وأنه بَصرُ المخلوق. انتهى كلامه

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه أنهم مُجتمعون مهتمّون بما هم فيه، لا يخفى منهم أحدٌ، بحيث إن دعاهم داعٍ أسمعهم، وإن نظر إليهم ناظر أدركهم، وَيحْتَمِلُ أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب، أو أمر آخر، كقوله تعالى:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]. انتهى

(3)

.

(وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ) بالنصب مفعولًا مقدّمًا، وفاعله "ما لا يُطيقون"، ولو رفع "الناس" على الفاعليّة، و"ما لا يطيقون" مفعوله لكان له وجه، وقوله:(مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ) بيان لـ"ما" مقدّم عليها (مَا) موصولة (لَا

(1)

"النهاية" 5/ 91.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 66.

(3)

"المفهم" 1/ 427.

ص: 351

يُطِيقُونَ) أي لا يستطيعون الصبر عليه (وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ) أي لا يقدرون تحمّله، ولو بكُلفة ومشقّة (فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ) أي ألا تتأملون، وَتتفكّرون، أو ألا تُبصرون (مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟) وفي نسخة:"إلى من يشفع لكم إلى ربكم" بزيادة "إلى".

والشفاعة أصلها الضمّ والجمع، ومنه ناقةٌ شَفُوعٌ: إذا جَمَعت بين حَلْبتين في حلبة واحدة، وناقة شافع إذا اجتمع لها حملٌ وولدٌ يتبعها، والشفع ضمّ واحد إلى واحد، والشُّفعة ضمّ ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذن ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفَّع، وإيصال منفعة إلى المشفوع له، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَر، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى حقيقة، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نقول كما قال الشرّاح كالقرطبيّ: اللائق حملها هنا على القدرة؛ لأن هذا تأويل غير صحيح؛ لأن الله تعالى خلق آدم وغيره من المخلوقات بقدرته، فما وجه تخصيص آدم بها؟ وأيضًا فإن الذي أدّاهم إلى هذا التأويل هو ظنهم التشبيه، بالمخلوق، وهو موجود في القدرة المؤوّل بها، فإن القدرة يوصف بها المخلوق كما يوصف بها الله تعالى، فهم فرّوا من ورطة، فوقعوا في أخرى، والحقّ الذي عليه السلف إثبات ما أثبت الله تعالى من الصفات على الحقيقة، لا على المجاز، بلا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل، قال سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فتبصّر، ولا تتهوّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ) قال القرطبيّ: الروح هنا هو المذكور في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4]، وقوله:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193]، وشرّفه بالإضافة إليه، كما قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12]، وهو جبريل عليه السلام على قول أكثر المفسّرين: أي كان كلّ واحد منهما من نفخة الملك، فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته، ولا

(1)

"المفهم" 1/ 428.

ص: 352

يُلتفت إلى ما يقال غير هذا. انتهى

(1)

.

(وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ) أي بأن يسجدوا لك (فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟) وفي نسخة: "ألا ترى ما قد بَلَغَنا" بحذف "إلى"، قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الغين، هذا هو الصحيح المعروف، وضَبَطه بعض الأئمة المتأخرين بالفتح والإسكان، وهذا له وجه، ولكن المختار ما قدمناه، ويدلّ عليه قوله في هذا الحديث قبل هذا:"ألا تَرَوْن ما قد بَلَغَكم"، ولو كان بإسكان الغين لقال: بَلَغتُمْ. انتهى

(2)

.

(فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ) فيه إثبات صفة الغضب لله تعالى على ما يليق بجلاله، وأما قول الشرّاح كالنوويّ وغيره: إن المراد بغضب الله تعالى ما يَظْهَر من انتقامه، ممن عصاه، وما يرونه من أليم عذابه، وما يشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن، ولا يكون مثلها، ولا شك في أن هذا كله لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله، ولا يكون بعده مثله، فهذا معنى غضب الله تعالى، كما أن رضاه ظهور رحمته ولطفه، بمن أراد به الخير والكرامة؛ لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء. انتهى، فغير صحيح، فإن هذا تفسير باللازم، وليس معنى الغضب والرضا على الحقيقة، وقد تقدّم غير مرّة أن ما ثبت في الكتاب والسنّة الصحيحة مما وصف الله تعالى به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فمذهب السلف، وهو الحقّ أنه على ظاهره على الحقيقة، لا على المجاز، فالرضا والغضب، والرحمة والمحبّة، والكراهة، وغيرها ثابتة لله تعالى حقيقة لا مجاز فيه، على ما يليق بجلاله، بلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فتمسّك بهدي السلف، تنج من التلف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ) أي عن أكلها (فَعَصَيْتُهُ) أي خالفت نهيه، فأكلتها (نَفْسِي نَفْسِي)"نفسي" الأولى مبتدأ حُذف خبره، أي نفسي هي التي تستحقّ أن يُشْفَع لها، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي المستحقّ للشفاعة نفسي،

(1)

"المفهم" 1/ 427 - 428.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 67 - 68.

ص: 353

و"نفسي" الثانية تأكيد عليهما، وأعربهما بعضهم بأنهما مبتدأ وخبر، من باب "شِعْري شِعْري"؛ للمبالغة، ويؤيّد الأولى تكرير "نفسي" في بعض الروايات ثلاث مرّات، والله تعالى أعلم.

(اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي) وفي بعض النسخ بإسقاط هذه الجملة (اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ) استُشكل هذاَ بأن آدم عليه السلام كان نبيًّا، وبالضرورة يُعلم أنه كان على شريعة من العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك منه، فعلى هذا فهو رسول إليهم، فيكون هو أول رسول.

وأجيب بأنه يحتمل أن تكون الأوليّة في قولى أهل الموقف لنوح عليه السلام مقيّدةً بقولهم: إلى أهل الأرض؛ لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهلٌ، أو لأن رسالة آدم عليه السلام إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أُرسل إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرّقهم في عدّة بلاد، وآدم عليه السلام إنما أُرسل إلى بنيه فقط، وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة.

واستشكله بعضهم بإدريس عليه السلام، وأجيب بأنه مختَلَفٌ في كونه قبل نوح، وقد تقدّم هذا البحث مستوفى في شرح حديث أنس رضي الله عنه، فراجعه. (وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا) إشارة إلى قوله تعالى:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء: 3]، قال في "الفتح": وفي الحديث ردّ على من زعم أن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لموسى عليه السلام، وقد صحح ابن حبان من حديث سلمان الفارسيّ رضي الله عنه:"كان نوح إذا طَعِمَ، أو لَبِسَ حَمِدَ الله، فسُمِّي عبدًا شكورًا"، وله شاهد عند ابن مردويه، من حديث معاذ بن أنس، وآخر من حديث أبي فاطمة

(1)

.

وأخرج عبد الرزاق بسند مقطوع: "أن نوحًا كان إذا ذهب إلى الغائط قال: الحمد لله الذي رزقني لذّته، وأبقى فيّ قُوّته، وأذهب عنّي الأذى"

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 248 "كتاب التفسير" رقم (4712).

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 430 "كتاب أحاديث الأنبياء"(3341).

ص: 354

وقال القرطبيّ رحمه الله: الشكور: الكثير الشكر، وهو من أبنية المبالغة، وأصل الشكر: الظهور، ومنه دابّة شَكورٌ: إذا كانت يظهر عليها من السِّمَن فوق ما تأكله من الْعَلَف، وأَشْكَرَ الضرعُ: إذا ظهر امتلاؤه باللبن، والسماء بالمطر، فكأن الشاكر يُظهر القيام بحقّ المنعِم، ولذلك قيل: الشكور هو الذي ظَهَر منه الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة، وملازمة الحرمة. انتهى

(1)

.

(اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ، دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي) قال القرطبيّ رحمه الله: يريد قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]

(2)

. (نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ الله، وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) قال القرطبيّ رحمه الله: إبراهيم بالسريانيّة: هو الأب الرحيم، حكاه المفسّرون، و"الخليل": الصَّدِيق المخلص، و"الْخُلّة" بضم الخاء: الصداقة والمودّة، ويقال فيها أيضًا: خُلالة بالضمّ والفتح، والكسر، و"الْخَلّةُ" بفتح الخاء: الفقر والحاجة، و"الْخِلّة" بكسرها: واحدة خِلَل السيوف، وهي بطائن أغشيتها، و"الْخَلَلُ " الفُرْجة بين الشيئين، والجمع الخلال.

واختُلف في الخليل اسم إبراهيم عليه السلام: من أيّ هذه المعاني، والألفاظ أُخذ؟ فقيل: إنه مأخوذ من الْخُلّة بمعنى: الصداقة، وذلك أنه صَدَقَ في محبّة الله تعالى، وأخلص فيها حتى آثر محبّته على كلّ محبوباته، فبذل ماله للضيفان، وولده للقُربان، وجسده للنيران، وقيل: من الْخَلَّة التي بمعنى الفقر والحاجة، وذلك أنه افتقر إلى الله تعالى في حوائجه، ولجأ إليه في فاقته حتى لم يلتفت إلى غيره، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل، وهو في الهواء حين رُمي في المنجنيق: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا

(3)

، وقيل: من الخلل بمعنى الْفُرْجة بين الشيئين، وذلك لِمَا تخلّل قلبه من معرفة الله تعالى، ومحبّته ومراقبته حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء، فقال [من الخفيف]:

(1)

"المفهم" 1/ 428.

(2)

"المفهم" 1/ 429.

(3)

تقدّم أن هذا حديث ضعيف.

ص: 355

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي

وَلذَا سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلَا

ولقد جمع إبراهيم عليه السلام هذه المعاني كلّها، وأحسن من قال في الْخُلّة: إنها صَفَاءُ المودّة التي توجب الاختصاص بتخلّل الأسرار، والغنى عن الأغيار. انتهى

(1)

.

(اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قد فسّرها في الرواية الأخرى بما ليس كذبًا على التحقيق، ونحن نذكرها، ونبيّنها - إن شاء الله تعالى - فمنها قوله في الكوكب:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] ذكر المفسّرون أن ذلك كان في حال الطفوليّة في أول حال استدلاله، ثم إنه لَمّا تكامل نظره، وتمّ على السداد وضح له الحقّ، قال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79].

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا لا يليق بالأنبياء عليهم السلام؛ لأن الله تعالى خصّهم بكمال العقل، والمعرفة بالله عز وجل، وسلامة الفطرة، والحماية عن الجهل بالله تعالى، والكفر من أول نشأتهم، وإلى تناهي أمرهم؛ إذ لم يُسمَع عن أحد مثهم أنه اعتقد مع الله إلهًا آخر، ولا اعتقد مُحالًا على الله تعالى، ولا ارتكب شيئًا من قبائح أُممهم الذين أُرسلوا إليهم، لا قبل النبوّة، ولا بعدها، ولو كان شيء من ذلك لقَرَعهم بذلك أُممهم لَمّا دعوهم إلى التوحيد، ولاحتجّوا عليهم بذلك، ولم يُنقَل شيء من ذلك، وأما بعد إرسالهم فكلّ ذلك محالٌ عليهم عقلًا على ما نبيّنه.

وقيل: إنه عليه السلام قال ذلك لقومه على جهة الاستفهام الذي يُقصد به التوبيخ لهم، والإنكار عليهم، وحُذفت همزة الاستفهام؛ اتّساعًا كما قال الشاعر [من الطويل]:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ

بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ

وقال آخر [الطويل]:

(1)

"المفهم" 1/ 429.

ص: 356

رَفَوْنِي

(1)

وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ

فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ

أي: أهُم هم؟.

وقيل: إنما قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه؛ تنبيهًا على أن ما يتغيّر لا يصلح للربوبيّة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول هو الأرجح في تأويل الآية، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره":

وقد اختَلَفَ المفسرون في هذا المقام: هل هو مقامُ نظر، أو مناظرة؟ فرَوَى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير، مُستدلًا بقوله:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام: 77] الآية، ثم قال ابن كثير رحمه الله:

والحقّ أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرًا لقومه، مُبَيِّنًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل، والأصنام، فَبَيَّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صور الملائكة السماوية؛ ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذي هو عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته؛ ليشفعوا لهم عنده في الرَّزق والنصر وغير ذلك، مما يحتاجون إليه، وبَيَّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السّيّارة السبعة المتحيرة، وهي القمر، وعُطارد، والزُّهْرة، والشمس، والْمِرِّيخ، والمشتري، وزُحَل، وأشدهنّ إضاءةً وأشرفهنّ عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة، فَبَيَّن أولًا - صلوات الله وسلامه عليه - أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مُسَخَرة مُقَدَّرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تملك لنفسها تصرفًا، بل هي جِرْم من الأجرام، خلقها الله مُنِيرةً لما له في ذلك من الْحِكَم العظيمة، وهي تَطْلُع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب، حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر، فَبَيَّن فيه مثل ما بيّن في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما

(1)

أي سكّنوني من الرعب.

ص: 357

انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع على الأبصار، وتَحَقَّق ذلك بالدليل القاطع، قال:{قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]: أي أنا بريء من عبادتهنّ وموالاتهنّ، فإن كانت آلِهة فكيدوني بها جميعًا، ثم لا تنظرون، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79]: أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء، ومُختَرِعها، ومسخرها، ومقدرها، ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء، وربه، ومليكه، وإلهه، كما قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 51، 52] الآيات، وقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 120 - 123] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: 161]؟ وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ مولود يولد على الفطرة

" الحديث، وفي "صحيح مسلم"، عن عياض بن حمار رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: إني خلقت عبادي حنفاء

" الحديث، وقال الله في كتابه العزيز:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ومعناه على أحد القولين كقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .

قال: فإذا كان هذا في حقّ سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتًا لله حنيفًا، ولم يكن من المشركين ناظرًا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسّجِيّة المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. انتهى المقصود من كلام ابن

ص: 358

كثير رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

ومنها

(2)

: قوله لآلهتهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، إنما قاله ممهّدًا للاستدلال على أنها ليست آلهةً، وقطعًا لقومه في قولهم: إنها تضرّ وتنفع، وهذا الاستدلال، والذي قبله يتحرّر من الشرط المتّصل، ولذلك أردف على قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وعند ذلك قالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، فقال لهم:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 66]، فحَقّت كلمته، وظهرت حجته.

ومنها: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وهذا تعريضٌ، وحقيقته أنه سيسقم، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير، ويَحْتَمِل أن يُريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم؛ إذ كان لا يصحّ على جواز ذلك حجّة.

ومنها: ما جاء في حديث إبراهيم عليه السلام أنه قال لزوجه سارة حين دخل أرض الجبّار، فسُئل عنها، فقال: إنها أختي، وصَدَقَ، فإنها أخته في الإسلام، وكذلك جاء عنه منصوصًا أنه قال: إنما أنتِ أختي في الإسلام.

وبالجملة فأوجه الأمور واضحة، وصِدْقها معلومٌ على الأوجه المذكورة، فليس في شيء منها ما يقتضي عِتابًا، ولا عقابًا، لكنّ هولَ المقام، وشدّة الأمر حَمَله على الخوف منها.

وأيضًا فلْنتبيَّن درجة من يقول: "نفسي نفسي" من درجة من يقول: "أمّتي أُمتي". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى) قيل: سُمّي بذلك؛ لأنه وُجد بين "مو"، وهو بالعبرانيّة الماء، و"شى"، وهو الشجر، فعُرّب، والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير ابن كثير" 6/ 97 - 99.

(2)

أي من تلك الكذبات التي قالها إبراهيم عليه السلام، فهو من تَتِمّة كلام القرطبيّ السابق، فتنبّه.

(3)

"المفهم" 1/ 431 - 433.

ص: 359

(فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ) وفي نسخة: "برسالته"(وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ) هذا إشارة إلى قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، قال القرطبيّ: لا خلاف بين أهل السنّة في أن موسى عليه السلام سمع كلام الله الذي لا يُشبهه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف، ولو سمعه بالحرف والصوت لَمَا صحّت خُصُوصيّة الفضيلة لموسى بذلك؛ إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشرِكُ كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ليس بصوت ولا حرف" غير صحيح؛ لأن مذهب أهل السنّة والجماعة من السلف الصالح أن الله تعالى يتكلّم بصوت وحرف متى شاء

(2)

، وأما خصوصيّة موسى عليه السلام فليست من هذا الوجه، بل من جهة أنه سمع كلامه بلا واسطة، وأما سائر الناس، فإنما سمعوه بواسطة جبريل عليه السلام، ثم بواسطة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى فهم، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(اشْفَعْ لنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟) وفي نسخة: "أَلَا ترى إلى ما نحن فيه، أَلَا ترى إلى ما بلغنا" بزيادة "إلى" في موضعين، وفي أخرى بزيادتها في الأول دون الثاني (فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا، لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ الله، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي صغيرًا في الحال التي يُمهد لك فيها موضعك؛ لتضطجع عليه؛ لصغرك (وَكَلِمَةٌ مِنْهُ) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: سمّاه كلمة؛ لأنه بكلمة "كن" من غير أن يتقلّب في أطوار الخلق كما تقلّب غيره

(3)

، (أَلْقَاهَا

(1)

"المفهم" 1/ 433.

(2)

راجع: "شرح العقيدة الطحاويّة"، فقد أبان المذاهب كلها، وحقّقها تحقيقًا بالغًا ص 168 - 188.

(3)

"المفهم" 1/ 435.

ص: 360

إِلَى مَرْيَمَ) أي أبلغها إليها (وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا) يعني في هذه الرواية، وإلا فقد ورد في رواية الترمذيّ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"إني عُبدت من دون الله"، وفي رواية أحمد، والنسائيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"إني اتُّخِذتُ إلهًا من دون الله"، وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه، وزاد:"وإن يُغفَر لي اليومَ حسبي". (نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُوني، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ الله، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاء، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْش، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي) قال القرطبيّ رحمه الله: قد زاد عليه في حديث أنس رضي الله عنه: "فأنطلق، فأستأذن على ربّي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد، ثم أخرّ ساجدًا"، قال: وبمجموع الحديثين يكمل المعنى، ويُعلَم مراعاة النبيّ صلى الله عليه وسلم لآداب الحضرة العليّة

(1)

.

(ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ، وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِه، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْه، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي) وفي رواية ثابت عن أنس: "فأحمد ربي بمحامد لم يحمده بها أحدٌ قبلي، ولا يحمده بها أحدٌ بعدي".

قال القرطبيّ رحمه الله: يدلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن المحامد كانت بعد السجود، وحديث أنسّ رضي الله عنه يدلّ على أنها كانت قبل السجود في حالة القيام، وذلك يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كلّه في قيامه وسجوده إلى أن أُسعِف في طَلِبَته. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ

(3)

، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبّ، أَمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم شُفِّع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل

(1)

"المفهم" 1/ 435 - 436.

(2)

"المفهم" 1/ 435 - 436.

(3)

وفي نسخة: "واشفع" بالواو.

ص: 361

الموقف، فإنه لَمّا أُمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شَرَع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم، ولذلك قال في الرواية الأخرى:"فيؤذن له، وتُرسَل الأمانة والرحِمُ، فيقومان جنبتي الصراط"، هذا المساق أحسن من مساق حديث معبد، عن أنس رضي الله عنه، فإنه ذكر فيه عقب استشفاعه لأهل الموقف أنه أُجيب بشفاعته لأمته، وليست الشفاعة العامّة التي طَلَب منه أهل الموقف، وكأنه هذا الحديث سُكِت فيه عن هذه الشفاعة، فذكرت شفاعته لأمته؛ لأن هذه الشفاعة هي التي طُلبت من أنس رضي الله عنه أن يُحدّث بها في ذلك الوقت، وهي التي أنكرها أهل البدع، والله تعالى أعلم

(1)

.

(مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ) يعني به - والله أعلم - السبعين الذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربهم يتوكّلون، قاله القرطبيّ (مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَن، مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ) هو الباب الذي يكون عن يمين القاصد إلى الجنّة بعد جواز الصراط، واختير؛ لكونه أفضل الأبواب، والله تعالى أعلم (وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يعود هذا الضمير إلى السبعين الذين لا حساب عليهم، وهو الظاهر، ويكون معناه: أنهم لا يُلْجأون إلى الدخول من الباب الأيمن، بل من أيّ باب شاؤوا دخلوا، كما جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه حيث قال:"هل يُدْعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" متّفقٌ عليه، وكما قال صلى الله عليه وسلم فيمن أسبغ الوضوء، وهلّل بعده:"أدخله الله من أيّ أبواب الجنّة الثمانية شاء"، رواه مسلم.

ويَحْتَمِلُ أن يعود على الأمة، وفيه بُعْدٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ) بكسر الميم: جانبا الباب (مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّة، لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ) - بفتح الهاء والجيم -: مدينة عظيمة، هي قاعدة بلاد البحرين، قال الجوهريّ في "صحاحه": هَجَر اسم بلد مُذَكَّر مصروف، قال: والنسبة إليه هاجريّ، وقال أبو القاسم الزجاجيّ في "الْجُمَل": هَجَر يُذَكَّر ويؤنث.

(1)

"المفهم" 1/ 437.

ص: 362

وقال النوويّ: هجر هذه غير هجر المذكورة في حديث: "إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر"، تلك قرية من قُرَى المدينة، كانت القلال تُصْنَع بها، معروفةٌ، وقد أوضحتها في أول "شرح المهذّب". انتهى.

(أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى) - بضم الباء - وهي مدينة معروفة، بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، وهي مدينة حُوران، وبينها وبين مكة شهر، قاله النوويّ

(1)

، وهي غير البصرة المعروفة بالعراق، وقد تقدّم أنها مثلّثة الباء، والغرض من التمثيل بهذا المبالغة في سعة باب الجنّة، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون شكًّا من بعض الرواة، وَيحْتَمِلُ أن يكون تنويعًا، كأنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى ما بينهما قدّره راءٍ بكذا، وقدّره آخر بكذا، ويصحّ أن يقال: سَلَكَ بها مسلك التخيير، فكأنه قال: قدِّروها إن شئتم بكذا، وإن شئتم بكذا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب كونه للشكّ، ويردّ الاحتمال الثاني ما يأتي في رواية عُمارة بن القعقاع بلفظ:"لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ هَجَرٍ وَمَكَّةَ، قَالَ: لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ؟ "، فإنه صريحٌ في الشكّ، وقد وقع عند ابن منده بلفظ:"كما بين مكة وهَجَر، أو مكة وبُصْرَى، لا أدري أيهما قال؟ "، فدلّ على أن "أو" للشكّ من غير شكّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 487 و 488](194)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3340 و 3361)، و"التفسير"(4712)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2434)، و"الأطعمة"(1837)، و (النسائيّ) في "الوليمة" من "الكبرى"(6660)، و"التفسير"(11286)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3307)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 331 و 435)، و (أبو عوانة) في

(1)

"شرح مسلم" 3/ 69.

(2)

"المفهم" 1/ 438 - 439.

ص: 363

"مسنده"(437 و 438 و 439)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(483 و 484)، و (ابن منده) في "الإيمان"(879 و 880 و 881 و 882)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أنس رضي الله عنه الطويل، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[488]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ وَلَحْمٍ، فَتَنَاوَلَ الذِّرَاعَ، وَكَانَتْ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيْه، فَنَهَسَ نَهْسَةً

(1)

، فَقَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَة، ثُمَّ نَهَسَ أُخْرَى، فَقَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ لَا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ: أَلا تَقُولُونَ كَيْفَهْ؟ قَالُوا: كَيْفَهْ يَا رَسُولَ اللْهِ؟ قَالَ: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: فَقَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، وقَوْله لِآلِهَتِهِمْ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقَوْله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ: إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ إِلَى عِضَادَتَيِ الْبَاب، لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ هَجَرٍ وَمَكَّةَ، قَالَ: لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ؟).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خَيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبّيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

(1)

وفي نسخة: "فنهس منها نهسةً".

ص: 364

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (قَصْعَةٌ) - بفتح القاف، وسكون الصاد المهملة -: هي الصّحْفَة، وزنًا ومعنًى، جمعها قَصَعَات محرَّكةً وكَعِنَب، وجِبَال، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مِنْ ثَرِيدٍ) بالفتح، قال الفيَّوميّ رحمه الله: فَعِيلٌ بمعنى: مفعول، ويقال أيضًا: مَثْرُودٌ، يقال: ثَرَدتُ الْخُبزَ ثَرْدًا، من باب قتل، وهو أن تَفُتّه، ثم تبلّه بمرقٍ، والاسم الثُّرْدَةُ. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: ثَرَدَ الخبزَ: فَتَّهُ، كاثَّرَده، واتَّرَده بالثاء والتاء، على افتعله. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَلَا تَقُولُونَ كَيْفَهْ؟ قَالُوا: كَيْفَهْ يَا رَسُولَ اللهِ؟) هكذا وقع في النسخ التي بين يديّ بلفظ "كيفه" في الموضعين، ووقع عند القاضي عياض في "شرحه" الأول بلفظ "كيف هو"، ونصّه: وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين لم يسألوه حين قال: "أنا سيّد ولد آدم: ألا تقولون: كيف هو؟ "، وعند العذريّ:"كيفه، قالوا: كيفه"، هذه الهاء هاء السكت عند أهل العربيّة الملْحَقة في الوقف، وهي تَلْحَقُ الأسماء والحروف، والأفعالَ؛ لثلاث عِلَل:

لصحّة الحركة التي قبلها آخر الكلمة، كقولهم: غُلاميه، وكتابيه، {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] على قول بعضهم، وأينه، وكيفه.

أو لتمام الكلام المنقوص، كقوله: عمّه، ولمَه، وقِهْ.

أو للحاجة عند مدّ الصوت في النداء والنُّدْبة.

وفيه تنبيه العالم الطالب على موضع السؤال، وبسطه للسؤال إذا انقبض، وتعظيم القوم العالم أن يسألوه عن كلّ شيء، ولعلّ هذا كان بعد نهيهم عن السؤال إلا فيما أُذن لهم فيه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": هذه الهاء هي هاء السكت، تُلْحَق في الوقف، وأما قول الصحابة رضي الله عنهم: كيفه يا رسول الله، فأثبتوا الهاء في حالة الدرج، ففيها وجهان، حكاهما صاحب "التحرير" وغيره:

(1)

"القاموس المحيط" ص 676.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 81.

(3)

المصدر السابق ص 245.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 874 - 876.

ص: 365

[أحدهما]: أن من العرب من يُجْري الدرج مُجْرَى الوقف.

[والثاني]: أن الصحابة رضي الله عنهم قَصُدوا اتّباع لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي حَثَّهم عليه، فلو قالوا:"كيف" لَمَا كانوا سائلين عن اللفظ الذي حَثَّهم عليه، والله تعالى أعلم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وإلى هذه الهاء أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَوَصْلَ ذِي الْهَاءِ أَجِزْ فِي كُلِّ مَا

حُرِّكَ تَحْرِيكَ بِنَاءٍ لَزِمَا

وَوَصْلُهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكِ بِنَا

أُدِيمَ شَذَّ فِي الْمُدَامِ اسْتُحْسِنَا

وَرُبَّمَا أُعْطِيَ لَفْظُ الْوَصْلِ مَا

لِلْوَقْفِ نَثْرًا وَفَشَا مُنْتَظِمَا

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ

إلخ) الضمير لعمارة بن القعقاع.

وقوله: (وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ) عليه السلام الضمير لعمارة أيضًا، وكذا (فَقَالَ) أي قال عمارة، وقوله:(وَذَكَرَ) قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ

إلخ، مقول القول، وهو محكيّ؛ لقصد لفظه.

وقوله: (قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) ضمير "قال" للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (إِلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ) هو بكسر العين، قال الجوهريّ: عِضادتا الباب: هما خشبتاه من جانبيه. انتهى.

[تنبيه]: رواية عُمارة بن القعقاع التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا أخرجها الحافظ ابن منده رحمه الله

(2)

في "كتاب الإيمان"(2/ 851)، فقال:

(882)

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل، وأحمد بن إسحاق بن أيوب، ومحمد بن يعقوب، قالوا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير بن عبد الحميد، عن عُمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: وُضِعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد، فتناول الذراع، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنَهَس نَهْسَةً، فقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ثم نهس أخرى، فقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 70.

(2)

لكن وقع عنده في آخره بلفظ: "كما بين مكة وهجر، أو مكة وبصرى"، والظاهر أنه وقع له من شيخه هكذا، والله أعلم.

ص: 366

فلما رأى أن أصحابه لا يسألونه، قال: ألا تقولون كيف؟ قالوا: يا رسول الله كيف؟ قال: يقوم الناس لرب العالمين، يُسْمِعهم الداعي، ويَنْفُذهم البصر، وتدنو الشمس من رؤوسهم، فيشتدّ عليهم حرّها، ويشقّ عليهم دُنُوُّها منهم، قال: فينطلقون من الضَّجَر والْجَزَع مما هم فيه، فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه من الشرّ؟ فيقول آدم: إن ربي غَضِب اليوم غَضَبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يَغْضَب بعده مثله، وكان أمرني أمرًا فعصيته، وأطعت الشيطان، نهاني عن الشجرة، فعصيته، وأخاف أن يَطْرَحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي، قال: فينطلقون، فيأتون إلى نوح عليه السلام، فيقولون: يا نوح، أنت نبي الله، وأول رسل الله، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه من الشرّ؟ فيقول نوح: إن ربي غَضِب اليوم غَضَبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة، فدعوت بها على قومي، فأُهلكوا، وإني أخاف أن يَطْرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي، قال: فينطلقون، فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقولون: يا إبراهيم أنت خليل الله، قد سَمِع بِخُلّتك أهل السماء وأهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه من الشرّ؟ فيقول إبراهيم: إن ربي غَضِب اليوم غَضَبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر الكوكب، قوله: إنه ربي، وقوله لآلهتهم: هذا كبيرهم، وقوله: إني سقيم، وأخاف أن يَطْرَحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي، فينطلقون، حتى يأتون موسى، فيقولون: يا موسى أنت نبي الله، اصطفاك الله برسالاته، وكلمك تكليمًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه من الشرّ؟ فقال موسى: إن ربي غَضِب اليوم غَضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا، لم أومر بها، فأخاف أن يَطْرَحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي، فينطلقون حتى يأتوا عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت نبي الله، أنت كلمة الله وروحه، ألقاها إلى مريم وروح منه، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه من الشرّ؟ فيقول عيسى: إن ربي غَضِب اليوم غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله - قال عمارة: ولا أعلمه ذكر ذنبًا - وقال: إني أخاف أن يَطرحني في النار، انطلقوا إلى

ص: 367

غيري، نفسي نفسي، فينطلقون، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم النبيين، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، فيقيمني رب العالمين مقامًا لم يُقِمه أحدًا قبلي، فيقول: يا محمدُ اشفع تشفع، سل تعطه، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول الله له: أَدْخِل الجنةَ من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأُخَر، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين الباب إلى الباب كما بين مكة وهَجَر، أو مكة وبُصْرَى لا أدري أيهما قال. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[489]

(195) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ، حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ، خَلِيلِ الله، قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، كلِمَةِ اللهِ وَرُوحِه، فَيَقُولُ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْق، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْق، كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيح، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْر، وَشَدِّ الرِّجَال، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاط، يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَاد، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، قَالَ: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ، مُعَلَّقَة، مَأْمُورَةٌ

ص: 368

بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِه، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّار، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِه، إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيُّ) أبو جعفر الكوفيّ، من صغار [10].

رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن إدريس، وأبي بكر بن عيّاش، وعمران، وإبراهيم ابني عيينة، وأبي أسامة، وأبي معاوية، ووكيع، ومحمد بن فضيل، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وابنه أبو زيد، أحمد بن محمد بن طَرِيف، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وصالح بن محمد الحافظ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وغيرهم.

قال أبو زرعة: محلُّه الصدق، وقال في موضع آخر: لا بأس به، صاحب حديث، كان ابن نمير يُثني عليه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الخطيب: كان ثقةً.

وقال الحضرميّ: مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زاد القَرّاب في "تاريخه": في صفر، وأرّخه ابن قانع سنة (37).

وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط

(1)

، هذا (195)، وحديث (1651): "إذا حلف أحدكم على اليمين

"، و (2694): "كلمتان خفيفتان على اللسان

"، و (2743): "بينما ثلاثة نفر، يتمشّون

".

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيَّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ) هو: سعد بن طارق الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت في حدود 140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

(1)

هذا هو الذي في برنامج الحديث (صخر)، وذكر في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": أنه رَوَى عنه مسلم ستة أحاديث، والأول أشبه، والله تعالى أعلم.

ص: 369

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) هو: سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3](ت على رأس 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

5 -

(رِبْعِيّ) - بكسر الراء، وسكون الموحّدة - بن حِرَاش - بكسر الحاء المهملة، بعدها راء - أبو مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

6 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، حِسْل، أو حُسيل الْعَبسيّ، حليف الأنصار ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

وأبو هريرة رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، فلا حاجة إلى إعادته، بل أذكر هنا بعض ما يُستشكل، فأقول:

قوله: (حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ) هو بضم التاء، وإسكان الزاي، ومعناه: تُقَرَّب وتُدنى منهم، كما قال الله تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)} [الشعراء: 90]: أي قُرِّبت.

وقوله: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) قال النوويّ رحمه الله: المشهور في ضبط الكلمتين الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤها على الضم، وقد جَرَى في هذا كلام بين الحافظ أبي الخطاب بن دِحية، والإمام الأديب، أبي اليمن الكِنْديّ، فرواهما ابن دحية بالفتح، وادّعَى أنه الصواب، فأنكره الكِنْديّ، وادّعَى أن الضم هو الصواب، وكذا قال أبو البقاء: الصواب الضم؛ لأن تقديره: من وراءِ ذلك، أو من وراء شيء آخر، قال: فإن صَحّ الفتح قُبِلَ، وقد أفادني هذا الحرف الشيخ الإمام، أبو عبد الله، محمد بنِ أُميّة أدام الله نِعَمَه عليه، وقال: الفتح صحيحٌ، وتكون الكلمة مؤكّدةً، كشَذَرَ مَذر، وشَغَرَ بَغَر، وسقطوا بَيْنَ بَيْنَ، فركّبهما، وبناهما على الفتح، قال: وإن ورد منصوبًا منونًا جاز جوازًا جيِّدًا، ونَقَلَ الجوهريّ في "صحاحه" عن الأخفش أنه يقال: لَقِيتُهُ من وراءُ، مرفوع على الغاية، كقولك: من قَبْلُ، ومن بَعْدُ، قال: وأنشد الأخفش شعرًا [من الطويل]:

إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ

لِقَاؤُكَ إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ

بضمهما، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 71.

ص: 370

وقوله: (فَتَقُومَانِ جَنَبَتَي الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا) أما "تقومان": فبالتاء المثنّاة من فوقُ، وقد قدّمنا بيَان ذلك، وأن المؤنثتين الغائبتين تكونان بالمثناة من فوقُ.

وأما جنبتا الصراط: فبفتح الجيم والنون، ومعناهما: جانباه، يقال: جَنْبَتا الوادي، وجانباه، وضِفّتاه، وناحيتاه

(1)

.

وقوله: (وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ) قال النوويّ رحمه الله: أما إرسال الأمانة والرحم: فهو لِعِظَم أمرهما، وكثير مَوْقعهما، فَتُصوَّران مُشَخَّصَتين على الصفة التي يريدها الله تعالى، قال صاحب "التحرير": في الكلام اختصار؛ لفهم السامع له، أي إنهما تقومان لتطالبا كلَّ من يريد الجواز بحقّهما. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَشَدِّ الرِّجَالِ) بالجيم: جمع رَجُل، هذا هو الصحيح المعروف المشهور، ومعناه: كسُرعة جَرْي الرجال، ونَقَلَ القاضي عياض أنه في رواية ابن ماهان "الرِّحَال" بالحاء، قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدُّها عَدْوُها البالغ وجريها. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وشدٌّ الرجال: جَرْيُهم الشديد، جمع رَجُل، وعند ابن ماهان:"الرحال" بالحاء المهملة، وكأنه سُمِّيت الراحلةُ بالرَّحْل، ثمّ جُمِع: يريد كجري الرواحل، وفيه بُعْد. انتهى

(3)

.

وقوله: (تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: هو كالتفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيَمُرّ أوّلكم كالبرق، ثم كَمَرّ الريح" إلى آخره، ومعناه: أنهم يكونون في سرعة المرور على حَسَبِ مراتبهم وأعمالهم. انتهى

(4)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يعني: أن سُرعة مرّهم على الصراط بقدر أعمالهم، ومبادرتهم لطاعة ربّهم، ألا تراه كيف قال:"حتى تعجَز أعمال العباد"؟ وهذا كلّه من عَدْلِ الله تعالى، وإظهار ذلك لعباده، وإلا فالكلّ برحمته، لا إله غيره.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 876، و"شرح النوويّ" 3/ 70.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 72 بتغيير يسير.

(3)

"المفهم" 1/ 439.

(4)

"شرح مسلم" 3/ 72.

ص: 371

قال: وعند بعض رُواة مسلم: "تجري بهم بأعمالهم" ولا وجه لدخول الباء هنا - يعني قوله: "بأعمالهم" -. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ) بكسر الجيم، وفتحها، من بابي ضرب، وسَمِع، جوّز الوجهين في "القاموس"، وعبارته: الْعَجْزُ، والْمَعْجِزُ، والْمَعْجِزَةُ، وتُفتح جيمهما، والْعَجَزَانُ، محرَّكَةً، والْعُجُوزُ بالضمّ: الضَّعْفُ، والفِعْلُ كَضَرَبَ، وسَمِعَ. انتهى

(2)

.

وضعّف الفتح في "المصباح"، وعبارته: عَجَزَ عن الشيء عَجْزًا، من باب ضَرَبَ، ومَعْجِزَةً بالهاء وحَذْفِها، ومع كلِّ وجه فتح الجيم وكسرها: ضَعُفَ عنه، وعَجِزَ عَجَزًا، من باب تَعِبَ: لغةٌ لبعض قيس عَيْلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد رَوَى ابنُ فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه لا يقال: عَجِزَ الإنسان بالكسر إلا إذا عَظُمت عَجِيزته. انتهى

(3)

.

وقوله: (إِلَّا زَحْفًا) بفتح الزاي، وسكون الحاء المهملة: يقال: زَحَفَ الرجل، من باب نَفَعَ: إذا انسحب على استِهِ

(4)

.

وقوله: (وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ) بتخفيف الفاء، وهما جانباه.

وقوله: (كَلَالِيبُ) جمع كَلُّوب على فَعّول، نحو سَفُّود، وهي التي سمّاها فيما تقدّم الْخَطَاطيف.

وقوله: (فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ) أي مجروح ينجو منها.

وقوله: (وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ) هو بالدال المهملة، والسين المهملتين: قال ابن الأثير: "مكدوس في النار": أي مدفوع فيها، وتَكَدَّسَ الإنسان: إذا دُفِع من ورائه، فسقط، ويروى بالشين المعجمة، من الْكَدْش، وهو السوق الشديد، والْكَدْش أيضًا: الطرد والجرح. انتهى

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: ووقع في أكثر الأصول هنا: "مُكَرْدَسٌ" بالراء ثم الدال، وهو قريب من معنى المكدوس. انتهى.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 877.

(2)

"القاموس المحيط" ص 464.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 393.

(4)

"النهاية" 2/ 298.

(5)

"النهاية" 4/ 155.

ص: 372

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مكردس" بمعنى: مكدوس، يقال: كَرْدس الرجل خيله: إذا جمعها كراديس، أي قِطَعًا كِبَارًا، وَيحْتَمِلُ أن يكون معناه: المكسور فَقَارِ الظهر، وَيحْتَملُ أن يكون من الْكَرْدسة، وهو الْوِثَاق، يقال: كُرْدِسَ الرجلُ: جُمِعت يداه ورجلاه، حكاها الجوهريّ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ) هذا صريح في أن قوله: إن قعر جهنم

إلخ من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وليس مرفوعًا.

وقوله: (إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض الأصول لسبعون بالواو، وهذا ظاهر، وفيه حذفٌ، تقديره: إن قعرَ جهنم سَيْرُ سبعين سنة، ووقع في معظم الأصول والروايات:"لسبعين" بالياء، وهو صحيح أيضًا، إِمّا على مذهب من يَحْذِف المضافَ، ويُبقي المضاف إليه على جرّه، فيكون التقدير "سَيرُ سبعين"، وإِمّا على أن "قَعْرَ جهنم" مصدرٌ، يقال: قَعَرْتُ الشيءَ: إذا بَلَغْتَ قَعْرَهُ، ويكون "سبعين" ظرف زمان، وفيه خبر "إنّ"، والتقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفًا، والخريفُ: السنة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ التوجيه: بإبقاء المضاف إليه على حاله بعد حذف المضاف، فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن شرطه أن يكون المحذوف معطوفًا على مماثله، كما قال في "الخلاصة" بقوله:

وَرُبَّمَا جَرُّوا الَّذِي أَبْقَوْا كَمَا

قَدْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ

مُمَاثِلًا لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ

وذلك كقول الشاعر [من المتقارب]:

أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً

وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا

فجرّ "نارٍ"؛ لوجود الشرط، وهو العطف على مثله، فيكون التقدير:"وكلَّ نار"، وهنا ليس هكذا، فعندي الأولى أن يُخرّج على لغة من يُعرب الجمع المذكر السالم كلفظ "حين" في الإعراب على النون، كما في قوله:

دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ سِنِينَهُ

لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا

(1)

"المفهم" 1/ 440.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 72 - 73.

ص: 373

وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

.... وَمِثْلَ "حِينٍ" قَدْ يَرِدْ

ذَا الْبَابُ وَهْوَ عِنْدَ قَوْمٍ يَطَّرِدْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما هذا معًا من أفراد المصنّف رحمه الله.

وإنما قيّدته بقولي: "معًا" لأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه بمفرده متّفق عليه كما أسلفت تخريجه قبل حديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[90/ 489](195)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(442 و 485)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 245 - 246)، (وابن منده) في "الإيمان"(883)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(91) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّة، وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[490]

(196) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّة، وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقَفيّ، أبو رَجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10]، (ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه تقدّم قبل باب.

ص: 374

3 -

(جَرِير) هو ابن عبد الحميد تقدّم قبل حديث.

4 -

(الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) مولى عمرو بن حُريث البصريّ، ثقةٌ [5](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (23) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما مرّ قريبًا.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه، والمختار، فما أخرج له البخاريّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال قتيبة: حدّثنا جرير"، وجه ذلك أن شيخه قتيبة أخذه عن جرير سماعًا منه مع جماعة، بخلاف إسحاق، فإنه لم يصرّح بهذا، فبيّن المصنّف ذلك.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، كما مرّ قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي في دخول الجنّة قبل الناس، ويدلّ عليه قوله:"وأنا أوّلُ من يَقرَع باب الجنّة"، وقول الخازن:"بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك"، وقوله في الحديث الآخر:"فأَنطلق معي برجال، فأُدخلهم الجنّة"، وهذه إحدى شفاعاته صلى الله عليه وسلم المتقدّمة الذكر. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: معنى أول شفيع: أي أنا أول شافع للعصاة من أمتي في دخول الجنّة، وقيل: أنا أول شافع في الجنّة لرفع درجات الناس فيها. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 452.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3633.

ص: 375

(وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا) بفتحتين: جمع تابع، أي أتباعًا يوم القيامة؛ لأنّ أمته صلى الله عليه وسلم ثلثا أهل الجنة، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[91/ 490 و 491 و 492](196) و [91/ 493](197)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 436 و 503)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(416 و 417 و 418)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(486 و 487 و 488 و 489)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3964)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 255)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6243 و 6481)، و (ابن منده) في "الإيمان"(887 و 888)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(6)، و (الطبرانيّ) في "الأوائل"(5)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما أنعم الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

2 -

(ومنها): بيان كون نبيّنا صلى الله عليه وسلم أول شافع في الجنّة.

3 -

(ومنها): بيان كونه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة.

4 -

(ومنها): بيان فضل كثرة الأتباع في الخير؛ لأنه يؤتى أجور أتباعه، فكلما كثروا كثُر أجره، والعكس بالعكس، كما قال صلى الله عليه وسلم:"مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عَمِل بها من غير أن يَنْقُص من أجورهم شيئًا، ومن سَنّ في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا"، أخرجه مسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 376

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[491]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخْتَارِ

(1)

بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَة، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ) القَصّار الأزديّ، أبو الحسن الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن أبي العبّاس، صدوقٌ، له أوهامٌ، من صغار [9].

رَوَى عن سفيان الثوريّ، وعلي بن صالح، وشيبان النحويّ، ومالك بن أنس، وهشام بن سعد، وعمران بن أنس بن الحارث، وحمزة الزّيّات، وشريك، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو كريب، والقاسم بن زكريا بن دينار، ومحمود بن غيلان، والحسن بن عليّ الخلال، وعبدة بن عبد الله الصفار، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صالحٌ، وليس بذاك، وقال أبو حاتم: قلت لعلي ابن المدينيّ: معاوية بن هشام، وقَبِيصة، والفِريابي؟ قال: متقاربون، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يحيى بن يمان، ومعاوية بن هشام، قال: ما أقربهما، ثم قال: معاوية بن هشام كأنه أقوم حديثًا، وهو صدوق، وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك، هو وإسحاق الأزرق، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: معاوية بن هشام رجلُ صدق، وليس بحجة، وقال الساجيّ: صدوق يَهِمُ، قال أحمد بن حنبل: هو كثير الخطأ، قال الساجيّ:

(1)

وفي نسخة: "المختار".

ص: 377

وحدثني الحسن بن معاوية بن هشام، قال: سمعت قَبِيصة، وذكر له أبي، فقال: أين أقع منه؟ قال الحسن: كان عند أبي عن الثوريّ ثلاثة عشر ألفًا، وعند قبيصة سبعة آلاف، وقال ابن سعد: كان صدوقًا، كثير الحديث، وقال أبو الفرج ابن الجوزيّ في "كتاب الضعفاء": معاوية بن هشام، وقيل: هو معاوية بن أبي العباس، رَوَى ما ليس من سماعه، فتركوه، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: هذا خطأٌ من أبي الفرج، ما تركه أحدٌ، ومن أوهام معاوية بن هشام روايته عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَدْيَنُ، وأصحاب الأيكة أُمَّتان بُعِث إليهما شعيب"، ورواه عَمْرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، في ذكر الأيكة قولَهُ، وهو الصواب. انتهى

(1)

.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع أو خمس ومائتين، ربما أخطأ.

روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (196)، وحديث (603): "ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة

"، و (1694): "أوَ كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله

"، و (2598): "إن اللعّانين لا يكونون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة".

3 -

(سُفيان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الثبت الحجة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقيان تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، وبيان مسائله.

وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: قَرَعَ الباب قَرْعًا، من باب نَفَعَ: إذا طَرَقه، ونَقَرَ عليه، يعني: أنه أول من ينقُرُ، ويستفتح باب الجنّة، فيُفتح له، دون غيره، فيدخلها هو، وأمته قبل سائر الأمم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 112 - 113.

ص: 378

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[492]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّة، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) بن الوليد الْجُعْفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثّقَفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنة [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقيان تقدما قبل حديث، وكذا بيان مسائله.

وقوله: ("أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ) قال المظهر رحمه الله: أي أنا أوّل شافع للعصاة من أمتي في دخول الجنّة

(1)

، وقيل: أي أنا أوّل شافع في ترقية منازل بعض أهل الجنّة، قال القرطبيّ رحمه الله: والأول أظهر

(2)

.

وقوله: (لَمْ يُصَدَّقْ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ).

وقوله: (مَا صُدِّقْتُ)"ما" مصدريّة، والفعل مبنيّ للمفعول: أي لم يُصدّق نبيّ تصديقًا مثل تصديق أمّتي إياي، يعني به كثرة مصدّقيه، قال المظهر: وهذا كناية عن أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أمة، ويؤيّده قوله:(وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبيَاءِ نَبِيًّا) اسم "إنّ" مؤخّرًا، والجارّ والمجرور خبرها (مَا) نافية (يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ") أي مع كونه مرسلًا إلى أمّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المرقاة" 10/ 9.

(2)

راجع: "المفهم" 1/ 453.

ص: 379

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[493]

(197) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ

(1)

، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

5 -

(ثَابِت) بن أسلم البنانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

وأنس رضي الله عنه تقدّم في حديث أول الباب، وكذا بيان مسائله.

وقوله: (فَأَسْتَفْتِحُ) أي أطلُب أن يُفتَحَ لي.

وقوله: (فَيَقُولُ الْخَازِنُ) سُمّي الملك الموكّل لحفظ باب الجنّة خازنًا؛ لأن الجنّة خِزانة الله تعالى، أعدّها الله للمؤمنين، وهو حافظها.

وقوله: (مُحَمَّدٌ) خبر لمحذوف: أي أنا محمد.

وقوله: (بِكَ أُمِرْتُ) بالبناء للمفعول (لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "بك" متعلّقٌ بـ"أُمرتُ"، والباء سببيّة، قُدّمت للتخصيص، والمعنى: بسببك أُمرتُ أن لا أفتح لغيرك، لا بشيء آخر، ويجوز أن يكون

(1)

وفي نسخة: "عمرو بن محمد الناقد".

ص: 380

صلة للفعل، و"أن لا أفتح" بدلًا من الضمير المجرور، أي أُمرتُ بأن لا أفتح لأحد غيرك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(92) - (بَابُ اخْتِبَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَعْوَتَهُ شَفَاعَةً لِأُمَّتِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[494]

(198) - (حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا

(2)

، فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن مَيْسَرة الصّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96)(م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

[تنبيه]: قد تقدّم أن في "يونس" ستَّ لغات: ضم النون، وفتحها، وكسرها، مع الهمز فيهنّ، وتركه.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، إمام دار الهجرة الثبت الحجة الحافظ المتقن الفقيه [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شهاب

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3633.

(2)

وفي نسخة: "يدعو بها".

ص: 381

الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحافظ الحجة الفقيه الثبت، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل باب، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وابن وهب، فمصريّان.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء، فكلّهم ممن اشتهر بالفقه.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: أن يونس بن عبد الأعلى هذا تُوُفّي في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة، ففي هذا الإسناد رواية مسلم، عن شيخ عاش بعده، فإن مسلمًا تُوُفّي سنة إحدى وستين ومائتين

(1)

، كما تقدم في ترجمته أول الكتاب.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن أبي سلمة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا) وفي الرواية الآتية: "لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها"، وزاد في رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فتَعَجَّل كل نبيّ دعوته"، وفي رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة: "لكلّ نبيّ دعوةٌ دعا بها في أمته،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 78.

ص: 382

فاستجيب له". (فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لِأَمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ") وفي الرواية التالية: "وأردت - إن شاء الله - أن أختبئ".

[تنبيه]: قد استُشْكِل ظاهر الحديث بما وَقَع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبيّ دعوة مستجابةً فقط.

[وأجيب]: بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطعُ بها، وما عدا ذلك من دعواتهم، فهو على رجاء الإجابة.

وقيل: معنى قوله: "لكل نبيّ دعوة": أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى.

وقيل: لكل منهم دعوةٌ عامّةٌ مستجابةٌ في أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصّة، فمنها ما يُستجاب، ومنها ما لا يستجاب.

وقيل: لكل منهم دعوة تخصُّه لدنياه، أو لنفسه، كقول نوح عليه السلام:{لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وقول زكريا عليه السلام:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]، وقول سليمان عليه السلام:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، حكاه ابن التين.

وقال بعض شُرّاح "المصابيح" ما لفظه: (اعلم): أن جميع دعوات الأنبياء عليهم السلام مستجابةٌ، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك، إلا أنا، فلم أدع، فأُعطيت الشفاعة عوضًا عن ذلك؛ للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة، لا أمة الإجابة.

وتعقّبه الطيبيّ بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب، ودعا على أناس من قريش بأسمائهم، ودعا على رِعْلٍ، وذَكْوان، ودعا على مُضَر، قال: والأولى أن يقال: إن الله جعل لكل نبيّ دعوةً تُستجاب في حقّ أمته، فنالها كلٌّ منهم في الدنيا، وأما نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لَمّا دعا على بعض أمته نَزَل عليه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية [آل عمران: 128]، فبقيت تلك الدعوة المستجابة مُدَّخرةً للآخرة، وغالب مَن دعا عليهم لم يُرِدْ إهلاكهم، وإنما أراد رَدْعَهم ليتوبوا.

وأما جزمه أوّلًا بأن جميع أدعيتهم مستجابة، ففيه غفلة عن الحديث

ص: 383

الصحيح: "سألت الله ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة

" الحديث، ذكره في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[92/ 494 و 495 و 496 و 497](198) و [92/ 498 و 499 و 500](199)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6304) و"التوحيد"(7474)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3602)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4307)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 212)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20864)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 275 و 313 و 381 و 396 و 426 و 486)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 328)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 257)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6461)، و (ابن منده) في "الإيمان"(892 و 900 و 901 و 902 و 903 و 907 و 912 و 913)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(255 و 256 و 257 و 258 و 259 و 260 و 261)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(490 و 491 و 492 و 493 و 494 و 495)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 341 و 342)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1748)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1039 و 1040 و 1042 و 1045)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1235)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: فيه بيان فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه، وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضًا دعاءً عليهم بالهلاك، كما وقع لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(1)

"الفتح" 11/ 99 - 100 "كتاب الدعوات" رقم (6306).

ص: 384

2 -

(ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ: رحمه الله هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه؛ لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره؛ لأنه جعلها للمذنبين من أمته؛ لكونهم أحوج إليها من الطائعين. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم في مصالحهم، فجعل دعوته في أَهَمّ أوقات حاجتهم.

4 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فهي نائلة"، ففيه دليلٌ لأهل السنة أن مَن مات غير مشرك لا يُخَلَّد في النار، ولو مات مُصِرًّا على الكبائر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[495]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنا

(2)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَاب، عَنْ عَمِّه، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ أَبا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الَلهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، وَأَرَدْتُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوتي؛ شَفَاعَةً لِأمَّتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة المذكور قبل باب.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ، حافظٌ [11]، (ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 152)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 100 "كتاب الدعوات" رقم (6306).

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 385

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (إِنْ شَاءَ اللهُ) زيادة "إن شاء الله" في هذه الرواية على وجه التبرّك، والامتثال لقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23، 24]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[496]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا

(1)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا ابْنُ أَخِي ابنِ شِهَاب

(2)

، عَنْ عَمِّه، حَدَّثَني

(3)

عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيةَ الثَّقَفِيُّ، مِثْلَ ذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ

(4)

بْنِ جَارَيةَ

(5)

الثَّقَفِيُّ) المدنيّ، حليف بني زُهْرَة، وقد يُنسب إلى جدّه، ويقال: عُمَر، ثقةٌ [3].

رَوَى عن عمر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عمر.

ورَوَى عنه ابن أخيه عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، والزهريّ، والحجاج بن فُرَافِصة، وهشام بن سعد.

ذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده، وعند الباقين حديثه في بَعْث عشرة عَيْنًا.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "قال: أخبرني ابن أخي ابن شهاب".

(3)

وفي نسخة: "قال: حدّثني".

(4)

بفتح الهمزة.

(5)

بالجيم.

ص: 386

[تنبيه]: قوله: "جارية" بالجيم، و"أَسِيد" بفتح أوله، وكسر ثانيه، وقد بيّن الحافظ المزّيّ رحمه الله الاختلاف في تسميته على الزهريّ في ترجمته عن أبي هريرة في "تحفة الأشراف"، وحاصله أن البخاريّ وقع عنده من طريق شعيب، ومعمر: عمرٌو، ومن طريق إبراهيم بن سعد: عن ابن أبي أَسِيد بن جارية، فأبهمه، ونسبه لجده، ووقع لأحمد من طريق إبراهيم بن سعد: عُمَر بن أَسِيد، ولعل هذا هو السرّ في إبهامه، ووقع لأبي داود، من طريق إبراهيم: عَمرو بن جارية، فنسبه لجد أبيه، ووقع للنسائيّ من طريق شعيب: عُمَر بن أبي سفيان، وكذا وقع لمسلم من حديث آخر

(1)

. انتهى

(2)

.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

[تنبيه آخر]: رواية عمرو بن أبي سفيان التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية أبي سلمة لم أجد من أخرجها تامّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[497]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو

(3)

بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيةَ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا

(4)

، فَأَنَا أُرِيدُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوتي؛ شَفَاعَةً لِأمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَقَالَ كعْبٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ

(5)

هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حَرْملة بن عِمران التُّجيبيّ، أبو حفص

(1)

أي في بعض النسخ، وفي بعضها وقع "عَمْرو" كالأول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"تهذيب التهذيب" 3/ 274.

(3)

وفي نسخة: "عن عمرو بن أبي سفيان".

(4)

وفي نسخة: "يدعو بها".

(5)

وفي نسخة: "أأنت سمعت".

ص: 387

المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المذكور قبل حديثين.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(عَمْرَو

(1)

بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثقَفِيُّ) هو المذكور في السند الماضي إلا أن النسخ اختَلَفت فيه، فوقع في معظم النسخ عَمرو بفتح العين، وفي بعضها عُمر بضمّها، وهو الذي ذكره في "تهذيب التهذيب"، كما سبق في ترجمته في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ) هو: كعب بن ماتع - بالميم، والتاء المثنّاة من فوقُ، بعدها عين - الْحِمْيري، أبو إسحاق، ثقةٌ مخضرمٌ، من آل ذي رُعَين، وقيل: من ذي الْكَلاع، أدرك الجاهلية، وأسلم في أيام أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: في أيام عمر رضي الله عنه، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، ومات في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد زاد على المائة.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، وصُهيب، وعائشة، وعنه ابن امرأته تُبَيع الْحِمْيريّ، وأبو هريرة، وابن عباس، ومالك بن أبي عامر الأصبحيّ، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن رباح الأنصاريّ، وغيرهم.

وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال: كان على دين يهود، فأسلم، وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام، فسكن حمص، حتى توفي بها سنة ثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وفيها أرّخه غير واحد، وقال ابن حبان: مات سنة (4) وقيل: سنة (32) وقد بلغ مائة وأربع سنين.

وقال علي بن زيد بن جُدْعان، عن سعيد بن المسيب: قال العباس لكعب: ما منعك أن تُسلم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب: إن أبي كَتَبَ لي كتابًا من التوراة، ودفعه إليّ، وقال: اعمل بهذا، وخَتَمَ على سائر كتبه، وأخذ علي بحقّ الوالد على ولده ألّا

(1)

وفي نسخة: "عن عمرو بن أبي سفيان".

ص: 388

أَفُضَّ الخاتم، فلما كان الآن، ورأيت الإسلام يظهر، ولم أر بأسًا، قالت لي نفسي: لعل أباك غَيَّب عنك علمًا كتمك، فلو قرأته، ففضضتُ الخاتم، فقرأته، فوجدت فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فجئت الآن مسلمًا، فوالى العباس.

وقال محمد بن سعد: قالوا: وذكر أبو الدرداء كعبًا، فقال: إن عند ابن الحميرية لعلمًا كثيرًا، وقال الوليد بن مسلم، عن صخر بن جَندل، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، عن أبي فوزة حُدَير السُّلَميّ، قال: خرج بعثُ الصائفة، فاكتُتِب فيه كعب، أحسبه قال: فخرج البعث، وهو مريض، فقال: لأن أموت بحَرَسْتا أحبّ إليّ من أن أموت بدمشق، ولأن أموت بدُومة أحب إلي من أن أَموت بحرستا، هكذا قُدمًا في سبيل الله، قال: فمضى، فلما كان بِفَخ معلولًا، قلت: أخبرني، قال: شغلتني نفسي، حتى إذا كان بحمص تُوُفّي بها، فدفناه

هنالك بين زيتونات أرض حمص، ومضى البعث، فلم يَقْفُل حتى قُتل عثمان رضي الله عنه.

وقال معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير: قال معاوية: ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلمٌ كالثمار، وإن كنا فيه لَمُفَرِّطين.

وقال أسامة بن زيد الليثيّ، عن أبي مَعْن: لقي عبدُ الله بن سلام كعبَ الأحبار عند عمر، فقال: يا كعب، مَن أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما يُذهب العلم من قلوب العلماء بعد أن حَفِظوه وعقلوه؟ قال: يُذهبه الطَّمَع، وشَرَهُ النفس، وتطلب الحاجات إلى الناس، قال: صدقت.

وقال بَحِير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن كعب، قال: لأن أبكي من خشية الله أحب إليّ من أن أتصدق بوزني ذهبًا، وما من عينين بكتا من خشية الله في دار الدنيا، إلا كان حقًّا على الله أن يُضحكهما في الآخرة.

قال الواقديّ، والهيثم بن عديّ، وخليفة بن خياط، وعمرو بن عليّ، وغير واحد: مات سنة اثنتين وثلاثين، وقال إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو: حدثني شُريح بن عبيد أن كعبًا مات سنة أربع وثلاثين، وكذلك أبو

ص: 389

عبيد، وقال ابن حبان: مات سنة أربع، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقد بلغ مائة سنة وأربع سنين

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: وهو من فضلاء التابعين، وقد روى عنه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. انتهى

(2)

.

وليس له في البخاريّ رواية، وفي مسلم رواية لأبي هريرة عنه من طريق الأعمش، عن أبي صالح، وأخرج له أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجَهْ في "التفسير".

[تنبيه]: "كعب الأحبار" بفتح الهمزة: جمع حِبْر بفتح الحاء، وكسرها لغتان: أي كعب العلماء، كذا قاله ابن قُتيبة وغيره، وقال أبو عبيد: سُمّي كعب الأحبار؛ لكونه صاحب كتُب، و"الأحبار": حِبْر، وهو ما يُكتب به، وهو مكسور الحاء، وكان كعبٌ من علماء أهل الكتاب، ثم أسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[498]

(199) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّل كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتبَأْتُ دَعْوَتي شَفَاعَةً لِأمّتي يَوْمَ الْقِيَامَة، فَهِيَ نَائِلَةٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَنْ مَاتَ مِنْ أمَّتي، لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"تهذيب الكمال" 24/ 189 - 193.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 76.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 76.

ص: 390

2 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهَران الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمَة" 2/ 4.

وقوله: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ) أي مجابة، فالسين زائدة، يقال: أجاب واستجاب، قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: أنهم غوننر لهم دعوة في أممهم هم على يقين في إجابتها بما أعلمهم الله تعالى، ثم خيّرهم في تعيينها، وما عداها من دعواتهم يرجون إجابتها، وإلا فكم قد وقع لهم من الدعوات المجابة، وخُصوصًا نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فقد دعا لأمته بأن لا يُسَلّط عليهم عدوًّا من غيرهم، وأن لا يُهلكهم بسنة عامّة، فأعطيهما، وقد مُنِع أيضًا بعض ما دعا لهم به؛ إذ دعا أن لا يَجعل بأسهم بينهم، فَمُنِعها، وهذا يُحقِّق ما قلناه من أنهم في دعواتهم راجون الإجابة، بخلاف هذه الدعوة الواحدة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ) اسم فاعل من نال الشيءَ: إذا ظَفِرَ به، ودخول الاستثناء هنا كدخوله في قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} الآية [الفتح: 27]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، رواه مسلم.

وقوله: (مَنْ مَاتَ مِنْ أمّتِي، لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا")"من مات" في محل نصب على المفعولية لـ "نائلة"، و"لا يشرك بالله" في محل نصب على الحال، والتقدير: شفاعتي نائلة مَن مات حال كونه غير مشرك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد ان يؤخرها، ثم عَزَم، ففعل، ورجا وقوع ذلك، فأعلمه الله به، فجزم به، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[499]

(

) - (حَدَّثنا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، وَهُوَ ابْنُ

(1)

"المفهم" 1/ 453.

(2)

"الفتح" 11/ 99 "كتاب الدعوات" رقم (6304).

ص: 391

الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِي دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، يَدْعُو بِهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهُ، فَيُؤْتَاهَا، وَإِنِّي اخْتَبَاتُ دَعْوتِي؛ شَفَاعَةً لِأمَّتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قبل باب، وقتيبة تقدّم في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[500]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زِيادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، دَعَا بهَا فِي أُمَّتِه، فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - أَنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتي؛ شَفَاعَةً لِأمّتَي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقن، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْقُرَشيّ الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3].

رَوَى عن الفضل بن العباس، ومُحَيِّصة بن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وزُبيد بن الصَّلْت.

ورَوَى عنه ابنه الحارث، وخالد الحذاء، والحسين بن واقد المروزيّ،

ص: 392

وأيوب السختيانيّ، وإبراهيم بن طهمان، وهشام بن حسّان، ويونس بن عبيد، وشعبة، والربيع بن مسلم، والحمادان، وعثمان بن عبد الرحمن الجمحيّ، وغيرهم.

قال إبراهيم بن هانئ، عن أحمد: ثقةٌ، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه، فقال: من الثقات، وليس أحدٌ أروى عنه من حماد بن سلمة، ولا أحسن حديثًا، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: محله الصدق، هو أحبّ إلينا من محمد بن زياد الألهانيّ، وقال الآجريّ: أثنى عليه أبو داود، وقال الترمذيّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وكذا وثّقه ابن الجنيد، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[501]

(200) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَانَا، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَسَّانَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، يَعْنُونَ ابْنَ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، دَعَاهَا لِأمَّتِه، وَإِنِّي اخْئتاْتُ دَعْوَتي؛ شَفَاعَةً لِأمّتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و"أبو غسّان" اسمه مالك بن عبد الواحد.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخي المصنّف: محمد بن المثنّى، وابن بشار من المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.

[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله في" شرحه": قوله: "وحدثني أبو غسان

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 393

الْمِسْمعيّ، ومحمد بن المثنى، وابن بشار حدثانا، واللفظ لأبي غسان، قالوا: حدثنا معاذ، يعنون: ابن هشام": هذا اللفظ قد يَستدركه مَن لا معرفة له بتحقيق مسلم وإتقانه، وكمال وَرَعِه، وحِذْقه، وعرفانه، فيتوهم أن في الكلام طولًا، فيقول: كان ينبغي أن يحذف قوله: "حدَّثانا"، وهذه غَفْلة ممن يصير إليها، بل في كلام مسلم فائدةٌ لطيفةٌ، فإنه سمع هذا الحديث من لفظ أبي غسان، ولم يكن مع مسلم غيره، وسمعه من محمد بن المثنى وابن بشار، وكان معه غيره، وقد قدمنا في الفصول أن المستحب والمختار عند أهل الحديث أن مَن سَمِع وحده قال: "حدَّثني"، ومَن سَمِع مع غيره قال: "حدثنا"، فاحتاط مسلم، وعَمِل بهذا المستحب، فقال: حدثني أبو غسان، أي سمعت منه وحدي، ثم ابتدأ، فقال: ومحمدُ بن المثنى وابنُ بشار حدثانا، أي سمعت منهما مع غيري، فـ "محمدُ بن المثنى" مبتدأ، و"ابنُ بشّار" عطف عليه، و"حدَّثانا" الخبر، وليس هو معطوفًا على أبي غسان. والله تعالى أعلم.

وقوله: "قالوا: حدثنا معاذ"، يعني بـ "قالوا": محمدَ بنَ المثنى، وابنَ بشار، وأبا غسان. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث تقدّم في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فلا نطيل الكتاب بإعادته.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[92/ 501 و 502 و 503](200)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6305)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 134 و 219 و 208 و 276)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 248 و 261 و 262)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6196)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 342)، و) أبو عوانة) في "مسنده"(260 و 261)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(496 و 497 و 498 و 499)، و (ابن منده) في "الإيمان"(914 و 915 و 916 و 917 و 918)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب "(1037 و 1038 و 1043 و 1044)، والله

ص: 394

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[502]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خَلَف محمد السَّلَميّ مولاهم، أبو عبد الله البغداديّ الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن سفيان بن عيينة، وأبي خالد الأحمر، ومَعْن بن عيسى، ومحمد بن عبيد الطيالسي، ويحيى بن معين، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وموسى بن داود الضّبّيّ، وأبي سلمة الخزاعيّ، ويحيى بن يمان، ويحيى بن إسحاق، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون، وزكرياء الساجيّ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، والحسن بن سفيان، ومحمد بن إسحاق السراج، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، مات سنة سبع وثلاثين ومائتين، وقال موسى بن هارون: سنة (6)، وقال غيره: كان مولده سنة (170).

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا

(1)

.

2 -

(رَوْح) بن عبادة بن العلاء بن حسّان الْقَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضل، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية شعبة هذه التي أحالها المصنّف على رواية هشام

(1)

ونقل في "تهذيب التهذيب"(3/ 496) عن "الزهرة": أنه روى عنه مسلم (32) حديثًا، ويمكن أن يكون مع التكرار، والله تعالى أعلم.

ص: 395

الدستوائيّ، أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده" (1/ 87) فقال:

(260)

حدثنا الصَّغَانيّ، قال: ثنا رَوحُ بن عُبادة، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبيّ دَعْوَةً، قد دعا بها في أمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[

] (

) - (ح)(وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثنَا أَبُو أسَامَةَ، جَمِيعًا عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ قَالَ: قَالَ: "أُعْطِيَ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ) أبو إسحاق الطبريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظ [10](ت في حدود 250)(م 4) تقدم في "الإيمان" 16/ 172.

2 -

(أَبُو أُسَامَة) حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(مِسْعَر) - بكسر الميم - بن كِدَام - بكسر أوله، وتخفيف ثانيه - ابن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: قوله في الرواية الماضية: (عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبيّ دعوة

إلخ)، ثم ذَكَر مسلم هذا الطريق عن وكيع، وأبي أسامة، عن مسعر، عن قتادة، ثم قال: غير أن في حديث وكيع قال: قال: "أُعْطِيَ"، وحديث أبي أسامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال النوويّ رحمه الله: هذا من احتياط مسلم رحمه الله، ومعناه: أن رواياتهم اختَلَفت في كيفية لفظ أنس، ففي الرواية الأولى:"عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبيّ دعوة"، وفي رواية وكيع: "عن أنس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 396

أُعْطِي كلُّ نبيّ دعوة"، وفي رواية أبي أسامة: "عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبيّ دعوة". انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية مسعر التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا، أخرجها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" (1/ 274) فقال:

(498)

حدثنا إبراهيم بن أبي حصين، ثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، نا عمرو بن عبد الله الأَوْديّ، ثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة (ح)، وحدثثا أبو محمد بن حيّان، ثنا ابن معدان، ثنا إبراهيم الجوهريّ، ثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبيّ دعوةٌ يدعو بها في أمته، وإني جعلت دعوتي شفاعة لأمتي". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[503]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أنَسٍ، أَن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنّعانيّ القيسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن مروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زُريع، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وإسماعيل ابن علية، وأمية بن خالد، وخالد بن الحارث، وسلمة بن رجاء، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الرزاق، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، في "كتاب القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وهلال بن العلاء الرَّقِّيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم.

ص: 397

قال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقالى النسائيّ في "أسماء شيوخه": كتبنا عنه، وأثنى عليه خيرًا، وقال في موضع آخر: لا بأس به.

وقال ابن حبان في "الثقات": مات بالبصرة سنة خمس وأربعين ومائتين، وكذا قال البخاريّ، وزاد: بعد أحمد بن عَبْدة بقليل.

وله في هذا الكتاب (33) حديثًا

(1)

.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقَّب بالطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(أَبُوه) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالبصريين، وأنه من رباعيات المصنف، وهو (24) من رباعيات الكتاب.

[تنبيه آخر]: رواية سليمان بن طَرْخان هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية قتادة، أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6305)

وقال لي خليفة

(2)

: قال معتمر: سمعت أبي، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ نبي سأل سؤالًا"، أو قال:"لكل نبي دعوةٌ، قد دعا بها، فاستجيب، فجعلتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". انتهى.

وأخرجها الإمام ابن خزيمة رحمه الله بسند المصنّف رحمه الله في "كتاب التوحيد" برقم (506) فقال:

حدّثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، قال: حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ نبيّ قد سأل سؤالًا"، أو قال: "لكلّ نبيّ دعوةٌ قد دعا بها قومه

(3)

، فاستخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". انتهى،

(1)

هذا ما في برنامج الحديث (صخر)، ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": أنه رَوَى عنه مسلم خمسة وعشرين حديثًا، والظاهر أن ما في البرنامج هو الأقرب للصواب.

(2)

ليس هذا معلّقًا كما زعمه بعضهم، بل هو متّصل، كما صرّح به في "الفتح" 11/ 100، فتنبه.

(3)

قال ابن خزيمة رحمه الله: يريد بقوله: "قومه" إن كانت حُفظت هذه اللفظة: أي على قومه، أو لقومه. انتهى. 2/ 553.

ص: 398

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[504]

(201) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، قَدْ دَعَا بِهَا فِي أمَّتِه، وَخَبَأْتُ دَعْوَيي؛ شَفَاعَةً لِأمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما تقدّم قريبًا أيضًا.

والباقيان تقدّما في الحديث الماضي، وكذا شرح الحديث، وفوائده، تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[92/ 504](201)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 384 و 396)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 260 و 262 - 263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6460)، و (ابن منده) في "الإيمان"(919)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2237)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(257)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(500)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 399

(93) - (بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه، وَبُكَائِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[505]

(202) - (حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَا قَوْلَ اللهِ عز وجل فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآية [إبراهيم: 36]، وَقَالَ عِيسَى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْه، وَقَالَ:"اللَّهُمَّ أمَّتِي أمَّتِي"، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عز وجل: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَسَلْهُ

(1)

مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَسَأَلهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أمّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفيُّ) المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيّوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7](ت قديمًا قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ) - بفتح السين، وتخفيف الواو - بن ثُمامة الْجُذاميّ، أبو ثمامة المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [5]

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "فاسأله".

(2)

جعله في "التقريب" من الطبقة الثالثة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه لم يلق من =

ص: 400

رَوَى عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرحمن بن جُبير المصريّ، وسعيد بن المسيب، والزهريّ، وأبي فِرَاس مولى عمرو بن العاص، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

وروى عنه جعفر بن ربيعة، والليث، وابن لَهِيعة، وعمرو بن الحارث، وغيرهم.

قال عثمان بن سعيد، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء الله، تُوُفّي في خلافة هشام بن عبد الملك، وقال ابن يونس: تُوفّي بإفريقية، وقيل: بل غَرِقَ في بحار الأندلس سنة (128).

وذكره ابن حبّان في "الثقات" من التابعين، ثم أعاده في أتباعهم، فقال: يُخطئ، وقال ابن يونس: كان فقيهًا مفتيًا، وقال أبو العرب في "الطبقات": أرسله عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقهها، وقال النووي في "شرح المهذَّب": لم يَسمع من عبد الله بن عمرو بن العاص. انتهى.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (202)، وحديث (1725): "من آوى ضالّة، فهو ضالّ

"، و (2173): "إن الله قد برّأها من ذلك

"، و (2962): "إذا فُتحت عليكم فارس والروم

".

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ) المصريّ المؤذّن الفقيه الفَرَضيّ العامريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعُقبة بن عامر، وعمرو بن غَيْلان بن سلمة الثقفيّ، وأبي الدرداء، والمستورد الفِهْريّ، وعمن خَدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمرو بن العاص، وقيل: بينهما أبو قَيْس، وغيرهم.

وروى عنه كعب بن علقمة، وعمران بن أبي أنس، وبكر بن سَوَادة،

= الصحابة إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، مع أنه قيل: إنه لم يسمع منه، فهو إذن من طبقة الأعمش، ونحوه، فتأمله كانصاف، والله تعالى أعلم.

ص: 401

وعبد الله بن هُبيرة، وعقبة بن مسلم، ويزيد بن أبي حبيب، والحارث بن يعقوب، وآخرون.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن لَهِيعة: كان عالِمًا بالفرائض، وكان عبد الله بن عمرو به مُعْجَبًا، وقال ابن يونس: كان فقيهًا عالِمًا بالقراءة، شَهِدَ فتح مصر، ووَثَّقه يعقوبُ بن سفيان.

وقال ربيعة الأعرج: تُوُفّي سنة (97) وقال غيره: سنة ثمان وتسعين.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (202)، وحديث (384): "إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثل ما يقول

"، و (2173): "إن الله قد برّأها من ذلك

".

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرّة على الأصحّ بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله معظمهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين، من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بكر، عن عبد الرحمن.

5 -

(ومنها): أن بكر بن سوادة، وعبد الرحمن بن جبير هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد مرّ عدد مرويّهما فيه آنفًا.

6 -

(ومنها): أن عبد الرحمن بن جبير المصريّ هذا غير عبد الرحمن بن جُبير الحمصيّ، وهو أيضًا تابعيّ، إلا أنه من الطبقة الرابعة، وكلاهما في "صحيح مسلم"، ولا رواية لهما في "صحيح البخاريّ"، فتنبّه.

7 -

(ومنها): أن "الصَّدَفِيَ - بفتح الصاد والدال المهملتين، وبالفاء -: منسوب إلى الصَّدِف - بفتح الصاد، وكسر الدال -: قبيلة معروفة، قال أبو

ص: 402

سعيد بن يونس؛ دَعْوَتهم في الصَّدِف، وليس من أنفسهم، ولا من مواليهم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

8 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العبادلة الفقهاء الأربعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَا) أي قرأ، قال المجد رحمه الله: تلوت القرآن، أو كلّ كلام تلاوةً ككتابةٍ: قرأته. انتهى

(2)

. وقوله: "أو كلّ كلام" إشارة إلى الخلاف في التلاوة، فقد جزم الأكثرون بأنها خاصّة بالقرآن، وأصل التلاوة الاتّباع، قال الراغب: التلاوة تختصّ باتّباع كلام الله المنزّل بالقراءة تارةً، وأخرى بالارتباط لما فيه من أمر، ونهيٍ، وترغيب، وترهيبٍ، أو ما يُتوهّم فيه ذلك، وهي أخصّ من القراءة، فكلّ تلاوة قراءة، ولا عكس. انتهى

(3)

.

(قَوْلَ اللهِ عز وجل بنصب "قولَ" على المفعوليّة، وقوله: (فِي إِبْرَاهِيمَ) على حذف مضاف، أي في سورة إبراهيم، أو مقالة إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36]) الضمير للأصنام المذكورة في قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، ولَمّا أُسند إليها ما يُسند إلى العقلاء ذكرها بضمير العاقلات، فقال:{إِنَّهُنَّ} ، ونسبة الإضلال إليهنّ مجاز؛ لكونهنّ سببًا فيه، وإلا فالله سبحانه وتعالى هو الذي يُضلّ، ويهدي، كما قال الله عز وجل:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية [النحل: 93]{فَمَنْ تَبِعَنِي} أي فيما أدعو إليه من التوحيد ({فَإِنَّهُ مِنِّي}) الكلام على حذف مضاف: أي فمن تبعَ دعوتي، فإنه من أمّتي الناجين، وقيل: المعنى: فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، وقوله:({وَمَنْ عَصَانِي}) أي لم يتّبعني فيما جئتُ به عن ربّي، وقوله:({فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]) دليل جواب الشرط المحذوف، وهو علّة له، أي من

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 77 - 78.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1139.

(3)

"تاج العروس" 10/ 52.

ص: 403

عصاني فلا أدعو عليه؛ لأنك غفور رحيم، أي بأن تتوب عليه، فيتوب عن شركه؛ لأنه لا يغفر له مع شركه؛ لقوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]، وقيل: إن مغفرة الشرك كانت في الأمم القديمة، وإنما امتنعت في شرعنا.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل، وهو قول باطلٌ مخالف لنصّ كتاب الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وهو خبر لا يدخله النسخ، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَقَالَ عِيسَى عليه السلام هكذا هو في الأصول: "وقال عيسى"، قال القاضي عياض رحمه الله: قال بعضهم: قوله: "قال" هو اسم للقول، لا فعل، يقال: قال قولًا، وقالًا، وقِيلًا، كأنه قال: وتلا قولَ عيسى. انتهى

(1)

.

وحاصل ما أشار إليه أن "قال " ليس فعلًا ماضيًا، وإنما هو مصدر مضاف إلى "عيسى"، معطوفٌ على قوله:"قولَ الله"، فهو منصوب على المفعوليّة لـ"تلا"، والله تعالى أعلم.

وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} قيل: جواب الشرط محذوف، والتقدير: فإنهم يستحقّون ذلك؛ لأنهم عبادك، قد تركوا عبادتك، فعبدوا غيرك {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]) قال الزجّاج رحمه الله علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن، ومنهم من أقام على الكفر، فقال في جملتهم: إن تعذّبهم: أي إن تعذّب من كفر منهم، فإنهم عبادك الذين عَلِمتَهُم جاحدين لآياتك، مكذّبين لأنبيائك، وأنت العادل في ذلك، فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم، وإن تغفر لهم: أي لمن أقلع منهم، وآمن فذلك تفضّل منك، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك، أو عزيز قويّ قادر على الثواب، حكيم لا يُعاقب إلا عن حكمة وصواب. انتهى

(2)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختلف في تأويل هذه الآية، فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يُستَعطَف السيدُ لعبده، ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك، وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره،

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 881.

(2)

"تفسير النسفيّ" 1/ 310 - 311.

ص: 404

والاستجارة من عذابه، وهو يَعْلَم أنه لا يغفر لكافر، وقيل: الهاء والميم في {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} لمن مات منهم على الكفر، والهاء والميم في {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت، وهذا حسن.

وأما قول مَن قال: إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يُغْفَر له، فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تُنْسَخ.

وقيل: كان عند عيسى عليه السلام أنهم أحدثوا معاصي، وعَمِلوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عَمُود دينه، فقال:{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ما أحدثوا بعدي من المعاصي، وقال:{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصّة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه، ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه، وذلك مستحيل، فالتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا، وتعذبهم، فإنهم عبادك، وإن تَهْدِهم إلى توحيدك، وطاعتك، فتغفر لهم، فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تُضِلّ من تشاء، وتَهْدِي من تشاء.

وقد قرأ جماعة: فإنك أنت الغفور الرحيم، وليست من المصحف، ذكره القاضي عياض في "كتاب الشفا".

وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد طَعَن على القرآن مَن قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس بمشاكل لقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ؛ لأن الذي يُشاكل المغفرةَ، فإنك أنت الغفور الرحيم.

والجواب: أنه لا يَحْتَمِلُ إلا ما أنزله الله، ومتى نُقِل إلى الذي نقله إليه ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني، فلا يكون له بالشرط الأول تعلُّق، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتَمَع على قراءته المسلمون، مقرون بالشرطين كليهما، أولهما وآخرهما؛ إذ تلخيصه: إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما، من التعذيب والغفران، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان؛ لعمومه، فإنه يَجْمَع الشرطين، ولم يصلح الغفور الرحيم؛ إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم، وما شَهِدَ بتعظيم الله تعالى وعدله، والثناء عليه، في الآية كلها،

ص: 405

والشرطين المذكورين، أولى وأثبت معنًى في الآية، مما يَصْلُح لبعض الكلام دون بعض. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(فَرَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (يَدَيْه، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أمّتِي أمّتِي") أي ارحم أمتي، وكرّره للتأكيد (وَبَكَى) صلى الله عليه وسلم شفقةً عليهم (فَقَالَ اللهُ عز وجل: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ) جملة معترضة بين المعطوف، وهو "اذهب"، والمعطوف عليه، وهو قوله:(فَسَلْهُ) وفي نسخة: "فاسأله": (مَا يُبْكِيكَ؟)"ما" استفهاميّة، أيْ: أيُّ شيء يجعلك باكيًا؟ (فَأَتَاهُ) صلى الله عليه وسلم (جِبْرِيلُ عليه السلام، فَسَأَلهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ) أي بالشيء الذي قاله، وهو قوله:"أمتي أمتي") وَهُوَ أَعْلَمُ) قيل: في الكلام حذف، وأصله: فأخبره بما قال، فأخبر جبريل ربّه، وهو أعلم به (فَقَالَ اللهُ) سبحانه وتعالى (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم) فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ) بضم حرف المضارعة، من الإرضاء (فِي أمّتِكَ) أي بإدخالهم الجنّة، وهذا موافق لقول الله عز وجل:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5].

(وَلَا نَسُوءُكَ") أي لا نفعل ما تكرهه، قال المجد رحمه الله: ساءه سَوْءًا، وسَوَاءًا، وسَوَاءَةً، وسَوَايَةً، وسَوائيَةً، ومَسَاءَةً، ومَسَائِيَةً مقلوبًا، وأصله مَسَاوِئَةً، ومَسَايَةً، ومَسَاءً، ومَسَائِيَّةً: فَعَلَ به أو بمن يَعِزّ عليه ما يكرهه، فاستاء هو. انتهى بزيادة يسيرة

(2)

.

قال صاحب "التحرير": "لا نسوءك " تأكيد لمعنى "سنرضيك"، أي لا نَحْزُنُك؛ لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم، ويَدْخُل الباقي النار، فقال تعالى:"نُرضيك، ولا نُدخل عليك حُزْنًا، بل نُنْجِي الجميع"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 378 - 379 "تفسير سورة المائدة".

(2)

"القاموس المحيط" ص 42.

ص: 406

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[93/ 505](202)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(415)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(501)، و (ابن حبّان) في "مسنده"(7234 و 7235)، و (ابن منده) في "الإيمان"(924)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(13/ 229)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(2/ 341 - 342)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4337)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، فهو مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

2 -

(ومنها): كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

3 -

(ومنها): سعة شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم، وشمولها لجميع أمته، بل لجميع العالمين، كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].

4 -

(ومنها): استحباب رفع اليدين في الدعاء.

5 -

(ومنها): البشارة العظيمة لهذه الأمة - زادها الله تعالى شرفًا - بما وعدها الله تعالى بقوله: "سنُرضيك في أمتك، ولا نَسُوءك"، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، أو أرجاها.

6 -

(ومنها): بيان عظم منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظيم لطفه سبحانه صلى الله عليه وسلم

7 -

(ومنها): ما قيل: الحكمة في إرسال جبريل عليه السلام لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه بالمحلّ الأعلى، فَسَيُرْضَى، ويُكْرَمُ بما يرضيه، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 78 - 79.

ص: 407

وقال القرطبيّ رحمه الله: وأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه؛ ليعلم جبريل تمكّن نبيّنا صلى الله عليه وسلم في مقام الفتوّة

(1)

، وغاية اعتنائه بأمته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): ما قاله أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: معنى هاتين الآتين: أن كلّ واحد من إبراهيم وعيسى عليه السلام لم يَجزما في الدعاء لعُصاة أممهما، ولم يُجهدا أنفسهما في ذلك، ولم يكن عندهما من فرط الشفقة ما كان عند نبيّنا صلى الله عليه وسلم

(3)

، ألا ترى أنهما في الآيتين كأنهما تبرّءا من عصاة أممهما، ولَمّا فَهِمَ نبيّنا صلى الله عليه وسلم ذلك، انبعث بحكم ما يجده من شدّة شفقته ورأفته وكثرة حرصه على نجاة أمته، وبحكم ما وهبه الله تعالى من رِفْعَة مقامه على غيره جازمًا في الدعاء لأمته، مجتهدًا فيه لهم، متضرِّعًا، باكيًا، مُلِحًّا، يقول:"أمتي أمتي"، فِعْلَ المحبّ المستهتِر

(4)

بمحبوبه، الحريص على ما يُرضيه، الشفيق عليه، اللطيف به، ثم لم يزل كذلك حتى أجابه الله تعالى فيهم، وبشّره بما بشّره من مآل حالهم، حيث قال الله تعالى:"إنا سنُرضيك في أمتك"، وهو معنى قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5].

قال بعض العلماء: والله ما يَرضى محمد صلى الله عليه وسلم، وواحد من أمته في النار، وهذا كلّه يدلّ على أن الله تعالى خصّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم من كَرَم الْخُلُق، ومن طيب النفس، ومن مقام الْفُتُوّة بما لم يخُصّ به أحدًا غيره، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، صلّى الله عليه أفضل ما صلّى على أحد من خليقته، وجازاه عنّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(5)

.

(1)

"الْفُتُوَّةُ": الْكَرَمُ، قاله في "القاموس" ص 1188.

(2)

"المفهم" 1/ 455.

(3)

كان في الأصل: "ما كان ينبغي لهما"، وهي عبارة لا ينبغي أن تطلق على الأنبياء عليهم السلام، فأبدلتها، فتبصّر.

(4)

أي الْمُولَع.

(5)

"المفهم" 1/ 454 - 455.

ص: 408

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(94) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ فِي النَّار، وَلَا تنالُهُ شَفَاعَة، وَلَا تَنْفَعُهُ قَرَابَةٌ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[506]

(203) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "في النَّارِ"، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 235) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع 120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أنَس) بن مالك الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 409

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه أيضًا، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَيْنَ أَبِي؟) أي في أيّ مكان هو؟ أفي الجنّة، أم في النار؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فِي النَّارِ") متعلّق بمحذوف، خبر لمبتدأ مقدّر: أي هو كائن في النار (فَلَمَّا قَفَّى) وفي نسخة: "قال: فلما قَفَّى": أي أدبر الرجل، وولّى من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفًا، وقال ابن الأثير رحمه الله: أي ذهب مولِّيًا، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره. انتهى

(1)

. (دَعَاهُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ في النَّارِ") هذا من حسن عِشرته صلى الله عليه وسلم؛ للتسلية بالاشتراك في المصيبة.

قال القرطبيّ رحمه الله

(2)

: هذا جبر للرجل مما أصابه، وأحاله على التأسّي به، حتى تهون عليه مصيبته بأبيه، وذلك لَمّا حفظ الحرمة، ولم يقل: أين أبوك؟ بخلاف من قال ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"حيثما مررت بقبر مشرك، فبشّره بالنار"، وذلك فيما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يَصِلُ الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال:"في النار"، قال: فكأنه وَجَدَ من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حيثما مررت بقبر مشرك، فبشّره بالنار"، قال: فأسلم الأعرابي بعدُ، وقال: لقد كَلَّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تَعَبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"النهاية" 4/ 94.

(2)

راجع: "المفهم" 1/ 461.

(3)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" برقم (1573).

ص: 410

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[94/ 506](203)، و (أبو داود) في "السنة"(4718)، و (أحمد) في "مسنده"(19/ 13 و 268)، و (ابن منده) في "الإيمان"(926)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(578)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(289)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(502 و 503).

[تنبيه]: ورد في الباب حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أن أعرابيًّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال:"في النار"، قال: فأين أبوك؟ قال: "حيثما مررت بقبر كافر، فبشّره بالنار"، أخرجه البزّار (93)، والطبرانيّ في "الكبير"(326)، وزاد:"فأسلم الأعرابيّ، فقال: لقد كلّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعناء، ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار"، ورواه البيهقيّ في "دلائل النبوّة"(1/ 139 - 140)، وابن السنّيّ في "عمل اليوم والليلة"(588)، والضياء في "المختارة"(1/ 333)، وأورده الهيثميّ في "مجمع الزوائد" (1/ 117 - 118) وقال: رواه البزّار، والطبرانيّ في "الكبير"، ورجاله رجال الصحيح

(1)

.

وفي الباب أيضًا حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه: أن أباه الحصين أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا كان يَقري الضيف، وَيصِلُ الرحم مات قبلك؟ وهو أبوك، فقال:"إن أبي وأباك وأنت في النار"، فمات حُصين مشركًا، رواه الطبرانيّ في "الكبير"(18/ 548 و 549)، أورده الهيثميّ في "المجمع"(1/ 117)، وقال: رواه الطبرانيّ في "الكبير"، ورجاله رجال الصحيح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الصحيح أن حصينًا والد عمران أسلم، وقد أشبع الكلام في إسلامه في "الإصابة"

(2)

، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

تقدّم أنه حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" من حديث ابن عمر رضي الله عنه برقم (1573).

(2)

دونك نصّ "الإصابة"(2/ 76 - 77): (1737) حُصَين بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، =

ص: 411

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والد عمران، اختُلِف في إسلامه، فروى أحمد، والنسائيّ بإسناد صحيح، عن رِبْعِيّ، عن عمران بن حُصين أن حُصينًا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُسْلِم

الحديث، وفيه: ثم إن حُصينًا أسلم.

ورواه النسائي من وجه آخر، عن رِبْعيّ، عن عمران بن حُصين، عن أبيه، أنه أَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد كان عبد المطلب خيرًا لقومك منك

الحديث، وفيه: فلما أراد أن ينصرف قال: ما أقول؟ قال: "قل: اللهم قني شَرَّ نفسي، واعْزِم لي على أرشد أمري"، فانطَلَق، ولم يكن أسلم، ثم أسلم، فقال: يا رسول الله، فما أقول الآن حين أسلمت؟ قال:"قل: اللهم قني شر نفسي، واعزم لي أرشدَ أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما أخطأت، وما عَمَدت، وما عَلِمت، وما جَهِلتُ"، وفي رواية للنسائيّ: فما أقول الآن، وأنا مسلم؛ وسنده صحيح من الطريقين.

ورَوَى ابن السكن، والطبرانيّ من طريق داود بن أبي هند، عن العباس بن ذَرِيح، عن عمران بن حصين، قال: أتى أبي حُصَين بن عُبيد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ، أرأيت رجلًا كان يَصِلُ الرحم، وَيَقْرِي الضيف، ويصنع كذا وكذا، لم يدركك، هل ينفعه ذلك؟ فقال: "لا

" الحديث، وفيه قال: فما مضت عشرون ليلةً حتى مات مشركًا.

قال الطبرانيّ: الصحيح أن حُصَينًا أسلم.

وقال ابن خزيمة: حدثنا رَجاء الْعُذريّ، حدثنا عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حُصين، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده: أن قريشًا جاءت إلى الحصين، وكانت تُعَظِّمه، فقالوا له: كَلِّم لنا هذا الرجل، فإنه يَذْكُر آلهتنا، وَيَسُبُّهُم، فجاءوا معه حتى جَلَسوا قريبًا، من باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أوسعوا للشيخ"، وعمران وأصحابه متوافرون، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك، إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حُصَين خيرًا، فقال:"يا حصين إن أبي وأباك في النار، يا حصين كم تعبد من إله؟ " قال: سبعًا في الأرض، وواحدًا في السماء، قال:"فإذا أصابك الضرّ من تدعو؟ " قال: الذي في السماء، قال:"فإذا هلك المال مَن تدعو؟ " قال: الذي في السماء، قال:"فيستجيب لك وحده، وتُشركهم معه، أرضيته في الشكر، أم تخاف أن يَغْلب عليك؟ " قال: ولا واحدة من هاتين، قال: وعلمتُ أني لم أكلم مثله، قال:"يا حصين أَسْلِم تَسْلَم" قال: إن لي قومًا وعشيرةً، فماذا أقول؟ قال:"قل: اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وزدني علمًا ينفعني"، فقالها حصين، فلم يَقُم حتى أسلم، فقام إليه عمران، فقبَّل=

ص: 412

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن من مات على الكفر، فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين.

2 -

(ومنها): أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذةً قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم ونجيره من الأنبياء - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم -.

3 -

(ومنها): أن فيه بيان ما كان في النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن العشرة، والخلق الكريم، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]؛ لأنه لما رأى الرجل عَظُمت عليه المصيبة، أراد أن يُهَوّن عليه، ويُخفّف عنه، فأخبره بأن مصيبته كمصيبته، فعليه أن يتأسّى به.

4 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن حبّان رحمه الله: فيه استحباب استمالة قلب أخيه المسلم بما لا يَحْظُرُ الكتاب والسنّة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: إن تعجب، فعجبٌ بعد ثبوت هذه الأحاديث الصحاح محاولة بعض العلماء المتأخّرين، كالسيوطيّ في ادّعاء نجاة أبوي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وردّ هذه الأحاديث الصحيحة بضرب من التأويل المتعسّف به، والاستدلال على ادّعائهم بالحكايات الواهية، وغيرها من الأساطير التي لا ينبني عليها شرعنا الشريف، بل هي مصادمة للنصوص الصحيحة، كقوله:

= رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم بَكَى، وقال:"بكيت من صنيع عمران، دخل حُصين، وهو كافر، فلم يَقُم إليه عمران، ولم يتلفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه، فدخلني من ذلك الرقَّة"، فلما أراد حصين أن يخرج، قال لأصحابه:"قوموا، فشيِّعُوه إلى منزله"، فلما خرج من سُدَّة الباب رأته قريشٌ، فقالوا: صبأ، وتفرقوا عنه. انتهى. "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 76 - 77.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذه الروايات أن الصحيح - كما قال الطبراني -: أن حصينًا أسلم، والله تعالى أعلم.

(1)

ترجم عليه، فقال:"ذكرُ الاستحباب للمرء استمالة قلب أخيه المسلم بما لا يحظره الكتاب والسنة". راجع: "صحيح ابن حبّان" 2/ 340 رقم (578).

ص: 413

حَبَا اللهُ النَّبِيَّ مَزِيدَ فَضْلٍ

عَلَى فَضْلٍ وَكَانَ بِهِ رَؤُوفَا

فَأَحْيَا أُمَّهُ وَكَذَا أَبَاهُ

لإِيمَانٍ بِهِ فَضْلًا لَطِيفَا

فَسَلِّمْ فَالْقَدِيمُ بِذَا قَدِيرٌ

وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بِهِ ضَعِيفَا

وقد ألّف السيوطيّ في ذلك رسالة سمّاها "مسالك الحنفا في والدي المصطفى"، وحشد فيه الأحاديث الضعيفة، والأخبار الواهية، وحاول في رد الأحاديث الصحيحة، كأحاديث هذا الباب، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي"، رواه مسلم، وفي رواية أحمد، وأبي داود: زار النبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وبكى من حوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي

" الحديث، فعارض هذه الأحاديث الصحيحة بتلك الأخبار الواهية، بل ادّعى أن صلى الله عليه وسلم من آدم إلى والده كلّهم على التوحيد، وكلّهم ناجون.

ومن أغرب ما تراه وتسمعه في ذلك الكتاب، محاولته في حمل قصّة والد إبراهيم عليه السلام الذي جاء في عدّة اَيات من الكتاب العزيز بأنه أبوه، على أنه عمّه، وليس أباه، وهذا من أعجب العجاب.

وبالجملة فذلك الكتاب فيه عجائب وغرائب من صرف النصوص الصحيحة الصريحة إلى غير ما دلّت عليه بتأويلات سخيفة، ومعارضتها بالروايات الضعيفة التي اعترف السيوطيّ نفسه بأنها ضعيفة.

ولقد أجاد شُرّاح هذا الكتاب، كالقاضي عياض، والقرطبيّ، والنوويّ رحمهم الله تعالى، حيث لم يتعرّضوا لهذه التأويلات السخيفة، سوى الأبيّ، فإنه قد حاد عن الجادّة، ولذا اعتمد عليه السيوطيّ في رسالته، وأعرض عما ذهب إليه هؤلاء، وصرّحوا به، فقالوا: في هذا الحديث أن من مات على الكفر، فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقرّبين، وأن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، فهو في النار.

وهذا هو الحقّ الذي لا مرية فيه، وأما ما عداه فمن الغلوّ الذي يَحمِل على الانحراف عن الجادّة بصرف النصوص عن ظواهرها، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، وقل:

ص: 414

اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت؛ إنك تقضي، ولا يُقضى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من واليت، لا يَعِزُّ مَن عاديتَ، تباركتَ ربَّنا وتعاليت، آمين اَمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(95)(بَابٌ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214])

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[507]

(204) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا

(1)

أُنزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ، وَخَصَّ، فَقَالَ:"يَا بَنِي كعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أنقِذُوا أنفسَكمْ مِنَ النّار، يَا بَني مرَّة بنِ كعْبٍ، أَنْقِذُوا أنفُسَكُمْ مِنَ النّار، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أنقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أنقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي هَاشِم، أَنْقِذُوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّار، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا").

(1)

وفي نسخة: "فلما".

ص: 415

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) بن سُوَيد اللَّخْميّ، حَلِيف بني عديّ الكوفيّ الْفَرَسيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

2 -

(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عُبيد الله التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 103)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه، والصحابيّ، كما تقدّم قريبًا.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه وسيأتي أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال في "الفتح": هذا يعتبر من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيليّ؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصّة وقعت بمكّة، وابن عبّاس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلًا، ويؤيّد الثاني نداء فاطمة، فإنه يُشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تُخاطَب بالأحكام.

ويحتمل أن تكون هذه القصة وقعت مرّتين، لكن الأصل عدم تكرار النزول، وقد صرّح في هذه الرواية بأن ذلك وقع حين نزلت.

نعم وقع عند الطبرانيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم، ونساءه، وأهله، فقال:"يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسْعَوْا في فَكَاك رقابكم، يا عائشةُ بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة"، فذكر حديثًا طويلًا، فهذا إن ثبتٌ دلّ على تعدّد القصّة؛ لأن القصّة الأولى وقعت بمكة؛ لتصريحه في حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه صَعِد الصفا، ولم تكن عائشة،

ص: 416

وحفصة، وأم سلمة عنده، ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكودن متأخّرةً عن الأولى، فيمكن أن يحضرها أبو هريرة، وابن عبّاس رضي الله عنهم أيضًا، ويُحمل قوله: "لَمّا نزلت

جَمَعَ": أي بعد ذلك، لا أن الجمع وقع على الفور، ولعلّه كان نزل أوّلًا: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}، فجَمَع قريشًا، فعمّ، وخصّ، كما سيأتي، ثم نزل ثانيًا: "ورهطك منهم المخلصين"، فخصّ بذلك بني هاشم، ونساءه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ: لَمَّا

(2)

أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} ، زاد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي من طريق عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عنه:"ورهطك منهم المخلصين"، وهذه الزيادة وصلها الطبريّ من وجه آخر عن عمرو بن مرّة أنه كان يقرؤها كذلك، قال القرطبيّ رحمه الله: لعل هذه الزيادة كانت قرآنًا، فنُسخت تلاوتها.

ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفّار، والْمُخْلِص صفة المؤمن.

والجواب عن ذلك أنه لا يمتنع عطف الخاصّ على العامّ، فقوله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} عامّ فيمن آمن منهم، ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه الرهط المخلصين، تنويهًا بهم، وتأكيدًا.

ومعنى {عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} : أي ذوي القرابة القريبة، و"العشيرة": رهط الرجل الأَدْنوْن، أو هم أهل الرجل الذين يتكثّر بهم: أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وهو العشرة.

(دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا) بصيغة التصغير، هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ، وقيل: قريش، هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، نقله السُّهَيليّ وغيره، وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفية السيرة"، حيث قال:

أَمَّا قُرَيشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ

جَمَّاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ

ويُنسب إلى قُريش بحذف الياء، فيقال: قُرَشيّ، وربّما نُسب إليه في

(1)

"فتح" 9/ 4500 - 4501 "تفسير سورة الشعراء".

(2)

وفي نسخة: "فلما".

ص: 417

الشعر من غير تغيير، فيقال: قُريشيّ، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى.

وقال في "الفتح": نداؤه صلى الله عليه وسلم قبائل قريش قبل عشيرته الأدنين؛ ليُكرّر إنذار عشيرته، ولدخول قريش كلّها في أقاربه، ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع، وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى. انتهى

(1)

.

(فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ) أي عمّهم بالإنذار، يقال: عمّهم بكذا: أي شَمِلَهم (وَخَصَّ) أي خَصّ من كان أهلًا لذلك بالخطاب والنداء.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم عمّ قريشًا بالدعوة وشملها، فقال: يا معشر قريش، وخصّ بعض بُطونها، فقال: يا بني كعب

إلخ، فالفاء في قوله:"فعمّ" للتفصيل، مثلها قوله: "توضّأ، فغسل وجهه

إلخ".

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عديّ، لبطون قريش"، ووقع عند البلاذريّ من وجه آخر عن ابن عباس أبين من هذا، ولفظه:"فقال: يا بني فهر، فاجتمعوا، ثم قال: يا بني غالب، فرجع بنو مُحارب، والحارث ابنا فهر، فقال: يا بني لؤيّ، فرجع بنو الأدرم بن غالب، فقال: يا آل كعب، فرجع بنو عديّ، وسَهْم، وجُمَح، فقال: يا آل كلاب، فرجع بنو مخزوم، وتيم، فقال: يا آل قُصيّ، فرجع بنو زُهْرة، فقال: يا آل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار، وعبد العزّى، فقال له أبو لهب: هؤلاء بنو عبد مناف عندك"، وعند الواقديّ أنه قصر الدعوة علي بني هاشم والمطّلب، وهم يومئذ خمسة وأربعون رجلًا، وفي حديث عليّ رضي الله عنه عند ابن إسحاق، والطبريّ، والبيهقيّ في "الدلائل" أنهم كانوا حينئذ أربعين، يزيدون رجلًا، أو ينقصون، وفيه عمومته: أبو طالب، وحمزة، والعبّاس، وأبو لهب. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عنه أنهم يومئذ أربعون غير رجل، أو أربعون ورجل، وفي حديث عليّ رضي الله عنه من الزيادة: صَنَعَ لهم شاةً على ثريد، وقَعْب لَبَن، وأن الجميع أكلوا من ذلك، وشَرِبوا، وفَضَلَت فَضْلَة، وقد كان الواحد منهم يأتي على جميع ذلك. قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 6/ 637 "كتاب المناقب" رقم (3527).

(2)

"الفتح" 8/ 361 "كتاب التفسير" رقم (4770).

ص: 418

ثم بيّن معنى قوله: "فعمَّ وخصَّ" بقوله: (فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ) بضم اللام، وفتح الهمزة، وقد تُبدل واوًا، فتحتيّةً مشدَّدةً، وقال صاحب "المطالع":"لُؤَيّ " يُهْمَز، ولا يهمز، والهمز أكثر. انتهى

(1)

، وهو ابن غالب بن فهر (أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ) أمر من الإنقاذ رباعيًّا: أي خلّصوها من النار بترك أسبابها، والاشتغال بأسباب الجنّة.

وفي الرواية الآتية: "اشتروا أنفسكم من الله": أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تَسلَموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة، وأما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [التوبة: 111]، فهناك المؤمن بائع، باعتبار تحصيل الثواب، والثمن الجنّة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلّها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حقّ طاعته في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وفّى ما عليه من الثمن، وبالله تعالى التوفيق.

(يَا بَنِي مُرَّةَ) بضم الميم، وتشديد الراء (بنِ كعْبٍ، أَنْقِذُوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أنقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَني هَاشِم، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّار، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في الأصول: "فاطمة"، وفي بعضها، أو أكثرها:"يا فاطم" بحذف الهاء على الترخيم، كما قال في "الخلاصة":

تَرْخِيمًا احْذِفْ آخِرَ الْمُنَادَى

كـ"يَا سُعَا" فِيمَنْ دَعَا "سُعَادَا"

وعلى هذا فيجوز ضمّ الميم، وفتحها، ويسمّى الأول لغة من ينتظر، والثاني لغة من لا ينتظر، وإليه أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَإِنْ نَوَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ مَا حُذِفْ

فَالْبَاقِيَ اسْتَعْمِلْ بِمَا فِيهِ أُلِفْ

وَاجْعَلْهُ إِنْ لَمْ تَنْوِ مَحْذُوفًا كَمَا

لَوْ كَانَ بِالآخِرِ وَضْعًا تُمِّمَا

فَقُلْ عَلَى الأَوَّلِ فِي "ثَمُودَ""يَا

ثَمُو"و"يَا ثَمِي" عَلَى الثَّانِي بِيَا

وإنما ختم بفاطمة رضي الله عنها؛ لأنها خلاصة قومها، ثم عمّ في تبرّي إنقاذه

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 78.

ص: 419

إياهم من النار بغير الإيمان، والعمل الصالح بقوله:(فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ) أي لجميعكم، عامّكم وخاصّكم (مِنَ اللهِ شَيْئًا) أي من رحمته، أو دفع عذابه، أو غير ذلك.

وقال النووي: معناه: لا تتكلوا على قرابتي، فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم. انتهى

(1)

.

وقال القاريّ رحمه الله: المعنى: أني لا أقدر أن أدفع عنكم من عذاب الله شيئًا إن أراد الله أن يعذّبكم، وهو مقتبس من قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} الآية [الفتح: 11]، بل قال الله تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [الأعراف: 188].

[فإن قلت]: هذا يعارض ما تقدّم من ثبوت الشفاعة له صلى الله عليه وسلم.

[أجيب]: أن ثبوتها لا يوجب أنه يملك شيئًا، ولا سيّما وهو محتاج فيها إلى الإذن من الله تعالى، فقد أحكم الله تعالى شأنها، وجعل أمرها إليه وحده لا شريك، فقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} الآية [الزمر: 44].

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم، وإن كان ينفع المؤمنين بشفاعته، غير أن ذلك ليس بكونه مالكًا لها، وإنما هو بطلب من الله تعالى، واستئذان عليه، ثم يقول الله تعالى له:"سل تُعطه، واشفع تُشَفَّع"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَن لَكُمْ رَحِمًا) استثناء منقطع (سَأَبُلَّهَا) بضم الباء الموحّدة، مِن بلّ الرحم، من باب نصر: إذا وصلها: أي سأصلها في الدنيا، ولا أغني من الله شيئًا، كذا في "النهاية". وقال السنديّ: أو بالشفاعة في الآخرة، أي إن آمنتم، لكن الوصل المشهور هو وصل الدنيا، لا وصل الآخرة، واستُعير الْبَلُّ لوصل الرحم؛ لأن بعض الأشياء تتصل بالنداوة، وتتفرّق باليبس، فاستُعير البلّ للوصل، واليبس للقطيعة.

وقال الطيبيّ: رحمه الله تُطْلِق العرب النداوة على الصلة كما تُطْلِق اليبس على القطيعة؛ لأنهم لَمّا رأوا بعض الأشياء يتّصل بالنداوة، ويَحصُل بينهما

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

ص: 420

التجافي، والتفرّق باليبس استعاروا البلل بمعنى الوصل، واليبس بمعنى القطيعة.

والمعنى: أصلكم في الدنيا، ولا أُغني عنكم من الله شيئًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِبِلَالِهَا) قال في "القاموس": بِلالٌ ككتاب: الماء، ويُثلّث، وكلّ ما يُبلّ به الحلقُ، وفي "المجمع": البِلالُ بكسر الباء، ويُروى بفتحها، قيل: شَبَّهَ القطيعةَ بالحرارة، تُطفأ بالماء، وفي "النهاية": البِلال جمع بَلَل، وقيل: هو كلّ ما بَلّ الحلق من ماء، أو لبن، أو غيره

(2)

. انتهى.

وقال النوويّ: ضبطناه بفتح الباء الثانية، وكسرها، وهما وجهان مشهوران، ذكرهما جماعات من العلماء، قال القاضي عياض: رويناه بكسر الباء، قال أبو عمرو: يقال: بَلَلتُ رحمي بَلًّا، وبِلالًا، وبَلَلًا، قال الأصمعيّ: أي وَصَلْتُها، ونَدّيتها بالصلة، وإنما شُبّهت قطيعة الرحم بالحرارة تُطفأ بالْبَرْد، كما يقال: سقيته شَرْبةً بَرّدت عَطَشه، قال: ورأيت للخطّابيّ أنه "ببَلالها" بالفتح، كالْمَلال، وقال الهرويّ: الْبِلال جمعُ بَلَل، كجَمَل وجِمَال، وقيل: معنى هذا ما ورد في مثله من قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. انتهى

(3)

.

وقال صاحب "المطالع": رويناه بكسر الباء، وفتحها، مِن بلّه يبُلّه، والبِلال: الماء.

ومعنى الحديث: سأصلها، شُبّهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه:"بُلُّوا أرحامكم" أي صلوها. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: هذه الرواية تردّ زعم من يزعُم أن المصنّف يذكر في أول الباب أقوى الروايات فإن الرواية الرابعة أقوى من هذه بكئير، فإن هذه من رواية عبد الملك بن عمير، وهو متكلّم فيه، بل ضعّفه بعضهم، والظاهر أن المصنّف رحمه الله قدّمها لأجل هذه الزيادة، والله تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3298.

(2)

"النهاية" 1/ 153.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 882 - 883.

(4)

راجع: "شرح النوويّ" 2/ 80.

ص: 421

[تنبيه آخر]: قوله: "غير أن لكم رَحِمًا

إلخ"، هذه الزيادة محلّ نظر؛ لأنها من رواية عبد الملك بن عمير، وهو وإن وثّقه بعضهم، إلا أنه ضعّفه أحمد جدًّا، وقال ابن معين: مُخَلّط، وقال أبو حاتم: لم يوصف بالحفظ

(1)

، وقد خالفه معاوية بن إسحاق، فأرسله، فقد رواه النسائيّ من طريقه، عن موسى بن طلحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

، ولم يذكر أبا هريرة رضي الله عنه، وقد روى الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه الثقات، كما يأتي بعد حديثين من رواية ابن المسيّب، وأبي سلمة، كليهما عن أبي هريرة، وليست فيه هذه الزيادة.

والحاصل أن المصنّف صحح هذه الزيادة، مع ما ذُكر من العلة، وكذا قال الترمذيّ: حديث حسنٌ غريب من هذه الوجه فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من طريق موسى بن طلحة، عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[95/ 507 و 508](204)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3185)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(3617)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 333 و 369 و 361 و 519)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(646)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(269 و 270)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(504)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائد حديث الباب

(2)

:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، وامتثال النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر، فبلّغ عشيرته، وأنذرهم.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 620 - 621.

(2)

فيه إشارة إلى أن هذه الفوائد ليست خاصّة بهذه الرواية فقط، وإنما هي لجميع الروايات في الباب، فتنبّه.

ص: 422

2 -

(ومنها): استحباب القيام على شيء عال، أو مرتفع من الأرض؛ لإبلاغ الدعوة إذا كثُر العدد، كما فعل صلى الله عليه وسلم، حيث صَعِد على الصفا؛ لأن فيه انتشارَ الصوت مع تمكّن السامعين من مشاهدة المتكلّم، وذلك مما يساعد على استقرار الكلام في النفوس.

3 -

(ومنها): بيان أن الأقرب للرجل من كان يَجمعه هو وجدٌّ أعلى، وكلُّ من اجتمع معه في جدّ دون ذلك كان أقرب إليه.

4 -

(ومنها): مشروعيّة الْهِتَاف بـ "يا صباحاه" ونحوها مما اعتاده الناس لجمعهم، وقد ورد عند الطبريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ أصابعه في أذنه، ورفع صوته.

5 -

(ومنها): وُضوح بيانه صلى الله عليه وسلم، وقوّة حجته؛ إذ أخذ إقرارهم أوّلًا على صدقه في مهامّ أمورهم، وأخطرها قبل أن يُخبرهم، ويُنذرهم، فقال لهم:"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرُج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ ".

6 -

(ومنها): بيان صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قومه، بل على أذى من هو أقرب الناس إليه، وهو عمه، حيث قال له أبو لهب:"تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟ " بل رُوي: أنه أخذ بيديه حجرًا؛ ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قوله: "تَبًّا لك".

7 -

(ومنها): أن السرّ في تخصيص عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربين بالإنذار مع عموم رسالته، دفعُ توهّم المحاباة، وأن الاهتمام بشأنهم أهمّ، وأن البداءة تكون بمن يلي، ثم بمن بعده، وهكذا.

وقال في "الفتح": والسرّ في الأمر بإنذار الأقربين أوّلًا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدّت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علّة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب، من العطف، والرأفة، فَيُحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نصّ له على إنذارهم.

8 -

(منها): أن إفراده صلى الله عليه وسلم فاطمة، وصفيّة، وعبّاسًا رضي الله عنهم في الروايات الآتية؛ لشدّة قرابتهم، وشدّة صلته بهم من بين قراباته، وفاطمة رضي الله عنها كانت أصغر أولاده صلى الله عليه وسلم، وللصغير زيادة محبّة، فإذا انتفى نفعه لمن يُحب من أقاربه، ومن يَحرص على نفعه انتفى عن غيره من باب أولى.

9 -

(ومنها): ما استنبطه الإمام النسائيّ رحمه الله، وترجمه عليه، فقال:

ص: 423

"بابٌ إذا أوصى لعشيرته الأقربين"، وبيان ذلك أنه إذا أوصى لأقارب فلان، يعمّ القبيلة كلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا قيل له:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} عمّم قبيلته كلّها.

10 -

(ومنها): أنه استدلّ بعض المالكيّة بقوله: "يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنكِ من الله شيئًا"، أن النيابة لا تدخل في أعمال البرّ، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمّل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلّصها، فإذا كان عمله لا ينفع نيابةً عن ابنته، فغيره أولى بالمنع.

وتُعُقّب بأن هذا كان قبل أن يُعلمه الله صلى الله عليه وسلم بأنه يَشفَع فيمن أراد، وتُقبل شفاعته، حتى يُدخل قومًا بغير حساب، ويَرفَع درجات قوم، ويُخرِج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير.

أو أنه أراد المبالغة في الحضّ على العمل، ويكون في قوله:"لا أغني شيئًا" إضمار إلا إن أذن الله لي بالشفاعة. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا التعقّب نظرٌ لا يخفى؛ لأن الشفاعة المذكورة ليست ملكًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك احتاج إلى الاستئذان فيها، وهي محدودة فيمن يأمره الله تعالى بأن يشفع فيهم، لا في جميع أمته، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم:"فيحُدّ لي حدًّا، فأخرجهم من النار، فأُدخلهم الجنة".

والحاصل أن شفاعته صلى الله عليه وسلم ثابتة دون شكّ، إلا أنها ملك لله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، فتبيّن أن قوله صلى الله عليه وسلم هنا:"لا أملك لكم من الله شيئًا" على ظاهره، ففيه الحثّ على التمسّك بأسباب الشفاعة حتى يدخلوا في شفاعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا تكون إلا لمن رضي الله عنه، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

11 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: قد استُدِل بالحديث وبسورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، على جواز تكنية الكافر، وقد اختَلَف العلماء في ذلك، واختلفت الرواية عن مالك في جواز تكنية الكافر بالجواز والكراهة، وقال بعضهم: إنما يجوز من ذلك ما كان على جهة التألف، وإلا فلا؛ إذ في

(1)

"فتح" 9/ 451 "تفسير سورة الشعراء".

ص: 424

التكنية تعظيم وتكبير، وأما تكنية الله تعالى لأبي لهب، فليست من هذا، ولا حجة فيه؛ لأن ترك اسمه لقبحه؛ إذْ كان اسمه عبد العزى، وهذه تسمية باطلة، فلهذا كُنِي عنه، وقيل: لأنه إنما كان يُعْرَف بها، وقيل: إن أبا لهب لَقَبٌ، وليس بكنية، وكنيته أبو عُتْبَة، وقيل: إنما ذُكر بكنيته؛ للإشارة إلى ما يؤول إليه أمره من لَهَب جهنّم، وذهب بعضهم إلى أن الكنية لا تدلّ بمجرّدها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[508]

(

) - (وَحَدَّثنَا

(1)

عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَحَدِيثُ جَرِيرٍ أتمُّ وَأَشْبَعُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وعبد الملك سبق في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي الإسناد الماضي، وهو عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (وَحَدِيثُ جَرِيرٍ أتمُّ وَأَشْبَعُ) يعني أن متن حديث جرير بن عبد الحميد الماضي أتمّ، وأشبع من متن حديث أبي عوانة.

[تنبيه]: رواية أبي عوانة هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية جرير، أخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 88)، فقال:

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 425

(268)

حدثنا محمد بن يحيى، وإبراهيم بن مرزوق، وأبو أمية، قالوا: ثنا أبو الوليد (ح)، وحدثنا الزعفرانيّ، قال: ثنا عَفّان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عُمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لَمّا نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى:"يا بَنِي كعب بن لُؤَيّ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رَحِمًا سَأَبُلُّها ببلالها"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[509]

(205) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ:"يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِب، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، سَلُوني مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفي الحافظ تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفي الحافظ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ) بن واصل الشيبانيّ، أبو بكر، ويقال: أبو بُكَير الْجَمّال الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [9].

رَوَى عن خالد بن دينار السَّعْديّ، وخالد بن دينار النِّيليّ، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وأسباط بن نصر، وهشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، وعمر بن ذَرّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبد الله، ويحيى بن معين، وسعيد بن سليمان، وأبو

ص: 426

خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وعبيد بن يعيش، وأبو كريب، وغيرهم.

قال مضر بن محمد، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: كان صدوقًا، وقال عثمان بن سعيد، عن ابن معين: ثقةٌ، قال عثمان: يخالف في يونس، وقال عثمان أيضًا: لا بأس به، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: كان ثقةً صدوقًا، إلا أنه كان مع جعفر بن يحيى، وكان موسرًا، فقال له رجل: إنهم يرمونه بالزندقة، فقال: كَذبَ، ثم قال يحيى: رأيت ابني أبي شيبة أتياه، فأقصاهما، وسألاه كتابًا، فلم يُعطهما، فذهبا يتكلمان فيه، قال يحيى بن معين: قد كتبت عنه، وقال أبو خيثمة: قد كتبت عنه، وقال العجليّ: بَكْر بن يونس بن بُكير لا بأس به، كان أبوه على مظالم جعفر، وبعض الناس يضعّفونهما، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة، أيُّ شيء يُنْكَر عليه؟ قال: أما في الحديث فلا أعلمه، وسئل عنه أبي، فقال: محله الصدق، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس هو عندي بحجة، كان يأخذ كلام ابن إسحاق، فيوصله بالأحاديث، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال مرةً: ضعيف، وقال إبراهيم بن داود: سألتُ محمد بن عبد الله بن نمير عنه، فقال: ثقةٌ رَضِي، وقال عُبيد بن يَعِيش: ثنا يونس بن بُكير، وكان ثقةً، وقال ابن عمار: هو اليوم ثقةٌ عند أصحاب الحديث، وقال الْجُوزَجانيّ: ينبغي أن يُتَثَبَّتَ في أمره، وقال الساجيّ: كان ابن المدينيّ لا يُحَدِّث عنه، وهو عندهم من أهل الصدق، وقال أحمد بن حنبل: ما كان أزهد الناسَ فيه، وأنفَرَهم عنه، وقد كتبت عنه، قال الساجيّ: وحدثني أحمد بن محمد - يعني ابن مُحْرِز - قال: قلت ليحيى الْحِمَّانيّ: ألا تروي عن يونس بن بكير؛ قال: لم يكن ظاهرًا، قال رجاء لابن أبي شيبة: ألا تروي عنه؛ قال: كان فيه لِين، قال الساجيّ: وكان صدوقًا، إلا أنه كان يَتْبَع السلطان، وكان مرجئًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال مُطَيَّن وغيره: مات سنة تسع وتسعين ومائة.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، أخرج له هذا الحديث، مقرونًا بوكيع، وليس له عنده غيره، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه.

4 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس

ص: 427

[5]

(ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94) على الأصحّ (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين، الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 135، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى بُكير، كما مرّ آنفًا.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا) بفتح الصاد المهملة، مقصورًا، هو في الأصل: الحجارة، ويقال: الحجارة الْمُلْسُ، والواحدة صَفَاةٌ، والمراد هنا: الموضع المعروف بمكة، وهو مبدأ السعي، ويجوز تذكيره باعتبار المكان، وتأنيثه باعتبار البقعة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِب، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطلِبِ) قال النوويّ: رحمه الله: يجوز نصب "فاطمة"، و"صفية"، و"عباس"، وضمّهم، والنصب أفصح وأشهر، وأما "بنت"، و"ابن" فمنصوبان لا غير؛ لأنهما مضافان تابعان للمنادى، وهذا وإن كان ظاهرًا معروفًا، فلا بأس بالتنبيه عليه لمن لا يحفظه، وإفراده صلى الله عليه وسلم هؤلاء؛ لشدة قرابتهم. انتهى بزيادة

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى: وإلى ما ذكره النوويّ رحمه الله من نصبِ وضمِّ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 344.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 80 - 81.

ص: 428

فاطمةَ، وما بعدها، أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، حيث قال:

وَنَحْوَ "زيدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنَ عَلَمَا

أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ بلفظ: "يا صفيّةُ عمّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعليه يجب ضمّ "صفيّة"؛ لكونه علمًا مفردًا، وأما "عمّةَ" فمنصوب لا غير، وقد أشار إلى ذلك ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

تَابعَ ذِي الضَّمِّ الْمُضَافَ دُونَ "أَلْ"

أَلْزِمْهُ نَصْبًا كـ"زيدُ ذَا الْحِيَلْ"

فما وقع في "الفتح" 9/ 452 من قوله: "ويجوز في "صفيّة" الرفع والنصب"

(1)

، فليس بصواب، وإنما اشتبه عليه هذا بقوله:"يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم"، فإنه هو الذي يجوز فيه ما ذُكِر، كما أسلفناه آنفًا، فتبصّر، وراجع شروح "الخلاصة" وحواشيها في "باب النداء"

(2)

، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ") أي فإني أُعطيكم ما أقدر عليه مما تسألون، ولكن لا تسألوني دِفاعًا عنكم من عذاب الله تعالى، إن لم تُسلموا، وتفعلوا الخير، فإني لا أستطيع أن أنفعكم في ذلك.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من مالي"، أرى أنه ليس من المال المعروف في شيء، إنما عبّر به عما يملكه من الأمر، وَينْفُذ تصرّفه فيه، ولم يثبُت عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان ذا مالٍ، لا سيّما بمكة.

وَيَحْتَمِل أن الكلمتين أعني: "مِنْ"، و"ما" وقع الفصل فيهما من بعض من لم يُحقّقه من الرواة، فكتبهما منفصلتين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الطيبيّ رضي الله عنه، وإن كان وجهًا لا بأس به، إلا أنه لا يبعُدُ حمله على المال المعروف؛ لأن المال غادٍ ورائح، يحصل تارةً، ولا يحصل أخرى، فقوله: "سلوني

إلخ " أي ليُعطيهم ما حَصَل لديه، ويَعِدَهم فيما يُستَقبل إذا لم يكن عنده، كما فُسِّر بذلك قوله عز وجل:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} [الإسراء: 28]، قال

(1)

"فتح" 9/ 452 "تفسير سورة الشعراء".

(2)

راجع: "شرح ابن عقيل" مع "حاشية الخضريّ" 2/ 119 - 122.

ص: 429

الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي إذا سألك أقاربك، ومن أمرناك بإعطائهم، وليس عندك شيء، وأعرضت عنهم لفقد النفقة، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} أي عِدْهم وعدًا بسهولة ولين، إذا جاء رزق الله، فسنصِلُكُم، إن شاء الله. هكذا فَسَّرَ قولَهُ تعالى:{فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} بالوعد مجاهدٌ، وعكرمةُ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وغير واحد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[95/ 509](205)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2310)، و"التفسير"(3184)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(3675)، وفي "الكبرى"(6475)، و (أحمد) في "مسنده"(24523 و 25008)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(273)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(505)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[510]

(206) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّب، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالً: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنزِلَ عَلَيْهِ

(2)

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِب، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لَا

(1)

"تفسير ابن كثير" 8/ 475 - 476.

(2)

وفي نسخة: "حين أنزل الله عليه".

ص: 430

أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ

(1)

، سَلِينِي بِمَا شِئْت، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد المخزوميّ المدنيّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون تقدّموا قبل بابين، وكذا شرح الحديث، تقدّم قبل حديثين.

وقوله: (سَلِيني بِمَا شِئْتِ) في الرواية السابقة عدّاه بنفسه، فقال:"سلوني ما شئتم"، وعدّاه هنا بالباء؛ لأن "سأل" يتعدّى بنفسه، وبـ "عن"، وبالباء، قال المجد رحمه الله: سأله كذا، وعن كذا، وبكذا بمعْنًى. انتهى

(2)

. ووقع في بعض النسخ: "سليني ما شئت"، بحذفها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[95/ 510 و 511](206)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2753)، و (المناقب)(3527)، و"التفسير"(4771)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3185)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(3673)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 350 و 398)، و (الدارميّ) في "مسنده"(2735)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(272)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(506)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[511]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا

(1)

وفي نسخة: "يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئتِ".

(2)

"القاموس المحيط" ص 911.

ص: 431

زَائِدَةُ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو) بن الْمُهَلَّب بن عمرو بن شَبيب الأزديّ الْمَعْنيُّ - بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر النون - أبو عمرو البغداديّ، ويُعرَف بابن الْكِرْمانيّ، ثقةٌ، من صغار [9].

رَوَى عن زائدة بن قُدامة، والمسعوديّ، وجرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وأبي إسحاق الْفَزَاريّ، وإسرائيل، وفضيل بن مرزوق، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ورَوَى هو والباقون له بواسطة عبد الله بن محمد الْمُسْنَديّ، وأحمد بن أبي رجاء الْهَرَويّ، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وعمرو الناقد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وغيرهم.

قال حنبل، عن أحمد: صدوق ثقةٌ، وقال مهنأ بن يحيى: سألت أبا عبد الله، عن خَلَف بن تميم، قلت له: كان مثل معاوية بن عَمْرو؟ قال: لا، فإنه أتقن في الحديث منه، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: كان شجاعًا، وكان يقال له: ابن الْكِرْمانيّ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، في جمادى الأولى، وقيل: سنة أربع عشرة، وفيها أَرّخّه ابن سعد في "الصغير"، وقال في "الطبقات الكبرى": رَوَى عن زائدة مصنفاته، وعن أبي إسحاق الفزاري كتاب السير، ونزل بغداد، وتُوُفي بها سنة خمس عشرة، أو أربع عشرة، وقال أبو غالب، علي بن أحمد بن النضر: مات جدي معاوية بن عمرو سنة أربع عشرة ومائتين، وكان مولده سنة ثماني وعشرين ومائة، وكان أسنّ من وكيع بسنة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا (206)، وحديث (316): "اغتَسَلَ من الجنابة

"، و (360): "إن شئتَ

ص: 432

فتوضّأ

"، و (920): "إن الروح إذا قُبض تبعه البصر

"، و (2549): "أحيٌّ والداك؟ قال: نعم

".

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ ذَكْوَانَ) هو: أبو الزناد القرشيّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

5 -

(الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

وقوله: (نحو هذا) أي نحو حديث ابن المسيِّب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية الأعرج هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية ابن المسيِّب، وأبي سلمة، أخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 90)، فقال:

(274)

حدثنا محمد بن حيويه بن موسى، قال: أنبا أبو اليمان، قال: أنبا شعيب، قال: حدثني أبو الزناد (ح)، وحدثنا محمد بن كثير، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كَرِيمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن عبد الوهاب، عن عبد الله بن ذكوان (ح) وحدثنا طاهر بن خالد بن نِزار، قال: ثنا أبي، قال: ثنا إبراهيم بن طَهْمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله، يا أم الزبير، يا عمة النبي صلى الله عليه وسلم، يا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتَرِيَا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئًا، سلاني من مالي ما شئتما". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[512]

(207) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثنا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِق، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَا:

ص: 433

لَمَّا نَزَلَت"

(1)

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] قَالَ: انْطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ، فَعَلَا أَعْلَاهَا حَجَرًا، ثُمَّ نَادَى:"يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ، إِنِّي نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د، س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(التَّيْمِيُّ) هو: سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ) هو: عبد الرَّحمن بن مِلّ بن عمرو النَّهْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ مخضرمٌ، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وهو ابن (130) أو أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ) - بضمّ الميم، وتخفيف المعجمة - بن عبد الله بن شَدّاد بن معاوية بن أبي رَبِيعة بن نَهِيك بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلاليّ البصريّ، وَفَدَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه، ورَوَى عنه ابنه قَطَن، وكِنَانة بن نُعَيم، وهلال بن عامر البصريّ، وأبو عثمان النَّهْديّ، وأبو قِلابة الْجَرْميّ، وكنيته أبو بِشْر فيما ذكر ابن عبد البرّ، وقال البخاريّ: له صحبةٌ، ويقال له: الْعِجْليّ، وقال ابن أبي حاتم: بصريّ من قيس عَيْلان، له صحبة، وقال ابن حبّان: له صحبةٌ، سكن البصرة، وقال خليفة في "الطبقات": كانت له دار بالبصرة، وقال ابن الكلبيّ: كان قَطَنُ بن قَبِيصة شَرِيفًا، وقد وَليَ سِجِسْتان

(2)

.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا

(1)

وفي نسخة: "لَمّا أنزلت".

(2)

"الإصابة" 5/ 312 - 313.

ص: 434

الكتاب حديثان فقط، هذا (207)، وحديث (1044): "إن المسألة لا تحلّ إلَّا لأحد ثلاثة

".

6 -

(زُهَيْرُ بْنُ عَمْرٍو) الهلاليّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقط، ورَوَى عنه أبو عثمان النَّهْديّ، مقرونًا بقبيصة بن المخارق، قال الأزديّ: تفرَّد عنه أبو عثمان، وقال العسكريّ: نزل البصرة، له بها دارٌ، وقال البغويّ: لا أعلم له إلَّا حديث الإنذار، ونقل ابن السكن عن البخاريّ أنه لَمْ يُصَحِّح صحبته؛ لأنه لَمْ يذكر السماع. انتهى.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرَم، عن صحابيين.

4 -

(ومنها): أن صحابيَّيْه من المقلّين في الرواية، فأما زهير، فليس له إلَّا هذا الحديث فقط عند المصنّف، والنسائيّ في "الكبرى"

(1)

، وأما قَبِيصة، فله نحو خمسة أحاديث فقط، وليس له في البخاريّ وابن ماجة شيء

(2)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِق، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما أنهما (قَالَا: لَمَّا نَزَلَت"

(3)

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] قَالَ)، قال النوويّ رحمه الله: معناه: قالا؛ لأن المراد أن قبيصة وزهيرًا قالا، ولكن لما كانا متفقين، وهما كالرجل الواحد أفرد فعلهما، ولو حَذَفَ لفظة "قال" كان الكلام واضحًا منتظمًا، ولكن

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 3/ 131 - 132.

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 512 - 514.

(3)

وفي نسخة: "لَمّا أنزلت".

ص: 435

لما حَصَلَ في الكلام بعض الطول حَسُنَ إعادة "قال"؛ للتأكيد، ومثله في القرآن العزيز:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} [المؤمنون: 35]، فأعاد:{أَنَّكُمْ} ، وله نظائر كثيرة في القرآن العزيز والحديث، وقد تَقَدَّم بيانه في مواضع من هذا الكتاب. انتهى كلامه رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(انْطَلَقَ) أي ذهب (نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ)"الرَّضْمَةُ" بفتح الراء، وإسكان الضاد المعجمة، وبفتحها، لغتان، حكاهما صاحب "المطالع" وغيره، واقتصر صاحب "العين"، والجوهريّ، والْهَرَويّ، وغيرهم على الإسكان، وابنُ فارس، وبعضُهم على الفتح، قالوا:"الرَّضْمَة": واحدة الرَّضْم، والرِّضَام، وهي: صخورٌ عِظامٌ، بعضها فوق بعض، وقيل: هي دون الْهِضَاب، وقال صاحب "العين": الرَّضْمَةُ: حِجارة مجتمعةٌ، ليست بثابتة في الأرض، كأنها منثورة. انتهى

(1)

.

وقال المازريّ: الرَّضْمةُ: هي صُخُور بعضها على بعض، يقال: بَنَى داره يَرْضِمُ فيه الحجارةَ رَضْمًا، ومنه الحديث:"وكان البناءُ الأول من الكعبة رَضْمًا"

(2)

. انتهى

(3)

.

(فَعَلَا أَعْلَاهَا) أي صَعِدَ صلى الله عليه وسلم أعلى تلك الرضمة (حَجَرًا) منصوب على التمييز المحوّل من الفاعل، كما قال في "الخلاصة":

وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِـ "أَفْعَلَا"

مُفَضِّلًا كَـ "أَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا"

وَيحْتَمل أن يكون "حجرًا" مفعولًا به لـ "علا"، و"أعلاها" حال منه، وأصله صفة، فلما قُدّم أُعرب حالًا؛ لأن القاعدة أن نعت النكرة إذا قُدّمت تُعرَب حالًا، والوجه الأول أولى، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ نَادَى: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ" هذا هو المسمَّى عند النحاة بالندبة، وهو

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 82.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" 5/ 102 ضمن حديث طويل، وأحمد 5/ 455 مختصرًا، وحسّن إسناده بعضهم.

(3)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 883.

ص: 436

نوع من النداء يزيد عليه بكون المنادى فيه متفجِّعًا عليه، كـ "وا زيداه"، أو متوجَّعًا منه، كـ "وا ظهراه"، وتلحق آخره ألف الندبة، ويجوز إلحاق هاء السكت، للوقف، قال في "الخلاصة":

وَوَاقِفًا زِدْ هَاءَ سَكْتٍ إِنْ تُرِدْ

وَإِنْ تَشَأْ فَالْمَدُّ وَالْهَا لَا تَزِدْ

(إِنِّي نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ) بفتح الياء، وإسكان الراء، وبعدها باء موحدة، ثم همزة، على وزن "يَقْرَأُ" ومعناه: يحفظهم، ويَتَطَلَّع لهم، ويقال لفاعل ذلك: رَبِيئَة، وهو العين، والطَّلِيعة الذي يَنظُر للقوم؛ لئلا يَدْهَمهم العدوّ، ولا يكون في الغالب إلَّا على جبلٍ، أو شَرَفٍ، أو شيءٍ مرتفعٍ؛ لينظر إلى أبْعَدَ، قاله النوويّ رحمه الله. انتهى.

وقال المازريّ رحمه الله: "الرَّبِيئة": الطَّلِيعةُ والعينُ، وأنشد أبو عمرو:

فَأَرْسَلْنَا أَبَا عَمْرٍ رَبِيئًا

وقال القاضي عياض رحمه الله: هكذا الرواية الصحيحة، كما ضبطه، وفَسَّره المازريّ، وكذا كان عند شيخنا الْخُشَنيّ، وكان عند الْعُذريّ وغيره من الرواة:"يَرْتَأُ"، ولا وجه له هنا. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

وقال في "القاموس": رَبَأَهم، ولهم، كمَنَعَ: صار ربيئةً لهم، أي طَلِيعةً، وعلا، وارتفع، ورَفَعَ، وأصلح، وأذهب، وجَمَعَ من كلّ طعام، وتثاقل في مِشْيته، وأشرف، كارْتبَأَ. انتهى

(2)

.

(فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ) أي أن يسبق الأعداء ذلك الرجل (فَجَعَلَ) أي أخذ، وشرع (يَهْتِفُ) - بفتح الياء، وكسر التاء - ومعناه: يَصِيح، وَيصْرُخ، وقوله:(يَا صَبَاحَاهْ")، مقول لقول مقدَّر منصوب على الحال، أي حال كونه قائلًا: يا صباحاه، كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم، فيقولونها؛ ليجتمعوا، ويتأهّبوا له

(3)

.

وهي مضافة إلى ياء المتكلّم، فأصلها: يا صباحي، فقلبت الياء ألفًا في النداء، أو حُذفت من أجل ألف الندبة، والهاء للسكت، كما تقدّم في "يا عبد منافاه".

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 883 - 884.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 40.

(3)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 82.

ص: 437

وقال ابن الأثير رحمه الله: هذه كلمةٌ يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة؛ لأنهم أكثرَ ما يُغيرون عند الصباح، ويُسمُّون يوم الغارةِ يوم الصباح، فكأن القائل: يا صباحاه يقول: قد غَشِيَنا العدوّ، وقيل: إن المتقاتلين كانوا إذا جاء الليل يرجعون عن القتال، فإذا عاد النهار عاودوه، فكأنه يريد بقوله: يا صباحاه: قد جاء وقت الصباح، فتأهّبوا للقتال. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث قَبِيصة بن الْمُخارق، وزُهير بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[95/ 512 و 513](207)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(979 و 981 و 982)، و"التفسير"(11379)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 60)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(265 و 266)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(508)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[513]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في السند السابق، وأبو المعتمر هو سليمان بن طَرْخان.

(1)

"النهاية" 3/ 6 - 7.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 438

وقوله: (بِنَحْوِهِ) يعني أن رواية المعتمر عن أبيه، نحو رواية يزيد بن زُريع، عنه.

[تنبيه]: رواية المعتمر هذه التي أحالها المصنّف على رواية يزيد بن زُريع، أخرجها أبو نُعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 277)، فقال:

(508)

وحدثنا أبو محمد بن حبان، ثنا ابن أبي عاصم، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا المعتمر بن سليمان، ثنا أبي، ثنا أبو عثمان النَّهْديّ، عن زُهير بن عمرو، وقَبِيصة بن الْمُخَارق، قال: لَمّا نَزَلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] انطَلَق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رَضْمَةٍ من جَبَل على أعلاها حجر، فجَعَل ينادي: "يا بني عبد مناف، إنما أنا نذيرٌ، إنما مَثَلِي ومَثَلُكم، كرَجُل رأى العدوّ، فذَهَب يَرْبَأُ

(1)

على أهله، فَخَشِي أن يُسْبَقَ، فجَعَل ينادي، أو يَهْتِف: يا صباحاه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[514]

(258) - (وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ:"يَا صَبَاحَاهْ"، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْه، فَقَالَ:"يَا بَني فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْه، فَقَالَ:"أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَل، كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ:"فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَمَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبِ وَقَدْ تَبَّ} ، كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ).

(1)

وقع في الأصل: "يربؤ" والظاهر أنه تصحيف، والله تعالى أعلم.

ص: 439

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ الْمُراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمي، ثقةٌ عابدٌ، لا يُدلّسُ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) بن هشام الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ 31، (ت 95) ولم يكمل الخمسين من عمره (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما (ت 68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنّ رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم بصريّ، ثم مكيّ، ثم طائفيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأن كلًّا منهما من الطبقة الخامسة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى، وكان يلقّب بالحبر، والبحر؛ لسعة علمه، وهو آخر من مات بالطائف من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (68)، والله تعالى أعلم.

ص: 440

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] وَرَهْطَكَ) قال المجد رحمه الله: "الرَّهْطُ" بفتح، فسكون، ويُحرَّك: قوم الرجل، وقبيلته، ومن ثلاثة، أو سبعة، إلى العشرة، أو ما دون العشرة، وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه: أَرْهُطٌ، وأَراهطُ، وأَرْهاط، وأَراهيط. انتهى

(1)

. (مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) - بفتح اللام - قال النوويّ رحمه الله: ظاهر هذه العبارة أن قوله: "ورهطك منهم المخلَصين" كان قرآنًا أُنزل، ثم نُسِخت تلاوته، ولم تقع هذه الزيادة في روايات البخاري. انتهى

(2)

.

وتعقّب في "الفتح" قول النوويّ: إنها لَمْ تقع عند البخاريّ، بأنها وقعت عنده في "تفسير سورة {تَبَّتْ} ، فتنبّه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: لعل هذه الزيادة كانت قرآنًا، فنُسخت تلاوتها، ثم استشكل بأن المراد إنذار الكفّار، والمخلَص صفة المؤمن، والجواب: أنه لا يمتنع عطف الخاصّ على العامّ، فقوله:{وَأَنذِرْ عَشِيَرتَكَ} عامّ فيمن آمن منهم، ومن لَمْ يؤمن، ثم عَطَف عليه الرهط المخلصين؛ تنويهًا بهم، وتأكيدا

(3)

.

قال الجامح عفا الله عنه: الذي يظهر لي أنه ليس المراد بكونهم المخلَصين الإخلاص الإيمانيّ، وإنما هو إخلاص الودُّ والعطف والقرابة، فإن من كان أقرب إلى الشخص نسبًا يكون أخلص في موالاته، ومناصرته ومحبّته، وهو أيضًا يخلص لهم الودّ والمحبّة، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي من بيته (حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا) بكسر العين، أي رَقِي على الجبل المعروف (فَهَتَفَ:"يَا صَبَاحَاهْ") تقدّم الكلام على هذه الجملة قريبًا (فَقَالُوا) أي بعض قريشٍ لبعضهم (مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا) أي البعض الآخرون (مُحَمَّد) خبر لمحذوف دلّ عليه السؤال، أي هو محمد صلى الله عليه وسلم (فَاجْتَمَعُوا إِلَيْه، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " ("يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ) تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا بني كعب بن لُؤيّ، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني

(1)

"القاموس المحيط" ص 601.

(2)

"شرح مسلم" 3/ 82.

(3)

راجع: "الفتح" 8/ 361.

ص: 441

مرّة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار"، (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْه، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَرَأَيْتُمْ) معناه: أخبروني، قال الطيبيّ رحمه الله: الضمير المتّصل المرفوع من الخطاب العامّ، والضمير الثاني لا محلّ له، فهو كالبيان للأول؛ لأن الأول بمنزلة الجنس الشائع في المخاطبين، فيستوي فيه التأنيث والتذكير، والإفراد والجمع، فإذا أريد بيانه بإحدى هذه الأنواع بُيّن به، فأَتَى في الحديث بعلامة الجمع بيانًا للمراد. انتهى

(1)

.

(لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ) أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب، ووقع في حديث عليّ رضي الله عنه:"ما أعلم شابًّا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة"

(2)

، (أَنَّ خَيْلًا): أي أصحاب خيل، أُطلق عليهم اسم الخيل؛ لملازمتهم لها (تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ) - بفتح السين - وهو أسفله، وقيل: عَرْضه، والمشار إليه جبل أبي قُبيس حيث كان واقفًا على طرفه (كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ ") - بتشديد الدال والياء - أصله: مصدِّقين لي، فحُذفت النون واللام؟ للإضافة، ثم أُدغمت الياء في الياء، هذا في حالة النصب، كما هنا؛ لأنه خبر لـ "كان"، وكذا في حالة الجرّ، وأما في حالة الرفع، فأصله: مصدّقون لي، فلما حُذفت النون، واللام، اجتَمَعَت الواو والياء، وسَبَقت إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأدغمت في ياء المتكلِّم، ثم كُسرت القاف؛ لمناسبة الياء، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:

آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْكَسْرِ إِذَا

لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ "رَامٍ وَقَذَا"

أَوْ يَكُ كَـ "ابْنَيْنِ" وَ"زَيْدِينَ" فَذِي

جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي

وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ

مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ

(قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا) قال المجد رحمه الله: جَرّبه تَجْربةً: اخْتَبَره، ورجلٌ مُجَرَّبٌ، كمُعَظَّم: بُلِي ما كان عنده، ومُجَرِّب: عَرَفَ الأمور. انتهى

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3397.

(2)

"الفتح" 8/ 361 "كتاب التفسير" رقم (4770).

(3)

"القاموس المحيط" ص 64.

ص: 442

وقال الطيبيّ رحمه الله: ضَمَّن "جَرَّب" معنى الإلقاء، فعدّاه بـ "على"، أي: ما ألقينا عليك قولًا، مجرِّبين لك، هل تكذب، أم لا؟ فما سمِعنا منك إلَّا صدقًا. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِنِّي نَذِيرٌ) فعيلٌ بمعنى فاعل: أي منذر، قال الفيّوميّ رحمه الله: أنذرتُ الرجلَ كذا إنذارًا: أبلغته، يتعدّى إلى مفعولين، وأكثر ما يُستعمَلُ في التخويف، كقوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]: أي خَوِّفهم عذابه، والفاعل مُنذِرٌ، ونذيرٌ، والجمع نُذُر بضمّتين، وأنذرته بكذا، فَنَذِرَ به، مثلُ أعلمته به، فعَلِم وزنًا ومعنًى، فالصلة فارقة بين الفعلين. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: ونَذِرَ بالشيء، كفَرِح: عَلِمه، فَحَذِره، وأنذره بالأمر إنذارًا ونَذْرًا، ويُضمّ، وبضمّتين، ونَذِيرًا: أعلمه، وحَذَّره، وخَوَّفه في إبلاغه، والاسم النُّذْرَى بالضمّ، والنُّذُرُ بضمّتين، ومنه قوله تعالى:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} [القمر: 16] أي إنذاري، والنذير: الإنذارُ، كالنِّذَارة بالكسر. انتهى

(2)

.

(لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ")"بين" ظرفٌ لقوله: "نذير"، وهو بمعنى: قُدّام؛ لأن كلَّ من يكون قُدَّام أحد يكون بين الجهتين السابقتين ليمينه وشماله، وفيه تمثيل، مثّل إنذاره القوم بعذاب الله تعالى النازل على القوم بنذير قوم يتقدّم جيش العدوّ، فيُنذرهم، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

وفي رواية لأحمد: "أنا النذير، والساعة الْمَوْعِدُ"، وعند الطبريّ من مرسل قسامة بن زُهير قال: بلغني أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه، ورفع صوته، وقال:"يا صباحاه"، ووصله مرّة أخرى عن قسامة، عن أبي موسى الأشعريّ، وأخرجه الترمذيّ موصولًا أيضًا، قاله في "الفتح"

(4)

.

[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: أسلوب هذا الحديث يُسمَّى في علم البديع بـ "المذهب الكلاميّ"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استنطقهم أَوّلًا بما أقرّوا به أنه صادِق، فلمّا اعترفوا، ألزمهم بقوله: "فإني نذير لكم

إلخ"، أي إذا عرفتم بصدقي،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 599.

(2)

"القاموس المحيط" ص 434.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3397.

(4)

8/ 362.

ص: 443

فاتّبعوا لما أقول لكم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الراوي، وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما ناقلًا عمن روى له هذه القصّة؛ لأنه لَمْ يحضرها، كما أسلفناه، فهو من مرسل الصحابيّ (فَقَالَ أَبُو لَهَب) فيه لغتان، قُرِئ بهما: فتح الهاء، وإسكانها، واسمه عبد الْعُزَّى (تَبًّا لَكَ) أي خُسرانًا وهلاكًا، ونصبه بعامل مضمر، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده":"تبًّا لك سائر اليوم"، أي جميع الأيام (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، كـ "إلا" (جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ) أي أبو لهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية له (فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ) فيها لغتان: الهمز، وتركه، حكاهما ابن قتيبة، والمشهور بغير همز، كسُور البلد؛ لارتفاعها، ومَن هَمَزَه قال: هي قطعة من القرآن، كسؤر الطعام والشراب، وهي البقية منه.

وقوله: ({تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}) بدل من "هذه السورة" محكيّ؛ لقصد لفظه، قال المجد:"تَبَّت يداه": ضلَّتا، وخسرتا، وقال السمين الحلبيّ: وأُسند الفعل إلى اليدين مجازًا؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بهما، وإن كان المراد جملة المدعوّ عليه، وقوله:{تَبَّتْ} دعاء، و {تبّ] إخبار: أي قد وقع ما دُعي به عليه، كقول الشاعر [من الطويل]:

جَزَانِي جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ

الْكِلَابِ الْعَاوِياتِ وَقَدْ فَعَلْ

ويؤيّده قراءة عبد الله رضي الله عنه: "وقد تَبّ"، والظاهر أن كليهما دعاء، ويكون في هذا شَبَهٌ من مجيء العامّ بعد الخاصّ؛ لأن اليدين بعضٌ، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد، وإنما عَبّر باليدين؛ لأن الأعمال غالبًا تُزاول بهما. انتهى

(2)

.

وقال الفرّاء: الأول دعاء بهلاك جملته، على أن اليدين إما كناية عن الذات، والنفس؛ لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء، وإرادة الكل، كقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، والثاني إخبار بالحصول: أي وكان ذلك، وحصل. انتهى.

وقوله: ({وَقَدْ تَبَّ}) أي وقد هلك، وخَسِرَ أبو لهب (كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ)

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3397.

(2)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 11/ 141 - 142.

ص: 444

قال النوويّ رحمه الله: معناه أن الأعمش زاد لفظة: "قد" بخلاف القراءة المشهورة، وفي رواية البخاريّ:"هكذا قرأها الأعمش يومئذ"، قال في "الفتح": وليست هذه القراءة فيما نَقَل الفرّاء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيًا، لا قارئا، ويؤيِّده قوله في هذا السياق:"يومئذ"، فإنه يُشعر بأنه كان لا يستمرّ على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنَّها قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وحده. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِلَى آخِرِ السُّورَةِ) يعني أنه أتمّ القراءة إلى آخر السورة، كما يقرؤها الناس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[95/ 514 و 515](208)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1394)، و"الأنبياء"(3525)، و"التفسير"(4770 و 4801 و 4971 و 4972 و 4973)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3363)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 281 و 307)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(262 و 263 و 264)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(509)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6550)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(19/ 120 - 121)، و (ابن منده) في "الإيمان"(949 و 950 و 951)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 181 - 182)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3742)، وفي "تفسيره"(3/ 400 - 401). وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في مسائل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[515]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

"الفتح" 8/ 362 "كتاب التفسير" رقم (4770).

ص: 445

أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ:"يَا صَبَاحَاهْ"، بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي أسَامَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا، والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ) يعني أن أبا معاوية روى هذا الحديث عن الأعمش بنحو ما رواه أبو أسامة عنه.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية هذه التي أحالها المصنّف على رواية أبي أسامة، أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4972)

حدثنا محمد بن سلام، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فَصَعِد إلى الجبل، فنادى: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال:"أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مُصَبِّحكم، أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ " قالوا: نعم، قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبًّا لك، فأنزل الله عز وجل:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها .. انتهى.

وأخرجها أيضًا الحافظ ابن منده رحمه الله في "الإيمان"

(1)

(2/ 884)، فقال:

(951)

وأخبرنا محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية

(2)

ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فنادى: "يا

(1)

إنما أوردت رواية ابن منده مع رواية البخاريّ؛ لكونها أقرب إلى لفظ المصنّف، فتنبّه.

(2)

كان في الأصل: "حدثنا معاوية"، وهو غلط فاحش، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 446

صباحاه"، فاجتمعت قريش إليه، فقالوا: ما لك؟ فقال: "لو أني أخبرتكم أن العدو مُصبِّحكم أو مُمَسِّيكم، أكنتم تصدقوني؟ " قالوا: نعم، قال:"فإني نذير لكم من عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك الهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وإلى آخر السورة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(96) - (بَابُ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَالِبٍ، فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[216]

(209) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبِ بِشَيْءٍ؟ فَإنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ

(1)

، وَيَغْضَبُ لَكَ، قَالَ:"نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، ثم البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عَطَاء بن مُقَدَّم الْمُقَدَّمِيُّ، أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقة [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

(1)

وفي نسخة: "وينصرك، ويغضب لك".

ص: 447

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارب، واسم أبي الشوارب محمد بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العِيص بن أمية القرشيّ الأُمويّ، أبو عبد الله الأُبُلّيّ البصريّ، صدوقٌ من كبار [10].

رَوَى عن كَثِير بن سُليم المدائني، وعبد العزيز بن المختار، وأبي عوانة، ويزيد بن زُريع، وبشر بن المفضل، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبي عاصم العبادانيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة، وروى النسائي عن زكريا السِّجزيّ عنه، وأبو إسماعيل الترمذيّ، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.

قال أبو علي بن خاقان، عن أحمد: ما بلغني عنه إلَّا خير، وقال صالح بن محمد الأسدي: شيخٌ جليلٌ، صدوق، وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال النسائي في "مشيخته": ثقة، وقال مَسلمَة: بصري ثقة، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: شيخ صدوق، لا بأس به.

وقال ابن قانع: مات بالبصرة لعشر بَقِين من جُمادى الآخرة، سنة أربع وأربعين ومائتين، وفيها أرّخه البغوي، وذكره أبو علي الجيّاني في شيوخ أبي داود، ولم يذكره غيره، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط

(1)

.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) الفَرَسيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي أيَضًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ) بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، لَقَبهَ بَبَّه، وأمه هند بنت أبي سفيان، وُلِد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَحَنَّكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأبيه وجدّه صحبة، وتَحَوَّل إلى البصرة، واصطلَحَ عليه أهل البصرة، حين مات يزيد بن معاوية، مُجمعٌ على توثيقه [2].

رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وعن أبيه، وعَمّ

(1)

ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": رَوَى عنه مسلم عشرة أحاديث. انتهى.

ص: 448

جدّه العباس بن عبد المطلب، وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وابن مسعود، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وابن عباس، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبناؤه: عُبيد الله، وإسحاق، وعبد الله، وعبد الملك بن عمير، وأبو إسحاق السَّبيعيّ، وسليمان بن يسار، والزهريّ، وأبو التَّيّاح الضُّبَعيّ، ومولاه يزيد بن أَبي زياد، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: ثقةٌ، ولم يَسْمَع من ابن مسعود، وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: الزهري سمع من عبد الله بن الحارث؟ قال: لا، سَمِعَ من بَنِيه، وحَكَى ابن سعد في "الطبقات" أنه لَمّا وُلد أتت أمه هند إلى أختها أم حبيبة، فدَخَل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا يا أم حبيبة؟ قالت: هذا ابنُ عَمِّك، وابن أختي، فَتَفَل في فيه، ودعا له، قال: وكان بَبَّه على مكة زمن عثمان، قال محمد بن عمر: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": أجمعوا على أنه ثقةٌ، وقال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ، ثقةٌ، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ ثقةٌ ظاهر الصلاح، وله رِضًى في العامّة، وقال ابن حبان: هو من فقهاء أهل المدينة.

قال ابن حبان في "الثقات": تُوُفّي سنة (79) قتلته السَّمُوم، ودُفِنَ بالأبواء، وقال ابن سعد: تُوُفّي بعُمان سنة أربع وثمانين، عند انقضاء فتنة ابن الأشعث، وكان خرج إليها هاربًا من الحجاج.

قال الحافظ رحمه الله: والثاني هو المعتمد، والذي مات بالسَّمُوم هو ولده عبد الله بن عبد الله بن الحارث.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

7 -

(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم، عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، مات سنة (32) أو بعدها، وهو ابن (88) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم.

ص: 449

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة، كما أسلفناه آنفًا.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الملك بن عُمير، عن عبد الله بن الحارث.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه، من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو الخلفاء العبّاسيين، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟) وفي رواية البخاريّ: "ما أغنيتَ عن عمّك؟ ".

[تَنبيه]: اسم أبي طالب عند الجميع عبد مناف، وشَذّ مَن قال: عمران، بل هو قول باطل، نقله ابن تيمية رحمه الله في "كتاب الردّ على الرافضيّ": أن بعض الروافض زعم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33] هم آل أبي طالب، وأن اسم أبي طالب عمران، واشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله، والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته إليه، فكفله إلى أن كَبِر، واستمَرّ على نصره بعد أن بُعِث إلى أن مات أبو طالب، وكان موته بعد خروجهم من الشعب، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبحث، وكان يَذُبّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويرُدّ عنه كلَّ مَن يؤذيه، وهو مقيم مع ذلك على دين قومه، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه"، وأخباره في حياطته، والذبّ عنه معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله [من الكامل]:

وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا

وقوله [من الطويل]:

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَبْزِي مُحَمَّدًا

وَلَمَّا نُقَاتِلْ حَوْلَهُ وَنُنَاضِلُ

وحديث عباس رضي الله عنه في هذا الباب يشهد لذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 7/ 233 "كتاب المناقب" رقم (3883).

ص: 450

(فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ) بفتح أوله، وضم الحاء المهملة، من الحياطة، وهي المراعاة، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق، قال: ثم إن خديجة، وأبا طالب هلكا في عام واحد، قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة له وزيرةَ صِدْقٍ على الإسلام، يَسْكُن إليها، وكان أبو طالب له عَضُدًا وناصرًا على قومه، فلما هَلَك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لَمْ تَطْمَع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سَفِيهٌ من سُفَهاء قريش، فَنَثَرَ على رأسه ترابًا، فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته يقول: "ما نالتني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب".

(وَيَغْضَبُ لَكَ) يشير به إلى ما كان يَرُدّ به عنه من قول وفعل، فقد قام في نصرته، وذبّ عنه مَن عاداه، ومدحه عِدّة مدائح، منها قوله - لَمّا استَسْقَى أهل مكة، فسقوا -[من الطويل]:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

ومنها قوله من قصيدة [من الطويل]:

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

قال ابن عيينة، عن علي بن زيد: ما سمعت أحسن من هذا البيت.

وقوله [من الكامل]:

وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ

وَلَقَدْ صَدَقْتَ فَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

(1)

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ) أي نفعته (هُوَ) أي أبو طالب (فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ) - بضادين معجمتين، مفتوحتين، وحاءين مهملتين - هو في الأصل: ما رقّ من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، ثم استُعير هنا للنار، ويُطلق أيضًا على مَا قَرُب من الماء، وهو ضِدّ الْغَمْرة.

والمعنى: أنه خُفِّف عنه العذاب، وقد ذكر في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي:"فيُجْعَل في ضحضاح من نار، يَبْلُغ كعبيه، يَغْلِي منه دماغه"، ويأتي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي: "إن أهون أهل النار عذابًا أبو

(1)

راجع: "الإصابة" 7/ 196 - 198.

ص: 451

طالب، وهو منتعلٌ بنعلين يَغْلِي منهما دماغه"، وللبزار من حديث جابر رضي الله عنه: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها".

(وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ") قال أهل اللغة: في "الدرك" لغتان فصيحتان، مشهورتان: فتحُ الراء، وإسكانها، وقُرِئ بهما في القراءات السبع، قال الفَرّاء: هما لغتان، جَمْعُهُما أَدْراك، وقال الزجاج: اللغتان جميعًا حكاهما أهل اللغة، إلَّا أن الاختيار فتح الراء؛ لأنه أكثر في الاستعمال، وقال أبو حاتم اللغويّ: جمع الدَّرَك بالفتح أَدْراك، كجَمَل وأَجْمَال، وجمع الدَّرْك بالإسكان أَدْرُك، كفَلْس وأَفْلُس.

قال جميع أهل اللغة، والمعاني، والغريب، وجماهير المفسرين: الدَّرْكُ الأسفل: قَعْرُ جهنم، وأقصى أسفلها، قالوا: ولجهنم أَدْراكٌ، فكل طبقة من أطباقها تُسَمَّى دَرَكًا، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الدّرك في مراتب التسفّل والنزول، كالدّرَج في مراتب العلوّ والاتفاع، وُيراد به آخر طَبَق في أسفل النار، وهو أشدّ أطباق جهنّم عذابًا، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]، وكان أبو طالب يستحقّ ذلك؛ إذ كان قد عَلِمَ صدقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع حالاته، ولم يَخْفَ عليه شيء من أموره، من مولده إلى حين اكتهاله، ولذلك كان يقول لعليّ ابنه: اتّبعه، فإنه لا يُرشدك إلَّا إلى خير، أو حقّ، أو كما قيل عنه. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: في سؤال العباس رضي الله عنه عن حال أبي طالب المذكور في هذا الحديث ما يَدُلّ على ضعف ما أخرجه ابن إسحاق، من حديث ابن عباس رفي بسند فيه مَن لَمْ يُسَمَّ: أن أبا طالب لَمّا تقارب منه الموت، بعد أن عَرَض عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول:"لا إله إلَّا الله"، فأبي، قال: فنظر العباس إليه، وهو يُحَرِّك شفتيه، فأصغى إليه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي

(1)

"شرح النوويّ في 3/ 84.

(2)

"المفهم" 1/ 456.

ص: 452

أمرته أن يقولها. وهذا الحديث لو كان طريقه صحيحًا لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه، فضلًا عن أنه لا يصح.

ورَوَى أبو داود، والنسائيّ، وابن خزيمة، وابن الجارود، من حديث عليّ رضي الله عنه قال: لَمّا مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضالّ قد مات، قال:"اذهب، فَوَارِهِ"، قلت: إنه مات مشركًا، فقال: "اذهب، فواره

"الحديث.

وقد جمع بعض الروافض جزءًا أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولا يثبت من ذلك شيء، وسيأتي الردّ عليه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[96/ 516 و 517 و 518](209)، و (البخاري) في "المناقب"(3883 و 3885)، و"الأدب"(6208)، و"صفة الجنّة والنار"(6572)، و (الحميديّ) في "مسنده"(460)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 206 و 207 و 210)، و (أبو عوانة) في "مسنده، (278 و 279 و 280)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (510 و 511 و 512)، واللُّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما اختصّ الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم من رفعة قدره، وجاهه عنده، حيث قبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمّه أبي طالب، فخفّف عنه، فجُعِل في ضحضاخ من نار.

2 -

(ومنها): بيان أن عذاب الكفار متفاوت.

3 -

(ومنها): بيان أن النفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه، ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): بيان أنه لا تنفع محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم "المحبّة الطبيعيّة، وإنما تنفع

ص: 453

المحبّة الدينيّة الإيمانيّة التي تتمثّل في اتّباع سنّته، والاقتداء به عقيدة، وسلوكًا.

فمن هنا يتبيّن ضلال من يدّعي محبّته صلى الله عليه وسلم، ويرى ذلك في صنع المولد له، وجمع الناس على ذلك، وقراءة القصائد في مدحه صلى الله عليه وسلم، في أكثر هذا المصنّف رحمه الله من الناس، وربّما لا يصلي بعضهم الصلوات الخمس، ولا يقيم شعائر الإسلام أصلًا، أو يقيم بعضها، ويهجُر بعضها، ويزعم أن ذلك يُنجيه، ويكفيه لذنوبه شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم والذي صنع من أجله المولد، في أشدّ غربة الإسلام، فيا لله للإسلام الجريح المظلوم من أهله، والمنبوذ المطروح في زوايا إهماله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على ما تصفون.

5 -

(ومنها): بيان أن القرابة المجرّدة لا تنفع، وإن كانت قريبة، وإنما ينفع القرب الدينيّ، وإن كانت الأنساب غريبة، فقد ذلّ أبو لهب وذووه مع القرابة، وعزّ سلمان وأضرابه رضي الله عنهم مع الغرابة، ولقد أجاد القائل [من الطويل]:

لَقَدْ رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارسٍ

وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قد اتّضح بما ذُكر في هذا الباب من الأحاديث

الصحاح أن أبا طالب مات على الكفر، وأنه لَمْ ينتفع بمحبّته صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها لَمْ تكن دينيّة، ومع هذا كلّه فقد حاول بعض الروافض في ادّعاء النجاة له، فزعموا أنه مات مسلمًا، وتمسّكوا بما نُسِب إليه من قوله [من الكامل]:

وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ

وَلقَدْ صَدَقْتَ فَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا

وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

قال الحافظ رحمه الله: ولقد وقفت على تصنيف لبعض الشيعة أثبت فيه إسلام أبي طالب، منها ما أخرجه من طريق يونس بن بكرٍ، عن محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن سعيد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لَمّا أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه، قال له:"يا عَمّ، قل: لا إله إلَّا الله، كلمةً أستحلّ بها لك الشفاعة يوم القيامة"، قال: يا ابن أخي، والله لولا أن تكون سُبَّةً عليّ، وعلى أهلي من أني قلتها جَزَعًا عند الموت، لقلتها، لا أقولها، إلَّا لأَسُرَّك بها، فلما ثَقُل أبو طالب، رُؤي يحرك شفتيه، فأصغى إليه العباس، فسمع قوله، فرفع رأسه عنه، فقال: قد قال، والله الكلمة التي سأله عنها.

ص: 454

ومن طريق إسحاق بن عيسى الهاشميّ، عن أبيه، سمعت المهاجر مولى بني نُفَيل يقول: سمعت أبا رافع يقول: سمعت أبا طالب يقول: سمعت ابن أخي محمد بن عبد الله يقول: إن ربه بعثه بصِلَة الأرحام، وأن يُعْبَد الله وحده، لا يعبد معه غيره، ومحمد الصدوق الأمين.

ومن طريق ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن أبي عامر الْهَوْزنيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَج معارضًا جنازة أبي طالب، وهو يقول:"وصلتك رحمٌ".

ومن طريق عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن عليّ، أنه لما أسلم، قال له أبو طالب: الزم ابن عمك.

ومن طريق أبي عبيدة، معمر بن المثنى، عن رؤبة بن العجاج، عن أبيه، عن عمران بن حصين، أن أبا طالب، قال لجعفر بن أبي طالب لَمّا أسلم: قبِّل جناح ابن عمك، فصلى جعفر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ومن طريق محمد بن زكريا الغلابي، عن العباس بن بكار، عن أبي بكر الْهُذليّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: جاء أبو بكر بأبي قحافة، وهو شيخٌ قد عَمِيَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا تركت الشيخ حتى آتيه؟ " قال: أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحقّ، لأنا كنت أشدّ فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، التمس بذلك قرة عينك.

قال الحافظ رحمه الله: وأسانيد هذه الأحاديث واهية، وليس المراد بقوله في الحديث الأخير إثبات إسلام أبي طالب، فقد أخرج عُمَر بن شَبّة في "كتاب مكة"، وأبو يعلى، وأبو بشر سمويه في "فوائده" كلهم من طريق محمد بن سلمة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس في قصة إسلام أبي قحافة، قال: فلما مَدَّ يده يبايعه، بَكَى أبو بكر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يُبكيك؟ " قال: لأن تكون يَدُ عمك مكان يده، ويُسلِم، ويُقِرّ الله عينك أحب إليّ من أين يكون. وسنده صحيح، وأخرجه الحاكم من هذا الوجه، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

وعلى تقدير ثوبتها، فقد عارضها ما هو أصح منها.

أما الأول: ففي "الصحيحين" من طريق الزهريّ، عن سعيد بن المسيب،

ص: 455

عن أبيه، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال:"يا عم قل: لا إله إلَّا الله كلمةً أُحاجّ لك بها الله"، فقال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا به، حتى قال آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنّ لك، ما لَمْ أُنْهَ عنك"، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113]، ونزلت:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية [القصص: 56].

فهذا الصحيح يردّ الرواية التي ذكرها ابن إسحاق؛ إذ لو كان قال كلمة التوحيد، ما نَهَى اللهُ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار له، وهذا الجواب أولى من قول من أجاب: بأن العباس ما أَدَّى هذه الشهادة، وهو مسلم، وإنما ذكرها قبل أن يسلم، فلا يُعتدّ بها، وقد أجاب الرافضي المذكور عن قوله:"هو على ملة عبد المطلب" بأن عبد المطلب مات على الإسلام، واستدَل بأثر مقطوع، عن جعفر الصادق، وسنذكره بعدُ، ولا حجة فيه؛ لانقطاعه، وضعف رجاله.

وأما الثاني: وفيه شهادة أبي طالب بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالجواب عنه، وعما وَرَدَ من شعر أبي طالب في ذلك، أنه نظير ما حَكَى الله تعالى عن كفار قريش:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية [النمل: 14]، فكان كفرهم عنادًا، ومنشؤه من الأَنَفَة والكبر، وإلى ذلك أشار أبو طالب بقوله: لولا أن تُعَيِّرني قريش.

وأما الثالث: وهو أثر الْهَوْزنيّ، فهو مرسلٌ، ومع ذلك فليس في قوله:"وصلتك رحم" ما يدُلّ على إسلامه، بل فيه ما يدلّ على عدمه، وهو معارضته لجنازته، ولو كان أسلم لمشى معه، وصلى عليه.

وقد ورد ما هو أصحّ منه، وهو ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، من طريق ناجية بن كعب، عن عليّ رضي الله عنه قال: لما مات أبو طالب، أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن عمك الضالّ قد مات، فقال لي:"اذهب، فواره، ولا تُحْدِثْ شيئًا حتى تأتيني"، ففعلت: ثم جئت، فدعا لي بدعوات. وقد أخرجه الرافضي المذكور من وجه آخر، عن ناجية بن كعب، عن عليّ بدون قوله:"الضالّ".

ص: 456

وأما الرابع، والخامس، وهو أمر أبي طالب ولديه باتباعه، فتركُهُ ذلك، هو من جملة العناد، وهو أيضًا من حسن نصرته له، وذَبِّه عنه، ومعاداته قومه بسببه.

وأما قول أبي بكر فمراده: لأنا كنت أشدّ فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، أي لو أسلم، ويبَيِّن ذلك ما أخرجه أبو قُرّة، موسى بن طارق، عن موسى بن عُبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: جاء أبو بكر بأبي قحافة، يقوده يوم فتح مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟ " قال أبو بكر: أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحقّ لأنا كنت أشدّ فرحًا بإسلام أبي طالب، لو كان أسلم مني بأبي.

وذكر ابن إسحاق أن عُمَر لما عارض العباس في أبي سفيان لَمّا أقبل به ليلة الفتح، فقال له العباس: لو كان من بني عديّ ما أحببت أن يُقْتَل، فقال عمر: أنا بإسلامك إذ أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب، يعني: لو كان أسلم.

ثم ذَكَر الرافضيّ من طريق راشد الْحِمّاني، قال: سئل أبو عبد الله، يعني جعفر بن محمد الصادق: مَنْ أهلُ الجَنَّة؟، فقال: الأنبياء في الجَنَّة، والصالحون في الجَنَّة، والأسباط في الجَنَّة، وأجلُّ العالمين مجدًا محمد صلى الله عليه وسلم يقدُم آدم، فمن بعده من آبائه، وهذه الأصناف يحدثون به، ويحشر عبد المطلب به نور الأنبياء، وجمال الملوك، ويحشر أبو طالب في زمرته، فإذا ساروا بحضرة الحساب، وتبوأ أهل الجَنَّة منازلهم، ودُحر أهل النار ارتفع شهاب عظيم، لا يَشُكّ من رآه أنه غيم من النار، فيحضر كلّ من عرف ربه من جميع الملل، ولم يعرف نبيه، ومن حُشِر أمة وحده، والشيخ الفاني، والطفل، فيقال لهم: إن الجبار تبارك وتعالى يأمركم أن تدخلوا هذه النار، فكل من اقتحمها خَلَص إلى أعلى الجَنَّة، ومن كعَّ عنها غشيته. أخرجه عن أبي بشر، أحمد بن إبراهيم بن يعلى بن أسد، عن أبي صالح الحمادي، عن أبيه، عن جده، سمعت راشد الحماني، فذكره.

وهذه سلسلة شيعية غُلاة في رفضهم، والحديث الأخير وَرَد من عدة طُرُق في حق الشيخ الهَرِم، ومن مات في الفترة، ومن وُلد أكمه، أعمى أصم، ومن

ص: 457

وُلد مجنونًا، أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ، ونحو ذلك، وأن كلًّا منهم يُدلي بحجة، ويقول: لو عقلت، أو ذكرت لآمنت، فتُرفَع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها، فمن دَخَلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن امتنع أُدخلها كرهًا، هذا معنى ما ورد من ذلك.

وما ورد في الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك أبي طالب؟ فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ فقال:"هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل"، فهذا شأن من مات على الكفر، فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلًا، والأحاديث الصحيحة، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك.

وقد فَخَر المنصور على محمد بن عبد الله بن الحسن، لَمّا خَرَج بالمدينة، وكاتبه المكاتبات المشهورة، ومنها في كتاب المنصور: وقد بُعِثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله أربعة أعمام، فآمن به اثنان، أحدهما أبي، وكفر به اثنان، أحدهما أبوك.

ومن شعر عبد الله بن المعتز، يخاطب الفاطميين [من المتقارب]:

وَأَنْتُمْ بَنُو بِنْتِهِ دُونَنَا

وَنَحْنُ بَنُو عَمِّهِ الْمُسْلِمِ

وأخرج الرافضي أيضًا في تصنيفه قصة وفاة أبي طالب، من طريق علي بن محمد بن متيم، سمعت أبي يقول: سمعت جدي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: تَبعَ أبو طالب عبد المطلب في كلّ أحواله، حتى خرج من الدنيا، وهو على ملته، وأوصاني أن أدفنه في قبره، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اذهب فواره"، وأتيته لَمّا أُنزل به، فغسلته، وكفنته، وحملته إلى الحجون، فنَبَشت عن قبر عبد المطلب، فوجدته متوجهًا إلى القبلة، فدفنته معه، قال متيم: ما عَبَدَ عليّ، ولا أحد من آبائه إلَّا الله إلى أن ماتوا. أخرجه عن أبي بشر المتقدم ذكره، عن أبي بردة السلميّ، عن الحسن بن ما شاء الله، عن أبيه، عن علي بن محمد بن متيم، وهذه سلسلة شيعية، من الغُلاة في الرفض، فلا يُفْرَح به، وقد عارضه ما هو أصح منه مما تقدم، فهو المعتمد.

ثم استدل الرافضيّ بقول الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] قال: وقد

ص: 458

عَزَّره أبو طالب بما اشتَهَر، وعُلِم، ونابذ قريشًا، وعاداهم بسببه، مما لا يدفعه أحد من نقلة الأخبار، فيكون من المفلحين. انتهى.

وهذا مبلغهم من العلم، وإنا نُسَلِّم أنه نصره، وبالغ في ذلك، لكنه لَمْ يتبع النور الذي أنزل معه، وهو الكتاب العزيز الداعي إلى التوحيد، ولا يحصل الفلاح إلَّا بحصول ما رُتِّب عليه كلها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وتحرير أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[517]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِث، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ، يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ، وَيَنْصُرُك، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّار، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحجة المشهور [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (يَحُوطُكَ) أي يحفظك.

وقوله: (وَيَنْصُرُكَ) أي يعينك، والنُّصرة: العَوْنُ، تقول العرب: أرضٌ منصورةٌ: أي مُعانة بإتيان المطر، ونزوله عليها

(2)

.

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 196 - 202.

(2)

"المفهم" 1/ 456.

ص: 459

وقوله: (فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ) بفتح الغين المعجمة، والميم: جمع غَمْرة بإسكان الميم، وهي المعظَم من الشيء، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ: هي ما يُغطي الإنسان، وَيغْمُرُه، مأخوذ من الماء الْغَمْر، وهو الكثير، وقد وقع في بعض النسخ:"غبرات"، وهو تصحيفٌ، ولا معنى للغبرات هنا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[518]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(3)

عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَال: حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِث، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ الإمام الحجة الفقيه المشهور، رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: لَمْ يسق المصنّف رحمه الله رواية القطّان هذه، بل أخرج سندها فقط، وقد ساقها الحافظ ابن منده رحمه الله في "كتاب الإيمان"(2/ 887)، فقال:

(958)

أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف الشيباني، ثنا يحيى بن

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 84.

(2)

"المفهم" 1/ 456.

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 460

محمد بن يحيى أبو زكرياء النيسابوري (ع) وأخبرنا علي بن محمد بن نصر، ثنا معاذ بن المثنى، قالا: ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا سفيان بن سعيد الثوريّ، ثنا عبد الملك بن عمير، ثنا عبد الله بن الحارث، ثنا العباس بن عبد المطلب، قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فقد كان يَحُوطك، وينصرك؟ قال:"هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[

] (

) - (ع)(وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، وسفيان هو الثوريّ المذكور قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد سفيان قبله، وهو عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الله بن الحارث، عن العبّاس بن عبد المطّلب.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ) يعني أن حديث سفيان المذكور بهذا الإسناد نحوُ حديث أبي عوانة الذي تقدّم في أول الباب.

[تنبيه]: رواية سفيان من طريق وكيع هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية أبي عوانة، أخرجها الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 279)، فقال:

(512)

حدثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، نا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن سفيان (ع)، وحدثنا أبو محمد بن حيان، نا محمد بن يحيى، ثنا عمرو بن عليّ، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس، أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: عمك أبو طالب، كان يَحُوطك، ويمنعك، ويفعل بك؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لفي ضحضاح من النار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل"، قال: لفظ وكيع. انتهى.

[تنبيه آخر]: إنما فرّق المصنّف رحمه الله بالتحويل بين روايتي سفيان

ص: 461

الثوريّ، اللتين أوردهما من رواية كلّ من يحيى القطّان، ووكيع عنه؛ للاختلاف بينهما في حيغ الأداء، وذلك أن في رواية القطّان وقع التصريح بالتحديث والإخبار فوقه في جميع السند، بخلاف رواية وكيع، فإنها بالعنعنة فوقه، وهذا من دقائق علم الإسناد، ومن دقّة صنيع المصنّف رحمه الله التي امتاز بها على كثير من أئمة الحديث، حتى فضّلوه على البخاريّ في هذا، كما سبق البحث فيه مستوفًى في شرح المقدّمة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[519]

(210) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ الْهَاد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتي بَوْمَ الْقِيَامَة، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، يَبْلُغُ كَعْبَيْه، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(لَيْث) بن سعد بن عبد الرَّحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الفقيه المثبت [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مُكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّاب) الأنصاريّ النّجّاريّ مولاهم المدنيّ، ويقال: إنه أخو مسلم بن خَبّاب، وليس بصحيح، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي سعيد الخدريّ، وعنه القاسم بن محمد، وهو من أقرانه، وعبيد الله بن عمر الْعُمَريّ، وابن إسحاق، وبكير بن عبد الله بن الأشجّ، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

قال الْجُوزَجانيّ: سألتهم عنه، فلم أرهم يتفقون على حَدِّه، ومعرفته، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن

ص: 462

عديّ: حَدَّث عنه أئمة الناس، وهو صدوقٌ، لا بأس به، وقال البخاريّ: روى عنه إسحاق بن يسار، وسمع منه محمد بن إسحاق، في خلافة عمر بن عبد العزيز.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (210)، وحديث (566): "مرّ على زَرّاعة بَصَلٍ هو وأصحابه

"، و (796): "تلك الملائكة كانت تستمع لك

".

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) هو: سعد بن مالك بن سِنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65)، وقيل: سنة (74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 485، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، والليث، فمصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب.

5 -

(ومنها): أن أبا سعيد صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّاب) الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، وكان من ثقات المدنيين، ولم يرو إلَّا عن أً بي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وروى عنه جماعة من أقرانه، ومن بعده، كما أسلفته آنفًا (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ) ببناء الفعل للمفعول، أي ذَكَر بعض الناس، قال في "الفتح": يؤخذ مما سبقَ أن الذاكر هو العباس بن عبد المطّلب رضي الله عنه؛ لأنه الذي سأل عن ذلك. انتهى

(1)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَعَلَّهُ

(1)

"الفتح" 7/ 235 "كتاب المناقب" رقم (3885).

ص: 463

تنفَعُهُ شَفَاعَتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الْمُرْتَجَى في هذا الحديث قد تَحَقّق وقوعه؛ إذ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وجدته في غمرات، فأخرجته إلى ضحضاح"، فكأنه لَمّا ترجّى ذلك أُعطيه، وحُقق له، فأَخْبَرَ به، وهل هذه الشفاعة لبيان قول محقَّق، أو لسان حال؟ اختُلف فيه، فإن تنزّلنا على أنه حقيقة، وأنه صلى الله عليه وسلم شَفَعَ لأبي طالب بالدعاء، والرغبة حتى شُفِّع عارضه قوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48]، وقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وما في معناه.

[والجواب]: من أوجه، أقربها أن الشفاعة المنفيّة إنما هي شفاعة خاصّة، وهي التي تُخلِّص من العذاب، وغاية ما ذُكر من المعارضة إنما هي بين خصوص وعموم، ولا تعارُض بينهما؛ إذ البناء والجمع ممكنٌ.

وإن تنزّلنا على أنه لسان حال، فيكون معناه: أن أبا طالب لَمّا بالغ في إكرام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والذبّ عنه، خُفّف عنه بسبب ذلك ما كان يستحقّه بسبب كفره، مع ما حصل عنده من معرفته صدقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قدّمناه، ولَمّا كان ذلك بسبب وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم، وببركة الحنوّ عليه نسبه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى نفسه، ولا يُستبعد إطلاق الشفاعة على مثل هذا المعنى، فقد سَلَك الشعراء هذا المعنى، فقال بعضهم [من البسيط]:

فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ

إِلَى الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا شَفَعَا

وقد يورَدُ أيضًا على هذا المعنى، فيقال: هذا إثبات نفع الكافر في الآخرة بما عَمِله في الدنيا، وقد نفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله في قصّة ابن جُدْعان الآتي:"لا ينفعه"

(1)

، وبقوله الآتي أيضًا:"وأما الكافر فيُعطَى بحسنات ما عَمِلَ في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لَمْ تكن له حسنةٌ يُجزى بها"

(2)

.

[والجواب]: من وجهين:

[أحدهما]: ما تقدّم في بناء العامّ على الخاصّ.

[والثاني]: أن المخفَّف عنه لَمّا لَمْ يجد أثرًا لِمَا خُفِّف عنه، فكأنه لَمْ ينتفع بذلك، إلا ترى أنه يعتقد أنه ليس في النار أشدّ عذابًا منه، مع أن عذابه

(1)

سيأتي برقم (214).

(2)

سيأتي برقم (2808).

ص: 464

جمرة من جهنّم في أَخْمَصه؟ وسببه أن القليل من عذاب جهنّم - أعاذنا الله منه - لا تطيقه الجبال، وخصوصًا عذاب الكافر، وإنما تظهر فائدة التخفيف لغير المعذَّب، وأما المعذَّبُ فمشتغلٌ بما حَلَّ به؛ إذ لا يُخلَّي، وبغيره يتسلَّي، فيصدُقُ عليه أنه لَمْ ينتفع، ولم يحصل له نفعٌ البتّة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "لعله تنفعه شفاعتي" ظَهَر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستُشكل قوله صلى الله عليه وسلم:"تنفعه شفاعتي" بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48].

وأجيب: بأنه خُصّ، ولذلك عَدُّوه في خصائص النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبيّ.

وقال البيهقيّ في "البعث": صحَّت الرواية في شأن أبي طالب، فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتَنَعَت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يَشْفَع فيهم أحدٌ، وهو عامّ في حق كلّ كافر، فيجوز أن يُخَصّ منه من ئبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره، وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يَضَع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه؛ تطييبًا لقلب الشافع، لا ثوابًا للكافر؛ لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباءً.

وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه: "وأما الكافر فيُعطَى حسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لَمْ تكن له حسنة".

وقال القرطبيّ في "المفهم": اختُلِف في هذه الشفاعة، هل هي بلسان قوليّ، أو بلسان حاليّ؟ والأول يُشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص، والثاني يكون معناه: أن أبا طالب لَمّا بالغ في إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذبّ عنه جُوزي على ذلك بالتخفيف، فأُطلق على ذلك شفاعة؛ لكونها بسببه، قال:

(1)

"المفهم" 1/ 457 - 458.

ص: 465

ويجاب عنه أيضًا: أن المخفف عنه لَمّا لَمْ يجد أثر التخفف، فكأنه لَمْ ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشدّ عذابًا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم، لا تطيقه الجبال، فالمعذَّب لاشتغاله بما هو فيه يَصْدُق عليه أنه لَمْ يحصل له انتفاع بالتخفيف.

وقد يساعده ما عند البخاريّ من حديث أم حبيبة رضي الله عنها في قصة بنت أم سلمة: "أرضعتني وإياه ثويبة"، قال عروة:"إن أبا لهب رؤي في المنام، فقال: لَمْ ألق بعدكم غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة".

وجوّز القرطبيّ في "التذكرة" أن الكافر إذا عُرِض على الميزان، ورَجَحَت كفة سيئاته بالكفر، اضمَحَلَّت حسناته، فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك، فمن كانت له منهم حسنات، مِن عِتْقٍ، ومواساة مسلم، ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيَحْتَمِل أن يُجازَى بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عَمِل؛ لقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الآية [الأنبياء: 47].

قال الحافظ رحمه الله: لكن هذا البحث النظريّ معارَضٌ بقوله تعالى: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} الآية [فاطر: 36]، وحديث أنس الذي تقدّمت الإشارة إليه.

وأما ما أخرجه ابن مردويه، والبيهقيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"ما أحسن مُحْسن من مسلم، ولا كافر، إلَّا أثابه الله!، قلنا: يا رسول الله، ما إثابة الكافر؟ قال: "المال والولد والصحة، وأشباه ذلك"، قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: "عذابًا دون العذاب"، ثم قرأ:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

[فالجواب] عنه: أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته، فيَحْتَمِل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر. انتهى

(1)

.

(فَيُجْعَلُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله ضمير عمه أبي طالب (فِي ضَحْضَاحٍ) تقدّم ضبطه ومعناه قريبًا (مِنْ نَارٍ) بيان لـ "ضحضاح"(يَبْلُغُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى "ضحضاح"(كعْبَيْهِ) تثنية كعب، قال

(1)

"الفتح" 11/ 439 - 440 "كتاب الرقاق" رقم (6564).

ص: 466

الفيّوميّ رحمه الله: الْكَعْبُ من الإنسان اختَلَف فيه أئمة اللغة، فقال أبو عمر بن العلاء، والأصمعيّ، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم عند ملتقى الساق والقدم، فيكون لكلّ قدم كعبان، عن يمينها ويسرتها، وقد صَرَّح بهذا الأزهريّ وغيره، وقال ابن الأعرابيّ، وجماعة: الكعبُ: هو الْمَفْصِل بين الساق والقدم، والجمع كُعُوبٌ، وأَكْعُبٌ، وكِعَابٌ، قال الأزهريّ: الكعبان الناتئان في منتهى الساق مع القدم، عن يمنة القدم ويسرتها، وذهبت الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة، كالأصمعيّ وغيره. انتهى

(1)

.

قال السُّهَيليّ رحمه الله: الحكمة فيه أن أبا طالب كان تابعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملته، إلَّا أنه استَمَرّ ثابتَ القدم على دين قومه، فسُلِّط العذاب على قدميه خاصّة؛ لتثبيته إياهما على دين قومه، قال في "الفتح": كذا قال، ولا يخلو عن نظر. انتهى

(2)

.

(يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ") ووقع في رواية: "يغلي منه أُمّ دماغه"، قال الداوديّ: المراد: أمُّ رأسه، وأطلق على الرأس الدماغ، من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره، ووقع في رواية ابن إسحاق:"يغلي منه دماغه، حتى يسيل على قدمه".

[تكملة]: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة، لَمْ يسلم منهم اثنان، وأسلم اثنان، وكان اسم مَن لَمْ يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما أبو طالب، واسمه عبد مناف، وأبو لهب، واسمه عبد الْعُزَّي، بخلاف من أسلم، وهما حمزة، والعباس رضي الله عنهما، ذكره في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 534 - 535.

(2)

"الفتح" 7/ 235.

(3)

راجع: "الفتح" 7/ 236.

ص: 467

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[96/ 519](210)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3885)، و"الرقاق"(6564)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 8 و 50 و 55)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(281 و 282)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(513)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(97) - (بَابُ بَيَانِ أَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[520]

(211) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) التميميّ، أبو المنذر الخُرَاسانيّ، سكن الشام، ثم الحجاز، ثقةٌ، إلَّا في رواية أهل الشام عنه، فضعيفٌ [7](ت 162)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.

3 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه بآخره [6](ت 138)(ع) تَقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ) الزُّرَقيّ الأنصاريّ، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [4](خ م ت س ق) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 484.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، وكذا شرح الحديث.

وقوله: (إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا) سيأتي التصريح في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي بعد هذا أنه أبو طالب.

ص: 468

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[97/ 520](211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(13/ 157 و (أبو عوانة) في "مسنده"(283) و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(514)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[521]

(212) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ رحمه الله، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْن، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار البصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرَّحمن بن ملّ بن عمرو، تقدّم قبل باب.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو عبد الله البحر الحبر، تقدّم قبل باب، وكذا شرح الحديث.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[97/ 521](212)، و (ابن أبي

ص: 469

شيبة) في "مصنّفه"(13/ 157 - 158)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 290)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(284 و 285)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(515)، و (ابن منده) في "الإيمان"(962)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 581)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[522]

(213) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُل، تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَان، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبت [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد بن بشّار بن عثمان العبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 381.

5 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) السبيعيّ، عمرو بن عبد الله الكوفيّ، ثقة مكثرٌ عابدٌ، اختلط بآخره، ويدلّس [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

6 -

(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سَعْد بن ثَعلبة بن جُلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أبو عبد الله المدنيّ، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رَوَاحة.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خاله عبد الله بن رواحة، وعمر، وعائشة رضي الله عنهم.

ص: 470

ورَوَى عنه ابنه محمد، ومولاه حبيب بن سالم، والشعبيّ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، وأبو قلابة الجرمي، وأبو سلام الأسود، وسالم بن أبي الجعد، وحميد بن عبد الرَّحمن بن عوف، وخيثمة بن عبد الرَّحمن، وسماك بن حرب، والْعَيْزار بن جُرَيث، والمفضل بن المهلب بن أبي صُفرة، وأزهر بن عبد الله الحرازيّ، وآخرون.

قال الواقدي: وُلد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وهو أول مولود وُلد في الأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول الأكثر: إنه وُلد هو وابنُ الزبير عام اثنتين من الهجرة، وقيل غير ذلك. ورُوي نحوُه عن جابر أنه قال: أنا أسنّ منه بنحو من عشرين سنة، وما وُلد قبل بدر إلَّا بثلاثة أشهر أو أربعة. وقال يحيى بن معين: ليس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا يقول فيه: "سمعت" إلَّا في حديث الشعبي: "إلا وإنّ في الجسد مضغةً

"، والباقي من حديثه إنما هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه "سمعت". وقال أيضًا: أهل المدينة يقولون: لَمْ يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العراق يصححون سماعه منه. وقال أبو نعيم: كان أميرًا على الكوفة في عهد معاوية. وقال أبو حاتم: كان أميرًا على الكوفة تسعة أشهر. وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فَضَالة بن عُبيد. وقال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهيثم بن عديّ: عَزَله معاوية عن الكوفة، ثم ولاه حمص. وقال ابن سعد: أُخبرت عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن سعيد، عن عبد الملك بن عمير قال: أتى بَشِير بن سعد بالنعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ادع له، فقال: "أما ترضى أن يبلغ ما بلغت، ثم يأتي الشام فيقتله منافق من أهل الشام؟ ". وقال أبو مسهر: كان النعمان بن بشير عاملًا على حمص، فبايع لابن الزبير - يعني بعد موت يزيد بن معاوية - فلما تمرد أهل حمص خرج هاربًا، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال خليفة بن خياط: وفي أول سنة خمس وستين خرج النعمان من حمص، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال المفضل الغلابي وغيره: قُتل سنة ست وستين.

أخرج له الجماعة، وروى (124) حديثًا، اتفق الشيخان على خمسة،

ص: 471

وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بأربعة أحاديث، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا

(1)

.

وقوله: (فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ) - بخاء معجمة، وصاد مهملة - وزن أحمر: ما لا يَصِلُ إلى الأرض من باطن القدم عند المشي، قاله في "الفتح".

وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَمِصَ القدمُ خَمَصًا، من باب تَعِبَ: ارتفعت عن الأرض، فلم تمسّها، فالرجل أخمصُ القدم، والمرأةُ خَمْصاء، والجمعُ خُمْصٌ، مثلُ أحمر، وحَمْراء، وحُمْر؛ لأنه صفة، فإن جمعت القدمَ نفسَهَا قُلتَ: الأَخَامص، مثلُ الأفضل والأفاضل؛ إجراءً له مُجرَى الأسماء، فإن لَمْ يكن بالقدم خَمَصٌ، فهي رَحَّاءُ - براء وحاء مشدّدة مهملتين، وبالمدّ. انتهى

(2)

.

وقوله: (جَمْرَتَانِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: جَمْرة النار: القِطعة الْمُلْتَهِبة، والجمعُ جَمْرٌ، مثلُ تمرة وتمر، وجمع الجمرة جَمَرَات، وجِمَار. انتهى

(3)

.

وقوله: (يَغْلِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه: مضارع غَلا، يقال: غَلَتِ القِدرُ غَلْيًا، من باب ضرب، وغَلَيَانًا أيضًا، قال الفرّاء: إذا كان الفعل في معنى الذهاب والمجيء مضطربًا، فلا تهابنّ في مصدره الْفَعَلانَ، وفي لغة: تَغْلَى، من باب تَعِب، قال أبو الأسود الدُّؤليّ:

وَلَا أَقُولُ لِقِدْرِ الْقَوْمِ قَدْ غَلِيَتْ

وَلَا أَقُولُ لِبَابِ الدَّارِ مَغْلُوقُ

والأولى هي الفُصحى، وبها جاء الكتاب العزيز في قوله تعالى:

{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)} [الدخان: 45]، ويتعدّى بالهمز، فيقال: أغليتُ الزيتَ ونحوه إغلاءً، فهو مُغْلًى، أفاده الفيّوميّ

(4)

.

وقوله: (مِنْهُمَا دِمَاغُهُ) أي من الجمرتين، و"الدِّمَاغ" بالكسر، كالكتاب:

(1)

هذا ما أثبت له في برنامج الحديث (صخر)، والذي قبله ذكره ابن الجوزيّ في "المجتبى"، والظاهر أن هذا الاختلاف بالمكرّر، فلا تخالف بينهما، والله تعالى أعلم.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 182.

(3)

"المصباح" 1/ 108.

(4)

"المصباح" 2/ 452 - 453.

ص: 472

مُخُّ الرأس، أو أُمُّ الْهَام، أو أُمُّ الرأس، أو أُمُّ الدِّمَاغ: جُلَيْدة رَقيقةٌ، كخريطة هو فيها، جمعه أَدْمِغَةٌ، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[97/ 522 و 523](213)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6561 و 6562)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2604)، و (أحمد) في "مسنده"(2529 و 17923 و 17946)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(286 و 287)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(517)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 580 - 581)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[523]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، مَنْ لَهُ نَعْلَان، وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ، مَا يَرَى أَن أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد تقدّم الثلاثة الأولون قبل باب، والباقيان في السند الماضي.

وقوله: (نَعْلَانِ) تثنية نَعْل: وهي الْحِذَاء، وهي مؤنّثةٌ، والجمع أَنْعُل، ونِعَال، مثلُ سَهْم، وأَسْهُم، وسِهَام

(2)

.

وقوله: (وَشِرَاكَانِ) تثنية شِراك، بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الراء، قال الفيّوميّ: شِرَاكُ النعل: سَيْرُها الذي على ظهر القدم. انتهى

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 702.

(2)

"المصباح" 2/ 613.

(3)

"المصباح" 1/ 311.

ص: 473

وقوله: (كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ) وفي رواية البخاريّ: "كما يَغْلِي الْمِرْجَل بالقُمْقُم".

و"الْمِرْجَل" - بكسر الميم، وبسكون الراء، وفتح الجيم، بعدها لام -: قِدْرٌ من نُحَاس، ويقال أيضًا لكل إناء يُغْلَى فيه الماءُ من أَيّ صِنْفٍ كان.

و"الْقُمْقُم" - بضم القافين، وسكون الميم الأولى -: معروف من آنية العَطّار، ويقال: هو إناءٌ ضَيّق الرأس، يُسَخَّنُ فيه الماء، يكون من نُحَاس وغيره، فارسيٌّ، ويقال: رُوميّ، وهو مُعَرَّب، وقد يؤنث، فيقال: قُمْقُمَةٌ.

قال ابن التين رحمه الله: في هذا التركيب نظرٌ، وقال عياض رحمه الله: الصواب: كما يغلي الْمِرْجل، والقمقم، بواو العطف، لا بالباء، وجَوَّز غيره أن تكون الباء بمعنى "مع"، وقيل:"القُمْقُم": هو الْبُسْرُ، كانوا يُغْلُونه على النار؛ استعجالًا لنُضْجه، فإن ثبت هذا زال الإشكال.

ووقع في رواية الإسماعيليّ: "كما يَغْلِي الْمِرْجَل، أو القمقم" بالشك.

وقال ابن الأثير رحمه الله: كذا وقع: "كما يَغْلِي المرجل بالقمقم"، وفيه نظرٌ، ووقع في نسخة:"كما يَغْلِي المرجل والقمقم"، وهذا أوضِح إن ساعدته الرواية. انتهى. ذكره في "الفتح"

(1)

، وقوله:(وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا)، جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يَرَى"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(98) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[524]

(214) - (حَدَّثَنِي

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 234 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3885)، و 11/ 439 "كتاب الرقاق" رقم (6562).

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 474

غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ

(1)

نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ الحافظ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عُمَر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيه، تغيّر في الآخر قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3](ت بعد 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.

5 -

(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

6 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنهما (ت 57)(ع) تقدّمت في شرح "المقدّمة" ج 1 ص 315، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وداود علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير عائشة رضي الله عنهما، فمدنيّة.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: داود، عن الشعبيّ، عن مسروق.

(1)

وفي نسخة: "فهل ذلك".

ص: 475

5 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنَّها (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ابْنُ جُدْعَانَ) هو: عبد الله بن جُدْعان - بضم الجيم، وإسكان الدال المهملة، وبالعين المهملة - كان كثيرَ الإطعام، وكان اتّخَذ للضِّيفان جَفْنةً، يُرْقَى إليها بِسُلَّم، وكان من بني تيم بن مُرّة أقرباء عائشة رضي الله عنها، وكان من رؤساء قريش

(1)

، (كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي في الأيّام التي قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، سُمُّوا بذلك؛ لكثرة جهالاتهم (يَصِلُ الرَّحِمَ) معنى صِلَة الرحم هو الإحسان إلى الأقارب، وقد تقدّم بيانها، وقوله:(وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" من طريق عُبيد بن عُمير، عن عائشة رضي الله عنها:"قالت: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن عبد الله بن جُدعان كا في الجاهليّة يَقري الضيف، وَيَصِل الرحم، وَيفُكّ العاني، ويحسن الجِوَار، فأثنيتُ عليه، هل نفعه ذلك؟ ".

(فَهَلْ ذَاكَ) وفي نسخة: "فهل ذلك"(نَافِعُهُ؟) أي فهل ينتفع بثواب هذا العمل؛ لأنه من أعمال الخيرات التي وعد الله تعالى عباده أن يُثيبهم عليها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا يَنْفَعُهُ) أي لا يثاب على هذا العمل، ثم ذكر علّة عدم انتفاعه به، فقال:(إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها في الابتداء، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدَّر، والتقدير هنا: لِمَ لا ينفعه؟، فأجاب بقوله: "إنه لَمْ يقل

إلخ".

(يَوْمًا) أي وقتًا من أوقات عمره، والمراد هنا آخر لحظة من حياته، ثم مات عليه؛ لأن ما حصل قبل ذلك لا ينفع أيضًا إذا لَمْ يستمرّ عليه حتى الموت (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ") أي لَمْ يكن مُصَدِّقًا بالبعث، ومَن لَمْ يُصَدِّق به كافرٌ، والكافر لا ينفعه أيُّ عمل من أعمال البرّ؛ لإحباطه بكفره، كما أخبر الله تعالى بذلك، فقال:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 87.

ص: 476

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى قولها: "هل ذلك نافعه؟ " أي: هل ذلك مُخلِّصه من عذاب الله الْمُسْتَحَقِّ بالكفر؟، فأجابها بنفي ذلك، وعلّله بأنه لَمْ يؤمن، وعَبّر عن الإيمان ببعض ما يدُلّ عليه، وهو قوله:"لَمْ يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أن ما كان يفعله من الصِّلة، والإطعام، ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة؛ لكونه كافرًا، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشدُّ عذابًا مَن بعض، بحسب جرائمهم. انتهى.

وذكر الإمام الفقيه الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله في كتابه "البعث والنشور" نحو هذا عن بعض أهل العلم والنظر، قال البيهقيّ: وقد يجوز أن يكون حديث ابن جُدْعان، وما ورد من الآياتِ والأخبار في بطلان خيرات الكافر، إذا مات على الكفر، وَرَدَ في أنه لا يكون لها مَوْقِعُ التخلص من النار، وإدخال الجَنَّة، ولكن يُخَفَّف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر، بما فعل من الخيرات. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[98/ 524](214)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3121)، و (ابن ماجة) في "الزهد"(4279)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 93 و 134 و 101)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 328)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(330 و 331)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 352 و 405)، و (أبو

(1)

"المفهم" 1/ 459.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 87.

ص: 477

عوانة) في "مسنده"(290 و 291 و 292)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(518)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من مات على الكفر، لا ينفعه ما عمله من وجوه الخير.

2 -

(ومنها): بيان فضل الإيمان، وأنه هو الركن الأساسيّ لقبول أعمال العباد.

3 -

(ومنها): بيان شؤم الكفر، وأنه من مُحبطات الأعمال الصالحات.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يُقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يقل: رب اغفر لي

إلخ"، أن كلَّ لفظ يدلّ على الدخول في الإسلام اكتُفي به، ولا يلزم من أراد الدخول في الإسلام صيغة مخصوصة، مثلُ كلمتي الشهادة، بل أيّ شيء دلّ على صحّة إيمانه، ومجانبة ما كان عليه، اكتُفي به في الدخول في الإسلام، ولا بدّ له مع ذلك من النطق بكلمتي الشهادة، فإن النطق بهما واجب مرّةً في العمر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال، ولكن فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه إن أراد لمن لَمْ يتمكّن من النطق بالشهادتين في الحال، فمسلّم، وإلا فلا بدّ من النطق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله

" الحديث، وكذا قوله: مرّة في العمر، غير صحيح، بل كلام باطلٌ، كيف يُتصوّر أن يكون المسلم لا يتلفّظ في عمره إلَّا مرّة واحدة؟ إلا يُصلي الصلوات الخمس، وفيها الشهادتان، وغيرهما من أذكار التوحيد، ألا يؤذّن لها؟ إن هذا لشيء عجيب!!!.

5 -

(ومنها): أن مسألة عدم انتفاع الكافر بعمله في الآخرة، وعدم قبولهما منهم، متّفقٌ عليها، فقد دلّ الكتاب والسنّة، والإجماع على ذلك، قال الله سبحانه وتعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

وأخرج المصنّف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً، يُعْطَى بها في الدنيا، ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطْعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى

ص: 478

الآخرة لَمْ تكن له حسنة يُجزَى بها"

(1)

.

وأما مسألة تخفيف العذاب عنهم، فقد نفاه بعض أهل العلم، كالقاضي عياض، كما يظهر من كلامه في "الإكمال"، فقال ما ملخّصه: إن القول: بأنه تخفيف إنما هو بالنسبة لمن هو أشدّ منه عذابًا، لا تخفيف عن"الكافر مما يستحقّه على الكفر، لكن لَمْ يوافقه عليه غيره.

قال البيهقيّ رحمه الله: ما ورد من الآياتِ والأخبار في بطلان خيرات من مات على الكفر إنما ورد في أنَّها لا تنفعهم في النجاة من النار، ولا في دخول الجنّة، ويجوز أن يُخفّف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.

وذكر الحافظ أن كلام القاضي لا يردّ كلام البيهقيّ، ثم قال: فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلّق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر في المانع من تخفيفه؟.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا خاصّ بمن ورد فيه النصّ.

وقال ابن المنيّر رحمه الله: هنا قضيّتان:

[إحداهما]: محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.

[الثانية]: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضّلًا من الله تعالى، وهذا لا يُحيله العقل، والمتّبع في ذلك التوقيف نفيًا وإثباتًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنيّر رحمه الله حسن جدًّا، وهو معنى ما قاله القرطبيّ رحمه الله.

وحاصله: أن تخفيف العذاب الوارد في هذه النصوص مقصور على من ورد فيهم، ولا يُتجاوز إلى غيرهم، وأن المراد به تخفيف عذاب غير الكفر، وهو ما قاله البيهقيّ، وحَمَلَ عليه الحافظ قول القاضي عياض، وبهذا تتّفق الأقوال، ويرتفع الخلاف - بحمد الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

سيأتي في "صفة القيامة" برقم (2808).

ص: 479

(99) - (بَابُ مُوَالاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُقَاطَعَةِ غَيْرِهِمْ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[525]

(215) - (حَدَّثَني أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا، غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ. "أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ

(1)

، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيبانيّ المروزيّ، أبو عبد الله نزيل بغداد الإمام المجتهد الحافظ الورع، رأس الطبقة [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) هو المعروف بغندر، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 299.

5 -

(قَيْس) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت بعد 90) أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

6 -

(عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) بن وائل السَّهْميّ الصحابيّ المشهور، أسلم عام الْحُديبية، ووليَ إمرة مصر مرّتين، وهو الذي افتتحها، مات بمصر سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "ليسوا بأوليائي، وإنما".

ص: 480

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

4 -

(ومنها): ما قاله الحافظ رحمه الله في "الفتح": لَمْ أَرَ هذا الحديث عند أحد من أصحاب شعبة إلَّا عند محمد جعفر غندر، إلَّا ما أخرجه الإسماعيليّ من رواية وهب بن حفص، عن عبد الملك بن إبراهيم الْجُدّيّ، عن شعبة، ووهبُ بن حفص كَذَّبُوهُ. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن قيس بن أبي حازم هذا هو الذي اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، ولا يُشاركه في ذلك أحدٌ من التابعين، وأخطأ أبو عبد الله الحاكم في عدّه معه سعيد بن المسيّب، وغيره، كما أشار إلى ذنك السيوطي رحمه الله في "ألفيّة الحديث" عند ذكره طبقات التابعين، بقوله:

وَالتَّابِعُونَ طَبَقَات عَشَرَهْ

مَعْ خَمْسَةٍ أَوَّلُهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ

وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ

وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": ليس لقيس بن أبي حازم في "الصحيحين" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه غير هذا الحديث، ولعمرو في "الصحيحين" حديثان آخران: حديث: "أَيُّ الرجال أحب إليك؟

"، وحديث: "إذا اجتهد الحاكم

"، وله حديث آخر مُعَلَّق عند البخاريّ في "المبحث النبويّ"، وآخر في "كتاب التيمّم"، وعند مسلم حديث آخر في السحور، وهذا جميع ما له عندهما من الأحايث المرفوعة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وفي رواية البخاريّ: "أن عمرو بن العاص قال"

(1)

"الفتح" 10/ 433 "كتاب الأدب" رقم (5990).

(2)

"الفتح" 10/ 433 "كتاب الأدب" رقم (5990).

ص: 481

ووقع في رواية بيان بن بِشْرٍ، عن قيس:"سمعتُ عمرو بن العاص"(قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا) يَحْتَمِل أن يَتَعَلَّق بالمفعول، أي كان المسموع في حالة الجهر، ويَحْتَمِل أن يتعلق بالفاعل، أي أقول ذلك جهارًا، وقوله:(غَيْرَ سِرٍّ) تأكيد لذلك؛ لدفع توَهُّم أنه جَهَرَ به مرّةً، وأخفاه أخرى، والمراد أنه لَمْ يقل ذلك خُفْيَةً، بل جَهَر به، وأشاعه (يَقُولُ:"أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا) قال النوويّ رحمه الله: هذه الكناية بقوله: "يعني فلانًا" هي من بعض الرواة، خَشِيَ أن يُسَمِّيه، فيترتب عليه مفسدة وفتنة، إما في حقّ نفسه، وإما في حقّه، وحقّ غيره، فكَنَى عنه، والغرض إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما وليّي الله، وصالح المؤمنين"، قال القاضي عياض رحمه الله: قيل: إن الْمَكْنِيَّ عنه ها هنا هو الحكم بن أبي العاص، والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال ابن التين رحمه الله: حُذفت التسمية؛ لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم

(1)

.

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "إنّ آل أبي" دون ذكر ما يُضاف إليه أصلًا، قال في "الفتح": كذا للأكثر بحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته، لكن كَنَى عنه، فقال:"آل أبي فلان"، وكذا هو في روايتي مسلم، والإسماعيليّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلا إن آل أبي فلان"، كذا وقع للسمرقنديّ، ولغيره:"إلا إن آل أبي - يعني: فلانًا"، وفي رواية "فُلانٍ" على الحكاية، وهذا كناية عن قوم معيّنين، كَرِهَ الراوي تسميتهم؛ لما يخاف مما يقع في نفوس ذراريّهم، وقيل: إن المكنيّ عنه هو الحكم بن أبي العاصي. انتهى.

وقال أيضًا: وقد وقع في أصل كتاب مسلم موضعَ "فلان" أبيض، لَمْ يُكتب عليه شيءٌ، بياضٌ، ثم كَتَبَ بعضُ الناس فيه "فلان" على سبيل الإصلاح، و"فلان" كناية عن اسمٍ عَلَمٍ، ولهذا وقع لبعض رواته:"إن آل أبي - يعني فلان -"، ولبعضهم:"إن آل أبي فلان" بالجزم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 10/ 434.

(2)

"المفهم" 1/ 461 بزيادة من "الفتح" 10/ 433.

ص: 482

[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله عند قوله: "إن آل أبي" ما نصّه: "قال عمرو: في كتاب محمد بن جعفر بياض". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "قال عمرو" هو ابن عباس، شيخ البخاريّ فيه، قوله:"في كتاب محمد بن جعفر" أي غندر، شيخ عمرو فيه، قوله:"بياض"، قال عبد الحق في كتاب"الجمع بين الصحيحين": إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض، يعني: بغير كتابة، وفَهِمَ منه بعضهم، أنه الاسم المكنيّ عنه في الرواية، فقرأه بالجرّ، على أنه في كتاب محمد بن جعفر:"إن آل أبي بياض"، وهو فَهْمٌ سَيِّيءٌ ممن فَهِمه؛ لأنه لا يُعْرَف في العرب قبيلة، يقال لها: آل أبي بياض، فضلًا عن قريش، وسياق الحديث مُشْعِرٌ بأنهم من قبيلة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي قريشٌ، بل فيه إشعار بأنهم أخصّ من ذلك؛ لقوله:"إن لهم رَحِمًا"، وأبعد مَن حَمَله علي بني بياضة، وهم بطن من الأنصار؛ لما فيه من التغيير، أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياقَ أيضًا.

وقال عياض: إن المكنيّ عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص.

وقال ابن دقيق العيد: كذا وقع مبهمًا في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية، ولا يستقيم مع قوله:"آل أبي"، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصحّ تقدير آل أبي العاص؛ لأنهم أخصّ من بني أمية، والعامّ لا يُفَسَّر بالخاص.

قال الحافظ: لعل مراد القائل أنه أطلق العام، وأراد الخاص، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها أن آل بني، لكن وهبٌ لا يعتمد عليه

(1)

.

وجزم الدمياطيّ في "حواشيه" بأنه آل أبي العاص بن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد: إنه رأى في كلام ابن العربيّ في هذا شيئًا يُراجَعُ منه.

قال الحافظ: قال أبو بكر بن العربيّ في "سراج المريدين": كان في أصل حديث عمرو بن العاص: "إن آل أبي طالب"، فغُيِّر "آل أبي فلان"، كذا جَزَم به، وتعقّبه بعض الناس، وبالغ في التشنيع عليه، ونسبه إلى التحامل على

(1)

تقدّم أنهم كذّبوه.

ص: 483

آل أبي طالب، ولم يُصِبْ هذا المنكِر، فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربيّ موجودة في "مستخرج أبي نعيم"، من طريق الفضل بن الموفَّق، عن عنبسة بن عبد الواحد، بسند البخاريّ عن بيان بن بِشْر، عن قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص، رفعه:"إن لبني أبي طالب رَحِمًا أَبُلُّها ببلالها"، وقد أخرجه الإسماعيليّ من هذا الوجه أيضًا، لكن أبهم لفظ "طالب"، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظَنُّهم أن ذلك يقتضي نقصًا في آل أبي طالب، وليس كما توهموه، كما سأوضحه إن شاء الله تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمْلُه على آل أبي طالب، كما يراه الحافظ عندي محلّ نظر؛ إذ الدليل الذي استدلّ به عليه ليس واضحًا في هذا، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(لَيْسُوا لِي بِأَوْليَاءَ) كذا معظم النسخ، وفي بعض النسخ:"ليسوا بأوليائي" بحذف لفظة "لي"، وإضافة "أولياء" لياء المتكلّم، وكذا وقع عند البخاريّ، قال في "الفتح": قوله: "ليسوا بأوليائي" كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذرّ "بأولياءَ"، فنقل ابن التين، عن الداوديّ: أن المراد بهذا النفي مَن لَمْ يُسْلِم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هَذا المجموع، لا الجميع، وقال الخطابيّ: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص، لا ولاية الدين، ورجّح ابن التين الأول، وهو الراجح، فإن مِن جملة آل أبي طالب عليًّا، وجعفرًا، وهما من أخصّ الناس بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة، والقَدَم في الإسلام، ونصر الدين.

[تنبيه]: قد استَشْكَل بعضُ الناس صحة هذا الحديث؛ لما نُسِبَ إلى بعض رواته من النصب، وهو الانحراف عن عليّ، وآل بيته.

قال الحافظ رحمه الله: أما قيس بن أبي حازم، فقال يعقوب بن شيبة: تكلَّم أصحابنا في قيس، فمنهم من رَفَع قدره، وعَظَّمه، وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد، حتى قال ابن معين: هو أوثق من الزهريّ، ومنهم مَن حَمَلَ عليه،

(1)

"الفتح" 10/ 433 - 434 "كتاب الأدب" رقم (5990).

ص: 484

وقال: له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب، وإفراده

(1)

لا يقدح فيه.

ومنهم: مَن حَمَل عليه في مذهبه، وقال: كان يَحْمِل على عليّ، ولذلك تَجَنَّب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب مَن أطراه بأنه كان يُقَدِّم عثمان على عليّ فقط.

والمعتمد عليه أنه ثقةٌ ثبتٌ، مقبول الرواية، وهو من كبار التابعين، سَمِعَ من أبي بكر الصديق، فمن دونه، وقد رَوَى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بِشْر، وهما كوفيان، ولم يُنْسَبا إلى النَّصْب، لكن الراوي عن بيان، وهو عنبسة بن عبد الواحد أُمويّ، قد نُسِب إلى شيء من النَّصْب.

وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإن كان بينه وبين عليّ ما كان، فحاشاه أن يُتَّهَمَ.

وللحديث مَحْمِلٌ صحيحٌ، لا يستلزم نقصًا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع، كما تقدم.

وَيَحْتَمِل أن يكون المراد بآل أبي طالب، أبو طالب نفسه، وهو إطلاق سائغ، كقوله في أبي موسى رضي الله عنه:"إنه أُوتي مِزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"آل أبي أوفى"، وخَصَّه بالذكر مبالغةً في الانتفاء، ممن لَمْ يُسْلِم؛ لكونه عمَّه وشقيقَ أبيه، وكان الْقَيِّم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لَمْ يتابعه على دينه، انتفى من موالاته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أسلفت آنفًا أن حمله على آل أبي طالب ليس عليه دليلٌ واضح، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(إِنَّمَا) وفي نسخة: "وإنما" بالواو (وَلِيِّيَ اللهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ") هكذا وقع بإفراد "صالح"، هنا، وعند البخاريّ، والمراد به معنى الجمع؛ لأنه مفرد مضافٌ، فيعُمّ، وقال في "الفتح": كذا للأكثر بالإفراد، وإرادة الجماعة، وهو اسم جنس، ووقع في رواية الْبَرْقانيّ:"وصالحو المؤمنين" بصيغة الجمع، وقد

(1)

هكذا نسخة "الفتح" 10/ 434، ولعله:"وانفراده لا يقدح فيه"، وليُحرّر.

(2)

"الفتح" 10/ 434 "كتاب الأدب" رقم (5990).

ص: 485

أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل: "فإن الله هو مولاه، وجبريل وصالحو المؤمنين" لكن حُذِفت الواو من الخطّ على وفق النطق، وهو مثل قوله:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 18]، وقوله:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، وقوله:{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24].

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: إنما وَليّي مَن كان صالحًا، وإن بَعُدَ نسبه مني، وليس وَلِيِّي مَن كان غير صالح، وإن كان نسبه قريبًا منّي. انتهى

(1)

.

وقد وقع في شرح "المشكاة": المعنى: أني لا أُوالي أحدًا بالقرابة، وإنما أحبّ الله تعالى لما له من الحقّ الواجب على العباد، وأحبُّ صالح المؤمنين؛ لوجه الله تعالى، وأُوالي مَن أوالي بالإيمان والصلاح، سواء كان مِن ذوي رَحِم أو لا، ولكن أَرْعَى لذوي الرحم حقَّهم صلة الرحم. انتهى، قال الحافظ رحمه الله: وهو كلام مُنَقَّح. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[99/ 525](215)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5990)، وزاد البخاريّ تعليقًا:"ولكن لهم رَحِمٌ، أَبُلّها ببَلالها"، ووصله أبو عوانة، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 203)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(276 و 277)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(528)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب موالاة المؤمنين، ومقاطعة غيرهم، والبراءة منهم.

2 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: دلّ الحديث على أن الولاية في الإسلام إنما هي بالموافقة فيه بخصال الديانة، وزمام الشريعة، لا بامتشاج

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 88.

(2)

"الفتح"435.

ص: 486

النسب، وشُجْنة الرحم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فائدة الحديث انقطاعُ الولاية في الدين بين المسلم والكافر، ولو كان قريبًا حميمًا.

وهذا الذي قالاه أصل عظيم من أصول الدين، وهو من لوازم كلمة التوحيد، وهو المعبَّر عنه بالولاء والبراء، أو الموالاة والمعاداة في الله عز وجل، وأصل الموالاة المحبّة والقرب، وأصل المعاداة البغض والبعد، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح أمورٌ كثيرة من صميم هذا الدين، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، والإكرام، والاحترام، والكُرْه، والعداوة، فيجب على المؤمن محبّة الله، ورُسُله، وأتباعهم، وبغض أعداء الله، وأعداء الرسل، وأتباعهم، وقد تجتمع في المؤمن أسباب المحبّة والبغض بقدر ما فيه من خصال الخير والشرّ.

ومُسمّى الموالاة لأعداء الله تعالى يقع على شُعب كثيرة متفاوتة الأحكام، فمنها ما يوجب الرّدّةَ، وذهاب الإسلام بالكلّيّة، ومنها ما دون ذلك، من الكبائر والمحرّمات، وكذا معاداة المؤمنين المستقيمين على دين الله تعالى.

وقد دلّ على هذا الأصل العظيم الكتاب، والسنّة، والإجماع، فمن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} الآية [المجادلة: 20 - 22]، وقوله:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} الآية [البقرة: 257]، وقوله:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} الآية [آل عمران: 28]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 893.

ص: 487

وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة: 1]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10].

فليبادر من ابتُلي بمخالفة هذه النصوص، بأن والى أعداء الله، أو عادى أولياء الله بالتوبة النصوح؛ إذ هي تَجُبّ ما قبلها، وقد قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذَّنْب كمن لا ذنب له"، حديث حسنٌ

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: أوجب في هذا الحديث الولايةَ بالدين، ونفاها عن أهل رَحِمِه إن لَمْ يكونوا من أهل دينه، فَدَلّ ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لَمْ يكونوا على دين واحد لَمْ يكن بينهم توارث، ولا ولاية.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله أيضًا: أنه يستفاد منه أن الرحم المأمور بصلتها، والمتوعَّدَ على قطعها هي التي شُرع لها ذلك، فأما مَن أُمِر بقطعه من أجل الدين، فَيُسْتَثنَى من ذلك، ولا يُلْحَق بالوعيد مَن قطعه؛ لأنه قَطَع من أمر الله بقطعه، لكن لو وُصِلوا بما يُباح من أمر الدنيا لكان فضلًا، كما دعا صلى الله عليه وسلم لقريش بعد أن كانوا كَذَّبوه، فدعا عليهم بالقحط، ثم استَشْفَعُوا به، فَرَقَّ لهم لَمّا سألوه بِرَحِمهم، فَرَحِمَهم، ودعا لهم. انتهى.

قال الحافظ: ويُتعَقَّب كلامه في موضعين:

[أحدهما]: يشاركه فيه كلام غيره، وهو قصره النفي على مَن ليس على الدين، وظاهر الحديث أن مَن كان غير صالح في أعمال الدين، دخل في النفي أيضًا؛ لتقييده الولاية بقوله:"وصالحُ المؤمنين".

(1)

أخرجه ابن ماجة في "سننه" في "كتاب الزهد"(4240)، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 488

[والثاني]: أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أَيِسَ منه رجوعًا عن الكفر، أو رَجَا أن يَخرُج من صلبه مسلمٌ، كما في الصورة التي استَدَلّ بها، وهي دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لقريش بالْخِصْب، وعَلَّل بنحو ذلك، فيَحتاج مَن يترخص في حلة رحمه الكافر، أن يَقْصِد إلى شيء من ذلك، وأما من كان على الدين، ولكنه مُقَصِّرٌ في الأعمال مثلًا، فلا يشارك الكافر في ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تعقّبٌ جيِّد، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن في قوله: "جِهَارًا": أي علانيةً، لَمْ يُخفِه، بل باح به، وأظهره، وأشاعه، مشروعيّةَ الإعلان بالتبرُّؤِ من المخالفين، وبموالاة الصالحين، لكن إن لَمْ يَخَف ترتُّبَ فتنة عليه.

6 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة، ورواة الحديحث من الستر على المجروح، والتكنية عنه؛ دفعًا للمفاسد المترتّبة على التصريح به، إما منه، أو من أحد أقاربه، وهذا كلّه إذا لَمْ يترتّب مفسدة في عدم ذكره، وإلا فالواجب إظهاره، والتصريح به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4]:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:

[أحدها]: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أخرجه الطبريّ، وابن أبي حاتم، عن قتادة، وأخرجه الطبريّ، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوريّ، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد.

[الثاني]: الصحابة رضي الله عنهم، أخرجه ابن أبي حاتم عن السديّ، ونحوه في "تفسير الكلبيّ"، قال: هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وأشباههم، ممن ليس بمنافق.

[الثالث]: خيار المؤمنين، أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك.

[الرابع]: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصريّ.

ص: 489

[الخامس]: أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، أخرجه الطبريّ، وابن مردويه عن ابن مسعود، مرفوعًا، وسنده ضعيف، وأخرجه الطبريّ، وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضًا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفيّ، أحدِ الضعفاء بسنده، عن ابن عباس، موقوفًا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيفٍ عنه كذلك، قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن بُريدة، ومقاتل بن حيان كذلك.

[السادس]: أبو بكر رضي الله عنه خاصةً، ذكره القرطبيّ عن المسيب بن شريك.

[السابع]: عمر رضي الله عنه خاصةً، أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبريّ بسند ضعيف، عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند وَاهٍ جدًّا عن ابن عباس.

[الثامن]: عليٌّ رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي حاتم، بسند منقطع، عن عليّ نفسه مرفوعًا، وأخرجه الطبريّ بسند ضعيف عن مجاهد، قال: هو عليّ، وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين، من حديث أسماء بنت عُمي مس مرفوعًا، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب"، ومن طريق أبي مالك، عن ابن عباس مثله موقوفًا، وفي سنده رَاوٍ ضعيف، وذكره النقاش عن ابن عباس، ومحمد بن عليّ الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق.

قال الحافظ: فإن ثبت هذا، ففيه دفع تَوَهُّم مَن تَوَهَّم أن في الحديث المرفوع نقصًا من قدر عليّ رضي الله عنه، ويكون المنفيّ أبا طالب، ومن مات من آله كافرًا، والْمُثْبَتُ مَن كان منهم مؤمنًا، وخُصَّ عليّ بالذكر؛ لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة، ونَصّ فيها على عليّ تنويهًا بقدره، ودفعًا لظن مَن يَتَوَهَّم عليه في الحديث المذكور غَضَاضةً، ولو تفطّن مَن كَنَى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صَنَعَ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 490

(100) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى دُخُولِ زُمْرَةٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أَولَ الكتاب قال:

[526]

(216) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ - يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٌ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ"، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ الْجُمَحِيُّ) هو: عبد الرَّحمن بن سلام - بتشديد اللام - بن عبيد الله بن سالم، ويقال: ابن سلّام الْجُمَحيّ، أبو حرب البصريّ، مولى قُدَامة بن مظعون، وهو أخو محمد بن سلّام الْجُمَحيّ، صاحب الأَخبار، صدوقٌ [10].

رَوَى عن إبراهيم بن طَهْمان، والربيع بن مسلم، وحماد بن سلمة، وفضيل بن عياض، ومُبارَك بن فَضَالة، والدّراورديّ، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، وإبراهيم بن هاشم البغويّ، ومعاذ بن المثنى، ومحمد بن غالب تَمْتام، والحسن بن أحمد بن حبيب الْكِرمانيّ، وأبو خَليفة، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، أحمد بن علي بن المثنى، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوقٌ، وحَكَى الحاكم في "تاريخه"، قال: سئل صالح بن محمد - يعني جَزَرَة - عن عبد الرَّحمن، ومحمد ابني سلّام الْجُمَحيَّين، فقال: صدوقان، ورأيت يحيى بن معين يختلف إليهما، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين تقريبًا، وقال موسى بن هارون: مات سنة (31).

ص: 491

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "الْجُمَحيّ" - بضم الجيم، وفتح الميم، بعدها حاء مهملة -: نسبة إلى بني جُمَح بطنٌ من قريش، قاله في "اللبّ"

(2)

.

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7].

رَوَى عن محمد بن زياد القرشيّ، والحسن البصريّ، والْخَصِيب بن جَحْدر، وغيرهم.

ورَوى عنه ابن مهديّ، والقطان، وابن المبارك، وأبو داود الطيالسيّ، وخالد بن الحارث، وابن ابنه عبد الرَّحمن بن بكر بن الربيع، وعبد الرَّحمن بن سلّام الْجُمَحيّ، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، وعِدّة.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو داود: هو أروى الناس عن محمد بن زياد، ذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة (167).

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زَيادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (25) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما سبق بيانه غير مرّة.

(1)

هكذا في برنامج الحديث (صخر)، ونقل في "تهذيب التهذيب" (2/ 515) عن "الزهرة": أن مسلمًا روى عنه ثلاثة عشر حديثًا، وما في البرنامج أقرب إلى الصحّة، والله تعالى أعلم.

(2)

"لبّ اللباب" 1/ 213.

ص: 492

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه من أفراده، لَمْ يرو عنه غيره من أصحاب الكتب الستّة.

4 -

(ومنها): أن شيخه، والربيع بن مسلم هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت أن لهما فيه (12) وكلّها أخرجها المصنّف عن عبد الرَّحمن بن سلّام، عن الربيع، إلَّا حديثًا واحدًا، فرواه عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، عن الربيع.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، وشرح الحديث يأتي بعد حديث، وإنما أخّرته إلى هناك؛ لكونه أتمّ مما هنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[527]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ زِيادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ الرَّبِيعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، فمحمد بن بشّار المعروف ببندار تقدّم قبل بابين، ومحمد بن جعفر المعروف بغندر، وشعبة تقدّما في الباب الماضي، والباقيان في السند الماضي.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ الرَّبِيعِ) يعني أن حديث شعبة مثل حديث الربيع بن مسلم الماضي.

[تنبيه]: رواية شعبة التي أحالها هنا أخرجها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 282)، فقال:

(520)

حدثناه أبو محمد بن حيان، ثنا أبو يعلى، نا عبد الرَّحمن بن سلام (ع)، وحدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، نا عبد الله بن

ص: 493

أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا غندر، محمد بن جعفر، ثنا شعبة (ح)، وحدثنا أبو عمرو، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا بندار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، سمعت محمد بن زياد يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجَنَّة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب"، قال: فقال عكاشة: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال:"اللهم اجعله منهم"، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[528]

(

) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَدْخُلُ مِنْ أمَّتِي زُمْرَة، هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ"، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنصَار، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 24)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظ عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبت، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب

ص: 494

الزهريّ الإمام الحجة الحافظ الفقيه، رأس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ المدنيّ الإمام الحجة الفقيه المثبت، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه مات سنة (7 أو 8 أو 59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجة.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيِّب.

5 -

(ومنها): أن ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدّم ذكرهم غير مرّة.

6 -

(ومنها): ما قيل: إن أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه: ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن كسر يائه أولى من فتحها (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ، قَالَ) هذا بيان لقوله: "حدّثه"(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي) وفي الرواية التالية: "يدخل الجنّة من أمتي"(زُمْرَةٌ) - بضمّ الزاي، وسكون الميم -: أي جماعة، وفي الرواية التالية:"زُمرة واحدة"، وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الآتي:"متماسكون آخذٌ بعضهم بعضًا، لا يدخل أوّلهم حتى يدخل آخرهم"، ثم بيّن عدد هؤلاء الزمرة بقوله:(هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ) أي تُشرِق (وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ

ص: 495

الْقَمَرِ) أي مثل إشراقه، وفي الرواية التالية:"على سورة القمر"، قال القرطبيّ: المراد بالصورة الصفة، يعني أنهم في إشراق وجوهم على صفة القمر الَيْلَةَ الْبَدْرِ") أي في ليلة تمام نوره، وهي ليلة اليوم الرابع عشر.

وسيأتي وصفهم بأنهم: "الذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكّلون".

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَقَامَ عُكَّاشَةُ) - بضم العين، وتشديد الكاف، وتخفيفها - لغتان مشهورتان، ذكرهما جماعات، منهم ثعلبٌ، والجوهريّ، وآخرون، قال الجوهريّ: قال ثعلبٌ: هو مُشَدَّدٌ، وقد يُخَفَّف، وقال صاحب "المطالع": التشديد أكثر، ولم يذكر القاضي عياض التشديد، ذكره النوويّ.

وقال في "الفتح": قوله: "عكاشة" - بضم المهملة، وتشديد الكاف، ويجوز تخفيفها - يقال: عَكِشَ الشعرُ يَعْكَش، من باب فَرِحَ: إذا الْتَوَي، وتلبّدَ، حكاه القرطبيّ، وحَكَى السهيليّ أنه مِن عَكَش على القوم، من باب ضَرَبَ: إذا حَمَلَ عليهم، وقيل: العُكَاشة بالتخفيف: العنكبوت، ويقال أيضًا لبيت النمل

(1)

.

(ابْنُ مِحْصَنٍ) - بكسر الميم، وسكون الحاء، وفتح الصاد المهملتين، ثم نون آخره -.

هو: عُكّاشة بن مِحْصَن بن حُرْثَان - بضمّ المهملة، وسكون الراء، بعدها مُثلّثةٌ - بن قيس بن مُرَارة بن بُكَير - بضمّ الموحدة - بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة الأسديّ، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، وكنيته أبو مِحْصن، وهاجر، وشهد بدرًا، وقاتل فيها، قال ابن إسحاق: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خير فارس في العرب عُكَاشة"، وقال أيضًا: قاتل يوم بدر قتالًا شديدًا حتى انقطَعَ سيفه في يده، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزلًا من حَطَب، فقال:"قَاتِلْ بهذا"، فقاتل به، فصار في يده سيفًا طويلًا شديدَ المتن، أبيض، فقاتل به، حتى فتح الله، فكان ذلك السيف عنده حتى استُشْهِد في قتال الرِّدّة مع خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة،

(1)

"الفتح" 11/ 419.

ص: 496

قَتله طُلَيحة بن خُويلد الذي تنبّأ

(1)

.

وقد ضُرِب به المثل، يقال للسابق في الأمر: سبقك بها عكاشة

(2)

، والله تعالى أعلم.

(الْأَسَدِيُّ) - بفتحتين -: نسبة إلى بني أسد بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس.

[تنبيه]: قال ابن الأثير في "اللباب": "الأَسَديّ" بفتح الهمزة، والسين المهملة، بعدها الدال، هذه النسبة إلى أَسَد، وهو اسمُ عِدّة من القبائل، منهم أسد بن عبد العُزّى بن قُصيّ من قُريش، وإلى أسد بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر نزار، وإلى أسد بن ربيعة بن نِزار، وفي الأَزْد بطنٌ يقال لهم: بنو أسَد محرَّك السين، وهو أَسَد بن شُرَيك - بضم الشين المعجمة - بن مالك بن عمرو بن مالك بن فَهْم، لهم خُطّةٌ بالبصرة، يقال لها: خُطّة بني أسد، وليست بالبصرة خُطّة لبني أسد بن خُزيمة.

فمن أسد قريش: الزبيرُ بن العوّام بن خُويلد بن أسد، وحكيم بن حِزَام بن خُويلد، وخَدِيجة بنت خُويلد، وغيرهم، ومن أسد بن خزيمة: جابر بن قبيصة الأسديّ تابعيّ مشهور، وعكاشة بن مِحصن الأسديّ الصحابيّ رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

وقوله: (يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من "عكاشة"، و"النَّمِرَة" - بفتح النون، وكسر الميم، بعدها راء -: كِسَاء من صوف، كالشملة، فيه خُطوط بِيضٌ وسُودٌ وحُمْرٌ، كأنها أُخِذت من جلد النَّمِر؛ لاشتراكهما في التلَوّن، وهي من مآزر الأعراب

(4)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ادْع اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الذين وصفهم بأنهم يدخلون الجنّة على هذه الصفة الجليلة (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ") وعند البيهقيّ من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة،

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 419 "كتاب الرقاق" رقم (6541).

(2)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 439 - 440.

(3)

راجع: "الأنساب" 1/ 142 - 143، و"اللباب" 1/ 52 - 53.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 89، و"الفتح" 11/ 421.

ص: 497

قال: "فدعا"، ووقع في رواية حُصَين بن نُمَير، ومحمد بن فُضيل قال:"أَمِنْهُم أنا يا رسول الله؟ قال له: نعم"، ويُجمَع بأنه سأل الدعاء أَوّلًا، فدعا له، ثم لَمّا استفهم، قال له: أُجِبت.

(ثُمَّ قَامَ رَجُل مِنَ الْأَنصَارِ) قال في "الفتح": وقع فيه من الاختلاف: هل قال: ادْعُ لي، أو قال: أمنهم أنا؟ كما وقع في الذي قبله، وجاء من طريق واهية، أنه سعد بن عُبادة، أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق أبي حُذيفة إسحاق بن بشر البخاريّ، أحدِ الضعفاء من طريقين له عن مجاهد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا انصرف من غَزَاة بني الْمُصْطَلِق، فساق قصّة طويلة، وفيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجَنَّة عشرون ومائة صفّ، ثمانون صفًّا منها أمتي، وأربعون صفًّا سائر الأمم، ولي مع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجَنَّة بغير حساب، قيل: من هم؟

" فذكر الحديث، وفيه فقال: "اللهم اجعل عكاشة منهم"، قال: فاستُشْهِد بعد ذلك، ثم قام سعد بن عبادة الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم

الحديث، وهذا مع ضعفه وإرساله يُسْتَبعَد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظًا، فلعله آخر باسم سيد الخزرج، واسمِ أبيه ونسبته، فإن في الصحابة كذلك آخر له في "مسند بَقِيّ بن مَخْلَد" حديث، وفي الصحابة سعد بن عُمَارة الأنصاريّ، فلعل اسم أبيه تَحَرَّف. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ") قال في "الفتح": اتّفَقَ جمهور الرواة على هذا، إلَّا ما وقع عند ابن أبي شيبة، والبزّار، وأبي يعلى، من حديث أبي سعيد، فزاد:"فقام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم"، وقال في آخره:"سبقك بها عكاشة وصاحبه، أما لو قلتم لقلت، ولو قلت لوجبت"، وفي سنده عطية، وهو ضعيف.

[تنبيه]: قد اختَلَفَت أجوبة العلماء في الحكمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة"، فقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: إن الرجل الثاني لَمْ يكن ممن

(1)

"الفتح" 11/ 420 "كتاب الرقاق" رقم (6542).

ص: 498

يَستحقّ تلك المنزلة، ولا كان بصفة أهلها، بخلاف عكاشة، وقيل: بل كان منافقًا، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلام مُحْتَمِلٍ، ولم يَرَ صلى الله عليه وسلم "التصريح له بأنك لست منهم؛ لما كان صلى الله عليه وسلم من حسن العشرة، وقيل: قد يكون سبق عكاشة بوحي أنه يجاب فيه، ولم يَحصُل ذلك للآخر.

قال النوويّ: وقد ذكر الخطيب البغداديّ في كتابه في الأسماء المبهمة، أنه يقال: إن هذا الرجل هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، فإن صحّ هذا بَطَل قول من زعم أنه منافق، والأظهر المختار هو القول الأخير. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": أخرج ابن الجوزيّ في "كشف المشكل" من طريق أبي عُمَر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب عن ذلك، فقال: كان منافقًا، وكذا نقله الدارقطنيّ عن القاضي أبي العباس الْبِرْتيّ - بكسر الموحدة، وسكون الراء، بعدها مثناة - فقال: كان الثاني منافقًا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُسأل في شيء إلَّا أعطاه، فأجابه بذلك، ونَقَل ابن عبد البرّ عن بعض أهل العلم نحوَ قول ثعلب، وقال ابن ناصر: قول ثعلب أولى من رواية مجاهد؛ لأن سندها وَاهٍ، واستَبْعَد السهيلي قولَ ثعلب بما وقع في "مسند البزار" من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقام رجل من خيار المهاجرين، وسنده ضعيف

جدًّا، مع كونه مخالفًا لرواية الصحيح أنه من الأنصار.

وقال ابن بطال: معنى قوله: "سبقك": أي إلى إحراز هذه الصفات، وهي التوكل، وعدم التطير، وما ذُكر معه، عَدَلَ عن قوله: لستَ منهم، أو لست على أخلاقهم تَلَطُّفًا بأصحابه صلى الله عليه وسلم، وحسن أدبه معهم.

وقال ابن الجوزيّ: يظهر لي أن الأول سأل عن صدقِ قلبٍ، فأُجيب، وأما الثاني فيَحْتَمِل أن يكون أريد به حسم المادّة، فلو قال للثاني: نعم، لأوشك أن يقوم ثالث، ورابع، إلى ما لا نهاية له، وليس كلُّ الناس يصلح لذلك.

وقال القرطبيّْ لَمْ يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 89.

ص: 499

عكاشة، فلذلك لَمْ يُجَبْ؛ إذ لو أجابه، لجاز أن يطلب ذلك كلُّ من كان حاضرًا، فَيَتَسَلْسَل، فَسَدَّ البابَ بقوله ذلك.

وهذا أولى مِن قول مَن قال: كان منافقًا لوجهين:

[أحدهما]: أن الأصل في الصحابة رضي الله عنهم عدم النفاق، فلا يَثبُت ما يُخالف ذلك إلَّا بنقل صحيح.

[والثاني]: أنه قَل أن يصدُر مثل هذا السؤال إلَّا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يصدُر ذلك من منافق، وإلى هذا جنح ابن تيمية. وصَحَّحَ النوويُّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بالوحي أنه يُجاب في عكاشة، ولم يقع ذلك في حق الآخر.

وقال السهيليّ: الذي عندي في هذا أنَّها كانت ساعة إجابة، عَلِمَها صلى الله عليه وسلم، واتَّفَقَ أن الرجل قال بعدما انقَضَت، ويُبَيِّنه ما وقع في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"ثم جَلَسوا ساعةً يَتَحَدَّثون"، وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله:"سبقك بها عكاشة": "وبَرَدَت الدعوة": أي انقضى وقتها. قال الحافظ بعد نقل هذا الأقوال: فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة، والعلم عند الله تعالى، ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مُسْتَنَدًا، وهو ما أخرجه الطبرانيّ، ومحمد بن سنجر، في "مسنده"، وعُمَر بن شَبَّة في "أخبار المدينة" من طريق نافع، مولى حَمْنة، عن أم قيس بنت مِحْصَن، وهي أخت عكاشة، أنَّها خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال:"يُحشَر من هذه المقبرة سبعون ألفًا، يدخلون الجَنَّة بغير حساب، كأنّ وجوههم القمر ليلة البدر"، فقام رجل فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال:"وأنت"

(1)

، فقام آخر: فقال: أنا؟ قال: "سبقك بها عكاشة"، قال: قلتُ لها: لِمَ لَمْ يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقًا. فإن كان هذا أصل ما جزم به مَن قال كان منافقًا فلا يدفع تأويل غيره؛ إذ ليس فيه إلَّا الظنّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

(1)

في صحة هذا الحديث نظر؛ لأنه سبق أنه استُشهد في قتال الردّة، قتله طُليحة، فليُنظر!!!.

ص: 500

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله السهيليّ، وهو أيضًا موافقٌ لما قاله النوويّ هو أحسن الأجوبة.

وحاصله أن ذلك الوقت الذي سأل فيه عكاشة كان وقت إجابة، وعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي، ثم انقضى ذلك الوقت، فسأل الثاني، فأجابه بما أجابه به.

ونظير ذلك ما وقع لأبي هريرة رضي الله عنه، وصاحبيه، فقد أخرج النسائيّ في "كتاب العلم" من "سننه الكبرى" بسند جيّد - كما قال الحافظ - أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فسأله، فقال له زيد: عليك أبا هريرةَ، فإني بينما أنا، وأبو هريرة، وفلان في المسجد ندعو الله، ونذكر ربّنا، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال:"عودوا للذي كنتم فيه"، فقال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤَمّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذان، وأسالك علمًا لا يُنسَي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمين"، فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علمًا لا يُنسي، فقال:"سبقكم بها الغلام الدَّوسيّ"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[100/ 526 و 527 و 528،](216) و [100/ 529](217)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5811)، و"الرقاق"(6542)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 302 و 351 و 400 و 401 و 456 و 502)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 328)، و (ابن منده) في "الإيمان"(970 و 971 و 972 و 973 و 974 و 975)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(519 و 520 و 521 و 522)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7244)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(15/ 139)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4323)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 440 رقم (5870).

ص: 501

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن زُمرةً من هذه الأمة يدخلون الجنّة بغير حساب.

2 -

(ومنها): بيان كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربِّه عز وجل حيث تفضّل الله تعالى على هذه الزمرة من أمته، فأدخلها الجنّة بغير حساب، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

3 -

(ومنها): بيان فضل هذه الأمة ببركة نبيّها صلى الله عليه وسلم حيث يدخل عدد كثير منهم الجَنَّة من غير أن يحاسبوا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

4 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ الحساب في الآخرة على الأعمال.

5 -

(ومنها): أن جلّ الأمة يحاسبون على أعمالهم، وهذا الحساب ينقسم إلى قسمين: حساب عَرْضٍ، وحساب مناقشة، كما أخبر الله تعالى بذلك، حيث قال:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 7 - 12].

وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلَّا هَلَك"، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8]؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما ذلكِ العرضُ، وليس أحد يُناقَش الحسابَ يوم القيامة إلَّا عُذِّب".

6 -

(ومنها): حسن تلطّف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكريم أخلاقه، حيث لَمْ يقل للرجل الآخر: إنك لست منهم، بل أجمل الجواب، فقال:"سبق بها عكاشة"؛ لئلا ينكسر قلبه، فهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

7 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حبّهم المنافسة في الخير، وحرصهم على الوصول إليه، فقد قال عكاشة رضي الله عنهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمّا سمع هذا الخبر العظيم:"ادع الله أن يجعلني منهم".

8 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "تضيء وجوههم

إلخ"، أن أنوار أهل الجَنَّة تتفاوت بحسب درجاتهم، وكذا صفاتهم في الجمال ونحوه، والله

ص: 502

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[529]

(217) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، زُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صَفْوان التُّجيبيُّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

2 -

(أَبُو يُونُسَ) هو: سُليم بن جُبير الدّوسيّ، مولى أبي هريرة، المصريّ، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.

وقوله: (زُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ) رُوي "زمرةٌ واحدةٌ" بالنصب، والرفع، والزمرة: الجماعة في تفرقةٍ، بعضُها في إثر بعض، قاله النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه النصب على الحاليّة، ووجه الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هم زُمرةٌ واحدة، ثم إن تفسيره الزمرة بما ذُكر بحسب أصل اللغة، وإلا فالمراد هنا بلا تفرّق؛ لما سيأتي في حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما:"متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا، لا يدخل أوّلهم حتى يدخل آخرهم".

وقوله: (عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ) المراد بالصورة: الصفة، يعني: أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[530]

(218) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 90.

ص: 503

هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ -

(1)

قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبَّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، فَقَامَ عُكَاشَةُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ

(2)

أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"أَنْتَ مِنْهُمْ"، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:"سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ) أَبُو سَلَمَةَ البصري، المعروف بالْجُوبَاريّ

(3)

- بضم الجيم، وسكون الواو، ثم موحّدة - ثقةٌ

(4)

[10].

رَوَى عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثَّقَفيّ، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن أبي عديّ، وعبد الله بن مسلم، وعمر بن عليّ الْمُقَدّمي، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وأبو بكر بن أبي الدنيا، والمعمري، والحسن بن عُلَيل، وبكر بن محمد البزار، وجعفر بن أحمد بن فارس، وأبو خليفة، وآخرون.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال موسى بن هارون: بلغنا موته بالبصرة سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (218)، وحديث (1656): "اذهب، فاعتكف يومًا

"، و (2203): "ذاك شيطان، يقال له: خنزب

".

(1)

وفي نسخة: "عن محمد بن سيرين".

(2)

وفي نسخة: "فقال: يا نبيّ الله ادع الله

إلخ".

(3)

"الْجُوباريّ": نسبة إلى جُوبار قرية بمرو، وبهراة، وبجُرْجان، وجُوبارة محلة بأصبهان. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 218.

(4)

قال في "التقريب": صدوق، والأولى أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه جماعة، ومنهم المصنّف هنا في "الصحيح"، ووثقه البزّار، وابن حبّان، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 504

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقّب بالطّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عَمْرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، عابدٌ، كبير الْقَدْر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 308.

5 -

(عِمْرَانُ) بن حُصَين بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابيّ، وأبوه أيضًا صحابيّ على الصحيح، مات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قضى بالكوفة، وبالبصرة، وكانت تسلّم عليه الملائكة رضي الله عنه، وأما شرح الحديث، فسيأتي بعد حديثين.

وقوله: (لَا يَكْتَوُونَ) أي لا يستعملون الكَيّ في أبدانهم، وهو إحراق الجلد بحديدة مُحماة، وهو علاج معروف عندهم، وسيأتي تمام الكلام فيه قريبًا.

وقوله: (وَلَا يَسْتَرْقُونَ) أي لا يطلبون الرقية من أحد، وهي مداواة المريض بالنفث بنحو قراءة، وتمام شرح الحديث سيأتي بعد حديثين - إن شاء الله تعالى -.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

ص: 505

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[100/ 535 و 531](218)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(246 و 247 و 248 و 249)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(523 و 524)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 424 و 425 و 426 و 427)، و (ابن منده) في "الإيمان"(977)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[531]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِث، حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ عُمَرَ، أَبُو خُشَينَةَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَج، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) الْعَنْبريّ مولاهم، التّنّوريّ، أبو سَهْل البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(حَاجِبُ بْنُ عُمَرَ، أَبُو خُشَيْنَةَ - بمعجمتين، ونون، مصغَّرًا - الثَّقَفِيُّ) أخو عيسى بن عُمَر النحويّ البصريّ، ثقةٌ رُمي برأي الخوارج [6].

رَوَى عن عمه الحكم بن الأعرج، وابن سيرين، والحسن البصريّ.

ورَوَى عنه ابن عون، وهو أكبر منه، وشعبة، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، وابن عُلَيّة، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ووكيع، والقطان، وأبو نعيم.

قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: رجلٌ صالحٌ، وحَكَى الساجيّ عن ابن عيينة أنه كان إباضيًّا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 506

قال أبو إسحاق الصَّرِيفِينِيّ: مات سنة (158).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (218)، وحديث (1133): "إذا رأيتَ هلال المحرّم، فاعدُد

".

4 -

(الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ) هو: الحكم بن عبد الله بن إسحاق الأعرج البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [3].

رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار، وأبي بكرة، وأبي هريرة.

ورَوَى عنه ابن أخيه أبو خُشَينة، حاجب بن عُمَر، وخالد الحذّاء، وسعيد الْجُرَيريّ، ومعاوية بن عمرو بن غَلّاب، ويونس بن عُبيد، وغيرهم.

قال أحمد: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال مرّةً: فيه لين، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (218)، و (1133): "إذا رأيتَ هلال المحرّم، فاعدُد

"، و (1858): "لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع الناس

".

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد، أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، ثم بغداديّ، وفيه رواية الراوي عن عمه.

وقوله: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) أي لا يتشاءمون بزجر الطيور، يقال: تطيّر من الشيء، واطّيّر منه، والاسم: الطِّيَرةُ، وزانُ عِنَبَةٍ، وهي التشاؤم، وذلك أن العرب كانت إذا أرادت المضيّ لأمر مهمّ مرّت بمجاثم الطير، وأثارتها؛ لتستفيد، هل تمضي، أو ترجع؟ فَنَهَى الشرعُ عن ذلك، وقد تقدّم الكلام على تخريج الحديث في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[532]

(219) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَدْخُلَنَّ

ص: 507

الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتي سَبْعُونَ أَلْفًا - أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ، لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ؛ أَيَّهُمَا قَالَ؟ - مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ أَخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُور الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار، المدنيّ، صدوقٌ، فقيةٌ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سُفيان، ثقةٌ عابدٌ [5] (ت 140) وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (26) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما له من الأسانيد، وقد تقدّم غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مشايخها.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه آخر من مات بالمدينة من الصحابة" على بعض الأقوال، مات سنة (88) وقيل:(91) وقد جاوز المائة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا - أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيَّهُمَا قَالَ؟ -) سهل رضي الله عنه (مُتَمَاسِكُونَ) هكذا هو في معظم الأصول: "متماسكون" بالواو، و"آخذ" بالرفع، ووقع في بعض الأصول:"متماسكين"، و"آخذًا" بالياء والألف، قال النوويّ رحمه الله: وكلاهما صحيح.

ص: 508

قال الجامع عفا الله عنه: وجه الرفع على أنه صفة لـ "سبعون"، ووجه النصب على أنه حال منه، والله تعالى أعلم.

قال: ومعنى "متماسكين" ممسكٌ بعضهم بيد بعض، ويدخلون معترضين صفًّا واحدًا، بعضهم بجنب بعض، وهذا تصريح بعظم سعة باب الجَنَّة - نسأل الله الكريم رضاه، والجنة لنا ولأحبابنا، ولسائر المسلمين -.

وقوله: (آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) تفسير لـ "متماسكين"، وفي رواية البخاريّ:"آخذٌ بعضهم ببعض"(لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ) وفي رواية للبخاريّ: "حتى يدخل أولهم وآخرهم"، قال في "الفتح": هو غاية للتماسك المذكور، والأخذِ بالأيدي، قال: وهذا ظاهره يستلزم الدَّوْر، وليس كذلك، بل المراد أنهم يدخلون صفًّا واحدًا، فيدخل الجميع دَفْعَةً واحدةً، ووصفُهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها على الصراط، وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه الجَنَّة.

قال عياض: يحتمل أن يكون معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار، فلا يسابق بعضهم بعضًا، بل يكون دخولهم جميعًا.

وقال النوويّ: معناه أنهم يدخلون معترضين صفًّا وَاحدًا بعضهم بجنب بعض.

[تنبيه]: هذه الأحاديث تَخُصّ عموم الحديث الذي أخرجه مسلم، عن أبي بَرْزة الأسلميّ رضي الله عنه، رفعه:"لا تزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟، وعن جسده فيما أبلاه؟، وعن علمه فيما عمل به؟، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ "، وله شاهد عن ابن مسعود عند الترمذيّ، وعن معاذ بن جبل عند الطبرانيّ.

قال القرطبيّ رحمه الله: عموم الحديث واضحٌ؛ لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجَنَّة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وَهْلة على ما دَلّ عليه قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} الآية [الرحمن: 41]، وفي سياق حديث أبي برزة رضي الله عنه إشارة إلى الخصوص، وذلك أنه ليس كلُّ أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علمٌ، وبمن له مالٌ، دون من لا مال له، ومن لا علم له، وأما السؤال عن

ص: 509

الجسد والعمر، فعامّ، ويُخَصّ من المسؤولين مَن ذُكِر والله تعالى أعلم، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ") المراد بالصورة - كما تقدّم - الصفة، يعني: أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه، وهي ليلة أربعة عشر من الشهر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[100/ 532](219)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3247)، و"الرقاق"(6543 و 6554)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(525)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[533]

(220) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيّ، أَنَّهُ قَالَ:"لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ"، فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَان، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا

(1)

11/ 422 "كتاب الرقاق"(6543).

ص: 510

مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأَفق، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا سَوَاد عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَر، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أمّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ"، ثُمَّ نَهَضَ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُون الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَام، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ " فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ"، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُور) بن شُعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكّة، ثقة، مصنّف [10](227)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(هُشَيْم) بن بَشِير بن القاسم السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ، تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: حُصين، عن سعيد.

ص: 511

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، وكان يلقّب بالبحر والحبر؛ لسعة علمه رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن حُصين بن عبد الرَّحمن، أنه (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ) - بالقاف، والضاد المعجمة -: أي مال للسقوط، قال الجوهريّ رحمه الله: انقضّ الحائط: أي سقط، وانقضّ الطائر: هَوَى في طيرانه، ومنه انقضاض الكواكب، ولم يستعملوا من تَفَعَّلَ إلَّا مُبدلًا، قالوا: تقضّى، فاستثقلوا ثلاث ضادات، فأبدلوا من إحداهنّ ياءً، كما قالوا: تَظَنَّى من الظّنّ، قال العَجاجُ [من الرجز]:

تَقَضِّيَ الْبَازِ إِذَا الْبَازِي كَسَرْ

(1)

وقال المجد رحمه الله: انقضّ الجدار: تصدَّع، ولم يَقَعْ بعدُ، كانقاضّ انقضاضًا، وانقضّت الخيلُ عليهم: انتشرت، وانقضَّ الطائر: هَوَى لِيَقَعَ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: انقضَّ الطائر: هَوَى في طيرانه، وانقضَّ الشيءُ: انكسر، ومنه انقضّ الجدار: إذا سقط، وبعضهم يقول: انقضّ: إذا تصدّع، ولم يسقُط، فإذا سقط قيل: انهار، وتهوَّر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق أن المعنى المناسب هنا هو الميل للسقوط، كما قال الجوهريّ: ومنه انقضاض الكواكب، لا السقوط كما قال النوويّ في شرحه؛ لأن الكوكب ما سقط إلى الأرض، وإنما انتشر في السماء، ومال إلى السقوط، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(الْبَارِحَةَ؟) هي أقرب ليلة مَضَت، قال أبو العباس ثعلب: يقال قبلَ الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحةَ، وهكذا قاله غير ثعلب، قالوا: وهي مشتقة من بَرِحَ من باب تَعِبَ بَرَاحًا: إذا زالَ من مكانه، وقد ثبت

(1)

"الصحاح" 3/ 926.

(2)

"القاموس المحيط" ص 5896.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 507.

ص: 512

في "صحيح مسلم" في "كتاب الرؤيا": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح

(1)

قال: "هل رأى أحد منكم البارحةَ رؤيا"

(2)

.

قال حصين (قُلْتُ: أَنَا) مبتدأ حُذف خبره لدلالة السؤال عليه: أي أنا رأيته (ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم، قال ابن هشام رحمه الله في "مغنيه":"أَمَا" بالفتح، والتخفيف على وجهين:

[أحدهما]: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "إلا"، وإذا وقعت "إِنَّ" بعدها كُسِرَت، كما تُكْسَرُ بعد "ألا" الاستفتاحيّة.

[الثاني]: أن تكون بمعنى "حَقًّا"، وهذه تُفتح "أَنَّ" بعدها، كما تُفتح بعد "حقًّا". انتهى كلامه باختصار

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: "أمَا" هنا تحتمل الوجهين، إن صحّت الرواية بهما، فيجوز كسر "إن" وفتحها، على التقديرين، لكن الذي وقع في النسخ المطبوعة الموجودة عندنا بكسر الهمزة، فينبغي التقيّد به، إلى أن يثبت الفتح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

أداة استفتاح وتنبيه، مثلُ "إلا"(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "أما"، وهي كـ "إلا"، كما في قوله:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، (لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ) أي لَمْ يكن سهري من أجل صلاة الليل، وأراد أن ينفي عن نفسه تزكيتها بالعبادة، والسَّهَر في الصلاة، مع أنه لَمْ يكن فيها (وَلَكِنِّي لُدِغْتُ) بالبناء للمفعول، وهو بالدال المهملة، والغين المعجمة، قال أهل اللغة: يقال: لَدَغته العقرب والحيَّة، وذوات السُّموم، من باب مَنَعَ: إذا أصابته بِسُمّها، وذلك بأن تَأَبُرَه بشوكتها

(4)

.

(قَالَ) سعيد (فَمَاذَا صَنَعْتَ؟) أي: أيَّ شيء صنعتَ؟ أتداويت، أم صبرت

(1)

هذا الحديث صريح في خلاف ما قاله ثعلب، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 93، بزيادة من "المصباح" 1/ 42.

(3)

"مغني اللبيب" 1/ 54 - 55 تحقيق محمد محعي الدين عبد الحميد.

(4)

يقال: أَبَرَت العقرب تأبِر من بابي ضرب، ونصر: لدغته بإبرتها: أي طرف ذنبها. اهـ. "القاموس" بإيضاح، ص 308.

ص: 513

على ما أصابك، محتسبًا؛ لتنال درجة هؤلاء السبعين ألفًا؟ (قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ) أي طلبتُ الرُّقيا من نفسي، أو من غيري، والرُّقيا بالضمّ: اسم مِن رَقَيتُهُ أرقيه رَقْيًا، من باب رَمَى: إذا عَوَّذته بالله تعالى (قَالَ) سعيد (فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟) أي: أيُّ شيء دعاك إلى الاسترقاء؟ مع أنّ تركه أولى (قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الإمام المشهور، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 50. (فَقَالَ) سعيد (وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ) بالموحّدة مصغّرًا (بْنِ حُصَيْبٍ) بضمّ الحاء، وفتح الصاد المهملتين، مصغّرًا.

هو: بُريدة بن الْحُصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سَعْد بن رَزَاح بن عَدِيّ بن سَهْم بن مازن بن الحارث بن سَلامان بن أَفْصَى الأسلميّ الصحابيّ المشهور، قال ابن السكن: أسلم حين مَرّ به النبي صلى الله عليه وسلم مُهاجرًا بالغَمِيم، وأقام في موضعه حتى مَضَت بدرٌ وأُحُدٌ، ثم قَدِمَ بعد ذلك، وقيل: أسلم بعد مُنصَرَف النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وسكن البصرة لما فُتحت، وفي "الصحيحين" عنه أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوةً، وقال أبو علي الطوسيّ، أحمد بن عثمان، صاحب ابن المبارك: اسم بريدة عامر، وبُريَدة لقب، وأخبار بريدة كثيرة، ومناقبه مشهورة، وكان غَزَا خُرَاسان في زمن عثمان، ثم تحوّل إلى مَرْوَ، فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية، قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وستين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا

(1)

. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: (الْأَسْلَمِيِّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو، قاله السمعانيّ

(2)

.

(1)

هذا هو الذي أثبت له في برنامج الحديث (صخر)، وقال ابن الجوزيّ في "المجتبى": روى من الأحاديث (164) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأحد عشر حديثًا. انتهى. والظاهر أن الاختلاف بالتكرار، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(2)

"الأنساب" 1/ 157.

ص: 514

(أَنَّهُ قَالَ: "لَا رُقْيَةَ) قال ابن الأثير رحمه الله: الرُّقية: الْعُوذة التي يُرْقَى بها صاحب الآفة، كالْحُمَّى، والصَّرْع، وغير ذلك من الآفات. انتهى

(1)

. (إِلَّا مِنْ عَيْنٍ) أي من إصابة العائن غيره بعينه، والعين حقّ (أَوْ حُمَةٍ) - بضم الحاء المهملة، وتخفيف الميم - قال ثعلب وغيره: هي سم العقرب، وقال القَزّاز: قيل: هي شوكة العقرب، وكذا قال ابن سِيدَه: إنها الإِبْرة التي تضرب بها العقرب والزنبور، وقال الخطابيّ: الْحُمَة: كلُّ هامّة ذات سُمّ، من حية أو عقرب، وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه مرفوعًا:"لا رقية إلَّا من نَفْسٍ، أو حُمَة، أو لَدْغَة"، فغاير بينهما، فيحتمل أن يُخَرَّج على أن الْحُمَة خاصّة بالعقرب، فيكون ذكر اللَّدْغة بعدها من ذكر العامّ بعد الخاصّ، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ: "الْحُمَة: سمّ العقرب، وشبهها، وقيل: فَوْعَة السمّ، وهي حِدّته، وحَرَارته، والمراد: أو ذي حُمَةٍ، كالعقرب، وشبهها: أي لا رقية إلَّا من لدغ ذي حُمَة

(3)

.

قال الخطابيّ رحمه الله: ومعنى الحديث: لا رُقْية أشفى، وأولى من رقية العين، وذي الْحُمَة، وقد رَقَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأَمَر بها، فإذا كانت بالقرآن، وبأسماء الله تعالى، فهي مباحة، وإنما جاءت الكراهة منها لِمَا كان بغير لسان العرب، فإنه ربّما كان كفرًا، أو قولًا يدخله الشرك، قال: ويَحْتَمِل أن يكون الذي كُرِه من الرُّقية ما كان منها على مذاهب الجاهلية في الْعَوَذ التي كانوا يتعاطونها، ويزعمون أنَّها تَدفَع عنهم الآفات، ويعتقدون أنَّها من قبل الجنّ، ومعونتهم. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد اختَلَفت الرواية عن مالك في إجازة رُقية أهل الكتاب للمسلم، فأجازها مرّةً إذا رَقَى بكتاب الله، ومنعها أُخرى؛ إذ لا يُدرى ما الذي يَرقي به. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ) سعيد لحُصين لَمّا ذَكَر له حُجّته في الاسترقاء (قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى

(1)

"النهاية" 2/ 254.

(2)

"الفتح" 10/ 165.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 93.

(4)

"المفهم" 1/ 463.

ص: 515

إِلَى مَا سَمِعَ) أي بلغه، ووصل إليه مما شرعه الله تعالى (وَلَكِنْ) استدراك على قوله: "قد أحسن

إلخ"، يعني أن استرقاءك مما لُدغت؛ لما سمعته من الحديث عملٌ مستحسنٌ؛ لأن من عَمِلَ عملًا له عليه حجة من الكتاب والسنّة، فقد أحسن، ولا لوم عليه، ولكن أعلى من ذلك تركه توكّلًا على الله تعالى؛ لِمَا (حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "عُرِضَتْ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول (عَلَيَّ) بتشديد الياء (الْأُمَمُ) بالرفع على أنه نائب فاعل "عُرِضَت".

[تنبيه]: قد بَيَّن عَبْثَرُ بن القاسم - بموحدة، ثم مثلثة، وِزَانُ جعفر - في روايته، عن حُصين بن عبد الرَّحمن عند الترمذيّ، والنسائيّ أن ذلك كان ليلة الإسراء، ولفظه: "لَمّا أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم جَعَل يمر بالنبيّ، ومعه الواحد

" الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: فإن كان ذلك محفوظًا كانت فيه قُوّة لمن ذَهَب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة الذي وَقَع بمكة، فقد وقع عند أحمد، والبزار، بسند صحيح، قال: أكرينا الحديث

(1)

عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عُدْنا إليه، فقال: "عُرِضت عليّ الأنبياءُ الليلةَ بأممها، فجَعَلَ النبيّ يَمُرّ، ومعه الثلاثة، والنبيّ يمر ومعه العصابة

" فذكر الحديث.

وفي حديث جابر رضي الله عنه عند البزار: "أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العشاء، حتى نام بعض من كان في المسجد

" الحديث.

قال: والذي يتحرّر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماوات بابًا بابًا، ولا من التقاء الأنبياء، كلّ واحد في سماء، ولا المراجعة معهم، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات، ولا في طلب تخفيفها، وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك، رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام. انتهى كلام الحافظ

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا التحقيق، فتقدّم

(1)

أي أطلنا، وأخّرنا.

(2)

"الفتح" 11/ 414 - 415.

ص: 516

أن الأصحّ عدم تعدّد الإسراء، وذلك لإشكاله في تعدّد مراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم لربه بعدما قال له:"لا يبدل القول لديّ"، فهذا هو الذي يمنع القول بالتعدّد، وأما ما خلا من ذلك، فلا مانع منه إن ثبت بنقل صحيح، والله تعالى أعلم.

(فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ) - بضم الراء - تصغير الرهط، وهي الجماعة، دون العشرة، والجملة في محلّ نصب على الحال من "النبيّ"(وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَان، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) أي لعدم من آمن به، واتّبعه في الدنيا.

وفي رواية البخاريّ: "فأخذ النبيّ يَمُرّ معه الأمة، والنبيّ يَمُرّ معه النفر، والنبي يمر معه العَشْر"

(1)

، وفي رواية:"فجَعَل النبيّ والنبيان يمرون، ومعهم الرهط"، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"فجَعَل النبيّ يمر ومعه الثلاثة، والنبيّ يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد".

فتبيّن من هذه الروايات أن الأنبياء عليه السلام يتفاوتون في عدد أتباعهم، والله تعالى أعلم.

(إِذْ رُفعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ) وفي رواية البخاريّ: "فنظرت، فإذا سواد كثير"، وفي رواية:"فرأيت سوادًا كثيرًا، سَدَّ الأفق".

و"السواد": ضد البياض، وهو الشخص الذي يُرَى من بعيد، ووَصَفَه بالكثير إشارةً إلى أن المراد به الجنسُ لا الواحد، ووقع في رواية:"ملأ الأفق"، والأفق: الناحية، والمراد به هنا ناحية السماء.

(فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ) وفي رواية البخاري: "قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا"، في رواية:"فرَجَوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه"، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد:"حتى مَرّ عليّ موسى في كبكبة من بني إسرائيل، فأعجبني، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هذا أخوك موسى، معه بنو إسرائيل"، و"الْكَبْكَبة" - بفتح الكاف، ويجوز ضمها، بعدها موحدة -: هي الجماعة من الناس، إذا انضَمّ بعضهم إلى بعض.

(1)

بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفي رواية المستملي بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم راء. اهـ.

ص: 517

(وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ) - بضمّتين -: الناحية من الأرض، ومن السماء، وهو المراد هنا، والجمع آفاق، والنسبة إليه أُفُقيّ ردًّا إلى الواحد، وربّما قيل: أَفَقيّ - بفتحتين - تخفيفًا على غير قياس، حكاهما ابن السّكّيت وغيره

(1)

.

(فَنَظَرْتُ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ) وفي رواية البخاريّ: "فإذا سوادٌ كثير"(فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ) وفي رواية البخاريّ: "فإذا سوادٌ قد ملأ الأُفُق، فقيل لي انظر ههنا وههنا، في آفاق السماء"، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"فإذا الأفق قد سُدّ بوجوه الرجال"، وفي لفظ لأحمد:"فرأيت أمتي قد ملأوا السَّهْل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم، أي رب".

[تنبيه]: قد اسْتَشْكَل الإسماعيلي رحمه الله: كونه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْرِف أمته حتى ظَنّ أنهم أمة موسى عليه السلام، وقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"كيف تَعْرِف من لَمْ تَرَ من أمتك؟ فقال: إنهم غُرّ مُحَجَّلون من أثر الوضوء"، وفي لفظ:"سِيمَا ليست لأحد غيرهم"

(2)

.

وأجاب: بأن الأشخاص التي رآها في الأفق، لا يُدْرك منها إلَّا الكثرة، من غير تمييز لأعيانهم، وأما ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فمحمول على ما إذا قَرُبُوا منه، وهذا كما يَرَى الشخص شخصًا على بُعْدٍ، فيكلِّمه، ولا يَعْرِف أنه أخوه، فإذا صار بحيث يتميز عن غيره عَرَفه، ويؤيده أن ذلك يقع عند ورودهم عليه الحوض. انتهى

(3)

، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: ومع هؤلاء سبعون ألفًا من أمتك، فكونهم من أمته صلى الله عليه وسلم لا شك فيه، وأما تقديره: فيحتمل أن يكون معناه: وسبعون ألفًا من أمتك، غير هؤلاء، وليسوا مع هؤلاء، ويحتمل

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 16 - 17.

(2)

سيأتي للمصنّف رحمه الله (247) بلفظ: "قالوا: يا نبيّ الله أتعرفنا؟ قال: نعم لكم سِيمَا ليست لأحد غيركم، تَرِدون عليّ غُرًّا محجلين من آثار الوضوء

".

(3)

راجع: "الفتح" 11/ 416 "كتاب الرقاق" رقم (6541).

ص: 518

أن يكون معناه: في جملتهم سبعون ألفًا، ويؤيد هذا رواية البخاري في "صحيحه":"هذه أمتك، ويدخل الجَنَّة من هؤلاء سبعون ألفًا"، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": المراد بالمعية: المعنويةُ، فإن السبعين ألفًا المذكورين من جملة أمته، لكن لَمْ يكونوا في الذين عُرِضُوا إذ ذاك، فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفًا إليهم.

وقد وقع في رواية محمد بن فضيل، عن حُصين:"ويدخل الجَنَّة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب"، وفي رواية عَبْثَر بن القاسم، عن حصين:"هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا".

والإشارة بـ "هؤلاء" إلى الأمة، لا إلى خُصوص مَن عُرِض، ويحتمل أن تكون "مع" بمعنى:"مِن"، فتأتلف الروايات.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح": "مع" بمعنى: "من"، وهذا يحتاج إلى ثبوته عن أهل اللغة، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ نَهَضَ) من باب نَفَع: أي قام النبيّ صلى الله عليه وسلم من مجلسه ذلك (فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ) بالخاء والضاد المعجمتين: أي تكلّموا، وتناظروا، وفي هذا إباحة المناظرة في العلم، والمباحثة في نصوص الشرع، على جهة الاستفادة، وإظهار الحق، والله تعالى أعلم. (فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا) بفتح أوله، وكسر ثانيه، يقال: صَحِبَه يَصْحَبه من باب تَعِبَ، صُحْبَةً (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَام، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ) وفي رواية عَبْثَر: "فدَخَلَ، ولم يسألوه، ولم يُفسِّر لهم"، وفي رواية محمد بن فُضيل: "فأفاض القوم، فقالوا: نحن الذين آمنا بالله، واتبعنا الرسول، فنحن هم، أو أولادنا الذين وُلدوا في الإسلام، فإنا وُلدنا في الجاهلية، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج، فقال

"، وفي رواية حُصَين بن نُمير: "فقالوا: أما نحن فوُلدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله وبرسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا"، وفي

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 94.

ص: 519

حديث جابر رضي الله عنه: "وقال بعضنا: هم الشهداء"، وفي رواية له:"مَن رَقَّ قلبه للإسلام".

(فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ " فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: "هُمُ الذِينَ لَا يَرْقُونَ) هكذا في رواية سعيد بن منصور قال: "لا يرقون"، وقال غيره بدلها:"لا يَكتوُون"، ولفظ البخاريّ:"قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".

قال في "الفتح": اتَّفَقَ على ذكر هذه الأربع معظمُ الروايات في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان عند البعض تقديم وتأخير، وكذا في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عند مسلم - يعني الذي تقدّم قبل هذا - وفي لفظ له سقط:"ولا يتطيرون".

قال: وقد أنكر الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية هذه الرواية - يعني رواية سعيد بن منصور هذه - بلفظ: "ولا يَرْقُون"، وزعم أنَّها غلط من راويها، واعتَلَّ بأن الراقي يُحسِن إلى الذي يَرقيه، فكيف يكون ذلك مطلوبَ الترك؟، وأيضًا فقد رَقَى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَقَى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأذن لهم في الرُّقَي، وقال:"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل"، والنفع مطلوب، قال: وأما الْمُستَرقِي فإنه يسأل غيره، ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك، قال: وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يَرْقِيَهم، ولا يَكْويهم، ولا يتطيرون من شيء.

وأجاب غيره: بأن الزيادة من الثقة مقبولة، وسعيد بن منصور حافظ، وقد اعتمده البخاري ومسلم، واعتمد مسلم على روايته هذه، وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه، والمعنى الذي حَمَله على التغليط موجود في المسترقِي؛ لأنه اعْتَلّ بأن الذي لا يطلب من غيره أن يَرقيه تامّ التوكل، فكذا يقال له: والذي يَفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يُمَكِّنه منه؛ لأجل تمام التوكل، وليس في وقوع ذلك من جبريل؛ دلالةٌ على الْمُدَّعَى، ولا في فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم له أيضًا دلالةٌ لأنه في مقام التشريع، وتبيينِ الأحكام.

ويمكن أن يقال: إنما ترك المذكورون الرُّقَى والاسترقاءَ حسمًا للمادة؛

ص: 520

لأن فاعل ذلك لا يَأمَن أن يَكِلَ نفسه إليه، وإلا فالرُّقية في ذاتها ليست ممنوعة، وإنما مُنِع منها ما كان شركًا، أو احتمله.

ومن ثَمّ قال صلى الله عليه وسلم: "اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكم"، و"لا بأس بالرُّقَى ما لَمْ يكن شرك"، ففيه إشارة إلى علة النهي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التحقيق الذي ذكره الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن زيادة: "لا يَرقون" في رواية سعيد بن منصور هذه زيادة صحيحة؛ لأن سعيدًا ثقة حافظ، تُقبل زيادته، وليس في قبولها ما يؤدّي إلى معنى منكر؛ لأن النكارة التي ظُنّت فيها، وهي منافاة تمام التوكّل توجد في الاسترقاء أيضًا، فلا معنى لإنكارها وحدها، والمراد أن هؤلاء السبعين قد أعرضوا عن هذه الأسباب، وإن كانت مباحةً؛ طلبًا لتمام التوكّل، فخُصّوا بهذه الدرجة العالية، والله تعالى أعلم.

وقد نَقَل القرطبي رحمه الله عن غيره أن استعمال الرُّقَى والكيّ قادح في التوكل، بخلاف سائر أنواع الطبّ، وفرَّق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم، وما عداهما مُحَقَّق عادةً، كالأكل والشرب، فلا يقدح، قال القرطبيّ: وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن أكثر أبواب الطبّ موهوم، والثاني: أن الرُّقَى بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه، والالتجاء إليه، والرغبة فيما عنده، والتبرك بأسمائه، فلو كان ذلك قادحًا في التوكل، لَقَدَح الدعاء؛ إذ لا فرق بين الذكر والدعاء، وقد رَقَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورُقِي، رقاه جبريل وعائشة، وفَعَل ذلك الخلفاء والسلف، فلو كان مانعًا من اللَّحَاق بالسبعين، أو قادحًا في التوكل لَمْ يقع من هؤلاء، وفيهم من هو أعلى وأفضل ممن عداهم. انتهى

(1)

.

وتُعُقِّب بأنه بَنَى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبةً من غيرهم مطلقًا، وليس كذلك؛ لما سيأتي.

وجَوَّز أبو طالب بن عطية في موازنة الأعمال أن السبعين المذكورين هم

(1)

"المفهم" 1/ 464 - 465.

ص: 521

المراد بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12]، فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلَّمٌ، وإلا فلا.

وقد أخرج أحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، من حديث رِفَاعة الْجهَنيّ قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا، وفيه:"وَعَدَني ربي أن يُدخل الجَنَّة من أمتي سبعين ألفًا بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبَوَّؤوا أنتم، ومَن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجَنَّة".

فهذا يَدُلّ على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يُحاسَب في الجملة مَن يكون أفضل منهم، وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته، وعَرَف مقامه من الجَنَّة يَشفَع في غيره من هو أفضل منهم.

وسيأتي قريبًا من حديث أم قيس بنت محصن رضي الله عنهما: أن السبعين ألفًا ممن يُحشر من مقبرة البقيع بالمدينة، وهي خصوصية أخرى، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَلَا يَسْتَرْقُونَ) أي لا يطلبون من أنفسهم، ولا من غيرهم أن يرقيهم (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) أي لا يتشاءمون بإثارة الطيور من مجاثمها، كما كانوا يفعلونه في الجاهليّة. قال الجوهري رحمه الله: تطيرتُ من الشيء، وبالشيء، والاسم منه الطِّيَرة - بكسر الطاء، وفتح الياء - مثالُ الْعِنَبَة، وقد تسكن الياء، وهو ما يُتشاءم به من الفال الرديء، وقال ابن الأثير رحمه الله: الطّيَرةُ: مصدر تطيَّر، يقال: تَطَيَّر طِيَرةً، وتَخَيَّر خِيَرةً. قال: ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما، قال: وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الظباء والطير وغيرهما، وكان ذلك يَصُدُّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، ولا دفع ضرر

(2)

.

وقال في "الفتح": "الطّيَرَة" - بكسر المهملة، وفتح التحتانية، وقد تسكن -: هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تَطَيَّرَ، مثل تَحَيَّر حِيَرَةً، قال بعض

(1)

11/ 416 - 417 "كتاب الرقاق" رقم (6541).

(2)

"الصحاح" 2/ 625، و"النهاية" 3/ 152.

ص: 522

أهل اللغة: لَمْ يجئ من المصادر هكذا غير هاتين، وتُعُقِّب بأنه سمع طِيَبَةٌ، وأورد بعضهم التِّوَلَة، وفيه نظر.

وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يَمْنَةً تيمّن به، واستمر وإن رآه طار يَسْرَةً تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يُهِيج الطير ليطير، فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه "السانح" - بمهملة، ثم نون، ثم حاء مهملة - و"البارح" بموحدة، وآخره مهملة، فالسانح ما وَلّاك مَيَامِنَهُ، بأن يَمُرَّ عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس، وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه إلَّا بأن يَنْحَرِف إليه، وليس في شيء من سُنُوح الطير وبُرُوحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلّف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير، ولا تمييز، فيُسْتَدَلّ بفعله على مضمون معنىً فيه، وطلب العلم من غير مظانّه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير، ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم [من مجزوّ الكامل]:

وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا

أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمِ

فَإِذَا الأَشَائِمُ كَالأَيَامِنِ

وَالأَيَامِنُ كَالأَشَائِمِ

وقال آخر [من البسيط]:

الزَّجْرُ وَالطَّيْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ

مُضلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ

وقال آخر [من الطويل]:

وَمَا عَاجِلَاتُ الطَّيْرِ تُدْنِي مِنَ الْفَتَى

نَجَاحًا وَلَا عَنْ رَئِيِّهِنَّ قُصُورُ

وقال آخر [من الطويل]:

لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالْحَصَى

وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ

وقال آخر [من الوافر]:

تَخَيَّرَ طَيْرَةً فِيهَا زَيادُ

لِتُخْبِرَهُ وَمَا فِيهَا خَبِيرُ

تَعَلَّمَ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا

عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ

بَلَى شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيءٍ

أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ

وكان أكثرهم يتطيرون، ويعتمدون على ذلك، وَيصِحّ معهم غالبًا؛ لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين.

ص: 523

وقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث أنس رضي الله عنه رفعه: "لا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ على مَن تَطَيَّر".

وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا يَسْلَم منهنّ أحدٌ: الطِّيَرة، والظنّ، والْحَسَدُ، فإذا تطيرت فلا تَرجع، وإذا حسدت فلا تَبْغ، وإذا ظننت فلا تُحَقِّق"، وهذا مرسل، أو معضلٌ، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البيهقيّ في "الشعب".

وأخرج ابن عديّ بسند لين، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا"، وأخرج الطبرانيّ عن أبي الدرداء رضي الله عنه، رفعه: لن ينال الدرجات العلى مَن تَكَهَّن، أو استسقم، أو رجع من سفر تَطَيُّرًا".

قال الحافظ رحمه الله: ورجاله ثقات، إلَّا أنني أظنّ أن فيه انقطاعًا، وله شاهد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد.

وأخرج أبو داود، والترمذيّ، وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"الطّيَرَةُ شركٌ، وما مِنّا إلَّا تَطَيَّرَ، ولكن الله يُذهِبه بالتوكل".

وقوله: "وما مِنَا إلّا" من كلام ابن مسعود رضي الله عنه أُدرج في الخبر، وقد بيّنه سليمان بن حرب، شيخ البخاريّ فيما حكاه الترمذيّ، عن البخاريّ، عنه.

وإنما جُعِلَ ذلك شركًا؛ لاعتقادهم أن ذلك يَجْلُب

(1)

نفعًا، أو يدفع ضرًّا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى.

وقوله: "ولكنّ الله يُذهبه بالتوكل" إشارةٌ إلى أن مَن وقع له، فَسَلَّمَ لله، ولم يَعْبَأْ بالطِّيَرة أنه لا يُؤاخَذ بما عَرَضَ له من ذلك.

وأخرج البيهقيّ في "الشُّعَب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفًا: "مَن عَرَض لهَ من هذه الطِّيَرة شيء، فليقل: اللهم لا طَيْر إلَّا طيرُك، ولا خير إلَّا خيرك، ولا إله غيرك".

(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ") قال في "الفتح": يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرةً لما تقدَّم من ترك الاسترقاء، والاكتواء، والطِّيَرة، ويحتمل أن تكون من العامّ بعد الخاصّ؛ لأن صفة كلّ واحدة منها صفة خاصّة من التوكل وهو أعمّ من ذلك.

(1)

من باب ضرب، ونصر.

ص: 524

وأصل التوكّل الوُكُول، يقال: وَكَلت أمري إلى فلان: أي ألجأته إليه، واعتمدتُ فيه عليه، ووَكَل فلانٌ فلانًا: استكفاه أمره؛ ثقةً بكفايته، والمراد بالتوكل اعتقاد ما دَلَّت عليه هذه الآية:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]، وليس المراد به تركَ التسبب، والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأن ذلك قد يَجُرّ إلى ضِدّ ما يراه من التوكل، وقد سُئِل أحمد رحمه الله عن رجل جَلَسَ في بيته، أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجلٌ جَهِلَ العلم، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله جَعَل رزقي تحت ظل رُمحي"

(1)

، وقال:"لو توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خماصًا، وتروح بطانًا"

(2)

، فذكر أنَّها تغدو، وتروح في طلب الرزق، قال: وكان الصحابة رضي الله عنهم يتّجرون، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. انتهى

(3)

.

وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى -.

(فَقَامَ عُكَاشَةُ) تقدّم أنه بضمّ العين، وتشديد الكاف، وقد تُخفَّف (بْنُ مِحْصَنٍ) بكسر، فسكون (فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:"أنتَ مِنْهُمْ") تقدّم أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعله منهم"، ويُجمَعُ بأنه دعا له أَوَّلًا، ثم أخبره بأنه استجيبت دعوته له (ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ) لَمْ يُعرَف، وما قيل: إنه سعد بن عُبادة رضي الله عنه قد تقدّم ردّه (فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("سَبَقَكَ بِهَا) أي بهذه الدرجة، أو بهذه الدعوة (عُكَّاشَةُ")، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(5093)، فقال بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله رحمه الله: "بُعِثت بالسيف حتى يُعْبَد الله، لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجَعَل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".

(2)

أخرجه الترمذيّ، وصحّحه، هو والحاكم.

(3)

"الفتح" 11/ 312 "كتاب الرقاق" رقم (6472).

ص: 525

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[100/ 533 و 534](220)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3410)، و"الطبّ"(5705 و 5752)، و"الرقاق"(6472 و 6541)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2446)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 271)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(243 و 244 و 245)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(526 و 527)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6430)، و (ابن منده) في "الإيمان"(982 و 984)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4322)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): أنه قد وقع الاختلاف في قوله: "لا رقية إلَّا من عين، أو حُمَةٍ"، هل هو من حديث بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه، كما أخرجه المصنّف عنه، أو من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما، كما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، أو من حديث غيره؟ وكذا في وقفه، ورفعه.

قال في "الفتح": قوله: "عن عمران حُصين، قال: لا رقية

إلخ"، كذا رواه محمد بن فُضيل، عن حصين موقوفًا، ووافقه هُشيم، وشعبة، عن حُصين على وقفه، ورواية هشيم عند أحمد، ومسلم، ورواية شعبة عند الترمذيّ تعليقًا، ووَصَلها ابنا أبي شيبة، ولكن قالا: عن بُرَيدة، بدل عمران بن حصين، وخالفَ الجميعَ مالكُ بن مِغْوَل، عن حُصين، فرواه مرفوعًا، وقال: عن عمران بن حُصين، أخرجه أحمد، وأبو داود، وكذا قال ابن عيينة، عن حُصين، أخرجه الترمذيّ، وكذا قال إسحاق بن سليمان، عن حصين، أخرجه ابن ماجة، واختُلِف فيه على الشعبيّ اختلافًا آخر، فأخرجه أبو داود، من طريق العباس بن ذَرِيح - بمعجمة، وراء، وآخره مهملة، بوزن عَظَيم - فقال: عن الشعبيّ، عن أنس، ورفعه، وشذّ العباس بذلك، والمحفوظ رواية حُصَين مع الاختلاف عليه، في رفعه ووقفه، وهل هو عن عمران، أو بُرَيدة؟.

والتحقيقُ أنه عنده عن عمران، وعن بُرَيدة جميعًا، ووقع لبعض الرواة عن البخاري قال: حديث الشعبيّ مرسلٌ، والمسندُ حديث ابن عباس، فأشار

ص: 526

بذلك إلى أنه أورد حديث الشعبيّ استطرادًا، ولم يَقْصِد إلى تصحيحه، ولعلّ هذا هو السر في حذف الْحُميديّ له من "الجمع بين الصحيحين"، فإنه لَمْ يذكره أصلًا.

قال: ثم وجدتُ

(1)

في نسخة الصغانيّ: قال أبو عبد الله - هو البخاريّ -: إنما أردنا من هذا حديث ابن عباس، والشعبيّ عن عمران مرسلٌ، وهذا يؤيد ما ذكرته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن الأرجح في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا أنه موقوف عليه، وأنه إنما ذكره الشيخان في "صحيحيهما"؛ استطرادًا، لا أصالةً، واحتجاجًا، فلا ينافي غرض الكتابين.

لكن الذي يظهر أن مثله لا يُقال بالرأي، فله حكم الرفع، ولذا صوّب سعيد بن جبير رحمه الله احتجاج حُصين بن عبد الرَّحمن به على استرقائه، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الظاهر أن البخاريّ رحمه الله أراد بقوله: مرسل ضدّ المرفوع، وهو الموقوف؛ لأنه قابله بالمسند، والمسند يُطلَق على المرفوع عند بعض المحدّثين، كما أشار إليه السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:

الْمُسْنَدُ الْمَرْفُوعُ ذَا اتِّصَالِ

وَقِيلَ أَوَّلٌ وَقِيلَ التَّالِي

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان دخول طائفة من هذه الأمّة الجنّة بغير حساب ولا عذاب.

2 -

(ومنها): بيان فضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث يُدخل طائفةً منهم الجَنَّة بغير حساب، ولا عذاب.

3 -

(ومنها): مشروعيّة الاسترقاء من العين، والْحُمَة، وقد سبق أن هذا

(1)

الكلام للحافظ ابن حجر رحمه الله.

ص: 527

لا ينافي الاسترقاء في غيرهما من الأمراض؛ لأن المراد أن الرقية في هذين أنفع وأولى من سائر الأدوية، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): بيان أن أهل الجنّة يختلف جمالهم، وبهاؤهم كما تختلف درجاتهم، كما قال عز وجل:{وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً عظيمةً لعُكاشة بن مِحْصَن رضي الله عنه، حيث نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه يدخل الجَنَّة بغير حساب، فقال:"أنت منهم".

6 -

(ومنها): حسن تلظف النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكريم أخلاقه، حيث قال للرجل الآخر:"سبقك بها عكّاشة"، ولم يقل له: لست منهم.

7 -

(ومنها): أن التطيّر غير مشروع، وأما الكيّ، والرقي، فسيأتي تفصيل الكلام فيهما في المسائل الآتية - إن شاء الله تعالى -.

8 -

(ومنها): فضل التوكّل على الله سبحانه وتعالى.

9 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قول سعيد بن جُبير: "فما حملك على ذلك؟ "، وقول: حُصين بن عبد الرَّحمن: "حديث حدّثناه الشعبيّ

إلخ"، مدى حرص السلف على طلب الدليل على أيّ عمل يعمله الإنسان، من التداوي، أو غيره؛ ليكونوا على علم وبصيرة، ولا يتّبعوا أهواءهم، وهذا هو الطريق المستقيبم الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

10 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قول سعيد رحمه الله: "قد أحسن من انتهى

إلخ"، مدح من اتّصف باتّباع الأدلّة التي وصلت إليه، والعمل بها، وإن كان هناك دليلٌ أرجح منها، ولكنه أرشده إلى الأرجح.

11 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قول حُصين رحمه الله: "أما إني لَمْ أكن في صلاة

إلخ"، حرص السلف على الابتعاد عن تزكية أنفسهم بما ليس فيهم، فيكونوا كلابس ثوبي زور، فإن كونه ساهرًا في الليل يُظنّ منه أنه كان يصلّي، ويذكر الله تعالى فيه، مع أنه إنما سهر لمرض حلّ به، فخشي أن يُظنّ به ما ليس فيه، فصرّح بدفعه عنه.

ص: 528

12 -

(ومنها): مشروعيّة المناقشة والمناظرة في نصوص الكتاب والسنّة؛ للتوصّل إلى الغرض المطلوب منها، فإن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، تنازعوا في هؤلاء السبعين ألفًا، وأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم بيّن لهم ما هو الصواب في المسألة.

وأما ما ورد من إنكاره صلى الله عليه وسلم في ذلك، فمحمول على ما يؤدّي إلى المغالطة، وإظهار الغلبة على الأقران، ودفع بعض النصوص ببعض، فإن ذلك حرام، أو فيما لا ينبغي الخوض فيه، كالقدر، والتنازع في متشابه الكتاب والسنّة.

فقد أخرج المصنّف رحمه الله في "كتاب العلم"، فقال:(2666) حدثنا أبو كامل، فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أبو عمران الْجَوْني، قال: كتب إليّ عبد الله بن رَبَاح الأنصاريّ، أن عبد الله بن عمرو، قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين، اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعرَف في وجهه الغضب، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

وأخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن نَفَرًا كانوا جلوسًا بباب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله: كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله: كذا وكذا؟، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخَرَج، كأنما فُقِئ في وجهه حَبّ الرُّمّان، فقال:"بهذا أُمرتم؟ أو بهذا بُعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضَلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ها هنا في شيء، انظروا الذي أُمرتم به، فاعملوا به، والذي نُهيتم عنه فانتهوا".

وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع آيةً، وهذا ينزع آية

فذكر الحديث

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

أخرجه في "مسند المكثرين" برقم (6806)، وأخرجه ابن ماجة في "سننه" برقم (82).

ص: 529

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في معنى هذا الحديث:

(اعلم): أنهم اختَلَفوا في ذلك، فقال أبو عبد الله المازريّ رحمه الله: احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكروه، ومعظم العلماء على خلاف ذلك، واحتجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية، والأطعمة، كالْحَبّة السوداء، والقُسْط، والصَّبِر، وغير ذلك، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوي، وبإخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه، وبما عُلِم من الاستشفاء برُقَاه، وبالحديث الذي فيه أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذوا على الرقية أجرًا، فاذا ثبت هذا حُمِل ما في الحديث على قوم يَعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها، ولا يُفَوِّضون الأمر إلى الله تعالى.

قال القاضي عياض رحمه الله: قد ذهب إلى هذا غير واحد ممن تكلم على الحديث، ولا يستقيم هذا التأويل، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة، يدخلون الجَنَّة بغير حساب، وبأن وجوههم تضيء إضاءة القمر ليلة البدر، ولو كان كما تأوّله هؤلاء لَمَا اختص هؤلاء بهذه الفضيلة؛ لأن تلك هي عقيدة جميع المؤمنين، ومن اعتقد خلاف ذلك كَفَرَ.

وقد تكلم العلماء، وأصحاب المعاني على هذا، فذهب أبو سليمان الخطابيّ وغيره إلى أن المراد: مَن تركها توكلًا على الله تعالى، ورضاءً بقضائه وبلائه، قال الخطابيّ: وهذه من أرفع درجات المتحققين بالإيمان، قال: وإلى هذا ذهب جماعة سمّاهم، قال القاضي: وهذا ظاهر الحديث، ومقتضاه أنه لا فرق بين ما ذُكِر من الكيّ والرُّقَي، وسائر أنواع الطبّ.

وقال الداوديّ: المراد بالحديث: الذي يفعلونه في الصحة، فإنه يُكرَه لمن ليست به علةٌ أن يتخذ التمائم، ويَستعمل الرُّقَي، وأما من يستعمل ذلك، ممن به مرضٌ، فهو جائز.

وذهب بعضهم إلى تخصيص الرُّقَى والكيّ من بين أنواع الطبّ لمعني، وأن الطبّ غير قادح في التوكل؛ إذ تطبب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفضلاء من السلف، وكل سبب مقطوع به، كالأكل والشرب للغذاء والريّ لا يقدح في التوكل عند المتكلمين في هذا الباب، ولهذا لَمْ يَنْفِ عنهم التطبب، ولهذا لَمْ يجعلوا الاكتساب للقوت، وعلى العيال قادحًا في التوكل، إذا لَمْ يكن ثقته في

ص: 530

رزقه باكتسابه، وكان مُفَوِّضًا في ذلك كله إلى الله تعالى، والكلام في الفرق بين الطبّ والكيّ يطول، وقد أباحهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهما، لكني أذكر منه نكتةً تكفي، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تطبب في نفسه، وطَبَّب غيره، ولم يكتو، وكَوَى غيره، ونَهَى في "الصحيح" أمته عن الكيّ، وقال:"ما أُحِب أن أَكْتَوِي". انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله بعد ما تقدّم -: والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابيّ ومن وافقه كما تقدم.

وحاصله: أن هؤلاء كَمُلَ تفويضهم إلى الله عز وجل، فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في فضيلة هذه الحالة، ورجحان صاحبها، وأما تطبب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فليبيّن لنا الجواز، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قد تمسك بهذا الحديث مَن كَرِهَ الرُّقَى، والكَيّ من بين سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان في التوكل، دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:

[أحدها]: ما قاله الطبريّ، والمازريّ، وطائفة: إنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون، وقال غيرهم: الرُّقَى التي يُحْمَد تركها ما كان من كلام الجاهلية، ومن الذي لا يُعْقَل معناه لاحتمال أن يكون كفرًا، بخلاف الرُّقَى بالذكر ونحوه.

وتعقّبه القاضي عياض وغيره: بأن الحديث يدلّ على أن للسبعين ألفًا مزيّةً على غيرهم، وفضيلةً انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها، أو يَستعمل رُقَى الجاهلية ونحوها، فليس مسلمًا، فلم يَسْلَم هذا الجواب.

[ثانيها]: ما قاله الداوديّ، وطائفة: إن المراد بالحديث: الذين يجتنبون فعلَ ذلك في الصحة؛ خشيةَ وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 895 - 902.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 91.

ص: 531

الداء به فلا، وبه قال ابن قتيبة وغيره، وهو اختيار ابن عبد البرّ، لكنه متعقّبٌ بما ثبت من الاستعاذة قبل وقوع الداء.

[ثالثها]: ما قاله الحليميّ: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث مَن غَفَلَ عن أحوال الدنيا، وما فيها من الأسباب العوارض، فهم لا يَعْرِفون الاكتواء، ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يَعتريهم إلَّا الدعاء، والاعتصام بالله تعالى، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طبّ الأطباء، ورُقَى الرُّقَاة، ولا يحسنون من ذلك شيئًا.

[رابعها]: أن المراد بترك الرُّقَى والكيّ الاعتمادُ على الله في دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك؛ لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابيّ، ومن تبعه.

قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواصّ الأولياء، ولا يَرِد على هذا وقوع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلًا، وأمرًا؛ لأنه كان في أعلى مقامات العرفان، ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع، وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله؛ لأنه كان كامل التوكل يقينًا، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئًا، بخلاف غيره، ولو كان كثير التوكل، لكن مَن ترك الأسبابَ وفَوَّض، وأخلص في ذلك كان أرفع مقامًا.

قال الطبريّ: قيل: لا يستحق التوكل إلَّا من لَمْ يخالط قلبَهُ خوفٌ من شيء البتة، حتى السبع الضاري، والعدوّ العادي، ولا من لَمْ يَسْعَ في طلب رزق، ولا في مداواة ألم.

والحقّ أن مَن وَثِقَ بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماضٍ، لَمْ يقدح في توكله تعاطيه الأسباب؛ اتِّباعًا لسنته، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه الْمِغْفَر، وأقعد الرُّماة على فَمِ الشِّعْب، وخَنْدَق حول المدينة، وأَذِنَ في الهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادَّخَر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن يَنزل عليه من السماء، وهو كان أحقّ الخلق أن يَحْصُل له ذلك، وقال للذي سأله: أعقل

ص: 532

ناقتي، أو أدعها؟ قال:"اعقلها، وتوكل"

(1)

، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، ذكره في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن أرجح الأقوال في الجمع بين أحاديث إباحة الرقى، وحديث السبعين هذا أن الأصل هو الإباحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، وأمر به، ولكن من تركه؛ لشدّة توكّله، ووثوقه والرضا بقضاء ربّه، مع أنه يراه سببًا من الأسباب المشروعة، فإنه ينال هذه الدرجة الرفيعة، والمنزلة العالية، وهي دخول الجنّة بلا حساب، ولا عذاب، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال في "الفتح": سلك الكرمانيّ في الصفات المذكورة مسلك التأويل، فقال: قوله: "لا يكتوون"، معناه: إلَّا عند الضرورة، مع اعتقاد أن الشفاء من الله، لا من مجرد الكيّ، وقوله:"ولا يسترقون": معناه: بالرُّقَى التي ليست في القرآن، والحديث الصحيح، كرُقَى الجاهلية، وما لا يُؤْمَن أن يكون فيه شرك، وقوله:"ولا يتطيرون": أي لا يتشاءمون بشيء، فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ما سلكه الكرماني رحمه الله من التأويل المذكور بعيد عن الحديث، والصواب ما قدّمناه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما يتعلّق بقوله: "ولا يكتوون":

(1)

أخرجه الترمذيّ رحمه الله في "جامعه": (2441) حدثنا عمرو بن عليّ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا المغيرة بن أبي قُرّة الدوسيّ، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال:"اعقلها وتوكل".

قال عمرو بن علي: قال يحيى: وهذا عندي حديث منكر، قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب، من حديث أنس، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، وقد رُوي عن عمرو بن أمية الضمريّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا. انتهى. وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، انظر:"صحيح الجامع" رقم (1068).

(2)

10/ 222 "كتاب الطبّ" رقم (5752).

ص: 533

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من اكتوى، أو كَوَى غيره، وفضل من لَمْ يكتو".

قال في "الفتح": كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لَمْ يتعين، وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه، أو بغيره لنفسه، أو لغيره.

أما عموم الجواز فمأخوذ من نسبة الشفاء إليه في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شَرْبة عَسَل، أو شَرْطَة مِحْجَم، أو لَذْعَةٍ من نار، وما أحب أن أَكْتَوِي"، متّفقٌ عليه.

وأما فضلُ تركه من قوله صلى الله عليه وسلم: "وما أحب أن أَكْتَوِيَ"، وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال:"رُمِيَ سعد بن معاذ على أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومن طريق أبي سفيان، عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقَطَع منه عِرْقًا، ثم كواه"، ورَوَى الطحاويّ، وصححه الحاكم، عن أنس رضي الله عنه قال:"كَوَاني أبو طلحة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وأصله في البخاريّ، وأنه كُوِيَ من ذات الجنب، وعند الترمذيّ، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أسعد بن زُرارة من الشوكة"، ولمسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما:"كان يُسَلَّم عليّ حتى اكتويت، فتُرِكتُ، ثم تركت الكيّ، فعاد"

(1)

.

وله عنه من وجه آخر: "أن الذي كان انقطع عني رجع إليّ"، يعني؛ تسليم الملائكة، كذا في الأصل، وفي لفظ:"أنه كان يُسَلَّم عليّ، فلما اكتويت أُمسك عني، فلما تركته عاد إليّ"، وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، عن عمران رضي الله عنه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا، ولا أنجحنا"، وفي لفظ:"فلم يُفلحن، ولم يَنجحن"، وسنده قويّ.

قال الحافظ رحمه الله: والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأولى؛ لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاصّ بعمران؛ لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خَطِرًا، فنهاه عن كيّه، فلما اشتدّ عليه كَوَاه، فلم يَنجَح.

(1)

سيأتي في "كتاب الحجّ" برقم (1226).

ص: 534

وقال ابن قتيبة: الكيّ نوعان: كَيُّ الصحيح؛ لئلا يَعْتَلّ، فهذا الذي قيل فيه: لَمْ يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع.

والثاني: كيّ الجرح إذا نَغَلَ: أي فَسَد، والعضو إذا قُطِع فهو الذي يُشْرَع التداوي به، فإن كان الكيّ لأمر مُحْتَمِل فهو خلاف الأولى؛ لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير مُحَقَّقٍ.

وحاصل الجمع أن الفعل يدلُّ على الجواز، وعدم الفعل لا يدلُّ على المنع، بل يدلُّ على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في أثر صحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلَّا أن القرطبيّ نَسَبَ إلى كتاب "أدب النفوس" للطبريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الْحَلِيميّ بلفظ: رُوي أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأُحد.

قال الحافظ: والثابت في الصحيح أن فاطمة أحرقت حَصِيرًا، فَحَشَت به جرحه، وليس هذا الكيَّ المعهودَ، وجزم ابن التين بأنه اكتوي، وعكسه ابن القيم في "الهدي". انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فيما يتعلّق بقوله: "وعلى ربهم يتوكلون":

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَت عبارات العلماء من السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحَكَى الإمام، أبو جعفر الطَّبَريّ وغيره عن طائفة من السلف، أنهم قالوا: لا يَسْتَحقُّ اسم التوكل إلَّا من لَمْ يُخالط قلبه خوف غير الله تعالى، من سَبُع، أو عدوّ، حتى يترك السعي في طلب الرزق ثقةً بضمان الله تعالى له رزقه، واحتجوا بما جاء في ذلك من الآثار.

وقالت طائفة: حدُّه الثقة بالله تعالى، والإيقان بأن قضاءه نافذ ماضٍ،

(1)

10/ 164 "كتاب الطب" رقم (5704).

(2)

المصدر السابق.

ص: 535

واتباعُ سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بدّ منه، من المطعم والمشرب، والتحرُّز من العدوّ، كما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفعله الأنبياء - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين - فقد نصّ الله تعالى عنهم الخوفَ، والكسبَ، والتحرّز من أعدائهم، وعن نبيّنا صلى الله عليه وسلم مثله، من ادّخار قوت سنته، وتطبُّبه، وفعل ذلك جِلّة أصحابه رضي الله عنهم

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا المذهب هو الحقّ، وأما الأول فمذهب رديء، بل باطلٌ؛ لمنابذته هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب، وأمر أمته بالأخذ بها، وهو سيّد المتوكّلين، فتبصّر.

ثم إن هذا لا ينافي ما ورد في حقّ السبعين ألفًا من إعراضهم عن هذه الأسباب التي وردت في هذا الحديث؛ لأن هذا ورد الترغيب في الإعراض عنه، وأخبر الشارع بأنه من صفات هؤلاء، فيُقتصر عليه، فعليك بالتمييز بين الحقائق، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال في "الفتح": قال القرطبي وغيره: قالت طائفة من الصوفية: لا يستحقّ اسم التوكل إلَّا من لَمْ يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هَجَم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يَسْعَى في طلب الرزق؛ لكون الله تعالى ضَمِنَه له، وأبى هذا الجمهور، وقالوا: يحصل التوكل بأن يَثِقَ بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقعٌ، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق، مما لا بدّ له منه، من مطعم ومشرب، وتحرُّز من عدو بإعداد السلاح، وإغلاق الباب، ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنَّها لا تجلِبُ بذاتها نفعًا ولا تدفع ضرًّا، بل السبب والْمُسَبَّب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قَدَح في توكله، وهُم مع ذلك فيه على قسمين: واصلٌ، وسالكٌ، فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب، ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانًا إلَّا أنه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية، والأذواق الحالية إلى أن يَرتقي إلى مقام الواصل.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 91، و"إكمال المعلم" 2/ 903 - 904.

ص: 536

وقال أبو القاسم القشيريّ: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه، إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله، فإن تيسر شيء فبتيسيره، وإن تعسر فبتقديره.

ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وكان داود يأكل من كسبه"، فقد قال تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80]، وقال تعالى:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].

وأما قول القائل: كيف تطلب ما لا تعرف مكانه؛ فجوابه أنه يَفْعَل السببب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يَخرُج عن قدرته، فيَشُقُّ الأرض مثلًا، ويُلْقِي الحبّ، ويتوكل على الله في إنباته، وإنزال الغيث له، ويُحَصّل السلعة مثلًا، وينقلها، ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب مَن يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبًا، كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة، فمتى ترك ذلك كان عاصيًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن التوكّل الحقَّ الذي هو شعبة من شُعَب الإيمان، حيث أمر الله سبحانه وتعالى به فقال:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، هو توكّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو اعتماد القلب على الله تعالى اعتمادًا كليًّا بحيث لا يلتفت إلى الأسباب، مع التمسّك بها ظاهرًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): قال الكرمانيّ رحمه الله: [فإن قيل]: إن المتّصف بالأوصاف المذكورة في هذا الحديث أكثر من العدد المذكور، في وجه الحصر وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير، لا خصوص العدد.

قال الحافظ رحمه الله: الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره، فقد وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصفهم بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، وفي رواية:"أول زمرة تدخل الجَنَّة على سورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دُرّيّ في السماء إضاءةً"، ولمسلم من حديث جابر رضي الله عنه:

ص: 537

"فتنجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفًا لا يحاسبون"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قد ورد في أحاديث أخرى أن مع السبعين ألفًا زيادةً عليهم، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد، والبيهقيّ في "البعث" عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سألت ربي عز وجل، فوعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفًا على سورة القمر ليلة البدر، فاستزدتُ، فزادني مع كلّ ألف سبعين ألفًا، فقلت: أي ربّ إن لَمْ يكن هؤلاء مهاجري أمتي، قال: إذن أكملهم لك من الأعراب"، وسنده جيد.

وفي الباب عن أبي أيوب، عند الطبرانيّ، وعن حذيفة عند أحمد، وعن أنس عند البزار، وعن ثوبان عند ابن أبي عاصم، فهذه طُرُق يقوّي بعضها بعضًا.

وجاء في أحاديث أخرى أكثر من ذلك، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، والطبرانيّ، وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، رفعه:"وعدني ربي أن يُدخل الجَنَّة من أمتي سبعين ألفًا، مع كلّ ألف سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حَثَيَات من حَثَيات ربيّ"، وفي "صحيح ابن حبان" أيضًا، والطبرانيّ بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه، بلفظ:"ثم يَشفع كلّ ألف في سبعين ألفًا، ثم يَحثي ربي ثلاث حَثَيات بكفيه"، وفيه: فكبّر عمر رضي الله عنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن السبعين ألفًا يُشَفّعهم الله في آبائهم، وأمهاتهم، وعشائرهم، وإني لأرجو أن يكون أدنى أمتي الْحَثَيات"، وأخرجه الحافظ الضياء، وقال: لا أعلم له علةً.

وتعقّبه الحافظ بأن له علّةً، وهي الاختلاف في سنده، فإن الطبرانيّ أخرجه من رواية أبي سلام، حدثني عامر بن زيد، أنه سمع عتبة، ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضًا، فقال: حدثني عبد الله بن عامر، أن قيس بن الحارث حدثه، أن أبا سعيد الأنماريّ حدثه، فذكره، وزاد: قال قيس: فقلت لأبي سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذلك يَستوعب مهاجري أمتي، ويوفي الله بقيتهم من أعرابنا"، وفي رواية لابن

ص: 538

أبي عاصم: قال أبو سعيد: فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف، يعني مَن عدا الْحَثَيات.

وقد وقع عند أحمد، والطبرانيّ من حديث أبي أيوب رضي الله عنه نحو حديث عتبة بن عبد، وزاد:"والْخَبِيئة - بمعجمة، ثم موحَّدة، وهمزة، وزانُ عظيمة - عند ربي".

وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماريّ، فعند أحمد، وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه نحوه، بلفظ:"أعطاني مع كلّ واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا"، وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ، والآخر لَمْ يُسَمَّ.

وأخرج البيهقيّ في "البعث" من حديث عمرو بن حزم مثله، وفيه راو ضعيف أيضًا، واختُلِف في سنده، وفي سياق متنه، وعند البزار من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف نحوه، وعند الكلاباذي في "معاني الأخبار" بسند وَاهٍ من حديث عائشة رضي الله عنها:"فَقَدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فاتبعته، فإذا هو في مَشْرُبة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قَضَى صلاته، قال: رأيتِ الأنوار؟ قلت: نعم، قال: إن آتيًا أتاني من ربي، فبشّرني أن الله يدخل الجَنَّة من أمتي سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني، فبشّرني أن الله يدخل من أمتي مكان كلّ واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني، فبشّرني أن الله يدخل من أمتي مكان كلّ واحد من السبعين ألفًا المضاعفة سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، فقلت: يا رب لا يبلغ هذا أمتي، قال: أكملهم لك من الأعراب، ممن لا يصوم ولا يصلي"

(1)

.

قال الكلاباذيّ رحمه الله: المراد با لأمة أوّلًا أمة الإجابة، وبقوله آخرًا أمتي أمة الاتّباع، فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام، أحدها أخص من الآخر: أمة الاتّباع، ثم أمة الإجابة، ثم أمة الدعوة، فالأولى أهل العمل الصالح، والثانية مطلق المسلمين، والثالثة مَن عداهم، ممن بُعِث إليهم.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو

(1)

تقدّم أن سنده واهٍ، فلا يُفرح به، وإنما ذُكر لبيان حاله، فتنبّه.

ص: 539

مقدار الحثيات، فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة، عن النضر بن أنس، أو غيره عن أنس، رفعه:"إن الله وعدني أن يدخل الجَنَّة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله، فقال هكذا، وجَمَع كفيه، فقال: زدنا، فقال: وهكذا، فقال عمر: حسبك، إن الله إن شاء أدخل خلقه الجَنَّة بكفّ واحدة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عمر"، وسنده جيّد، لكن اختُلف على قتادة في سنده اختلافًا كثيرًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأحاديث، وإن كان في بعضها مقال، إلَّا أن مجموعها يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم زاده الله تعالى على السبعين ألفًا؛ إكرامًا له، وتفضّلًا عليه، وإجابة لدعائه، فكان هذا مصداق قوله سبحانه وتعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[534]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَى الْأُمَمُ

"، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيث هُشَيْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، صدوقٌ، رمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"حُصين": هو ابن عبد الرَّحمن.

وقوله: ("ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير محمد بن فُضيل.

(1)

هذا يفيد أنه ضعيفٌ؛ للاضطراب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 540

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِ) يعني: قول حُصين بن عبد الرَّحمن: "كنتُ عند سعيد بن جبير" إلى قوله: "حدّثنا ابن عبّاس".

[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية هُشيم، أخرجها الحافظ أبو نُعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 285)، فقال:

(527)

حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، نا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، نا عمي أبو بكر، وواصل بن عبد الأعلى، قالا: نا محمد بن فُضيل، عن حُصين، عن سعيد بن جبير، ثنا ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضت عليّ الأمم، فإذا سَوَاد عظيم، فقلت: هذه أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل: انظر إلى الأُفُق، فإذا بسواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، ويدخل الجَنَّة سواها سبعون ألفًا، بغير حساب"، ثم دخل رسول الله"، ولم يُبَيِّن لهم، فأفاض القوم، فقالوا: نحن هم الذين آمنا بالله، واتبعنا رسوله، فنحن هم، وأولادنا الذين وُلدوا على الإسلام، فبَلَغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هم الذين لا يَستَرْقُون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". انتهى.

[تنبيه آخر]: أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، رواية محمد بن فضيل مع قوله في أول الحديث:"لا رُقية إلَّا من عين، أو حُمة"، لكنها من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما، فقال:

(5705)

حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حُصين، عن عامر، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال:"لا رُقية إلَّا من عين، أو حُمَة"، فذكرته لسعيد بن جبير، فقال: حدثنا ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عُرضت عليّ الأمم، فجعل النبي والنبيّان يمرون، معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رُفع لي سَوَاد عظيم، قلت: ما هذا؛، أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا، في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجَنَّة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب"، ثم دخل، ولم يُبَيِّن لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله، واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين وُلدوا في الإسلام، فإنا وُلدنا في الجاهلية، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج، فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم

ص: 541

يتوكلون"، فقال عُكّاشة بن مِحْصَن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: "سبقك بها عكاشة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(101) - (بَابُ كَوْنِ هَذِهِ الأُمَّةِ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[535]

(221) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ "، قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة، وَسَأخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّار، إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ، فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ، أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ، فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن يحيى بن مُصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) هو: سلّام بن سُليم الْحَنَفِيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ، متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) هو: عمرو بن عبد الله الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ، عابدٌ، اختلط بآخره، ويدلّس [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ) الأوديّ، أبو عبد الله، يقال: أبو يحيى الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ عابدٌ مشهورٌ [2](ت 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 152.

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حَبيب الْهُذليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.

ص: 542

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأقرأ الناس لكتاب الله تعالى، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) صَرّح يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق بسماعه من عمرو بن ميمون عند البخاريّ في "الإيمان والنذور"، فزالت تهمة التدليس عنه (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، ووقع في رواية يوسف المذكورة:"حدَّثني عبد الله بن مسعود"(قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية شعبة، عن أبي إسحاق التالية:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبّة نحوًا من أربعين رجلًا"، وفي رواية مالك بن مِغْوَل، عن أبي إسحاق الآتية:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فأسند ظهره إلى قبة من أدم"، وفي رواية البخاريّ من طريق يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مُضِيف ظهره إلى قُبّة من أدم يمانيّ"، وللإسماعيلي من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق: "أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بمنى إلى قبة من أدم" ("أَمَا) - بفتح الهمزة، وتخفيف الميم - هي أداة عرض، بمنزلة "ألا"، وتختصّ بدخولها على الفعل، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه": وقد يُدَّعَى في ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريريّ، مثلها في "أَلَمْ"، و"أَلا"، وأنّ "ما" نافية. انتهى

(1)

. (تَرْضَوْنَ) وفي رواية البخاريّ: "أترضون"، وفي رواية يوسف

(1)

"مغني اللبيب" 1/ 55 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 543

المذكورة: إذ قال لأصحابه: "إلا ترضون"، وفي رواية إسرائيل عنده أيضًا:"أليس ترضون"، وفي رواية مالك بن مغول الآتية عند المصنّف:"أتحبون".

قال ابن التين رحمه الله: ذكره بلفظ الاستفهام؛ لإرادة تقرير البشارة بذلك، وذكره بالتدريج؛ ليكون أعظم لسرورهم. انتهى

(1)

.

(أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ ") يجوز في "رُبع" ضم الراء، والموحّدة، وتسكينها، ويقال فيه أيضًا: رَبيع بفتح، فكسر، ومثله: ثلث، في فوقه إلى عُشُير، وعُشْرٍ، وعَشِيرٍ (قَالَ: فَكَبَّرْنَا) وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي في الباب التالي: "فحمدنا الله، وكبّرنا"، وفي رواية البخاريّ:"قلنا: نعم"، في رواية:"قالوا: بلى"، وفي حديث ابن عباس عند البخاريّ:"ففرحوا".

وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بَشَّرهم به، فحمدوا الله على نعمته العظمى، وكبّروه استعظامًا لنعمته بعد استعظامهم لنقمته.

(ثُمَّ قَالَ: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ "، قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قال المجد رحمه الله: الشطر: نصف الشيء، وجزؤه، ومنه حديث الإسراء:"فوضع شَطْرها: أي بعضها". انتهى

(2)

. والمراد هنا النصف، بدليل رواية يوسف بن أبي إسحاق المذكورة:"فوالذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة"، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي:"إني لأطمع" بدل "لأرجو".

[تنبيه]: وقع لهذا الحديث سبب، سيأتي التنبيه عليه عند شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه آخر]: زاد الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجَنَّة، بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجَنَّة".

قال الحافظ رحمه الله: ولا تصح هذه الزيادة؛ لأن الكلبيّ وَاهٍ، ولكن أخرج أحمد، وابن أبي حاتم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمّا نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ

(1)

"الفتح" 11/ 395.

(2)

"القاموس المحيط" ص 374 - 375.

ص: 544

الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14] شَقّ ذلك على الصَّحابة، فنزلت:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 39، 40]، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجَنَّة، بل ثلث أهل الجَنَّة، بل أنتم نصف أهل الجَنَّة، وتُقاسمونهم في النصف الثاني".

وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زيادات المسند"، والطبرانيّ من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"أنتم ربع أهل الجَنَّة، أنتم ثلث أهل الجَنَّة، أنتم نصف أهل الجَنَّة، أنتم ثلثا أهل الجَنَّة".

وأخرج الخطيب في "المبهمات" من مرسل مجاهد نحو حديث الكلبيّ، وفيه مع إرساله أبو حُذيفة إسحاق بن بِشْر أحد المتروكين.

وأخرج أحمد، والترمذيّ وصححه من حديث بُريدة رضي الله عنه رفعه:"أهلُ الجَنَّة عشرون ومائة صفّ، أمتي منها ثمانون صفًّا"

(1)

، وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه، وأتمّ منه أخرجه الطبرانيّ، وهذا يوافق رواية الكلبيّ.

فكأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا رجا رحمةَ ربه أن تكون أمته نصف أهل الجَنَّة، أعطاه ما ارتجاه وزاده، وهو نحو قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5].

(وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ) وفي رواية إسرائيل عند البخاريّ: "وسأحدثكم بقلّة المسلمين في الكفار يوم القيامة"، وفي رواية مالك بن مِغْوَل الآتية:"ما أنتم في سواكم من الأمم"(مَا) نافية (الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ) أي بالنسبة إليهم (إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ، فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ، أَوْ) للشكّ من الراوي (كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ، فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ") ووقع في رواية شعبة التالية بلفظ: "وذلك أن الجنّة لا يدخلها إلَّا نفسٌ مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلَّا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي:"إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرَّقمَة في ذراع الحمار".

قال ابن التين رحمه الله: أطلق الشعرة، وليس المراد حقيقة الوحدة؛ لأنه لا

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (21862)، والترمذيّ في "جامعه"(2469)، وابن ماجة في "سننه"(4279).

ص: 545

يكون ثور ليس في جلده غير شعرة واحدة من غير لونه، والرّقْمة: قطعة بيضاء تكون في باطن عضو الحمار والفرس، وتكون في قوائم الشاة، وقال الداوديّ: الرقمةُ: شيء مُستدير، لا شعر فيه، سُمِّي به؛ لأنه كالرقم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[101/ 535 و 536 و 537](221)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6528 و 6530)، و"الإيمان والنذور"(6642)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(324)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 386 و 437 و 438)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2547)، و (ابن ماجة) في "الزهد"(4283)، و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(195)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(7245 و 7458)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(250 و 251 و 252)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(529 و 530 و 531)، و"الحلية"(4/ 152)، و (الطحاويّ) في "مثكل الآثار"(361 و 362 و 364)، و (ابن منده) في "الإيمان"(985 و 986 و 987)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5386)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(17/ 112)، وفي "تهذيب الآثار"(705)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون هذه الأمة نصف أهل الجنّة، وقد تقدّم أنه وردت روايات في كونهم ثلثي أهل الجنّة.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الحمد والتكبير عند الفرح والسرور، وعند استعظام الأمور، فقد كبّر الصحابة رضي الله عنهم، وحمدوا الله تعالى؛ لسرورهم بهذه البشارة العظيمة.

3 -

(ومنها): بيان كثرة أعداد أهل النار بالنسبة لأهل الجنّة.

(1)

"الفتح" 11/ 395 - 396.

ص: 546

4 -

(ومنها): كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم وشدّة حرصه على رجاء الخير لأمته، وطلب ذلك من ربّه سبحانه وتعالى.

5 -

(ومنها): بيان عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم"، وكثرة عطائه لي، كما أخبر الله عز وجل بذلك حيث قال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، وقال:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

6 -

(ومنها): أن في عدم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر: "أما ترضون أن تكونوا شطر أهل الجَنَّة"، بل أخبرهم بالتدريج، فائدةً حسنةً، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرّةً بعد أخرى دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته.

7 -

(ومنها): أن فيه فائدة أخرى أيضًا، وهي تكريره صلى الله عليه وسلم البشارة مرّة بعد أخرى.

8 -

(ومنها): أن فيه أيضًا حَمْلَهم على تجديد شكر الله تعالى، وتكبيره، وحمده على كثرة نعمه.

9 -

(ومنها): أنه وقع في هذا الحديث "شطر أهل الجَنَّة"، ووقع صلى الله عليه وسلم رواية أحمد، والترمذيّ، وابن ماجة:"أن أهل الجَنَّة عشرون ومائة صفّ، هذه الأمة منها ثمانون صفًّا"، فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجَنَّة، فيكون النبيّ أخبر أَوّلًا بحديث الشطر، ثم تفضّل الله عز وجل بالزيادة، فأَعلَمه صلى الله عليه وسلم بحديث الصفوف، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم به بعد ذلك، ولهذا نظائر كثيرة في الحديث، معروفة، كحديث:"صلاة الجماعة تفضّل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة"، و"بخمس وعشرين درجة" على إحدى التأويلات فيه، وسيأتي تحقيقه في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

10 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجَنَّة إلَّا نفس مسلمة" نصّ صريحٌ في أن من مات على الكفر لا يدخل الجَنَّة أصلًا، وهذا النصّ على عمومه بإجماع المسلمين.

11 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هل بلّغتُ، اللهم اشهد" بيان أن التبليغ واجب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 547

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[536]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّة، وَذَاكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاء، فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَد، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ: فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2، والباقون تقدّموا، فالثلاثة الأولون غير ابن المثنّى تقدّموا في الباب الماضي، والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (فِي قُبَّةٍ) - بضمّ القاف، وتشديد الموحدة -: من البناء معروفة، وقيل: هي البناء من الأَدَم خاصّةً، والجمع قُبَبٌ، وقِبَابٌ

(1)

، وفي "النهاية": القبّة من الخيام: بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب. انتهى

(2)

.

وقال ابن الكلبيّ: بيوت العرب ستّةٌ: قبو من أَدَم، وقبة من حجر، وخيمة من شجر، ومِظَلّة من شعر، وبِجَاد من وَبَر، وخِباء من صوف. انتهى

(3)

.

وقوله: (في جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ) قيل: المراد بالأحمر الأبيض، كما في حديث:"بُعثتُ إلى الأحمر والأسود". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى هذا التفسير، فإن الحديث على

(1)

راجع: "لسان العرب" 1/ 659.

(2)

"النهاية" 3/ 4.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 910 - 911.

ص: 548

ظاهره واضحٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[537]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَهُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةِ أَدَمٍ، فَقَالَ: "أَلَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟، اللَّهُمَّ أَشْهَدْ، أتحِبُّونَ أَنَّكُمْ رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ "، فَقُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة، مَا أَنُتُمْ فِي سِوَاكُمْ مِنَ الْأُمَم، إِلَّا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَض، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُممر الْهَمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) - بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو - أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146، والباقون تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (أَدَمٍ) - بفتحتين -: جمع أَدِيم - بفتح، فكسر -، وهو الْجِلد المدبوغ، ويُجمع أيضًا على أُدُم - بضمّتين - وهو القياس، مثلُ بريد وبُرُد، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟، اللَّهُمَّ اشْهَدْ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 9.

ص: 549

التبليغ واجبٌ عليّ، وقد بلّغتُ، فاشهد لي به. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(102) - (بَابُ قَولِ الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[538]

(222) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا أَدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّار، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] "، قَالَ: فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: "أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فَحَمِدْنَا اللهَ، وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فَحَمِدْنَا اللهَ، وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَم، كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاء، فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَد، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ) أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ، أخو أبي بكر [10](ت 239) عن (83) سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.

[تنبيه]: قوله: "الْعَبْسِيُّ": بالباء الموحدة، والسين المهملة: نسبة إلى

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 96 - 97.

ص: 550

عَبْس بطن من غَطَفَان، ومن الأزد، ومن مراد، قاله في "اللبّ"

(1)

.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمَة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) هو: سعد بن مالك بن سنان الخُدْريّ رضي الله عنهما تقدّم قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح.

5 -

(ومنها): أن الأعمش أكثر من روى عن أبي صالح، روى عنه ألف حديث.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزّيّات، لُقّب به؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن إلى الكوفةَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي أسامة، وحفص بن غياث كلاهما عن الأعمش، حدثنا أبو صالح، فصرّح بالسماع، فزالت عنه تُهمة التدليس، على أنه لا يدلّس عن مشايخه الذين أكثر عنهم، كما قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) كذا وقع

(1)

"لب اللباب" 2/ 104.

ص: 551

عند المصنّف بذكر "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذا هو عند البخاريّ في رواية كريمة، ونحوه عنده من رواية أبي أسامة وحفص المذكورة، ووقع عنده من رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش بحذفه، قال في "الفتح": كذا وقع للأكثر، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج".

("يَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا آدَمُ) وقد بيّن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ أن خطاب آدم بذلك أولُ شيء يقع يوم القيامة، ولفظه:"أوّلُ مَن يُدْعَى يوم القيامة آدم عليه السلام، فتراءى ذريته" - بمثناة واحدة، ومدّ، ثم همزة مفتوحة ممالة - وأصله:"فتتراءى"، فحذفت إحدى التاءين، وتراءى الشخصان: تقابلا، بحيث صار كلٌّ منهما يتمكن من رؤية الآخر، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق الدّرَاورديّ، عن ثور:"فتتراءى له ذريته" على الأصل، وفيه:"فيقال: هذا أبوكم"، وفي رواية الدراورديّ:"فيقولون هذا أبوكم".

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما خُصّ آدم عليه السلام بذلك القول؛ لأنه أبٌ للجميع، ولأن الله تعالى قد جَمَعَ له نَسَمَ بنيه في السماء بين يديه، وهم الأسودة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم، وهم أهل الجنّة، وعن يساره، وهم أهل النار، كما تقدّم. انتهى

(1)

.

(فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ) معناه: إجابةً بعدَ إجابة (وَسَعْدَيْكَ) معناه: مساعدة بعد مساعدة، وكلاهما منصوبان على المصدريّة، ولم تستعمل العرب لهما فعلًا من لفظه يكون مصدره، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في شرح حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه:"يا معاذ بن جبل، فقال: لبيك يا رسول الله، وسعديك"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ) أي تملكه أنت لا يملكه غيرك، وهذا كقوله تعالى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]: أي بيدك الخير والشرّ، ولكن سكت عن نسبة الشرّ إليه تعالى مراعَاةً لأدب الحضرة، ولم ينسُب الله تعالى الشرّ لنفسه؛ تعليمًا لنا؛ مراعاةَ الأدب، واكتَفَى بقوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

(1)

"المفهم" 1/ 470.

(2)

"المفهم" 1/ 471.

ص: 552

شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ إذ قد استغرق كلَّ الموجودات الممكنات، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": في الاقتصار على الخير نوعُ تعطيف، ورعاية للأدب، وإلا فالشر أيضًا بتقدير الله تعالى كالخير. انتهى

(2)

.

(قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "بعثَ جهنم من ذريتك"، وفي رواية أحمد "نصيبَ" بدل"بعث".

قال النوويّ رحمه الله: "الْبَعْثُ" هنا: بمعنى المبعوث الموَجَّه إليها، ومعناه: مَيِّزْ أهل النار من غيرهم. انتهى

(3)

. وقال القرطبيّ رحمه الله: بعثُ النار من يُبعث إليها، وكذلك بعثُ أهل الجنّة، ومعنى "أَخْرِجْ" هنا: ميّز بعضهم عن بعض، وذلك يكون في المحشر حيث يجتمع الناس، ويَختلطون، والله تعالى أعلم، ويَحْتَمِل أن يكون معنى "أَخرِجْ": أي احضُرْ إخراجهم، فكأنهم يُعرَضون عليه بأشخاصهم وأسمائهم، كما قد عُرِضت عليه نسمهم. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": والبعثُ: بمعنى المبعوث، وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها، ومعناها هنا: مَيِّز أهل النار من غيرهم، وإنما خُصّ بذلك آدم؛ لكونه والد الجميع، ولكونه كان قد عَرَفَ أهل السعادة من أهل الشقاء، فقد رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، "وعن يمينه أَسْوِدة، وعن شماله أسودة

"الحديث، كما تقدم في حديث الإسراء، وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن: "قال: يقول الله لآدم: يا آدم، أنت اليومَ عَدْلٌ بيني وبين ذريتك، قم فانظر ما يُرْفَع إليك من أعمالهم".

(قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟) الواو عاطفة على شيء محذوف، تقديره: سمعتُ وأطعتُ، وما بعث النار؟: أي وما مقدار مبعوث النار؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فيقول: يا رب كم أخرج؟ "، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وُضعت"ما" هنا موضع "كم" العدديّة؛ لأنه أُجيب عنها بالعدد، وأصل "ما" أن يُسأل بها عن ذوات الأشياء، وحُدودها. انتهى.

(1)

"المفهم" 1/ 471.

(2)

"الفتح" 11/ 397.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 97.

(4)

"المفهم" 1/ 470.

ص: 553

(قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتسْعَةً وَتِسْعِينَ) وفي حديث أبي هريرة: "من كلّ مائة تسعة وتسعين".

قال الإسماعيلي: في حديث أبي سعيد: "من كلّ ألف واحد"، وكذا في حديث غيره، ويشبه أن يكون حديث ثور - يعني راويه عن أبي الغيث، عن أبي هريرة - وَهَمًا.

قال الحافظ: ولعله يريد بقوله: "في حديث غيره" ما أخرجه الترمذيّ من وجهين، عن الحسن البصريّ، عن عمران بن حصين نحوه، وفي أوله زيادةُ: قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فرَفَع صوته بهاتين الآيتين:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج: 1] إلى {شَدِيدٌ} [الحج: 2] فَحَثَّ أصحابُهُ المطيّ، فقال:"هل تدرون أيُّ يوم ذاك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذاك يوم يُنادِي الله آدم

"، فذكر نحو حديث أبي سعيد، وصححه، وكذا الحاكم، وهذا سياق قتادة، عن الحسن، من رواية هشام الدّستوائيّ، عنه، ورواه معمر، عن قتادة، فقال: عن أنس، أخرجه الحاكم أيضًا، ونَقَلَ عن الذهليّ أن الرواية الأولى هي المحفوظة، وأخرجه البزار، والحاكم أيضًا، من طريق هلال بن خَبّاب - بمعجمة، وموحدتين، الأولى ثقيلة - عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ثم قال: "هل تدرون؟

" فذكر نحوه، وكذا وقع في حديث عبد الله بن عَمْرو، عند مسلم، رفعه: "يَخرُج الدجال"، إلى أن قال: "ثم يُنفَخ في الصور أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار"، وفيه: "فيقال: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذاك يومَ يجعل الولدان شيبًا".

قال الحافظ: وكذا رأيت هذا الحديث في مسند أبي الدرداء بمثل العدد المذكور، رويناه في "فوائد طلحة بن الصقر"، وأخرجه ابن مردويه، من حديث أبي موسى نحوه، فاتفق هؤلاء على هذا العدد، قال: ولم يستحضر الإسماعيلي لحديث أبي هريرة متابعًا، وقد ظَفِرت به في "مسند أحمد"، فإنه أخرج من طريق أبي إسحاق الهجريّ، وفيه مقال، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود نحوه.

وأجاب الكرمانيّ: بأن مفهوم العدد لا اعتبار له، فالتخصيص بعدد لا

ص: 554

يدلّ على نفي الزائد، والمقصود من العددين واحد، وهو تقليل عدد المؤمنين، وتكثير عدد الكافرين.

قال الحافظ: ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد، فإنه يشتمل على زيادة، فإن حديث أبي سعيد يدلّ على أن نصيب أهل الجَنَّة من كلّ ألف واحد، وحديث أبي هريرة يدلّ على عشرة، فالحكم للزائد، فأتى كلامه الأخير أن لا يُنْظَر إلى العدد أصلًا، بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد.

قال الحافظ: وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أُخَرَ، وهو حَمْلُ حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم، فيكون من كلّ ألف واحد، وحَملُ حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج، فيكون من كلّ ألف عشرة، ويُقَرِّب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذُكِروا في حديث أبي سعيد، دون حديث أبي هريرة.

ويَحْتَمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين، والثاني بخصوص هذه الأمة، ويُقَرِّبه قوله في حديث أبي هريرة:"إذا أُخذ منا"، لكن في حديث ابن عباس:"وإنما أمتي جزء من ألف جزء ".

وَيَحْتَمِل أن تقع القسمة مرتين: مرةً من جميع الأمم قبل هذه الأمة، فيكون من كلّ ألف واحد، ومرةً من هذه الأمة فقط، فيكون من كلّ ألف عشرة.

ويَحْتَمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار، ومن يدخلها من العصاة، فيكون من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرًا، ومن كلّ مائة تسعة وتسعون عاصيًا والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب الأجوبة القول: بأن مفهوم العدد غير معتبر كما سبق عن الكرمانيّ، فلا ينافي ذكر الأقلّ الزيادة، وأما ما ذكره الحافظ من الاحتمالات فهو محلّ نظر، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ") قال النوويّ رحمه الله: معناه موافقةُ الآية في قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ

ص: 555

تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1 - 2]، وقوله تعالى:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17].

قال: وقد اختَلَف العلماء في وقت وضع كلّ ذات حمل حملها وغيره من المذكور، فقيل: عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من الدنيا، وقيل: هو في القيامة، فعلى الأول هو على ظاهره، وعلى الثاني يكون مجازًا؛ لأن القيامة ليس فيها حَمْلٌ، ولا ولادة، وتقديره: ينتهي به الأهوال والشدائد إلى أنه لو تُصُوِّرت الحوامل هناك لوضعن أحمالهن، كما تقول العرب: أصابنا أمرٌ يَشِيب منه الوليد، يريدون شدته، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ظاهره أن ذلك يقع في الموقف.

وقد استُشْكِل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه، ولا وَضْعَ، ولا شيب، ومن ثَمّ قال بعض المفسرين: إن ذلك قبل يوم القيامة، لكن الحديث يَرُدّ عليه.

وأجاب الكرماني: بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل، وسبق إلى ذلك النوويّ، فقال: فيه وجهان للعلماء، فذكرهما، وقال: التقدير أن الحال يَنتهي إلى أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت، كما تقول العرب: أصابنا أمر يشيب منه الوليد.

وقال الحافظ: يَحْتَمِل أن يُحْمَل على حقيقته، فإن كلّ أحد يُبعَث على ما مات عليه، فتبعث الحامل حاملًا، والمرضع مرضعة، والطفل طفلًا، فإذا وقعت زلزلة الساعة، وقيل ذلك لآدم، ورأى الناس آدم، وسمعوا ما قيل له، وَقَعَ بهم من الوَجَل ما يَسقُط معه الحمل، ويشيب له الطفل، وتَذْهَل به المرضعة.

ويحتمل أن يكون ذلك بعد النفخة الأولى، وقبل النفخة الثانية، ويكون خاصًّا بالموجودين حينئذ، وتكون الإشارة بقوله:"فذاك" إلى يوم القيامة، وهو صريح في الآية، ولا يَمنع من هذا الحمل ما يُتَخَيَّل من طول المسافة بين قيام الساعة، واستقرار الناس في الموقف، ونداء آدم لتمييز أهل الموقف؛ لأنه قد

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 97.

ص: 556

ثَبَتَ أن ذلك يقع متقاربًا، كما قال الله تعالى:{لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)} [المرسلات: 13، 14]، يعني: أرض الموقف، وقال تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 17، 18].

والحاصل: أن يوم القيامة يُطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوالٍ وزلزلةٍ وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجَنَّة أو النار.

وقريبٌ منه ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في أشراط الساعة إلى أن ذكر النفخ في الصور إلى أن قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، ثم يقال: أخرجوا بعث النار

، فذكره، قال:"فذاك يوم يجعل الولدان شيبًا"، ووقع في حديث الصور الطويل عند علي بن معبد وغيره ما يُؤَيِّد الاحتمال الثاني، وفيه بعد قوله: "وتضع الحوامل ما في بطونها، وتشيب الولدان، وتتطاير الشياطين، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض، فيأخذهم لذلك الكرب والهول

ثم تلا الآيتين من أول الحج

" الحديث.

قال القرطبيّ في "التذكرة": هذا الحديث صححه ابن العربي، فقال: يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولي، وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة، ومن جملتها ما يقال لآدم، ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلًا بالنفخة الأولى، بل له محملان:

[أحدهما]: أن يكون آخر الكلام منوطًا بأوله، والتقدير: يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان، وغير ذلك.

[وثانيهما]: أن يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقةً، والقول لآدم يكون وصفه بذلك إخبارًا عن شدته، وإن لَمْ يوجد عين ذلك الشيء.

وقال القرطبيّ: يحتمل أن يكون المعنى: أن ذلك حين يقع لا يُهِمّ كلَّ أحد إلَّا نفسُهُ حتى إن الحامل تُسقط من مثله، والمرضعة

إلخ.

ونُقل عن الحسن البصري في هذه الآية: المعنى: أن لو كان هناك مرضعة لذَهِلت، وذكر الْحَلِيميّ، واستحسنه القرطبيّ أنه يحتمل أن يُحيي الله حينئذ كلَّ حمل كان قد تم خلقه، ونُفخت فيه الروح، فتَذْهَل الأم حينئذ عنه؛ لأنَّها لا تقدر على إرضاعه؛ إذ لا غذاء هناك ولا لبن، وأما الحمل الذي لَمْ

ص: 557

يُنفَخ فيه الروح، فإنه إذا سقط لَمْ يُحْيَ؛ لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لَمْ يمت في الدنيا لَمْ يُحْيَ في الآخرة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الْحَليميّ، واستحسنه القرطبيّ هو الأقرب عندي، وحاصله أن كلّ أحد يُبعث على ما مات عليه، فتبعث الحامل حاملًا، فإذا رأت هذا الهول تضع حملها، وكذلك الطفل، يُبعث طفلًا، فيَشيب بسببه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ) وفي حديث ابن عباس: "فشَقَّ ذلك على القوم، ووقعت عليهم الكآبة والحزن"، وفي حديث عمران عند الترمذيّ من رواية ابن جُدْعان، عن الحسن:"فأنشأ المؤمنون يبكون"، ومن رواية قتادة، عن الحسن:"فَنُبِس القوم حتى ما أَبْدَوا بضاحكة"، و"نُبِس" - بضم النون، وكسر الموحدة، بعدها مهملة - معناه: تكلَّم، فأسرع، وأكثر ما يُستَعْمَل في النفي، وفي رواية شيبان، عن قتادة عند ابن مردويه:"أبلسوا"، وكذا له نحوه من رواية ثابت، عن الحسن، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟) قال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حقُّ الجواب أن ذلك الواحد فلان، أو من يتصف بالصفة الفلانية، وَيحْتَمِل أن يكون استعظامًا لذلك الأمر، واستشعارًا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله:"أبشروا"، ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فقالوا: يا رسول الله، إذا أُخِذ منّا من كلّ مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقى؟ "، وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه:"فَبَكَى أصحابه".

وقال القرطبيّ رحمه الله: لَمّا سمِعَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّ ألفًا إلَّا واحدًا للنار، وأن واحدًا للجنّة اشتدّ خوفهم لذلك، واستقلّوا عدد أهل الجنّة منهم، واستَبْعد كلُّ واحد منهم أن يكون هو ذلك الواحد، فسكّن النبيّ صلى الله عليه وسلم خوفهم، وطيَّبَ قلوبهم، فقال:"أَبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا، ومنكم رجلٌ"، ويعني بالألف هنا: التسعمائة والتسعة والتسعين المتقدّمة الذكر. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 11/ 398 - 399 "كتاب الرقاق" رقم (6535).

(2)

11/ 399.

(3)

"المفهم" 1/ 470 - 471.

ص: 558

وقوله: (فَقَالَ: "أَبْشِرُوا) يَحْتَمل أن تكون همزته همزة قطع، فيكون بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الإبشار رباعيًّا، وَيحْتَمِل أن تكون همزة وصل، فيكون بفتح ثالثه ثلاثيًّا، كفرِحَ يفرَح، يقال: بَشَرته بمولود، فأَبْشَر إبشارًا: أي سُرّ، وتقول: أَبْشِر بخير، بقطع الهمزة، وبَشِرتُ بكذا بالكسر أَبْشَرُ، كفرِحتُ أفرَح: استبشرت به، أفاده في "اللسان"

(1)

.

وقال الجوهريّ: بَشَرتُ الرجلَ أَبْشُرُهُ بالضمّ بَشْرًا وبُشُورًا من الْبُشرى، وكذلك الإبشارُ، والتبشير، ثلاث لغات، قال: وبَشِرْتُ بكذا بالكسر أَبْشَرُ: أي استبشرتُ به. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: بَشِرَ بكذا يَبْشَرُ مثلُ فَرِحَ يَفْرَح وزنًا ومعنًى، قال: ويتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرْتُهُ أَبْشُرُ بَشْرًا، من باب قتل في لغة تهامة وما والاها، والتعدية بالتثقيل لغة عامّة العرب، وقرأ السبعة باللغتين. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أفاد ما ذكروه أن بَشر ثلاثيٌّ يتعدّى ويلزم، وأن المتعدّي من باب نصر، واللازم من باب فَرِحَ، وكذلك أبشر رباعيٌّ يتعدي، ويلزم، فعلى هذا يجوز أن يقرأ هنا بفتح الهمزة، وكسر الشين، من الإبشار رباعيًّا، ويجوز أن يقرأ بفتح الشين مع وصل الهمزة، ثلاثيًّا من باب فَرِحَ، والله تعالى أعلم.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "اعمَلُوا وأَبشِروا"، وفي حديث عمران رضي الله عنه مثله، وللترمذيّ من طريق ابن جُدْعان:"قاربوا، وسَدِّدوا"، ونحوه في حديث أنس رضي الله عنه.

(فَإِنَّ مِنْ يَأجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هما غير مهموزين عند جمهور القراء، وأهل اللغة، وقرأ عاصم بالهمز فيهما، وأصله من أَجِيج النار، وهو صوتها، وشَرَرُها، شُبِّهُوا به؛ لكثرتهم، وشدّتهم، واضطراب بعضهم في بعض، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال في "الفتح": "يأجوج، ومأجوج " بغير همزة لأكثر القراء، وقرأ

(1)

"لسان العرب" 4/ 61.

(2)

"الصحاح" 2/ 514.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 49.

ص: 559

عاصم بالهمزة الساكنة فيهما، وهي لغة بني أسد، وقرأ العجاج وولده رؤبة:"أأجوج" بهمزة بدل الياء، وهما اسمان أعجميان عند الأكثر، مُنِعا من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وقيل: بل عربيان، واختُلِف في اشتقاقهما، فقيل: من أَجِيج النار، وهو التهابها، وقيل: من الأَجَّة، بالتشديد، وهي الاختلاط، أو شِدّة الحرّ، وقيل: من الأَجّ، وهو سُرْعَةُ الْعَدْو، وقيل: من الأُجَاج، هو الماء الشديدُ الملوحة، ووزنهما يَفْعُول ومَفْعُول، وهو ظاهر قراءة عاصم، وكذا الباقين، إن كانت الألف مُسَهَّلة من الهمزة، فقيل: فاعول، مِن يج مج، وقيل: ماجوج، من ماج: إذا اضطرب، ووزنه أيضًا مفعول، قاله أبو حاتم، قال: والأصل: موجوج، وجميع ما ذُكِر من الاشتقاق مناسب لحالهم، ويؤيِّد الاشتقاق، وقولَ مَن جَعَله من ماج: إذا اضطرب، قولُهُ تعالى:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]، وذلك حين يخرجون من السَّدّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يأجوج ومأجوج خلقٌ كفّار وراء سدّ ذي القرنين، والمراد بهم في هذا الحديث هم، ومن كان على كفرهم، كما أن المراد بقوله:"منكم" أصحابه، ومن كان على إيمانهم؛ لأن مقصود هذا الحديث الإخبار بقلّة أهل الجَنَّة من هذه الأمة بالنسبة إلى كثرة أهل النار من غيرها من الأمم، ويدلّ على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود

إلخ"، قال: وأما نسبة هذه الأمة إلى من يدخل الجنّة من الأمم فهذه الأمة شطر أهل الجنّة، كما نصّ عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في يأجوج ومأجوج في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (أَلْفٌ، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول والروايات: "ألفٌ"، و"رجلٌ" بالرفع فيهما، وهو صحيح، وتقديره: إنّهُ بالهاء التي هي ضمير الشأن، وحُذفت الهاء، وهو جائز معروف. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ من أنه وقع في الأصول

(1)

"الفتح" 13/ 113 - 114 "كتاب الفتن" رقم (7135 - 7136).

(2)

"المفهم" 1/ 471.

ص: 560

والروايات "ألفٌ"، و"رجل" بالرفع، وقد نقل كلامه في "الفتح"، وأقرّه عليه، لعله وقع في النسخ التي اطّلع عليها، وإلا فنسخ "صحيح مسلم" التي بين يديّ قد وقع فيها:"ألفًا" بالنصب، و"رجلٌ" بالرفع، وبعض النسخ تعتبر جيّدة، مثل النسخة التي كتب عليها محمد ذهني، فإنها أحسن نسخ "الصحيح" المطبوعة عندي، وهكذا وقع عند القرطبيّ أيضًا في مختصره، فليُتأمّل.

وهكذا وقع بنصب "ألفًا"، ورفع "رجلٌ" عند البخاريّ أيضًا في "الصحيح" في "كتاب الرقاق" برقم (6530).

قال في "الفتح": ووقع في بعض الشروح أن لبعض الرواة: "فإن منكم رجلًا، ومن يأجوج ومأجوج ألفًا" بالنصب فيهما على المفعول بـ "أَخْرِج" المذكور في أول الحديث، أي فإنه يُخْرِج كذا، ورُوِي بالرفع على خبر "إنّ"، واسمها مضمر قبل المجرور، أي فإن الْمُخْرَج منكم رجل، قال الحافظ: والنصب أيضًا على اسم "إنّ" صريحًا في الأول، وبتقدير في الثاني، وهو أولى من الذي قاله، فإن فيه تكلفًا.

ووقع في رواية الأصيليّ بالرفع في "ألفٌ" وحده، وبالنصب في "رجلًا" ولأبي ذر بالعكس.

قال: وظاهره زيادة واحدٍ عما ذُكر من تفصيل الألف، فيحتمل أن يكون من جَبْر الكسر، والمراد أنّ مِن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، أو ألفًا إلَّا واحدًا، وأما قوله:"ومنكم رجلٌ"، فتقديره: والْمُخْرَج منكم، أو ومنكم رجل مُخْرَج.

ووقع في حديث ابن عباس: "وإنما أمتي جزء من ألف جزء "، قال الطيبيّ: فيه إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج داخلون في العدد المذكور والوعيد، كما يدلّ قوله:"ربع أهل الجَنَّة" على أن في غير هذه الأمة أيضًا من أهل الجَنَّة.

وقال القرطبيّ: قوله: "من يأجوج ومأجوج ألفٌ": أي منهم وممن كان على الشرك مثلهم، وقوله:"ومنكم رجلٌ" يعني: من أصحابه، ومن كان مؤمنًا مثلهم.

وحاصل ما قاله: أن الإشارة بقوله: "منكم" إلى المسلمين من جميع

ص: 561

الأمم، وقد أشار إلى ذلك في حديث ابن مسعود بقوله:"إن الجَنَّة لا يدخلها إلَّا نفس مسلمة"

(1)

.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ") هكذا عند المصنّف بذكر ربع أهل الجنّة، ووقع عند البخاريّ:"والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجَنَّة"، ولم يذكر الربع.

فقال في "الفتح": تقدّم في الباب قبله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجَنَّة"، وكذا في حديث ابن عباس وهو محمول على تعدد القصة، فقد تقدّم أن القصة التي في حديث ابن مسعود وقعت وهو صلى الله عليه وسلم في قبته بمني، والقصة التي في حديث أبي سعيد وقعت وهو صلى الله عليه وسلم سائرٌ على راحلته، ووقع في رواية ابن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره، في غزوة" ومثله في مرسل مجاهد عند الخطيب في "المبهمات".

قال: ثم ظهر لي أن القصة واحدة، وأن بعض الرواة حَفِظَ فيه ما لَمْ يحفظ الآخر، إلَّا أن قول مَن قال: كان ذلك في غزوة بني المصطلق وَاهٍ، والصحيح ما في حديث ابن مسعود، وأن ذلك كان بمني، وأما ما وقع في حديثه أنه قال ذلك، وهو في قبته، فيُجْمَع بينه وبين حديث عمران بأن تلاوته الآية، وجوابه عنها اتَّفَقَ أنه كان وهو سائر، ثم قوله: "إني لأطمع

إلخ"، وقع بعد أن نَزَلَ، وقَعَدَ بالقبة، وأما زيادة الربع قبل الثلث، فحفظها أبو سعيد، وبعضهم لَمْ يحفظ الربع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ تحقيقٌ حسنٌ، وحاصله: أن القصّة واحدة، فلا داعي إلى دعوى التعدّد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَحَمِدْنَا اللهَ، وَكبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 399 "كتاب الرقاق" رقم (6530).

(2)

"الفتح" 11/ 399 - 400.

ص: 562

ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فَحَمِدْنَا اللهَ، وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) الشطر النصف، يقال: شاطرته مشاطرةً: إذا قاسمته، فأخذت نصف ما في يديه (إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَم، كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاء، فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَد، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ") قال القرطبيّ رحمه الله: الرقمتان للفرس، أو الحمار: الأثران بباطن أعضادهما، والرقمتان للشاة: هيئتان في قوائمها متقابلتان كالظفرين.

وقال النوويّ رحمه الله: "الرَّقْمَة": - بفتح الراء، وإسكان القاف - قال أهل اللغة: الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه، وقيل: هي الدائرة في ذراعيه، وقيل: هي الْهَنَةُ الناتئة في ذراع الدابة من داخل. انتهى

(1)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذه الطماعية منه صلى الله عليه وسلم قد حُقّقت له بقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، وبقوله:"إنا سنرضيك في أمتك"، كما تقدّم بيانه، لكنه صلى الله عليه وسلم علّق هذه البشرى على الطمع أدبًا مع الحضرة الإلهيّة، ووقوفًا مع أحكام العبوديّة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[102/ 538 و 539](222)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6530)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 32 - 33)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(17/ 112)، (وأبو عوانة) في "مسنده"(253، 254)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(532 و 533). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عدد أهل النار، وأن نسبة أهل الجنّة إليهم تكون واحدًا من ألف.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 98.

(2)

"المفهم" 1/ 471.

ص: 563

2 -

(ومنها): استحباب الحمد، والتكبير عند الفرح والسرور، وسماع أمر عظيم.

3 -

(ومنها): أن زلزلة الساعة شيء عظيم، كما أخبر اللطيف الخبير، ولا ينبّئك مثل خبير، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1 - 2].

4 -

(ومنها): إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.

5 -

(ومنها): حرص آدم عليه السلام على رعاية الأدب مع ربه سبحانه وتعالى، حيث نسب الخير إليه، فقال:"والخير كله بيديك"، ولم يقل: والشرّ، مع أنه بتقدير الله عليه السلام.

6 -

(ومنها): كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، ورجاؤه الخير كلّ الخير لها، ودعاؤه ربّه في تحقيق ما رجاه لها، فكان ذلك مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].

7 -

(ومنها): عظيم فضل الله تعالى على حبيبه صلى الله عليه وسلم حيث وعده بإرضائه، وإعطائه كلّ ما سأله في أمته، فقال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، وقد تقدّم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي أمتي، وبَكَى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك".

فهذه هي البشارة العظيمة، والعطيّة الجسيمة، ينبغي للمسلم أن يكون

ص: 564

دائم الشكر لله سبحانه وتعالى، أن جعله من أمة هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وأدخله تحت هذا الوعد العظيم، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا

وَكِدتُّ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي

وَأَنْ صيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيّا

وأراد بقوله: "يا عبادي" قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

اللهم لك الحمد على ما مننت، ولك الشكر على ما أوليت، سبحانك لا نُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، نسألك اللهم أن تُحيينا على سنّته صلى الله عليه وسلم، وتُميتنا عليها، وتبعثنا عليها، وتجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتًا، إنك سميع قريبٌ مجيب الدعوات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في يأجوج ومأجوج:

(اعلم): أنه اختُلِف فيهم على عدّة أقوال - كما بيّنه في "الفتح" -: قيل إنهم من بني آدم، ثم بني يافث بن نوح، وبه جزم وهب وغيره، وقيل: إنهم من الترك، قاله الضحاك، وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الدَّيْلَم، وعن كعب: هم من ولد آدم من غير حَوّاء، وذلك أن آدم؛ نام، فاحتلم، فامَتَزَجت نطفته بالتراب، فخلق منها يأجوج ومأجوج، ورُدّ بأن النبي لا يَحْتَلِم، وأجيب عنه: بأن المنفي أن يرى في المنام أنه يجامع، فيحتمل أن يكون دفق الماء فقط، وهو جائز، كما يجوز أن يبول، والأول المعتمد، وإلا فأين كانوا حين الطوفان؟.

وجاء في صفتهم ما أخرجه ابن عديّ، وابن أبي حاتم، والطبرانيّ في "الأوسط"، وابن مردويه من حديث حُذيفة رضي الله عنه رفعه، قال:"يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كلّ أمة أربعمائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه، كلهم قد حَمَل السلاح"، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار، عن محمد بن إسحاق، عن الأعمش، والعطار ضعيف جدًّا، ومحمد بن

ص: 565

إسحاق قال ابن عديّ: ليس هو صاحب المغازي، بل هو العُكَاشيّ، قال: والحديث موضوع، وقال ابن أبي حاتم: منكر.

قال الحافظ: لكن لبعضه شاهد صحيحٌ، أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"إن يأجوج ومأجوج أقلُّ ما يترك أحدهم لصلبه ألفًا من الذرية"، وللنسائي من رواية عمرو بن أوس، عن أبيه، رفعه:"إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاؤوا، ولا يموت رجل منهم إلَّا ترك من ذريته ألفًا، فصاعدًا"، وأخرج الحاكم، وابن مردويه، من طريق عبد الله بن عمرو:"إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، ووراءهم ثلاثُ أمم، ولن يموت منهم رجل إلَّا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا"، وأخرج عبد بن حميد، بسند صحيح، عن عبد الله بن سلام مثله، وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق عبد الله بن عمرو، قال:"الجنّ والإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وجزء سائر الناس"، ومن طريق شُريح بن عُبيد، عن كعب، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف أجسادهم كالأَرْز - بفتح الهمزة، وسكون الراء، ثم زاي، هو شجر كبار جدًّا - وصنف أربعة أذرع في أربعة أذرع، وصنف يفترشون آذانهم، ويلتحفون بالأخرى"، ووقع نحو هذا في حديث حُذيفة، وأخرج أيضًا هو، والحاكم، من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس: "يأجوج ومأجوج شبرًا شبرًا، وشبرين شبرين، وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم"، ومن طريق أبي هريرة، رفعه: "وُلد لنوح سام، وحام، ويافث، فوُلد لسام العربُ، وفارسُ، والروم، ووُلد لحام القبط، والبربر، والسودان، ووُلد ليافث يأجوج ومأجوج، والترك، والصقالبة"، وفي سنده ضعف، ومن رواية سعيد بن بَشير، عن قتادة، قال: "يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة، بَنَى ذو القرنين السَّدَّ على إحدى وعشرين، وكانت منهم قبيلة غائبة في الغزو، وهم الأتراك، فبقوا دون السّدّ"، وأخرج ابن مردويه من طريق السُّدّيّ، قال: "التُّرْكُ سرية من سرايا يأجوج ومأجوج، خرجت تُغِير، فجاء ذو القرنين فبنى السَّدّ، فَبَقُوا خارجًا"، ووقع في فتاوي الشيخ محيي الدين: يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، لا من حواء عند جماهير العلماء، فيكونون إخواننا لأب، كذا قال، ولم نرَ هذا عن أحد من السلف إلَّا عن كعب الأحبار، وَيرُدُّه الحديث المرفوع إنهم من ذرية نوح،

ص: 566

ونوح من ذرية حواء قطعًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن الأرجح أن يأجوج ومأجوج من ذريّة آدم عليه السلام، وهم قوم كفّار، وهيم أكثر أصحاب النار عددًا، وسيأتي تمام البحث فيهم حيث يذكرهم المصنّف رحمه الله في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" من حديث النّوّاس بن سمعان رضي الله عنه الطويل - إن شاء الله تعالى -

(2)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[539]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا:"مَاَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاس، إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَد، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ"، وَلَمْ يَذْكُرَا:"أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلّهم تقدّموا قريبًا، و"أبو بكر بن أبي شيبة": هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة"، و"وكيع": هو ابن الجرّاح، و"أبو كريب": هو محمد بن العلاء، و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير، و"الأعمش": هو سليمان بن مِهْران.

وقوله: (فِي النَّاسِ) أي بالنسبة إلى مجموع سائر الناس.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرَا

إلخ) بالبناء للفاعل، والألف ضمير وكيع وأبي معاوية.

[تنبيه]: رواية وكيع، وأبي معاوية التي أحالها المصنّف هنا على رواية جرير بن عبد الحميد، أخرجها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 288)، فقال:

(1)

13/ 13 - 14 "كتاب الفتن" رقم (7135 - 7136).

(2)

سيأتي في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" برقم (2937).

ص: 567

(533)

حدثنا أبو بكر بن يحيى الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع (ع)، وحدثنا عبد الله بن محمد بن أحمد، ثنا أبو بكر الفِرْيابيّ، ثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية ووكيع، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله عز وجل: يا آدم قم، فابْعَثْ بَعْثَ النار، قال: فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك يا رب، وما بَعْثُ النارِ؛ قال: من كلّ ألف تسعَمائة وتسعةً وتسعين، فحينئذ يشيب المولود، وتَضَعُ كلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، قال: فيقول: وما ذاك الواحد؟ " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسعُمائة وتسعٌ وتسعون من يأجوج ومأجوج، ومنكم واحدٌ"، قال: فقال الناس: الله أكبر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجَنَّة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجَنَّة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجَنَّة"، قال: فكبَّر الناسُ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم يومئذ في الناس، إلَّا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض"، لفظ أبي بكر، عن وكيع، وأبي كريب، عن أبي معاوية. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء الخامس من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى، بعد صلاة الظهر يوم الخميس المبارك 17/ 7/ 1425 هـ الموافق 2/ سبتمبر/2004 م.

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

(1)

"المسند المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 288 رقم (533).

ص: 568

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السادس مفتتحًا بـ (2) - (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) رقم الحديث [540](223).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

* * *

ص: 569