الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الخميس 17/ 7/ 1425 هـ ـ أول الجزء السادس من شرح صحيح الإمام مسلم المسمّى "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"
رحمه الله تعالى.
2 - (كِتَابُ الطَّهَارَةِ)
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): أنه لَمّا كانت العبادة من الإيمان، والصلاة أفضل العبادات بعد الشهادتين، والطهارة من أعظم شروطها المتوقّف صحّتها عليه عقّب أبواب الإيمان بـ "كتاب الطهارة"، وإنما اختصّت الطهارة بالتقديم من بين الشروط؛ لكونها غير قابلة للسقوط غالبًا، ولكثرة مسائلها المحتاج إليها.
وإنما قدّم العبادات على المعاملات؛ اهتمامًا بأمور الدين، وتقديمًا لها على الأمور الدُّنيويّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): يحتمل أن يكون "كتاب" خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره:"هذا كتاب الطهارة، أو مبتدأً خبره محذوف؛ أي "كتاب الطهارة هذا محلّ بحثه"، أو فاعلًا لفعل مقدَّر؛ أي ثبتَ كتابُ، أو نائبَ فاعل لفعل محذوف؛ أي يُذكر كتابُ، أو منصوبًا بفعل مقدَّر؛ أي اقرَأْ كتابَ، أو مجرورًا بحرف جرّ محذوف مع بقاء عمله على قلّة، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ
…
أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي إلى كليب، والتقدير هنا: انظر في كتاب الطهارة. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): "كتاب" مصدر في الأصل، جُعل اسمًا لكل مكتوب،
كالرهن اسمٌ لكل مرهون، ثم يتخصّص بالإضافة، فيقال:"كتاب الإيمان"، "كتاب الطهارة"، "كتاب الصلاة"، فالإضافة فيه للبيان، مثلها في "خاتم حديد".
ثم الإضافة في "كتاب الطهارة" يحتمل أن تكون بمعنى اللام؛ أي كتاب موضوع لشرح الطهارة، واللام للاختصاص؛ أي مختصّ بالطهارة من بقيّة أنواع علوم الحديث، وأن تكون بمعنى "من"؛ أي كتاب من الطهارة، كقولهم: خاتم فضّة؛ أي من فضّة، أو بمعنى "في"؛ أي كتاب موضوع في شرح الطهارة
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قوله: "كتاب الطهارة" مركّبٌ إضافيّ، فقيل: إن حدّ المركب الإضافيّ لقبًا متوقّف على معرفة جزأيه؛ لأن العِلْمَ بالمركّب بعد العلم بجزأيه، وقيل: لا يتوقّف؛ لأن التسمية به سَلَبت كلًّا من جزأيه عن معناه الإفراديّ، وصَيَّرت الجميع اسمًا لشيء آخر، ورُجّح الأول بأنه أتمّ فائدةً، وعليه اختُلف، فقيل: الأولى البداءة ببيان المضاف؛ لأنه الأسبق في الذكر، وقيل: بالمضاف إليه؛ لأنه أسبق في المعنى؛ إذ لا يُعلم المضاف من حيث هو مضاف حتى يُعلم ما أُضيف إليه، وهو أحسن؛ لأن المعاني أقدم من الألفاظ.
وقد استوفيت البحث عن معنى"كتاب"، في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): "الطهارة": مصدر طَهُرَ، يقال: طَهُر الشيءُ من بابي قَتَلَ وقَرُبَ طَهارةً، والاسم الطُّهرُ، وهو النقاء من الدنس، والنجس، وهو طاهرُ الْعِرْض: أي بريء من العيب، ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض: طُهْرٌ، والجمع أَطْهارٌ، مثلُ قُفْل وأَقْفَال، وامرأة طاهر من الأَدْناس، وطاهرٌ من الحيض، بغير هاء، وقد طَهَرَت من الحيض، من باب قَتَلَ، وفي لغة قليلة من باب قَرُبَ، وتطهرت: اغتَسَلَت، وتكون الطهارة بمعنى التَّطَهُّر، وماءٌ طاهرٌ: خلافُ نَجِسٍ، وطاهرٌ: صالحٌ للتطهر به، وطَهُور قيل: مبالغةٌ، وإنه بمعنى طاهرٍ، والأكثر أنه لوصف زائد، قال ابن فارس: قال ثعلب: الطهور: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره.
(1)
راجع "حاشية تحفة الحبيب على شرح الخطيب" في الفقه الشافعيِّ.
وقال الأزهري أيضًا: الطَّهُور في اللغة هو الطاهر المطهر، قال: وفَعُول في كلام العرب لمعان، منها فَعُول لما يُفْعَل به، مثل الظَهُور لما يُتَطَهَّر به، والوَضوء لما يُتَوَضأ به، والْفَطُور لما يُفْطَرُ عليه، والْغَسُول لما يُغْتَسَل به، ويُغْسَل به الشيء، وقوله صلى الله عليه وسلم:"هو الطَّهُور ماؤه"؛ أي هو الطاهر المطهر، قاله ابن الأثير، قال: وما لَمْ يكن مُطَهِّرًا فليس بطَهُور.
وقال الزمخشريّ: الطهور: الْبَلِيغ في الطهارة، قال بعض العلماء: ويُفْهَم من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أنه طاهر في نفسه، مُطَهِّر لغيره؛ لأن قوله:{مَاءً} يُفْهَم منه أنه طاهر؛ لأنه ذُكِر في معرض الامتنان، ولا يكون ذلك إلَّا بما يُنتَفع به، فيكون طاهرًا في نفسه، وقوله:{طَهُورًا} يُفْهَم منه صفةٌ زائدةٌ على الطهارة، وهي الطهورية. فإن قيل: فقد ورد "طهور" بمعنى"طاهر"، كما في قوله:"رِيقُهُنَّ طَهُورٌ"، فالجواب: أن وروده كذلك غير مُطَّرِد، بل هو سماعيّ، وهو في البيت مبالغة في الوصف، أو واقع موقع طاهر؛ لإقامة الوزن، ولو كان طهور بمعنى طاهر مطلقًا لَقِيل: ثوبٌ طَهُورٌ، وخَشَبٌ طَهُورٌ، ونحو ذلك، وذلك ممتنع، و"طهورُ إناء أحدكم": أي مُطَهِّره، و"الْمِطْهَرة" - بكسر الميم -: الإِداوَةُ، والفتح لغة، ومنه:"السواك مَطْهَرَةٌ للفم" - بالفتح - وكل إناء يُتَطَهَّر به: مَطْهَرَةٌ، والجمع: الْمَطَاهِر، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقال النوويّ: يقال: طَهُر بفتح الهاء وضمّها، لغتان مشهورتان، الفتح أفصحهما، يطهُر بالضمّ، والاسم: الطُّهْر، والطهور بفتح الطاء: اسم لما يُتَطهَّر به، وبالضمّ: اسم للفعل، هذه هي اللغة المشهورة التي عليها الأكثرون من أهل اللغة، واللغة الثانية بالفتح فيهما، واقتصر عليها جماعات من كبار أهل اللغة، وحَكَى صاحب "مطالع الأنوار" الضمّ فيهما، وهو غريبٌ شاذّ ضعيف. انتهى
(2)
.
وهي لغةً: النظافة، والنزاهة عن الأقذار، حسّيّةً كانت كالأنجاس، أو معنويّةً كالعيوب، يقال: طهر بالماء، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ} قوم {يَتَطَهَّرُونَ} ؛
(1)
"المصباح المنير" 2/ 378 - 380.
(2)
"المجموع" 1/ 123، و"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 188.
أي يتنزهون، ومنه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على مَرِيضٍ، قال:"لا بأسَ طَهُور إن شاء الله"، رواه البخاريّ؛ أي مطهّرٌ من الذنوب
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله تعالى: "الطهارة" في اللغة: النزاهة عن الأقذار، وفي الشرع: رفع ما يمنع الصلاة من حدث، أو نجاسة بالماء، أو رفع حكمه بالتراب، فعند إطلاق لفظ الطهارة في لفظ الشارع، أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعيّ، دون اللغويّ، وكذلك كلُّ ما له موضوع شرعيّ ولغويّ إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعيّ، كالوضوء، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، ونحوه؛ لأن الظاهر من صاحب الشرع التكلّم بموضوعاته.
و"الطُّهُور" - بضم الطاء -: المصدر، قاله اليزيديّ، و"الطَّهُور" - بالفتح -: من الأسماء المتعدّية، وهو الذي يُطهّر غيره، مثلُ الْغَسُول الذي يُغسل به.
وقال بعض الحنفيّة: هو من الأسماء اللازمة، بمعنى الطاهر سواءً؛ لأن العرب لا تُفرّق بين الفاعل والفعول في التعدّي واللزوم، في كان فاعله لازمًا كان فَعُوله لازمًا، بدليل قاعد وقَعُود، ونائم ونَؤُوم، وضارب وضَروب.
وهذا غير صحيح؛ فإن الله تعالى قال: {لِيُطَهِّرَكُم بِهِ} ، وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُعطيتُ خمسًا لَمْ يُعْطَهُنّ نبيٌّ قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا"، متَّفق عليه، ولو أراد به الطاهر لَمْ يكن فيه مزيّة؛ لأنه طاهر في حقّ كلّ أحد، وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن التوضئ بماء البحر؛ فقال:"هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته"
(2)
، ولو لَمْ يكن الطهور متعدّيًا لَمْ يكن ذلك جوابًا للقوم، حيث سألوه عن التعدّي؛ إذ ليس كلّ طاهر مُطَهِّرًا، وما ذكروه لا يستقيم؛ لأن العرب فرّقت بين الفاعل والفَعُول، فقالت: قاعد لمن وُجد منه الْقُعُود، وقَعُود لمن يتكرر منه ذلك، فينبغي أن يُفرّق بينهما ها هنا، وليس إلَّا من حيث التعدّي واللزوم. انتهى
(3)
.
(1)
راجع "غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام" 1/ 78.
(2)
حديث صحيح، أخرجه الترمذي (69)، والنسائي (59)، وأبو داود (76)، وابن ماجة (386)، وأحمد (7192، 8518، 8695).
(3)
"المغني" 1/ 12 - 14.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قال جمهور أهل اللغة: يقال: "الوُضوء"، و"الطُّهُور" - بضم أولهما -: إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر، ويقال:"الوَضوء"، و"الطَّهُور" - بفتح أولهما -: إذا أريد به الماء الذي يُتَطَهَّر به، هكذا نقله ابن الأنباريّ، وجماعات من أهل اللغة وغيرهم، عن أكثر أهل اللغة، وذهب الخليل والأصمعيّ، وأبو حاتم السجستانيّ، والأزهريّ، وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما، قال صاحب "المطالع": وحُكِي الضم فيهما جميعًا. وأصل الوُضوء من الوَضَاءة، وهي الحسن والنظافة، وسُمّي وُضوءًا؛ لأنه يُنَظِّف المتوضئ، ويُحَسِّنه، وكذلك الطهارة أصلها النظافة والتنزه، وأما الغَسل، فإذا أريد به الماء، فهو مضموم الغين، وإذا أريد به المصدر، فيجوز ضم الغين وفتحها، لغتان مشهورتان، وبعضهم يقول: إن كان مصدرًا لِغَسلت، فهو بالفتح، كضَربت ضربًا، وإن كان بمعنى الاغتسال، فهو بالضم، كقولنا: غُسل الجمعة مسنون، وكذلك الغسل من الجنابة واجب، وما أشبهه، وأما ما ذكره بعض مَن صَنَّف في لحن الفقهاء من أن قولهم: غُسل الجنابة، وغُسل الجمعة، وشبههما بالضم لحنٌ، فهو خطأ منه، بل الذي قالوه صواب، كما ذكرناه، وأما الْغِسْل بكسر الغين، فهو اسم لما يُغْسَل به الرأس من خِطْميّ وغيره، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "تهذيب الأسماء واللغات": الطهارة في اللغة: النظافة، والتنزّه عن الأدناس، وفي الشرع: رفع الحدث، وإزالة النجاسة، أَوْ ما في معناهما، كالتيمّم، وتجديد الوضوء، والغَسلة الثانية، والثالثة في الوضوء، وإزالة النجاسة، والأغسال المسنونة، وطهارة المستحاضة، وسلس البول، وما في معناهما من حدث دائم، فكلّ هذه طهارات، ولا يرفع، ولا يُزيل نجسًا، ومن اقتصر على أن الطهارة رفع الحدث، وإزالة النجس، فليس بمصيب، فإنه حدّ ناقص؛ لأنه يَخْرُج منه ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 99.
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 188.
(1) - (بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ)
[540]
(223) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَنَّ زيدًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَان، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآن، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبت [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(حَبَّانُ
(1)
بْنُ هِلَالٍ) أبو حَبِيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 2016)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(أَبَانُ) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة، له أفراد [7].
رَوَى عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، وعمرو بن دينار، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وعاصم بن بَهْدَلة، وغيرهم.
وروى عنه ابن المبارك، والقطان، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، وأبو الوليد، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال أحمد: ثَبْتٌ في كلّ المشايخ، وقال ابن معين: ثقة، كان القطان يروي عنه، وكان أحب إليه من هَمّام، وهَمّام أحب إليّ، وقال النسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من همام في يحيى بن أبي كثير، وقال أيضًا: هو أحب إليّ من شيبان، وقال ابن المدينيّ: كان عندنا ثقةً، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وكان يرى القدر، ولا يتكلم فيه، وقال أحمد: هو أثبت من
(1)
بفتح الحاء، وبالباء الموحدة المشدّدة.
عمران القطان، وذكره ابن عديّ في "الكامل"، وأورد له حديثًا فردًا، ثم قال: له رواياتٌ، وهو حسن الحديث، متماسكٌ، يكتب حديثه، وله أحاديث صالحة عن قتادة وغيره، وعامتها مستقيمةٌ، وأرجو أنه من أهل الصدق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقد ذكره ابن الجوزيّ في "الضعفاء"، وحَكَى من طريق الْكُديميّ، عن ابن المدينيّ، عن القطان قال: أنا لا أروي عنه، ولم يَذْكُر من وثقه، وهذا - كما قاله الحافظ رحمه الله من عيوب كتابه، يَذكُر مَن طَعَن الراوي، ولا يذكر من وثقه، والْكُديميّ ليس بمعتمد، وقد تقدّم قول ابن معين: إن القطان كان يروي عنه، فهو المعتمد
(1)
.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لَمْ يذكر أبان بن يزيد هذا أحدٌ ممن صَنَّفَ في رجال البخاريّ من القدماء، ولم أر له عنده إلَّا أحاديث معلقةً في "الصحيح"، سوى موضع في "كتاب المزارعة" فقال فيه البخاريّ: قال لنا مسلم بن إبراهيم: ثنا أبان، فذكر حديثًا، فإن كان هذا موصولًا، فكان ينبغي للمزيّ أن يُرَقِّم لحماد بن سلمة رقم البخاريّ في الوصل، لا في التعليق، فإن البخاريّ قال في "كتاب الرقاق": قال لنا أبو الوليد: ثنا حماد بن سلمة، فذكر حديثًا. انتهى
(2)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
[تنبيه]: تقدم في أوائل هذا الشرح أنه يجوز صرف "أبان"، وترك صرفه، وأن المختار صرفه، والله تعالى أعلم.
4 -
(يَحْيَى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 424.
5 -
(زَيْد) بن سلّام بن أبي سلّام الحبشيّ الدمشقيّ، ثقة [6].
روى عن جده، وعديّ بن أرطاة، وعبد الله بن فَرّوخ، وعبد الله بن زيد الأزرق.
وروى عنه أخوه معاوية، ويحيى بن أبي كثير، والحضرميّ بن لاحق.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 56 - 57.
(2)
"تهذيب التهذيب" 1/ 57.
قال النسائيّ، وأبو زرعة الدمشقيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وقال يحيى بن حَسّان، عن معاوية بن سلام: أخذ مِنّي يحيى بن أبي كثير كُتُب أخي زيد بن سلّام. وقال ابن معين: لَمْ يلقه يحيى بن أبي كثير. وقال الأثرم: قلت لأحمد: يحيى بن أبي كثير سَمِع من زيد؟ قال: ما أشبهه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: شاميّ، لا بأس به. ووثّقه الذهبيّ.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم (223) و (315) و (804) و (865) و (934) و (1007) و (1847) و (1879).
[تنبيه]: رَوَى البخاري في "الصحيح" عن إسحاق، عن يحيى بن صالح، عن معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة: أن ثابت بن الضّحّاك أخبره، أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، هكذا رواه عامة رُواة البخاريّ، وكذا رواه مسلم وغيره، وقال أبو علي بن السَّكَن - أحد رواة البخاريّ - عن الْفِرَبريّ، عنه في روايته لهذا الحديث: عن معاوية بن سلّام، عن زيد بن سلام، عن أبي قلابة، ولم يُتَابِعه أحد على ذلك، على أن الدارقطني قد ذَكَر زيد بن سلام في رجال البخاري في "الصحيح"، فالله تعالى أعلم
(1)
.
6 -
(أَبُو سَلَّامٍ) ممطور الأسود الْحَبشيّ الأعرج الدّمَشْقِيّ، ويقال: النَّوْبيّ، وقيل: إن الحبشي نسبة إلى حَيّ من حِمْيَر، ثقة [3].
رَوَى عن ثوبان، والحارث بن الحارث الأشعريّ، وأبي مالك الأشعريّ، وعَمْرو بن عَبَسَة السُّلَميّ، وعبد الرَّحمن بن غَنْم الأشعريّ، وأبي سُلْمَى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم.
ورَوى عنه ابنه سلَّام، إن كان محفوظًا، وحفيداه: زيد، ومعاوية، ابنا سلام بن أبي سلام، ومكحول الشاميّ، والأوزاعيّ، وعبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر، والعباس بن سالم، وغيرهم.
(1)
راجع "تهذيب الكمال" 10/ 79.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. وقال أبو مسهر: قلت لمعاوية بن سلام: ما اسم جَدِّك؟ قال: ممطور، قلت: فَمَن المولى عليك؟ فغضِبَ، يعني أنه عربيّ. وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة. وقال الْبَرْقانيّ: سمعت الدارقطنيّ يقول: زيد بن سلام بن أبي سلام عن جدّه ثقتان. وقال أبو نصر ابن ماكولا: ليس هو من الحبشة، إنما هو منسوب إلى بطن من حِمْيَر، ذكره ابنُ معين، وأبو عبيدة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن معين، وابن المدينيّ: لَمْ يسمع من ثوبان. وقال أحمد: سَمِعَ منه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: رَوَى ممطور عن ثوبان، وعمرو بن عَبَسَة، والنعمان، وأبي أُمامة مرسل، فسألت أبي: هل سمع من ثوبان؟ فقال: لا أدري. وقال الدارقطنيّ: بينه وبين أبي مالك الأشعري عبد الرَّحمن بن غَنْم. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: أخبرني مروان، قال: قلت لمعاوية: سَمِعَ جدُّك مِن كعب؟ قال: لا أدري.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم (223) و (315) و (804) و (865) و (934) و (1007) و (1847) و (1879).
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وأما أبو سلام: فاسمه مَمْطُور الأعرج الحبشيّ الدمشقيّ، نُسِب إلى حَيّ من حِمْيَر من اليمن، لا إلى الحبشة. انتهى.
وقال السمعانيّ في "الأنساب": أبو سلّام ممطور الْحَبَشيّ، قال عبد الغنيّ بن سعيد: يُنسب إلى الحبش، وقال أبو بكر بن أبي داود: ليس من الحبشة، ولكنهم طائفة من خثعم. انتهى.
ونقل أيضًا عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: اسم أبي سلام ممطور الحبشيّ قبيلة من اليمن، وعن ابن معين قال: أبو سلام الحبشيّ حيّ من حِمْير. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير في "اللباب": "الْحَبَشيّ" - بفتح الحاء المهملة، والباء
(1)
"الأنساب" 2/ 203.
الموحّدة -: هذه النسبة إلى الْحَبَشَة، وهي نوع من السودان مشهورون، يُنسب إليهم بلال الحبشيّ مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أبو سلّام الحبشيّ، فقيل: من هذا النوع، وقيل: من خَثْعَم، وقيل: من حِمْيَر، ثم قال: والْحُبْشيّ - بضمّ الحاء، وسكون الموحدة -، قيل في أبي سلّام: الْحُبْشيّ بضم الحاء، وسكون الباء، قاله ابن معين، وقيل: بفتحها، وقال بعضهم: يقال: حَبَشٌ، وحُبْشٌ كما يقال: عَجَمٌ وعُجْمٌ، وعَرَبٌ وعُرْبٌ، وعلى الحقيقة فلا تؤخذ هذه الأشياء بالقياس، وإنما تؤخذ نقلًا، فلو أُخذت قياسًا لاضطرب الكلام، وتعذّرت الفائدة، قال: وحُبْشيّ أيضًا جبلٌ بأسفل مكة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر مما سبق أن الأرجح كون أبي سلّام الْحَبَشيّ منسوبًا إلى قبيلة من اليمن، لا إلى الحبشة البلدة المعروفة، والله تعالى أعلم.
7 -
(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ) الصحابيّ رضي الله عنه، قيل: اسمه الحارث بن الحارث، وقيل: عُبيد الله، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن عاصم، وقيل: كعب بن كعب، وقيل: عامر بن الحارث بن هانئ بن كلثوم.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه عبد الرَّحمن بن غنم الأشعريّ، وأبو صالح الأشعريّ، ورَبِيعة بن عَمْرو الْجُرَشيّ، وشُريح بن عبيد الحضرميّ، وشَهْر بن حَوْشَب، وأبو سلام الأسود، وغيرهم، ورَوَى أبو سلّام أيضًا عن عبد الرَّحمن بن غَنْم عنه، وقيل: إن الذي رَوَى عنه أبو سلّام آخر.
قال شهر بن حوشب عن عبد الرَّحمن بن غنم: طُعِن معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجراح، وشُرَحبيل ابن حسنة، وأبو مالك الأشعريّ في يوم واحد.
وقال ابن سعد، وخليفةُ: تُوفي في خلافة عمر.
وقال الحافظ بعدما ذَكر ما تقدّم ما نصّه: أبو مالك الأشعريّ الذي رَوَى عنه أبو سلّام الأسود، وشهر بن حوشب، ومن في طبقتهما هو الحارث بن الحارث الأشعريّ، وقد قَدّمتُ في ترجمته ما يدلُّ على ذلك، وبَيَّنتُ أنه تأخرت وفاته، وأما أبو مالك الأشعريّ هذا فهو آخر، قديم كما تقدم هنا أنه
(1)
"اللباب" 1/ 336 - 337.
مات في خلافة عمر، هو ومعاذ بن جبل وغيرهما، وقد وقع للمؤلف - يعني المزّيّ - عدمُ تخريجهما في "الأطراف" أيضًا، ونَبَّهْتُ عليه هناك، والفصل بينهما في غاية الإشكال، حتى قال أبو أحمد الحاكم في ترجمته: أبو مالك الأشعريّ أمره مشتبهٌ جدًّا.
روى له البخاري في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث (934):"أربع في أمتي من أمر الجاهليّة. . ."، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين من زيد فما فوقه، والباقون بصريّون غير شيخه، فمروزيّ، ويحيى يماميّ بصريّ، وقد سكن المدينة عشر سنين في طلب العلم.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن غير تابعيّ، فإن يحيى تابعيّ، فهو من رواية الأكابر عن الأصاغر، وزيدًا ليس تابعيًّا، ورواية الراوي عن جدّه: زيد عن أبي سلّام.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه مشهور بكنيته، وأنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا نحو ثلاثة عشر حديثًا، انظر ترجمته في "تحفة الأشراف" 9/ 280 - 284. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ) رضي الله عنه، هكذا رواية المصنّف رحمه الله، ليس بين أبي سلّام وبين أبي مالك الأشعريّ واسطة، وخالفه النسائيّ، وابن ماجه، فأدخلا بينهما عبد الرحمن بن غَنْم
(1)
، وقد انتقد على مسلم هذا الإسنادَ الدارقطنيُّ وغيره، فقالوا: سقط فيه رجل بين أبي سلّام وأبي مالك، والساقط عبد الرحمن بن غَنْم، قالوا: والدليل على سقوطه أن معاوية بن سلام رواه عن
(1)
بفتح الغين المعجمة، وسكون النون.
أخيه، زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعريّ، وهكذا أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وغيرهما.
فقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": يمكن أن يجاب لمسلم عن هذا، بأن الظاهر من حال مسلم أنه عَلِمَ سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك، فيكون أبو سلام سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضًا من عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك، فرواه مرَةً عنه، ومرّةً عن عبد الرحمن، وكيف كان فالمتن صحيحٌ، لا مطعن فيه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد اختُلِف في سماع يحيى بن أبي كثير، من زيد بن سلام، فأنكره يحيى بن معين، وأثبته الإمام أحمد، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه، وأخرج هذا الحديث النسائي، وابن ماجه، من رواية معاوية بن سلّام، عن أخيه زيد بن سلّام، عن جدّه أبي سلّام، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك، فزاد في إسناده عبدَ الرحمن بن غَنْم، ورَجَّح هذه الرواية بعض الحفاظ، وقال: معاوية بن سلّام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير، ويُقَوّي ذلك أنه قد رُوي عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك من وجه آخر، وحينئذ فتكون هذه الرواية منقطعة. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ترجيح رواية معاوية بن سلّام بإدخال عبد الرحمن بن غَنْم هو الأقرب؛ كما مال إليه ابن رجب. وأما محاولة النوويّ في تصحيحه، فمحلّ نظر، وقد تقدّم في المسألة التاسعة عشرة، حيث ذكرتُ رسالة الحافظ أبي الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله، فقد أعلّ هذا الحديث، ورجّح زيادة عبد الرحمن في المسند، وقال: ومعاوية أعلم عندنا بحديث أخيه زيد بن سلّام من يحيى بن أبي كثير. انتهى
(2)
.
والحاصل أن الأرجح رواية معاوية بن سلام، لكن الحديث وإن أُعلّ سند المصنّف، إلا أن المتن صحيح، برواية معاوية المذكورة، وقد أخرجها
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 99 - 100.
(2)
راجع "قرة عين المحتاج" 1/ 143.
النسائيّ، وابن ماجه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "الطُّهُورُ" بضمّ الطاء على المختار، وقول الأكثرين، ويجوز فتحها كما تقدم تحقيقه، والمراد به الفعل، وهو مبتدأ خبره (شَطْرُ الْإِيمَانِ) أصل الشطر: النصف، وقد اختلف فيه هنا، فقيل: معناه أن الأجر فيه يَنتهِي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: معناه أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصحّ إلا مع الإيمان، فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة، كما قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، والطهارة شرط في صحة الصلاة، فصارت كالشطر، وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا القول أقرب الأقوال، ويحتمل أن يكون معناه: أن الإيمان تصديق بالقلب، وانقياد بالظاهر، وهما شطران للإيمان، والطهارة متضمنة الصلاة، فهي انقياد في الظاهر، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية ابن ماجه بلفظ: "إِسْبَاغُ الْوُضوءِ شَطْرُ الْإِيمَانِ". قال السنديّ رحمه الله في "شرحه": ذكروا في توجيهه وجوهًا لا تناسب رواية الكتاب، منها: أن الإيمان يُطهّر نجاسة الباطن، والوضوء نجاسة الظاهر، وهذا إن تمّ يفيد أن الوضوء شطر الإيمان، كرواية مسلم؛ لا أنّ إسباغه شطر الإيمان، كرواية الكتاب، مع أنه لا يتمّ؛ لأنه يقتضي أن يُجعل الوضوء مثل الإيمان وعَديله، لا نصفه، أو شطره، وكذا غالب ما ذكروا، والأظهر الأنسب لما في الكتاب أن يُقال: أراد بالإيمان الصلاة، كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. والكلام على تقدير مضاف؛ أي إكمال الوضوء شطر كمال الصلاة.
وتوضيحه: أن إكمال الصلاة بإكمال شروطها الخارجة عنها، وأركانها الداخلة فيها، وأعظم الشرائط الوضوء، فجُعل كماله نصفَ إكمال الصلاة.
ويحتمل أن المراد: الترغيب في إكمال الوضوء، وتعظيم ثوابه، حتى بلغ
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 100.
إلى نصف ثواب الإيمان. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن المراد بالإيمان هنا الصلاة هو الأرجح، وذلك أنه لما كان الوضوء من شرط صحّتها صار نصفًا لها بهذا الاعتبار، وسيأتي مزيد بسط في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ) ولفظ ابن ماجه: "مِلْءُ الْمِيزَانِ"، فيحتمل أن يكون بصيغة المصدر، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، بمعنى مالئ الميزان، أو بصيغة الماضي، عبّر به لتحقّق وقوعه، كقوله عز وجل:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} .
ثم ما دلّ عليه ظاهر الحديث من أن "الحمد لله" نفسها تملأ الميزان، من غير تأويل بثوابها هو الحقّ؛ لعدم ما يمنع من ذلك.
قال السنديّ رحمه الله: قوله: "تملأ الميزان" بصيغة الماضي، كأنه وقع وتحقّق، وظاهره أن الأعمال تُجسّد عند الوزن، أو بصيغة المصدر. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله صلى الله عليه وسلم: "والحمد لله تملأ الميزان": فمعناه عِظَمُ أجرها، وأنه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص القرآن، والسنة على وزن الأعمال، وثقل الموازين، وخفّتها. انتهى
(2)
.
فقال الجامع عفا الله عنه: قوله: "عِظَم أجرها"، فيه نظرٌ؛ إذ هو حمل للوزن على وزن الثواب، وهو خلاف ظاهر النصّ، ومما يردّه قوله في آخر كلامه:"على وزن الأعمال"، فالأولى إبقاء النصّ على ظاهره، كما أسلفناه آنفًا، فتبصّر، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الخامسة، والحادية عشرة - إن شاء الله تعالى -.
(وَسُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآن، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بالتاء المثنّاة من فوقُ في "تملآن"، و"تملأ"، وهو صحيح، فالأول ضمير مؤنثتين غائبتين، والثاني ضمير هذه الجملة من الكلام، وقال صاحب "التحرير": يجوز "تملآن" بالتأنيث والتذكير جميعًا، فالتأنيث على ما ذكرناه، والتذكير على إرادة النوعين من الكلام، أو الذكرين، قال: وأما "تملأ" فمذكر على إرادة الذكر.
(1)
"شرح السنديّ" 1/ 180.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 101.
وأما معناه: فيحتمل أن يقال: لو قُدِّر ثوابهما جسمًا لملأ ما بين السموات والأرض.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق لك أن الأولى إبقاء النصّ على ظاهره؛ أي فتوزن "سبحان الله"، و"الحمد لله" نفسها، ولا داعي للتأويل المذكور، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وسبب عِظَم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: "سبحان الله"، والتفويض، والافتقار إلى الله تعالى بقوله:"الحمد لله"، والله أعلم. انتهى.
وقال القرطبيّ ما حاصله: أن الحمد راجع إلى الثناء على الله تعالى بأوصاف كماله، فإذا حَمِدَ الله تعالى حامدٌ مستحضرًا معنى الحمد في قلبه امتلأ ميزانه من الحسنات، فإذا أضاف إلى ذلك "سبحان الله" الذي معناه تبرئة الله، وتنزيهه عن كلّ ما لا يليق به من النقائص ملأت حسناته، وثوابها زيادة على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزان مملوء بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء
(1)
على العادة العربية، والمراد أن الثواب على ذلك كثير جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لملأ ما بين السموات والأرض.
انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لو كان أجسامًا. . إلخ" فيه نظر لا يخفى، والصحيح حمل الحديث على ظاهره، فتوزن الأذكار نفسها، فإنه لا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم.
ووقع في رواية ابن ماجه: "وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، فيحتمل أن يكون بصيغة الماضي، والمصدر كسابقه، وإفراد الضمير على الأول بتأويل كلّ منهما، أو بمجموعهما، وقد سبق آنفًا أن الوزن للتسبيح والتكبير نفسهما على الصواب.
وقال السنديّ رحمه الله: والظاهر أن هذا يكون عند الوزن كما في عَديله،
(1)
"الإغياء": بلوغ الغاية، يقال: أغيا الرجل: بلغ الغاية.
(2)
المفهم 1/ 475 - 476.
ولعلّ الأعمال تصير أجسامًا لطيفةً نورانيّةً، لا تُزاحم بعضها، ولا يزاحم غيرها أيضًا، كما هو المشاهد في الأنوار؛ إذ يمكن أن يُسرَج ألف سراج في بيت واحد، مع أنه يمتلئ نورًا من واحد من تلك السُّرُج، لكن لكونه لا يزاحم يجتمع معه نور الثاني ونور الثالث، ثم لا يمنع امتلاء البيت من النور جلوسَ القاعدين فيه؛ لعدم التزاحم، فلا يرد أنه كيف يتصوّر ذلك مع كثرة التسبيحات والتقديسات؟ مع أنه يلزم من وجوده أن لا يبقى مكان لشخص من أهل المحشر، ولا لعمل آخر متجسّد مثل تجسّد التسبيح وغيره. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالصَّلَاةُ نُورٌ) أي منوّرة للقلوب، وشارحة للصدور، وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: معناه: أن الصلاة إذا فُعلت بشروطها المصحّحة، والمكمّلة نوّرت القلب؛ بحيث تشرق فيه أنوار المكاشفات والمعارف، حتى ينتهي أمر مَن يراعيها حقّ رعايتها أن يقول:"وجُعلت قرّة عيني في الصلاة"
(2)
، وأيضًا فإنها تنوّر بين يدي مُراعيها يوم القيامة في تلك الظُّلَم، وأيضًا تنوّر وجه المصلّي يوم القيامة، فيكون ذا غرّة وتحجيل، كما ورد في حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه، مرفوعًا:"أمتي يوم القيامة غُرٌّ من السجود، محجّلون من الوضوء"
(3)
. انتهى كلام القرطبيّ
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتَهْدي إلى الصواب، كما أن النور يُستضاء به، وقيل: معناه أنه يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار
(1)
"شرح السنديّ " 1/ 180 - 181.
(2)
حديث صحيح، رواه أحمد 3/ 128 و 199 و 285.
(3)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "جامعه" برقم (505) وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه، من حديث عبد الله بن بسر.
(4)
"المفهم" 1/ 476.
المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق؛ لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45]، وقيل: معناه أنها تكون نورًا ظاهرًا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضًا على وجهه البهاءُ، بخلاف من لم يُصَلّ، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المعاني كلّها لا تنافي بينها، وليس الخلاف فيها خلاف تناقض وتضادّ، فالأولى أن يحمل الحديث على جميع هذه المعاني، فتنبّه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) ولفظ ابن ماجه: "وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ": أي دليلٌ على صدق صاحبها في دعوى الإيمان؛ إذ الإقدام على بذل المال خالصًا لله تعالى لا يكون إلا من صادق في إيمانه.
قال القرطبيّ رحمه الله: أي برهان على صحّة إيمان المتصدّق، أو على أنه ليس من المنافقين الذين يَلْمِزون المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات، أو على صحّة محبّة المتصدّق لله تعالى، ولمَا لديه من الثواب؛ إذ قد آثر محبّة الله تعالى، وابتغاء ثوابه على ما جُبل عليه من حبّ الذهب والفضّة حتى أخرجه لله تعالى. انتهى كلامه
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال صاحب "التحرير": معنى قوله: "برهان" يُفزَع إليها كما يُفْزَع إلى البراهين، كأن العبد إذا سُئل يوم القيامة عن مَصْرِف ماله، كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول: تصدقت به، قال: ويجوز أن يُوسَم المتصدق بسيماء يُعْرَف بها، فيكون برهانًا له على حاله، ولا يُسأل عن مَصرِف ماله.
وقال غير صاحب "التحرير": معناه: الصدقة حجةٌ على إيمان فاعلها، فإن المنافق يَمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استُدِلّ بصدقته على صدق إيمانه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 101.
(2)
"المفهم" 1/ 476.
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [البقرة: 265]. والله تعالى أعلم
(1)
، وسيأتي تمام البحث في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) أي نُورٌ قويّ، كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} الآية [يونس: 5].
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ" كذا صحّت روايتنا فيه، وقد رواه بعض المشايخ:"والصوم ضياء" بالميم، ولم تقع لنا تلك الرواية.
قال الجامع عفا الله عنه: الرواية بلفظ: "والصوم ضياء" وقدت عند أبي نعيم في "مستخرجه على صحيح مسلم" من طريق بشر بن موسى، عن يحيى بن إسحاق السيلحينيّ، عن أبان العطار
(2)
.
قال القرطبيّ: على أنه يصحّ أن يعبّر بالصبر عن الصوم، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45]. وإن نَزّلناه
(3)
على ذلك، فيقال في كون الصبر ضياء؛ كما قيل في كون الصلاة نورًا، وحينئذ لا يكون بين النور والضياء فرقٌ معنويٌّ، بل لفظيٌّ.
والأَوْلَى أن يقال: إن الصبر في هذا الحديث غير الصوم، بل هو الصبرُ على العبادات، والمشاقّ، والمصائب، والصبرُ عن المخالفات، والمنهيّات؛ كاتباع هوى النفس، والشهوات، وغير ذلك، فمن كان صابرًا في تلك الأحوال متثبّتًا فيها؛ مقابلًا لكلّ حال بما يليق به ضاءت له عواقب أحواله، ووضَحَت له مصالح أعماله، فظَفِرَ بمطلوبه، وحَصَل من الثواب على مرغوبه، كما قيل [من البسيط]:
فَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلَّبَهُ
…
وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 97.
(2)
"المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم" 1/ 289.
(3)
وقع في نسخة "المفهم": "فإن تنزّلنا على ذلك"، والظاهر أنه مصحّف، والله أعلم.
(4)
"المفهم" 1/ 477.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: الصبر المحبوب في الشرع، وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر أيضًا على النائبات، وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه، مستضيئًا، مهتديًا، مُستَمِرًّا على الصواب.
قال إبراهيم الخوّاص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنّة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقال الأستاذ أبو علي الدّقّاق: حقيقة الصبر أن لا يعترض على المقدور، فأما إظهار البلاء، لا على وجه الشكوى، فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} الآية [ص: 44]. مع أنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} الآية [الأنبياء: 83]. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
. وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالْقُرْآنُ حُجّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ) أي تنتفع به إن تلوته، وعَمِلتَ به، وإلا فهو حجة عليك
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنك إذا امتثلت أوامره؛ واجتنبت نواهيه، كان حجة لك في المواقف التي تُسأل فيها عنه، كمسألة الملكين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثل ذلك احتُجّ به عليك.
ويحتمل أن يُراد به أن القرآن هو الذي يُنتهَى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية، والوقائع الْحُكْميّة، فبه تَستَدلّ على صحّة دعواك، وبه يَستَدلّ عليك خصمك. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المعنى الأول هو الذي يدلّ عليه السياق، فتأمّله. وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التاسعة - إن شاء الله تعالى -.
(كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا) يعني أن كل إنسان
(1)
"شرح مسلم" 3/ 97.
(2)
"شرح النووي" 3/ 101.
(3)
"المفهم" 1/ 477.
يَسعَى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما، فيوبقها؛ أي يهلكها؛ قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "المفاتيح": البيع المبادلة، والمعنى به ها هنا صرف النفس واستعمالها في عِوَض ما يتوخّاه، ويتوجّه نحوه، فإن كان خيرًا يرضاه الله تعالى، فقد أعتق نفسه من النار، وإن كان شرًّا، فقد أوبقها؛ أي أهلكها. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "يغدو": بمعنى يُبكّر، يقال: الناس فريقان: غَدَا: إذا خرج صباحًا في مصالحه يغدو، وراح: إذا رجع بعسيّ، ومعنى ذلك أن كلّ إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، متصرّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرّفاته بحسب دواعي الشرع والحقّ، فهو الذي يبيع نفسه من الله، وهو بيع آئل إلى عتق وحرّيّة؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111] ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: "الناس غاديان، فبائع نفسه، فموبقها، أو مُفاديها، فمعتقها"
(3)
. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
وفي "الكاشف": الغدوّ: سير أول النهار، وهو ضدّ الرواح، وقد غدا يغدو غُدُوًّا، مأخوذ من الغدوة، بالضمّ، وهي ما بين الصبح وطلوع الشمس، والبيع والشراء يطلق أحدهما على الآخر؛ لارتباط كلّ منهما بالآخر، ولَمّا كان كلُّ واحد من المتعاقدين من عادته اختيار ما في يد صاحبه على ما في يده، وإيثاره عليه بالمبادلة معه، وُضِعَ لفظ البيع والشراء مكان ترك حالة، وكسب أخرى، والمراد ها هنا صرف النفس في الأغراض التي توخّتها النفس، وتوجّهت نحوها، واستعمالها فيها، فإن آثر آخرته على دنياه، واشتراها بالدنيا، فقد أعتق نفسه عن أليم العقاب، وإن آثر دنياه على آخرته، واشتراها بالآخرة، فقد أوبق نفسه؛ أي أهلكها بأن جعلها عُرضةً لعظيم العذاب.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 102.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 181.
(3)
قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 10/ 236: رواه الطبرانيّ، وإسناده جيّد.
(4)
"المفهم" 1/ 477 - 478.
فقوله: "فبائع نفسه" خبر؛ أي هو مشتر نفسه بدليل قوله: "فمعتقها"؛ إذ الإعتاق إنما يصحّ من المشتري، وهو محذوف المبتدأ، فإنه يحذف كثيرًا بعد الفاء الجزائيّة.
وقوله: "فمعتقها" خبر بعد الخبر، ويجوز أن يكون بدل بعض من قوله:"فبائع نفسه".
قال الطيبيّ بعد ذكر ما تقدّم: أقول - وبالله التوفيق -: لعلّ المعنى بالإيمان ها هنا شُعبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة"، والطُّهُور، والحمد لله، وسبحان الله، والصلاة، والصدقة، والصبر، والقرآن العظيم أعظم شعبه التي لا تنحصر، وتخصيص ذكرها لبيان فائدتها، وفخامة شأنها، فبدأ بالطهور، وجعله شطر الإيمان؛ أي شُعبةً منه، ومجازه كمجازه في قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]؛ أي نحوه. وتقرير كون الطهور شعبة من الإيمان بوجوه:
[أحدها]: أنه صلى الله عليه وسلم جعل نقصان الدين في قوله للنساء: "أليست إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصُم؟ " قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان دينها"، متّفقٌ عليه، فكلّ مانع يمنع المكلّف من الطاعة هو موجب نقصان دينه، وما يرفع المانع لا يبعد أن يُعدّ من الدين.
[وثانيها]: أن طهارة الظاهر أمارة لطهارة الباطن؛ لأن الظاهر عُنوان الباطن، كما أن طهارة الظاهر ترفع الخبث والحدث من الظاهر؛ ليستعدّ للشروع في العبادات، كذلك طهارة الباطن، وهي التوبة تفتح باب السلوك للسائرين إلى الله تعالى، ومن ثمّ جمعهما في قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقيّد كلّ واحد منهما بمحبّة مستقلّة.
[وثالثها]: أنه قد اشتهر أن من أراد الوفود إلى العظماء يتحرّى بتطهير ظاهره من الدنس والأَوْضَار، ولُبس الثياب النقيّة الفاخرة، فوافد مالك الملوك، ذي العزّة والجبروت أولى وأحرى بذلك، ومن ثَمَّ شُرعت نظافة البدن والثوب، والتطيّبُ في أيّام الأعياد والجمعات، قال الله عز وجل لحبيبه صلى الله عليه وسلم:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 3 - 5]، وإنما قُدّم {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} عن تالييه؛ لكونه هو المقصود، وإن كان مؤخّرًا في الوجود؛ لأن
الغايات والكمالات سابقة في الإرادة، لاحقةٌ في الوجود، وعليه قوله عز وجل:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} عن تالييه؛ لكونه هو المقصود، وإن كان مؤخّرًا في الوجود؛ وعليه قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} [الرحمن: 1 - 3]، ولَمّا أراد الله تعالى أن يُسري بحبيبه صلى الله عليه وسلم، ويقرّبه إليه شرح صدره
(1)
، وأخرج منه قلبه، فطهّره، على ما رويناه في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم:"فأُتيت بطست من ذهب، فيها من ماء زمزم، فشُرِح صدري إلى كذا وكذا - يعني إلى أسفل بطنه - فاستُخرِج قلبي، فغسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه، ثم حُشِي إيمانًا وحكمةً. . ." الحديث.
[فإن قلت]: هل في تخصيص الصلاة بالنور، والصبر بالضياء فائدة؟.
[قلت]: أجل؛ لأن الضياء فرطُ الإنارة، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5].
ولعمر الله إن الصبر بُنيت عليه أركان الإسلام، وبه أُحكمت قواعد الإيمان؛ لأنه تعالى لَمّا مَدَح عباده المخلصين بقوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} - إلى قوله -: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 63 - 75] عقّبه بقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} ، فوَضَع الصبر موضع تلك الأعمال الفاضلة، والأخلاق المرضيّة؛ لأنه مِلاكها، وعليه يدور قُطبها.
قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: "الصبر": حبسُ النفس عما يقتضيه الهوى، وتختلف مواقعه، وربّما يخالَف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان في معصية، فيقال: صَبَرَ لا غيرُ، وضدّه الْجَزَع، وإن كان في محاربة سُمّي شجاعةً، وضدّها الْجُبْنُ، وإن كان في نائبة مُضْجِرَة سُمّي صاحبه رَحِيب الصدر، وضدّه ضيّق النفس، وإن كان إمساك النفس من الفُضُولات سُمّي
(1)
وقد شُقّ صدره صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة أيضًا، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقَةً، فقال: هذا حظّ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه. . ." الحديث.
قَناعة، وضدّها الحرص والشّرّه، وإن كان في إمساك كلام في الضمير يُسمى كتمانًا، وضدّه الإفشاء، وإن كان في بذل مال سُمّي صاحبه جوادًا، وضدّه البخيل، وعلى هذا تُقاس جميع الفضائل.
وقوله: "والقرآن حجة لك": ختم الشُّعَب به، وسَلك به مسلكًا غير مسلكها؛ دلالةً على كونه سلطانًا قاهرًا، وحاكمًا فيصلًا، يفرّق بين الحقّ والباطل، حجةُ الله في الخلق، به السعادة والشقاوة.
وقوله: "كلُّ الناس يغدو": مجمل، والفاء في قوله:"فبائعٌ" تفصيليّة، وفي قوله:"فمعتقها" سببيّةٌ، والمعنى: كلُّ الناس يسعى في الأمور، فمنهم من يبيعها من الله تعالى، فيُعتقها من النار، أو يبيعها من الشيطان، فيوبقها.
[فإن قلت]: ما وجه صلة هذه الجملة بما قبلها؟.
[قلت]: هي استئنافيّة على تقدير سؤال سائل، قال: قد تبيّن من هذا التقرير الرشدُ من الغيّ، فما حال الناس بعد ذلك؟ فاجيب: كلُّ الناس يغدو. . . إلى آخره، وموقع هذا السؤال موقع الفاء في قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} الآية [البقرة: 256] بعد قوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وهو تحقيق نفيسٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[1/ 540](223)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3517)، و (النسائيّ)(2437)، وفي "الكبرى"(2217) وفي (167 و 169)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(280)، و (أحمد) في "مسنده"
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 739 - 743.
(5/ 342، 343)(22395 و 22401)، و (الدارميّ) في "سننه"(653)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(844)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(600 و 601)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(534)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 42)، وفي "الاعتقاد"(ص 176)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3423 و 3424)، و (ابن منده) في "الإيمان"(211)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الوضوء حيث كان شطر الإيمان.
2 -
(ومنها): فضل إسباغ الوضوء، حيث جُعِل شطر الإيمان.
3 -
(ومنها): بيان فضل "الحمد، والتسبيح، والتكبير"، وأنها توزن، كالأجسام، فتملأ الميزان، والسموات والأرض.
4 -
(ومنها): بيان فضل الصلاة، والمحافظة عليها، والاستكثار من التنفّل منها، حيث إنها تكون نورًا للمصلي، فتنوّر قلبه، وقبره، وموقفه في المحشر.
5 -
(ومنها): الترغيب في الصدقة، والإكثار منها، حيث إنها برهان لصاحبها، تُثْبِت له صدق إيمانه.
6 -
(ومنها): بيان فضل الصبر، وأنه ضياء يستضيء به العبد في ظلمة المصائب، والمشاقّ، وفيه المثوبة العظيمة، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
7 -
(ومنها): بيان قراءة القرآن، والإكثار منها، وملازمة العمل بما فيه، والعكوف على التدبّر في آياته.
8 -
(ومنها): بيان أن القرآن إما أن ينتفع به صاحبه، فيكون حجة له، وذلك إذا قام به حقّ القيام، وإما أن لا ينتفع به، فيكون حجة عليه، وذلك إذا لم يقم بحقه، وهذا بمعنى الحديثِ الصحيح:"القرآنُ شافع مُشَفَّع، ومَاحِلٌ مُصَدّق، مَن جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار"، أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" والبيهقيّ من حديث جابر رضي الله عنه، والطبرانيّ، والبيهقيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه
(1)
.
(1)
حديث صحيح.
وفي معنى هذا الوعيد الذي ذُكر هنا من أن القرآن حجة على العبد إذا لم يعمل به، ما جاء في الحديث الطويل الذي أخرجه المصنّف رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: رجل استُشهِد، فأُتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك، حتى استُشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به، فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وَسَّعَ الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كُلِّه، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل، تُحِبّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به، فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار"
(1)
. اللهم انفعنا بما علّمتنا، وعلّمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا، إنك رؤوفٌ رحيم.
9 -
(ومنها): بيان أن الناس صنفان: صنف يسعى فيما فيه نجاته وصلاحه في الدنيا والآخرة، وصنفٌ يسعى فيما فيه هلاكه، وخسرانه في الدنيا والآخرة.
10 -
(ومنها): الحثّ على سعي الإنسان للخيرات؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة، والكيّس من أخذ بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:"كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول:"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
(1)
سيأتي للمصنف في "صحيحه" برقم (1905).
وبوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخرى حيث قال لرجل، وهو يعظه:"اغتنم خمسًا قبل خمس": حياتك قبل موتك، وصحّتك قبل سَقَمك، وفراغك قبل شُغلك، وشبابك قبل هَرَمك، وغناك قبل فقرك"
(1)
.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكيّس مَن دان نفسه، وعَمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله"، أخرجه الترمذيّ، وحسّنه، وفيه نظر؛ لأن سنده ضعيف.
قال: ومعنى قوله: "من دان نفسه" يقول: حاسَبَ نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يَخِفّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا".
ويُرْوَى عن ميمون بن مِهْرَان قال: لا يكون العبد تَقِيًّا حتى يُحاسب نفسه كما يحاسب شريكه، من أين مطعمه وملبسه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد الكلام في هذا الحديث، واستوفى مباحثه الحافظ ابن رجب الله رحمه الله في "جامع العلوم والحكم"، أحببت إيراده، وإن كان بعضه تقدّم، إلا أن أبحاثه متميّزةٌ كما لا يخفى على بصير، فأورده بمسائل حتى يسهل فهمه، فأقول:
(المسألة الرابعة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان" فسّر بعضهم الطهور ها هنا بترك الذنوب، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وقوله:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال: الإيمان نوعان: فعلٌ، وتركٌ، فنصفه فعل المأمورات، ونصفه ترك المحظورات، وهو تطهير النفس بترك
(1)
حديث صحيح، أخرجه الحاكم، والبيهقيّ، عن ابن عبّاس، قال الحاكم: صحيح على شرطهما.
(2)
"جامع الترمذيّ" في "صفة القيامة" برقم (2383).
المعاصي، وهذا القول مُحْتَمِلٌ لولا أن رواية "الوضوءُ شطر الإيمان" تَرُدّه، وكذلك رواية "إسباغُ الوضوء"، وأيضًا ففيه نظر من جهة المعنى، فإن كثيرًا من الأعمال تُطَهِّر النفس من الذنوب السابقة، كالصلاة، فكيف لا تدخل في اسم الطهور؟ ومتى دخلت الأعمال، أو بعضها في اسم الطهور، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان.
والصحيح الذي عليه الأكثرون، أن المراد بالطهور ها هنا التطهير بالماء من الأحداث، ولذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء، وكذلك أخرجه النسائيّ، وابن ماجه وغيرهما، وعلى هذا فاختَلَفَ الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان، فمنهم من قال: المراد بالشطر الجزء، لا أنه النصف بعينه، فيكون الطهور جزءًا من الإيمان، وهذا فيه ضعف؛ لأن الشطر إنما يُعْرَف استعماله لغةً في النصف، ولأن في حديث الرجل من بني سُليم:"الطهور نصف الإيمان"
(1)
.
ومنهم من قال: المعنى أنه يُضاعَف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان، لكن من غير تضعيف وفي هذا نظرٌ، وبُعْدٌ.
ومنهم من قال: الإيمان يُكَفِّر الكبائر كلَّها، والوضوء يُكَفِّر الصغائر، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار، وهذا يَرُدُّه حديث:"مَن أساء في الإسلام أُخِذ بما عَمِل في الجاهلية"
(2)
.
ومنهم من قال: الوضوء يُكَفِّر الذنوب مع الإيمان، فصار نصف الإيمان، وهذا ضعيف.
(1)
هو ما أخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، من حديث رجل من بني سليم قال: عدّهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده: "التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، والتكبير تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان"، وحسّنه الترمذيّ، وفيه نظر؛ لأن فيه جُريّ بن كُليب النهديّ، مجهول.
(2)
تقدّم للمصنّف رحمه الله برقم (120) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قلنا: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أُخِذ بالأول والآخر".
ومنهم من قال: المراد بالإيمان ها هنا الصلاة، كما في قوله عز وجل:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية [البقرة: 143]، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة، فالصلاة لا تُقْبَل إلا بطهور، فصار الطهور شطر الإيمان بهذا الاعتبار، حَكَى هذا التفسير محمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة" عن إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم، وأنه قال في معنى قولهم:"لا أدري نصف العلم": إن العلم إنما هو: أدري، ولا أدري، فأحدهما نصف الآخر.
قال ابن رجب: كلُّ شيء كان تحته نوعان، فأحدهما نصف له، وسواء كان عدد النوعين على السواء، أو أحدهما أزيد من الآخر، ويدل على هذا حديث:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"
(1)
والمراد قراءة الصلاة، ولهذا فسرها بالفاتحة، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة، فالعبادة حقّ
الربّ، والمسألة حقّ العبد، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء، وقد ذكر هذا الخطابيّ، واستَشْهَد بقول العرب: نصفُ السنة سفرٌ، ونصفها حضرٌ، قال: وليس على تساوي الزمانين فيهما، لكن على انقسام الزمانين لهما، وإن تفاوتت مُدّتاهما، وبقول شريح، وقد قيل: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت، ونصف الناس عليّ غضبان، يريد أن الناس بين محكوم له، ومحكوم عليه، فالمحكوم عليه غضبان عليه، والمحكوم له راض عنه، فهما حزبان مختلفان، وبقول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَيْنِ شَامِتٌ
…
بِمَوْتِي وَمُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُ
ومراده أنهم ينقسمون قسمين.
ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في الفرائض: "أنها نصف العلم"، أخرجه ابن ماجه
(2)
، فإن أحكام المكلفين نوعان: نوع يتعلق بالحياة، ونوع يتعلق بما بعد الموت، وهذا هو الفرائض.
(1)
سيأتي للمصنّف رحمه الله مطوّلًا برقم (395).
(2)
أخرجه ابن ماجه برقم (2719) وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده حفص بن عمر بن أبي العطّاف، وهو ضعيف.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الفرائض ثلث العلم، ووجه ذلك: الحديثُ الذي أخرجه أبو داود، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا:"العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة"
(1)
.
ورُوي عن مجاهد أنه قال: المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء، ولعله أراد أن الوضوء قسمان: أحدهما: مذكور في القرآن، والثاني: مأخوذ من السنة، وهو المضمضة والاستنشاق، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يُطهران باطنَ الجسد، وغسل سائر الأعضاء يُطَهِّر ظاهره، فهما نصفان بهذا الاعتبار، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه:"الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله"
(2)
، وجاء من رواية يزيد الرَّقَاشيّ، عن أنس، مرفوعًا:"الإيمان نصفان: نصف في الصبر، ونصف في الشكر"
(3)
. فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات، وترك المحرمات، ولا يُنال ذلك كلُّه إلا بالصبر، كان الصبر نصف الإيمان، فهكذا يقال في الوضوء: إنه نصف الصلاة.
وأيضًا، فالصلاة تكفّر الذنوب والخطايا، بشرط إسباغ الوضوء، وإحسانه، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضًا كما في "صحيح مسلم" عن عثمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كتب عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس، إلا كانت كفارةً لما بينهن"، وفي رواية له:"من أتم الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبة كفاراتٌ لما بينهن".
وأيضًا فالصلاة مفتاح الجنة، والوضوء مفتاح الصلاة، كما أخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وكلٌّ من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة، كما في "صحيح مسلم" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه
(1)
أخرجه أبو داود (2885)، وابن ماجه (54)، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقيّ، وعبد الرحمن بن رافع التنُوخيّ، وهما ضعيفان.
(2)
أثر صحيح أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 446 وصححه، ووافقه الذهبيّ.
(3)
أخرجه الخرائطيّ في "فضيلة الشكر"(18)، والقضاعيّ في "مسند الشهاب"(159)، وهو ضعيف؛ لأن في سنده يزيد الرقاشيّ، وهو ضعيف.
سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم، فيصلي ركعتين، يُقْبِل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وَجَبت له الجنة"، وعن عقبة، عن عمر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما منكم من أحد يتوضأ، فيَبْلُغ، أو يُسْبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أَيِّها شاء"، وفي "الصحيحين" عن عبادة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حقّ، والنار حقّ أدخله الله من أيّ أبواب الجنة الثمانية شاء".
فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبًا لفتح أبواب الجنة، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله، بهذا الاعتبار.
وأيضًا فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يُحافِظ عليها إلا مؤمن، كما في حديث ثوبان وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"
(1)
.
والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة، كما أخرجه الْعُقيليّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خمسٌ مَن جاء بهن مع الإيمان، دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئهنّ، وركوعهنّ، وسجودهنّ، ومواقيتهنّ، وأعطى الزكاة من ماله، طَيِّب النفس بها - قال: وكان يقول -: وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمنٌ، وصام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا، وأدى الأمانة، قالوا: يا أبا ذرّ، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها"
(2)
.
(1)
رواه أحمد 5/ 280، والدارميّ 1/ 198، وابن ماجه (277)، والحاكم 1/ 130، وصححه ابن حبّان (1037).
(2)
رواه العقيليّ في "الضعفاء" من رواية عبيد الله بن عبد المجيد الحنفيّ، وقال: لا يُتابع عليه.
لكن الذي يظهر أن تفرّده لا يضرّ؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان، ووثقه العجليّ، والدارقطنيّ، وابن قانع، وابن حبان، وقال الذهبيّ في "الميزان" =
وأخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وأداء الأمانة كفّارة لما بينهنّ، قيل: وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، فإن تحت كل شعرة جنابة"
(1)
.
وحديث أبي الدرداء الذي قبله جَعَل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة، وجاء في حديث أخرجه البزار
(2)
من رواية شَبَابة بن سَوّار، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"الصلاة ثلاثة أثلاث: الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث، فمن أدّاها بحقّها قُبِلت منه، وقُبل منه سائر عمله، ومن رُدّت عليه صلاته، رُدّ عليه سائر عمله"، وقال: تفرد به المغيرة، والمحفوظ عن أبي صالح، عن كعب، من قوله.
فعلى هذا القسم الوضوء ثلث الصلاة، إلا أن يُجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد؛ لتقاربهما في الصورة، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضًا.
ويَحْتَمِل أن يقال: خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلِّها تُطَهِّر القلب وتزكيه، وأما الطهارة بالماء فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه، فصارت خصال الإيمان قسمين: أحدهما يُطَهِّر الظاهر، والآخر يطهر الباطن، فهما نصفان بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم بمراده، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب الأجوبة كلّها عندي قول من قال: إن المراد بالإيمان ها هنا الصلاة، والصلاة شرط صحّتها الطهارة، فمن هذه الحيثيّة صار الطهور نصفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السموات والأرض".
= 3/ 13: ذكره العقيليّ في كتابه، وساق له حديثًا لا أرى به بأسًا. انتهى، وقال في "التقريب": صدوق، لم يثبت أن يحيى بن معين ضعّفه. انتهى.
(1)
أخرجه ابن ماجه (598)، وضعّفه الشيخ الألبانيّ في "الضعيفة"(8) لكن فيه نظر، والله أعلم.
(2)
رقم (349). وأورده الهيثميّ في "مجمع الزوائد"(2/ 147) وقال: المغيرة ثقةٌ، وإسناده حسن. انتهى.
فـ "أو" هنا للشك من الراوي في لفظه، وفي رواية النسائيّ، وابن ماجه:"والتسبيح، والتكبير ملء السماء والأرض"، وفي حديث الرجل من بني سُلَيم:"التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض"، وخرّج الترمذيّ من حديث الإفريقيّ
(1)
، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب، حتى تَصِلَ إليه"، وقال: ليس إسناده بالقويّ.
قال ابن رجبّ رحمه الله: اختُلِف في إسناده على الإفريقيّ، فرُوي عنه، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة:"والله أكبر ملء السموات والأرض"، ورَوَى جعفرٌ الْفِريابيّ في "كتاب الذكر"، وغيرُه من حديث عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحمد لله ملء الميزان، وسبحان الله نصف الميزان، ولا إله إلا الله، والله أكبر ملء السموات والأرض وما بينهنّ"، وخَرَّج الفريابيّ أيضًا، من حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلمتان إحداهما مَن قالها لم يكن له ناهية دون العرش، والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض: لا إله إلا الله، والله أكبر"
(2)
.
فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع، التي هي أفضل الكلام، وهي:"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
فأما الحمد لله، فاتفقت الأحاديث كلُّها على أنه يملأ الميزان، وقد قيل: إنه ضَرْبُ مَثَلٍ، وأن المعنى: لو كان الحمد جسمًا لملأ الميزان، وقيل: بل الله عز وجل يُمَثِّل أعمال بني آدم، وأقوالهم صورا تُرَى يومَ القيامة، وتوزن، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يأتي القرآن يوم القيامة تَقْدُمُه البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو غيابتان، أو فِرْقان من طَيْرٍ صَوَافّ"
(3)
، وقال: "كلمتان حبيبتان
(1)
الإفريقيّ اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم، قاضي إفريقية، ضعيف في حفظه.
(2)
رواه الطبرانيّ في "الكبير" 20/ 334 وفي سنده ابن لهيعة، ضعيف، ومعاذ بن عبد الله بن رافع قال الهيثميّ رحمه الله: لم أعرفه.
(3)
سيأتي للمصنّف: برقم (804 و 805).
إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"
(1)
، وقال:"أثقل ما يوضع في الميزان الْخُلُق الْحَسَن"
(2)
.
وكذلك المؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره، في أحسن صورة، والكافر يأتيه عمله في أقبح صورة.
ورُوي أن الصلاة، والزكاة، والصيام، وأعمال البر تكون حول الميت في قبره، تدافع عنه، وأن القرآن يَصْعَد فيشفع له.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذه النصوص الواضحة أن الأعمال نفسها توزن، وهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم في ذلك، ولا مانع مع ذلك أن يوزن صاحبها، ويوزن الثواب أيضًا، كما تدلّ عليه بعض النصوص، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة العاشرة - إن شاء الله تعالى -.
وأما "سبحان الله" ففي رواية مسلم: "سبحان الله، والحمد لله تملأ، أو تملآن ما بين السماء والأرض"، فشَكّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض، هل هو الكلمتان، أو إحداهما؟، وفي رواية النسائيّ، وابن ماجه:"التسبيح، والتكبير ملء السماء والأرض"، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذه الرواية أسنَدُ
(3)
.
وهل المراد أنهما معًا يملآن ما بين السماء والأرض، أو أن كلا منهما يملأ ذلك؟ هذا محتمل.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والرجل الآخر: أن التكبير وحده يملأ ما
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
حديث صحيحٌ، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"(270)، وأبو داود (4799)، والترمذيّ (2003)، وصححه ابن حبّان.
(3)
قال الجامع عفا الله عنه: إنما قال ابن رجب رحمه الله: "أسند" أي أصحّ سندًا مما في "صحيح مسلم"؛ لما أسلفناه أنه اختُلف في إدخال عبد الرحمن بن غَنْم بين أبي سلّام وأبي مالك الأشعري، فأدخله معاوية بن سلّام، عن أخيه زيد، ولم يُدخله يحيى بن أبي كثير عن زيد، وقال الحفّاظ: معاوية أحفظ لحديث أخيه من يحيى بن أبي كثير، فتُرجّح روايته على روايته، فرواية النسائيّ، وابن ماجه من طريق معاوية بإدخاله، أصحّ من رواية مسلم من طريق يحيى بعدمه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
بين السماء والأرض، وبكل حال فالتسبيح دون التحميد في الفضل، كما جاء صريحًا في حديث عليّ، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، والرجل من بني سليم رضي الله عنهم أن التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه.
وسبب ذلك أن التحميد إثبات المحامد كلّها لله عز وجل، فدخل في ذلك إثبات صفات الكمال، ونعوت الجلال كلِّها، والتسبيح هو تنزيه الله عز وجل عن النقائص، والعيوب، والآفات، والإثباتُ أكمل من السلب، ولهذا لم يَرِد التسبيح مجردًا، لكن مقرونًا بما يدلّ على إثبات الكمال، فتارةً يُقْرَن بالحمد، كقوله:"سبحان الله وبحمده، سبحان الله، والحمد لله"، وتارةً باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال، كقوله:"سبحان الله العظيم".
فإن كان حديث أبي مالك يدلّ على أن الذي يملأ ما بين السماء والأرض هو مجموع التسبيح والتكبير، فالأمر ظاهر، وإن كان المراد أن كُلًّا منهما يملأ ذلك، فإن الميزان أوسع مما بين السماء والأرض، فما يملأ الميزان فهو أكثر مما يملأ ما بين السماء والأرض، ويدل عليه أنه صَحّ عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وُزِن فيه السموات والأرض لوسعهما، فتقول الملائكة: يا رب لِمَن تَزِن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئتُ من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك، وخَرَّجه الحاكم مرفوعًا، وصححه، ولكن الموقوف هو المشهور
(1)
.
وأما التكبير: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والرجل من بني سليم، أنه وحده يملأ السموات والأرض، وما بينهما، وفي حديث عليّ رضي الله عنه أن التكبير مع التهليل يملأ ما بين السماء والأرض، وما بينهنّ.
وأما التهليل وحده: فإنه يَصِلُ إلى الله تعالى لا حجاب بينه وبينه، وخَرّج الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما قال عبد: لا إله إلا الله، مخلصًا إلا فُتحت له أبواب السماء، حتى يُفضي إلى العرش، ما اجتُنِبت الكبائر".
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 586، وصحّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ.
وقال أبو أمامة: ما من عبد يُهَلِّل تهليلةً، فيُنَهْنِهُها
(1)
شيء دون العرش، وورد أنه لا يَعْدِلها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور، وقد أخرجه أحمد، والنسائيّ، وفي آخره عند الإمام أحمد:"ولا يَثْقُل شيء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
(2)
.
وفي "المسند" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن نوحًا؛ لَمّا حضرته الوفاة، قال لابنه: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع، والأرضين السبع، لو وُضِعت في كِفّة، ووُضعت لا إله إلا الله في كِفّة، رَجَحَت بهنّ لا إله إلا الله"
(3)
.
وأخرج ابن حبّان، والحاكم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه
(4)
، عن
(1)
أي يكفّها، ويمنعها.
(2)
أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 213، والترمذيّ (2639)، وابن ماجه (4300)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 529، وابن حبّان في "صحيحه"(225) بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يستخلص رجلًا من أمتي على رُؤوس الخلائق يوم القيامة، فيَنْشُر عليه تسعة وتسعين سجلًّا، كل سجلّ مَدَّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا، يا رب، فيقول: ألك عذر، أو حسنة؟ فيُبْهَت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنةً واحدةً، لا ظلم اليوم عليك، فَتَخْرُج له بطاقة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظْلَم، قال: فتوضع السجلات في كِفّة، قال: فطاشت السجلات، وثَقُلت البطاقة، ولا يثقل شيء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
قال الشيخ الألبانيّ فيما كتبه على "شرح الطحاويّة" ص 418: رواية أحمد بهذا اللفظ: "ولا يثقل شيء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" شاذّة، والمحفوظ ما في رواية الترمذيّ والحاكم بلفظ:"فلا يثقل مع اسم الله شيء". انتهى.
وقوله: "فيُبهت": أي ينقطع، ويسكت متحيّرًا.
(3)
رواه في "المسند" 2/ 170 - 225 ورجاله ثقات.
(4)
عزا ابن رجب هذا الحديث إلى "مسند أحمد"، وجعله من حديث عبد الله بن عمرو، ولم أجده فيه، وقد نبّه محقق الكتاب أنه من وهمه، وإنما هو من حديث=
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى؛ قال: يا رب عَلّمني شيئًا أذكرك به، وأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال: كلُّ عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئًا تَخُصّني به، قال: يا موسى لو أن السموات السبع، وعامرهنّ غيري، والأرضين السبع في كِفّة، ولا إله إلا الله في كِفّة، مالت بهنّ لا إله إلا الله"
(1)
.
وقد اختُلِف أيُّ الكلمتين أفضل: أكلمة الحمد، أم كلمة التهليل؟ وقد حَكَى هذا الاختلاف ابنُ عبد البر وغيره، وقال النخعيّ: إن الحمد أكثر الكلام تضعيفًا، وقال الثوريّ: ليس يُضاعف من الكلام مثل الحمد، والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله، فيدخل فيه التوحيد.
وفي "مسند الإمام أحمد"، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كُتبت له عشرون حسنة، وحُطّت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين، من قِبَل نفسه، كتبت له ثلاثون حسنة، وحُطّت عنه ثلاثون سيئة"
(2)
، وقد رُوي هذا عن كعب من قوله، وقيل: إنه أصح من المرفوع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "والصلاة نور، والصدقة برهان،
= أبي سعيد عند النسائيّ في "عمل اليوم والليلة"(834)، وأبي يعلى في "مسنده"(1393)، والطبرانيّ في "الدعاء"(1480)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 2102 - 103، وابن حبان في "صحيحه"(6218)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 528)، وهو كما قال، فليُتنته.
(1)
أخرجه ابن حبّان في "صحيحه"(6218)، والحاكم في "مستدركه" 1/ 528 وصححه، ووافقه الذهبيّ، مع أن في سنده دَرّاجًا أبا السمح، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 302 و 310 و 3/ 35 و 37، وصححه الحاكم 1/ 512، ووافقه الذهبيّ، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 10/ 87 - 88 ونسبه لأحمد، والبزار، وقال: ورجالهما رجال الصحيح. انتهى.
والصبر ضياء"، وفي بعض نسخ "صحيح مسلم": "والصيام ضياء".
فهذه الأنواع الثلاثة من الأعمال أنوار كلُّها، لكن منها ما يَختَصّ بنوع من أنواع النور، فالصلاة نور مطلقٌ، ورُوي بإسنادين فيهما نظر، عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة نور المؤمن"
(1)
، فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم، تُشرق بها قلوبهم، وتستنير بصائرهم، ولهذا كانت قُرّةَ عين المتقين، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"جُعِلت قرةُ عيني في الصلاة"، أخرجه أحمد، والنسائيّ
(2)
.
وفي رواية: "الجائعُ يَشْبَع، والظمآن يَرْوَى، وأنا لا أشبع من حب الصلاة"
(3)
.
وفي "المسند"
(4)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد حَبَّب إليك الصلاة، فخذ منها ما شئت".
وأخرج أبو داود، من حديث رجل من خُزاعة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال أقم الصلاة، وأرحنا بها"
(5)
.
قال مالك بن دينار: قرأت في "التوراة": يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يديّ في صلاتك باكيًا، أنا الذي اقتربت بقلبك، وبالغيب رأيتَ نوري، يعني ما يُفتح للمصلي في الصلاة، من الرقة والبكاء.
وأخرج الطبرانيّ، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا حافظ العبد على صلاته، فأقام وضوءها، وركوعها، وسجودها، والقراءة فيها، قالت له: حَفِظَك الله كما حفظتني، وصُعِدَ بها إلى السماء، ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل، فتشفع لصاحبها"
(6)
.
(1)
أخرجه أبو يعلى (3655)، والمروزيّ في "تعظيم قدر الصلاة"(176 و 177)، والقضاعيّ (144) وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن ماجه مطوّلًا (4210) وإسناده ضعيف أيضًا.
(2)
صححه الحاكم 2/ 160 ووافقه الذهبيّ.
(3)
لا يصحّ، فقد أورده الديلميّ في "مسند الفردوس"(2622) بلا سند.
(4)
1/ 245 و 255 و 256 وفيه علي بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف.
(5)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (4985 و 4986).
(6)
أورده الحافظ أبو بكر الهيثميّ في "المجمع" 2/ 122 وقال: رواه الطبرانيّ في=
وهي نور للمؤمنين، ولاسيما صلاة الليل، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه:"صَلُّوا ركعتين في ظُلَم الليل لظلمة القبور"، وكانت رابعة قد فَتَرَت عن وردها بالليل مُدّةً، فأتاها آتٍ في منامها، فأنشدها:
صَلَاتُكِ نُورٌ وَالْعِبَادُ رُقُودُ
…
وَنَوْمُكِ ضِدٌّ لِلصلَاةِ عَنِيدُ
وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة، وعلى الصراط، فإن الأنوار تُقْسَم لهم على حسب أعمالهم.
وفي "المسند"
(1)
، و"صحيح ابن حبان"
(2)
عن عبد الله بن عَمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة، فقال:"من حافظ عليها كانت له نورًا، وبرهانًا، ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا، ولا برهانًا، ولا نجاةً".
وأخرج الطبراني بإسناد فيه نظرٌ، من حديث ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من صلى الصلوات الخمس في جماعة، جاز على الصراط كالبرق اللامع، في أول زمرة من السابقين، وجاء يوم القيامة، ووجهه كالقمر ليلة البدر"
(3)
.
(المسألة السابعة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "والصدقة برهان"، و"البرهان": هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه حديث أبي موسى رضي الله عنه:"أن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهان، كبرهان الشمس"، ومنه سُمِّيت الحجة القاطعة برهانًا، لوضوح دلالتها على ما دَلَّت عليه، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيبُ النفس بها علامةٌ على وجود حلاوة الإيمان وطعمه، كما في حديث عبد الله بن معاوية العامريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من فَعَلهنّ، فقد طَعِم طَعْمَ الإيمان: مَن عَبَد الله وحده، وأنه لا إله إلا الله، وأَدَّى زكاةَ
= "الكبير"، والبزار بنحوه، وفيه الأحوص بن حكيم، وثّقه ابن المدينيّ، والعجليّ، وضعّفه جماعة، وبقيّة رجاله موثّقون. انتهى.
(1)
2/ 169.
(2)
رقم (1467).
(3)
رواه الطبرانيّ في "الأوسط". قال الهيثميّ في "المجمع" 2/ 39: وفيه بقية بن الوليد، وهو مدلّسٌ، وقد عنعنه. انتهى.
ماله، طيبةً بها نفسه، رافدةً عليه في كل عام"، وذكر الحديث، أخرجه أبو داود
(1)
.
وقد تقدّم قريبًا حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فيمن أَدَّى زكاة ماله طَيِّبَةً بها نفسه، قال: وكان يقول: لا يفعل ذلك إلا مؤمنٌ.
وسبب هذا أن المال تُحِته النفوس، وتَبْخَل به، فإذا سَمَحَت بإخراجه لله عز وجل دَلَّ ذلك على صحة إيمانها بالله، ووعده ووعيده، ولهذا مَنَعَت العربُ الزكاةَ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه على منعها، والصلاة أيضًا برهان على صحة الإسلام.
وأخرج الإمام أحمد
(2)
، والترمذيّ من حديث كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة برهان"
(3)
.
وقد تقدّم في شرح حديث: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" متّفق عليه، أن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإسلام والإيمان، وهي أيضًا أولُ ما يُحاسب به المرء يوم القيامة، فإن تمّت صلاته فقد أفلح وأنجح، وقد سبق حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فيمن حافظ عليها أنها تكون له نورًا، وبرهانًا، ونجاةً يوم القيامة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "والصبر ضياء"، والضياء هو النور الذي يَحصل فيه نوع حرارة وإحراق، كضياء الشمس، بخلاف القمر، فإنه نورٌ محضٌ، فيه إشراق بغير إحراق، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً
(1)
رجاله ثقاتٌ، ولكن في سنده انقطاع بين يحيى بن جابر، وبين جُبير بن نُفير، ورواه موصولًا بسند صحيح الطبرانيّ في "الصغير"(555)، والفسويّ في "المعرفة والتاريخ"1/ 269، ومن طريقه البيهقيّ 4/ 95 - 96.
(2)
ليس عند أحمد من حديث كعب بن عجرة، وإنما هو من حديث جابر رضي الله عنه بسند صحيح، (14032) وهو حديث طويل، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يا كعب بن عجرة الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان".
(3)
أخرجه الترمذيّ (614) وقال: حسنٌ غريب.
وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، ومن هنا وَصَف الله شريعة موسى؛ بأنها ضياء، كما قال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الأنبياء: 48]، وإن كان قد ذَكَر أن في التوراة نورًا، كما قال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]، لكن الغالب على شريعتهم الضياء؛ لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال.
ووَصَفَ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نورٌ؛ لما فيها من الحنيفية السمحة، قال الله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157].
ولما كان الصبر شاقًّا على النفوس يَحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها، وكفّها عما تهواه، كان ضياءً، فإن معنى الصبر في اللغة الحبس، ومنه قتل الصبر، وهو أن يُحْبَس الرجل حتى يُقْتَل، والصبر المحمود أنواع: منه صبر على طاعة الله عز وجل، ومنه صبر عن معاصي الله عز وجل، ومنه صبر على أقدار الله عز وجل، والصبر على الطاعات، وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة، صَرَّح بذلك السلف، منهم سعيد بن جبير، وميمون بن مِهْران، وغيرهما، وقد رُوي بإسناد ضعيف من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الصبر على المعصية يُكتب به للعبد ثلاثُمائة درجة، وإن الصبر على الطاعة يُكتب به ستمائة درجة، وإن الصبر عن المعاصي يُكتب له به تسعمائة درجة"، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا، وابن جرير الطبريّ
(1)
.
وأفضل أنواع الصبر الصيامُ، فإنه يَجمَع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك شهواته لله،
(1)
وأورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات" 3/ 184 وقال: هذا حديث موضوع، والمتّهم فيه عبد الله بن زياد، وهو ابن سمعان، قال مالك، ويحيى: كان كذّابًا، وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: متروك الحديث.
ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:"إن الله عز وجل يقول: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"
(1)
، وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة، بما قد يَحصُل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّي شهر الصيام شهر الصبر، وقد جاء في حديث الرجل من بني سُليم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الصوم نصف الصبر، وربما عَسُر الوقوف على سِرّ كونه نصف الصبر أكثر من عُسْر الوقوف على سرّ كون الطهور شطر الإيمان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "والقرآن حجةٌ لك، أو عليك"، قال الله عز وجل:({وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]، قال بعض السلف: ما جالس أحدٌ القرآن، فقام عنه سالِمًا، بل إما أن يَرْبَح، أو أن يَخسر، ثم تلا هذه الآية.
ورُوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُمَثَّل القرآن يوم القيامة رجلًا، فيؤتى بالرجل، قد حمله، فخالف أمره، فيتمثل له خصمًا، فيقول: يا رب حَمّلته إياي، فشرّ حامل، تعدَّى حدودي، وضَيّع فرائضي، ورَكِب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يَقْذِف عليه بالحجج، حتى يقال: شأنَكَ به، فيأخذه بيده فما يرسله حتى يَكُبّه على مَنخِره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح، كان قد حَمَله، فيَتَمَثّل خصمًا دونه، فيقول: يا رب حَمّلته إياي، فخير حامل، حَفِظَ حدودي، واجتنب معصيتي، واتَّبَع طاعتي، فما يزال يَقْذِف له بالحجج، حتى يقال: شأنَك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يُلْبِسه حُلَّة الإستبرق، ويَعْقِد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر"
(2)
.
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 10/ 491 - 492، والبزار في "مسنده" (2337). قال الهيثميّ في "المجمع" 7/ 161: وفيه ابن إسحاق، وهو ثقةٌ، ولكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "القرآن شافع مشفَّع، وماحلٌ مُصَدَّق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار"
(1)
.
وعنه رضي الله عنه قال: "يجيء القرآن يوم القيامة، فيَشْفَع لصاحبه، فيكون قائدًا إلى الجنة، أو يشهد عليه، فيكون سائقًا إلى النار".
وقال أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن، ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتَّبَع القرآن هَبَط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زَخّ في قفاه، فقذفه في النار"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها".
وأخرج الإمام أحمد، وابن حبان من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه
(3)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها"، وفي رواية أخرى، أخرجها الطبرانيّ:"الناس غاديان: فبائع نفسه فموبقها، وقائد نفسه فمعتقها"، وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
(1)
رواه الطبرانيّ في "الكبير"(8655) ورجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 257.
(3)
أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، ونصّه:(14860) حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله، قال: حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعب بن عجرة، أعيذك بالله من إمارة السفهاء"، قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "أمراء سيكونون من بعدي، مَن دخل عليهم فصدقهم بحديثهم، وأعانهم على ظلمهم، فليسوا مني، ولست منهم، ولم يردوا علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يصدقهم بحديثهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وأولئك يردون علي الحوض، يا كعب بن عجرة، الصلاة قُربان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة، لا يدخل الجنة من نبت لحمه من سُحْت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فغادٍ بائع نفسه، وموبق رقبته، وغادٍ مبتاع نفسه، ومعتق رقبته". وهذا إسناد صحيح.
(8)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10].
والمعنى قد أفلح من زَكَّى نفسه بطاعة الله، وخاب من دسّاها بالمعاصي، فالطاعة تُزكي النفس، وتطهرها، فترتفع بها، والمعاصي تُدَسِّي النفس، وتقمعها، فتنخفض، وتصير كالذي يُدَسّ في التراب.
ودَلّ الحديث على أن كل إنسان إما ساعٍ في هلاك نفسه، أو في فَكاكها، فمن سعى في طاعة الله، فقد باع نفسه لله، وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى، فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه، قال الله تعالى:({إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة: 207]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]، وفي "الصحيحين"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا"، وفي رواية البخاريّ:"يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله، يابني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئًا"، وفي رواية لمسلم: أنه دعا قريشًا فاجتمعوا، فعَمّ وخَصّ، فقال:"يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا".
وأخرج الطبرانيّ، والخرائطيّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: "مَن قال إذا أصبح: سبحان الله وبحمده، ألف مرة، فقد اشترى نفسه من الله،
وكان من آخر يومه عتيقًا من النار"
(1)
.
وقد اشترى جماعة من السلف أنفسهم من الله عز وجل بأموالهم، فمنهم من تصدّق بماله كله، كحبيب بن أبي محمد، ومنهم من تصدق بوزنه فضةً ثلاث مرات، أو أربعًا، كخالد الطحان، ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة، ويقول: إنما أنا أسير، أسعى في فَكاك رقبتي، منهم عمرو بن عُتبة، وكان بعضهم يسبّح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة بقدر ديته، كأنه قد قَتَل نفسه، فهو يفتكّها بديتها.
قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل، وقال: ابنَ آدم، إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح، فليكن همك نفسك، فإنك لن تربح مثلها أبدًا.
قال أبو بكر بن عياش: قال لي رجل مرةً، وأنا شابّ: خَلِّص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا، قال: فوالله ما نسيتها بعدُ.
وكان بعض السلف يبكي، ويقول: ليس لي نفسان، إنما لي نفس واحدة، إذا ذهبت لم أجد أخرى.
وقال محمد ابن الحنفية: إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنًا لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها، وقال أيضًا: من كَرُمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر، وقيل له: من أعظم الناس قدرًا؟ قال: من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرًا.
وأنشد بعض المتقدمين [من الطويل]:
أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا
…
وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمُ ثَمَنْ
بِهَا تُمْلَكُ الأُخْرَى فَإِنْ أَنَا بِعْتُهَا
…
بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الْغَبَنْ
لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أُصِيبُهَا
…
لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنْ
انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض تصرّف
(2)
. وهو تحقيقٌ
(1)
أورده الهيثميّ في "المجمع" 10/ 113 - 114 وقال: رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفيه من لم أعرفه. انتهى.
(2)
راجع "جامع العلوم والحكم" 2/ 5 - 31.
نفيسٌ، وبحث أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم: هل توزن الأعمال، أم ثوابها؟:
ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" 2/ 203 اختلافهم في ذلك، فقال رحمه الله عند قوله عز وجل:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} الآية [الأعراف: 8] ما نصّه:
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال، وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجسامًا، قال البغوي: يُرْوَى نحو هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما جاء في "الصحيح" من "أن البقرة، وآل عمران، يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف".
ومن ذلك في "الصحيح" قصة القرآن، وأنه "يأتي على صاحبه في صورة شابّ شاحبِ اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك".
وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: "فيأتي المؤمن شابٌّ، حسنُ اللون طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح"، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق. وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به، ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سِجِلًّا، كل سِجِلّ مدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة"، رواه الترمذي بنحو من هذا، وصححه.
وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث:"يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يَزِن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، وفي مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحد".
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارةً توزن الأعمال، وتارةً توزن مَحَالّها، وتارة يوزن فاعلها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الوجه الذي ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في وجه الجمع حسنٌ جدًّا؛ إذ به تجتمع النصوص المذكورة ونحوها، دون تعارض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ وَجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[541]
(224) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلا تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ؟، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"، وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.
2 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ)
(1)
فُضيل بن حُسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
4 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(سِمَاك بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذّهْليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، مضطرب في عكَرمة خاصّةً، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
(1)
"الْجَحدريّ" - بفتح الجيم، وسكون الحاء المهملة، وفتح الدال -: نسبة إلى جدّ له اسمه جَحْدَر.
6 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ) بن أبي وقاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وعليّ، وطلحة، وعكرمة بن أبي جهل، وعديّ بن حاتم، وابن عمر.
وروى عنه مجاهدٌ، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وسماك بن حرب، وعبد الملك بن عُمير، وعاصم بن بَهدلة، والزبير بن عديّ، والحكم بن عتيبة، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقةً كثيرَ الحديث، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لم يسمع من عكرمة بن أبي جهل، وقال البيهقيّ في "المدخل": حديثه عن عثمان منقطع، قال الحافظ: ووقفت في "كتاب المصاحف" لابن أبي داود على ما يدلّ على صحة سماعه منه. انتهى.
وقال عمرو بن عليّ وغير واحد: مات سنة ثلاث ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما الصحابيّ الشهير تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وأبو كامل، وسماك بن حرب علّق لهما البخاريّ، وأخرج لهما الباقون.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سماكٌ، عن مصعب.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص، أنه (قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَلَى ابْنِ عَامِرٍ) هو: عبد الله بن عامر بن كُرَيز
- بالتصغير - ابن رَبيعة بن حَبيب بن عبد شمس بن عبد مناف الْقُرشيّ الْعَبْشميّ، ابن خال عثمان رضي الله عنه؛ لأنّ أمّ عثمان هي أَرْوَى بنت كُرَيز، واسمُ أم عبد الله بن عامر: دَجَاجة بنت أسماء بن الصَّلْت السُّلَميّة.
ذكره ابن مَنْدَهْ في "الصحابة"، وقال: مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله ثلاث عشرة.
وتعقّبه الحافظ، قال: هو غلط، فقد ذكر عُمَر بن شَبَّة في أخبار البصرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا فَتَحَ مكة وَجَد عند عُمير بن قتادة الليثيّ خمس نسوة، فقال: فارق إحداهنّ، ففارق دَجاجة بنت الصَّلْت، فتزوجها عامر بن كُرَيز، فوَلَدت له عبد الله، فعلى هذا كان له عند الوفاة النبوية دون السنتين.
وأثبت ابنُ حبان له الرُّويَة، وأورد له ابن مندهْ حديثًا، من طريق حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن الزبير، وعبدِ الله بنِ عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن قُتِل دون ماله، فهو شهيد".
وذَكَرَ غير واحدٍ أنه أُتِيَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمّا وُلد، فقال:"هذا يُشْبِهُنا"، وجَعَل يَتْفُل في فيه، ويعود، فَجَعَلَ يتبلع ريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنه لَمَسْقِيٌّ"، فكان لا يُعَالج أرضًا إلا ظَهَر له الماء، وهو صاحب نهر ابن عامر، وكان ابن عامر جوادًا، شُجاعًا، ولاه عثمان البصرةَ بعد أبي موسى الأشعريّ سنة تسع وعشرين، وضمّ إليه فارس بعد عثمان بن أبي العاص، فافْتَتَحَ في إمارته خُرَاسان كلَّها، وسجِسْتان، وكِرْمان، حتى بلغ طَرَفَ غَزْنَةَ، وفي إمارته قُتِلَ يَزْدَجْرِد آخر ملوك الفرس، وأحرم ابن عامر من خُراسان، فَقَدِم على عثمان رضي الله عنه فلامه، وقال: غَرَّرتَ بنفسك.
وقال البخاريّ في "صحيحه": وكره عثمان أن يُحرِم من خُراسان، وكِرْمان.
فذكر الحافظ في "تغليق التعليق" أن سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، أَخرجا من طريق الحسن، وعبد الرزاق من طريق ابن سيرين جميعًا: أن عبد الله بن عامر أَحْرَم من خُراسان، فلما قَدِمَ على عثمان لامَهُ فيما صَنَعَ، وكرهه، زاد ابن سيرين: وقال له: غَرَّرْتَ بنفسك.
وأخرج حديثه البيهقيّ من طريق داود بن أبي هند، لَمّا فَتَحَ خراسان قال: لأَجْعَلَنّ شُكري أن أُحْرِم من موضعي، فأَحْرَم من نيسابور، فلما قَدِمَ على عثمان لامه.
وقال أبو عمر: قَدِم ابنُ عامر بأموال عظيمة، فَفَرَّقها في قريش والأنصار، قال: وهو أول مَن اتَّخَذ الحياض بِعَرَفَةَ، وأجرى إلى عرفة العين، وشَهِدَ الجمل مع عائشة رضي الله عنهما، ثم اعتَزَل الحرب بصفين، ثم ولاه معاوية البصرة، ثم صرفه بعد ثلاث سنين، فتَحَوَّل إلى المدينة، حتى مات بها سنة سبع، أو ثمان وخمسين.
وليس له في الكتب الستة رواية، وإنما ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب" للتمييز، ولأن البخاري أشار إلى قصته المذكورة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(يَعُودُهُ) أي يزوره، قال الفيّوميّ رحمه الله: وعُدتُ المريضَ عِيَادةً: زُرْتُهُ، فالرجلُ عائدٌ، وجمعه عُوّاد، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوَّدٌ بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب. انتهى
(2)
. وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وِمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلّ لَامًا نَدَرَا
وجملة "يعوده" في محلّ نصب حالٌ من "عبد الله"، وقوله:(وَهُوَ مَرِيضٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من ضمير النصب في "يعوده"(فَقَالَ) ابن عامر (أَلا) أداة تحضيض (تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ؟) أي بأن يشفيه من مرضه (قَالَ) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" من طريق شعبة، عن سماك:"جعل الناسُ يُثنون على ابن عامر عند موته، فقال ابن عمر: أما إني لستُ بأغشّهم لك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبل صلاةً. . ."، فذكره
(3)
.
وعند أبي نعيم في "مستخرجه": "قال: دخل ابن عمر على عبد الله بن عامر يعوده، فجعل الناس يُثنون على ابن عامر، وابن عمر ساكتٌ، فقال ابن
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 362 - 363.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 436 - 437.
(3)
"مسند أبي عوانة" 1/ 198 رقم (635).
عامر: يا أبا عبد الرحمن ما يَمنعُك أن تقول؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .، فذكره.
(يَقُولُ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، وهو قوله:(تُقْبَلُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(صَلَاةٌ) إنما نكّرها؛ ليعمّ الفرض والنفل، قال السنديّ: قبول الله تعالى رضاه به، وثوابه عليه، وعدم القبول أن لا يُثيبه عليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تفسير القبول بالرضا تفسير باللازم، وهو غير صحيح، بل الصواب أن القبول، كالرضا، والمحبّة، وسائر صفات الله تعالى على ظاهر معناه المعروف من لغة العرب، فهي صفات لله تعالى ثابتة له كما أثبتتها النصوص الصحيحة، على ما يليق بجلاله عز وجل، فنُثبتها له إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: القبول يراد في الشرع: حصول الثواب، وقد تتخلّف الصحّة عن الثواب، بدليل صحّة صلاة العبد الآبق، ومن أتى عرّافًا، وشارب الخمر إذا لم يَسكَر ما دام في جسده شيء منها، وكذا الصلاة في الدار المغصوبة على الصحيح عندنا - يعني الشافعيّة -.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: بدليل صحّة صلاة العبد الآبق. . إلخ فيه نظر لا يخفى، فأين في ليل صحّة صلاة هؤلاء؟، وكذا قوله:"بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة"، فالراجح عندي ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من عدم صحّتها، وقد حقّقت هذا في شرح "التحفة المرضيّة" في الأصول، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: فأما ملازمة القبول للصحّة، ففي قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، صححه الأئمة: ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم.
والمراد بها مَنْ بَلَغت سنّ الحيض، فإنه لا تُقبل صلاتها إلا بسترتها، ولا تصحّ، ولا تُقبل مع الكشاف عورتها.
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 88.
والقبول مفسّر بترتّب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، يقال: قَبِلَ فلان عذر فلان: إذا رتّب على عذره الغرض المطلوب منه، وهو محو الجناية والذنب، فقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضّأ" هو عامّ في عدم القبول من جميع الْمُحْدِثين في جميع أنواع الصلاة.
والمراد بالقبول وقوعُ الصلاة مُجزئةً بمطابقتها للأمر، فعلى هذا يلزم من القبول الصحّة في الظاهر والباطن، ومتى ترتّب القبول ثبتت الصحّة، ومتى ثبتت الصحّة ثبت القبول.
ونُقِل عن بعض المتأخّرين أن القبول عبارة عن ترتّب الثواب والدرجات العلى على العبادة، والإجزاءَ عبارة عن مطابقة الأمر، فهما متغايران، أحدهما أخصّ من الآخر، ولا يلزم من نفي الأخصّ نفي الأعمّ، فالقبول على هذا التفسير أخصّ من الصحّة، فكلّ مقبول صحيح، ولا عكس، وهذا إن نفع في نفي القبول مع بقاء الصحّة فيما سَلَف ضرّ في نفي القبول مع نفي الصحّة، كما هو محكيّ عن الأقدمين، إلا أن يقال: دلّ الدليل على كون القبول من لوازم الصحّة، فإن انتفى انتفت، فيصحّ الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحّة، ويُحتاج في نفيه مع بقائها في تلك الأحاديث إلى تأويل، أو تخريج جواب، وَيرُدّ على من فسّر القبول بكون العبادة مثابًا عليها، أو مرضيّةً، مع أن قواعد الشرع تقتضي أن العبادة إذا أتى بها مطابقةً للأمر كانت سببًا للثواب في ظواهر لا تُحصى. انتهى
(1)
.
قال الجامع: قد سبق أن نبّهت أن عدم ثبوت الصحّة مع القبول مما لا دليل عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(بِغَيْرِ طُهُورٍ) بضمّ الطاء؛ لأن المراد به فعل الطهارة، وأما بفتحها فهو اسم لما يُتطهّر به من الماء، والتراب، وقيل: بالفتح يُطلق على الفعل والماء، فيجوز هنا الوجهان، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في المسألة الخامسة من المسائل المتقدّمة أول "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قيل: المعنى: لا تُقبل صلاةٌ بلا طُهُور، وليس المعنى صلاة ملتبسةً
(1)
"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 216 - 218.
بشيء مغاير للطُهُور؛ إذ لا بدّ من ملابسة الصلاة بما يُغاير الطهور، بل المراد ضدّ الطهور؛ حملًا لمطلق المغايرة على الكامل، وهو الحدث
(1)
.
والمراد بالطهور ما هو أعمّ من الوضوء والغسل، قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) أي ولا تُقبل صدقة من مالٍ حرام، و"الصدقة": هي العطيّة التي يريد صاحبها الثواب من الله تعالى، وهي نكر في سياق النفي، فتعمّ الفرض والنفل، والغرض منها طهارة النفس من رَذِيلة البخل والقسوة، وعودُ البركة على المال، كما قال الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]
(3)
.
و"الْغُلُول" - بضم الغين المعجمة - مصدر غَلَّ يَغُلّ، من باب قَعَد، وأغلّ بالألف لغةٌ: إذا خان في المغنم وغيره، وقال ابن السّكّيت: لم نسمع في المغنم إلا غَلَّ ثلاثِيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنطَق به. انتهى
(4)
.
وقال بعضهم: "الغلول": السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة، ويُطلق أيضًا على أخذ مال الغير خُفْيةً مُطلقًا، من غنيمة، أو غيرها، والمراد هنا مطلق المال الحرام، أُخذ خُفيةً أم لا؟، وسُمّي غُلُولًا؛ لأن الأيدي يُجعَل فيها الغلّ بسببه، و"الغُلُّ": الحديدة التي تَجمَع يد الأسير إلى عنقه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد أن كلّ مال يأخذه الشخص من غير حلّه، ثم يتصدّق به لا تُقبل منه تلك الصدقة، ولو نوى التصدّق عن صاحبها، ولا تسقط عنه تبعته - اللهم إلا إذا رَضي صاحبه، وجعله في حلّ من ذلك
(5)
.
(وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ) أي كنت واليًا عليها، ومعنى كلام ابن عمر رضي الله عنه هذا أنك لست بسالم من الغلول، فقد كنتَ واليًا على البصرة، وتعَلَّقت بك تَبِعاتٌ من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، ولا يُقْبَل الدعاء لمن هذه صفته، كما لا تقبل الصلاة والصدقة إلا من مُتَصَوِّن.
(1)
راجع "شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 88.
(2)
"الفتح" 1/ 283.
(3)
راجع "المنهل العذب المورود" 1/ 207.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 452.
(5)
راجع "شرحي للنسائي" 3/ 318.
قال النوويّ رحمه الله: والظاهر - والله أعلم - أن ابن عمر رضي الله عنهما قَصَدَ زجر ابن عامر، وحَثَّه على التوبة، وتحريضه على الإقلاع عن المخالفات، ولم يُرِد القطع حقيقةً بأن الدعاء للفساق لا يَنفع، فلم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والسلف والخلف، يدعون للكفار، وأصحاب المعاصي بالهداية والتوبة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[2/ 541 و 542](224)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(1)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(272)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1874)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 4 - 5)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 19 - 20 و 37 و 39)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(8)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(635 و 636)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(535 و 536 و 537)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3366)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(42) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عدم قبول الصلاة بلا طهارة.
2 -
(ومنها): وجوب الطهارة للصلاة مطلقًا، فرضًا كانت أو نفلًا، ولا فرق بين صلاة الجنازة وغيرها؛ خلافًا لما حُكي عن الشعبيّ، والطبري، من إجازتهما صلاة الجنازة بلا طهارة، وهو مذهب باطلٌ؛ لأحاديث الباب، وإجماع أهل العلم على خلافه.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: فيه أن الطواف لا يُجزئ بغير طُهُور؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه صلاةً، فقال:"الطواف صلاة، فأقفوا فيه من الكلام"
(2)
، وتعقّبه العينيّ،
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 104.
(2)
حديث صحيح، أخرجه الطبرانيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأخرجه ابن خزيمة =
وحمل الحديث على التشبيه، وقال: الطواف كالصلاة في الثواب دون الحكم، ثم قال: ألا ترى أن الانحراف، والمشي في الطواف لا يُفسده. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الكرمانيّ من الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الطهارة للطواف هو الحقّ عندي؛ لوضوحه، وأما ردّ العينيّ عليه، ففيه نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل على حمله على الثواب، بل الظاهر حمله على الحكم والثواب معًا، بل حمله على الحكم أوضح؛ لقوله:"إلا أنكم تتكلمون"، فاستثناؤه إباحة الكلام من أحكامه دليل على أنه أراد الحكم، وأما قوله:"ألا ترى أن الانحراف. . إلخ"، فليس بشيء؛ لأن الانحراف والمشي يجوز في الصلاة في بعض حالاتها، مثل حالة الخوف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختيارًا، أم اضطرارًا؛ لعدم تفريقه صلى الله عليه وسلم بين حالة وحالة، وقد حُكي عن مالك، والشافعيّ في القديم، وغيرهما أنه إذا سبقه الحدث يتوضّأُ، ويَبني على صلاته، لكن إطلاق الحديث يردّه
(1)
، فتأمله، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): بطلان الصدقة من الغلول، وعدم قبولها، فإذا بطلت الصدقة بسبب ما يقارنها من المعاصي بنصّ قوله عز وجل:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] فلأن تبطل بكونها مالًا حرامًا من بابٍ أولى؛ إذ التصدّق من غُلول يجعل الصدقة عين المعصية؛ لأن الغالّ في دفعه المال للفقير غاصبٌ معتدٍ بتصرّفه في ملك الغير بغير إذنه، فهو آثم باستيلائه على المال، وآثم بتصرّفه بالتصدّق؛ لأن الواجب على من أخذ مال غيره بغير إذن شرعيّ أن يردّه إليه، أو إلى ورثته، ولا يُغني عنه التصدّق به شيئًا، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): تحريم الطاعة بالمال الحرام مطلقًا، وهو كلّ ما أخذ من
= في "صحيحه" عن طاوس، عن ابن عباس، رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ:"إن الطواف بالبيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير".
(1)
راجع "الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 224.
غير وجه شرعيّ، قيل: ويدخل فيه صدقة المرأة من مال زوجها بغير رضاه، وصدقة العبد من مال سيّده بغير إذنه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا فيما إذا كان على وجه الإفساد، بأن كان كثيرًا، لا يُتسامح فيه، أو كان الزوج والسيّد محتاجًا إليه؛ لفقره، ونحوه، وإلا فلا يحرم؛ لما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها عن غير أمره، فلها نصف أجره".
وأخرجا أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها، غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا يَنقُص بعضهم من أجر بعض"، والله تعالى أعلم.
ويدخل أيضًا صدقة الوكيل من مال موكّله، والشريك من مال شريكه، والوصيّ الذي وُكِل إليه التصدّق بمال، فأنفقه على نفسه، أو أخرجه في غير مصرفه، ونُظّار الأوقاف الذين يتناولون من رَيعِها من غير استحقاق، ثم يتصدّقون بها، أو يَصرِفون رَيعها في غير مصرفه.
ومن هذا قالوا: إن من أخذ مال غيره بلا وجه شرعيّ لزمه ردّه لصاحبه إن كان حيًّا، وإلا ردّه على ورئته، فإن لم يكن له ورثةٌ يتصدّق به عنه، ويُرجَى له الخلاص يوم القيامة، وكذا إذا لم يَدْرِ صاحبه، أو استولى عليه بعقد فاسد، ولم يتمكّن من فسخه، فإنه يتصدّق به على الفقراء تخلّصًا من الحرام، لا طمعًا في الثواب؛ إذ لا ثواب فيه؛ لهذا الحديث، ولقوله عز وجل:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قيل: الحكمةُ في جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة والصدقة في هذا الحديث أن العبادة نوعان: بدنيّ، وماليّ، فاختار من البدنيّ الصلاةَ؛ لكونها تالية الإيمان في الكتاب والسنّة، ولكونها عماد الدين، والفارقة بين الإسلام والكفر، واختار من الماليّ الصدقة؛ لكثرة نفعها، وعموم خيرها، ولكون كلّ منهما محتاجًا إلى الطهارة، أما الصلاة فلاحتياجها إلى طهارة
(1)
راجع "المنهل العذب المورود" 1/ 207 - 208.
الثوب والبدن والمكان، وأما الصدقة فلاحتياجها إلى طهارة القلب عن الرياء ونحوه، والمال عن الغلول ونحوه
(1)
.
7 -
(ومنها): طلب الدعاء من أهل الصلاح والخير؛ إذ لم يُنكر ابن عمر، ولا غيره في طلب ابن عامر من ابن عمر أن يدعو له، وإنما لم يدع له؛ لما ذكره من الموانع، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): شدّة ابن عمر رضي الله عنهما في الدين، وقيامه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر خير قيام، دون مجاملة، أو مداراة، فقد قام بتخويف ابن عامر بأن مظالمه التي ارتكبها قد تمنع من قبول الدعاء، والظاهر أنه أراد بذلك زجره، وحثّه على التوبة منها، والإقلاع عن المخالفات كلها لا إقناطه عن رحمة الله تعالى.
وقال الأبيّ: لعل مذهب ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يُدعى للمتلبّس بالمخالفة، وإلا فهو جائز. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قدّمته من أنه أراد الزجر، لا الإقناط، هو الظاهر؛ لأن فقه ابن عمر رضي الله عنهما، وفهمه يدلّ عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن فيه إشارة إلى أن تناول الحرام مما يمنع قبول الدعاء، وهو ما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طَيِّبٌ، لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذَكَر الرجلَ، يُطيل السفرَ، أشعثَ، أغبرَ، يَمُدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ "، أخرجه المصنّف رحمه الله
(3)
.
10 -
(ومنها): تحريم الغلول، وأن ما أُخذ به من المال مال خبيثٌ،
(1)
ذكر نحوه في "المنهل العذب المورود" 1/ 209.
(2)
"شرح الأبيّ" 2/ 8.
(3)
سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب الزكاة" برقم (1015) - إن شاء الله تعالى -.
قال عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية، وقد وردت أحاديث في النهي عن الغلول:
(فمنها): ما أخرجه الإمام أحمد، والشيخان من حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال: استَعْمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد، يقال له: ابن اللُّتَبِيّة على الصدقة، فجاء، فقال: هذا لكم، وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال:"ما بال العامل نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا جَلَس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيُهْدَى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء، إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن بعيرًا، له رُغَاء، أو بقرةً لها خُوَار، أو شاةً تَيْعَر"، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرة إبطيه، ثم قال:"اللهم هل بلّغت" - ثلاثًا -.
(ومنها): "ما أخرجوه أيضًا من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فذكر الغُلُول، فعظمه، وعَظّم أمره، ثم قال: "لا أُلْفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رُغَاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغتك، لا أُلفِيَن أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرسٌ لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك، لا أُلفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك".
(ومنها): ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بسند حسن، عن أبي رافع رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل، فيتحدث معهم، حتى يَنْحَدِر إلى المغرب، قال أبو رافع: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا إلى المغرب، إذ مر بالبقيع، فقال:"أُفّ لك، أُفّ لك" مرتين، فَكَبُر في ذَرْعِي، وتأخرت، وظننت أنه يُريدني، فقال:"ما لك؟ امْشِ". قال: قلتُ: أحدثتُ حدثًا يا رسول الله؟، قال:"وما ذاك؟ " قلت: أَفّفْتَ بني، قال:"لا، ولكن هذا قبر فلان، بعثته ساعيًا علي بني فلان، فَغَلَّ نَمِرَةً، فَدُرِّعَ الآن مثلها من نار".
(ومنها): ما أخرج الإمام أحمد، ومسلم من حديث عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، قال: لما كان يومُ خيبر أقبل نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى أَتَوْا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلا، إني رأيته في النار، في بُرْدَة غَلّها، أو عباءة"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون"، قال: فناديت: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في مذاهب أهل العلم في حكم الطهارة للصلاة:
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث نَصٌّ في وجوب الطهارة للصلاة، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة.
قال القاضي عياض: واختلفوا متى فُرضت الطهارة للصلاة، فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء في أول الإسلام كان سنةً، ثم نزل فرضه في آية التيمم، وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضًا.
قال: واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة، أم على المحدث خاصة؟ فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض، بدليل قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6].
وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان، ثم نُسِخ، وقيل: الأمر به لكل صلاة على الندب، وقيل: بل لم يُشرَع إلا لمن أَحدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحبّ، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك، ولم يَبْقَ بينهم فيه خلاف.
ومعنى الآية عندهم: إذا كنتم مُحدِثين. هذا كلام القاضي رحمه الله تعالى.
واختَلَفَ أصحابنا - يعني الشافعيّة - في الموجب للوضوء على ثلاثة أوجه:
[أحدها]: أنه يجب بالحدث وجوبًا موسعًا.
[والثاني]: لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة.
(1)
راجع "تفسير ابن كثير 1/ 422 - 425 في تفسير هذه الآية، فقد أفاض هناك، وأجاد.
[والثالث]: يجب بالأمرين، وهو الراجح عند أصحابنا.
وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة، من ماء، أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة، والنافلة، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة الجنازة، إلا ما حُكِيَ عن الشعبي، ومحمد بن جرير الطبريّ، من قولهما: تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة، وهذا مذهب باطل، وأجمع العلماء على خلافه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بطلان هذا المذهب واضح؛ فإنه مخالف للنصوص الكثيرة، التي أوجبت الطهارة للصلاة، كحديث الباب، فإن صلاة الجنازة صلاة من غير شكّ، فقد سماها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاةً في أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من صلى على الجنازة"، متّفقٌ عليه، وقال:"صَلُّوا على صاحبكم"، وقال:"صَلُّوا على النجاشي"، وكلها في "الصحيح"، وغير ذلك من الأحاديث، فقد سماها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاةً، فتشملها نصوص إيجاب الطهارة للصلاة.
والحاصل أنه لا يجوز أن يصلى على الجنازة إلا على طهارة، والله تعالى أعلم.
قال: ولو صَلَّى محدثًا متعمدًا بلا عذر أَثِمَ، ولا يكفر عندنا، وعند الجماهير، وحُكِي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يَكْفُر؛ لتلاعبه، ودليلنا أن الكفر للاعتقاد، وهذا المصلي اعتقاده صحيح.
قال ابن الملقّن رحمه الله: وأبدى بعضهم في هذا الاستدلال نظرًا؛ للاتّفاق على تكفير من استهان بالمصحف استهانةً مخصوصة في الصورة المخصوصة. انتهى
(1)
.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: هل غسل الجنابة فرض، أو لا؟ وهل يجوز لأحد أن يصلي جنبًا، ولا يعيد؟.
فأجاب بأن الطهارة من الجنابة فرض، وليس لأحد أن يصلي جنبًا، ولا محدثًا حتى يتطهّر، ومن صلّى بغير طهارة شرعيّة مستحلًّا لذلك فهو كَافر، ولو
(1)
"الإعلام" 1/ 225.
لم يستحلّ ذلك، فقد اختُلف في كفره، وهو مستحقّ للعقوبة الغليظة، لكن إن كان قادرًا على الاغتسال بالماء اغتسل، وإن كان عادمًا للماء، أو يخاف الضرر باستعماله لمرض، أو خوف برد تيمّم وصلّى، وإن تعذّر الغسل والتيمم صلّى بلا غسل، ولا تيمّم في أظهر أقوال العلماء، ولا إعادة عليه. انتهى كلامه
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ بعد كلامه السابق: وهذا كله إذا لم يكن للمصلي محدثًا عذرٌ، أما المعذور، كمن لم يجد ماءً، ولا ترابًا، ففيه أربعة أقوال للشافعي رحمه الله تعالى، وهي مذاهب للعلماء، قال بكل واحدة منها قائلون، أصحها عند أصحابنا يجب عليه أن يصلي على حاله، ويجب أن يعيد إذا تمكّن من الطهارة. والثاني: يحرم عليه أن يصلي ويجب القضاء. والثالث: يستحبّ أن يصلي، ويجب القضاء، والرابع: يجب أن يصلي، ولا يجب القضاء، وهذا القول اختيار المزنيّ، وهو أقوى الأقوال دليلًا.
فأما وجوب الصلاة، فلقوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا أمرتكم بأمر، فافعلوا منه ما استطعتم"، متّفقٌ عليه.
وأما الإعادة فإنما تجب بأمر مُجَدَّد، والأصل عدمه، وكذا يقول المزني: كُلُّ صلاةٍ أُمِرَ بفعلها في الوقت على نوع من الخلل، لا يجب قضاؤها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه المزنيّ، وقوّاه النوويّ رحمهما الله دليلًا من أن كلّ صلاة أُمر بها الشخص بفعلها في الوقت، فأدّاها بنوع من الخلل لعذر، فإنها مجزئة، لا يلزمه قضاؤها، هو الحقّ عندي؛ لأنه أدّى ما وجب عليه على قدر استطاعته، وقد قال الله عز وجل:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وللحديث المتّفق عليه المذكور آنفًا، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اختُلف في موجب الوضوء ما هو؟ على ثلاثة أوجه:
(1)
راجع "مجموع الفتاوى" 21/ 295.
(2)
"شرح النووي على صحيح مسلم" 1/ 102 - 103.
[أحدها]: أنه يجب بالحدث وجوبًا موسّعًا.
[الثاني]: أنه يجب بالقيام إلى الصلاة؛ لقوله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6].
[الثالث]: أنه يجب بالأمرين جميعًا، وهذا هو الأرجح؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[542]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثنَا وَكيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان".
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْتِ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنّة [7](160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ [7].
رَوَى عن جدّه، وزَياد بن عِلاقة، وزيد بن جُبَير، وعاصم بن بَهْدَلة، وعاصم الأحول، وسِمَاك بن حرب، والأعمش، وإسماعيل السُّدّيّ، ومَجْزأة بن زاهر الأسلميّ، وهشام بن عروة، ويوسف بن أبي بردة، وخلق كثير.
ورَوَى عنه ابنه مهديّ، وأبو أحمد الزبيريّ، والنضر بن شُمَيل، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيّان، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن سابق، وأبو غَسّان النَّهْديّ، وأبو نعيم، وعليّ بن الجعد، وجماعة.
قال ابن مهديّ، عن عيسى بن يونس: قال لي إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة في القرآن، وقال عليّ بن المديني، عن يحيى القطان: إسرائيل فوق أبي بكر بن عَيّاش، وقال حرب، عن أحمد بن حنبل: كان شيخًا ثقةً، وجَعَل يتعجب من حفظه، وقال صالح بن أحمد، عن
أبيه: إسرائيل، عن أبي إسحاق فيه لِين، سمع منه بأَخَرةٍ، وقال أبو طالب: سئل أحمد: أَيُّما أثبت: شريك، أو إسرائيل؟ قال: إسرائيل، كان يؤدي ما سمع، كان أثبت من شريك، قلت: مَن أحب إليك: يونس، أو إسرائيل، في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل؛ لأنه كان صاحب كتاب، وقال أبو داود: قِلت لأحمد بن حنبل: إسرائيل إذا انفرد بحديث، يُحتَجّ به؟ قال: إسرائيل ثبت الحديث، كان يحيى - يعني القطان - يَحْمِل عليه في حال أبي يحيى القَتّات، وقال: رَوَى عنه مناكير، قال أحمد: ما حدث عنه يحيى بشيء، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: كان القطان لا يُحدث عن إسرائيل، ولا عن شريك، وقال الدوريّ أيضًا: سئل يحيى بن معين عن إسرائيل، فقال: قال يحيى بن آدم: كُنّا نكتب عنده من حفظه، قال يحيى: كان إسرائيل لا يحفظ، ثم حَفِظَ بعدُ، وقال أيضًا: إسرائيل أثبت في أبي إسحاق من شيبان، وقال أيضًا: إسرائيل أثبت حديثًا من شريك، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صدوقٌ، من أتقن أصحاب أبي إسحاق، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: صالح الحديث، وفي حديثه لِينٌ، وقال في موضع آخر: ثقةٌ صدوقٌ، وليس في الحديث بالقويّ، ولا بالساقط، وقال عيسى بن يونس: كان أصحابنا سفيان، وشريكٌ - وعَدّ قومًا - إذا اختلفوا في حديث أبي إسحاق يجيئون إلى أبي، فيقول: اذهبوا إلى ابني إسرائيل، فهو أروى عنه مني، وأتقن لها مني، هو كان قائد جدّه، وقال شَبَابة بن سَوّار: قلت ليونس بن أبي إسحاق: أَمْلِ عليّ حديث أبيك، قال: اكتب عن ابني إسرائيل، فإن أبي أملاه عليه، وقال محمد بن الحسين بن أبي الْحُنَين: سمعت أبا نعيم، سئل: أَيُّهما أثبت: إسرائيل، أو أبو عوانة؟ فقال: إسرائيل، وقال أبو داود: إسرائيل أصحّ حديثًا من شريك، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وروى ابن البراء، عن عليّ بن المديني: إسرائيل ضعيف، وقال ابن أبي خيثمة: قيل ليحيى - يعني ابن معين -: رَوَى عن إبراهيم بن المهاجر ثلاثمائة، وعن أبي يحيى القَتّات ثلاثمائة، فقال: لم يُؤْتَ منه، أُتِي منهما جميعًا. انتهى.
قال الحافظ: فهذا رَدّ لتضعيف القطان له بذلك، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وحَدَّث عنه الناس حديثًا
كثيرًا، ومنهم من يستضعفه، وقال ابن معين: زكريا، وزهير، وإسرائيل، حديثهم في أبي إسحاق قريب من السواء، إنما أصحاب أبي إسحاق سفيان، وشعبة، وقال حجاج الأعور: قلنا لشعبة: حَدِّثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلوا عنها إسرائيل، فإنه أثبت فيها مني، وقال ابن مهديّ: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري، وقال أبو عيسى الترمذيّ: إسرائيل ثَبْتٌ في أبي إسحاق، حَدَّثني محمد بن المثنى، سمعت ابن مهديّ يقول: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوريّ، عن أبي إسحاق إلا لِمَا اتَّكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتمّ، وطَوَّل ابن عديّ ترجمته، وسرد له أحاديث أفرادًا، وقال: هو ممن يُحْتَجّ به، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وأطلق ابن حزم ضعف إسرائيل، ورَدَّ به أحاديث من حديثه، فما صنع شيئًا
(1)
.
وقد تكلّم بعض أهل العلم في إسرائيل، منهم ابن المدينيّ، كما سبق بيانه، ومنهم ابن حزم، وغيرهما، قال الإمام الذهبيّ رحمه الله في "الميزان": إسرائيل اعتمده البخاريّ ومسلم في الأصول، وهو في الثبت كالأسطوانة، فلا يُلتفتُ إلى تضعيف من ضعّفه، وقد طوّل ابن عديّ ترجمته، وسَرَد له جملة أحاديث أفراد، لكنه قال: ولإسرائيل أخبار كثيرة غير ما ذكرته، وأضعافها عن الشيوخ، يروي عنهم، وحديثه الغالب عليه الاستقامة، وهو ممن يُكتَب حديثه، ويُحتجّ به، وقال الذهبيّ في "الميزان" أيضًا: وكان إسرائيل مع حفظه وعلمه صالحًا خاشعًا لله، كبير القدر. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ أن إسرائيل ثقة ثبتٌ، كما قال به جلّ الأئمة، ولا حجة لمن ضعّفه، فلا يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم.
وقال دُبَيس بن حُميد: وُلد سنة مائة، ومات سنة (161)، وقال أبو نعيم وغيره: مات سنة (160)، وقال خليفة، وابن سعد: مات سنة (162).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
والباقون تقدّموا قريبًا.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 133 - 134.
(2)
راجع "ميزان الاعتدال" 1/ 209.
وقوله: (كُلُّهُمْ) أي كلٌّ من شعبةَ، وزائدةَ، وإسرائيلَ.
وقوله: (قال أبو بكر: وحدّثنا وكيع) هكذا في بعض النسخ، وقع في نسخة شرح النوويّ ما نصّه:"قال أبو بكر: ووكيع حدّثنا"، فقال النوويّ: معناه: أن أبا بكر بن أبي شيبة رواه، عن حسين بن عليّ، عن زائدة، ورواه أبو بكر أيضًا عن وكيع، عن إسرائيل، فقال أبو بكر، ووكيعٌ: حَدَّثنا، وهو بمعنى قوله: حدّثنا وكيع، وسقط في بعض الأصول لفظة "حدّثنا"، وبقي قوله: قال أبو بكر: ووكيع، عن إسرائيل، وهو صحيح أيضًا، ويكون معطوفًا على قول أبي بكر أوّلًا:"حَدَّثنا حسين"؛ أي: وحدَّثنا وكيع، عن إسرائيل، ووقع في بعض الأصول هكذا: قال أبو بكر: وحدّثنا وكيعٌ، وكله صحيح. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه أن أبا بكر بن أبي شيبة سمع هذا الحديث عن حسين بن عليّ، عن زائدة، وسمعه أيضًا عن وكيع، عن إسرائيل.
فعلى النسخة التي فيها: قال أبو بكر: ووكيع عن إسرائيل، يكون قوله:"ووكيع" معطوفًا على "حُسينٌ"، وقوله:"عن إسرائيل" على قوله: "عن زائدة" عطف معمولين على معمولي عامل واحد، وهو "حدّثنا"، فـ "حسين" فاعله، و"عن زائدة" متعلّق به، وهذا العطف جائز بلا خلاف بين النحاة.
وأما على نسخة شرح النوويّ، فيكون "وكيع" مبتدأً، وجملة قوله:"حدّثنا" خبره، فالجملة اسميّة، و"عن إسرائيل" متعلّق به، وهو واضح.
وعلى النسخة التي اعتمدت عليها؛ لوضوحها يكون قوله: "وحدّثنا وكيعٌ"، فعلًا وفاعلًا في محلّ نصب مقول "قال أبو بكر"، فتنبّه لهذه الدقائق، والله تعالى وليّ التوفيق.
[تنبيه]: يوجد في بعض النسخ
(2)
كتابة (ح) قبل قوله: "قال أبو بكر: ووكيع عن إسرائيل"، وهؤ غلطٌ، فليُتَنَبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 104.
(2)
هي النسخة التي اعتمد عليها أصحاب برنامج الكتب التسعة.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي بالإسناد الماضي، وهو: عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر رضي الله عنه عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن رواية هؤلاء الثلاثة: شعبة، وزائدة، وإسرائيل بمثل رواية أبي عوانة المذكورة.
[تنبيه]: في ذكر هذه الروايات التي أحالها المصنّف هنا على رواية أبي عوانة:
فأما رواية شعبة، فقد أخرجها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(4877)
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد، قال: مَرِضَ ابن عامر، فجعلوا يُثْنُون عليه، وابن عمر ساكتٌ، فقال: أما إني لستُ بأَغَشِّهم لك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لا يقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول".
وأما رواية زائدة، فقد أخرجها الإمام البيهقيّ رحمه الله في "سننه الكبرى"(1/ 42)، فقال:
(187)
أخبرنا أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان العامريّ، ثنا حسين بن عليّ الجعفيّ، عن زائدة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صدقة من غُلول، ولا صلاة بغير طهور". انتهى.
وأما رواية إسرائيل فقد أخرجها الإمام الترمذيّ، فقال:
(1)
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب (ح) وحدثنا هناد، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول"، قال هناد في حديثه:"إلا بطهور"، قال أبو عيسى: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب، وأحسن. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[543]
(225) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) بن سابور القُشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقة عابدٌ [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ) بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ) الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (57) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن هذا الإسناد هو إسناد "صحيفة همّام بن منبّه" المشهورة التي أخرج الشيخان منها أحاديث كثيرة، اشتركا في بعضها، وانفرد كلّ منهما بأحاديث.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل باليمانيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، إلا أنه دخل اليمن أيضًا للأخذ عن عبد الرزاق.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) - بضمّ الميم، وفتح النون، وكسر الباء الموحّدة المشدّدة -، وقوله:(أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنبِّهٍ) بالجرّ صفة لـ"همّام"، أو بدل منه، أو عطف بيان (قَالَ) أي همّام (هَذَا) إشارة إلى ما جُمِع في الصحيفة المذكورة من الأحاديث، فاسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:(مَا) موصولة، صلتها قوله:(حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) فيه حذف عائد الصلة، لكونه فضلةً، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
........................ وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
(عَنْ مُحَمَّدٍ) متعلّق بـ "حدّثنا"(رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ بدلًا عن "محمد"(فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) ببناء الفعل للفاعل، والفاعل ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتمل كونه لـ"همّام"، وقوله:(مِنْهَا) خبر مقدّم لقوله (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو محكيّ؛ لقصد لفظه ("لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ) ببناء الفعل للمفعول، وكذا وقع عند البخاريّ عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق في "كتاب الوضوء"، ووقع عنده في "كتاب ترك الْحِيَل" عن إسحاق بن نصر، وعند أبي داود في "سننه" عن أحمد بن حنبل، كلاهما عن عبد الرزاق بلفظ:"لا يَقْبَل الله".
والخطاب في قوله: "أحدكم"، وإن كان موجهًا إلى الحاضرين، إلا أن المقصود به هم، والأمة جميعًا؛ أي لا تُقبل صلاة أحدكم يا معشر الأمة.
قال في "الفتح": والمراد بالقبول هنا ما يُرادف الصحة، وهو الإجزاء، وحقيقة القبول وقوعُ الطاعه مجزئةً رافعةً لما في الذمّة، ولَمّا كان الإتيان بشروطها مظنةَ الإجزاء الذي القبولُ ثمرتُهُ عَبَّر عنه بالقبول مجازًا، وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من أَتَى عَرّافًا لم تُقْبَل له صلاةٌ"، فهو الحقيقيّ؛ لأنه قد يَصِحّ العمل، ويتخلف القبول، لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تُقْبَل لي صلاةٌ واحدةٌ أحبّ إليّ من جميع الدنيا، قاله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق لك أن القول بأن صلاة من أتى عرّافًا مقبولة، دون صلاة من صلّى بلا طهارة محلّ نظر، فأين الدليل الذي يدلّ على
الفرق بينهما؟ فالظاهر أن كلتيهما غير مجزئتين، فتبصر، والله تعالى أعلم.
(إِذَا أَحْدَثَ) أي وُجِد منه الحدث، فهو من الحدوث، وهو وجود شيء لم يكن، يقال: أحدث: أي وُجد منه الحدث، أو قام به الحدث، والمراد به: الخارج من أحد السبيلين، ووقع في رواية البخاريّ تفسير أبي هريرة له، ولفظه:"قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاءٌ، أو ضُرَاط"، وإنما فسره أبو هريرة رضي الله عنه بأخص مما ذُكر؛ تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختَلَف فيها بين العلماء، كمس الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملء الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها، وعليه مشى البخاريّ رحمه الله حيث يقول:"باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، من القبل والدبر"، ثم أورد آثارًا تدلّ على هذا.
وقيل: إن أبا هريرة رضي الله عنه اقتصر في الجواب على ما ذُكِر لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك، وفيه بُعْدٌ.
واستُدِلّ بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختياريًّا أم اضطراريًّا، وعلى أن الوضوء لا يجب لكل صلاة؛ لأن القبول انْتَفَى إلى غاية الوضوء، وما بعدها مخالف لما قبلها، فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الحدث يُطلق بإزاء معانٍ ثلاثة:
[أحدها]: الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في "باب نواقض الوضوء"، ويقولون: الأحداث كذا وكذا.
[الثاني]: نفس خروج ذلك الخارج.
[الثالث]: المنع المرتَّب على ذلك الخروج، وبهذا المعنى يصحّ قولنا: رَفَعتُ الحدث، ونويتُ رفع الحدث، فإن كلّ واحد من الخارج والخروج قد وقع، وما وقع يستحيل رفعه، بمعنى أن لا يكون واقعًا، وأما المنع المرتَّب على الخروج، فإن الشارع حَكَم به، ومَدَّ غايته إلى استعمال المكلَّف الظهُورَ
(1)
1/ 283 "كتاب الوضوء" رقم (135).
فباستعماله يرتفع المنع، فيصحّ قولنا: رَفَعتُ الحدثَ، وارتفع الحدث؛ أي ارتفع المنع الذي كان ممدودًا إلى استعمال المطهِّر.
وبهذا التحقيق يَقْوى قولُ من يرى أن التيمّم يرفع الحدث؛ لأنا لَمّا بيّنّا أن المرتفع هو المنع من الأمور المخصوصة، وذلك المنع مرتفعٌ بالتيمّم، فالتيمّم يرفع الحدث، غاية ما في الباب أن رفعه للحدث مخصوص بوقتٍ ما، أو بحالةٍ ما، وهي عدم الماء، وليس ذلك بِبِدْع، فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محالّها.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن التيمّم رافع للحدث هو الأرجح، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
قال: وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكلّ صلاة على ما حكوه، ولا شكّ أنه كان رافعًا للحدث في وقت مخصوص، وهو وقت الصلاة، ولم يلزم من انتهائه بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الزمن أن لا يكون رافعًا للحدث، ثم نُسخ ذلك الحكم عند الأكثرين، ونُقل عن بعضهم أنه مستمرّ، ولا شكّ أنه لا يقول: إن الوضوء لا يرفع الحدث.
نعم هنا معنى رابعٌ يدّعيه كثير من الفقهاء، وهو أن الحدث وصفٌ حُكميّ، مقدَّرٌ قيامه بالأعضاء على مقتضى الأوصاف الحسّيّة، ويُنزلون ذلك الحكميّ منزلة الحسّيّ في قيامه بالأعضاء، فما نقول فيه: إنه يرفع الحدث، كالوضوء والغسل، يُزيل ذلك الأمر الحكميّ، فيزول المنع المرتّب على ذلك الأمر المقدَّر الحكميّ، وما نقول بأنه لا يرفع الحدث، فذلك المعنى المقدَّر القائم بالأعضاء حكمًا باقٍ لم يزل، والمنع المرتَّب عليه زائلٌ، فبهذا الاعتبار نقول: إن التيمّم لا يرفع الحدث، بمعنى أنه لم يزل ذلك الوصف الحكميّ المقدَّر، وإن كان المنع زائلًا.
وأقرب ما يُذكر فيه أن الماء المستعمل قد انتقل إليه المانع، كما يقال، والمسألة متنازع فيها، فقد قال جماعة بطهوريّة الماء المستعمل، ولو قيل: بعدم طهوريّته، أو بنجاسته لم يلزم منه انتقال مانع إليه، فلا يتمّ الدليل، والله أعلم
(1)
.
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 90 - 95 بنسخة الحاشية "العدّة".
قال الجامع عفا الله عنه: قد اختُلف في حكم الماء المستعمل على أقوال:
فذهب الحسن البصريّ، والزهريّ، والنخعيّ، وداود، ومالك إلى أنه طاهر مطهّر؛ لبقائه على أصله، وهو الطهوريّة الثابتة له بنصّ قوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
وذهبت الشافعيّة، وغيرهم إلى أنه طاهر غير مطهّر.
وذهبت بعض الحنفيّة إلى أنه نجس، والصحيح المذهب الأول؛ لوضوح حجته. وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله أيضًا: استَعْمَلَ الفقهاء الحدث عامًّا فيما يوجب الطهارة، فإذا حُمل الحديثُ عليه - أعني قوله:"إذا أحدث" - جَمَع أنواع النواقض على مقتضى الاستعمال، لكنْ أبو هريرة رضي الله عنه راويه فَسَّرَ الحديث في بعض الروايات لَمّا سُئل عنه بأخصّ من هذا الاصطلاح، وهو الريح، إما بصوت، أو بغير صوت، فقيل له:"ما الحدث يا أبا هريرة؟ " فقال: "فُسَاءٌ أو ضُرَاطٌ"، ولعلّه قامت له قرائن حاليّة اقتضت هذا التخصيص. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
وقوله: (حَتَّى يَتَوَضَّأَ) غاية لنفي القبول، والمعنى: حتى يتوضّأ بالماء، أو ما يقوم مقامه، وقد رَوَى النسائي بإسناد قويّ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا:"الصعيد الطيب وَضُوء المسلم"، فأطلق الشارع على التيمم أنه وُضوءٌ؛ لكونه قام مقامه، ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة مَن كان محدثًا، فتوضأ؛ أي مع باقي شروط الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
المصدر المذكور.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[2/ 543](225)، و (البخاريُّ) في "الوضوء"(135)، وفي "ترك الْحِيَل"(6954)، و (أبو داود) في "الطهارة"(65)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(76)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(530)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 318)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(637)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(538)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه استُدلّ به على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة؛ ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدًّا إلى غاية الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، وتدخل تحته الصلاة قبل الوضوء لها ثانيًا؛ قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه استُدلّ به أيضًا على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختياريًّا، أو اضطراريًّا؛ لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث.
3 -
(ومنها): بيان أن الصلوات كلّها، فرضها ونفلها مفتقرة إلى الطهارة.
4 -
(ومنها): أن فيه الردّ على الحنفيّة القائلين: إذا سبقه الحدث في الصلاة يتوضّأ، ويبني على صلاته، ووجه ذلك أنه لا يخلو حال انصرافه أن يكون مصلّيًا، أو غير مصل، فإن قيل: هو مصلّ، فالصلاة بطلت؛ لأنها لا تُقبل مع الحدث، وإن قيل: غير مصلّ، لم يجز أن يبني على ما سبق؛ لانقطاعه، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن فيه الردّ أيضًا على الحنفيّة في قولهم: إن من أحدث في القعدة الأخيرة من غير تعمّد بعد التشهّد توضّأ، وسلّم، وإن تعمّده فصلاته صحيحةٌ، ويكون حدثه كسلامه، ووجه الرّدّ أن التحلّل من الصلاة ركنٌ من أركانها، فلا يصحّ مع الحدث؛ إذ الحديث صريحٌ في أن صلاة المحدث لا تُقبل، أحدث قبل الصلاة، أم في أثنائها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابُ صِفَةِ الْوُضُوء، وَكَمَالِهِ)
[544]
(226) - (حَدَّثَنِي
(1)
أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَىَ عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ
(2)
، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ كَسَلَ الْيُسْرَى
(3)
مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْن، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م دت س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.
3 -
(حُمْرَانُ مَوْلَى عُثْمَانَ) هو: حُمْران بن أبان، المدنيّ، ثقة [2](ت 75)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس الأُمويّ، أمير المؤمنين، استُشهِدَ في ذي الحجة، بعد عيد الأضحى سنة (35)، وعمره (80)
(1)
وفي نسخة: "وحدثنا".
(2)
وفي نسخة: "دعاه بوضوئه".
(3)
وفي نسخة: "ثم غسل رجله اليسرى".
وقيل: أكثر، وقيل: أَقلّ، ومدّة خلافته (12) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ، والثاني تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عطاء، عن حُمْرَان.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مزايا عظيمة، ومناقب جسيمة، فقد كان إسلامه في أول الإسلام على يد الصدّيق رضي الله عنه، وهاجر الهجرتين، وتزوّج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم: رقيّة وأم كلثوم، زوّجه الله تعالى أم كلثوم بمثل صداق رُقيّة، وعلى مثل صحبتها، ولهذا لُقِّب بذي النورين، ولم يُعرف أحد من لدن آدم عليه السلام تزوّج ابنتي نبيّ غيره، وهو أول من خرج إلى الحبشة، وهاجر إليها، وسائر من هاجر إليها تَبَعٌ له، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستحيي منه أكثر من غيره، وهو أكثر منه حياءً، وأخبر أن الملائكة تستحيي منه، وقد تقدم بعض مناقبه في "الإيمان" 10/ 144، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ) ثم الْجُنْدَعيّ، المدنيّ، ثم الشاميّ (أَخْبَرَهُ، أَنَّ حُمْرَانَ) - بضم المهملة، وسكون الميم - ابن أبان (مَوْلَى عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه، كان من النَّمِر بن قاسط، سُبِيَ بعين التمر، فابتاعه عثمان رضي الله عنه من الْمُسَيَّب بن نَجَبَةَ، فأعتقه (أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ) وفي نسخة: "دعا بوضوئه"، و"الوضوء" هنا بفتح الواو على الأكثر: اسم للماء الْمُعَدّ للوضوء، وأما بالضم فهو الحدث الذي هو الفعل
(1)
.
(1)
"الفتح" 1/ 312 "كتاب الوضوء" رقم (159).
(فَتَوَضَّأَ) وقوله: (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) بيان وتفصيل لمعنى "توضّأ"، ثم الظاهر أنه غسلهما معًا، ويَحْتَمل أنه غسل كلّ واحدة منهما على حِدَتها، وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "غَسَلهما" قدرٌ مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين، أو متفرّقتين، والفقهاء اختَلَفوا أيُّهما أفضل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأولى غسلهما معًا، كما هو الظاهر من النصّ؛ لأنه أعون على إذهاب ما عساه يَعْلَقُ فيهما؛ لقوّة الدلك، وغسل كلّ واحدة على حدة فيه زيادة عَمَل بإفراد كلّ واحدة بطهارة، والله تعالى أعلم.
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف: أي غَسلًا ثلاث مرّات، وهذا التثليث مستحبّ بالإجماع (ثُمَّ مَضْمَضَ) المضمضة: تحريك الماء في الفم، قال في "اللسان": ومَضْمَضَ إناءه - بالضاد المعجمة - ومَصْمَصَه - بالصاد المهملة -: إذا حرّكه، وقيل: إذا غسله، والمضمضة: تحريك الماء في الفم، ومضمض الماء في فيه: حرّكه، وتمضمض به. انتهى.
وقال في "المصباح": ومَضْمَضتُ الماء في فمي: حرّكته بالإدارة فيه، وتمضمضتُ بالماء: فعلتُ ذلك، قال الفارابيّ: والمضمضة: صوت الحيّة ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها. انتهى
(2)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: أصل هذه اللفظة - يعني المضمضة - مشعر بالتحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه، واستُعملت في هذه السنّة - أعني المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم، وقال بعض الفقهاء: المضمضة أن يجعل الماء في فيه، ثم يَمُجّه، هذا أو معناه، فأدخل المجّ في حقيقة المضمضة، فعلى هذا لو ابتلعه لم يكن مؤدّيًا للسنّة، وهذا الذي يكثُر في أفعال المتوضّئين - أعني الجعل والمجّ - ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أنه الأغلب والعادة، لا أنه يتوقّف تأدّي السنّة على مجّه، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": أصل المضمضة في اللغة: التحريك، ثم اشتهر
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 168.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 575.
(3)
"إحكام الأحكام" 1/ 169 - 171.
استعماله في وضع الماء في الفم، وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعيّ، فأكمله أن يضع الماء في الفم، ثم يُديره، ثم يمُجّه، والمشهور عند الشافعيّة أنه لا يُشترط تحريكه، ولا مَجّه، وهو عجيبٌ، ولعلّ المراد أنه لا يتعيّن المجّ، بل لو ابتلعه، أو تركه حتى يسيل أجزأ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن المضمضة لا تحصل إلا بجعل الماء في الفم، ثم تحريكه؛ لأن هذا هو الذي يقتضيه المعنى اللغويّ لها، وأما المجّ، فليس من معناها، فلا يلزم، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قُدّمت المضمضة على الاستنشاق؛ لشرف منافع الفم على منافع الأنف؛ فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين بهما قوام الحياة، وهو محلّ الأذكار الواجبة والمندوبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. انتهى
(2)
.
(وَاسْتَنْثَرَ) قال النوويّ رحمه الله: قال جمهور أهل اللغة، والفقهاء، والمحدثون: الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وقال ابن الأعرابيّ، وابن قتيبة: الاستنثار الاستنشاق، والصواب الأوّل، وتدلّ عليه الرواية الأخرى بلفظ:"استنشق، واستنثر"، فجمع بينهما، قال أهل اللغة هو مأخوذ من النَّثْرة، وهي طرف الأنف، وقال الخطابيّ وغيره: هي الأنف، والمشهور الأول، قال الأزهريّ: رَوَى سلمة عن الفراء، أنه يقال: نَثَرَ الرجلُ، وانتَثَرَ، واستنثر: إذا حَرَّك النَّثْرَة في الطهارة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
. وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
ووقع عند البخاريّ في رواية الكشمهينيّ: "واستنشق"، بدل "واستنثر"، قال في "الفتح": والأول أعمّ، وثبتت الثلاثة في رواية البخاريّ من طريق شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ. قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في شيء من طُرُق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد، نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس، عن
(1)
"الفتح" 1/ 320 رقم (164).
(2)
راجع "الأعلام" 1/ 329.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 105.
الزهريّ، وكذا ذكره أبو داود، من وجهين آخرين، عن عثمان رضي الله عنه، واتفقت الروايات على تقديم المضمضة على الاستنشاق. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وهذا التثليث أيضًا مستحبّ، وفيه تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذَكَرُوا أن حكمة ذلك باعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللون يُدْرَك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف، فقدمت المضمضة والاستنشاق، وهما مسنونان قبل الوجه؛ لاختبار حال الماء قبل فعل الفرض به، أفاده القاضي عياض رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وهما مسنونتان" الراجح أن المضمضة والاستنشاق في الوضوء واجبتان؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يترك واحدًا منهما في وُضوئه، فكل من وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم وصفه بهما، وفعلُهُ بيانٌ لِمُجْمَل الآية، والآية بصيغة الأمر {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بهما. وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ) تعبيره بـ "ثُمّ" يدلّ على تقديم اليمنى على اليسرى، وكذا القول في الرجلين أيضًا (الْيُمْنَى) مؤنّث اليمين، ضدّ اليسار، وأنّثه؛ لأن اليد مؤنّثةٌ (إِلَى الْمِرْفَقِ) - بفتح الميم، وكسر الفاء، وعكسه، لغتان - وهو مَوْصِلُ الذراع بالعضد (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي غسلًا ثلاث مرّات (ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى) تأنيث اليسار، أنّثه؛ لما مرّ (مِثْلَ ذَلِكَ) أي ثلاث مرّات، ولا خلاف في وجوب غسل اليدين؛ للنّصّ، والجمهور على وجوب غسل المرفقين، وخالف في ذلك زفر من الحنفيّة، وداود الظاهريّ. وسيأتي ترجيح مذهب الجمهور في وجوب دخولهما في الغسل - إن شاء الله تعالى - (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ) وفي رواية البخاريّ:"برأسه"، قال القرطبيّ رحمه الله: الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها، وقال في "الفتح": دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولًا به، والمسح لغةً لا يقتضي ممسوحًا به، فلو قال:"وامسحوا رؤوسكم"
(1)
المصدر السابق.
لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، فهو على القلب، والتقدير: امسحوا رؤوسكم بالماء. انتهى.
والمسح لغة: إمرار اليد على الشيء، يقال: مسحتُ الشيءَ بالماء مَسْحًا: أمررتُ اليدَ عليه، قال أبو زيد: المسح في كلام العرب يكون مسحًا، وهو إصابة الماء، ويكون غسلًا، يقال: مسحتُ يدي بالماء: إذا غسلتها، وتمسّحتُ بالماء: إذا اغتسلتَ، فالمسح مشتركٌ بين معنيين. انتهى
(1)
.
ثم إن ظاهر الحديث يدلّ على أنه مسح جميع الرأس؛ لأن اسم الرأس حقيقةٌ في العضو كلّه. وسيأتي تحقيق المسألة في المسائل الآتية - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: قال في "الفتح": وليس في شيء من طرق الحديث في "الصحيحين" ذكر عدد للمسح، وبه قال أكثر العلماء، وقال الشافعيّ رحمه الله: يستحب التثليث في المسح، كما في الغسل، واستُدِلّ له بظاهر رواية لمسلم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا".
وأُجيب بأنه مُجْمَل تَبَيَّن في الروايات الصحيحة أن المسح لم يَتَكَرَّر، فَيُحْمَل على الغالب، أو يَختصّ بالمغسول، قال أبو داود رحمه الله في "سننه": أحاديث عثمان الصحاح كلُّها تدل على أن مسح الرأس مرةً واحدةً، وكذا قال ابن المنذر أن الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسح مرةً واحدةً، وبأن المسح مَبْنِيّ على التخفيف، فلا يقاس على الغسلِ المرادِ منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعْتُبِر في المسح لصار في صورة الغسل؛ إذ حقيقة الغسل جَرَيَان الماء، والدلكُ ليس بِمُشْتَرَط على الصحيح عند أكثر العلماء، وبالغ أبو عبيد، فقال: لا نعلم أحدًا من السلف استَحَبَّ تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيميّ، وفيما قال نظرٌ، فقد نقله ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أنس، وعطاء، وغيرهما، وقد رَوَى أبو داود من وجهين، صَحّحَ أحدهما ابن خزيمة وغيره، في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح" في هذا الموضع أن هذه
(1)
راجع "المصباح" 2/ 571.
(2)
"الفتح" 1/ 312 - 313.
الزيادة مقبولة، وليس كما قال، بل هي رواية شاذّة، لا تُقبل. وسيأتي تحقيق القول في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدلّ على استحباب التكرار في غسل الرجل ثلاثًا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرِّجل كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في الروايات:"فغسل رجليه حتى أنقاهما"، ولم يذكر عددًا، فاستُدِلّ به لهذا المذهب، وأُكّد من جهة المعنى بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها تكثُر فيها الأوساخ والأَدْرَانُ، فيُحال الأمر فيه على مجرّد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرواية التي فيها ذكر العدد زائدةٌ على الرواية التي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّنٌ، والمعنى المذكور لا يُنافي اعتبار العدد، فليُعْمَل بما دلّ عليه لفظ الحديث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد رحمه الله أخيرًا هو الحقّ، وحاصله أنه يُستحبّ تثليث غسل الرجلين، كسائر الأعضاء، كما صرّح به في هذا الحديث، وأما القول بعدم استحباب التثليث، وتعليله بما ذكروه من كثر الأوساخ والأدران فيها يقتضي عدم اعتباره، فتعليل عقليّ في مقابلة النصّ، فلا اعتداد به، ولنعم ما قيل [من الوافر]:
إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ
…
يَوْمًا تُجَارِي فِي مَيَادِنِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاح
والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى) وفي نسخة: "ثم غسل رجله اليسرى"(مِثْلَ ذَلِكَ) أي ثلاث مرّات (ثُمَّ قَالَ) عثمان رضي الله عنه (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ) جملة حاليّة من المفعول؛ لأن "رأى" هنا بصريّة، تتعدّى لمفعول واحد (نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) أي مثله في الكيفيّات المذكورة (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ تَوَضَّأَ)"من" شرطيّة، ويحتمل كونها موصولةً (نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) قال النوويّ: إنما قال: "نحو وضوئي"، ولم يقل؛ "مثل"؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 183 - 184.
وتعقّبه العينيّ بأنه جاء في رواية البخاريُّ في "الرقاق": "من توضّأ مثل هذا الوضوء"، وجاء في رواية مسلم أيضًا:"من توضّأ مثل وضوئي هذا"، وكلُّ واحد من لفظ "نحو" و"مثل" من أدوات التشبيه، والتشبيه لا عموم له، سواء قال:"نحو وضوئي هذا"، أو "مثل وضوئي"، فلا يلزم ما ذكره. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ في "الفتح" بعد ذكر الروايات التي فيها "مثل": وعلى هذا فالتعبير بـ "نحو" من تصرّف الرواة؛ لأنها تُطلق على المثليّة مجازًا، ولأن "مثل"، وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرًا، لكنها تُطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يُخلّ بالمقصود. انتهى
(2)
.
وقال ابن الملقّن: اعلم أن لفظ "نحو" لا يطابق لفظ "مثل"، فإن المثل تقتضي المساواة من كلّ وجه إلا من الوجه الذي يقع به الامتياز بين الحقيقتين بحيث يُخرجهما عن الوحدة، ولفظة "نحو" لا تُعطي ذلك، وإن استُعملت كذلك لغةً، لا اصطلاحًا عرفيًّا، فيكون استعمالها فيها مجازًا، ولهذا فرّق المحدّثون بين "نحو" و"مثل"، فقالوا فيما كان مثل الإسناد، أو المتن من كلّ وجه:"مثله"، كما استعمله مسلم في "صحيحه" في غير موضع، وقالوا:"نحوه" فيما قارب الإسناد أو المتن، حتى استدلّوا على الذين قالوا بالفرق بينهما، وألزموهم بمنعهم الرواية بالمعنى، ولعلّ واصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراويه عنه بلفظ:"نحو وضوئي هذا" لحظ الفرق بينهما من حيث إن مثليّة وضوئه صلى الله عليه وسلم لا تتأتّى لأحد إلا من حيث امتثال الأمر، وحصول الثواب المناسب للمتوضئ على قدر تبعيّته فيه؛ لأنه قد يكون في وضوئه صلى الله عليه وسلم أشياء لم يُكلّف بها، فتكون ملغاة بالنسبة إلينا، فيكون ذلك بيانًا للفعل الذي يحصل الثواب الموعود به، وعليه فلا بدّ أن يكون الوضوء المفعول موصوفًا لأجل الغرض المطلوب، فلهذا استعمل "نحو" في حقيقتها العرفيّة مع فوات المقصود، لا بمعنى "مثل"، أو يكون ترك ما عُلِم قطعًا أنه لا يُخلّ بالمقصود، مع أن لفظة "مثل" ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في رواية البخاريّ وغيره، وهذه الرواية لم
(1)
"عمدة القاري" 3/ 10.
(2)
"الفتح" 1/ 313.
يَطَّلِع عليها ابن دقيق العيد، بل قال: يمكن أن يقال: إن الثواب يترتّب على مقاربة ذلك الفعل؛ تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطبين من غير تضييق وتقييد بما ذكرناه، إلا أن الأول أقرب إلى مقصود البيان. انتهى.
وقال الفاكهيّ: لا بدّ من ذلك؛ لتعذّر الإتيان بمثل وضوئه صلى الله عليه وسلم، وذلك ما تقتضيه الشريعة السمحة، من التوسعة، وعدم التضييق على المكلّف. انتهى كلام ابن الملقّن باختصار، وبعض تصرّف
(1)
.
(ثمَّ قَامَ، فَرَكَعَ) أي صلّى، فهو من إطلاق الجزء على الكلّ، من باب المجاز المرسل (رَكْعَتَيْنِ) فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، ولا خلاف في استحبابهما (لَا) نافية، ولذا رُفع قوله:(يُحَدِّثُ) بالبناء للفاعل (فِيهِمَا نَفْسَهُ) منصوب على المفعوليّة، وجملة "لا يُحدّث إلخ" في محلّ نصب صفة لـ"ركعتين"، والمراد به أن لا يُحدّثها بشيء من أمور الدنيا، لما في بعض الروايات:"لا يُحدّث نفسه بشيء من الدنيا"
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: المراد أنه لا يُحَدِّث بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة، ولو عَرَض له حديثٌ، فأعرض عنه بمجرد عروضه عُفِيَ عن ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة - إن شاء الله تعالى - لأن هذا ليس من فعله، وقد عُفِي لهذه الأمة عن الخواطر التي تَعْرِض ولا تستقرّ. وقد تقدم بيان هذه القاعدة في "كتاب الإيمان"، والله تعالى أعلم.
وقد قال معنى ما ذكرته المازريّ، وتابعه عليه القاضي عياض، فقال: يريد بحديث النفس الحديث الْمُجتَلَب والْمُكْتَسَب، وأما ما يقع في الخواطر غالبًا، فليس هو المراد. قال: وقوله: "يُحَدِّث نفسه" فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يُكْتَسب؛ لإضافته إليه، قال القاضي عياض: وقال بعضهم: هذا الذي يكون بغير قصد يُرجَى أن تُقْبَل معه الصلاة، ويكون دون صلاة مَن لم يُحَدِّث نفسه بشيء لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما ضَمِنَ الغفران لمراعي ذلك؛ لأنه قَلَّ مَن تسلم صلاته من حديث النفس، وإنما حصلت له هذه المرتبة؛ لمجاهدة نفسه
(1)
"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 346 - 348.
(2)
ذكره في "الفتح"، وعزاه للترمذيّ الحكيم، راجع "الفتح" 1/ 313.
من خطرات الشيطان، ونفيها عنه، ومحافظته عليها، حتى لم يشتغل عنها طرفة عين، وسَلِمَ من الشيطان باجتهاده، وتفريغه قلبه. انتهى كلام القاضي
(1)
. قال النوويّ: والصواب ما قدمته، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النفس، وهي على قسمين:
[أحدهما]: ما يَهْخمُ هَجْمًا يَتَعَذّر دفعه عن النفس.
[الثاني]: ما تسترسل معه النفس، ويُمكن قطعه ودفعه، فيُمكن أن يُحْمَلَ هذا الحديث على هذا النوع الثاني، فيَخرُج عنه النوع الأول؛ لعسر اعتباره، ويشهد لذلك لفظة "يُحدّث نفسه"، فإنه يقتضي تكسُّبًا منه، وتفعُّلًا لهذا الحديث، ويمكن أن يُحمَل على النوعين معًا، إلا أن العسر إنما يجب دفعه عما يتعلّق بالتكاليف، والحديث إنما يقتضي ترتّب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا، وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم دفع العسر عنه.
نعم لا بدّ وأن تكون تلك الحالة ممكنة الحصول - أعني الوصف المرتّب عليه الثواب المخصوص - والأمر كذلك، فإن المتجرّدين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكرُ الله عز وجل على قلوبهم، وغَمَرَها تحصُل لهم تلك الحالة، وقد حُكي عن بعضهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: حمله على النوع الثاني، وهو ما تسترسل النفس معه، ويمكن دفعه هو الأظهر؛ لما يدلّ ظاهر لفظ "يُحدّث" من التكسّب، ولأنه صلى الله عليه وسلم حثّ أمته جميعًا، على هذا الوضوء بالكيفيّة المذكورة، والصلاة بعده، ورغّبهم في الثواب المذكور، فالظاهر إمكانه، وحصوله لمعظم الناس، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": المراد به ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله:"يُحَدِّث" يقتضي تكسُّبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفوّ عنه، ونقل القاضي عياض رحمه الله عن بعضهم أن
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 19.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 109.
المراد: من لم يحصل له حديث النفس أصلًا ورأسًا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد"، بلفظ:"لم يُسِرّ فيهما".
وردّ النوويّ رحمه الله، فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم، مَن اتَّفَقَ أن يحصل له عدم حديث النفس أصلًا أعلى درجةً بلا ريب.
ثم إن تلك الخواطر، منها: ما يتعلق بالدنيا، والمراد دفعه مطلقًا، ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث:"لا يُحَدِّث نفسه بشيء من الدنيا"، وهي في "الزهد" لابن المبارك أيضًا، و"المصنف" لابن أبي شيبة.
ومنها ما يتعلق بالآخرة، فإن كان أجنبيًا أشبهَ أحوال الدنيا، وإن كان من متعلِّقات تلك الصلاة فلا. انتهى
(1)
. وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
(غُفِرَ لَهُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) والجملة خبر "من" في قوله: "من توضّأ"، و"الذنب": الإثم، فإن تُوعّد عليه كان كبيرةً، وإلا فهو صغيرة.
[تنبيه]: قوله: "غُفِرَ لَهُ. . إلخ" ظاهره يعمّ غفران الصغائر والكبائر، لكن العلماء خصّوه بالصغائر؛ لوروده مقيّدًا في نصوص أخرى، فسيأتي للمصنّف رحمه الله في الباب التالي حديث عثمان رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيُحسن وضوءها، وخُشُوعها، وركوعها إلا كانت كفّارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كلّه". فهذا صريح في الذنوب الصغائر، وحديث الباب مطلقٌ، فيُحمل المطلق على المقيّد.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعمة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهنّ، ما اجتُنِبت الكبائر".
قال في "الفتح": هو في حقّ من له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا الصغائر كُفّرت عنه، ومن ليس له إلا الكبائر خُفّف عنه منها بقدر ما لصاحب
(1)
"الفتح" 1/ 313.
الصغائر، ومن ليس له صغائر، ولا كبائر يُزاد في حسناته بنظير ذلك. انتهى
(1)
.
[فإن قيل]: إذا كان الوضوء وحده مُكَفّرًا للصغائر، كما في حديث الصنابحيّ الذي في آخره:"حتى يخرج نقيًّا من الذنوب"، فما الذي يكفّره الوضوء مع صلاة النافلة؟، كما في حديث الباب، وإذا كانت هذه مكفّرة أيضًا، فما الذي تكفّره المكتوبات؟.
[أجيب]: بأن جميع ما ذُكر صالح للتكفير، فإن صادف شيء منها شيئًا من الذنوب المذكورة كفّره، وإلا كفّر بقدرها من الكبائر، فإن لم يوجد شيء من الصغائر، ولا الكبائر زيد في حسناته، كما تقدّم، والله تعالى أعلم.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ رحمه الله (وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا) يعني الصحابة، وأكابر التابعين رضي الله عنهم؛ لأنه من صغار التابعين، أدرك نحو ثلاثة عشر من الصحابة، وأخذ من أكابر التابعين (يَقُولُونَ: هَذَا الْوُضُوءُ) الذي وُصف في حديث عثمان رضي الله عنه هذا (أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ) بالبناء للفاعل (بهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ) قال النوويّ رحمه الله معناه: هذا أتم الوضوء، وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث، والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو، وأما إذا لم تستوعب العضو إلا بغَرفتين فهي غسلةٌ واحدةٌ، ولو شك هل غَسَل ثلاثًا أم اثنتين؟ جَعَل ذلك اثنتين، وأَتَى بثالثة، هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا - يعني الشافعيّةَ - وقال الشيخ أبو محمد الْجُوَينيّ من أصحابنا: يَجْعَل ذلك ثلاثًا، ولا يزيد عليها؛ مخافةً من ارتكاب بدعة بالرابعة، والأول هو الجاري على القواعد، وإنما تكون الرابعة بدعةً ومكروهةً إذا تعمد كونها رابعة، والله أعلم.
وقد يَسْتَدِلُّ بقول ابن شهاب هذا مَن يَكْرَه غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وليس ذلك بمكروه عندنا، بل هو سنة محبوبة. وسيأتي بيانها في بابها - إن شاء الله تعالى - ولا دلالة في قول ابن شهاب على كراهته، فإن مراده العدد كما قدمناه، ولو صَرَّح ابن شهاب أو غيره بكراهة ذلك كانت سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحيحة مقدمة عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ،
(1)
"الفتح" 1/ 313.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا [3/ 544 و 545](226)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(159 و 164 و 1934)، و (أبو داود) في "الطهارة"(106) و (107) و (109)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 64 و 65 و 80 و 91 و 111)، وفي "الكبرى"(91) و (103) و (171) و (172) و (840)، و (مالك) في "الموطّأ"(45)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 48)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(141)، و (الحميديّ) في "مسنده"(35)، و (أحمد)(57/ أو 59 و 60 و 61 و 64 و 67 و 68 و 71)، و (الدارميّ) في "سننه"(699)، و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند" 1/ 74، و (أبو عوانة) في "مسنده"(652 و 653 و 654 و 655 و 656 و 657)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(539 و 540)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2 و 3 و 158)، و (ابن حبان (1041 و 158 و 1060)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 49 و 68)، و (البغوي) في "شرح السنّة"(221) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): أن هذا الحديث أصل عظيم في بيان صفة الوضوء، فينبغي العناية ببيان الفوائد التي اشتمل عليها، وتفصيل مسائل الوضوء التي أشار إليها.
2 -
(ومنها): بيان جواز الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به من الماء، قال ابن الملقّن رحمه الله: وهو مُجمع عليه من غير كراهة. انتهى
(2)
.
(1)
المراد فوائد الحديثين: هذا، والذي بعده، فتنبّه.
(2)
"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 326.
3 -
(ومنها): أن فيه الاستدلال بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم على الأحكام الشرعيّة، ومتابعته فيها، وتحرّي مقاربة فعله، وأنه صلى الله عليه وسلم هو المرجع في جميعها، كما قال الله عز وجل:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
4 -
(ومنها): التعليم بالفعل؛ لأنه أبلغ، وأضبط للمتعلّم.
5 -
(ومنها): استحباب غسل الكفّين قبل إدخالهما الإناء ثلاثًا، ولو لم يكن عقب نوم؛ احتياطًا.
6 -
(ومنها): الإفراغ على اليدين في ابتداء الوضوء.
7 -
(ومنها): الترتيب في غسل أعضاء الوضوء؛ لأن الراوي رتّبه بـ "ثُمّ" في مَعْرِض البيان، وهي للترتيب، ولحديث أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال:"فتوضأ كما أمرك الله"
(1)
، ولحديث أبي داود وغيره:"إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين"
(2)
. قال الخطّابيّ وغيره: فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء، وتقديم ما قدّمه الله في الذكر منه واجحب، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله"، ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي الترتيب من غير تراخ، وكلُّ من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم حكاه مرتَّبًا، وفعله محمول على الوجوب؛ لأنه بيان لمجمل الآية
(3)
.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: والمنكر أن تتعمّد تنكيس الوضوء، فلا ريب أن هذا مخالفٌ لظاهر الكتاب، ومخالفٌ للسنة المتواترة، فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبيَّن جوازه - أي بالنصّ - كما في ترتيب التسبيح، لَمّا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهنّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرّك بأيّهنّ بدأت". انتهى
(4)
.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (856).
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (858).
(3)
انظر "الخلافيّات للبيهقيّ" 11/ 467.
(4)
"مجموع الفتاوى" 21/ 413.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تَبَيَّنَ بما ذُكر من الأدلّة أن ترتيب الوضوء كما رتّبه النبيّ صلى الله عليه وسلم واجبٌ، لا يجوز تعمّده، فمن عكس، فليُعد وضوءه؛ لأنه لم يتوضّأ كما أمره الله عز وجل، والله تعالى أعلم بالصواب.
8 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "ثم أدخل يمينه في الإناء" على عدم اشتراط نيّة الاغتراف، قال الحافظ رحمه الله: ولا دلالة فيه لا نفيًا، ولا إثباتًا.
9 -
(ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ من الاغتراف من الماء القليل للتطهير أنه لا يصيِّره مستعملًا.
10 -
(ومنها): أنه قد يُستدلّ به على أن المضمضة والاستنشاق يكونان بغرفة واحدة، وهو أحد الأوجه المستحبّة الآتي بيانها - إن شاء الله تعالى -.
11 -
(ومنها): بيان تقديم اليمنى على اليسرى.
12 -
(ومنها): أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرّة، وبعضه بمرّتين، وبعضه بثلاث.
13 -
(ومنها): أن فيه الردّ على من جعل الاستنثار بمعنى الاستنشاق؛ لأنه ورد عطفه عليه في رواية: "ثم مضمض، واستنشق، واستنثر".
14 -
(ومنها): بيان فضل الوضوء والصلاة بعده. وسيأتي قريبًا في باب خاصّ - إن شاء الله تعالى -.
15 -
(ومنها): استحباب صلاة ركعتين، فأكئر عقب كل وضوء، وهو سنة مؤكدة، والأصحّ أنها تُصلَّى في أوقات النهي وغيرها؛ لأنها من ذوات الأسباب، ويدلّ لذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حَدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ فإني سمعت دَفَّ نعليك
(1)
بين يديّ في الجنة"، قال: ما عَمِلت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهَّر طُهُورًا في ساعة ليل أو نهار، الأصليت بذلك الطُّهور ما كُتِب لي أن أصلي.
قال النوويّ رحمه الله: ولو صلى فريضةً أو نافلةً مقصودةً، حَصَلت له هذه الفضيلة، كما تحصل تحية المسجد بذلك. انتهى
(2)
.
(1)
أي تحريكهما.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 108.
16 -
(ومنها): الترغيب في الإخلاص، وتحذيرُ مَنْ لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما إن كان في العزم على عمل معصية، فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوفٌ به أكثر من خارجها. ووقع في رواية البخاريّ في "الرقاق" في آخر هذا الحديث ما نصّه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تغترّوا"؛ أي فتستكثروا من الأعمال السيئّة؛ بناءً على أن الصلاة تُكَفِّرها، فإن الصلاة التي تُكَفَّر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأَنَّى للعبد بالاطلاع على ذلك؟
(1)
.
17 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه الإفراغ على اليدين معًا، وجاء في رواية أخرى:"أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما"، وهو قدرٌ مشترك بين غسلهما مجموعتين، أو مفترقين، والفقهاء مختلفون في أيّهما أفضل، قال ابن الملقّن رحمه الله: والذي يظهر أنه إن أمكن غسلهما معًا، فهو أفضل، وإلا قدّم الكفّ اليمنى، كما إذا غسل يده اليمنى إلى المرفق، فإن الأفضل تقديمها بلا شكّ. انتهى
(2)
.
18 -
(ومنها): استحباب التثليث في غسل الأعضاء.
19 -
(ومنها): أن قوله: "ثم تمضمض، واستنثر"، وفي لفظ:"واستنشق"، وفي لفظ:"واستنشق، واستنثر" يفيد الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة، والأصحّ عند الشافعيّة على وجه الاشتراط، وكذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق أيضًا، وإن كان بالواو دون "ثمّ"، قاله في "الإعلام"
(3)
.
20 -
(ومنها): أن قوله: "ثلاثًا" يفيد استحباب هذا العدد في كلّ ما ورد فيه.
21 -
(ومنها): أن قوله: "ثم غسل رجليه" فيه التصريح بوجوب غسلهما، والردّ على من أوجب المسح. وسيأتي إيضاح ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
22 -
(ومنها): أن فيه استحباب صلاة ركعتين بعد الوضوء، وتُفعل في
(1)
"الفتح" 1/ 313 - 314.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 326 - 327.
(3)
1/ 328 - 329.
كلّ وقت حتى في وقت النهي عند الشافعيّة، وهو الأرجح، خلافًا للمالكيّة.
23 -
(ومنها): أن الثواب الموعود مرتّبٌ على أمرين:
[الأول]: وضوؤه على النحو المذكور.
[الثاني]: صلاة ركعتين عقبه بالوصف المذكور في الحديث، والمرتّب على مجموع أمرين لا يلزم ترتيبه على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد يكون فضيلة بوجود أحد جزئيه، فيصبح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط؛ لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النحو المذكور، والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور. انتهى
(1)
.
24 -
(ومنها): أن فيه إثبات حديث النفس، وهو مذهب أهل الحقّ، ثم هو قسمان:
[الأول]: ما يَهْجُمُ عليها، ويتعذّر دفعه عنها.
[والثاني]: ما يسترسل معها، ويُمكن دفعه، وقطعه، فيُحمل الحديث عليه دون الأول؛ لعسره، وهو الذي يقتضيه لفظ:"لا يُحدّث"، فإنه يدلّ على معنى التكسّب، ولا يُحمل على الخواطر التي ليست من جنس مقدور العبد؛ لأنها معفوّ عنها بالنصّ، وهذا هو الرأي الراجح، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم.
25 -
(ومنها): أن حديث النفس يعمّ الخواطر الدنيويّة والأخرويّة، والحديث محمول على المتعلّق بالدنيا فقط؛ لأنه مأمور بالتفكر في معاني المتلوّ من القرآن، والذكر، والدعوات، وتدبّرها، وذلك إنما يحصل بحديث النفس، وليس كلّ أمر محمود، أو مندوب إليه بالنسبة إلى غير وقته، وحاله من أمور الآخرة، بل قد يكون أجنبيًّا عنها، مثابًا عليه، وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يجهّز الجيش، وهو في الصلاة، واستعجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في صلاة، وفرغ منها، وسئل عن ذلك، فقال:"كان عندي شيء من تبر، فكرهتُ أن يَحبسني، فقسمته"، أخرجه البخاريّ، وكلّ ذلك قربة خارجة عن مقصود الصلاة، وفي كتاب الصلاة للحكيم الترمذيّ، قال سعد رضي الله عنه: "ما
(1)
"الإعلام" 1/ 351.
قمت في صلاة، فحدّثت نفسي فيها بغيرها"، فقال الزهريّ: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا، ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبيّ.
قال ابن الملقّن رحمه الله: ويؤيّد ما سلف أنه جاء في رواية: "لا يُحدّث فيها نفسه بشيء من الدنيا، ثم دعا إلا استُجيب له"، ذكرها الحاكم الترمذيّ أيضًا في الكتاب المذكور
(1)
. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول أن المراد بقوله رضي الله عنه: "لا يحدّث نفسه. . إلخ" تحديث النفس بأمور لا تتعلّق بالصلاة، كأمور الدنيا، أو أمور الآخرة الأجنبيّة من الصلاة، كالتفكير في مسألة فقهيّة، فلا يشمل الخواطر التي لا تستقرّ، إذا دفعها، ولم يسترسل معها، فإنها لا تضرّ، وكذلك تحديث النفس بمعاني ما يقرؤه من كتاب الله عز جل، أو يذكر الله، أو يدعوه به، فإن ذلك من مقاصد الصلاة، فلا ينافي حصول الثواب الموعود، والله تعالى أعلم.
[تنبيه] لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله توجيه حسنٌ للأثر المنقول عن عمر رضي الله عنه الذي تقدّم، ودونك نصّه، قال رحمه الله:
وأما ما يُرْوَى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: "إني لأُجهّز جيشي، وأنا في الصلاة"، فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين، فهو أمير الجهاد، فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلِّي الذي يُصلّي صلاةَ الخوف حال معاينة العدوّ، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد، فعليه أن يؤدّي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
(1)
قال الصنعانيّ في "العدّة" 1/ 190: وهي في "الزهد" لابن المبارك، و"مصنف ابن أبي شيبة"، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "تخريج أحاديث الإحياء": أخرجه ابن أبي شيبة من حديث صلة بن أشيم مرسلًا، وهو في "الصحيحين" من حديث عثمان رضي الله عنه بزيادة في أوله دون قوله:"بشيء من الدنيا"، وزاد الطبرانيّ في "الأوسط":"إلا بخير". انتهى.
قال الزبيديّ في "إتحاف السادة المتّقين" 3/ 35: قال تلميذه الحافظ: لفظ ابن أبي شيبة في "المصنّف": "لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه". انتهى.
(2)
"الإعلام" 1/ 353 - 355.
كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45]، ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قُدِّر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته، ولهذا تُخفَّف صلاة الخوف عن صلاة الأمن، ولَمّا ذَكَرَ عز جل صلاة الخوف قال:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف، ومع هذا فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة مع تدبّره للأمور بها، وعُمر رضي الله عنه قد ضرب الله الحقّ على لسانه وقلبه. . . إلى أن قال: ولا ريب أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة؟. وبالجملة فتفكّر المصلّي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يَضِيق وقته، ليس كتفكّره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر رضي الله عنه لم يُمكنه التفكّر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة، والواردات عليه كثيرة، ومثل هذا يَعْرِض لكلّ أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في الصلاة ما لم يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما يُذكر أن بعض السلف ذَكَر له رجلٌ أنه دَفَنَ مالًا، وقد نسي موضعه، فقال: قم فصلّ، فقام فصلّى، فذكره، فقيل له: من أين علمت ذلك؟، قال: علمتُ أن الشيطان لا يَدَعه في الصلاة حتى يُذَكِّره بما يَشْغَله، ولا أهمّ عنده من ذكر موضع الدفن، لكن العبد الكيِّس يجتهد في كمال الحضور، مع كمال فعل بقيّة المأمور، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، وهو توجيه حسنٌ لأثر عمر صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: اختلف الفقهاء والزهّاد في قبول الصلاة مع استرسال الخواطر الشّاغلة عن حضور القلب فيها، فقال الفقهاء إلى قبولها، ومال الزهّاد إلى عدم قبولها. قال العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: والأولى بنا، والأقوى في أدلّتنا
(1)
"مجموع الفتاوى" 22/ 609.
أنه إن كان الخاطر عَرَضًا عَرَضَ، فأعرض عنه، فالمسألة كما قال الفقهاء، وإن كان سببه التعلّق بفضول الدنيا الذي يُستغنى عنه، فالمسألة كما قال الزهّاد؛ لأن ذلك العارض من سببه، وواقع باختياره وكسبه. انتهى.
ولشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ في المسألة، فقد سئل عن وسواس الرجل في صلاته، وما حَدُّ المبطل؟ وما حَدُّ المكروه منه؟ وهل يباح منه شيء في الصلاة؟ وهل يُعذّب الرجل في شيء منه؟ وما حدّ الإخلاص في الصلاة؟ وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عَقَلَ منها؟ ".
فأجاب: الحمد لله. الوسواس نوعان:
[أحدهما]: لا يمنع ما يُؤمر به من تدبّر الكلم الطيّب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخواطر، فهذا لا يُبطل الصلاة، لكن من سلمت صلاته منه، فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته، الأول شبه حال المقرَّبين، والثاني شبه حال المقتصدين.
وأما الثالث: فهو ما منع الفهم، وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلًا، فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه، عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يُكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها"، حتى قال:"إلا عشرها"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يُكتب له منها إلا العشر، وقال ابن عبّاس رضي الله عنه: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلتَ منها. ولكن هل يُبطل الصلاة، ويوجب الإعادة؟ فيه تفصيلٌ، فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقلّ من الحضور، والغالب الحضور، لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يُبطل الصلاة، وإنما يُجبر بعضه بسجدتي السهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان:
[أحدهما]: لا تصحّ الصلاة في الباطن، وإن صحّت في الظاهر، كَحَقْن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يَحصُل، فهو شبيه صلاة المرائي، فإنه بالاتّفاق لا يَبرأ بها في الباطن، وهذا قول أبي عبد الله ابن حامد، وأبي حامد الغزاليّ، وغيرهما.
[والثاني]: تبرأ الذمّة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها،
ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي لم يَدَعْ قول الزور، والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، واستدلّوا بما في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا نودي بالصّلاة أدبر الشيطان، وله ضُرَاطٌ، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قُضي التثويب أقبل، حتى يَخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكُر كذا، اذكُر كذا ما لم يكن يذكر، حتى يَظَلَّ لا يدري كم صلّى، فإذا وَجَدَ أحدكم ذلك، فليسجُد سجدتين"، فقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يَذكِّره بأمور حتى لا يدري كم صلّى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يُفرِّق بين القليل والكثير. وهذا القول أشبه وأعدل، فإن النصوص والآثار إنما دلَّت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، ولا تدلّ على وجوب الإعادة، لا باطنًا، ولا ظاهرًا، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في عدد غَسَلات أعضاء الوضوء:
قال النوويّ رحمه الله: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غَسْل الأعضاء مرةً مرةً، وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرةً مرةً، وثلاثًا ثلاثًا، وبعض الأعضاء ثلاثًا، وبعضها مرتين، وبعضها مرةً.
قال العلماء: فاختلافها دليلٌ على جواز ذلك كلّه، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ، فعلى هذا يُحْمَل اختلاف الأحاديث.
وأما اختلاف الرواة فيه عن الصحابيّ الواحد في القصة الواحدة، فذلك محمول على أن بعضهم حَفِظَ، وبعضهم نَسِي، فيؤخذ بما زاد الثقة كما تقرّر من قبول زيادة الثقة الضابط.
واختَلَف العلماء في مسح الرأس، فذهب الشافعيّ في طائفة إلى أنه يُسْتَحبّ فيه المسح ثلاث مرات، كما في باقي الأعضاء، وذهب أبو حنيفة،
(1)
"مجموع الفتاوى" 22/ 611 - 613.
ومالك، وأحمد، والأكثرون إلى أن السنة مرةً واحدةً، ولا يزاد عليها، والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرةً واحدةً، وفي بعضها الاقتصار على قوله:"مَسَحَ"، واحتجَّ الشافعيُّ بحديث عثمان رضي الله عنه الآتي في "صحيح مسلم":"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا"، وبما رواه أبو داود في "سننه" أنه صلى الله عليه وسلم مَسَحَ رأسه ثلاثًا، وبالقياس على باقي الأعضاء، وأجاب عن أحاديث المسح مرةً واحدةً بأن ذلك لبيان الجواز، وواظب صلى الله عليه وسلم على الأفضل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن أن فرض الوضوء مرّةً مرّةً، وما زاد على ذلك للاستحباب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضّأ مرّةً مرّةً، ومرّتين مرّتين، وثلاثًا ثلاثًا، ولم يزد على ذلك، وهذا مجمع عليه، وما حكي عن بعضهم من أنه قال: لا يجوز النقص من الثلاث فمخالف للإجماع
(2)
، وأما مسح الرأس، فالراجح فيه قول الجمهور أنه مرّةً واحدةً، ولا يُستحبّ فيه التثليث؛ لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في كونه صلى الله عليه وسلم مسح مرّة. وسيأتي تمام القول فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في غسل الكفين في ابتداء الوضوء:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: أجمع كلُّ مَن نَحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يُستحبُّ استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلهما مرةً، وإن شاء غسلهما مرتين، وإن شاء ثلاثًا، أيَّ ذلك شاء فَعَلَ، وغَسلُهما ثلاثًا أحبّ إليّ، وإن لم يَفعَل ذلك، فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلهما فلا شيء عليه، ساهيًا ترك ذلك أم عامدًا، إذا كانتا نظيفتين، فإن أدخل يده الإناء، وفي يده نجاسة، ولم يغير للماء طَعْمًا، ولا لونًا، ولا ريحًا، فالماء طاهر بحاله، والوضوء به جائز. انتهى كلامه رحمه الله
(3)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ. وسيأتي مزيد التحقيق في ذلك في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يَغْمِس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يَدري أين باتت يده"
(4)
- إن
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 106.
(2)
راجع "الفتح" 1/ 282.
(3)
"الأوسط" 1/ 375.
(4)
سيأتي برقم (278).
شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في كيفيّة المضمضة، والاستنشاق:
قال النوويّ رحمه الله: تُستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، فيكره ذلك؛ لحديث لقيط رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، وهو حديث صحيحٌ، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، قال الترمذيّ: هو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال: وعلى أيّ صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حَصَلت المضمضة والاستنشاق، وفي الأفضل خمسة أوجه:
[الأول]: يتمضمض، ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة، ثم يستنشق منها.
[والوجه الثاني]: يَجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثًا، ثم يستنشق منها ثلاثًا.
[والوجه الثالث]: يجمع أيضًا بغرفة، ولكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق.
[والرابع]: يفصل بينهما بغَرْفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثًا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثًا.
[والخامس]: يفصل بستّ غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.
والصحيح الوجه الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة، في البخاريّ، ومسلم، وغيرهما.
وأما حديث الفصل فضعيف، فيتعين المصير إلى الجمع بثلاث غرفات، كما ذكرنا؛ لحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه المذكور في الكتاب.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث الفصل هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" عن طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جدّه، قال: دخلت - يعني على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق.
وفي إسناده والد طلحة مجهول.
قال: واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مُقَدَّمة على الاستنشاق، وعلى كلّ صفة، وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط؟ فيه وجهان: أظهرهما اشتراط؛ لاختلاف العضوين، والثاني استحباب، كتقديم يده اليمنى على اليسرى، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم المضمضة، والاستنشاق:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: افترق أهل العلم فيما يجب على تارك المضمضة والاستنشاق في الجنابة والوضوء أربع فِرَقٍ:
فقالت طائفة: إذا تركهما في الوضوء يُعيدهما، هكذا قال عطاء، وحماد، وابن أبي ليلى، والزهريّ، وإسحاق بن راهويه.
وقالت طائفة: لا إعادة عليه، هكذا قال الحسن البصريّ، وإلى هذا القول رجع عطاء بن أبي رباح، وكذلك قال الحكم، وقتادة، والزهريّ، وربيعة، ويحيى الأنصاريّ، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والأوزاعيّ، والشافعيّ.
وقالت فرقة: يعيد إذا ترك الاستنشاق خاصةً، وليس على من ترك المضمضة شيءٌ، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأبي ثور.
وقالت فرقة رابعة: يجب عليه الإعادة إذا تركهما في الجنابة، وليس على من تركهما في الوضوء شيءٌ، رُوي هذا القول عن الحسن، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وقال أصحاب الرأي: هما سواء في القياس، غير أَنّا نَدَعُ القياس للأثر الذي جاء عن ابن عباس. قال أبو بكر: والحديث عن ابن عباس في هذا غير ثابت
(1)
.
(1)
أي لأنه من رواية عائشة بنت عجرد، عن ابن عبّاس. قال الدارقطنيّ: ليس لعائشة بنت عجرد إلا هذا الحديث، وهي لا تقوم بها حجة، انظر "سننه" 1/ 115، وفي سنده أيضًا الحجاج بن أرطاة ضعيف.
قال ابن المنذر رحمه الله: والذي به نقول إيجاب الاستنشاق خاصةً، دون المضمضة؛ لثبوت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماءً، ثم لْيَنْثُر"، وأمْره على الفرض، وأحقُّ الناس بهذا القول أصحابنا؛ لأنهم يرون الأمر فرضًا.
واعتَلَّ الشافعيّ في وقوفه عن إيجاب الاستنشاق أنه ذَكَر بأنه لم يعلم خلافًا في أن لا إعادة على تاركهما، ولو عَلِمَ في ذلك اختلافًا المرجع إلى أصوله أن الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرض، ألا تراه إنما اعْتَلّ في تخلفه عن إيجاب السواك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، قال الشافعيّ: فلو كان السواك واجبًا أمرهم به، شَقَّ عليهم، أو لم يشقّ. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة"، هذا حسب علمه، وأما الواقع فخلاف ذلك، فقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمضمضة، فقد ثبت ذلك في حديث لقيط بن صَبِرَة رضي الله عنه، الطويل، وفيه: "فبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، وفي رواية من هذا الحديث: "إذا توضّأت فمضمض"، أخرجهما أبو داود، وغيره.
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": إسناده صحيح، وقد ردّ في "التلخيص الحبير" ما أُعلّ به حديث لقيط المذكور من أنه لم يروه عن عاصم بن لقيط بن صَبِرة إلا إسماعيل بن كثير، وقال: ليس بشيء؛ لأنه رُوي عنه، وعن غيره، وصحّحه الترمذيّ، والبغويّ، وابن القطّان، وقال النوويّ: هو حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة. انتهى
(1)
.
والحاصل أن المذهب الصحيح مذهب من قال بوجوب المضمضمة، والاستنشاق، والاستنثار، في الوضوء والغسل جميعًا؛ لورود الأمر بكلّ ذلك، كما في حديث لقيط بن صبرة في المضمضة والاستنشاق، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً، ثم لينتثر"، متّفقٌ عليه، وأخرج الترمذيّ، والنسائيّ عن سلمة بن قيس رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا
(1)
راجع: شرحي على النسائيّ 2/ 380 - 381.
توضّأتَ فانتثر"، وهو حديث صحيح، وقد أشبعت الكلام في هذا في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في غسل الوجه:
قال العلّامة ابن رُشد رحمه الله في كتابه "بداية المجتهد": اتَّفَق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء؛ لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، واختلفوا منه في ثلاثة مواضع: في غَسْلِ البياض الذي بين العِذَار والأذن، وفي غسل ما انسَدَل من اللحية، وفي تخليل اللحية.
فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي، فيكون في المذهب ثلاثة أقوال.
وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: هو من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية، فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة، ولا الشافعيّ في أحد قوليه.
وسبب اختلافهم في هاتين المسألتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني: هل يتناولهما أو لا يتناولهما؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في غسل اليدين إلى المرفقين:
قال العلّامة ابن رُشد رحمه الله: اتَّفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية [المائدة: 6]، واختلفوا في إدخال المرافق فيها، فذهب الجمهور، ومالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها.
وذهب بعض أهل الظاهر، وبعض متأخري أصحاب مالك، والطبريّ إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل.
والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف "إلى"، وفي
(1)
راجع 2/ 357 - 361.
اسم "اليد" في كلام العرب، وذلك أن حرف "إلى" مرّةً يدل في كلام العرب على الغاية، ومرةً يكون بمعنى "مع"، و"اليد" أيضًا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان: على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جَعَل "إلى" بمعنى "مع"، أو فَهِمَ من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء، أوجب دخولها في الغسل، ومَن فَهِم من "إلى" الغاية، ومن "اليد" ما دون المرفق، ولم يكن الحدّ عنده داخلًا في المحدود لم يدخلهما في الغسل.
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل؛ لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء، وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل، وإن كانت "إلى" في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى "مع"، وكذلك اسم "اليد" أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يُحْمَل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى.
وقد قال قوم: إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وجوب غسل المرفقين مذهب العلماء كافّةً، إلا ما حكاه أصحابنا عن زُفر، وأبي بكر بن داود أنهما قالا: لا يجب غسل المرفقين والكعبين، واحتجّ الجمهور بقوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية، فذكر ابن قتيبة، والأزهريّ، وآخرون من أهل اللغة والفقهاء في كيفية الاستدلال بالآية كلامًا مختصرُهُ أن جماعةً من أهل اللغة، منهم أبو العبّاس ثعلب، وآخرون قالوا:"إلى" بمعنى "مع"، وقال أبو العبّاس المبرّد، وأبو إسحاق الزجّاج، وآخرون:"إلى" للغاية، وهذا هو الأصحّ والأشهر، فإن كانت بمعنى
(1)
"بداية المجتهد" 1/ 11 - 12.
"مع"، فدخول المرفق ظاهر، وإنما لم يدخل العضد للإجماع، وإن كانت للغاية، فالحدّ يدخل إذا كان التحديد شاملًا للحدّ والمحدود، كقولك: قطعت أصابعه من الخنصر إلى المسبِّحة، أو: بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه، فإن الإصبعين والشجرتين داخلتان في القطع والبيع بلا شكّ؛ لشمول اللفظ، ويكون المراد بالتحديد في مثل هذا إخراجَ ما وراء الحدّ مع بقاء الحدّ داخلًا، فكذا هنا اسم اليد شاملٌ من أطراف الأصابع إلى الإبط، ففائدة التحديد بالمرافق إخراج ما فوق المرفق مع بقاء المرفق.
ثم ذكر النوويّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم، وقال: وفعله صلى الله عليه وسلم بيان للوضوء المأمور به، ولم يُنقل تركه ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح القول بوجوب دخول المرفقين في الغسل؛ لأن الراجح أن الآية مجملة، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لها، فيكون ما فعله واجبًا إلا لدليل، كعدم وجوب التثليث، ونحوه، وقد أشبعت الكلام في هذا في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في مسح الرأس:
قال العلّامة ابن رُشد رحمه الله: اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه:
فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعيّ، وبعض أصحاب مالك، وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حَدّ هذا البعض بالثلث، ومنهم من حدّه بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحدّه بالربع، وحدّ مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يُجزه، وأما الشافعيّ فلم يَحُدّ في الماسح، ولا في الممسوخ حدًّا.
وأصل هذا الاختلاف الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرّةً تكون زائدة، مثل قوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} على قراءة من قرأ:
(1)
"المجموع" 1/ 385.
{تُنْبُتُ} بضم التاء وكسر الباء، من أنبت، ومرةً تدلّ على التبعيض، مثل قول القائل: أخذت بثوبه، وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مُبَعّضةً، وهو قول الكوفيين من النحويين.
فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله، ومعنى الزائدة ها هنا كونها مؤكِّدةً، ومن رآها مُبَعِّضة أوجب مسح بعضه.
وقد احتَجّ مَن رَجَّح هذا المفهوم بحديث المغيرة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة"، أخرجه مسلم.
وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ها هنا أيضًا احتمال آخر، وهو: هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء، أو بأواخرها؟ انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي مذهب من أوجب استيعاب الرأس بالمسح؛ لثبوته من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفعلُهُ بيان لمجمل الآية، والراجح أنها من قبيل المجمل، كما قال به بعض أهل العلم، وعزاه الشوكانيّ إلى ابن الحاجب، والزركشيّ، والزمخشريّ، ولم يصحّ في حديث واحد - كما قال ابن القيّم رحمه الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح بعض الرأس البتّة، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة، وأما حديث أنس رضي الله عنه عند أبي داود، "أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة"، فمقصوده أنه صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسّ الشعر كلّه، ولم يَنف التكميل على العمامة، وقد أثبته حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عند مسلم، وغيره بلفظ:"أنه صلى الله عليه وسلم توضّأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة"، على أن حديث أنس رضي الله عنه في إسناده نظرٌ - كما قال الحافظ رحمه الله فلا يَقْوَى لِمُعارضة حديث المغيرة رضي الله عنه.
والحاصل أن الأرجح وجوب استيعاب الرأس بالمسح، وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم تكرار مسح الرأس:
(1)
"بداية المجتهد" 1/ 12.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في عدد مسح الرأس، فقالت طائفة: يمسح برأسه مرةً، هذا قول ابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال طلحة بن مصرّف، والْحَكَم، وحماد، والنخعيّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله، والحسن البصريّ، ومجاهد، وأحمد، وأبو ثور.
وكان الشافعيّ يقول: يجزي مسحه مرةً، ويستحب أن يمسح ثلاثًا، وقال أصحاب الرأي: يمسح برأسه مرة واحدة وأذنيه، وقد روينا عن محمد بن سيرين أنه مسح رأسه مسحتين، وفيه قول ثالث، وهو أن يمسح برأسه ثلاثًا، رُوي هذا القول عن أنس بن مالك، وبه قال عطاء، وسعيد بن جبير، وزاذان، وميسرة، وقد روينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه مسح برأسه مرتين، ورُوي عنه غير ذلك، والثابت عنه أنه مسح برأسه، لم يذكر أكثر من مرة واحدة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
وقال ابن رُشد رحمه الله: اختلفوا في تكرير مسح الرأس: هل هو فضيلة، أم ليس في تكريره فضيلة؛ فذهب الشافعيّ إلى أنه من توضأ ثلاثًا ثلاثًا يمسح رأسه أيضًا ثلاثًا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره.
وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد، إذا أتت من طريق واحد، ولم يروها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي رُوي فيها أنه صلى الله عليه وسلم توضّأ ثلاثًا ثلاثًا من حديث عثمان وغيره لم يُنقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط، وفي بعض الروايات عن عثمان رضي الله عنه في صفة وضوئه أنه صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ثلاثًا، وعَضدَ الشافعيّ وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ، وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في "الصحيحين"، فإن صحت يجب المصير إليها؛ لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح أن القول بعدم مشروعيّة تكرار مسح
(1)
"بداية المجتهد" 1/ 103.
الرأس هو الصواب؛ للأحاديث الكثيرة الصحيحة بذلك، كحديث عثمان بن عفان، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وكلاهما في "الصحيحين"، وفي بعض رواياتهما التصريح بأنه مسح مرّة واحدةً، وأما الأحاديث الواردة في التثليث فكلها معلولة، لا تقاوم هذه الأحاديث الصحيحة. قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسّك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صحّ من الأحاديث الثابتة في "الصحيحين" وغيرهما من حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وغيرهما هو المتعيّن، لا سيّما بعد تقييده في تلك الروايات بالمرة الواحدة.
ومما يؤيّد ذلك حديث: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم"، صححه ابن خزيمة وغيره، فإنه قاضٍ بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المقالة، كيف، وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح مرّة واحدةً، ثم قال:"من زاد. . إلخ".
قال الحافظ رحمه الله: ويُحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحّت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلّة لجميع الرأس؛ جمعًا بين الأدلة. انتهى
(1)
.
والحاصل أن مسح الرأس مرّة واحدةً هو الحقّ؛ لما ذكرناه من الأدلّة، وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم أخذ الماء الجديد في مسح الرأس:
قال ابن المنذر رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في الرجل يمسح رأسه بما يَفْضُل في يده، من بلل الماء عن فضل الذراع، فقالت طائفة: المسح به جائزٌ، هذا قول الحسن، وعروة بن الزبير، ويجزئ ذلك عند الأوزاعيّ، ويُشبِه ذلك قول مالك؛ لأنه قال: لا أحب ذلك.
وقالت طائفة: لا يجزئ أن يمسح رأسه بفضل بلل ذراعيه؛ لأنه ماء
(1)
"الفتح" 1/ 357.
مستعمل، هذا مذهب الشافعيّ، وهو يشبه مذهب أصحاب الرأي.
قال ابن المنذر رحمه الله: والذي أحب أن يأخذ لمسح رأسه ماءً جديدًا، فإن لم يفعل، ومسح رأسه بما في يده من فضل الماء الذي غَسَلَ به ذراعيه رجوت أن يجزئه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بأخذ الماء الجديد للرأس هو الحقّ؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسيأتي للمصنّف رحمه الله حديث عبد الله بن زيد، وفيه:"ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يده"، وأما ما استدلّ به ابن المنذر من حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء رضي الله عنه قالت:"أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ، ومسح رأسه بماءٍ بَقِي من وضوئه"، فحديث ضعيف؛ لأنه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عنها، وهو ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في مسح الأذنين:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم فيمن ترك مسح الأذنين، فقالت طائفة: لا إعادة عليه، كذلك قال مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وقال إسحاق بن راهويه: وإن مسحت رأسك، ولم تمسح أذنيك عمدًا لم يجزك، وقال أحمد: إذا تركه متعمدًا أخشى أن يعيد.
قال ابن المنذر رحمه الله: لا شيء غليه؛ إذ لا حجة مع من يوجب ذلك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله إسحاق، وأحمد هو الأرجح؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد قدّمنا أن الأرجح أن فعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الآية، فليُتَنَبَّهْ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة عشرة): في اختلافهم في حكم أخذ الماء للأذنين:
قال ابن المنذر رحمه الله: روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُدخل إصبعيه بعدما يمسح برأسه في الماء، ثم يدخلهما في الصِّمَاخ، وكان مالك، والشافعيّ
(1)
" الأوسط" 1/ 392.
(2)
"الأوسط" 1/ 405.
يريان أن يأخذ المتوضئ ماءً جديدًا لأذنيه، وكذلك قال أحمد.
قال ابن المنذر رحمه الله: وغير موجود في الأخبار الثابتة التي فيها صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه لأذنيه ماءً جديدًا، بل في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه غَرَف غَرْفةً، فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما وباطنهما
(1)
.
وقد كان ابن عمر يُشَدِّد على نفسه في أشياء، من أمر وضوئه، من ذلك أخذه لأذنيه ماءً جديدًا، ونضحه الماء في عينيه، وغسل قدميه سبعًا سبعًا، وليس على الناس ذلك. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ.
وحاصله أن مسح الأذنين يكون بماء الرأس، ولا حاجة لتجديد الماء له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة عشرة): في اختلاف أهل العلم في غسل الرجلين إلى الكعبين:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قد أجمع عوام أهل العلم على أن الذي يجب على من لا خُفّ عليه غسل القدمين إلى الكعبين، وقد ثبتت الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه رضي الله عنهم، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك، وأصحابه من أهل المدينة وغيرهم، وكذلك قال سفيان الثوريّ، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة، والأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهما من أهل الشام، والليث بن سعد، ومن تبعه من أهل مصر، وهو قول عبيد الله بن الحسن، ومن وافقه من أهل البصرة، وكذلك قال الشافعي وأصحابه، وأبو ثور وغيره، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وكلِّ مَن حَفِظتُ عنه من أهل العلم.
قال: فأما من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب، فلم يختلفوا أن معناه الغسل، وقد اختَلَف الذين قرأوها بالخفض، فمنهم من قال: معناه المسح على القدمين، ومنهم من قرأها كذلك، وأوجب غسلها بالسنة، وممن كان يقرأ
(1)
حديث صحيحٌ، أخرجه أصحاب السنن.
{وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، وَيرَى الغسل أنس بن مالك، وروينا عن ابن عمر أنه قال: نزل جبريل بالمسح، وسَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم غسل القدمين، وقال الشعبيّ: نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسل.
وقد زعم بعض أهل العلم أن ليس في قراءة من قرأ {وَأَرْجُلِكُمْ} على الخفض ما يوجب المسح دون الغسل؛ لأن العرب ربما نَسَقَت الحرف على طريقة المجاور له، قال الأعشى [من الطويل]:
لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ
…
تَقَضّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ
قال: فخَفْضُ الثواءِ لمجاورته الحول، وهو في موضع رفع، قال: ولغةٌ معروفة لتميم قولهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، قال: والخرب صفة للجُحْر، فخفضوه لمجاورته الضب.
قال ابن المنذر رحمه الله: وغَسْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجليه، وقولُهُ:"ويلٌ للأعقاب من النار" كفايةٌ لمن وفقه الله للصواب، ودليلٌ على أن الذي يجب غسل القدمين، لا المسح عليهما؛ لأنه الْمُبَيِّنُ عن الله تعالى معنى ما أراد مما فَرَضَ في كتابه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال ابن رُشد رحمه الله: اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين: الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف.
وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء، أعني قراءة من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفًا على المغسول، وقراءة من قرأ {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض عطفًا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح، كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين، إما الغسل، وإما المسح، ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصَرَفَ بالتأويل
(1)
"الأوسط" 1/ 413 - 415.
ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده.
ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدَلَّ من الثانية على ظاهرها أيضًا جَعَل ذلك من الواجب المخيَّر، ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبريّ وداود.
وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ، لا على المعنى؛ إذ كان ذلك موجودًا في كلام العرب، مثل قول زهير [من الكامل]:
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا
…
بَعْدِي سَوَافِي الْمُورِ
(1)
وَالْقَطْرِ
بالخفض، ولو عُطِف على المعنى لرفع "القطرُ"، ولكنه جرّه بالجوار لِلْمُوْر.
وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع، كما قال الشاعر [من الوافر]:
فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
وقد رَجَّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال في قوم لم يَستوفُوا غسل أقدامهم في الوضوء: "ويل للأعقاب من النار"، متّفقٌ عليه، قالوا: فهذا يدلّ على أن الغسل هو الفرض؛ لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله
(2)
.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "الاستذكار" عند شرح حديث: "ويلٌ للأعقاب من النار": وفيه من الفقه غسل الرجلين، وفي ذلك تفسير لقوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فرُويت بخفض {وَأَرْجُلِكُمْ} ، ونصبها، وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل، لا مسحها؛ لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح، فدلّ على أن من جرّ الأرجل عطفها على اللفظ، لا على المعنى، والمعنى فيهما الغسل، على التقديم والتأخير، كأنه قال: فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق،
(1)
"السوافي": جمع سافية، وهي الريح الشديدة، و"المور" بالضمّ: التراب.
(2)
"بداية المجتهد" 1/ 15 - 16.
وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، والقراءتان صحيحتان مستفيضتان، ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح، وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، أو العطف على اللفظ، وكذلك قال أشهب عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، فقال: هو الغسل، وهذا التأويل تعضده سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم المجمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرّة، ومرّتين، وثلاثًا، وجاء أمره في ذلك موافقًا لفعله، فقال:"ويلٌ للعراقيب من النار"، و"ويلٌ للعراقيب، وبطون الأقدام من النار".
قال: وقد وجدنا العرب تَخفِض بالجوار، والإتباع على اللفظ، بخلاف المعنى، والمراد عندها المعنى، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:
كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
(1)
فخفض بالجوار، وإنما المزَمَّل الرجلُ، والإعراب فيه الرفع، وكذلك قوله أيضًا [من الطويل]:
صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
(2)
وكما قال زهير [من الكامل]:
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا
…
بَعْدِي سَوَافِي الْمُورِ
(3)
وَالْقَطْرِ
قال أبو حاتم: كان الوجه "والقَطْرُ" بالرفع، ولكنه جرّه بالجوار لـ"الْمُوْر"، كما قالت العرب:"هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ"، ومن هذه قراءة أبي عمرو:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] بالجرّ؛ لأن النحاس هو الدخان، وقراءة يحيى بن وَثَّاب:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} بالخفض، ومن هذا أيضًا قول النابغة [من البسيط]:
(1)
صدره: كَأَن ثَبِيرًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ.
"ثبير": اسم جبل، و"العرانين" جمع عِرْنين بكسر، فسكون، وهو الأنف، أو معظمه، و"الوبل": المطر الشديد، وأراد بعرانين الوبل: أوائل المطر الغزير، و"البجاد": كساء مخطّط، و"مزَمّل": متلفّف.
(2)
صدره: فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ.
و"الصفيف": المصفوف، و"القدير": اللحم المطبوخ في القِدرِ.
(3)
"السوافي": جمع سافية، وهي الريح الشديدة، و"المور" بالضمّ: التراب.
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ طَرِيدٍ غَيْرِ مُنْفَلِتٍ
…
أَوْ مُوثَقٌ فِي حِبَالِ الْقَدِّ مَسْلُوبِ
فخَفَضَ.
ومثله قول الآخر [من الخفيف]:
حَيِّ دَارًا أَعْلَامُهَا بِالْجَنَابِ
(1)
…
مِثْلُ مَا لَاحَ فِي الأَدِيمِ الْكِتَاب
فجرّ "الكتاب" بالجوار لـ"أديم"، وموضعه الرفع بـ "لاح"، وقد يكون "الكتاب" مخفوضًا ردًّا على "ما" بدلًا منه.
وقد يُراد بالمسح الغسل، من قول العرب: تمسّحتُ للصلاة، والمراد الغسل، وعلى التأويل الذي ذكرنا في إيجاب غسل الرجلين جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الآثار، وإنما رُوي مسح الرجلين عن بعض الصحابة والتابعين، وتعلّق به بعض المتأخّرين، ولو كان مسح الرجلين يُجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يَغسِل عقبيه، وعرقوبيه، أو فاته شيء من بطون قدميه؛ لأنه معلوم أنه لا يعذّب بالنار إلا على ترك الواجب، وقد أجمع المسلمون على أن من غسل قدميه فقد أدّى الواجب عليه، من قال منهم بالمسح، ومن قال بالغسل، فاليقين ما أجمعوا عليه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله بعد ذكره الخلاف، وأن سبب الاختلاف هو اختلاف القراءة في {وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض والنصب، قال: وقد أكثر الناس في تأويل هاتين الآيتين، والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطفٌ على الرأس، فهما يُمسحان، لكن إذا كان عليهما خفّان، وتلقّينا هذا القيد من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يصحّ عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفّان، والمتواتر عنه غسلهما، فبيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله الحال الذي تُغسل فيه الرجل، والحال الذي تُمسح فيه، فليُكْتَفَ بهذا، فإنه بلغ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
وقال العلّامة ابن أبي العزّ في "شرح العقيدة الطحاوية"(1/ 435) - عند قولها: "ونرى المسح على الخفّين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر" - ما نصه:
(1)
اسم موضع.
(2)
"الاستذكار" 2/ 47 - 51.
(3)
"المفهم" 1/ 496.
تواترت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، فيقال لهم: الذين نقلوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء قولًا وفعلًا، والذين تعلَّموا الوضوء منه، وتوضؤوا على عهده، وهو يراهم، ويُقِرُّهم، ونقلوه إلى من بعدهم أكثرُ عددًا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه، فإن هذا العمل لم يكن معهودًا عندهم في الجاهلية، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يُحْصِي عدده إلا الله تعالى، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين في ما شاء الله من الحديث، حتى نقلوا عنه من غير وجه في كتب الصحيح وغيرها، أنه قال:"ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار"
(1)
.
مع أن الفرض إذا كان مسح ظاهر القدم، كان غسل الجميع كُلْفَةً لا تدعو إليها الطباع، كما تدعو الطباع إلى طلب الرياسة والمال، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء، لكان في نقل لفظ آية الوضوء أقرب إلى الجواز، وإذا قالوا: لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب، ولا الخطأ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل، ولفظُ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة، فإن المسح كما يُطلَق ويراد به الإصابة، كذلك يطلق ويراد به الإسالة، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة، وفي الآية ما يدُلُّ على أنه لم يُرَدْ بمسح الرجلين المسحُ الذي هو قَسِيم الغسل، بل المسح الذي الغسلُ قسم منه، فإنه قال:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، ولم يقل: إلى الكعاب، كما قال:{إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فدلّ على أنه ليس في كل رجل كعب واحد، كما في كلِّ يَدٍ مرفقٌ واحدٌ، بل في كل رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاصّ يجعل المسح لظهور القدمين، وجَعْلُ الكعبين في الآية غايةً يَرُدُّ قولهم، فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مُجْتَمَعُ الساق والقدم عند مَعْقِد الشِّرَاك مردودٌ بالكتاب والسنة.
(1)
متفقٌ عليه، دون قوله:"وبطون الأقدام"، وهو عند أحمد في "مسنده" برقم (17253 و 17254 و 17258) بسند صحيح من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزُّبيديّ رضي الله عنه. انتهى.
وفي الآية قراءتان مشهورتان: النصب والخفض، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه، وقراءة النصب نصٌّ في وجوب الغسل، لأن العطف على المحل إنما يكون إذا كان المعنى واحدًا، كقوله:
فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
وليس معنى مَسَحْتُ برأسي ورجلي، هو معنى مسحت رأسي ورجلي، بل ذكر الباء يفيد مَعنًى زائدًا على مجرد المسح، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس، فتعين العطف على قوله:{وَأَيْدِيَكُمْ} مهو، فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض األناس من ظاهر القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن للناس لفظ القرآن ومعناه، كما قال أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ: حدّثنا الذين كانوا يُقرِئونا القرآن: عثمانُ بن عَفّان، وعبدُ الله بن مسعود، وغيرُهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها.
وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيهٌ على قلة الصبِّ في الرجلين، فإن السَّرَفَ يُعتاد فيهما كثيرًا، والمسألة معروفة، والكلام عليها في كتب الفروع. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله
(1)
، وهو كلام بحثٌ نفيسٌ أيضًا.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ، والصواب هو مذهب الجمهور القائلين بأن فرض الرجلين لمن لم يلبس الخفّين الغَسْلُ، ولا يُجزئ المسح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ينبغي أن أذكر بعض ما اختلفوا فيه من مسائل الوضوء، وإن لم يكن مذكورًا في هذا الحديث، تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعائدة، فأقول:
(المسألة السادسة عشرة): في اختلاف أهل العلم في وجوب النيّة في الوضوء:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله في كتابه "الأوسط"(1/ 368): قد اختَلَف أهل العلم فيمن توضأ، وهو لا ينوي بوضوئه الطهارة، فقالت طائفة: لا يُجزيه، كذلك قال الشافعيّ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك،
(1)
"شرح العقيدة الطحاويّة" ص 386 - 387.
وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وليس بين الوضوء والتيمم عندهم في ذلك فرق.
وفَرَّقَت طائفة بين الوضوء والتيمم، فقالت: يجزي الوضوء بغير نية، ولا يجزي التيمم إلا بنية، هذا قول سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، قال الثوريّ: إذا عَلَّمتَ رجلًا التيممَ، فلا يجزيك أن تصلي بذلك التيمم، إلا أن تكون نويت أنك تيَمَّمُ لنفسك، فإذا عَلَّمته الوضوء أجزأك.
وفيه قول ثالثٌ، حُكِي عن الأوزاعيّ، أنه قال في الرجل يُعَلِّم الرجل التيمم، وهو لا ينوي أن يتيمم لنفسه، إنما علّمه، ثم حضرت الصلاة، قال: يصلي على تيممه، كما أنه لو توضأ وهو لا ينوي الصلاةَ كان طاهرًا، هذه حكاية أبي المغيرة عنه، وبه قال الحسن بن صالح، وحَكَى الوليد بن مسلم عن الأوزاعيّ أنه قال: لا يجزيه في التيمم، ويجزيه في الوضوء، وحَكَى الوليد مثله عن مالك، والثوريّ.
قال ابن المنذر رحمه الله: أما حكايته عن الثوريّ فكما حَكَى؛ لموافقته حكاية الأشجعي، والْعَدَنيّ، وعبد الرزاق، والفاريابيّ عنه، وأما ما حكاه عن مالك، فما رواه أصحاب مالك عنه: ابنُ وهب، وابنُ القاسم أصحّ، والله أعلم.
قال ابن المنذر رحمه الله: دَلّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية" لَمّا عَمّ جميع الأعمال، ولم يَخُصّ منها شيئًا أن ذلك في الفرائض والنوافل، ثم بَيَّن تصرف الإرادات، فقال:"من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فغير جائزٍ أن يكون مؤدِّيًا إلى الله ما فَرَضَ عليه مَن دَخَل الماء، يُعَلِّم آخر السِّبَاحة بدرهم أَخَذه، أو مريدٌ للتبريد، أو مريدٌ لتأدية فرض؛ لأنه لم يُرِد الله قط بعمله، قال الله:{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} الآية [الشورى: 20].
قال رحمه الله: وإذا توضأ طهارةً مِن حَدَثٍ، أو طهارةً لصلاة فريضة أو نافلة، أو قراءةٍ، أو صلاةٍ على جنازة، فله أن يصلي به المكتوبة في قول الشافعيّ، وأبي عبيد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم من أصحابنا، وكذلك نقول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه الإمام ابن المنذر رحمه الله من وجوب النيّة في الوضوء والغسل، والتيمّم، وأنه إذا تطهّر بنية صلاة، أو رفع حدث، يصلّي ما يشاء فرضًا ونفلًا هو الحقّ؛ لظهور حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة عشرة): في اختلاف أهل العلم في وجوب التسمية في الوضوء:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في وجوب التسمية عند الوضوء، فاستحبّ كثير من أهل العلم للمرء أن يُسَمِّي الله تعالى إذا أراد الوضوء، كما استحبوا أن يسمي الله عند الأكل والشرب والنوم، وغير ذلك؛ استحبابًا لا إيجابًا، وقال أكثرهم: لا شيء على من ترك التسمية في الوضوء، عامدًا أو ساهيًا، هذا قول سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي، واغتسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعلى بن أمية يستر عليه بثوب، فقال: بسم الله.
وكان أحمد يقول: لا أعلم له حديثًا له إسناد جيدٌ، وضَعَّف حديث ابن حرملة، وقال: ليس هذا حديثًا أَحْكُم به، وكان إسحاق بن راهويه يقول في التسمية: إذا نسي أجزأه، وإذا تعمد أعاد لما يصح
(1)
ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحَكَى آخر عن إسحاق أنه قال: الاحتياط الإعادة، من غير أن يبين إيجاب الإعادة.
قال ابن المنذر رحمه الله: ليس في هذا الباب خبر ثابتٌ يوجب إبطال وضوء من لم يذكر اسم الله عليه، فالاحتياط أن يُمسمي الله من أراد الوضوء والاغتسال، ولا شيء على من ترك ذلك. انتهى
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: أحاديث التسمية على الوضوء كلّها ضعاف، كما سبق عن أحمد، وغيره، ولكن بعض العلماء يرى لها قوّة بمجموع طرقها، قال
(1)
هكذا النسخة، ولعله:"لم يصحّ"، والله أعلم.
(2)
"الأوسط" 1/ 367 - 368.
الحافظ في "التلخيص الحبير": والظاهر أن مجموع الأحاديث يَحدُث منها قوّة، تدلّ على أن له أصلًا، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبتٌ لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله، وقال البزّار: لكنه مؤوّلٌ، ومعناه أنه لا فضل لوضوء من لم يذكر اسم الله، لا على أنه لا يجوز وضوء من لم يسمّ. انتهى.
واستدلّ البيهقيّ رحمه الله على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء، كما أمر الله، فيغسل وجهه
…
" الحديث
(1)
، قال البيهقيّ: فهذا الحديث ليس فيه ذكر التسمية، فلو كان واجبًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والحاصل أن أحاديث التسمية على فرض صحّتها محمولة على الاستحباب بدليل هذا الحديث، ولا يرد عليه القول بوجوب المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار؛ لأنها داخلة في غسل الوجه، وقد أشبعت الكلام في هذا الموضوع في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم تخليل اللحية:
ذهب مالك إلى أنه ليس بواجب، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك.
قال ابن رُشد رحمه الله: سبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية، والأكثر على أنها غير صحيحة، مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها التخليل. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله
(2)
.
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في تخليل اللحية، وغسل باطنها، فرُوي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم أنهم كانوا يُخَلِّلون لحاهم، فممن رُوي ذلك عنه عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن بن عليّ، وابن عمر، وأنس، وهو قول عبد الرحمن بن أبي ليلى،
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"(856).
(2)
"بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" 1/ 11.
وعطاء بن السائب، وأبي ميسرة، ومجاهد، ومحمد بن سيرين.
ورُوي عن غير واحد أنهم رَخّصوا في ترك تخليل اللحية، رُوي ذلك عن ابن عمر، والحسن بن عليّ، وهذا قول طاوس، والنخعيّ، وأبي العالية، والشعبيّ، ومحمد بن عليّ، ومجاهد، والقاسم، وقال سعيد بن عبد العزيز، والأوزاعيّ: ليس عَرْك العارضين، وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء، وكان سفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، لا يرون تخليل اللحية واجبًا، وهذا قول أصحاب الرأي، وعوامّ أهل العلم أنّ ما مرّ على ظاهر اللحية من الماء يكفي. وأوجبت طائفة بَلَّ أصول شعر اللحية، وأوجب بعضهم غسل بشرة موضع اللحية، كان عطاء بن أبي رباح يَرَى بَلَّ أصول شعر اللحية.
قال ابن المنذر: غسل ما تحت شعر اللحية غير واجب؛ إذ لا حجة تدل على إيجاب ذلك، بل الخبر والنظر يدلان على أن ذلك غير واجب، فأما الخبر فقد ثبتٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، يَغْرِف غرفة لكل عضو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية، ومعلوم أنه إذا كان كذلك أن غسل ما تحت اللحية غير ممكن بغرفة واحدة، وكان يتوضأ بالمد، والمتوضئ بالمدّ غير قادر على غسل أصول شعر اللحية، قال: وفي إجماع أهل العلم فيما أعلم أن المتيمم لا يجب عليه إمساس باطن اللحية الغبارَ دليلٌ على صحة ما قلنا، وذلك أن الوجه الذي أُمر المتيمم أن يمسحه بالصعيد، هو الوجه الذي أُمر المتوضئ أن يغسله بالماء، والأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خَلَّل لحيته قد تُكُلّم في أسانيدها، وأحسنها حديث عثمان، ثم أخرج بسنده عن عامر بن شقيق بن سَلَمَة، أن عثمان رضي الله عنه توضأ، فخلل لحيته، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
(1)
.
قال ابن المنذر: ولو ثبتٌ هذا لم يدُلّ على وجوب تخليل اللحية، بل
(1)
في إسناده عامر بن شقيق: ضعفه الأكثرون، ووثقه ابن حبّان، وقال النسائيّ: لا بأس به، وصحح حديثه هذا الترمذيّ، ونقل عن البخاريّ أنه قال: أصحّ شيء في هذا الباب.
يكون ندبًا كسائر السنن في الوضوء. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد كنت رجّحت في شرح النسائيّ عدم وجوب تخليل اللحية كما يراه ابن المنذر وغيره، لكن الآن ترجّح عندي وجوبه؛ لثبوت الأحاديث بمجموع طرقها، كما بينت ذلك هناك، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لآية الوضوء؛ لأن الراجح أنها مجملة، ودلالة الآية على الوجوب واضح، فيكون فعله صلى الله عليه وسلم واجبًا؛ لكونه بيانًا لها، ولا يُخْرَج عن هذه القاعدة إلا إذا ثبتٌ نصّ، أو إجماع يدلّ على الاستحباب، كتثليث الغَسَلات، وهذه المسألة ليس فيها إجماع، كما سبق في كلام ابن المنذر، فقد أوجب التخليل بعض السلف، فيكون قولهم أرجحَ؛ لرجحان حجتهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
وكذلك يجب تخليل أصابع اليدين والرجلين؛ لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه، قال:"قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؛ قال: أسبغ الوضوء، وخَلِّل بين الأصابع"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم تفريق غسل الأعضاء:
قال ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في تفريق الوضوء والغسل، فقالت طائفة: لا يجوز ذلك، حتى يُتْبع بعضه بعضًا، روينا عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلًا يصلي، وقد ترك مثل موضع الظفر، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، وكان قتادة، والأوزاعيّ يقولان: إذا ترك غسل عضو من الأعضاء حتى جَفّ الوضوء أعاد الوضوء، وكان ربيعة يقول: تفريق الغسل مما يُكره، وإنه لا يكون غسلًا حتى يُتبع بعضه بعضًا.
وقال مالك: من تعمد ذلك، فإني أرى عليه أن يُعيد الغسل، وقال الليث بن سعد كذلك، مع أن قول مالك مختلف في هذا الباب، وقد حَكَى ابن القاسم عنه أنه قال: إن قام لأخذ الماء، وكان قريبًا بنى على
(1)
"الأوسط" 1/ 381 - 386.
(2)
حديث صحيح أخرجه أبو داود، وغيره بإسناد صحيح.
وضوئه، وإن تطاول ذلك وتباعد، فأرى أن يعيد الوضوء من أوله.
وقال أحمد: إذا جَفّ وضوؤه يعيدُ، وذكر حديث عمر.
وأجازت طائفة تفريق الوضوء والغسل. ثبتٌ أن ابن عمر توضأ بالسوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم دُعي لجنازة، فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها.
وكان عطاء لا يرى بتفريق الوضوء بأسًا، وأباح ذلك النخعيّ في الغسل، وكان الحسن، والنخعيّ لا يريان بأسًا للجنب أن يغسل رأسه، ثم يوخر غسل جسده بعد ذلك، ورُوي معنى ذلك عن سعيد بن المسيب، وطاوس، وهذا على مذهب الثوريّ، وممن رأى ذلك جائزًا الشافعيّ، وأصحاب الرأي.
قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الله جل ذكره أوجب في كتابه غسل أعضاء، فمن أَتى بغسلها، فقد أتى بالذي عليه، فَرّقها، أو أتى بها نَسَقًا متتابعًا، وليس على من جعل حدَّ ذلك الجفوف حجة، وذلك يختلف في الشتاء والصيف. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ.
وحاصله أنه يجوز التفريق بين أعضاء الوضوء في الغسل؛ إذ ليس لإيجابه حجة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العشرون): في اختلافهم في وجوب الترتيب في غسل الأعضاء:
قال ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في رجل توضأ فبدأ، فغسل يديه أو رجليه قبل وجهه، أو قدَّم عضوًا على عضو، فقالت طائفة: وضوؤه تامّ، وروينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء.
وممن رأى تقديم الأعضاء بعضها على بعض جائزًا عطاء بن أبي رباح، والحسن البصريّ، وسعيد بن المسيب، وقد رَوَينا في هذا الباب عن علي بن أبي طالب، وعطاء، والنخعيّ، والحسن، ومكحول، والزهريّ، والأوزاعيّ فيمن نَسِي مسحَ رأسه، فوجد في لحيته بللًا، قالوا: يمسح رأسه، ويستقبل الصلاة، ولم يأمروه بإعادة غسل الرجلين، وفي قول الثوريّ، وأصحاب الرأي
إذا نسي المسح مسح، وأعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء، وكان مالك يقول فيمن غسل ذراعيه قبل وجهه، ثم صَلَّى: لا إعادة عليه.
وقالت طائفةٌ: مَن قَدَّم عضوًا على عضو فعليه أن يعيد حتى يغسله في موضعه، هكذا قال الشافعيّ، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور.
واحتج الشافعيّ بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، وبأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد الصفا قال:"نبدأ بما بدأ الله به"، قال الشافعيّ: ولم أعلم مخالفًا أنه إن بدأ بالمروة قبل الصفا أَلْغَى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. قال: وكما قلنا في الجمار: إن بدأ بالآخرة قبل الأولى أعاد، فكان الوضوء في هذا المعنى، وأوكد من بعضه. عندي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الإمام الشافعيّ ومن معه أرجح؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "نبدأ بما بدأ الله به"، بل روي بصيغة الأمر:"ابدءوا بما بدأ الله"، وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم واظب عليه، فكل الأحاديث الصحيحة وصفت وضوءه مرتّبًا كما في الآية. قال إمام الحرمين: لم ينقل أحدٌ قطّ أنه صلى الله عليه وسلم نكّس وضوءه، فاطّرد الكتاب والسنّة على وجوب الترتيب. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية والعشرون): في اختلافهم في حكم التمسّح بالمنديل بعد الوضوء:
قال ابن المنذر رحمه الله: رحمه الله اختَلَف أهل العلم في التمسح بالمنديل بعد الوضوء والاغتسال، فممن رَوينا عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان بن عفان، والحسين بن عليّ، وأنس بن مالك، وبَشير بن أبي مسعود، ورَخّص فيه الحسن، ومحمد بن سيرين، وعلقمة، وا لأسود، ومسروق، والضحاك بن مزاحم، وكان مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، وأحمد، وأصحاب الرأي لا يرون به بأسًا.
وفيه قول ثانٍ، روينا عن جابر بن عبد الله، أنه قال: إذا توضأت، فلا
(1)
"الأوسط" 1/ 423 - 424.
(2)
راجع "عمدة القاري" 2/ 305.
تمندل، وكَرِه ذلك عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم النخعيّ، ومجاهد، وابن المسيب، وأبو العالية، واختُلِف فيه عن سعيد بن جبير، ورَوينا عن ابن عباس أنه كَرِه أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه إذا اغتسل من الجنابة، وكان سفيان يُرَخِّص فيهما جميعًا: الوضوء والاغتسال.
قال ابن المنذر رحمه الله: أعلى شيء رُوي في هذا الباب خبران: خبر يدلّ على إباحة أخذ الثوب ينشف به، والخبر الآخر يدلّ على ترك ذلك، فأما الخبر الأول، فحدثونا عن إسحاق بن راهويه، ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرَارة، عن محمد بن عمرو بن شُرَحبيل، عن قيس بن سعد، قال: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضعنا له غُسلًا، فاغتسل، ثم أتيناه بِمِلْحَفة وَرْسِيّة، فالتحف بها، فكاني أنظر إلى أثر الْوَرْس على عُكَنه
(1)
.
والخبر الثاني: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطارديّ، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت:"وَضعت للنبيّ صلى الله عليه وسلم غُسلًا، فلما فرغ ناولته منديلًا، فلم يأخذه، وجعل ينفُض بيديه"، متّفقٌ عليه.
قال ابن المنذر رحمه الله: وهذا الخبر لا يوجب حَظْر ذلك، ولا المنع منه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، مع أنه قد كان يَدَع الشيء المباح؛ لئلا يشقّ على أمته، من ذلك قوله لبني عبد المطلب:"لولا أن تُغْلَبوا على سقايتكم لنزعت معكم"، ودخل الكعبة، وقال بعد دخوله:"لوددت أني لم أكن دخلتها، أخشى أن أكون أتعبت أمتي".
وحديثُ قيس بن سعد يدلّ على إباحة ذلك، فأخذ المنديل مباح بعد الوضوء والاغتسال. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، إلا استدلاله بحديث قيس رضي الله عنه؛ لأنه ضعيف؛ لضعف محمد بن أبي ليلى، فالأولى
(1)
جمع عُكْنة بالضمّ: الطيّ في البطن من السمن. انتهى "القاموس"، والحديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه برقم (459 و 3594)، وفي إسناده محمد بن أبي ليلى ضعيف الحفظ.
الاستدلال بعدم ورود نصّ مانع منه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية والعشرون): في اختلاف أهل العلم في البدء بالميامن في الوضوء:
قال ابن المنذر رحمه الله: ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه التيمن ما استطاع في ترجُّله، وتنعّله، ووضوئه.
ورَوَينا عنه أنه قال: "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم "
(1)
.
قال ابن المنذر رحمه الله: وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ، فغسل يده اليمنى، ثم اليسرى في وضوئه، وكذلك يفعل المتوضئ إذا أراد اتباع السنة.
وممن مذهبه أن المتوضئ يبدأ بيمينه قبل يساره: مالك، وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل العراق، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
قال: وأجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، وقد روينا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، أنهما قالا: لا تبالي بأيّ يديك بدأت، وعن علي أيضًا قال: لا يضرك بأي يديك بدأت، ولا بأي رجليك بدأت، ولا على أي جانبيك انصرفت، وعن ابن مسعود قال: ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى أو اليسرى. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر وجوب التيامن في الوضوء والغسل؛ لأمره صلى الله عليه وسلم به، وهو للوجوب، ولمداومته عليه، لكن إن صحّ الإجماع، كما زعمه ابن المنذر، فذاك، وإلا فالأمر كما قلتُ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة والعشرون): في اختلافهم في حكم تحريك الخاتم في الوضوء:
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لَبِستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم".
(2)
"الأوسط" 1/ 386 - 387.
قال ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في تحريك الخاتم في الوضوء، فممن رُوي عنه أنه حَرَّك خاتمه في الوضوء: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، ومحمد بن سيرين، وعمرو بن دينار، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وهو قول ابن عيينة، وأبي ثور.
ورَخّصت فيه طائفة، فممن رَخّص فيه: مالك، والأوزاعيّ، وقال خالد بن أبي بكر: رأيت سالم بن عبد الله يتوضأ، وخاتمه في يده، فلا يحركه.
وفيه قول ثالث، وهو أن يُحيله بحركة إن كان ضَيّقًا، ويَدَعَه إن كان واسعًا سَلِسًا، هكذا قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وبه قال أحمد بن حنبل، وكذلك نقول. انتهى كلام ابن المنذ رحمه الله، وهو حسنٌ جدًّا.
وحاصله أن تحريك الخاتم يلزم إن كان ضيّقًا لا يصل الماء إلى ما تحته؛ لأن وصول الماء إلى البشرة واجب، وأما إذا كان واسعًا لا يمنع وصول الماء، فلا يلزم تحريكه، ويمكن حمل قول من أطلق القول بالتحريك، وبعدمه على هذا التفصيل، فلا اختلاف في الحقيقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[545]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اَللَّيْثيّ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، أنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأفرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاء، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِه، ثُمَّ كَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُؤيي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْن، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10]، (ت 234) عن (74) سنة (خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.
وقوله: (فَأفرَغَ) أي صبّ الماء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ فَضْلِ إِحَسَانِ الْوُضُوء، وَالصَّلَاةِ عَقِبَهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[546]
(227) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِد، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ عِنْدَ الْعَصْر، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَأُحَدَّثَنَّكُمْ حَدِيثًا، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ، إِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، فَيُصَلِّي صَلَاةً، إِلا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتي تَلِيهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو المعروف بابن راهويه، تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(جَرِير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفي، ثم الرازيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
6 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيه [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه عثمان، وإسحاق، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ لقتيبة" يعني أن لفظ هذا الحديث لشيخه قتيبة، وأما عثمان، وإسحاق، فروياه بمعناه.
5 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال إسحاق .. إلخ " يعني أن شيوخه اختلفوا في صيغة الأداء، فقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا جرير، وقال قتيبة، وعثمان: حدّثنا جرير، والفرق بين الصيغتين أن "أخبرنا" تفيد أنه سمع الحديث يُقرأ على الشيخ، و"حدّثنا" تفيد أنه سمعه من لفظ الشيخ، وقد تقدّم هذا غير مرّة.
[تنبيه]: قوله: "جرير" تنازعه كلّ من "أخبرنا" و"حدّثنا"، فأُعمِل الثاني عند البصريين؛ لقربه، وأُعمِل الأول عند الكوفيين؛ لتقدّمه، كما أشار إلى ذلك في "الخلاصة" بقوله:
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أَسْرَهْ
6 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: هشام، عن أبيه، عن حمران.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: هشام، عن عروة.
8 -
(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُمْرَانَ) - بضم، فسكون - ابن أبان (مَوْلَى عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ)"أل" فيه للعهد، والمقصود: المسجد النبويّ في المدينة، و"الْفِنَاءُ" - بكسر الفاء، بوزن كتاب -: الْوَصِيدُ، وهو سَعَةٌ أَمام البيت، وقيل: ما امتدّ من جوانبه؛ قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال المجد: فِنَاءُ البيت، ككِسَاء: ما اتّسع من أمامها، جمعه أَفْنيةٌ، وفُنِيّ. انتهى
(2)
، وفي رواية أبي أنس:"أن عثمان توضّأ بالمقاعد"(فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ عِنْدَ الْعَصْرِ) أي وقت حضور صلاة العصر، وفي رواية "الموطّأ":"فجاء المؤذّن، فآذنه بصلاة العصر"، قال في "التمهيد": يريد: أعلمه بحضورها، ومن هذا قول الحارث بن حِلِّزَةَ
(3)
:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ
(فَدَعَا) أي طلب عثمان رضي الله عنه (بِوَضُوءٍ) بفتح الواو: أي بماء يَتوضّأ به (فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا) منصوب على أنه مفعول ثانٍ لـ"أُحدّثنّكم"(لَوْلَا آيَةٌ)"لولا" كلمة وُضعت لربط امتناع الثاني بوجود الأول، و"آية" مبتدأ حُذف خبره وجوبًا، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "لَوْلَا" غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ
…
حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اشْتَهَرْ
أي آية موجودة، أو ثابتةٌ.
ووقع في نسخة شرح النوويّ بلفظ: "لولا أنه " بالنون المشدّدة، والهاء، بدل "لولا آية"، والهاء ضمير الشأن، قال النوويّ رحمه الله: معناه لولا أن الله تعالى أوجب على مَن عَلِمَ علمًا إبلاغَهُ لما كنت حريصًا على تحديثكم، ولست مُكْتَرِثًا بتحديثكم، وهذا كله على ما وقع في الأصول التي ببلادنا، ولأكثر الناس من غيرهم "لولا آية" بالياء، ومدّ الألف، قال القاضي عياض رحمه الله: وقع
(1)
"المصباح المنير" 2/ 482.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1189.
(3)
بكسر الحاء، وتشديد اللام المكسورة، كما تُفيده عبارة "القاموس".
للرواة في الحديثين "لولا آية" بالياء إلا الباجيّ، فإنه رواه في الحديث الأول "لولا أنه" بالنون، قال: واختلف رواة "الموطّأ" عن مالك في هذين اللفظين، واختَلَف تأويل العلماء في ذلك، ففي رواية مسلم قال عروة: الآية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الآية [البقرة: 159] وعلى هذا لا تصح الرواية إلا "آية"، ويريد لولا الآية التي حَرَّجت كتمان العلم، وفي "الموطأ": قال مالك: أراه يريد هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الآية [هود: 114] وعلى هذا تصح الروايتان، ويكون معنى رواية النون: لولا أن معنى ما أحدثكم به في كتاب الله تعالى ما حدثتكم به؛ لئلا تتكلوا، قال النوويّ رحمه الله: والصحيح تأويل عروة. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": ومراد عثمان رضي الله عنه أن هذه الآية تُحَرّض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب، لكن العبرة بعموم اللفظ، وإنما كان عثمان رضي الله عنه يرى ترك تبليغهم ذلك لولا الآية المذكورة؛ خشيةً عليهم من الاغترار، والله أعلم، وقد روى مالك هذا الحديث في "الموطّأ" عن هشام بن عروة، ولم يقع في روايته تعيين الآية، فقال من قِبَل نفسه: أراه يريد: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . انتهى، وما ذكره عروة راوي الحديث بالجزم أولى، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي كِتَابِ اللهِ) متعلّق بصفة لـ"آيةٌ"، وجواب "لولا" قوله:(مَا حَدَّثْتُكُمْ) حُذِف مفعوله الثاني، وقد ذكره في الرواية التالية حيث قال:"ما حدّثتكموه".
(إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ) التعبير بالرجل من باب التغليب، وإلا فالحكم شامل للمرأة أيضًا (فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ) بضم حرف المضارعة، من الإحسان، أي: يأتي به تامًّا بكمال صفته، وآدابه، وقال العينيّ رحمه الله: معنى إحسان الوضوء: الإتيان به تامًّا بصفته وآدابه، وتكميل سننه، فقوله:"فيُحسن" بالرفع عطف على قوله: "لا يتوضّأ"، والفاء فيه ليست للترتيب، والتعقيب؛ لأن إحسان الوضوء ليس متأخّرًا عن الوضوء حتى يُعطف
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 111.
(2)
"الفتح" 1/ 314 رقم (160).
عليه بالفاء التعقيبيّة، وإنما هي واقعة موقع "ثُمّ" التي لبيان المرتبة وشرفها؛ دلالةً على أن الإحسان في الوضوء، والإجادة فيه بمحافظة السنن، ومراعاة الآداب أفضل وأكمل من أداء ما وجب مطلقًا، ولا شكّ أن الوضوء الْمُحْسَن فيه أعلى رتبةً من غير الْمُحسَن فيه. انتهى
(1)
.
(فَيُصَلِّي صَلَاةً) ولفظ البخاريّ: "ويصلّي الصلاةَ"، والمراد بها المكتوبة؛ لما في الرواية الآتية من طريق عمرو بن سعيد، عن عثمان:"ما من امرئ مسلم، تحضره صلاة مكتوبة"، وفي رواية جامع بن شدّاد، عن حُمران الآتية أيضًا:"فيُصلّي هذه الصلوات الخمس"(إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَهُ) وفي نسخة: "إلا غُفِر له"، فيكون بالبناء للمفعول، ثم إن المستثنى محذوف؛ لأن الفعل لا يقع مستثنًى، والتقدير: لا يتوضّأ رجلٌ إلا رجلٌ غفر الله له، أو التقدير: لا يتوضّأ رجل في حال من الأحوال، إلا في حال المغفرة، فيكون الاستثناء من عموم الأحوال
(2)
.
(مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهَا") أي التي بعدها، ففي رواية البخاريّ:"حتى يصلّيها"، وفي رواية مالك في "الموطأ":"التي تليها حتى يصليها"، ومعنى "حتى يصلّيها": أي يشرع في الصلاة الثانية؛ قاله في "الفتح"
(3)
، وقال في "العمدة": حتى يفرغ منها، وهو أظهر
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
- مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 546 و 547 و 548](227)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(159)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(174)، و (مالك) في "الموطّأ"(56)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(141)، و (الطيالسيّ) في
(1)
"عمدة القاري" 3/ 18 - 19.
(2)
راجع "عمدة القاري" 3/ 19.
(3)
1/ 314.
(4)
"عمدة القاري" 3/ 19.
"مسنده"(1/ 48)، و (الحميديّ) في "مسنده"(35)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 57)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1041)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(608 و 609 و 610)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(541 و 542)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(152)، و (البيهقيّ) في "المعرفة"(1/ 225)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل إحسان الوضوء.
2 -
(ومنها): بيان فضل الصلاة عقب الوضوء.
3 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قول عثمان رضي الله عنه: "والله لأحدّثنّكم" جواز الحلف من غير ضرورة الاستحلاف.
4 -
(ومنها): الحثّ على الاعتناء بتعلُّم آداب الوضوء، وشروطه، والعمل بذلك، والاحتياط فيه، والحرص على أن يتوضأ على وجه يَصِحّ عند جميع العلماء، ولا يترخص بالاختلاف، فينبغي أن يَحْرِص على التسمية، والنية، والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، واستيعاب مسح جميع الرأس، ومسح الأذنين، ودَلْك الأعضاء، والتتابع في الوضوء، وترتيبه، وغير ذلك من المختلَف فيه، وتحصيل ماء طَهُور بالإجماع؛ قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
5 -
(ومنها): التعليم بالفعل؛ لكونه أبلغ، وأضبط في إيصال العلم للمتعلّم.
6 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "فجاءه المؤذّن" مشروعيّة إتيان المؤذّن للإمام؛ لإعلامه بحضور الصلاة.
7 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "لولا آية في كتاب الله" أن كتمان العلم حرام، والآية كما فهمها عروة هي قوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]، وهي وإن كانت نزلت في أهل الكتاب، لكن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فيدخل فيها كلُّ من عَلِمَ علمًا أمر الله العباد
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 111.
بالعمل به، فيلزمه من عدم تبليغه ما لزم أهل الكتاب، ففيها تنبيه وتحذير لمن فَعَل فعلهم، وسَلَك سبيلهم، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد عَمَّ في الحديث المشهور عنه:"مَن كَتَمَ علمًا، أَلجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"
(1)
، قاله القاضي عياض رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[547]
(
…
) - (وَحَدَّثنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا وَكِيعٌ (حَ) وَحَدَّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، جَمِيَعًا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإَسْنَاد، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ:"فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر العدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، رأس الطبقة [8](ت 198) عن (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ) يعني الثلاثة، وهم: أبو أسامة، ووكيعٌ، وسفيان بن عيينة.
(1)
حديث صحيح، رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال الحاكم: صحيح لا غبار عليه.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 16 - 18.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد هشام السابق، وهو: عن أبيه، عن حُمران، عن عثمان رضي الله عنه.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: "فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ") يعني أن أبا أُسامة وقع في روايته: "فيحسن وضوءه" بدل قول الآخرين: "فيُحسن الوضوء"، وقال أيضًا:"ثم يصلّي المكتوبة" بدل قولهم: "فيُصلّي صلاةً".
[تنبيه]: رواية أبي أسامة التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية جرير لم أجد من أخرجها بمفردها، كأنما أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 192) من رواية محاضر بن المورع، وأبي أسامة فرّق بينهما كلاهما عن هشام، ولفظه:
(608)
حدثنا محمد بن يحيى، والصغانيّ قال: ثنا محاضر بن المورِّع قال: ثنا هشام بن عروة عن أبيه (ح) وحدثنا محمد بن عبد الرحمن الجعفيّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران مولى عثمان بن عفان، عن عثمان بن عفان، قال: توضأ عثمان بالمقاعد، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم صلى، غفر الله له ما بينه وبين الصلاة الأخرى". انتهى.
وأما رواية وكيع فلم أجد من أخرجها منفردةً، بل أخرجها أبو نعيم في "مستخرجة"(1/ 292 - 293) وساقها بالتحويل مع رواية سفيان، وأبي أسامة، فقال:.
(541)
حدثنا أبو عليّ، محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا عبد الله بن الزبير الحميديّ، ثنا سفيان بن عينية، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه (ح) وحدثنا الطلحي عبد الله بن يحيى، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة.
وحدثنا محمد بن إبراهيم، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، وحدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق المعدّل، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء بن كريب، ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران مولى عثمان، قال: توضأ
عثمان على المقاعد ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يصلي، إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها".
لفظ الحميديّ، وابن أبي عمر سواء. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[548]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ، أنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: وَاللهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا، وَاللهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتي تَلِيهَا"، قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إِلَى قَوْلِهِ: {اللَّاعِنُونَ}).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4](ت بعد 130 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ" هو الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ، وأبوه هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه اجتمع فيه أربعةٌ تابعيون، مدنيون، يروي بعضهم عن بعض: صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن حُمران.
وفيه أيضًا لطيفة أخرى، وهو أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن صالح بن كيسان أكبر سنًّا من الزهري، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 112.
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) تُقَدِّرُ لفظة "قال" قبله، فتقول:"قال: قال ابن شهاب"، ففاعل "قال" الأول ضمير صالح، والثاني "ابنُ شهاب".
وقوله: (وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ)"لكن" بتخفيف النون، ويجوز تشديدها، وهذا الاستدراك متعلّق بحديث قبله وقع لابن شهاب بسند آخر، وقد ساقه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(160)
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسيّ، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان، دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، غُفِر له ما تقدم من وعن إبراهيم، قال: قال صالح بن كيسان: قال ابن شهاب: ولكن عروة يحدث عن حمران، فلما توضأ عثمان قال: ألا أحدثكم حديثًا، لولا آية ما حدثتكموه؟ سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يتوضأ رجل يحسن وضوءه، ويصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة، حتى يصليها". قال عروة: الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159]. انتهى.
فأشار ابن شهاب رحمه الله بقوله: "ولكن عروة يُحدّث .. إلخ" إلى أن شيخيه اختلفا في روايتهما له عن حمران، عن عثمان، فحدّثه عطاء بن يزيد على صفة، وحدّثه عروة على صفة أخرى.
قال الحافظ رحمه الله: وليس هذا اختلافًا، وإنما هما حديثان متغايران، وقد رواهما معاذ بن عبد الرحمن، فأخرج البخاريّ من طريقه نحو سياق عطاء، ومسلم من طريقه نحو سياق عروة، وأخرجه أيضًا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه - يعني الرواية السابقة -. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 1/ 314.
وقوله: (لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ) وأشار في نسخة محمد ذهني إلى أنه وقع في بعض النسخ: "لا يتوضّأُ رجلٌ مسلم".
وقوله: (ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ) يعني المكتوبة، كما تقدّم بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[549]
(228) - (حَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيد، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاص، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَدَعَا بِطَهُورٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوب، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) أبو محمد الْكِسِّيُّ، ثقةٌ حافظ [11](249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11]، (259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(أَبُو الْوَلِيدِ) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227)(ع) 5/ 62.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) الأمويّ السعيديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7].
رَوَى عن أبيه، وعكرمة بن خالد، ويحيى بن الحكم بن أبي العاص.
ورَوَى عنه ابن عيينة، وأبو داود الطيالسيّ، ووكيع، وأبو النضر، وأحمد بن يعقوب المسعوديّ، وأبو نعيم، وأبو الوليد الطيالسيّ، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وهو أحبّ إليّ من
أخيه خالد، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال الدارقطنيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الرابعة.
قال أبو داود: مات سنة (170)، وقال البخاريّ: يقال: مات سنة (176).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف له عنده هذا الحديث فقط، وأبو داود والترمذيّ، وابن ماجه.
5 -
(أَبُوه) سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، أبو عثمان، ويقال: أبو عنبسة الأُمويّ، كان مع أبيه إذ غَلَب على دمشق، ثم سكن الكوفة، ثقةٌ، من صغار [3].
أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الحكم، وخالد ابني أبي أُحيحة سعيد بن العاص، ورَوَى عن أبيه، وعن معاوية، والعبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وعائشة، وأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده: خالد، وإسحاق، وعمرو، وحفيده: عمرو بن يحيى بن سعيد، والأسود بن قيس، وشعبة، وغيرهم.
قال أبو زرعة، والنسافي: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال الزبير: كان من علماء قريش بالكوفة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر ابنُ عساكر أنه بقي إلى أن وَفَد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقال الكنانيّ عن أبي حاتم. هو ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ، والمصنف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (228)، وحديث (1080): "إنا أمة أميّة لا نكتب، ولا نحسُبُ
…
".
6 -
(أَبُوهُ) هو: عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية المدنيّ المعروف بالأشدق، وهو الأصغر، وعمرُو بن سعيد بن العاص الأكبر صحابيّ، قديم، وعمرو بن سعيد هذا يقال: إن له رؤية، والصحيح أنه تابعيّ من الطبقة [3].
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبيه، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وعائشة.
ورَوى عنه أولاده: سعيد، وموسى، وأمية، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعبد الكريم أبو أمية البصريّ.
وَليَ المدينة لمعاوية، وليزيد بن معاوية، ثم طَلَب الخلافة، وغَلَب على دمشق، ثم قتله عبد الملك بن مروان بعد أن أعطاه الأمان، وقال الزبير بن بَكّار: أمه أم البنين بنت الحكم، أخت مروان، وقال البخاريّ: كان غزا ابنَ الزبير، يعني في عهد يزيد بن معاوية، ثم قتله عبد الملك، وقال الْعُتْبيّ: قال عبد الملك بن مروان بعد أن قَتَلَ عمرو بن سعيد: إن كان أبو أمية لأحبّ إليّ من زهر النواظر، ولكن والله ما اجتمع فَحْلان في شَوْل قط إلا أخرج أحدهما صاحبه.
قال يحيى بن بكير، عن الليث: قتل سنة (69)، وقال أبو سعيد بن يونس: قتله عبد الملك بن مروان، يقالْ بيده سنة (70)، وفي سنة (70) أرّخه غالب أهل التاريخ، من أهل الحديث وغيرهم، والصواب أن مخالفته، وحِصَار عبد الملك لدمشق، وهو بها كان سنة (69) وقتله كان سنة (70).
وقد أخطأ من زعم أن له رؤيةً، فإن أباه لا تصح له صحبة، بل يقال: إن له رؤيةً، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا مات كان له نحو ثمان سنين، وقال أبو حاتم: ليست له صحبة، ويقال؛ كان يُلَقَّب لَطِيم الشيطان، وكان مروان بن الحكم لَمّا طلب الخلافة عاضده عمرو هذا، وكان محبوبًا إلى أهل الشام، فشَرَط له مروان أن يُوَلّيه الخلافة بعده، فلما استقرت قَدَم مروان في الملك دعا عمرو بن سعيد إلى أن يبايع لعبد الملك بن مروان، ثم لعمرو بعده، فأجاب عمرو على كُرْه، ثم مات مروان، وولي عبد الملك، فبايعه عمرو على أنه الخليفة بعده، فلما أراد عبد الملك خلعه، وأن يبايع لأولاده نَفَر عمرو من ذلك، واتَّفق خروج عبد الملك إلى قتال ابن الزبير، فخالفه عمرو إلى دمشق، فغَلَب عليها، وبايعه أهلها بالخلافة، فذكر الطبريّ أنه لما صَعِد المنبر خَطَب الناس، فقال: إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارًا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إلي من ذلك شيء، وأن لكم عليّ حسن المواساة، قال: فرجع عبد الملك، وحاصره، ثم خَدَعه، وآمنه، ثم غدر به فقتله، فيقال: إنه ذبحه
بيده، وكان عمرو بن سعيد واليًا قبل ذلك على المدينة، زمن يزيد بن معاوية، وهو الذي كان يجهز الجيوش إلى قتال ابن الزبير، فقام إليه أبو شُرَيح الْخُزاعيّ، فحدثه بأن مكة حرام، فأجابه عمرو بأن الحرم لا يعيذ عاصيًا
…
الحديث في "الصحيحين"، وكان عمرو أوّلَ من أسرّ البسملة في الصلاة؛ مخالفةً لابن الزبير؛ لأنه كان يجهر بها، رَوَى ذلك الشافعيّ وغيره بإسناد صحيح، وقال في "التقريب": وكان عمرو مسرفًا على نفسه، من الثالثة. انتهى.
أخرج له المصنّف هذا الحديث فقط، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ما جه.
شرح الحديث:
عن عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاص، أنه (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه (فَدَعَا بِطَهُورٍ) - بفتح الطاء المهملة -: أي بماء يتطهّر به (فَقَالَ) عثمان بعدما توضّأ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)"من" زائدةٌ؛ لتأكيد النصّ على العموم، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كـ" مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"
(تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ) أي يأتيه وقتها، أو يقرب دخوله (مَكْتُوبَة) أي مفروضة، من كتب كتابًا: إذا فرض، وهو مجازٍ، فإن الحاكم إذا كتب شيئًا كان ذلك حكمًا، وإلزامًا
(1)
(فَيُحْسِنُ) - بضم أوله، وكسر ثالثه - مبنيًّا للفاعل، من الإحسان (وُضُوءَهَا) منصوب على المفعوليّة، ومعنى إحسان الوضوء أن يأتي بفرائضه، وسننه وآدابه (وَخُشُوعَهَا) معنى خشوعها أن يأتي بكلّ أركانها وسننها على وجه هو أكثر تواضعًا وإخباتًا، أو خشوعها خشية القلب، وإلزام البصر موضع السجود، وجمع الهمّة لها، والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أن يستعمل الآداب، فيتوقَّى كفّ الثوب، والالتفاتَ، والعبَثَ بجسده وثيابه، والتثاؤب، والتمطّي، وتغميض البصر، ونحوها، وفيه إيماء إلى قوله عز وجل: {قَدْ
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 745.
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2]
(1)
(وَرُكُوعَهَا) قال التوربشتيّ رحمه الله: اكتفى بذكر الركوع عن السجود؛ لأنهما ركنان متعاقبان، فإذا حثّ على إحسان أحدهما حثّ على الآخر، وفي تخصيصه بالذكر تنبيه على أن الأمر فيه أشدّ، فافتقر إلى زيادة توكيد؛ لأن الراكع يَحْمِل نفسه في الركوع، ويتحامل في السجود على الأرض، وقيل: الأولى أن يقال: إنما خصّ الركوع بالذكر دون السجود؛ لاستتباعه السجود؛ إذ لا يستقلّ عبادةً وحده، بخلاف السجود، فإنه يستقلّ عبادةً، كسجدة التلاوة، وسجد الشكر
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأما ما قيل: إن تخصيص الركوع؛ لأنه من خصائص المسلمين، فيردّه قوله تعالى {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، وتأويله بأن المراد: انقادي، وصلّي مع المصلين غير صحيح؛ لمخالفته ظاهر النصّ.
والحاصل أن الركوع ليس من خصائص هذه الأمة، كما هو نصّ الآية الكريمة، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(إِلَّا كَانَتْ) أي الصلاة (كَفَّارَةً) أي ساترةًا لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ) أي لجميع ما قبلها من المعاصي (مَا لَمْ يُؤْتِ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه مبنيًّا للفعل، من الإيتاء، وقيل: هو مبنيّ للمفعول؛ أي ما لم يَعْمَل، وُضِع الإيتاء موضع العمل.
وأشار في هامش نسخة محمد ذهني إلى أنه يوجد في بعض النسخ بلفظ: "ما لم يَأتِ كبيرةً"، وهو الذي في "مستخرج أبي نعيم"(1/ 294)، فيكون مضارعَ أَتَى ثلاثيًّا، وهو أوضح، يقال: أَتَى حدًّا، أو منكرًا: إذا فعله.
ووقع في نسخة "شرح الأبيّ"، و"السنوسيّ " بلفظ:"ما لم تُؤتَ كبيرةٌ" بالتاء، وعليه فهو مبنيّ للمفعول، و"كبيرةٌ" مرفوع على أنه نائب فاعله.
وذكر التوربشتيّ أن إثبات "يَأْتِ" علي بناء الفاعل في "كتاب المصابيح"
(1)
راجع "الكاشف" 3/ 745، و"المرقاة" 2/ 14.
(2)
راجع "المرقاة" 2/ 15.
غير سديد؛ لأن الحديث من مفاريد مسلم، ولم يُروَ إلا من الإيتاء
(1)
، وإن كان "لم يأت" أوضح معنًى، من قولهم: أتى فلان حدًّا، وأتى منكرًا، لكن الذي يُعتمد عليه من جهة الرواية هو من الإيتاء، ومنهم من يرويه علي بناء المفعول، والمعنى: ما لم يَعْمَل كبيرةً، وُضِعَ الإيتاء موضع العمل؛ لأن العامل يُعطي العملَ من نفسه، قال الله تعالى:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} الآية [الأحزاب: 14]: أي لأعطوها ذلك من أنفسهم.
وَيَحْتَمِل أن يكون معنى بناء المفعول: ما لم يُصَبْ بكبيرة، من قولهم: أُتِي فلان في بدنه: أي أصابته علّة. انتهى
(2)
.
وقوله: (كَبيرَةً) بالنصب على المفعوليّة؛ لأنه يقال: آتاه: أي أتى به، ومنه قوله تعالى:{آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أي ائتنا به؛ قاله الجوهريّ
(3)
.
و"ما" على الروايتين مصدريّة ظرفيّة: أي مدّة دوام عدم الإتيان بكبيرة.
(وَذَلِكَ الدَّهْرَ كلَّهُ) اسم الإشارة مبتدأ، و"الدهرَ" منصوب على الظرفيّة، متعَلِّقٌ بخبر المبتدأ، و"كلَّه" بالنصب توكيد لـ"الدهر"؛ أي وذلك مستمرّ في جميع الدهر.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الواو في قوله: "وذلك الدهر كله " للحال، وذو الحال الضمير المستترُ في خبر "كانت"، وهو قوله:"كفّارةً".
وقال أيضًا نقلًا عن الأشرف: المشار إليه إما تكفير الذنوب؛ أي تكفير الصلاة المكتوبة الصغائر لا يختصّ بفرض واحد، بل فرائض الدهر تُكفّر صغائره، وإما معنى "لم يؤت كبيرة"، وهو عدم الإتيان بالكبيرة؛ أي عدم إتيان الكبيرة في الدهر كلِّهِ مع الإتيان بالمكتوبة كفّارةٌ لما قبلها. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "كانت كفّارةً لما قبلها": أن الذنوب كلَّها تُغْفَر إلا الكبائر، فإنها لا تُغْفَر، وليس المراد أن الذنوب تُغفَر ما لم تكن
(1)
تقدّم أنه ثبتٌ في بعض نسخ "صحيح مسلم" بلفظ: "ما لم يَأْتِ" ثلاثيًّا، وهو الذي في "مستخرج أبي عوانة"، فتنبّه.
(2)
راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 745.
(3)
"الصحاح" 5/ 1808.
(4)
"الكاشف" 3/ 746.
كبيرة، فإن كانت لا يُغْفَر شيءٌ من الصغائر، فإن هذا، وإن كان محتملًا، فسياق الأحاديث يأباه، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة، هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تُكَفِّرها التوبة، أو رحمة الله تعالى وفضله، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 549](228)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(545)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1044)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[550]
(229) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيز، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ، لَا أَدْرِي مَا هِيَ، إِلَّا أني رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ، وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً"، وَفي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ: إتيْتُ عُثْمَانَ، فَتَوَضَّأَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عُبيد، أبو
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 112.
محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل [3](136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
والباقون تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أحمد، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول بَغْلانيّ، من قرى بَلْخ، والثاني بصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ) أنه (قَالَ: أتيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ) بفتح الواو: أي بماء يَتوضّأ به (فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ) عثمان رضي الله عنه (إِنَّ نَاسًا) أصله أُناس بضم الهمزة، فحُذفت الهمزة تخفيفًا، وحذفها كاللام مع لام التعريف، فلا يكاد يقال: الأناس، وهو من أسماء الجموع (يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ، لَا أَدْرِي مَا هِيَ) أي ما حقيقتها، ومدى صحّتها، قال بعضهم: يؤخذ من قول عثمان رضي الله عنه هذا أدب السلف الصالح، وموقفهم من روايات الحديث المختلفة، وعدم تكذيب بعضهم بعضًا باقتصارهم على نفي العلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله هذا البعض من عدم تكذيب بعضهم بعضًا، ليس على إطلاقه، بل من أدبهم أنهم إذا سمعوا ما يُخالف ما عندهم مما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاموا بإنكاره، والردّ على من أتى به إلا أن يجيء بحجة تُثبت ما رواه مخالفًا، فمن تتبّع مواقف الصحابة والتابعين في ذلك يتبيّن له الحقّ.
وأما قول عثمان رضي الله عنه هذا فالظاهر أنه من باب الإنكار عليهم، ويحتمل
أن يكون قال ذلك فيما لم يتبيّن له ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدمه، والله تعالى أعلم.
(إِلا أنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا) تقدّم الكلام في هذا قريبًا (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، غُفِرَ) بالبناء للمفعول (لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ، وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً) أصل النافلة ما يُفعَل مما لم يَجِب، والمقصود هنا أن صلاته، ومشيه إلى المسجد لهما ثواب زائد على غفران الذنوب.
قال الأبيّ رحمه الله: لَمّا كفّر الوضوء السيّئات بقي ثواب الصلاة زيادة له يُرفع له به في الآخرة درجات، أو يُكفَّر به ما بعده، قال: وليس من شرط المزيد أن يكون من نوع المزيد عليه، فصحّ كون رفع الدرجات زيادة على التكفير.
قال: وهذا وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي كل يقتضي استقلال الوضوء بالتكفير، والأول يقتضي أنه لا يستقلّ، بل تنضاف إليه الصلاة، فيُجمع بين الحديثين بأن يُرَدّ المطلق إلى المقيّد، أو أنه يختلف بحسب المصلّين، فربّ متوضئ يحضره من الخشوع ما يستقلّ وضوؤه بالتكفير. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكانت صلاته، ومشيه إلى المسجد نافلة" يعني أن الوضوء لم يُبْقِ عليه ذنبًا، فلَمّا فَعَلَ بعده الصلاةَ كان ثوابها زيادةً له على المغفرة المتقدّمة، و"النفلُ": الزيادة، ومنه نفل الغنيمة، وهو ما يُعطيه الإمام من الخمس بعد القسمة.
قال: وهذا الحديث يقتضي أن الوضوء بانفراده يستقلّ بالتكفير، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فإنه قال فيه:"إذا توضأ العبد المسلم، فغسل وجهه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينه"، وهكذا إلى أن قال:"حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب"، وهذا بخلاف أحاديث عثمان المتقدّمة؛ إذ مضمونها أن التكفير إنما يحصل بالوضوء إذا صلّى به صلاةً مكتوبةً، يُتمّ ركوعها وخشوعها، والتوفيق يكون من وجهين:
(1)
"شرح الأبيّ" 2/ 15.
[أحدهما]: أن يُردّ مطلق الأحاديث إلى مقيَّدها.
[والثاني]: أن نقول: إن ذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص، فلا بُعد في أن يكون بعض المتوضّئين يحصل له من الحضور، ومراعاة الآداب المكمّلة ما يستقلّ بسببها وضوؤه بالتكفير، وربّ متوضّئ لا يحصل له مثل ذلك، فيُكفَّ عنه بمجموع الوضوء والصلاة، ولا يُعتَرَض على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم:"من أتمّ الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبة كفّارات لما بينهنّ"؛ لأنا نقول: من اقتصر على واجبات الوضوء، فقد توضّأ كما أمره الله تعالى، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ:"توضّأ كما أمرك الله"، فأحاله على آية الوضوء على ما قدّمناه، وكذلك ذكر النسائيّ رحمه الله من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:" إنها لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين"، ونحن إنما أردنا المحافظة على الآداب المكمّلة التي لا يُراعيها إلا من نَوّر الله تعالى باطنه بالعلم والمراقبة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وقد يقال: إذا كَفَّر الوضوء، فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كَفَّرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان؟ وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه.
والجواب: ما أجاب به العلماء أن كُلَّ واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وَجَد ما يُكَفّره من الصغائر كفّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة، كُتبت به حسنات، ورُفِعت به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغيرةً رَجَونا أن يُخَفّف من الكبائر، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ) أي أحمد بن عبدة الضبيّ، شيخه الثاني (أتيْتُ عُثْمَانَ، فَتَوَضَّأَ) يعني أنه لم يذكر لفظة "بِوَضوء"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 1/ 491 - 492.
(2)
"شرح مسلم" 3/ 113.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 550](229)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(602)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(544)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[551]
(230) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ وَأَبِي بَكْر، قَالُوا: حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْر، عَنْ أَبِي أنَسٍ، أَنَّ عُثْمَانَ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِد، فَقَالَ: أَلا أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَزَادَ قُتَيْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو النَّضْر، عَنْ أَبِي أنسٍ، قَالَ: وَعِنْدَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت، من كبار [7]، (ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ) هو: سالم بن أبي أميّة القُرشيّ التيميّ المدنيّ، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ، وكاتبه، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5].
رَوَى عن أنس، والسائب بن يزيد، وعوف بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى كتابةً، وسعيد بن المسيب، وعامر بن سعد، وبشر بن سعيد، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه إبراهيم المعروف بِبَرَدَان بن أبي النضر، والسفيانان، ومالك، وعمرو بن الحارث، وموسى بن عقبة، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وفليح بن سليمان، والليث، وابن إسحاق، وغيرهم.
قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: سالم أبو النضر عندك فوق سُمَيّ؟ قال: نعم. وقال أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقةٌ، زاد العجلي: رجل صالح، وكذا قال أبو حاتم، وزاد: حسن الحديث. وقال ابن سعد: ثقةٌ، كثير الحديث، مات في خلافة مروان بن محمد. وقال خليفة: مات سنة تسع وعشرين ومائة. وقال الْجَنَديّ: سئل ابن عيينة عن سالم أبي النضر؟ فقال: كان ثقةٌ، وكان يصفه بالفضل والعقل والعبادة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأن، ما أكاد أُقَدِّم عليه كبير أحد، سمع أنسًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سمعت أبي يقول: أبو النضر عن عثمان بن أبي العاص مرسل. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقةٌ ثبتٌ. وقال ابن خلفون: وثقه ابن المديني، وابن نمير.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا.
3 -
(أَبُو أَنَسٍ) هو: مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، جدّ الإمام مالك، ووالد أبي سُهيل، عمّ مالك، ثقةٌ [2](ت 74) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (الْمَقَاعِدِ) - بفتح الميم، وبالقاف - قيل: هي دَكَاكين عند دار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل: دَرَجٌ، وقيل: موضع بقرب المسجد، اتَّخَذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس، والوضوءِ ونحو ذلك.
وقوله: (ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) قال النوويّ رحمه الله: هذا أصل عظيم في أن السنة في الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، وقد قدّمنا أنه مجمع على أنه سنة، وأن الواجب مرةً واحدةً، وفيه دلالة للشافعي ومن وافقه في أن المستحب في الرأس أن يمسح ثلاثًا كباقي الأعضاء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: استدلال النوويّ على استحباب تثليث مسح الرأس مما لا يخفى على بصير، فقد سبق أن في بعض روايات حديث عثمان رضي الله عنه، وكذا حديث عبد الله بن زيد في "الصحيحين" وغيرهما التصريح بأنه مسح رأسه مرّة واحدة، فالحقّ حمل هذا الْمُجمَل على المفصّل، وأما ما ورد من التثليث، فهي رواية شاذّة، لا تقاوم الأحاديث الصحيحة، فلا ينبغي الالتفات إليها.
والحاصل أن تثليث مسح الرأس غير مستحبّ؛ لما ذكرناه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (وَعِنْدَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) معناه أن عثمان رضي الله عنه قال ما قاله، والرجال عنده، فلم يخالفوه، وقد أخرج هذه الرواية الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "المسند المستخرج "(1/ 293)، فقال:
(543)
حدثناه سليمان بن أحمد إملاءً، ثنا معاذ بن المثنى، ثنا علي بن المديني، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، ثنا وكيع (ح) وحدثنا عبد الله بن محمد، ومحمد بن إبراهيم قالا: ثنا أبو يعلى، ثنا زهير، ثنا وكيع (ح) وحدثنا الطَّلْحي، ثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي النضر، عن أبي أنس، أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثًا ثلاثًا، وعنده رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أليس هكذا رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قالوا: نعم " انتهى.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 551](230)، و (ابن أبي شية) في "مصنّفه"(1/ 17)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 57)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(543)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 85)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 78)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الإسناد من جملة ما استدركه الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ وغيره، قال أبو عليّ الْغَسّانيّ الجيانيّ: يُذكَرُ أن وكيع بن الجرّاح وَهِمَ في إسناد هذا الحديث في قوله: "عن أبي أنس"، وإنما يرويه أبو النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن عثمان بن عفان، رَوَينا هذا عن أحمد بن حنبل وغيره، قال: وهكذا قال الدارقطنيّ: هذا مما وَهِمَ فيه وكيع على الثوريّ، وخالفه أصحاب الثوريّ الحفاظ، منهم الأشجعيّ، عُبيد الله، وعبد الله بن الوليد،
ويزيد بن أبي حكيم الْعَدَنيّان، والْفِرْيابيّ، ومعاوية بن هشام، وأبو حذيفة، وغيرهم، رووه عن الثوريّ، عن أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، أن عثمان، وهو الصواب. انتهى كلام أبي عليّ الغسّانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الدارقطني رحمه الله في "سننه"(1/ 85):
(10)
حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا ابن الأشجعيّ
(2)
، نا أبي، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن بُسر بن سعيد، قال: أَتَى عثمان المقاعد، فدعا بوَضوء، فمضمض، واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ورجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء أكذلك؟ قالوا: نعم، لنفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.
قال الدارقطنيّ: صحيح إلا التأخير في مسح الرأس، فإنه غير محفوظ، تفرّد به ابن الأشجعيّ، عن أبيه، عن سفيان بهذا الإسناد، وهذا اللفظ، ورواه الْعَدَنيّان: عبدُ الله بن الوليد، ويزيدُ بن أبي حكيم، والفريابيّ، وأبو أحمد، وأبو حذيفة، عن الثوريّ بهذا الإسناد، وقالوا كلهم: إن عثمان توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولم يزيدوا على هذا.
وخالفهم وكيع، رواه عن الثوريّ، عن أبي النضر، عن أبي أنس، عن عثمان، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، كذا قال وكيع، وأبو أحمد، عن الثوريّ، عن أبي النضر، عن أبي أنس، وهو مالك بن أبي عامر، والمشهور عن الثوريّ، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان.
(11)
حدثنا إبراهيم بن حماد، نا العباس بن يزيد، ثنا وكيع، نا سفيان، عن أبي النضر، عن أبي أنس، أن عثمان توضأ بالمقاعد، وعنده رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: أليس هكذا رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قالوا: نعم. وتابعه أبو أحمد الزبيريّ، عن الثوريّ، والصواب عن
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 784 - 785.
(2)
هو: أبو عبيدة بن عُبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعيّ، يقال: اسمه عبّاد، مقبول من التاسعة، قاله في "التقريب" ص 416.
الثوريّ، عن أبي النضر، عن بسر، عن عثمان. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أعل الإمام أحمد، والدارقطنيّ، وغيرهم هذا الحديث، إلا أن الإمام مسلمًا يرى صحّته، وقد وافقه عليه الإمامان الحافظان: أبو زرعة، وأبو حاتم، فقد ذكر ابن أبي حاتم في "علله"، حيث قال: سئل أبو زرعة عن حديث رواه الفريابيّ، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن بُسر بن سعيد، أن عثمان توضّأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ؟ قالوا: نعم.
ورواه وكيع عن سفيان، عن أبي النضر، عن أبي أنس، أن عثمان توضّأ بالمقاعد، فقال: ألا أُريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم توضّأ ثلاثًا ثلاثًا، قال أبو زرعة: وَهِمَ فيه الفريابيّ، والصواب ما قال وكيع، سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: حديث وكيع أصحّ، وأبو أنس جدّ مالك بن أنس، وأبو أنس عن عثمان متّصلٌ، وبُسر بن سعيد عن عثمان مرسل. انتهى كلام ابن أبي حاتم
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما تقدّم أن الأولين أعلّوا الحديث بمخالفة وكيع للجماعة الذين رووه عن الثوريّ، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان رضي الله عنه، والذي يظهر لي أن تصحيح رواية وكيع هو الأولى؛ لأن وكيعًا إمام حافظ مُعْتَمَدٌ على حفظه، ولا سيّما وقد تابعه أبو أحمد الزبيريّ.
على أنه يمكن تصحيح الطريقين معًا بحمله على أن الحديث عند الثوريّ بالطريقين، فلا داعي لتوهيم أحدهما.
والحاصل أن المصنّف، وأبا زرعة، وأبا حاتم قد صحّحوا رواية وكيع هذه، وقولهم هو الأظهر عندي؛ لأن زيادة الثقة في مثل هذا مقبولة؛ حيث كان من زادها حافظًا مُعتَمَدًا، وهو وكيعٌ، وهو المقدّم في سفيان على جميع هؤلاء الذين خالفوه في هذا الحديث، فإنهم لم يوصفوا بحفظ أحاديث الثوريّ
(1)
"سنن الدارقطنيّ" 1/ 85.
(2)
"علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 55 - 56.
مثله، بل قدّمه الأئمة، كأحمد وابن معين في سفيان على حفّاظ أصحاب الثوريّ، كعبد الرحمن بن مهديّ ويحيى القطان، وأبي نعيم، وغيرهم. قال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: عبد الرحمن أحبّ إليك في سفيان أو وكيع؟ قال: وكيع، قلت: فأبو نعيم؟ قال: وكيع، وقال المرّوذيّ: قلت لأحمد: مَن أصحاب سفيان؟ قال: وكيع، ويحيى، وعبد الرحمن، وأبو نعيم، قلت: قدّمت وكيعًا؟ قال: وكيع شيخٌ. وراجع لمزيد الاستبصار ترجمة وكيع في "تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب"
(1)
، يتّضح لك ما قلته تمام الاتّضاح.
وقد عرفتَ أنه لم ينفرد بهذا الطريق، بل تابعه عليه أبو أحمد الزبيريّ، كما سبق آنفًا.
وخلاصة القول أن تصحيح المصنّف، وأبي زرعة، وأبي حاتم لرواية وكيع هذه هو الأرجح، فتأمّله بإنصاف.
ومن الغريب أن النوويّ رحمه الله مع شدّة شغفه بمعارضة استدراك الدارقطنيّ وغيره على المصنف، وغالب ما يحتجّ به دعوى زيادة الثقة، إلا أنه هنا نقل الاستدراك، وسكت عليه، وهذا منه عجيب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[552]
(231) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو كرَيْبٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، أَبِي صَخْرَة، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ، قَالَ: كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورَهُ، فَمَا أتى عَلَيْهِ يَوْمٌ، إِلَّا وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ انْصِرَافِنَا مِنْ صَلَاِتنَا هَذِهِ - قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهَا الْعَصْرَ - فَقَالَ: "مَا أَدْرِي أُحَدَّثُكُمْ بِشَيْءٍ، أَوْ أَسْكُتُ"، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، إِنْ كانَ خَيْرًا فَحَدِّثْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ، فَيُتِمُّ
(1)
راجع "تهذيب الكمال" 30/ 462 - 484، و"تهذيب التهذيب" 4/ 311.
الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ
(1)
، فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا
(2)
").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير الْهِلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155) تقدم في "المقدمة 5/ 31.
2 -
(جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، أَبُو صَخْرَةَ) الْمُحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 7 أو 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن شيخه أبا كُريب أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى جامع، غير إسحاق، فمروزيّ، والباقيان مدنيّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: جامع، عن حُمران، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، أَبِي صَخْرَةَ) وفي رواية أبي نعيم من طريق شعبة، عن جامع بن شدّاد، سمعت حمران يُحدّث أبا بردة، وأنا قائم في إِمْرَة بشر بن مروان
(3)
، وفي رواية أبي عوانة: سمعت حمران بن أبان يُحدّث أبا بردة في
(1)
وفي نسخة: "كُتِبَ عليه".
(2)
وفي نسخة: "إلا كانت له كفّارات لما بينهنّ".
(3)
"مستخرج أبي عوانة" 1/ 295.
مسجد البصرة، وأنا قائم أنه سمع عثمان
(1)
(قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ) تقدّم الخلاف في صرف أبان وعدمه، والمختار صرفه (قَالَ: كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورَهُ (بفتح الطاء: أي الماء الذي يتطهّر به (فَمَا) نافية (أَتَى عَلَيْهِ يَوْم، إِلا وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً) - بضمّ النون، وسكون الطاء المهملة -: أي قليلًا من الماء، ومراده أنه لم يكن يمرّ على عثمان رضي الله عنه يوم إلا اغتسل فيه، وكانت ملازمته للاغتسال محافظةً على تكثير الطهر، وتحصيل ما فيه من عظيم الأجر الذي ذكره في حديثه، والله تعالى أعلم. (وَقَالَ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ انْصِرَافِنَا مِنْ صَلَاِتنَا هَذِهِ - قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهَا) بضم الهمزة (الْعَصْرَ -) أي أظنّ تلك الصلاة صلاة العصر (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافية (أَدْرِي أُحَدِّثُكُمْ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي أأُحدّثكم (بِشَيْءٍ) مما فيه بيان لثواب بعض الطاعات (أَوْ أَسْكُتُ") وفي نسخة: "أم أسكت؟ "، أي أترك تحديثكم؛ لئلا تغترّوا، وتتّكلوا على عملكم، قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون معناه: ما أدري هل ذكري لكم هذا الحديثَ في هذا الزمن مصلحة أم لا؟ ثم ظهرت مصلحته في الحال عنده صلى الله عليه وسلم، فحدثهم به؛ لما فيه من ترغيبهم في الطهارة، وسائر أنواع الطاعات، وسبب توقفه أوّلًا أنه خاف مفسدة اتّكالهم، ثم رأى المصلحة في التحديث به. انتهى
(2)
.
(فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، إِنْ كَانَ) ذلك الحديث (خَيْرًا فَحَدِّثْنَا) حتى نغتنمه، ونُسَرّ به (وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أي فالأمر إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون معناه إن كان بِشارةً لنا، وسببًا لنشاطنا، وترغيبنا في الأعمال، أو تحذيرًا وتنفيرًا من المعاصي والمخالفات، فحدِّثنا به؛ لنَحْرِص على عمل الخير، والإعراض عن الشرّ، وإن كان حديثًا لا يتعلق بالأعمال، ولا ترغيب فيه، ولا ترهيب، فالله ورسوله أعلم، ومعناه فَرَ فيه رَايَكَ، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ) وفي نسخة: "يَطّهّر" بتشديد الطاء،
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 193 - 194.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 115.
(3)
المصدر السابق.
والهاء، وأصله "يتطهّر"، فأدغمت التاء في الطاء بعد قلبها إليها (فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هذه الرواية فيها فائدة نفيسة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"الطَّهُور الذي كتب الله عليه"، فإنه دالّ على أن من اقتصر في وُضوئه على طهارة الأعضاء الواجبة، وتَرَكَ السنن والمستحبات، كانت هذه الفضيلة حاصلةً له، وإن كان مَن أتى بالسنن أكملَ، وأشدّ تكفيرًا. انتهى
(1)
.
(فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ) بالنصب بدلًا من "الصلوات"(إِلَّا كَانَتْ) أي الصلوات التي صُلِّيت بالطُّهور المذكور (كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا") أي بين الصلوات الخمس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 552](231)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 7)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(612 و 613 و 614)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(546 و 547 و 548)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[553]
(
…
) - (حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبانٍ، يُحَدِّثُ؛ أَبَا بُرْدَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِد، فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أتمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ". هَذَا حَدِيثُ ابْنِ
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 116.
مُعَاذٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ: فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ، وَلَا ذِكْرُ الْمَكْتُوبَاتِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 7/ 3.
2 -
(أَبُوهُ) هو: معاذ بن معاذ الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
والباقون تقدّموا قريبًا، فمَن قبل جامع تقدّموا قبل باب، ومنه تقدّموا في السند الماضي، ومحمد بن جعفر هو المعروف بغندر.
وقوله: (يُحَدِّثُ أَبَا بُرْدَةَ) هو ابن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ، من الطبقة الثالثة، توفّى سنة (104). تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 16/ 171.
وقوله (فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) أي مسجد البصرة، كما بيّنته رواية أبي عوانة، ولفظه: "قال: سمعت حُمران بن أبان يُحدّث أبا بُرْدة في مسجد البصرة، وأنا قائم معه
…
"
(1)
.
وقوله: (فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ)"الإمارة" - بكسر الهمزة، كالإِمْرة -: الولاية، يقال: أَمَرَ على القوم يَأُمُرُ، من باب نصر، فهو أمير، والجمع أمراء، ويُعدَّى بالتضعيف، فيقال: أَمَّرتُهُ تأميرًا
(2)
.
و"بشر" - بكسر، فسكون -: هو ابن مروان، كما بيّنته رواية أبي نعيم، ولفظه: "عن جامع بن شدّاد، سمعتُ حُمران بن أبان يُحدّث أبا بُردة، وأنا قائم في إمرة بشر بن مروان
…
"
(3)
.
قال الإمام الذهبيّ رحمه الله في "السير":
بشر بن مروان بن الْحَكَم الأمويّ، أحد الأجواد، وَليَ العراقين لأخيه عند مَقْتل مُصْعَب، وداره بدمشق عند عقبة الكتان، رَوَى ابن جُدْعان عن
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 193 - 194 رقم (614).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 22.
(3)
"المسند المستخرج" 1/ 295 رقم (547).
الحسن، قال: قَدِمَ علينا بشر البصرة، وهو أبيض بِضٌّ، أخو خليفة، وابن خليفة، فأتيته، فقال الحاجب: من أنت؛ قال: حسن البصريّ، قال: ادْخُل، وإياك أن تُطيل، ولا تُمِلّه، فأَدخُلُ، فإذا هو على سرير عليه فُرَش، قد كاد أن يغوص فيها، ورجل بالسيف واقف على رأسه، فقال: من أنت؟ قلت: الحسن البصريّ الفقيه، فأجلسني، ثم قال: ما تقول في زكاة أموالنا، ندفعها إلى السلطان، أم إلى الفقراء؟ قلت: أيهما فعلتَ أجزأ عنك، فتبسم، وقال: لشيء ما يسود مَن يسود، ثم عدت إليه من العشيّ، وإذا هو انحدَر من سريره يَتَمَلْمَلُ، وحوله الأطباء، ثم عدت من الغد، والناعية تنعاه، ودوابه قد جُزَّت نواصيها، ووقف الفرزدق على قبره، ورثاه بأبيات، فما بَقِي أحد إلا بَكَى.
قال الخليفة: مات بالبصرة سنة خمس وسبعين، وله نيف وأربعون سنة.
وقيل: إنه كتب إلى أخيه: إنك شَغَلْتَ إحدى يديّ بالعراق، وبقيت الأخرى فارغةً، فكتب إليه بولاية الحرمين واليمن، فما جاءه الكتاب إلا وقد وقعت الْقُرْحة في يمينه، فقيل: اقطعها من الْمَفْصِل، فَجَزع، فبلغت المرفق، ثم أصبح وقد بلغت الكتف ومات، فجَزِعَ عليه عبد الملك، وأمر الشعراء فَرَثَوْهُ. انتهى
(1)
.
وقوله: (مَنْ أتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى) أي أمر إيجاب، لما في الرواية السابقة: "ما من مسلم يتطهّر، فيُتمّ الطُّهُور الذي كتب الله عليه
…
".
وقوله: (فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ) أي لما عُمِل من الذنوب، والجملة جواب "من"، أو خبرها بتقدير رابط؛ أي له، أو "أل " في "الصلوات" بدل من الضمير الرابط؛ أي صلواته المكتوبات كفارات؛ أي ماحيات لما اقترفه من الذنوب.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ: فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ، وَلَا ذِكْرُ الْمَكْتُوبَاتِ) رواية غندر أخرجها الحافظ أبو نعيم في "المسند المستخَرج"(1/ 295) فقال:
(548)
وحدثنا أبو علي بن الصّوّاف، ثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن جامع بن شداد، سمعت
(1)
"سير أعلام النبلاء" 4/ 145 - 146.
حمران بن أبان، يحدث أبا بردة، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أتم الوضوء كما أمره الله، فالصلوات الخمس كفارة لما بينهنّ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 553](231)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(145)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(459)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 7)(75)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 66 و 69)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1043)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(612)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(548)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(154)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[554]
(232) - (حَدَّثَنَا
(1)
هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْإَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي
(2)
مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حُمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: تَوَضَّأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمًا وُضُوءًا حَسَنًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد، لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِيُّ) - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة - السّعْديّ
(1)
وفي نسخة: "وحدثنا".
(2)
وفي نسخة: "وأخبرنا".
مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنة (م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الفقيه المصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 197) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ) بن عبد الله بن الأشجّ القرشيّ، مولى بني مخزوم، أبو الْمِسْوَر المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ، [7].
رَوَى عن أبيه، وعامر بن عبد الله بن الزبير.
ورَوَى عنه مالك، وابن لهيعة، وابن المبارك، وابن وهب، ومَعْن بن عيسى، والواقديّ، والقعنبيّ، وغيرهم.
قال زيد بن بشر عن ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: حدَّثني مخرمة بن بكير، وكان رجلًا صالحًا، وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبي أويس، قلت: هذا الذي يقول مالك بن أنس: حدثني الثقة، من هو؟ قال: مخرمة بن بكير بن الأشجّ، وقال الميمونيّ، عن أحمد: أخذ مالك كتاب مَخْرَمة فنظر، فيه فكل شيء يقول فيه: بلغني عن سليمان بن يسار، فهو من كتاب مخرمة، يعني عن أبيه، عن سليمان، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه، فقال: ثقةٌ، ولم يسمع من أبيه شيئًا، إنما يروي من كتاب أبيه، وقال ابن أبي خيثمة: قلت لابن معين: مخرمة بن بكير؟ فقال: وقع إليه كتاب أبيه، ولم يسمعه، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ضعيفٌ، وحديثه عن أبيه كتابٌ، ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر، وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله، موسى بن سَلَمة: أتيت مخرمة، فقلت: حدَّثك أبوك؟ فقال: لم أُدرك أبي، هذه كتبه، وقال الدُّولابيّ: حدثنا أحمد بن يعقوب، حدثنا علي بن المديني، سمعت مَعْنَ بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعَرَض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال عليّ: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان، لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه: سمعت أبي، قال: وسمعت عليًّا، وقيل له: أيما أحب إليك: يحيى بن سعيد، أو مخرمة بن بكير؟ فقال: يحيى في معنىً، ومخرمة في معنىً، وجميعًا ثقتان،
ويحيى أشدّ، ومخرمة أكثرُ حديثًا، ومخرمة ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح الحديث، قال: وقال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمةَ عما يُحدّث به عن أبيه، سمعها من أبيه، فحَلَف لي: ورب هذه الْبَنِيَّة سمعت من أبي، وقال غيره: قيل لأحمد بن صالح: كان مخرمة من ثقات الناس؟ قال: نعم، وقال ابن عديّ: وعند ابن وهب، ومَعْن، وغيرهما عن مخرمة أحاديث حسان مستقيمةٌ، وأرجو أنه لا بأس به، وقال الساجيّ: صدوقٌ، وكان يدلس.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وخمسين ومائة في آخر ولاية المهديّ، يُحْتَجّ بحديثه من غير روايته عن أبيه؛ لأنه لم يَسمع من أبيه، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، مات في أول ولاية المهديّ. انتهى، قيل: إن هذا هو الصواب، وقد أَرّخ ابن قانع وفاة مخرمة سنة ثمان وخمسين.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
4 -
(أَبُوهُ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ القرشيّ مولاهم، ويقال: مولى أشجع، أبو عبد الله، ويقال: أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5].
رَوَى عن محمود بن لبيد، وأبي أُمامة بن سهل، وبُسْر بن سعيد، وأبي صالح السمّان، وسعيد بن المسيِّب، وسليمان بن يسار، وحمران مولى عثمان، وأبي عبد الله الأغرّ، وعِراك بن مالك، وكُريب، ونافع مولى ابن عمر، ويزيد بن أبي عُبيد، ومات قبله، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، وخلق كثير.
ورَوَى عنه بَكْر بن عَمْرو المعافريّ، والليث، وابن إسحاق، وعبيد الله بن أبي جعفر، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وجعفر بن ربيعة، وابن عجلان، وابنه مخرمة بن بكير، ويحيى بن أيوب المصريّ، ويزيد بن أبي حبيب، وجماعة.
قال أحمد بن صالح المصريّ: سمعت ابن وهب يقول: ما ذَكَر مالك بكير بن الأشجّ إلا قال: كان من العلماء، وقال ابن الطباع: سمعت مَعْنَ بن عيسى يقول: ما ينبغي لأحد أن يَفْضل، أو يفوق بكير بن الأشجّ في الحديث،
وقال حرب عن أحمد: ثقةٌ صالحٌ، وقال الدُّوريّ، عن يحيى بن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وبُكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ، لم يسمع منه مالك شيئًا، خرج قديمًا إلى مصر، فنزل بها، وقد رَوَى مالك في "الموطأ" عن الثقة عنده، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ مأمونٌ، وقال أحمد بن صالح المصريّ: إذا رأيت بكير بن عبد الله رَوَى عن رجل، فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شك فيه، وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": كان من صلحاء الناس، وهَلَك في زمن هشام، وقال ابن البراء، عن على بن المدينيّ: أدركه مالك، ولم يَسمع منه، وكان بكير سيء الرأي في ربيعة، فأظنه تركه من أجل ربيعة، وإنما عَرَف مالك بكيرًا بنظره في كتاب مخرمة، وقال الواقديّ: كان يكون كثيرًا بالثغْر، وقَلَّ مَن يروي عنه من أهل المدينة، وقال بشر بن عمر الزهرانيّ: قلت لمالك: سمعت من بكير؟ فقال: لا، وقال يحيى بن بُكير: بنو عبد الله بن الأشجّ ثلاثة لا أدري أيُّهم أفضل، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" في أتباع التابعين من صلحاء الناس، وقال: كان من خيار أهل المدينة، وقال الحاكم: لم يثبت سماعه من عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وإنما روايته عن التابعين.
وقال ابن نُمير: تُوُفي سنة (117) وقال الترمذيّ: مات سنة (120)، وقال عمرو بن عليّ: سنة (22)، وقال الواقديّ: سنة (27).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (55) حديثًا.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ) - بفتح الياء والهاء، وإسكان النون بينهما - ومعناه: لا يَدْفَعه، ويُنْهِضه، ويُحَرِّكه إلا الصلاة، قال أهل اللغة: نَهَزْتُ الرجلَ أَنْهَزُه: إذا دفعته، ونَهَزَ رأسَهُ: أي حَرَّكه، قال صاحب "المطالع": وضبطه بعضهم: يُنْهِزه بضم الياء، وهو خطأ، ثم قال: وقيل: هي لغة. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 116.
وقال الفيّوميّ: نَهَزَ نَهْزًا -، من باب نَفَعَ: نَهَضَ ليتناول الشيءَ، قال الأزهريّ: وأصل النّهْز: الدفع، وانتهز الْفُرْصَة: انتَهَضَ إليها مُبادرًا. انتهى
(1)
.
وفي هذا الحديث الحثُّ على الإخلاص في الطاعات، وأن تكون مُتَمَحِّضةً لله تعالى.
(غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ) أي الذي مضى، وسبق من معاصيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 554](232)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1237)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(549)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أَولَ الكتاب قال:
[555]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، ويونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، أَنَّ الْحُكَيْمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُمَا، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاة، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَة، فَصَلَّاهَا مَعَ النَّاس، أَوْ مَعَ الْجَمَاعَة، أَوْ فِي الْمَسْجِد، غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ").
(1)
"المصباح المنير" 2/ 628.
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264)(م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيّوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(الْحُكَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِي) هو: حُكَيم - بضم أوله، مصغّرًا - ابن عبد الله بن قيس بن مَخْرَمة بن الْمُطَّلب بن عبد مناف المطَّلبيّ المصريّ، صدوقٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، ونافع بن جُبير بن مُطعِم، وعامر بن سعد، وعبد الله بن أبي سَلَمة الماجشون.
ورَوَى عنه يزيد بن أبي حبيب، والليث، وعمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، وعبيد الله بن المغيرة، وحُنين بن أبي حَكِيم المصريون.
قال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن يونس: ذكر الْعَدّاس أنه تُوُفّي بمصر سنة (118).
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (232) وحديث (386): "من قال حين يسمع المؤذّن: أشهد
…
".
5 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ) بن مُطعِم النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 199)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ ص 482.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) - واسم أبي سلمة: ميمون، ويقال: دينار - الماجِشُونُ التيميّ، مولى آل الْمُنكدر، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عمر، ومسعود بن الحكم الزُّرَقيّ، والْمِسْوَر بن مَخْرَمة، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن سُلَيم، ومعاذ بن عبد الرحمن التيميّ، وعروة بن الزبير، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد العزيز، وبكير بن الأشجّ، وحُكَيم بن عبد الله بن
قيس، وعمر بن حسين المكيّ، قاضي المدينة، وابن إسحاق، وأبو الزبير، ويزيد بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال البخاريّ عن هارون بن محمد بن عبد الملك بن الماجشون قال: هَلَك جدّي سنة ست.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (232) و (771) و (1284) وأعاده، و (1536).
7 -
(مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عثمان بن عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ المدنيّ، من آل طلحة، ولأبيه صحبة، صدوقٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وحُمْران بن أبان مولى عثمان، وقيل: إنه سمع من عمر، قال البخاريّ، وأبو حاتم: ولا يصحّ.
ورَوَى عنه أخوه عثمان، ونافع بن جبير بن مُطعم، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، والزهريّ، وابن المنكدر، وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن فتحون في "الصحابة"، وعزاه لخليفة بن خياط، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (232) و (1197).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه اجتمع فيه خمسة من التابعين: حُكَيم، ونافع بن جُبير، وعبد الله بن أبي سلَمَة، ومعاذ بن عبد الرحمن، وحُمران، وعبد الله، ومعاذ كلاهما يرويان عن حمران، ففيه رواية أربعة من التابعين، بعضهم عن بعض، وأنه مسلسل بالمصريين إلى عمرو، وما بعده مسلسلٌ بالمدنيين.
وقوله: (فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ) أي أتمّ الوضوء بمراعاة واجباته، ومستحبّاته، فيتوضّأ ثلاثًا ثلاثًا.
وقوله: (أَوْ مَعَ الْجَمَاعَة، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ)"أو" في الموضعين للشكّ من الراوي.
وفي رواية البخاريّ في "كتاب الرقاق" من "صحيحه": "ثم أتى المسجد، فركع ركعتين"، ولفظه:
(6433)
حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم القرشيّ، قال: أخبرني معاذ بن عبد الرحمن، أن حُمْران بن أبان أخبره، قال: أتيت عثمان بن عفان بطُهُور، وهو جالس على المقاعد، فتوضأ، فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ، وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء، ثم قال:"من توضأ مثل هذا الوضوء، ثم أتى المسجد، فركع ركعتين، ثم جَلَس، غُفر له ما تقدم من ذنبه"، قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْتَرُّوا".
قال في "الفتح": قوله: "ثم أتى المسجد، فركع ركعتين، ثم جلس" هكذا أطلق صلاة ركعتين، وهو نحو رواية ابن شهاب الماضية في "كتاب الطهارة"، وقيّده مسلم في روايته من طريق نافع بن جبير، عن معاذ بن عبد الرحمن بلفظ:"ثم مَشَىَ إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد"، وكذا وقع في رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران عنده:"فيصلي صلاةً"، وفي أخرى له عنه:"فيصلي الصلاة المكتوبة"، وزاد:"إلا غَفَر الله له ما بينها وبين الصلاة التي تليها"؛ أي التي بعدها
(1)
، وفيه تقييد لما أُطلق في قوله في الرواية الأخرى:"غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، وأن التقدم خاصّ بالزمان الذي بين الصلاتين، وأصرح منه في رواية أبي صخرة، عن حمران عند مسلم أيضًا:"ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كُتِب عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس، إلا كانت كفارة لما بينهن"، وتقدم من طريق عروة، عن حمران:"إلا غُفِر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها"، وله من طريق عمرو بن سعيد بن العاص، عن عثمان بنحوه، وفيه تقييده بمن لم يَغْشَ الكبيرة.
والحاصل أن لحمران عن عثمان رضي الله عنه حديثين في هذا: أحدهما مقيد بترك حديث النفس، وذلك في صلاة ركعتين مطلقًا غيرَ مقيد بالمكتوبة، والآخر في الصلاة المكتوبة في الجماعة، أو في المسجد من غير تقييد بترك حديث النفس. انتهى
(2)
.
(1)
وقع في نسخة "الفتح"، بلفظ:"التي سبقتها"، والظاهر أن الصواب ما هنا، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 11/ 302.
وقوله: "وَلَا تَغْتَرُّوا": أي بتكفير الذنوب بهذا الوضوء وصلاة ركعتين بعده كما سبق بيان ذلك، فتستكثروا من الأعمال السيّئة، وقال في "الفتح": أي لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب، فتسترسلوا في الذنوب اتّكالًا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تُكفّر الذنوب هي المقبولة، ولا اطّلاع لأحد عليه، أو أن الْمُكَفَّرَ بالصلاة هي الصغائر، فلا تغترّوا، فتعملوا الكبيرة بناءً على تكفير الذنوب بالصلاة، فإنه خاصّ بالصغائر، أو لا تستكثروا من الصغائر، فإنها بالإصرار تُعطَى حكم الكبيرة، فلا يُكفّرها ما يُكفّر الصغيرة، أو ذلك خاصّ بأهل الطاعة، فلا يناله من هو مُرتبِكٌ في المعصية
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا من رواية معاذ بن عبد الرحمن متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[4/ 555](232)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6433)، و (النسائيّ) في "الصلاة" من "المجتبى"(856)، و"الكبرى"(929 و 175)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(281)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 64 و 67 و 71)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1528)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(550)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابٌ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[556]
(233) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ
(1)
راجع "الفتح" 11/ 302، "كتاب الرقاق"، رقم (6433).
حُجْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي
(1)
الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَة، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - قَالَ: "الصَّلَوَاتُ
(2)
الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَة، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَلِي بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ) - بضمّ الحاء المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف - أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) هو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُهَنيّ، مولى الْحُرَقَة، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: العلاء، عن أبيه.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
وفي نسخة: "الصلاة".
4 -
(ومنها): أن صحابيه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - قَالَ: "الصَّلَوَاتُ) ووقع في بعض النسخ: "الصلاة" بالإفراد، وهو بمعنى الجنس؛ لأن "أل" فيه للجنس (الْخَمْسُ) المراد أن بعض الصلوات الخمس مضافًا إلى بعضها مكفّر، وليس المراد أن الصلوات الخمس مضافة إلى الصلوات الخمس مكفّرة، ووقع في روايةٍ عند الإمام أحمد رحمه الله بلفظ:"الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفّارة"، ونصّه:
(6832)
حدثنا هشيم، أخبرنا العوام بن حَوْشب، عن عبد الله بن السائب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما - قال: - والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر - يعني رمضان إلى رمضان - كفارة لما بينهما - قال: ثم قال بعد ذلك: - إلا من ثلاث - قال: فعرفت أن ذلك الأمر حَدَثَ - إلا من الإشراك بالله، ونكث الصَّفْقة، وترك السنة". قال: أما نكث الصفقة أن تبايع رجلًا، ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة.
وهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح، وصححه الحاكم في "المستدرك"(1/ 119 - 120) ووافقه الذهبيّ
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله ما حاصله: إنما ذهبنا إلى أن الصلاة إلى الصلاة مكفِّرة ما بينهما، دون خمس صلوات إلى خمس صلوات؛ لما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أرأيتم لو أن نَهْرًا بباب أحدكم، يغتسل فيه كلَّ يوم خمسًا، ما تقول ذلك يُبقي من درنه؟ " قالوا:
(1)
لكن أعلّه الدارقطنيّ بأنه وقع في رواية يزيد بن هارون رجل مبهم بين عبد الله بن السائب، وأبي هريرة. راجع " العلل" للدارقطنيّ 3/ ورقة 202، وأجاب العلامة أحمد شاكر رحمه الله فيما كتبه على "المسند" عن هذه العلّة، ورجّح تصحيح الحديث، فراجع ما كتبه 11/ 98 - 102.
لا يُبقي من درنه شيئًا، قال:"فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس، يمحو الله به الخطايا". انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله بإيضاح
(1)
.
(وَالْجُمْعَةُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: يوم الجمعة سُمّي بذلك؛ لاجتماع الناس فيه، وضمّ الميم لغة الحجاز، وفتحها لغة بني تميم، وإسكانها لغة عُقَيل، وقرأ بها الأعمش، وجمعه جُمَعٌ، وجُمْعَات، مثلُ غُرَفٍ، وغُرْفَاتٍ في وجوهها. انتهى
(2)
. (إِلَى الْجُمْعَةِ) زاد في رواية إسحاق مولى زائدة الآتية: "ورمضان إلى رمضان".
قال الطيبيّ رحمه الله قوله: "الجمعة إلى الجمعة" المضاف محذوف: أي صلاة الجمعة، و"إلى" متعلّق بالمصدر؛ أي صلاة الجمعة منتهيةً إلى صلاة الجمعة، وعلى هذا صوم رمضان منتهيًا إلى صوم رمضان، وقوله:(كفَّارَةٌ) خبر عن الكلّ، أفرده باعتبار كلّ واحد منها، وفي رواية ابن سيرين التالية:"كفّارات" بالجمع، وهو واضح، والتكفير: معناه التغطية، والمراد به هنا المحو، وقوله:(لِمَا بَيْنَهُنَّ) متعلّق بـ "كفّارة"، ودخلت فيه اللام، وإن كان فعله متعدّيًا؛ تقوية له؛ لكونه فرعًا في العمل، كما في قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107](مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ") ببناء الفعل للمفعول، و"الكبائر" نائب فاعله، و"ما" مصدريّة ظرفيّة: أي مدّة عدم غشيان الكبائر؛ أي فعل المعاصي الكبار.
ثم ظاهر الحديث يفيد أن التكفير مشروط باجتناب الكبائر، فإن لم يَجتنبها لم تُكَفَّر الصغائر، ومثله قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31]، وهذا إنما يلزم عند من يقول بمفهوم المخالفة، وأما من لم يقل بمفهوم المخالفة، فأمر تكفير الصغائر وقت ارتكاب الكبائر مسكوت عنه عنده، وقد عُلِم من الأدلّة الأخرى أنه تغفر الصغائر بالطاعات، وإن لم تُجتَنَب الكبائر، وقيل في توجيه الآية: أن محو الصغائر لمن اجتنب الكبائر وعدٌ مقطوع به، ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك، بل في مشيئة الله تعالى وإرادته.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 864.
(2)
"المصباح" 1/ 108 - 109.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أن ما بينهنّ من الذنوب كلّها مغفورة إلا الكبائر، لا يكفّرها إلا التوبة، أو فضل الله تعالى، هذا مذهب أهل السنّة.
وقال الشيخ محمد طاهر الفتّني رحمه الله: لا بُدّ في حقوق الناس من القصاص، ولو صغيرة، وفي الكبائر من التوبة.
ثم إنه ورد المغفرة في الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان، فإذا تكرّرت يُغفَر بأولها الصغائر، والباقي يُخفَّف بها عن الكبائر، وإن لم تُصادف صغيرة، ولا كبيرةً تُرفع بها الدرجات. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[5/ 556 و 557 و 558](333)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(214)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1086)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2470)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 359 و 400 و 414 و 484)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1311)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(551 و 552 و 553)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(314 و 1814)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1733)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(345)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 467) و (10/ 187)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[557]
(
…
) - (حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَن مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجمْعَة، كَفارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ").
(1)
راجع "المرعاة" 2/ 269.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيّ) البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30، وهو أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى بن محمد، وقيل: ابن شَرَاحيل القرشيّ البصريّ الساميّ، من بني سامة بن لؤي، أبو محمد، ويُلَقّب أبا همام، وكان يغضب منه، ثقة [8].
روى عن حميد الطويل، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وعبيد الله بن عمر، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وابن إسحاق، وجماعة.
وروى عنه إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وعمرو بن علي الصيرفي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعبيد الله بن عمر القواريري، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: لا بأس به. وقال أحمد: كان يرى القدر. وقال ابن سعد: لم يكن بالقوي. وقال ابن أبي خيثمة: ثنا عبيد الله بن عمر، ثنا عبد الأعلى قال: فرغت من حاجتي من سعيد - يعني ابن أبي عروبة - قبل الطاعون؛ يعني أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقال العجليّ: بصري ثقة. وقال ابن خلفون: يقال: إنه سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، وهو ثقة. قاله ابن نمير، وابن وضاح، وغيرهما. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا في الحديث، داعية إليه.
قال عمرو بن علي، وابن حبّان: مات سنة (198) في شعبان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (61) حديثًا.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ القُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والصحابيّ تقدّم في الحديث الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[558]
…
(-) (حَدَّثَنِي
(1)
أَبُو الطَّاهِر، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ، مَوْلَى زَائِدَةَ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ:"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَة، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو صَخْرٍ) هو: حُميد بن زياد، أبو صخر بن أبي المخارق الْخَرّاط، صاحب الْعَبَاء، مدنيّ سكن مصر، وقال أبو مسعود الدمشقيّ: حميد بن صَخْر، أبو مودود الْخَرّاط، ويقال: هما اثنان، صدوقٌ يَهِمُ [6].
رأى سهل بن سعد، وروى عن أبي صالح السمان، وأبي حازم سلمة بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، ومكحول، وأبي سعيد المقبريّ، ويزيد بن قسيط، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه سعيد بن أبي أيوب، وحَيْوَة بن شُريح، وابن وهب، ويحيى القطان، وضمام بن إسماعيل، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي عن يحيى: ليس به بأس. وقال إسحاق بن منصور، وابن أبي مريم عن يحيى: ضعيف، وكذا قال النسائي. وقال ابن عدي - بعد أن روى له ثلاثة أحاديث -: وهو عندي صالح، وإنما أُنكِر عليه هذان الحديثان:"المؤمن يألف"، وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيمًا، ثم قال في موضع آخر: حميد بن صخر، وعنه
(1)
وفي نسخة: "حدَثنا".
(2)
وفي نسخة: "لما بينهنّ إذا اجتُنبت الكبائر".
حاتم بن إسماعيل، ضعفه النسائي، وأخرج له ابن عدي غير تلك الأحاديث، وقال: وله أحاديث، وبعضها لا يتابع عليه. وكذا فرّق بينهما ابن حبان، وبَيَّن البغوي في "كتاب الصحابة" أن حاتم بن إسماعيل وَهِمَ في قوله: حميد بن صخر، وإنما هو حميد بن زياد، أبو صخر، وهو مدني صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال أبو إسحاق الصريفيني: مات سنة (89) وقيل: سنة (192)، قال الحافظ: رأيت ذلك بخط مغلطاي، وفيه نظر. انتهى
(1)
.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذي، والنسائيّ في "مسند علي رضي الله عنه"، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث، برقم (233) و (945) و (948) و (1187) و (1398) و (1967) و (2815) و (2820) و (2825) و (2974).
[تنبيه]: "أبو صخر" هذا غير أبي صخرة الذي تقدّم في الباب الماضي، وهو جامع بن شدّاد، فإن ذاك بالهاء في آخره، وهذا ليس في آخره هاء، فتنبّه للفرق بينهما، والله تعالى أعلم.
2 -
(عُمَرُ بْنُ إِسْحَاقَ، مَوْلَى زَائِدَةَ) المدنيّ، ثقةٌ
(2)
[6].
رَوَى عن أبيه، وعنه أبو صخر، حميد بن زياد، وأسامة بن زيد الليثيّ، قال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط.
3 -
(أَبُوهُ) هو: إسحاق مولى زائدة، ويقال: إسحاق بن عبد الله، والد عمر، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وسعد بن أبي وقاص.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 495.
(2)
قال في "التقريب": حجازيّ مقبول. انتهى. قلت: الذي أراه أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه اثنان، ووثّقه العجليّ، وابن حبّان، وأخرج له مسلم في "صحيحه" هنا، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ورَوَى عنه ابنه عمر، وأبو صالح السمّان، والعلاء بن عبد الرحمن، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال أحمد بن رِشْدين: سألت أحمد بن صالح عن إسحاق بن عبد الله، وإسحاق مولى زائدة، فقال: واحدٌ، وقال ابن أبي حاتم: إسحاق المدنيّ، عن أبي هريرة مجهول، رَوَى عنه ابنه عبد الله، قال أبو حاتم: ناظرت فيه أبا زرعة، فلم أَرَهُ يَعرفه، فقلت: يمكن أن يكون إسحاق أبا عبد الله الذي رَوَى مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، وإسحاق أبي عبد الله، عن أبي هريرة. انتهى.
قال في "التهذيب"
(1)
: والحديث المذكور في "الموطأ"، وهو الذي أخرجه النسائيّ في المشي إلى الصلاة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والمصنّف له عنده هذا الحديث فقط، وأبو داود، والنسائيّ.
وقوله: (وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ) فيه جواز قول: "رمضان" من غير إضافة "شهر" إليه، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن أنكر ذلك، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر الأصول: "اجتَنَبَ" آخره باء موحّدة، و"الكبائر" منصوب؛ أي إذا اجتنب فاعلها الكبائرَ، وفي بعض الأصول:"اجتُنبتْ" بزيادة تاء مثنّاة في آخره، على ما لم يُسَمّ فاعله، ورفع "الكبائرُ" على أنه نائب فاعله، وكلاهما صحيح ظاهر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله بزيادة إيضاح
(2)
، وتمام شرح الحديث، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع 1/ 131 - 132.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 118.
(6) - (بَابُ بَيَانِ الذِّكْرِ الْمُسْتَحَبِّ عَقِبَ الْوُضُوءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[559]
(234) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ - يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ - عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (حَ) وَحَدَّثَيي أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِل، فَجَاءَتْ نَوْبَتي، فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - قَائِمًا، يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْن، مُقْبِل
(1)
عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهَه، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِه، فَإِذَا قَائِل بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ، قَالَ: إِنّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا، قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ - أَوْ - فَيُسْبغُ الْوَضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) المعروف بالسمين البغداديّ، مروزيّ الأصل،، صدوق ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10]، (ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ إمام [9](198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(معاوية بن صالح) بن حُدير - بالمهملة، مصغّرًا - ابن سعيد بن سَعْد بن فِهْر الحضرميّ، أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الرحمن الحمصيّ، أحد
(1)
وفي بعض النسخ: "مُقْبِلًا".
الأعلام، وقاضي الأندلس، وقيل في نسبه غير ذلك، صدوق له أوهام [7].
رَوَى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير، ومكحول الشامي، وغيرهم.
ورَوَى عنه الثوري، والليث بن سعد، وابن وهب، ومعن بن عيسى، وزيد بن الحباب، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: خرج من حمص قديمًا، وكان ثقة. وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي خيثمة والدوري في "تاريخهما" عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالح. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بمرضي، هكذا نقله ابن أبي حاتم عن الدُّوريّ، وليس ذلك في "تاريخه". وقال الليث بن عَبْدَة: قال يحيى بن معين: كان ابن مهدي إذا تحدث بحديث معاوية بن صالح زبره يحيى بن سعيد، وقال: أَيْشٍ هذه الأحاديث؟. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: ما كنا نأخذ عنه. قال علي: وكان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه. وقال أبو صالح الفراء عن أبي إسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يُروَى عنه. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة محدث. وقال ابن سعد: كان بالأندلس قاضيًا لهم، وكان ثقة، كثير الحديث، حج مرة واحدة، فلقيه من لقيه من أهل العراق. وقال محمد بن عوف، عن يزيد بن عبد ربه: خرج من حمص سنة خمس وعشرين ومائة، فسار إلى الغرب، فَوَلِيَ قضاءهم، قال: وسمعت أبا صالح يقول: مر بنا معاوية بن صالح حاجًّا سنة أربع وخمسين، فكتب عنه أهل مصر، وأهل المدينة - يعني ومن بمكة -. وقال حميد بن زنجويه: قلت لعلي ابن المديني: إنك تطلب الغرائب، فَأتِ عبد الله بن صالح، فاكتب عنه كتاب معاوية بن صالح، تستفيد منه مائتي حديث. وقال يعقوب بن شيبة: قد حمل الناس عنه، ومنهم من يرى أنه وسط، ليس بالثبت، ولا بالضعيف، ومنهم من يضعفه. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وقال ابن عمار: زعموا أنه لم يكن يدري أيّ شيء في الحديث. وقال ابن عديّ: له حديث صالح، وما أرى بحديثه بأسًا، وهو عندي صدوق، إلا أنه يقع في حديثه إفرادات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: قدم مصر سنة
خمس وعشرين، ثم دخل الأندلس، فلمّا مُلّك عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، اتصل به، فأرسله إلى الشام في بعض أمره، فلما رجع إليه ولاه قضاء الجماعة بالأندلس. وتُوفي سنة ثمان وخمسين ومائة. وقال سعيد بن أبي مريم: سمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت معاوية بن صالح لأكتُب عنه، فرأيت عنده - أُراه قال: - الملاهي، فقال: ما هذا؟ قال: شيء يُهديه إلي صاحب الأندلس، قال: فتركته، ولم أكتُب عنه. وقال العجلي: حمصي ثقة. وقال البزار: ليس به بأس. وقال أيضًا: ثقة. وقال محمد بن وَضّاح: قال لي يحيى بن معين: جمعتم حديث معاوية بن صالح؟ قلت: لا، قال: أضعتم - والله - علمًا عظيمًا. وقال محمد بن عبد الملك بن أيمن: قال محمد بن أحمد بن أبي خيثمة: أردت أن أدخل الأندلس، حتى أُفَتِّش عن أصول كتب معاوية بن صالح، فلما قدمت طلبت ذلك، فوجدت كتبه قد ذهبت؛ لسقوط همم أهله. وكان معاوية يُغرب بحديث أهل الشام جدًّا، واجتمع معاوية مع زياد بن عبد الرحمن شَبَطُون، وكان ختنه عند مالك بن أنس، فسأل معاوية مالكًا عن مسائل، فقال زياد لمالك: كيف رأيت معاوية؟ فقال: ما سألني قط أحد مثل معاوية.
وأَرَّخ أبو مروان بن حبان، صاحب "تاريخ الأندلس" وفاته سنة اثنتين وسبعين ومائة، وحَكَى ذلك عن جماعة، واستغرب قول أحمد بن كامل: إنه توفي بالمشرق سنة نيف وخمسين.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
4 -
(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: ربيعة بن يزيد الإِيَاديّ، أبو شعيب القصير، ثقةٌ عابدٌ [4].
روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن حَوَالة ولم يدركه، وجبير بن نفير، وأبي كَبْشة السَّلُولي، وغيرهم.
وروى عنه عبد الله بن يزيد الدمشقي، وحيوة بن شُريح، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ومعاوية بن صالح، والفرج بن فضالة، وغيرهم. قال
العجلي، وابن عمار، وبعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة. وقال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحدٌ أحسنُ سمتًا في العبادة من مكحول، وربيعة بن يزيد. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار أهل الشام. وقال ابن سعد: كان ثقة.
قال أبو مسهر: مات بإفريقية في إمارة هشام بن إسماعيل، خرج غازيًا فقتله الْبَرْبَر. وقال ابن يونس: قتلته البربر سنة (123). وأرّخه ابن أبي عاصم سنة (21).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط برقم (234) و (454) و (542) و (1037) و (1043) و (1120) و (1855) و (1930) و (2577) و (2735).
5 -
(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، ويقال: عَيِّذُ الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عُتبة بن غَيْلان بن مكين الْعَوْذيّ، ويقال: الْعَيْذيّ أيضًا، ثقة ثبت، من كبار التابعين، من علماء أهل الشام، وعُبّادهم، وقُرّائهم [2].
رَوَى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وبلال، وثوبان، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وعوف بن مالك، والمغيرة، ومعاوية، والنواس بن سمعان، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم.
ورَوَى عنه الزهري، وربيعة بن يزيد، وبسر بن عبيد الله، وعبد الله بن ربيعة بن يزيد، والقاسم بن محمد، والوليد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ومكحول، وغيرهم.
قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهري: كان قاصّ أهل الشام وقاضيهم في خلافة عبد الملك. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء. وقال أبو زرعة الدمشقي: أحسن أهل الشام لُقِيًّا لأجلّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: جُبير بن نُفير، وأبو إدريس، وقد قلت لدحيم: مَن المقدم منهم؟ قال: أبو إدريس. قال أبو زرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جُبير بن نُفير، فأما معاذ بن جبل، فلم يصح له سماع، وإذا حدث
أبو إدريس عن معاذ أسند ذلك إلى يزيد بن عَمِيرة. قال أبو زرعة: قال محمد بن أبي عُمر عن ابن عُيينة، عن الزهري، عن أبي إدريس أنه أدرك عُبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وشداد بن أوس، وفاته معاذ بن جبل. قال أبو زرعة: وقد حدثنا محمد بن المبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي إدريس، قال: جلست خلف معاذ بن جبل، وهو يصلي، فلما انصرف من الصلاة، قلت: إني لأحبك لله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحابّون في الله في ظلّ عرشه، يوم لا ظل إلا ظلّه"
(1)
، قال أبو زرعة: وقال هشام عن صدقة، عن ابن جابر، عن عطاء الخراساني: سمعت أبا إدريس نحوه، قال: وحدثني سليمان، عن خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبي إدريس، قال أبو زرعة: أبو إدريس يَروي عن أبي مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غَنْم، وكلاهما يحدثان بهذا الحديث، عن معاذ، والزهري يحفظ عن أبي إدريس أنه لم يسمع من معاذ، والحديث حديثهما.
وقال أبو عمر بن عبد البر: سماع أبي إدريس من معاذ عندنا صحيح، من رواية أبي حازم وغيره، فلعل رواية الزهري عنه أنه فاتني معاذ بن جبل في معنى من المعاني، وأما لقاؤه وسماعه منه فصحيحٌ غير مدفوع، وقد سُئل الوليد بن مسلم، وكان عالمًا بأيام أهل الشام: هل لقي أبو إدريس معاذ بن جبل؟ قال: نعم أدرك معاذ بن جبل، وأبا عبيدة، وهو ابن عشر سنين، وُلد يوم حُنين، سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول ذلك. قال ابن معين وغيره: مات سنة ثمانين.
قال الحافظ: إذا كان وُلد في غزوة حُنين، وهي في أواخر سنة ثمان، ومات معاذ سنة ثمان عشرة، فيكون سنّه حين مات معاذ تسع سنين ونصفًا أو نحو ذلك، فيبعد في العادة أن يُجاري معاذًا في المسجد هذه المجاراة، أو يخاطبه هذه المخاطبة على ما اشتهر من عادتهم، أنهم لا يطلبون العلم إلا بعد البلوغ، والجمعُ الذي جمع به ابن عبد البر، قد سبقه إليه الطحاوي في "مشكله"، وساقه من طُرُق كثيرة إلى أبي إدريس، أنه سمع معاذًا، وعبادة بالقصة المذكورة.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 5/ 233.
وقال العجلي: دمشقي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن سعد: ثقة. وقال أبو مسهر: لم نجد له ذكرًا بعد عبد الملك. وقال الهيثم بن عدي: تُوفي زمن عبد الملك. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء في نفر من أهل الشام، أهلِ فقه في الدين، وعلم بالأحكام والحلال والحرام، ورَوَى مالك عن أبي حازم، عن أبي إدريس، قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتًى بَرّاق الثنايا، فسألت عنه، فقالوا: معاذ، فلما كان الغد هَجّرت، فوجدته يصلي، فلما انصرف سلمت عليه، فقلت: والله أني لأحبّك
…
الحديث، وهو الذي أشار إليه ابن عبد البر. وقال البخاري: لم يسمع من عمر. وقال ابن حبان في "الثقات": ولاه عبد الملك القضاء بعد عزل بلال بن أبي الدرداء، وكان من عباد أهل الشام وقرائهم، ولم يسمع من معاذ. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: أسمع أبو إدريس من معاذ؟ فقال: يختلفون فيه، فأما الذي عندي فلم يسمع منه.
قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال: لم يسمع من معاذ هو الأرجح عندي، لأن أبا زرعة الدمشقيّ أعلم الناس بأحوال أهل الشام، وتواريخهم، وقد نفاها، فيكون هو الأرجح، والله تعالى أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
6 -
(أَبُو عُثْمَانَ) قال في "التقريب": قيل: هو سعيد بن هانئ الْخَولانيّ، وقيل: حَرِيز بن عثمان، وإلا فمجهول [3].
وقال في "تهذيب التهذيب": أبو عثمان عن جُبير بن نُفَير، عن عقبة بن عامر، عن عمر حديث: "من أحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله
…
" الحديث، وقيل: عن أبي عثمان، عن عقبة من غير ذكر جُبَير، وقيل: عن أبي عثمان، عن عمر نفسه.
وعنه ربيعة بن يزيد الدمشقيّ، ومعاوية بن صالح، والصحيح عن معاوية، عن ربيعة، عنه، قال أبو بكر بن منجويه: يُشبه أن يكون سعيد بن هانئ الخولانيّ المصريّ، وقال ابن حبّان: يُشبه أن يكون حَرِيز بن عُثمان الرَّحَبيّ، وقال الذهبيّ: أبو عثمان لا يُدرى من هو؟، وخرّج له مسلم متابعةً. انتهى.
أخرج له المصنّف، والأربعة سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
7 -
(جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ) - بنون، وفاء مصغّرًا - ابن مالك بن عامر الحضرميّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الحمصيّ، ثقة، جليل، مخضرم [2].
أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرسلًا، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه، وأبي ذر، وأبي الدرداء، والمقداد بن الأسود، وخالد بن الوليد، وعبادة بن الصامت، وابن عمر، ومعاوية، والنّوّاس بن سَمْعان، وثوبان، وعقبة بن عامر الْجُهَنيّ، وخلق.
وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومكحول، وخالد بن معدان، وأبو الزاهرية، وأبو عثمان، وليس بالنَّهْديّ، وحبيب بن عُبيد، وصفوان بن عمرو، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقة، من كبار تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو زرعة الدمشقي: رفع دُحيم من شأن جبير بن نفير، وقَدّم أبا إدريس عليه. وقال النسائي: ليس أحدٌ من كبار التابعين أحسن روايةً عن الصحابة من ثلاثة: قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وجُبير بن نُفير. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: أدرك الجاهلية، ولا صحبة له. وقال سليم بن عامر عن جبير: استقبلت الإسلام من أوله. وقال أبو زرعة: هو أسن من إدريس
(1)
لأنه قد ثبت له إدراك عمر، وسمع كتابه يقرأ بحمص. وقال ابن سعد: كان ثقة فيما يروي من الحديث. وقال ابن خراش: هو من أجلّ تابعي الشام. وكذا قال الآجري عن أبي داود. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: مشهور بالعلم. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء. وقال معاوية بن صالح: أدرك إمارة الوليد بن عبد الملك. انتهى.
قال الحافظ: فإن صحّ ذلك، فيكون عاش إلى سنة بضعٍ؛ لأن الوليد
(1)
هكذا في "تهذيب التهذيب" 1/ 292، ولعله "من أبي إدريس" يعني الخولانيّ. والله أعلم.
ولي سنة (86) والله أعلم. قال أبو حسان الزياديّ: مات سنة (75) وكان جاهليًّا أسلم في خلافة أبي بكر، ويقال: مات سنة (8).
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
8 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) بن عَبْس بن عمرو بن عَدِيّ بن عمرو بن رِفَاعة بن مَودُوعة بن عديّ بن غَنْم بن رَبْعَة بن رِشدان بن قيس بن جُهَينة الْجُهَنيّ الصحابيّ المشهور.
اختُلف في كنيته، فقيل: أبو حماد، ويقال: أبو سَعّاد، ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو عَبْس، ويقال: أبو أسد، ويقال: أبو الأسود.
رَوَى عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وعن عمر، ورَوَى عنه أبو أُمامة، وابن عباس، وقيس بن أبي حازم، وجُبير بن نُفير، وبَعْجَة بن عبد الله الْجُهني ودُخَين بن عامر، ورِبْعيّ بن حِرَاش، وأبو عليّ ثُمامة بن شُفَيّ، وعبد الرحمن بن شِمَاسة، وعُلَيّ بن رَبَاح، وأبو الخير، مَرْثَد بن عبد الله الْيَزَنِيّ، ومِشْرَح بن هَاعَان، وأبو إدريس الخولانيّ، وأبو عُشّانة الْمَعَافريّ، وكَثِير بن مُرَّة الْحَضرميّ، وغيرهم.
وَليَ إِمْرَة مصر مِن قِبَل معاوية سنة (44)، قال الواقديّ: تُوُفّي في آخر خلافة معاوية، ودُفِن بِالْمُقَطَّم، وقال خليفة: مات سنة ثمان وخمسين، قلت: قال أبو سعيد بن يونس: كان قارئًا عالِمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا كاتبًا، وكانت له السابقة والهجرة، وهو أحد مَن جَمَع القرآن، ومصحفُهُ بمصر إلى الآن بخطه على غير التأليف الذي في مصحف عثمان، وفي آخره بخطه: وكتب عقبة بن عامر بيده، وفي "صحيح مسلم" عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة بن عامر، وكان من رُفَقَاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وشَهِد عقبة بن عامر الفتوح، وكان هو البَرِيدَ إلى عمر رضي الله عنه بفتح دمشق، وشَهِدَ صفّين مع معاوية، وأمّره بعد ذلك على مصر.
وقال أبو عمر الكنديّ في "أُمراء مصر": جَمَع له معاوية الصلاة والخراج، وكان قارئًا فقيهًا مُفَرِّضًا شاعرًا، قديم الهجرة والسابقة والصحبة، قال: ولما أراد عزله كتَبَ إليه أن يغزو رُودِس، وأرسل له مَسْلَمَة بن مُخَلَّدٍ
أميرًا، فخرج مع عقبة إلى إسكندرية، فلما توجه عقبة سائرًا، استولى مَسْلَمة على الإمارة، فبلغ ذلك عقبة، فقال: سبحان الله أعَزلًا، وغُرْبَةً؛ وذلك في ربيع الأول سنة (47).
وقال ابن حجان في "الصحابة": كان من الرُّمَاة، كان يَصْبُغ بالسواد، ويقول: نُسَوِّد أعلاها، وتأبى أصولها.
وروى أبو زرعة الدمشقيّ في "تاريخه" عن عُبادة بن نُسَيّ قال: رأيت جماعة على رجل في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو يحدثهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: عقبة بن عامر الْجُهَنِيّ، قال أبو زرعة: فذَكَرتُ ذلك لأحمد بن صالح، فأَنكَر، وقال: هذا غلطٌ، مات عقبة في خلافة معاوية، وكذلك أرّخه الواقديّ وغيره، وزادوا: في آخرها.
وقال خليفة بن خَيّاط في "تاريخه": وقتل في سنة (38) في النَّهْرَوَان مِن أصحاب عليّ أبو عامر عقبة بن عامر الجهنيّ.
قال الحافظ
(1)
: كذا ذكر في "تاريخه"، وهو نقل غريبٌ جدًّا، إن صَحَّ فهو رجل آخر غير عقبة بن عامر الصحابيّ؛ لاتفاقهم على أن الصحابيّ وَليَ إِمْرة مصر لمعاوية، وذلك بعد سنة (40) قطعًا. انتهى
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه كتاب (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، فللمصنّف في هذا الحديث إسنادان:
[أحدهما]: سند محمد بن حاتم بن ميمون، عن عبد الرحمن بن مهديّ،
(1)
ونصّ "الإصابة"(4/ 429 - 430): وأما قول خليفة بن خيّاط: قُتِل في النَّهْروان من أصحاب عليّ عقبة بن عامر الْجُهنيّ، فهو آخَرُ بدليل قول خليفة في "تاريخه": مات في سنة ثمان وخمسين عقبةُ بن عامر الْجُهَني. انتهى.
(2)
راجع "الإصابة" 4/ 429 - 430، و"تهذيب التهذيب" 3/ 123 - 124.
عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الْخَولانيّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[والثاني]: سند محمد بن حاتم بن ميمون، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
فمحلّ التحويل هو معاوية بن صالح، فأول السند إليه متّحد، وهو يرويه بالإسنادين، وقد اختُلف في ذلك، على ما نوضّحه الآن، فنقول:
(اعلم): أن العلماء اختلفوا في القائل بعد إشارة التحويل: "وحدثني أبو عثمان" مَن هو؟ فقيل: هو معاوية بن صالح، وهو الصواب، وقيل: ربيعة بن يزيد، قال الحافظ أبو عليّ الْغَسّانيّ الْجَيّانيّ رحمه الله في كتابه "تقييد المهمل": القائل في هذا الإسناد: "وحدّثني أبو عثمان" هو معاوية بن صالح، وكتب أبو عبد الله بن الْحَذّاء في نسخته:"قال ربيعة بن يزيد: وحدثني أبو عثمان، عن جبير، عن عقبة"، قال أبو عليّ: والذي أَتَى في النسخ الْمَرْوِيّة عن مسلم - كما ذكرناه أوّلًا - هو الصواب، والذي أَتَى به أبو عبد الله - يعني ابن الحذّاء - في نسخته وَهَمٌ منه، وهذا بَيِّنٌ في طُرُق هذا الحديث من رواية الأئمة الثقات الحفّاظ، وهذا الحديث يرويه معاوية بن صالح بإسنادين:
[أحدهما]: عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة.
[والثاني]: عن أبي عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة.
قال أبو عليّ: وعلى ما ذكرنا من الصواب خَرَّجه أبو مسعود الدمشقيّ، فصَرَّح، وقال: قال معاوية بن صالح: وحدّثني أبو عثمان، عن جبير، عن عقبة.
قال أبو عليّ: نا أبو عُمر النَّمَريّ، قال: نا خَلَف بن قاسم الحافظ، قال: نا أبو عليّ بن السكن، قال: حدّثني أبو عِمْران موسى بن العبّاس، قال: نا عبد الله بن هاشم الطُّوسيّ، قال: نا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: نا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقيّ، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، قال معاوية: وحدّثني أبو عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عُقبة بن عامر، قال: كان علينا رعاية الإبل، فجاءت نَوْبتي، فرَوَّحتها بعشيّ، فأدركت من قول النبيّ - صلي الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يتوضّأ، فيُحسن الوضوء
…
" الحديث.
قال أبو عليّ: فهذا شاهدٌ لما ذكرناه من أن معاوية يرويه، عن أبي عثمان، وإن كان قد رُوي عن زيد بن الْحُبَاب في هذا الإسناد لفظٌ يُوهِمُ ظاهره أن معاوية بن صالح روى الإسنادين معًا عن ربيعة بن يزيد، كما حدّثنا أبو عمر النَّمَريّ، قال: نا عبد الوارث بن سُفيان، قال: نا قاسم بن أصبغ، قال: نا محمد بن وضّاح، قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا زيد بن الْحُبَاب، قال: نا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، وأبي عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يتوضّأ، فيُحسن الوضوء، ويُصلّي ركعتين مُقبِلًا بقلبه ووجهه عليهما، إلا وجبت له الجنّة"، قال: فقال عمر: ما قبلها أفضل منها، كأنك جئتَ آنفًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضّأ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فُتِح له ثمانية أبواب، من الجنّة، يَدخُلُ من أيّها شاء".
وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بهذا اللفظ، وقد بَيَّنَ ما أشكل من ظاهر إسناد هذا الحديث ما حدّثنا أبو عُمر النَّمَريّ، قال: نا خَلَف بن القاسم، قال: نا أبو عليّ بن السَّكَن، قال: نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغويّ، قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا زيد بن الْحُباب، قال: نا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، عن عقبة، قال معاوية: وحدّثني أبو عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يتوضّأ
…
" الحديث.
قال أبو عليّ: فهذا الإسناد بَيَّنَ ما أشكل من إسناد مسلم، ومحمد بن وضّاح، عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وقد رَوَى عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح هذا الحديث أيضًا، فبيَّنَ الإسنادين معًا، ومن أين مخرجهما، كما حدّثنا أبو عمر النَّمَريّ، قال: نا عبد الله بن محمد بن يحيى، قال: نا محمد بن بكر، قال: نا أبو داود، قال: نا أحمد بن سعيد الْهَمْدانيّ، قال: نا ابن وهب، قال: سمعتُ معاوية بن صالح يُحدّث عن أبي عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عُقبة بن عامر، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدّام أنفسنا، نتناوب الرعاية، واقتصّ الحديث إلى آخر
حديث عقبة، وروايته عن عمر بن الخطّاب الحديث الآخر الذي فاته سماعه من النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، ثم قال: قال معاوية: وحدّثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بهذا.
وقال أبو محمد بن الجارود في "كتاب "الكنى": أبو عثمان، عن جُبير بن نُفير، روى عنه معاوية بن صالح، ثم ذكر حديث ابن وهب.
قال أبو عليّ: وقد خَرَّج أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذيّ رحمه الله في "مصنفه" هذا الحديث، من طريق زيد بن الْحُبَاب، عن شيخ له، لم يُقِم إسناده، عن زيد، وحَمَلَ أبو عيسى في ذلك على زيد بن الْحُباب، وزيدٌ بريء من هذه الْعُهْدة، والوهم في ذلك من أبي عيسى، أو من شيخه الذي حدَّثه به؛ لأنا قد قَدَّمنا من رواية أئمة حفاظ، عن زيد بن الحباب في هذا الإسناد ما خالف ما ذكره أبو عيسى، والحمد لله.
وذَكَره أبو عيسى أيضًا في "كتاب العلل"، وسؤالاته محمد بن إسماعيل البخاريّ، فلم يُجَوِّده، وأتى عنه فيه بقولٍ يُخَالِف ما ذكرنا عن الأئمة، ولعله لم يحفظ عنه.
وهذا حديثٌ مُخْتَلَفٌ في إسناده، وأحسن طُرُقه ما خَرّجه مسلم بن الحجاج، من حديث ابن مهديّ وزيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، والله المستعان.
قال أبو عليّ: وقد رواه عثمان بن أبي شيبة، أخو أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، فزاد في إسناده رجلًا، وهو جُبير بن نُفير، ذكره أبو داود في "سننه" في "باب كراهة الوسوسة بحديث النفس في الصلاة"، حدّثناه أبو عمر النَّمَريّ، عن ابن عبد المؤمن، عن ابن داسة، عن أبي داود، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الْحُبَاب، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، عن جبير بن نفير الْحَضرميّ، عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يتوضّأ، فيُحسن الوضوء
…
"، فذكر الحديث. انتهى كلام أبي عليّ الغسانيّ، وقد أتقن رحمه الله هذا الإسناد غاية الإتقان
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل، وتمييز المشكل" 3/ 785 - 790.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ رحمه الله في هذا التحقيق، وأبان الصواب، وقد أوضح ذلك الحافظان، أبو عوانة، وأبو نعيم في "مستخرجيهما" أتمّ إيضاح، فقال الأول:
(555)
حدثنا أبو بكر بن مالك، ثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر.
(ح) وحدثنا محمد بن إبراهيم بن عليّ، ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدّام أنفسنا نتناوب الرِّعاية، رعاية إبلنا، فكنت على رعاية الإبل، فَرَوّحتها بعشيّ
…
فذكر نحوه.
قال معاوية: وحدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر نحوه. انتهى
(1)
.
وقال الثاني:
(606)
حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدّام أنفسنا، نتناوب رعاية إبلنا، فرَوَّحتها بعشيّ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فسمعته يقول:"ما منكم أحدٌ يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم، فيركع ركعتين يُقِبل عليهما بقلبه وبوجهه، فقد أوجب"، فقلت: بَخٍ بَخٍ، ما أجود هذه؟ فقال رجل بين يديّ: التي قبلها أجود، فنظرت إليه، فإذا هو عمر بن الخطاب، فقلت له: ما هي يا أبا حفص، قال: إنه قال آنفًا قبل أن تجيء: "ما منكم من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقول حين يخلو من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله إلا فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".
(1)
"المسند المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 298.
قال معاوية بن صالح: وحدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة. انتهى
(1)
.
والحاصل أن القائل "وحدّثني أبو عثمان" هو معاوية بن صالح، كما تبيّن وجهه في هذه الروايات، وأما قول من قال: إن القائل هو ربيعة، فهو غلطٌ بلا شكّ، فتأمّل ذلك بإمعان، ترى الصواب ظاهرًا للعيان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: أخرج الحافظ أبو بكر الخطيب البغداديّ هذا الحديث بطوله، وفيه قصّة رحلة شعبة رضي الله عنه، ودونك نصّه:
(9)
حدّثنا أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن بن عثمان التميميّ بدمشق، أنبا القاضي أبو بكر يوسف بن القاسم بن يوسف الميانجيّ، ثنا أبو عبيد محمد بن أحمد الناقد، ثنا أبو يحيى محمد بن سعيد العطار الضرير، قال: سمعت نصر بن حماد الوراق يقول: كنا قُعودًا على باب شعبة نتذاكر، فقلت: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رِعْية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، فسمعته يقول:"من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين، فاستغفر الله إلا غُفِر له"، فقلت: بَخٍ بَخٍ، فجذبني رجل من خلفي، فالتفتّ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: الذي قبلُ أحسنُ، فقلت: وما قال؟ قال: قال: "مَن شَهِدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قيل له: ادخُل من أيّ أبواب الجنة شئت". قال: فخرج شعبة، فلَطَمني، ثم رجع فدخل، فتنحيت من ناحية، قال: ثم خرج فقال: ما له يبكي بعدُ؟ فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه، فقال شعبة: انظُر ما تُحَدّث؟ إن أبا إسحاق حدّثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: فقلت لأبي إسحاق: مَن عبد الله بن عطاء؟ قال: فغَضِب، ومِسْعَر بن كِدَام حاضرٌ، قال: فقلت له: لَتُصَحِّحَنَّ لي هذا أو لأَخْرُقَنّ ما كتبت عنك، فقال لي مِسْعَرٌ: عبد الله بن عطاء بمكة، قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحجّ، أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء،
(1)
"مسند أبي عوانة"(1/ 191).
فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدّثني، فقال لي مالك بن أنس: سعدٌ بالمدينة لم يحجّ العام، قال شعبة: فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال: الحديث مِن عندكم، زِيَاد بن مِخْرَاق حدّثني، قال شعبة: فلما ذكر زيادًا قلتُ: أيُّ شيء هذا الحديث؟ بينما هو كوفيّ إذ صار مدنيًّا، إذ صار بصريًّا، قال: فرحلت إلى البصرة، فلقيت زياد بن مِخراق، فسألته، فقال: ليس هو من بَابَتِك، قلت: حدِّثني به، قال: لا تُرِدْهُ، قلت: حدِّثني به، قال: حدَّثني شهر بن حوشب، عن أبي رَيحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، قال شعبة: فلما ذَكَر شهر بن حوشب، قلت: دُمِّر عليّ هذا الحديث، لو صَحَّ لي مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أحبّ إليّ من أهلي ومالي والناس أجمعين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحديث صحيح من الوجه الذي أخرجه المصنّف في "صحيحه" هنا، ولا يضرّه ما وقع في هذه القصّة، من العلّة، وإنما أوردته هنا؛ لما فيه من القصّة التي تُنَشِّط طلاب العلم، وتحثّهم على الرحلة في طلب العلم، وتَحَمّل المشاقّ، وذلك لمعرفتهم مَدَى جُهد المحدّثين في طلب الحديث، فإنهم كانوا يرحلون في طلب حديث واحد إلى البلدان النائية مع ما يلقَونه في خلال سفرهم من الكدّ والتعب والمشاقّ الكثيرة.
وقد عقد الإمام البخاريّ في "صحيحه" بابًا، فقال:"باب الخروج في طلب العلم"، ورَحَل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد، ثم أخرج بسنده قصة خروج موسىي عليه السلام في طلب الخضر.
وألّف الخطيب البغداديّ المتوفّى سنة (463 هـ) كتابًا سمّاه "الرحلة في طلب الحديث"، وأورد فيه ما جاء عن الصحابة، فمن بعدهم في ذلك، فأجاد وأفاد، وقد أوردت جملًا مستحسنةً في "شرح سنن ابن ماجه"، فعليك بالاستفادة منه، وبالله تعالى التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِدْرِيس) تقدّم أن اسمه عائذ الله - بالذال المعجمة - ابن عبد الله
(1)
"الرِّحْلة في طلب الحديث" ص 148 - 153.
(الْخَوْلَانِيِّ) - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو -: نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سَبَأ، وبعض خولان يقولون: خولان بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، وهكذا قال ابن الكلبيّ، واسم خولان: أفكل، وهي قبيلة نزلت الشام
(1)
.
(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه (ح وَحَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ) تقدّم أن الصواب أن قائل: "وحدّثني أبو عثمان" هو معاوية بن صالح، فهو يروي هذا الحديث من طريقين، أحدهما: ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة رضي الله عنه، وثانيهما: عن أبي عثمان، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة رضي الله عنه.
[تنبيه]: قال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث من طريقي المصنّف ما نصّه: قال أبو حاتم: أبو عثمان هذا يُشبه أن يكون حَرِيز بن عثمان الرَّحبيّ، وإنما اعتمادنا على هذا الإسناد الثاني - يعني طريق ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة رضي الله عنه لأن حَرِيز بن عثمان ليس بشيء في الحديث. انتهى كلامه
(2)
.
وهذا الذي قاله ابن حبّان في حَرِيز غير صحيح؛ لأن حَريزًا ثقة ثبت متقنٌ مشهور، قد وثّقه الأئمة: أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، والفلّاس، ودُحيم، وأبو حاتم، وأخرج له البخاريّ في "صحيحه"، ولم ينقموا عليه إلا النصب، وذكر البخاريّ أنه تاب منه، وقال أبو حاتم: حسن الحديث، ولم يثبت عندي ما يقال في رأيه، ولا أعلم بالشام أثبت منه، وهو ثقةٌ متقنٌ، وأما في الحديث فحجة ثبتٌ.
والحاصل أن كلام ابن حبّان غير صحيح، وهذه عادته أنه يجرح بعض الثقات المشهورين، ويوثّق كثيرًا من المجاهيل، كما هو ظاهر لمن يقرأ في "كتاب الثقات" له، وأن ما نُقل عن حَريز من النصب تاب عنه، ولهذا أخرج له البخاريّ، كما ذكر ذلك الحافظ في "التهذيب"
(3)
، فتبصّر، ولا تقلّد المجازفين.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.
(2)
"الإحسان" 3/ 328.
(3)
راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 376 - 377.
هذا كلّه على تقدير أن يكون أبو عثمان هذا هو حَرِيز بن عثمان، وإلا فالأكثرون على أنه مجهول، كما سبق البحث عنه مستوفًى، والله تعالى أعلم.
(عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) بتصغير الاسمين (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ)"الرعاية" - بكسر الراء - وهي الرَّعْيُ، يقال: رعت الماشيةُ تَرْعَى رَعْيًا ورِعَايَةً، وارْتَعَتْ، وتَرَعَّتْ: إذا سَرَحَت بنفسها، ورعاها صاحبها، وأرعاها، يُستعمل لازمًا ومُتعدّيًا
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أنهم كانوا يتناوبون رَعْيَ إبلهم، فيجتمع الجماعة، ويَضُمُّون إبلهم بعضَها إلى بعضٍ، فيرعاها كلَّ يوم واحدٌ منهم؛ ليكون أرفق بهم، وينصرف الباقون في مصالحهم
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رِعاية الإبل" يعني إبل الصدقة المنتظر تفريقها، أو الإبل الْمُعَدَّة لمصالح المسلمين. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: على تفسير النوويّ يكون المعنى نقوم بخدمة أنفسنا، وليس لنا خادم يَرْعَى إبلنا، وعلى تفسير القرطبيّ يكون المعنى: كانت علينا أنا وجماعة رعاية إبل الصدقة بالتناوب، فجاءت نوبتي.
والصواب تفسير النوويّ؛ لما في رواية أبي داود في "سننه": عن عقبة بن عامر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُدّام أنفسنا، نتناوب الرعاية، رعاية إبلنا، فكانت عليّ رعاية الإبل، فروّحتها بالعشيّ
…
الحديث، فقد صرّح في هذا أنهم يرعون إبلهم، لا إبل الصدقة، والله تعالى أعلم.
(فَجَاءَتْ نَوْبَتِي) بفتحٍ النون، وسكون الواو: اسم من المناوبة، قال الفيّوميّ رحمه الله: وناوبته مناوبةً بمعنى ساهمته مُساهمةً، والنَّوْبةُ اسم منه، والجمع نُوَبٌ، مثلُ قَرْيَةٍ وقُرًى، وتناوبوا عليه: تَدَاوَلُوه بينهم، يفعله هذا مرَّةً، وهذا مرَّةً. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 231 و"القاموس المحيط" ص 1160.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 120 - 121.
(3)
"المفهم" 1/ 494.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 629.
(فَرَوَّحْتُهَا) بتشديد الواو: أي رَدَدتُّها إلى مُرَاحها بضمّ الميم: أي مأواها، ومبيتها.
[فائدة]: قال في "المصباح المنير"(1/ 242): "الْمُرَاح - بضم الميم - حيثُ تَأوِي الماشية بالليل، والْمُناخُ، والْمَأْوَى مثله، وفتح الميم بهذا المعنى خطأ؛ لأنه اسم مكان، واسم المكان والزمان والمصدر من أفعل بالألف مُفْعِلٌ بضم الميم، على صيغة اسم المفعول، وأما "الْمَرَاح" بالفتح: فاسم الموضع من راحت بغير ألف، واسم المكان من الثلاثي بالفتح، و"الْمَرَاح" بالفتح أيضًا الموضع الذي يروح القوم منه، أو يرجعون إليه. انتهى.
(بِعَشِيٍّ) قيل: هو ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ، والعشاء من صلاة المغرب إلى الْعَتَمَة
(1)
.
(فَأدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -) أي ثم جئت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركته (قَائِمًا) حال من المفعول، وكذا قوله:(يُحَدِّثُ النَّاسَ) إما مترادفان، أو متداخلان، ولفظ أبي داود:"فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس"(فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ) أي مما تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافية (مِنْ) زائدة للتوكيد (مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ) بأن يأتي بواجباته، ومستحبّاته (ثُمَّ يَقُومُ) أي حقيقةً، أو حكمًا، سيّما إذا كان بعذر، فإطلاق القيام جرى على الغالب، لا أنه قيدٌ احترازيّ، و"ثُمّ" للترقّي، قاله القاري
(2)
. (فَيُصَلِّي رَكعَتَيْن، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا) أي على الركعتين (بِقَلْبِهِ) أي باطنه (وَوَجْهِهِ) أي ظاهره، أو ذاته، قال الطيبيّ رحمه الله:"مقبلٌ" وُجِد بالرفع في الأصول، وفي بعض النسخ "مُقبلًا" منصوبًا على الحال، يعني حال كونه متوجّهًا أي حال كونه مقبلًا عليهما بظاهره، وباطنه، مستغرقًا خاشعًا هائبًا، قال: وكونه مرفوعًا مشكلٌ؛ لأنه إما صفةٌ لـ "مسلم" على أن "من" زائدةٌ، وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل، وإما خبر مبتدأ محذوف، فيكون حالًا، وفيه بُعْدٌ أيضًا؛ لخلوّه عن الواو والضمير، اللهمّ إلا أن يقال: إن المبتدأ المقدّر كالملفوظ،
(1)
المصدر السابق 2/ 412.
(2)
"المرقاة" 2/ 18.
فحينئذ يكون من قبيل: "كلّمتُهُ فُوهُ إلى فِيَّ"، والوجه العربيّ أن يُضْرَب عن هذا الحال صفْحًا، ويقال: هو فاعلٌ تنازع فيه "يقوم"، و"يصلّي" على سبيل التجريد، كقول الشاعر [من الوافر]:
فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةً
…
تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَوْ يَمُوتَ كريمُ
أي أموت كريمًا، فجعل الحال فاعلًا على التجريد، وعليه قراءة عُمير:{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً} الآية [الرحمن: 37] بالرفع، بمعنى: فحصلت وردةٌ، فالمعنى: يُصلي مقبلٌ متناهٍ في إقباله، ملقى على الركعتين بشَرَاشِرِه، ومنه قراءة من قرأ:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6] انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح في وجه الرفع كونه خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي وهو مقبلٌ، والجملة في محلّ نصب على الحال، وأما ما وجّه به الطيبيّ من كونه من باب التجريد فلا يخفى ما فيه من التعسّف، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: وقد جمع صلى الله عليه وسلم بهاتين اللفظتين - يعني في قوله: "مقبلًا بقلبه ووجهه" - أنواعَ الخضوع والخشوع؛ لأن الخضوع في الأعضاء، والخشوع بالقلب، على ما قاله جماعة من العلماء. انتهى
(2)
.
وقال في "المرعاة": الإقبال بالقلب على الركعتين أن لا يغفل عنهما، ولا يتفكّر في أمر لا يتعلّق بهما، ويَصرِف نفسه عنه مهما أمكن، والإقبال بالوجه أن لا يلتفت به إلى جهة لا تليق بالصلاة الالتفات إليها، ومبرجعه الخشوع والخضوع، فإن الخشوع في القلب، والخضوع في الأعضاء.
وقال السنديّ رحمه الله: يمكن أن يكون هذا الحديث بمنزلة التفسير لحديث عثمان رضي الله عنه، وهو:"من توضّأ نحو وضوئي هذا .. إلخ"، وعلى هذا فقوله:"فيُحسن وضوءه" هو أن يتوضّأ نحو ذلك الوضوء، وقوله في حديث عثمان رضي الله عنه:"لا يُحدّث فيهما نفسه" هو أن يُقبل عليهما بقلبه ووجهه، وقوله
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 747.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 121.
في ذلك الحديث: "غُفِرَ له .. إلخ" أريد به أنه تجب له الجنة، ولا شكّ أن ليس المراد دخول الجنة مطلقًا، فإنه يحصل بالإيمان، بل المراد دخولًا أوّليًّا، وهذا يتوقّف على مغفرة الصغائر والكبائر جميعًا، بل مغفرة ما يُفعَل بعد ذلك أيضًا، نعم لا بدّ من اشتراط الموت على حسن الخاتمة، وقد يُجعَل هذا الحديثُ بشارةً بذلك أيضًا. انتهى
(1)
.
(إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ") أي أن الله تعالى أوجب على نفسه أن يُدخله الجنّة؛ فضلًا منه وكرمًا، والظاهر أن المراد دخوله أوّلًا من غير سبق عذاب؛ لأن دخول الجنة مطلقًا يكفي فيه الإيمان، ولو لم يعمل هذا العمل، كما هو مذهب أهل السنّة، والاستثناء من عموم الأحوال.
(قَالَ:) عقبة رضي الله عنه (فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ) الإشارةُ إلى الكلمة، أو الجملة التي قالها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي:"ما من مسلم .. إلخ"، أو الفائدة، أو البشارة، أو العبادة.
[تنبيه]: قوله: "ما أجود هذه""ما" تعجّبيّة، وهي نكرة تامّةٌ، عند سيبويه؛ أي غير موصوفة بالجملة بعدها، و"أجود" فعلٌ ماضٍ، وفاعله ضمير مستترٌ عائد على "ما"، و"هذه" اسم إشارة مفعول به لـ "أجود"، والجملة خبر "ما"، فراجع شروح "الخلاصة" عند قولها:
بِـ "أَفْعَلَ" انْطِقْ بَعْدَ"مَا" تَعَجُّبَا
…
أَوْ جِئْ بِـ "أَفْعِلْ" قَبْلَ مَجْرُورٍ بِـ "بَا"
وَتلْوَ "أَفْعَلَ" انْصِبَنَّهُ كـ "مَا
…
أَوْفَى خَلِيلَيْنَا وَأَصْدِقْ بِهِمَا"
والمعنى: ما أحسن هذه الفائدة، وما أجمل هذه البشارة، وهو تعجّب من جودتها من جهة أنها سَهلةٌ متيسّرة، يقدر عليها كلُّ أحد بلا مشقّة، مع عِظَم أجرها
(2)
، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا) فجائيّة، ظرف لـ"يقول"، والمعنى: ففاجأني قوله
(3)
، وقوله:(قَائِلٌ) مبتدأ خبره جملة "يقول"؛ أي شخصٌ متكلّم (بَيْنَ يَدَيَّ) أي أمامي، متعلّق بصفة لـ "قائل"(يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي حال كونه
(1)
"المرعاة" 2/ 9.
(2)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 121.
(3)
انظر تفاصيلها في "مغني اللبيب" 1/ 83 - 84.
قائلًا (الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ) اسم الإشارة مبتدأ صلته الظرف، و"أجود" خبره؛ أي الجملة التي قبل الجملة التي سمعتها، وتعجّبت من جودتها أكثر أجوديّةً (فَنَظَرْتُ) أي إلى ذلك القائل (فَإِذَا) فجائيّةٌ أيضًا (عُمَرُ) بن الخطّاب الخليفة الراشد رضي الله عنه المتوفّى شهيدًا في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين (قَالَ) أي عمر رضي الله عنه (إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا) بالمدّ، بوزن صاحب على اللغة المشهورة، وبالقصر، بوزن كَتِفٍ، على لغة صحيحة أيضًا، وقد قُرئ بهما في السبع قوله تعالى:{قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]: أي مُذْ ساعة؛ أي في أوّل وقت يَقرُبُ منّا
(1)
. (قَالَ) أي النبيّ - صلي الله عليه وسلم - ("مَا) نافية كما سبق آنفًا (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)"من" الأولى بيانيّة، والثانية زائدة، والجارّ والمجرور حال من "أحد"، وهو مبتدأ، وخبره "إلا وجبت .. إلخ"، وقوله:(يَتَوَضَّأُ) صفة لـ"أحد"(فَيُبْلِغُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإبلاغ (أَوْ) للشكّ من الراوي (فَيُسْبغُ) بوزن ما قبله، من الإسباغ، وكلاهما تنازعا قوله:(الْوَضُوءَ) على أنه مفعول به، وهو بفتح الواو؛ أي استعمال الماء الذي يتوضّأ به، أو بضمّها، اسم للفعل؛ أي للتوضّئ، والمراد من الإبلاغ، أو الإسباغ الإتيان بواجباته، ومستحبّاته، وقال النوويّ رحمه الله: هما بمعنى واحد؛ أي يتمّه، ويُكمله، فيوصله مواضعه على الوجه المسنون. انتهى
(2)
. (ثُمَّ يَقُولُ) أي عقب وضوئه (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي أعلم، وأُبيّن أنه لا إله إلا الله؛ قاله ابن الأنباريّ.
وقال الفيّوميّ: قولهم: أشهد أن لا إله إلا الله، تعدّى بنفسه؛ لأنه بمعنى أعلم
(3)
.
وفي "المنهل": أي أُقرّ بلساني، وأُذعِن بقلبي، من الشهادة، وهي الإخبار بما شُوهد، فهي خبر قاطعٌ، يقال: شهد الرجلُ على كذا، وشهده، شُهودًا: حضره، وقومٌ شُهودٌ: حضورٌ.
و"أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والأصل: أشهد أنه لا إله إلا الله، وخبر "لا" محذوف؛ أي معبود بحقّ، ولا يُقدّر لفظ "موجود"،
(1)
"القاموس المحيط" ص 714.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 121.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 324.
ولا لفظ "معبود" بدون تقييده بـ "حقّ"، كما قدّره بعض الشرّاح؛ لأن ذلك باطلٌ، يكذبه الواقع، حيث إن غير الله له وجود أيضًا، وقد عُبد غير الله تعالى، وإنما الصواب أن يُقدّر: لا معبود بحقّ، كما قال عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج: 62]، وقد أثبت الله تعالى عبادة غيره في غير ما آية، كهذه، وآية:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} الآية [يونس: 18]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
و"إلا" مُلغاة، ولفظ الجلالة مرفوع على البدليّة من الضمير في الخبر، وقيل: غير ذلك، وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" في إعراب "لا إله إلا الله" فوائد نفيسة، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَأَنَّ مُحَمَّدًا) صلى الله عليه وسلم هو في الأصل اسم مفعول من حُمِّد مبالغة في الثناء، وهو علمٌ وصفةٌ اجتمعا في حقّه صلى الله عليه وسلم، وأما في غيره فهو علم محضٌ، منقول من الوصفيّة إلى الاسميّة، وهكذا شأن أسماء النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وأسماء الله تعالى، وأسماء كتابه، فهي أعلام دالّة على معان سامية، هي أوصاف مدح، وسماه به جدّه عبد المطّلب، وقال: رجوت أن يُحمد في السماء والأرض، وقد حقّق الله عز وجل رجاءه. وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" أيضًا تحقيقات تتعلّق بهذا الاسم، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(عَبْدُ اللهِ) وصفه بالعبوديّة التي هي غاية التذلّل والخضوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أتقى الخلق على الإطلاق، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أتقاكم، وأعلمكم بالله أنا"، فلم يبلغ أحدٌ مبلغه صلى الله عليه وسلم من التذلّل والخضوع لمولاه عز وجل، والإضافة فيه للتشريف، إشارةً إلى كمال مرتبته في مقام العبوديّة، والقيام في أداء حقوق الربوبيّة، ووصفه بها لئلا يتوهّم ضعفاء العقول فيه ما لا يليق بمقامه من التأليه كما ضلّت النصارى بذلك في عيسى عليه السلام، وقدّمه على قوله:(وَرَسُولُهُ) لأنه أشرف أوصافه، وأعلاها، ولذلك وصفه الله تعالى به في أرفع المقام، وأسماها، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
(إِلَّا فُتِحَتْ) بالبناء للمفعول، وتخفيف التاء، وتشديدها للمبالغة، وعبَّرَ عن المستقبل بالماضي؛ لتحقّق وقوعه، والمراد تُفتح له يوم القيامة، فهو من باب قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّور} الآية [الكهف: 99].
(لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ) برفع "أبوابُ" على أنه نائب الفاعل، ولفظ النسائيّ:"ثمانية أبواب الجنّة" بالإضافة، وهو من إضافة الصفة للموصوف؛ أي أبواب الجنة الثمانية، وفُتحت له الأبواب الثمانية، وإن كان الدخول يكفي فيه باب واحدٌ؛ تعظيمًا للعبد بسبب عظمة عمله المذكور، فهو كما روي أن الله عز وجل أخذ الميثاق على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركوه
(1)
، ومعلوم أنه لا يظهر في زمان أحد منهم، وإنما ذلك لإظهار شرفه صلى الله عليه وسلم لهم
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: فتح أبواب الجنة محمول على ظاهره وحقيقته، وذكر بعضهم احتمال أن يكون مجازًا عن التوفيق للطاعات في الدنيا، فإنها سبب في فتح أبواب الجنّة في الآخرة
(3)
، والصواب ما قدّمته، وأما الاحتمال المذكور فيُبعده قوله:"يدخُلُ من أيها شاء"، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا) أي من أي تلك الأبواب الثمانية (شَاءَ") أي أراد الدخول فيه، يعني أنه يدخل من أيّ باب اختار الدخول منه، ولكن الظاهر أنه لا يختار إلا الذي يغلب عليه عمله؛ إذ أبواب الجنّة مُعدّة لأعمال مخصوصة، ويؤيّد ذلك ما أخرجه الشيخان، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرَّيّان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على مَن دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل
(1)
روي ذلك عن عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم، راجع "تفسير ابن كثير" 3/ 100 - 101.
(2)
راجع "المنهل" 2/ 158.
(3)
راجع "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 2/ 158.
يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
وقد ذكر العلماء أن فائدة تعدّد الأبواب وفتحها، والدعاء منها هو التشريف في الموقف، والإشادة بذكر من حَصَلَ له ذلك على رؤوس الأشهاد، فليس من يؤذن له في الدخول من باب لا يتعدّاه كمن يُتَلَقَّى بالترحيب من كلّ باب، ويَدخُلُ من حيث شاء
(1)
.
والأبواب الثمانية هي: باب الإيمان، وباب الصلاة، وباب الصيام، وباب الصدقة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الجهاد، وباب التوبة.
قال الجامع عفا الله عنه: [فإن قلت]: يعارض حديث الباب ما أخرجه الشيخان من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفُوعًا: "إن في الجنّة بابًا يقال له: الريّان، يدخل منه الصائمون، لا يدخل معهم أحدٌ غيرهم
…
" الحديث.
[قلت]: لا تعارض بينهما؛ لأن المنفيّ فيه دخول غيرهم، وحديث الباب بيَّن أنه يُخيّر للتشريف، ولا يلزم منه الدخول؛ وحاصله أنه وإن خُيِّر لكن لا يَرغَب في الدخول فيه، ولا يُوفَّق لذلك، إلا إذا كان ممن أكثر الصيام، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قوله: "أبواب الجنة الثمانية" هكذا رواية المصنّف بدون زيادة "مِنْ"، ونحوه رواية أبي داود، والنسائيّ، ووقع في رواية الترمذيّ بلفظ:"فتحت له ثمانية أبواب من الجنّة، من أيّها يدخل"، وهي تدلّ على أنها أكثر من ثمانية؛ بناءً على أن "من" للتبعيض، وفي كلام القرطبيّ ما يؤيّده، وهو لا ينافي رواية المصنّف؛ لأن اسم العدد لا مفهوم له
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي صحّ من الأحاديث يفيد أن أبواب الجنّة ثمانية، كما في حديث الباب، ولا ينافيه ما وقع في رواية الترمذيّ بلفظ "من"؛ لأنها للابتداء كما هو أصل معناها، لا للتبيعض، فلا تنافي ما هنا، وأما ما ذكره القرطبيّ في كتابه "التذكرة" بأنها أكثر من ثمانية، ثم أوصلها إلى ثلاثة عشر، فلا يُلتفت إليه؛ لأنه لم يستند إلى نصّ صحيح يدلّ على ما ذكره، فتنبّه،
(1)
ذكره السيوطيّ في "زهر الربى في شرح المجتبى" نقلًا عن ابن سيّد الناس 1/ 93.
(2)
"المنهل" 2/ 158.
ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وعمدة العنيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[6/ 559 و 560](234)، و (أبو داود) في "الطهارة"(169 و 170)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(55)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(148)، و (ابن ماجه) في "سننه"(470)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 49 - 50)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(142)، و (أبو بكر بن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 3 - 4)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 19 و 150 - 151 و 4/ 145 - 146 و 153)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 182)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1050)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(604 و 605 و 606 و 607)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(554 و 555)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الذكر المستحبّ عقب الوضوء.
2 -
(ومنها): بيان فضل إحسان الوضوء، واستحباب الشهادتين بعده.
3 -
(ومنها): بيان فضل الشهادتين، وكلمة التوحيد.
4 -
(ومنها): إثبات الجنّة، وأن لها أبوابًا ثمانية.
5 -
(ومنها): بيان أن بعض عباد الله تفتح له أبواب الجنّة كلُّها، ويُدعَى إليها؛ تكريمًا له، وإن كان لا يدخل إلا من باب واحد.
6 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: القول بالشهادتين عقب الوضوء إشارة إلى إخلاص العمل لله تعالى، وطهارة القلب من الشرك والرياء، بعد طهارة الأعضاء من الحدث والخبث. انتهى
(1)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 748.
7 -
(ومنها): أن في قوله: "ثم يقوم، فيصلّي" يؤخذ منه أن القيام في النافلة أفضل من الجلوس، إلا لعذر.
8 -
(ومنها): استحباب ركعتين عقب الوضوء، وقد سبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفّ نعليك
(1)
بين يديّ في الجنة"، قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طُهُورًا في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطُّهور ما كُتِب لي أن أصلي. متّفقٌ عليه.
9 -
(ومنها): بيان أن الإخلاص في العمل، وإقبال القلب عليه، وترك الشواغل الدنيويّة هو روح العبادة.
10 -
(ومنها): بيان أن الله عز وجل يُعطي الثواب الكثير على العمل القليل الخالص لوجهه؛ فضلًا منه، ومنّةً، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
11 -
(ومنها): بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على فعل الخير، والترغيب فيه، ودلالة الغير عليه.
12 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم أيضًا من التواضع، وخدمة أنفسهم بأنفسهم.
13 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم أيضًا من الحرص في طلب العلم، وحضور مجالسه، فكلما وجدوا فُرصة انتهزوها، واغتنموها، وصرفوها فيه، ولو كان ذلك على سبيل التناوب، وقد عقد الإمام البخاريّ لذلك بابًا في "كتاب العلم من صحيحه"، فقال:"باب التناوب في العلم"، ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن عباس، عن عمر، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أُمَيَّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك
…
" الحديث.
(1)
أي تحريكهما.
14 -
(ومنها): بيان مشروعيّة التعاون في الأمور المعيشيّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): ينبغي زيادة ما جاء في رواية الترمذيّ، وابن ماجه:"اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهّرين"، وللنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم في "المستدرك":"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
قال في "التلخيص الحبير"(1/ 101) بعد ذكر حديث عقبة، عن عمر رضي الله عنهما هذا ما نصّه: ورواه الترمذي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه، وزاد فيه:"اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين"، وقال: في إسناده اضطراب، ولا يصحّ فيه شيء كبير. انتهى.
قال الحافظ: لكن رواية مسلم سالمة من هذا الاعتراض، والزيادةُ التي عنده رواها البزار، والطبراني في "الأوسط" من طريق ثوبان، ولفظه: "من دعا بِوَضوء، فتوضأ، فساعةَ فَرَغَ من وضوئه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله -، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين
…
"، الحديث، ورواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه.
وأما قوله: "سبحانك اللهم
…
" إلى آخره، فرواه النسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم في "المستدرك" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه بلفظ: "من توضأ، فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِبَ في رَقّ، ثم طُبعَ بِطَابَع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة".
واختُلِف في وقفه ورفعه، وصحّح النسائي الموقوف، وضعف الحازميّ الرواية المرفوعة؛ لأن الطبراني قال في "الأوسط": لم يرفعه عن شعبة إلا يحيى بن كثير.
قال الحافظ: ورواه أبو إسحاق المزكي في الجزء الثاني، تخريج الدارقطنيّ له من طريق رَوْح بن القاسم، عن شعبة، وقال: تفرد به عيسى بن شعيب، عن رَوْح بن القاسم، ورجّح الدارقطنيّ في "العلل" الرواية الموقوفة أيضًا. انتهى
(1)
.
(1)
"التلخيص الحبير" 1/ 101.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الوقف وإن كان راجحًا على الرفع، إلا أنه في مثل هذا له حكم الرفع؛ لأن مقادير الثواب لا تُعْرَف إلا بالتوقيف من النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، فالظاهر أن الصحابيّ سمعه منه صلى الله عليه وسلم.
وقد صحّح الشيخ الألبانيّ رحمه الله رفع هذه الزيادة، فراجع "صحيح الترمذيّ" برقم (55) و"صحيح ابن ماجه" برقم (470)، والظاهر أن الوقف أرجح، لكن الحكم هو ما ذكرته آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أنه لم يثبت من أحاديث الأذكار والدعاء في الوضوء غير التسمية في أوله على ما قيل، وقول:"أشهد أن لا إله إلا الله .. إلخ" في آخره.
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: كلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه، فكَذِبٌ مُختَلَقٌ، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا منه، ولا عَلَّمه لأمته، ولا يثبتُ عنه غير التسمية في أوله، وقول:"أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهّرين" في آخره، وفي حديث آخر عند النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" مما يقال بعد الوضوء أيضًا من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك"
(1)
. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(2)
.
وقال الحافظ في "التلخيص الحبير"(1/ 100) عند قوله: من السنن المحافظة على الدعوات الواردة في الوضوء، فيقول في غسل الوجه:"اللهم بيّض وجهي يوم تَبْيَضُّ وجوه، وتَسْوَدُّ وجوه"، وعند غسل اليد اليمنى:"اللهم أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حسابًا يسيرًا"، وعند غسل اليسرى: "اللهم لا
(1)
وصححه الحاكم رحمه الله، في "المستدرك"(1/ 564) على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ رحمه الله، وصححه أيضًا الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع كلامه في "إرواء الغليل" 3/ 93 - 94.
(2)
"زاد المعاد"(1/ 195).
تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري"، وعند مسح الرأس: "اللهم حَرّم شعري وبشري على النار"، وروي: "اللهم احفظ رأسي وما حَوَى، وبطني وما وَعَى"، وروي: "اللهم أغثني برحمتك، وأنزل علي من بركتك، وأَظِلَّني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك"، وعند مسح الأذنين: "اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه"، وعند غسل الرجلين: "اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام".
قال الرافعيّ: ورد بها الأثر عن الصالحين، وقال النوويّ في "الروضة": هذا الدعاء لا أصل له، ولم يَذكُره الشافعيّ والجمهور، وقال في "شرح المهذَب": لم يذكره المتقدمون، وقال ابن الصلاح: لم يَصِحّ فيه حديث.
وقال الحافظ: رُوي فيه عن عليّ رضي الله عنه من طُرُق ضعيفة جِدًّا، أوردها المستغفريّ في "الدعوات"، وابن عساكر في "أماليه"، وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزيّ، عن حبيب بن أبي حبيب الشيبانيّ، عن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، عن عليّ رضي الله عنه، وفي إسناده من لا يُعْرَف.
ورواه صاحب "مسند الفردوس" من طريق أبي زرعة الرازيّ، عن أحمد بن عبد الله بن داود، حدّثنا محمود بن العباس، حدّثنا المغيث بن بُدَيل، عن خارجة بن مصعب، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عن عليّ رضي الله عنه نحوه.
ورواه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث أنس رضي الله عنه نحو هذا، وفيه عباد
(1)
بن صُهيب، وهو متروك
(2)
.
ورَوَى المستغفريّ من حديث البراء بن عازب، وليس بطوله، وإسناده وَاهٍ. انتهى
(3)
.
(1)
وقع في نسخة "التلخيص الحبير": "عبّاس" بالسين بدل الدال، وهو تصحيف، فتنبّه.
(2)
قال الحافظ في "نتائج الأفكار"(1/ 266) بعد إخراج حديث أنس المذكور من طريق ابن حبّان: فالحاصل أن طرقه كلها لا تخلو من متّهم بوضع الحديث، وأقربها رواية خارجة بن مصعب
…
إلى آخر كلامه.
(3)
"التلخيص الحبير" 1/ 100.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن هذه الأذكار، والدعوات لا يثبُتُ منها شيء، إلا ما سبق استثناؤه، وهو التسمية على خلاف فيه، وما في حديث الباب، وزيادة:"اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهّرين"، وقد سبق تصحيحها، وما في "عمل اليوم والليلة":"سبحانك اللهم وبحمدك .. إلخ"، وقد سبق تصحيحه أيضًا.
وقد أطال البحث في أحاديث دعوات الوضوء الإمام تقيّ الدين ابن دقيق العيد رحمه الله في كتابه العديم النظير في بابه "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"
(1)
، فراجعه تَنَلْ بُغيتك، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" مسائل تتعلّق بهذا الحديث غير ما تقدّم، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[560]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ الْحُبَاب، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ، وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرِ الْجُهَنِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - قَالَ
…
فَذَكَرَ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(زيد بن الْحُبَاب) - بضمّ الحاء المهملة، وموحّدتين - ابن الرَّيَّان، ويقال: رُومان التميمي، أبو الحسين الْعُكْلِيُّ - بضم المهملة، وسكون الكاف - أصله من خُرَاسان، وسكن الكوفة، ورحل في طلب الحديث، فأكثر منه، صدوقٌ، يُخطئ في حديث الثوريّ [9].
(1)
راجع 2/ 53 - 69.
رَوَى عن أيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار اليمامي، وإبراهيم بن نافع المكي، ومالك بن أنس، والثوري، وابن أبي ذئب، ومعاوية بن صالح، ويحيى بن أيوب، وخلق كثير.
ورَوَى عنه أحمد، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأبو كريب، وأحمد بن منيع، والحسن بن علي الخلال، وعلي بن المديني، ومحمد بن رافع النيسابوري، وهو من آخرهم، وقد حدث عنه عبد الله بن وهب، ويزيد بن هارون، وهما أكبر منه.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان صاحب حديث، كَيِّسًا، قد رحل إلى مصر، وخراسان في الحديث، وما كان أصبره على الفقر، وقد ضَرَب في الحديث إلى الأندلس. قال الخطيب: رأى أحمد بن حنبل روايته عن معاوية بن صالح، وكان قاضي الأندلس، وأظنه سمع منه بمكة، فظن أن زيد بن الحباب رحل إلى الأندلس. وقال علي بن المديني، والعجلي: ثقة. وكذا قال عثمان عن ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: زيد بن حباب كان صدوقًا، وكان يضبط الألفاظ عن معاوية بن صالح، لكن كان كثير الخطأ. وقال المفضل بن غسان الغلابي عن ابن معين: كان يقلب حديث الثوري، ولم يكن به بأس. وقال ابن زكريا في "تاريخ الموصل": حدثني الْحِمَّاني، عن عبيد الله القواريري قال: كان أبو الحسين العكلي ذَكِيًّا حافظًا عالمًا لما يسمع. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُخطئ، يُعتبر حديثه إذا رَوَى عن المشاهير، وأما روايته عن المجاهيل ففيها المناكير. وقال ابن خلفون: وثّقه أبو جعفر السّبْتيّ، وأحمد بن صالح، زاد: وكان معروفًا بالحديث صدوقًا. وقال ابن قانع: كوفي صالح. وقال الدارقطني، وابن ماكولا: ثقة. وقال ابن شاهين: وثقه عثمان بن أبي شيبة. وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء": كان جَوّالًا في البلاد في طلب الحديث، وكان حسن الحديث. وقال ابن عدي: له حديث كثير، وهو من أثبات مشايخ الكوفة، ممن لا يُشَكّ في صدقه، والذي قاله ابن معين عن أحاديثه عن الثوري، إنما له أحاديث عن الثوري يُستغرَب بذلك الإسناد، وبعضها ينفرد برفعه، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها. قال أبو هشام الرفاعي وغيره: مات سنة ثلاث ومائتين.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة" والباقون، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَأَبِي عُثْمَانَ) بالجرّ عطفًا على ربيعة، وتقديره: حدّثنا معاوية، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن جُبير، وحدّثنا معاوية، عن أبي عثمان، عن جبير، كما تقدّم تحقيقه في الحديث الماضي.
وقوله: (الْحَضْرَمِيِّ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، وفتح الراء، آخره ميم -: نسبة إلى حضرموت، بلد بأقصى اليمن، وقبيلة؛ قاله في "اللب"
(1)
.
وقوله: (الْجُهَنِيِّ) - بضمّ الجيم، وفتح الهاء، آخره نون -: نسبة إلى جُهَينة، وهي قبيلة من قُضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، نزلوا الكوفة والبصرة؛ قاله في "اللباب"
(2)
.
وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير زيد بن الْحُباب، يعني أنه ذَكَرَ في روايته مثل حديث عبد الرحمن بن مهديّ الماضي.
[تنبيه]: رواية زيد بن الحباب هذه التي أحالها المصنّف على رواية عبد الرحمن بن مهديّ، أخرجها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم"(1/ 297)، فقال:
(554)
أخبرنا سليمان بن أحمد، ثنا أبو زيد القراطيسيّ، ثنا أبو بكر بن موسى، وبكر بن سهل، ثنا عبد الله بن صالح، قالا: ثنا معاوية بن صالح (ح) وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن مَنْدَهْ، ثنا أبو كريب، ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، (ح) وحدثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، ثنا ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، عن عقبة، وأبي عثمان، عن جُبَير بن نُفَير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
"لبّ اللباب" 1/ 249.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 317.
"ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم، فيصلي ركعتين، مقبلًا بقلبه ووجهه عليهما، إلا وجبت له الجنة"، قال عقبة: فقلت: ما أجودها! قال: قائل من خلفي: الذي قبلها أجود منها، فالتفتُّ، فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال لي: كأنك جئت آنفًا، فقال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بالغ في الوضوء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فُتحت له ثمانية أبواب من الجنة، يدخل من أيِّها شاء".
قال: اللفظ لأبي بكر، وأبي كريب جميعًا، عن زيد بن الحباب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(7) - (بَاب آخَرُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ)
قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله تقديم أحاديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه الآتية إلى أحاديث عثمان رضي الله عنه الماضية، حتى تكون أحاديث صفة الوضوء في محلّ واحد، كما لا يخفى حسنه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[561]
(235) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنصَارِيّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَة، قَالَ: قِيلَ لَهُ: تَوَضَّأْ لنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَكفَأَ مِنْهَا
(1)
عَلَى يَدَيْه، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ
(2)
، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ
(1)
وفي نسخة: "منه".
(2)
وفي نسخة: "واحد".
أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا
(1)
، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْن، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَسَحَ بِرَأْسِه، فَأقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْن، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، البزّاز، مولى مُزَينة، صاحب "السنن"، ثقة حافظ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقة ثبت [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت بعد 130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
4 -
(أَبُوهُ) هو: يحيى بن عُمَارة بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ المدني، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الأنصَارِيُّ) هو: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مَبْذُول بن عَمْرو بن غَنْم بن مازن بن النّجّار الأنصاري المازنيّ، أبو محمد، وقيل في نسبه غير ذلك، وأمه أمّ عُمارة نَسِيبة بنت كعب، وهو أخو حَبيب بن زيد الذي قطّعه مُسيلمة الكذّاب، وعمّ عبّاد بن تميم، له ولأبويه، ولأخيه حَبِيب صحبة.
وذَكَر الواقديّ أنه هو الذي قتل مسيلمة الكذاب، وقد رُوي أن أمه أم عُمارة قالت: جئتُ أطلبه - تعني مسيلمة - فوجدت ابني عبد الله يمسح سيفه من دمه، وقد قال وحشيّ بن حرب: إنه رماه بحربته، وشدّ عليه رجلٌ من الأنصار بالسيف، فربّك أعلم أيّنا قتله، إلا أني سمعت جاريةً من الحِصْن
(1)
وفي نسخة: "ثم أدخل يديه، فاستخرجهما".
تقول: قتله العبد الحبشيّ، وقد روي من وجه غريب عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: أنا قتلتُ مسيلمة، فيَحْتَمِل أن يكون شارك فيه.
رَوَى عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - حديث الوضوء وغيره، وروى عنه ابن أخيه عَبّاد بن تميم، وسعيد بن المسيِّب، ويحيى بن عُمَارة، وكان صِهْره على ابنته، وواسع بن حَبّان، وأبو سفيان مولى بن أبي أحمد.
شهِدَ عبد الله بن زيد، وأمّه أمّ عُمارة أُحدًا مع النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، فرُوي أن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - قال يومئذ:"رحمة الله عليكم أهل البيت"
(1)
.
وقال أبو القاسم البغويّ: قيل: إنه شهد بدرًا، ولا يصحّ، وحكاه أبو نعيم الأصبهانيّ عن البخاريّ، وقال ابن سعد: بلغني أنه قُتِل بالحرّة، وقتل معه ابناه: خلاد، وعلي
(2)
.
وقال في "الإصابة": واختُلف في شهوده بدرًا، وبه جزم أبو أحمد الحاكم، وابن مندهْ، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال ابن عبد البرّ: شهد أُحُدًا وغيرها، ولم يَشهَد بدرًا، قال: وكان مسيلمة قَتَل أخاه حبيب بن زيد، فلما غزا الناس اليمامة شارك عبد الله بن زيد وَحْشيّ بن حَرْب في قتل مسيلمة. انتهى
(3)
.
قال خليفة وغير واحد: قُتِل بالْحَرّة، وكان في آخر ذي الحجة سنة (63)، زاد الواقديّ: وهو ابن (70) سنة.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"طبقات ابن سعد" 8/ 415.
(2)
"تهذيب الكمال" 14/ 538 - 540، و"تهذيب التهذيب" 2/ 339.
(3)
"الإصابة" 4/ 85 - 86.
(4)
وله عند البخاريّ (29) حديثًا، هكذا في برنامج الحديث (صخر)، وقال العلامة ابن الملقِّن رحمه الله في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 370: جملة أحاديثه ثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا على ثمانية منها. انتهى.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغداديٌّ، وخالد بن عبد الله، فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بمحمد بن الصباح في الكتب الستة اثنان:
[أحدهما]: شيخ المصنّف هذا، وهو من رجال الجماعة، يروي عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود مباشرة بلا واسطة، ولا يروي عنه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه إلا بواسطة.
[والثاني]: محمد بن الصباح بن سفيان الْجَرْجَرائيّ - بجيمين مفتوحتين، بينهما راء ساكنة، ثم راء خفيفة - أبو جعفر التاجر، صدوق [10](ت 240) من أفراد أبي داود، وابن ماجه.
6 -
(ومنها): أن عبد الله بن زيد بن عاصم هذا غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه، صاحب الأذان، كذا قاله الْحُفّاظ من المتقدمين والمتأخرين، وغَلَّطوا سفيان بن عيينة في قوله: هو هو، وممن نَصّ على غلطه في ذلك البخاريّ في "كتاب الاستسقاء" من "صحيحه"، وقد قيل: إن صاحب الأذان لا يُعْرَف له إلا حديث الأذان؛ قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الإصابة": قال الترمذيّ: لا نعرف له عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - شيئًا يصحّ إلا هذا الحديث الواحد، وقال ابن عديّ: لا نعرف له شيئًا يصحّ غيره، وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره.
قال الحافظ: وهو خطأ، فقد جاءت عنه عدّة أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في "جزء مفرد". انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 121 - 122.
(2)
"الإصابة" 4/ 84 - 85.
وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: إنهما يتّفقان في الاسم، واسم الأب، والقبيلة، ويفترقان في الجدّ، والبطن من القبيلة، فالأول مازنيّ، والثاني حارثيّ، وكلاهما أنصاريّان، خزرجيّان، فيدخلان في المتّفق والمفترق من علوم الحديث، قال: وعبد الله رائي الأذان لم يُخرج له الشيخان شيئًا، كما نصّ على ذلك الحافظ أبو الحسن بن المفضّل المقدسيّ، وأما صاحب الوضوء، فأخرج له الستة، وجملة أحاديثه ثمانية وأربعون حديثًا، اتّفقا على ثمانية، قال: ووَهِمَ أبو القاسم البغويّ، فجعلهم ثلاثةً. انتهى
(1)
، والله تعالى
أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ) يحيى بن عمارة بن أبي حسن، واسمه تميم بن عبد عمرو بن قيس، ولجده أبي حسن صحبة، وكذا لعُمارة فيما جزم به ابن عبد البرّ، وقال أبو نعيم: فيه نظر، وقال الذهبيّ: عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ له صحبة، وقيل: أبوه بَدْريّ، وعَقَبيّ
(2)
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زيدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأنصَارِيِّ) رضي الله عنه (وَكَانَتْ لَهُ صحْبَةٌ) يعني أن عبد الله بن زيد رضي الله عنه صحابيّ (قَالَ) أي عبد الله بن زيد (قِيلَ لَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل؛ أي: والحال أن قائلًا قال له: توضّأ لنا .. إلخ، والقائل هو عمرو بن أبي حسن، كما بُيّن في رواية البخاريّ وغيره.
ووقع في رواية البخاريّ من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى: أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد - وهو جدّ عمرو بن يحيى -: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ؟.
قال في "الفتح": قوله: "أن رجلًا" هو عمرو بن أبي حسن، كما سماه البخاري في الحديث الذي بعد هذا، من طريق وُهيب، عن عمرو بن يحيى،
(1)
راجع "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 370 - 371.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 101.
وعلى هذا فقوله هنا: "وهو جدّ عمرو بن يحيى" فيه تجوُّز؛ لأنه عم أبيه، وسماه جدًّا؛ لكونه في منزلته، ووَهِمَ مَن زَعَم أن المراد بقوله:"وهو" عبد الله بن زيد؛ لأنه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى، لا حقيقةً ولا مجازًا، وأما قول صاحب "الكمال"، ومن تبعه في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد فغلطٌ، تَوَهَّمه من هذه الرواية، وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حُمَيدةُ بنت محمد بن إياس بن الكبير، وقال غيره: هي أم النعمان بنت أبي حية، فالله أعلم.
وقد اختَلَف رواة "الموطأ" في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه.
قال مَعْن بن عيسى في روايته، عن عمرو، عن أبيه يحيى، أنه سمع أبا حسن، وهو جدّ عمرو بن يحيى، قال لعبد الله بن زيد، وكان من الصحابة، فذكر الحديث.
وقال محمد بن الحسن الشيبانيّ، عن مالك: حدثنا عمرو، عن أبيه يحيى، أنه سمع جدّه أبا حسن، يسأل عبد الله بن زيد. وكذا ساقه سحنون في "المدونة".
وقال الشافعيّ في "الأم": عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد. ومثله رواية الإسماعيلي، عن أبي خليفة، عن مالك، عن عمرو، عن أبيه قال.
قال الحافظ: والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاريّ، وابنه عمرو، وابن ابنه يحيى بن عُمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة وضوء النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وتَوَلَّى السؤال منهم له عمرُو بن أبي حسن، فحيث نُسِبَ إليه السؤال كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند البخاريّ في "باب الوضوء من التَّوْر" قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: كان عَمِّي - يعني عمرو بن أبي حسن - يُكْثِر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني، فذكره، وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن، فعلى المجاز؛ لكونه كان الأكبر، وكان حاضرًا، وحيث نُسِب السؤال ليحيى بن عُمارة فعلى المجاز أيضًا؛ لكونه ناقل الحديث، وقد حَضَر السؤال.
ووقع في رواية مسلم عن محمد بن الصبّاح، عن خالد الواسطيّ، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: قيل له: توضأ لنا، فذكره مبهمًا.
وفي رواية الإسماعيليّ، من طريق وهب بن بَقِيَّة، عن خالد المذكور بلفظ: قلنا له، وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتَّفَقُوا على سؤاله، لكن مُتَوَلِّي السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحًا رواية الدّرَاوَرْديّ، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد .. ، فذكر الحديث. أخرجه أبو نعيم في "المستخرج"، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مقولُ "قيل"(فَدَعَا بِإِنَاءٍ) وفي رواية للبخاريّ: "فدعا بماء"، وفي رواية له:"فدعا بِتَوْر من ماء"، و"التَّوْرُ" - بمثناة مفتوحة - قال الداوديّ: قَدَحٌ، وقال الجوهريّ: إناء يُشْرَب منه، وقيل: هو الطَّسْتُ، وقيل: يُشْبِه الطست، وقيل: هو مِثْلُ الْقِدْر، يكون من صُفْرٍ، أو حجارةٍ، وفي رواية البخاريّ في "باب الغسل في الْمِخْضَب" في أول هذا الحديث:"أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تَوْرٍ من صُفْرٍ"، و"الصُّفْرُ" - بضم المهملة، وإسكان الفاء، وقد تُكْسر الصاد - صِنْفٌ من حديد النُّحَاس، قيل: سُمِّي بذلك؛ لكونه يُشبه الذهب، ويسَمَّى أيضًا الشَّبَهَ - بفتح المعجمة، والموحدة - والتورُ المذكور يَحْتَمِل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد، إذ سئل عن صفة الوضوء، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها. انتهى
(2)
.
(فَأَكفَأَ) - بهمزتين - أي أمال، وصبّ، وفي رواية للبخاريّ:"فكفأ" - بفتح الكاف - وهما لغتان بمعنىً، يقال: كفأ الإناء، وأكفأه: إذا أماله، وقال الكسائيّ: كفأت الإناء: كببته، وأكفأته: أملته، والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد، كما صرح به في رواية مالك عند البخاريّ.
(1)
"الفتح" 1/ 348.
(2)
المصدر السابق.
(مِئْهَا) أي من الإناء، وأنّثه بتأويله بالإداوة، أو المطهرة، وفي نسخة:"منه"، وهو واضح، وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول بلفظ: "منها"، وهو صحيح؛ أي من الْمِطْهَرة، أو الإداوة. انتهى
(1)
. (عَلَى يَدَيْهِ) ووقع في رواية البخاريّ: "فغسل يده" بالإفراد، فيُحمل على الجنس، فيكون المراد اليدين (فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا) كذا في رواية خالد الطحّان هذه، ورواية وهيب وسليمان بن بلال عند البخاريّ، والدراورديّ عند أبي نعيم في "المستخرج"، فكلّهم ذكر "ثلاثًا"، ووقع في رواية مالك عند البخاريّ:"فغسل يده مرتين"، قال في "الفتح": وهؤلاء حُفّاظ، وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمةٌ على الحافظ الواحد - يعني مالكًا - وسيأتي لمسلم من طريق بهز، عن وُهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاءً، فتأكَّد ترجيح روايته، ولا يقال: يُحْمَل على واقعتين؛ لأنا نقول: المخرج مُتَّحِد، والأصل عدم التعدد.
وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء، ولو كان من غير نوم، كما تقدَّم مثله في حديث عثمان رضي الله عنه، والمراد باليدين هنا الكفّان. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ) أي في ذلك الإناء (فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ) هكذا بالتأنيث؛ لأن الكفّ مؤنّثة، ووقع في بعض النسخ بلفظ "واحد" بالتذكير، وهو على تأويل الكفّ بالساعد، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الكفّ" من الإنسان وغيره أُنثى، قال ابن الأنباريّ: وزعم من لا يوثق به أن الكفّ مذكّرٌ، ولا يَعرِف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كفٌّ مُخَضَّبٌ، فعلى معنى ساعدٍ مُخضّب، قال: و"الكفّ": الراحة مع الأصابع، سُمّيت بذلك؛ لأنها تكُفّ الأذى عن البدن. انتهى
(3)
.
(فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا) هذا صريح في الجمع كلَّ مرّةٍ، بخلاف رواية وُهيب الآتية، بلفظ:"فمضمض، واستنشق، واستنثر من ثلاث غرفات"، فإنها يتطرقها
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 122.
(2)
"الفتح" 1/ 349.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 535 - 536.
احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نَبّهَ عليه ابن دقيق العيد، ووقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاريّ:"فمضمض، واستنثَرَ ثلاث مرّات من غرفة واحدة"، واستُدِلّ بها على الجمع بغرفة واحدة، قال الحافظ: وفيه نظرٌ؛ لما أشرنا إليه من اتحاد المخرج، فتقدم الزيادةُ. انتهى
(1)
. وفي رواية مالك التالية: "فمضمض، واستنثر ثلاثًا"، والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس
(2)
.
(ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في صحيح مسلم: "أدخل يده" بلفظ الإفراد، وكذا في أكثر روايات البخاريّ، ووقع في رواية للبخاريّ في حديث عبد الله بن زيد هذا:"ثم أدخل يديه، فاغترف بهما، فغسل وجهه ثلاثًا"، وفي "صحيح البخاري" أيضًا من رواية ابن عباس:"ثم أخذ غرفة، فجَعَل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ"، وفي "سنن أبي داود" والبيهقيّ من رواية عليّ رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثم أدخل يديه في الإناء جميعًا، فأخذ بهما حَفْنةً من ماء، فضرب بها على وجهه".
فهذه أحاديثُ في بعضها "يده"، وفي بعضها "يديه"، وفي بعضها "يده، وضمّ إليها الأخرى" فهي دالّة على جواز الأمور الثلاثة، وأن الجميع سنةٌ، ويُجْمَع بين الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذلك في مرّات، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا - يعني الشافعيّةَ - ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قَطَع به الجمهور، ونَصّ عليه الشافعيّ رحمه الله في الْبُوَيْطِيّ، والمزنيّ أن المستحبّ أخذ الماء للوجه باليدين جميعًا؛ لكونه أسهل، وأقرب إلى الإسباغ، والله تعالى أعلم. قال أصحابنا: ويستحب أن يبدأ في غسل وجهه بأعلاه؛ لكونه أشرف، ولأنه أقرب إلى الاستيعاب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"الفتح" 1/ 349.
(2)
"الفتح" 1/ 349.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 122 - 123.
وقال في "الفتح": لم تختلف الروايات في ذلك - أي في غسل وجهه ثلاثًا - ويلزم مَن استَدَلّ بهذا الحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح أن يَسْتَدِلّ به على وجوب الترتيب؛ للإتيان بقوله: "ثم" في الجميع، لأن كلًّا من الحُكمين مُجْمَل في الآية بيّنته السنّة بالفعل. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: وجوب الترتيب هو الحقّ، كما أسلفنا بحثه مستوفًى في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) تثنية مِرْفق - بكسر الميم، وفتح الفاء - وهو العظم الناتئ في آخر الذراع، سُمّي بذلك؛ لأنه يُرْتَفَق به في الاتكاء ونحوه.
قال في "الفتح": قد اختَلَف العلماء: هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟ فقال المعظم: نعم، عدا زُفَر، وحكاه بعضهم عن مالك، واحتَجّ بعضهم للجمهور بأن "إلى" في الآية بمعنى "مع"، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} .
وتُعُقِّب بأنه خلاف الظاهر.
وأجيب بأن القرينة دَلّت عليه، وهي كون ما بعد "إلى" من جنس ما قبلها، وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط، لحديث عمار رضي الله عنه أنه تيمم إلى الإبط، وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} وبقي الْمِرْفَق مغسولًا مع الذراعين بحقّ الاسم. انتهى.
فعلى هذا فـ "إلى" هنا حَدّ للمتروك من غسل اليدين، لا للمغسول، وفي كون ذلك ظاهرًا من السياق نظرٌ، والله أعلم.
وقال الزمخشريّ: لفظ "إلى" يفيد معنى الغاية مطلقًا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} دليلُ عدم الدخول النهيُ عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، دليلُ الدخول كون الكلام مسوقًا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى:
{إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين. قال: فأخذ العلماء بالاحتياط، ووَقَف زفر مع المتيقن. انتهى.
قال الحافظ: ويمكن أن يُسْتَدَلّ لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي رواية الدارقطني بإسناد حسن، من حديث عثمان زجه في صفة الوضوء:"فغَسَل يديه إلى المرفقين، حتى مس أطراف العضدين"، وفيه عن جابر رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه"، لكن إسناده ضعيف، وفي البزار، والطبرانيّ من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه في صفة الوضوء:"وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق"، وفي رواية الطحاويّ، والطبرانيّ من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه، مرفوعًا:"ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه".
فهذه الأحاديث يُقوِّي بعضُها بعضًا.
قال إسحاق بن راهويه: "إلى" في الآية يَحْتَمِل أن تكون بمعنى الغاية، وأن تكون بمعنى "مع"، فَبَيَّنت السنة أنها بمعنى "مع". انتهى.
قال: وقد قال الشافعيّ رضي الله عنه في "الأم": لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزفر محجوجٌ بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحًا، وإنما حَكَى عنه أشهب كلامًا محتملًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قاله الإمامان: إسحاق والشافعيّ رحمهما الله تعالى أن الحقّ وجوب دخول المرفقين في الغسل.
وحاصله أن الآية مجملة، وقد بيّنت السنة - كما قال إسحاق، والإجماع كما قال الشافعيّ - معناها المراد منها، وهو كون "إلى" بمعنى "مع"، فوجب القول بدخول المرفق في المغسول، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فارجع إليه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"الفتح" 1/ 350.
(مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) كذا بتكرار "مرتين"، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين، لكن في رواية المصنّف الآتية من طريق حَبّان بن واسع، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ، وفيه:"ويده اليمنى ثلاثًا، ثم الأخرى ثلاثًا"، فيُحْمَل على أنه وضوء آخر؛ لكون مخرج الحديثين غير مُتَّحِدٍ، قاله في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ) وفي رواية البخاريّ: "ثم مسح رأسه" بدون الباء. قال القرطبيّ رحمه الله: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت برأس اليتيم، ومسحت رأسه، وسَمَّيتُ ابني بمحمّد، ومحمدًا، ولا يصحّ أن تكون للتبعيض، خلافًا للشافعيّ؛ لأن المحقّقين من أئمة النحويين البصريين، وأكثر الكوفيين أنكروا ذلك، ولأنها لو كانت للتبعيض لكان قولك: مصحتُ برأسه كقولك: مسحت ببعض رأسه، ولو كان كذلك لَمَا حَسُنَ أن تقول: مسحت ببعض رأسه، ولا برأسه بعضه؛ لأنه يكون تكريرًا، ولا مسحتُ برأسه كلّه؛ لأنه يكون مناقضًا له، ولو كانت للتبعيض لما جاز إسقاطها هنا، فإنه يقال: مسحت برأسه، ومسحتُ رأسه بمعنًى واحد، وأيضًا فلو كانت مبعّضةً في مسح الرأس في الوضوء لكانت مبعّضةً في مسح الوجه في التيمّم؛ لتساوي اللفظين في المحلَّين، ولمّا لم تكن كذلك فيه فلا
(2)
، ومذهب مالك رحمه الله وجوب تعميم مسح الرأس؛ تمسّكًا باسم الرأس، فإنه للعضو بجملته كالوجه، وتمسّكًا بهذه الأحاديث، ثم نقول: نحن وإن تنزّلنا على أن الباء تكون مبعّضةً، وغير مبعّضة، فذلك يوجب فيها إجمالًا، أزاله النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله، فكان فعله بيانًا لمجملٍ واجبٍ، فكان مسحه كلّه واجبًا، وسيأتي القول في حديث المغيرة رضي الله عنه الذي ذَكَرَ فيه أنه صلى الله عليه وسلم "مسح مقدَّمَ رأسه، وعلى عمامته". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"الفتح" 1/ 350.
(2)
أي لَمّا لم تكن كذلك في مسح الوجه في التيمّم، فلا تكون كذلك في مسح الرأس في الوضوء.
(3)
"المفهم" 1/ 487 - 488.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام القرطبيّ رحمه الله هذا الذي حقّق، وبيّن فيه وجوب استيعاب الرأس بالمسح، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، تحقيقٌ نفيسٌ جدّا، وتقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(فَأقبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ) معناه: أقبل إلى جهة قفاه، والإدبار رجوعه إلى حيث بدأ، كما فسّره حيث قال:"فأقبل بهما، وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه"، وقيل: المراد: أدبر، وأقبل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وفي البخاريّ:"فأدبر بهما، وأقبل"، وهذا أولى لهذا النصّ، وقيل: معنى أقبل: دخل في قبل الرأس، كما يقال: أنجد، وأتهم: إذا دخل نجدًا، وتهامة، وقيل: معناه أنه ابتدأ من الناصية مقبلًا إلى الوجه، ثم ردّهما إلى القفا، ثم رجع إلى الناصية، وهذا ظاهر اللفظ، والإقبال والإدبار مسحةٌ واحدةٌ؛ لأنهما بماء واحد، والمقصود بالرَّدّة على الرأس: المبالغة في استيعابه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد اختُلف في كيفيّة الإقبال والإدبار على ثلاثة أقوال، قد استوفيت بيانها في "شرح النسائيّ"، وبيّنت أن الظاهر أن هذا من العمل المخيّر فيه، وأن المقصود منه تعميم الرأس بالمسح، فراجعه تستفد
(2)
، وبالله تعالى التوفيق.
(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) البحث فيه كالبحث في قوله: "إلى المرفقين"، وأن الأرجح دخول الكعبين في الغسل، والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند مُلْتَقَى الساق والقدم، وحَكَى محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند مَعْقِد الشراك، ورُوي عن ابن القاسم، عن مالك مثله، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة، وقد أكثر المتقدمون من الردّ على من زَعَم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الصحيح في صفة الصفّ في الصلاة: "فرأيت الرجل مِنّا يُلْزِق كعبه
(1)
"المفهم" 1/ 488.
(2)
راجع "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 2/ 340 - 342.
بكعب صاحبه". وقيل: إن محمدًا إنما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين؛ قاله في "الفتح"
(1)
.
وقد ردّ العينيّ ما قاله في "الفتح" بأن هذه الحكاية لم تُنقَل عن أبي حنيفة أصلًا، بل نُقلت عن محمد نفسِه، وهو أيضًا نقل غلطٌ؛ لأنه فسَّر به حديث المحرم:"إذا لم يجد النعلين، فليلبس الخفّين، وليقطعهما حتى أسفل الكعبين"، لا أنه فسَّر به آية الوضوء. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ) عبد الله بن زيد رضي الله عنه (هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم الوضوء على هذه الكيفيّة، ولا ينافي هذا ما تقدّم في حديث عثمان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم توضّأ ثلاثًا ثلاثًا؛ لأنه يُحمل على أن الكيفيّة المذكورة في هذا الحديث هي الغالبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[7/ 561 و 562 و 563 و 564](235)، و [7/ 565](236)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(185 و 186 و 191 و 192 و 197 و 199)، و (أبو داود) في "الطهارة"(119)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(47)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(80 و 82)، وفي "الكبرى"(103)، و (ابن ماجه) في 434)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 51)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 39 و 45 و 42)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 177)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(156 و 172)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1077 و 1084 و 1093)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 50 و 63 و 80)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 81 و 82)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(224)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (658 و 659
(1)
"الفتح" 1/ 351.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 108.
660 و 661 و 662 و 663)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(556 و 557 و 558 و 559)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان صفة الوضوء المسنون.
2 -
(ومنها): بيان استحباب تقديم غسل الكفين قبل غمسهما في الإناء، وإن لم يكن بعد الاستيقاظ من النوم.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله في رواية وُهيب الآتية: "فمضمض، واستنشق واستنثر، من ثلاث غرفات" على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غَرْفَةٍ.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض"، على تقديم المضمضة على الاستنشاق؛ لكونه عُطِفَ بالفاء التعقيبية، قال في "الفتح": وفيه بحث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وجوب الترتيب هو الحقّ، كما سبق بيانه بدلائله في المسائل الماضية في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دلالةٌ ظاهرةٌ للمذهب الصحيح المختار أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها، وقد قدمنا إيضاح هذه المسألة، والخلاف فيها في الباب الأول. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أن قوله: "فغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين" فيه دلالةٌ على جواز مخالفة الأعضاء، وغسل بعضها ثلاثًا، وبعضها مرتين، وبعضها مرة، وهذا جائز، والوضوء على هذه الصفة صحيح بلا شكّ، ولكن الأكمل غسل الأعضاء كلّها ثلاثًا ثلاثًا، كما تقدّم في حديث عثمان رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله: وإنما كانت مخالفتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات بيانًا للجواز، كما توضأ صلى الله عليه وسلم مرّة مرّة في بعض الأوقات؛ بيانًا للجواز، وكان في ذلك الوقت أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأن البيان واجبٌ عليه صلى الله عليه وسلم.
(1)
"الفتح" 1/ 349.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 122.
[فإن قيل]: إن البيان يحصل بالقول.
[فالجواب]: أنه أوقع بالفعل في النفوس، وأبعد من التأويل. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): أن قوله في الرواية الثانية: "فمضمض، واستنشق، واستنثر" فيه حجة للمذهب المختار الذي عليه الجماهير من أهل اللغة وغيرهم، أن الاستنثار غير الاستنشاق، خلافًا لما قاله ابن الأعرابيّ، وابن قُتيبة: إنهما بمعنى واحد، وقد تقدم في الباب الأول إيضاحه.
8 -
(ومنها): جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة.
9 -
(ومنها): أن الاغتراف من الماء القليل لا يصيّره مستعملًا.
1 -
(ومنها): الاقتصار في مسح الرأس على مرّة واحدة؛ لأن في رواية وُهيب الآتية: "مرّةً واحدةً"، فلا يُستحبّ التثليث فيه، خلافًا للشافعيّ، وقد تقدّم أن رواية التثليث، وإن صحّحها بعضهم إلا أن الصواب أنها رواية شاذّة، لا تعارض ما في "الصحيحين" من التصريح بمرّة واحدة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[562]
(
…
) - (وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ - هُوَ ابْنُ بِلَالٍ -، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القُرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربّما نُسِب لجدّه، ثقةٌ [11](ت في حدود 250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الْهَيْثَم الْبَجَليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 123.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بإسناد عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
وقوله: (نَحْوَهُ) أي نحو حديث خالد بن عبد الله الطّحّان الماضي (وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَيْنِ) أي لم يذكر سليمان بن بلال في حديثه قوله: "إلى الكعبين".
[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال هذه التي أحالها المصنّف على رواية خالد الطحّان، أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(199)
حدَثنا خالد بن مَخْلَد، قال: حدّثنا سليمان بن بلال، قال: حدّثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: كان عمي يُكثر من الوضوء، قال لعبد الله بن زيد: أخبرني كيف رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فدعا بتَوْر من ماء، فكفأ على يديه، فغسلهما ثلاث مرار، ثم أدخل يده في التَّوْر، فمضمض، واستنثر ثلاث مرّات من غرفة واحدة، ثم أدخل يده، فاغترف بها، فغسل وجهه ثلاث مرّات، ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أخذ بيده ماء، فمسح رأسه، فأدبر به وأقبل، ثم غَسل رجليه، فقال: هكذا رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[563]
(
…
) - (وَحَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأنصَارِيُّ، حَدَّثنَا مَعْنٌ، حَدَّثنَا مَالِكُ بْنُ أنسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِهَذَا الإسْنَاد، وَقَالَ:"مَضْمَضَ، وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا"، وَلَمْ يَقُلْ:"مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ"
(1)
، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "فَأقبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأ
(2)
بِمُقَدَّمِ رَأسِه، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ").
(1)
وفي نسخة: "واحد".
(2)
وفي نسخة: "وبدأ".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ) هو: إسحاق بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن يزيد الْخَطْميّ الأنصاريّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ مُتْقِنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(مَعْن) بن عيسى بن يحيى بن دينار الأسجعيّ مولاهم الْقَزّاز، أبو يحيى المدنيّ، أحد أئمة الحديث، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10].
رَوَى عن إبراهيم بن طَهْمان، ومعاوية بن صالح، ومالك بن أنس، وخارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، وعبد العزيز بن المطلب، وابن أبي ذئب، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، وهشام بن سعد، وموسى بن يعقوب الزَّمعيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ، والحميديّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وإسحاق بن موسى الأنصاريّ، وأبو خيثمة، وقتيبة، ونصر بن عليّ، وهارون بن عبد الله الحمّال، وغيرهم.
قال الميمونيّ، عن أحمد: ما كتبت عنه شيئًا، وقال إسحاق بن موسى: سمعته يقول: كان مالك لا يجيب العراقيين في شيء من الحديث حتى أكون أنا أسأله، وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، وأتقنهم: مَعْن بن عيسى، وهو أحب إليّ من ابن وهب، وقال ابن سعد: كان يعالج القزّ ويشتريه، مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان ثقةً كثير الحديث، ثبتًا مأمونًا، وقال إبراهيم بن الجنيد: قلت ليحيى بن معين: كان عند معن "الموطأ"؟ قال: قليل، قال يحيى: وإنما قصدنا إليه في حديث مالك، قلت: فكيف هو في حديث مالك؟ قال: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان هو الذي يتولى القراءة على مالك، وقال الخليليّ: قديمٌ متفقٌ عليه، رضي الشافعي بروايته.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
3 -
(مَالِكُ بْنُ أنَس) بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس الْمُتقنين، وكبير الْمُتَثَبِّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بإسناد عمرو بن يحيى السابق.
وقوله: (وَقَالَ: مَضْمَضَ، وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا) فاعل "قال" ضمير مالك بن أنس رحمه الله؛ أي: قال مالك في روايته: "مضمض، واستنثر" بدل قول خالد الطّحّان: "فمضمض، واستنشق".
وقوله: (بَدَأ
(1)
بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ) قال في "الفتح": الظاهر أنه من الحديث، وليس مُدْرجًا من كلام مالك، ففيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه؛ لظاهر قوله: "أقبل، وأدبر"، وَيرُدّ عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد ثبت عند البخاريّ من رواية سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى بلفظ:"فأدبر بيديه، وأقبل"، فلم يكن في ظاهره حجةٌ؛ لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يُعَيِّن ما أقبل إليه، ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين مُتَّحِدٌ، فهما بمعنى واحد، وعَيَّنَت رواية مالك البداءة بالمقدَّم، فَيُحْمَل قوله:"أقبل" على أنه من تسمية الفعل بابتدائه؛ أي بدأ بقُبُل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك.
والحكمةُ في هذا الإقبال والإدبار استيعاب جهتي الرأس بالمسح، فعلى هذا يَختصّ ذلك بمن له شَعْرٌ، والمشهور عمن أوجب التعميم أن الأُولى واجبة، والثانية سنة، ومن هنا يتبين ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التعميم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" من ضعف الاستدلال على وجوب التعميم فيه نظرٌ لا يخفى، فالحقّ أنه يفيد وجوب التعميم؛ لأنه بيان لمجمل الآية كما بيّنه الإمام مالك رحمه الله، وكذا قوله:"يختصّ بمن له شعر" فيه نظرٌ؛ لأن النصّ ما خصّ رأسًا دون رأس، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية مالك رحمه الله التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية خالد الطحّان رحمه الله، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(185)
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عمرو بن
(1)
وفي نسخة: "وبدأ".
(2)
"الفتح" 1/ 351.
يحيى المازنيّ، عن أبيه، أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى -: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض، واستنثر ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بِمُقَدَّم رأسه، حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وقوله: "ثم غسل يديه مرّتين" هكذا في رواية مالك "مرّتين"، وفي رواية خالد الطحّان الماضية، وكذا في رواية وُهيب، وسليمان بن بلال عند البخاريّ، والدَّرَاوَرْديّ عند أبي نعيم - كما قال في "الفتح" - أنه غسل ثلاثًا، وقال الحافظ: وهؤلاء حفّاظ، وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدّمة على الحافظ الواحد، يعني مالكًا، وقد ذكر مسلم في الحديث التالي أن وُهيبًا سمع هذا الحديث من عمرو بن يحيى مرّتين إملاءً، فتأكّد ترجيح روايته
(1)
، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[564]
(
…
) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، بِمِثْلِ إِسْنَادِهِمْ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ:"فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ"، وَقَالَ أَيْضًا:"فَمَسَحَ بِرَأْسِه، فَأقبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً"، قَالَ بَهْزٌ
(2)
: أَمْلَى عَلَيَّ وُهَيْبٌ هَذَا الْحَدِيثَ، وقَالَ وُهَيْبٌ: أَمْلَى عَلَيَّ عَمْرُو بْنُ يَحْيىَ هَذَا الْحَدِيثَ مَرَّتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10] (ت 260) وقيل: بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.
(1)
راجع "الفتح" 1/ 349.
(2)
وفي نسخة: "وقال بهزٌ".
2 -
(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت بعد 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْب) بن خالد بن عَجلان الباهليّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
وقوله: (بِمِثْلِ إِسْنَادِهِمْ) أي بمثل إسناد خالد الطحّان، وسليمان بن بلال، ومالك، يعني أن وُهيبًا روى هذا الحديث بإسنادهم المتقدّم، وهو: عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير وُهيب، أي ساق وُهيبٌ الحديث المذكور.
وقوله: (وَقَالَ فِيهِ) أي قال وُهيب في الحديث الذي ساقه: ("فَمَضْمَضَ، وَاستَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ")، يعني أنه جمع بين الثلاثة: المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، بخلافهم، فإن خالدًا وسليمان ذكرا المضمضة، والاستنشاق من كفّ واحدة، ومالكًا ذكر المضمضة، والاستنثار ثلاثًا.
وقوله: (وَقَالَ أَيْضًا: "فَمَسَحَ بِرَأْسِه، فَأقبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً") يعني أن وُهيبًا صرّح أيضًا في روايته أن مسح الرأس مرّةً واحدةً، وقد سبق أن السنة كون مسح الرأس مرّة واحدةً، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح، ولا يُستحبّ تثليثه، كما يقول به الشافعيّ رحمه الله؛ لعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما ورد من التثليث، وإن صححه بعضهم، فإنه شاذّ، لا يُلتفت إليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ بَهْزٌ
(1)
: أَمْلَى عَلَيَّ وُهَيْبٌ هَذَا الْحَدِيثَ، وقَالَ وُهَيْبٌ. أَمْلَى عَلَيَّ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى هَذَا الْحَدِيثَ مَرَّتَيْنِ) المعنى أن بهزًا أخذ هذا الحديث من شيخه وُهيب بالإملاء، كما أنه أخذه من شيخه عمرو بن يحيى إملاء، أملاه عليه مرّتين، وهذا يدلّ على قوّة حفظه له.
و"الإملاء" لغة في الإملال، يقال: أمللت الكتاب على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمليته إملاء بمعناه، والأولى لغة أهل الحجاز، وبني أسد،
(1)
وفي نسخة: "وقال بهزٌ".
والثانية لغة بني تميم وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما، قال الله تعالى:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] وقال: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]
(1)
.
و"الإملاء" أعلى أنواع التحمّل؛ لما فيه من تَحَرِّي الشيخ والطالب؛ إذ الشيخ مشتغلٌ بالتحديث، والطالب مشتغلٌ بالكتابة عنه، فهما لذلك أبعد عن الغفلة، وأقرب إلى التحقيق، وتبيين الألفاظ مع جريان العادة بالمقابلة بعده.
وهو أيضًا أغلب أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في تبليغه للصحابة؛ لأن الغالب أنه صلى الله عليه وسلم أخبر الناس ابتداءً، وأسمعهم ما جاءه من عند الله تعالى، وأما سؤال الصحابة رضي الله عنهم، وكذا تقريره لما جَرَى في حضرته، فمرتبة ثانية، وراجع في تمام هذا البحث ما كتبته في "شرح" ألفيّة السيوطيّ رحمه الله في الحديث
(2)
.
[تنبيه]: رواية وُهيب هذه التي أحالها المصنّف على رواية الرواة الثلاثة المتقدّمين، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(186)
حدّثنا موسى
(3)
، قال: حدّثنا وُهيب عن عمرو، عن أبيه: شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا بِتَوْر من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأكفأ على يده من التَّوْر، فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده، فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرةً واحدةً، ثم غسل رجليه إلى الكعبين. انتهى.
وقوله: "ثم أدخل يده، فغسل وجهه" بَيَّن في هذه الرواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الروايات عند الشيخين وغيرهما، لكن وقع في رواية ابن عساكر، وأبي الوقت من طريق سليمان بن بلال عند البخاريّ:"ثم أدخل يديه بالتثنية"، وليس ذلك في رواية أبي ذرّ، ولا الأصيليّ، ولا في شيء من الروايات خارج "الصحيح"؛ قاله النوويّ.
(1)
راجع "المصباح المنير" 2/ 580.
(2)
1/ 445 - 447.
(3)
هو ابن إسماعيل التبوذكيّ رحمه الله.
قال الحافظ: وأظن أن الإناء كان صغيرًا، فاغترف بإحدى يديه، ثم أضافها إلى الأخرى، كما تقدم نظيره في حديث ابن عباس رضي الله عنه، وإلا فالاغتراف باليدين جميعًا أسهل وأقرب تناولًا، كما قال الشافعي رحمه الله.
وقوله: "ثم غسل يديه مرتين" المراد غسل كل يد مرتين، كما تقدم في طريق مالك:"ثم غسل يديه مرتين مرتين"، وليس المراد توزيع المرتين على اليدين كأن يكون لكل يد مرة واحدة، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[565]
(236) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَبُو الطَّاهِر، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، أَنَّ حَبَّانَ بْنَ وَاسِعٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيَّ
(2)
، يَذْكُرُ أَنهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَمَضْمَضَ، ثُمَّ اسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَل وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِه، بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ
(3)
، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الْخَزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة - السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](253) عن (83) سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
3 -
(أبو الطَّاهِرِ) هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عَمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
(1)
1/ 352 - 353.
(2)
وفي نسخة: "المازنيّ، ثمّ الأنصاريّ".
(3)
وفي نسخة: "يديه".
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابد [9](ت 197) عن (72) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [71](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
6 -
(حَبَّانُ بْنُ وَاسِعٍ) هو: حَبّان - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة، آخره نون - ابن وَاسع بن حَبّان بن مُنقِذ بن عَمْرو الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ابن عَمّ محمد بن يحيى، صدوقٌ [5].
رَوَى عن أبيه، وخلاد بن السائب، وعنه عمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، له عندهم هذا الحديث في الوضوء فقط.
7 -
(أَبُوهُ) هو: واسع بن حبّان - بفتح المهملة، ثم موحّدة ثقيلة - ابن منقذ بن عمرو بن مالك بن خَنْساء بن مَبْذُول بن عَمْرو بن غَنْم بن مازن بن النجار الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [2].
رَوَى عن رافع بن خَدِيج، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازنيّ، وعبد الله بن عُمر، وسعد بن المنذر، وقيس بن صعصعة، وأبي سعيد، ووهب بن حُذيفة، وجابر رضي الله عنهم.
ورَوَى عنه ابنه حَبّان، وابن أخيه محمد بن يحيى بن حَبّان، قال أبو زرعة: مدنيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره البغوي في "الصحابة"، وقال: في صحبته مقالٌ، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وزَعَم الْعَبْدَويّ أنه شَهِد بيعة الرضوان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (236) وحديث رقم (266) وأعاده بعده.
و"عبد الله بن زيد" رضي الله عنه تقدّم.
وقوله: (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأيلِيُّ) قال النوويّ رحمه الله: هذا من احتياط مسلم رحمه الله، ووفور علمه، وورعه، ففرّق بين روايته - عن شيخيه: الهارونين، فقال في الأول:"حدّثنا"، وفي الثاني:
"حدّثني"، فإن روايته عن الأول كانت سماعًا من لفظ الشيخ له ولغيره، وروايته عن الثاني كانت له خاصةً من غير شريك له، وقد قدَّمنا أن المستحب في مثل الأول أن يقول:"حدّثنا"، وفي الثاني:"حدثني"، وهذا مستحبّ بالاتفاق، وليس بواجب، فاستعمله مسلم رحمه الله، وقد أكثر من التحرّي في مثل هذا، وقد قدّمت له نظائر، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - التنبيه على نظائره الكثيرة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) هذا أيضًا من احتياط مسلم رحمه الله وورعه، فإنه رَوَى هذا الحديث أوّلًا عن شيوخه الثلاثة: الهارونين، وأبي الطاهر، عن ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، ولم يكن في رواية أبي الطاهر "أخبرني"، وإنما كان فيها:"عن عمرو بن الحارث"، وقد تقرَّر أن لفظة "عن" مختلَفٌ في حملها على الاتصال، والقائلون أنها للاتصال وهم الجماهير يوافقون على أنها دون "أخبرنا"، فاحتاط مسلم رحمه الله، وبَيَّنَ ذلك، وكم في كتابه من الدُّرَر والنفائس المشابهة لهذا، رحمه الله تعالى، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته، والله تعالى أعلم؛ قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا)[إن قيل]: إن هذه الرواية تعارض ما سبق من روايات حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، حيث إن فيها أنه غسل يديه مرتين مرّتين، وهذه فيها أنه غسلهما ثلاثًا، فكيف التوفيق؟.
[قلت]: يجاب بأنه لا تعارض بين الروايات؛ لأنه يمكن حملُ هذه الرواية على أنها بيان لصفة أخرى، توضّأها عبد الله بن زيد رضي الله عنه في وقت آخر، كما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضّأ أيضًا كذلك، ومما يؤيّد هذا اختلاف الطريق، فإن هذه من طريق واسع بن حبّان، عن عبد الله بن زيد، بخلاف الروايات السابقة، كما مرّ إيضاحه، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ) وفي بعض النسخ: "يديه"، قال النوويّ رحمه الله: معناه أنه مسح الرأس بماء جديدٍ، لا ببقية ماء يديه، ولا يُسْتَدَلّ
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 124.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 124.
بهذا على أن الماء المستعمل لا تصحّ الطهارة به، لأن هذا إخبار عن الإتيان بماء جديدٍ للرأس، ولا يلزم من ذلك اشتراطه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على مشروعيّة تجديد الماء لمسح الرأس، وأنه سنّة، خلافًا للأوزاعيّ والحسن وعروة في تجويزهم مسحه ابتداءً بما فضل في يديه، ولم يجيء في هذا الحديث، ولا في حديث عثمان رضي الله عنه للأذنين ذكر، ويُمكن أن يكون ذلك لأن اسم الرأس تضمّنهما، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائيّ، وأبي داود، وغيرهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه، ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صِمَاخيه، وسيأتي ذكرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (وَغسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا) فيه أن استحباب إنقاء الرجلين بالغسل، ولا ينافي هذا ما تقدّم في حديث عثمان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه ثلاثًا؛ لأن التثليث لا ينافي الإنقاء، فالسنة التثليث مع الإنقاء، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(8) - (بَابُ الإيتَارِ فِي الاسْتِنْثَار، والاسْتِجْمَارِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[566]
(237) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَمْروٌ النَّاقِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا، وَإذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ
(3)
").
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 125.
(2)
"المفهم" 1/ 489.
(3)
وفي نسخة: "ثم لينثُر".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبت [10](240) عن (95)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عِمْران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظٌ فقية إمام حجة، من رؤوس [8](ت 198) عن (91) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
5 -
(أَبُو الزِّنَادِ) هو: عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
6 -
(الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَنَ بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عمرو الناقد، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): مسلسلٌ بالمدنيين من أبي الزناد.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وهو مرويّ عن الإمام البخاريّ رحمه الله
(1)
.
(1)
راجع "شرحي على ألفيّة الحديث للسيوطيّ رحمه الله" 1/ 35.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبي الزناد، عن الأعرج.
6 -
(ومنها): أن فيه قوله: (جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ)، فـ "جميعًا" منصوب على الحال، أي حال كون الشيوخ الثلاثة مجتمعين
(1)
في أخذهم عن ابن عيينة.
7 -
(ومنها): أن فيه قوله: (قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) قد تقدّم أن هذا من احتياط الإمام مسلم رحمه الله، وشدّة عنايته بالتمييز بين ألفاظ الشيوخ المختلفة، وإن كان اختلافها لا يضرّ، وذلك أن شيوخه الثلاثة مختلفون في كيفيّة الأداء، فعمرو الناقد، وابن نُمير قالا:"عن ابن عيينة"، وأما قتيبة، فصرّح بالتحديث، وذكر شيخه باسمه، فقال:"حدّثنا سفيان"، وهذا الصنيع هو الذي امتاز به المصنّف، حتى على الإمام البخاريّ رحمه الله، فتنبّه لذلك، فإنه دقيق، وبالله تعالى التوفيق.
8 -
(ومنها): أن فيه قوله: (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هذه الصيغة من جملة صيغ الأداء التي يستعملها المحدّثون، ومعنى "يبلغ به" أي يَصِل به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك "يرفعه"، و"يَنْمِيه"، و"روايةً"، و"يَرْويه"، وأمثال ذلك، وهو في حكم المرفوع بلا خلاف بين أهل العلم، كما صرّح به النوويّ، واقتضاه كلام ابن الصلاح، قال السخاويّ: ويدلّ لذلك مجيء بعض الْمَكنيّ به بالتصريح، ففي بعض الروايات لحديث:"الفِطْرة خمسٌ": "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي بعضها:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
والسبب الحامل على عدول التابعيّ عن قول الصحابيّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحوها إلى "يبلغ به"، أو "يرفعه"، أو "روايةً"، ونحوها مع تحقّقه بأن الصحابيّ رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كونه يشكّ في صيغة الرفع بعينها، هل هي "سمعتُ"، أو "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو "نبيّ الله"، أو نحوها؟ وهو ممن لا يَرَى الإبدال، أو طلبًا للتخفيف، أو شكّه في ثبوته، أو ورعه، حيث عَلِمَ أن المرويّ بالمعنى
(2)
، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، كما سبق غير مرّة. والله تعالى أعلم.
(1)
راجع "المصباح المنير" 1/ 109.
(2)
راجع شرحي المسمّى: "إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفية الأثر" 1/ 110 - 111.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم البحث عن هذه الجملة آنفًا (قَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم ("إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ) أي استعمل الجمارَ، وهي الحجارة الصغيرة في الاستنجاء، وحمله بعضهم على استعمال البَخُور، فإنه يقال فيه: تَجَمَّر، واستجمر، حكاه ابن حبيب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يصحّ عنه، وابن عبد البر عن مالك، وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عنه خلافه، وقال عبد الرزاق، عن معمر أيضًا بموافقة الجمهور، واستَدَلّ بعض من نَفَى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث؛ للإتيان فيه بحرف الشرط، ولا دلالة فيه، وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء، أو بالأحجار؛ قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما الاستجمار: فهو مسح محلّ البول والغائط بالْجِمَار، وهي الأحجار الصغار، قال العلماء: يقال: الاستطابةُ، والاستجمار، والاستنجاء لتطهير محلّ البول والغائط، فأما الاستجمار فمختص بالمسح بالأحجار، وأما الاستطابة، والاستنجاء، فيكونان بالماء ويكونان بالأحجار.
قال: هذا الذي ذكرناه من معنى الاستجمار هو الصحيح المشهور الذي قاله الجماهير من طوائف العلماء من اللغويين، والمحدثين، والفقهاء.
وقال القاضي عياض رحمه الله: اختَلَف قولُ مالك وغيره في معنى الاستجمار المذكور في هذا الحديث، فقيل: هذا، وقيل: المراد به في الْبَخُور، أن يأخذ منه ثلاث قِطَع، أو يأخذ منه ثلاث مرات، يَسْتَعمل واحدة بعد أخرى، قال: والأول أظهر، والله أعلم، والصحيح المعروف ما قدمناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال العينيّ رحمه الله في "شرحه" بعد ذكره ما تقدّم: إنما سُمّي به التمسّح بالجمار التي هي الأحجار الصغار؛ لأنه يُطيّب المحلّ كما يُطيّبه الاستجمار بالْبَخُور، ومنه سُمّيت جمار الحج، وهي الحصيات التي يُرْمَى بها. انتهى
(3)
.
(1)
1/ 316.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 125.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 309.
(فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا) أي ليجعل الأحجار التي يستنجي بها وترًا ثلاثًا، لا أقلّ؛ لما أخرجه المصنّف من حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "ولا يستنج أحدكم بأقلّ من ثلاثة أحجار".
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالإيتار أن يكون عدد الْمَسَحَات ثلاثًا، أو خمسًا، أو فوق ذلك من الأوتار، ومذهب الشافعيّ أن الإيتار فيما زاد على الثلاث مستحبّ، وحاصل مذهبه أن الإنقاء واجب، واستيفاء ثلاث مَسَحَات واجبٌ، فإن حَصَل الإنقاء بثلاث فلا زيادة، وإن لم يحصل وجب الزيادة، ثم إن حَصَل بوتر فلا زيادة، وإن حصل بشفع كأربع، أو ستّ استُحِبّ الإيتار.
وقال بعض أصحاب الشافعيّ: يجب الإيتار مطلقًا؛ لظاهر هذا الحديث، وحجة الجمهور الحديث الصحيح في "السنن" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن استَجْمَر فليُوتِرْ، مَن فَعَل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج"، ويَحْمِلون حديث الباب على الثلاث، وعلى الندب فيما زاد. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وبهذا أخذ الشافعيّ، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاثة، مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها، فيزاد حتى ينقى، لكن يُستحبّ مع ذلك الإيتار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ومن استجمر فليوتر"، وليس بواجب؛ لزيادةٍ في "سنن أبي داود" حسنة الإسناد: قال: "ومن لا فلا حرج"، وبهذا يحصل التوفيق بين الروايات في هذا الباب. انتهى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(وَإِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ) أي شرع في الوضوء (فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ) وفي نسخة: "فليَنْثُر": أي لِيُخْرِج الماء الذي استنشقه، وذلك يكون بريح الأنف بإعانة يده، أو بغيرها مع إخراج الأذى؛ لما يأتي من قوله:"فإن الشيطان يبيت على خياشيمه"؛ ولما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن تنقية مجرى النفس تصحّح مخارج الحروف.
و"الاستنثار": استفعال، من النَّثْر - بالنون، والمثلَّثة - وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ، أي يجذبه بريح الأنف؛ لتنظيف ما في داخله، فيخرج
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 126.
بريح الأنف سواءٌ كان بإعانة يده أم لا. وحُكِي عن مالك كراهية فعله بغير اليد؛ لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة، وإذا استنثر بيده، فالمستحب أن يكون باليسرى، بَوَّبَ عليه النسائي، وأخرجه مقيدًا بها من حديث عليّ رضي الله عنه
(1)
.
[تنبيه]: لم يَذكُر في هذه الرواية عددًا، وقد ورد في رواية سفيان، عن أبي الزناد، ولفظه:"وإذا استنثر، فليستنثر وترًا"، أخرجه الحميديّ في "مسنده" عنه، وأصله لمسلم، وفي رواية عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه الآتية للمصنّف بعد ثلاثة أحاديث:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرّات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه"، أفاده في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: ففيه دلالةٌ ظاهر على أن الاستنثار غير الاستنشاق، وأن الاستنثار هو إخراج الماء بعد الاستنشاق، مع ما في الأنف من مخاط وشبهه، وقد تقدَّم ذكر هذا، وفيه دلالة لمذهب مَن يقول: الاستنشاق واجب؛ لمطلق الأمر، ومن لم يوجبه حَمَل الأمر على الندب، بدليل أن المأمور به حقيقةً، وهو الانتثار ليس بواجب بالاتفاق، فإن قالوا: ففي الرواية الأخرى: "إذا توضأ فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينثر"، فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لكن حَمْلُه على الندب مُحْتَمِلٌ لِيُجْمَع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الأرجح وجوب الاستنشاق، والانتثار؛ لظاهر الأمر، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنه تركهما، وقد سبق أن الحقّ أن آية الوضوء مجملة، بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله، فتبصّر، وسيأتي تمام البحث في هذا في "المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 1/ 315.
(2)
"الفتح" 1/ 315.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[8/ 566 و 567 و 568 و 569، (237)، و [8/ 570](238)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(162)، و (أبو داود) في "الطهارة"(140)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(88)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 19)، و (الحميديّ) في "مسنده"(957)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 278 و 315 و 463)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(671 و 672 و 673 و 674 و 675 و 676 و 677)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(560 و 561 و 562 و 563 و 564)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(1439)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 120)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(210)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بالاستنثار في الوضوء، والحقّ أنه واجبٌ، كالمضمضة والاستنشاق، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث الأمر بالاستنثار بالماء عند الوضوء، وذلك دفع الماء بريح الأنف بعد الاستنشاق، والاستنشاق أخذ الماء بريح الأنف من الكفّ، والاستنثار دفعه، ومحالٌ أن يدفعه مَن لم يأخذه، ففي الأمر بالاستنثار أمر بالاستنشاق، فافهم، وعلى ما وصفتُ لك في الاستنشاق والاستنثار جمهور العلماء، وأصل هذه اللفظة في اللغة القَذْفُ يقال: نَثَرَ، واستنثر بمعنى واحد، وذلك إذا قَذَف من أنفه ما استنشق، مثل الامتخاط، ويقال: الجرأد نثرة حُوت، أي قَذَف به من أنفه.
وقد رَوَى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك، قال: الاستنثار أن يَجعل يده على أنفه، ويستنثر، قيل لمالك: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك الحمار، وسئل مالك عن المضمضة والاستنثار مرّةً أم مرتين أم ثلاثًا؟ فقال: ما أبالي أيّ ذلك فعلت، وكل ذلك جائز عند مالك، وجميع أصحابه أن يتمضمض، ويستنثر من غرفة واحدة.
2 -
(ومنها): بيان الأمر بالاستجمار وترًا، وهو أيضًا للوجوب، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنثار:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: أجمع المسلمون طرًّا على أن الاستنشاق، والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة، ومسح الأذنين، واختلفوا فيمن ترك ذلك ناسيًا أو عامدًا، فكان أحمد بن حنبل يذهب إلى أن مَن ترك الاستنثار في الوضوء ناسيًا أو عامدًا أعاد الوضوء والصلاة، وبه قال أبو ثور، وأبو عبيد في الاستنثار خاصّة، وهو قول داود في الاستنثار خاصة أيضًا.
وكان أبو حنيفة، والثوريّ، وأصحابهما يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء.
وكانت طائفة توجبهما في الوضوء والجنابة.
وأما مالك، والشافعيّ، والأوزاعيّ، وأكثر أهل العلم، فإنهم ذهبوا إلى أن لا فرض في الوضوء واجبٌ إلا ما ذكره الله عز وجل في القرآن، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. انتهى كلامه بالاختصار
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: (فليستنثر) ظاهر الأمر أنه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق؛ لورود الأمر به، كأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب "المغني" يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار.
وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار.
وفيه تَعَقُّبٌ على من نقل الإجماع على عدم وجوبه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت آنفًا من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله أن هؤلاء - أحمد، ومن ذكر معه - قائلون بوجوب الاستنثار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: واستَدَلّ الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حَسّنه الترمذيّ، وصححه الحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ:"توضأ كما أمرك الله"، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق.
وأجيب بأنه يَحْتَمِل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد
(1)
"التمهيد" لابن عبد البر رحمه الله 18/ 226.
أمر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الْمُبَيِّن عن الله أمره، ولم يَحْكِ أحدٌ ممن وَصَف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يَرُدُّ على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وقد ثبت الأمر بها أيضًا في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، وذكر ابن المنذر أن الشافعيّ لم يَحْتَجّ على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يَعْلَم خلافًا في أن تاركه لا يُعيد، وهذا دليلٌ قويّ، فإنه لا يُحْفَظ ذلك عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بوجوب الاستنثار هو الحقّ، وكذا المضمضة، والاستنشاق، وأما دعوى الإجماع على عدم وجوبها، كما سبق آنفًا عن ابن المنذر أنه لا يُحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، غير صحيحة، فقد ذكر ابن المنذر نفسه ذلك عن عطاء، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، والزهريّ، وإسحاق بن راهويه
(2)
، وذكر ابن حزم أنه نُقل عن مجاهد أنه قال: الاستنشاق شطر الوضوء، فأين الإجماع المزعوم؟ وقد تقدّم تحقيق القول في هذا في المسألة السابعة من شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستجمار وترًا:
(اعلم): أنه اختُلف في اشتراط الثلاث في الاستنجاء بالأحجار على مذاهب:
(الأول): مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث، فإنهم اشترطوا أن لا ينقص من الثلاث، مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصُل بها، فيُزاد حتى ينقي، ويُستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ومن استجمر فليوتر"، وليس بواجب؛ لما أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد حسن، فزاد:"ومن لا فلا حرج"، وبهذا يحصل الجمع بين الروايات.
(المذهب الثاني): مذهب مالك، وداود قالا: الواجب الإنقاء، فإن
(1)
"الفتح" 1/ 315.
(2)
"الأوسط" 1/ 377.
حصل بحجر واحد أجزأ، وحكاه العبدريّ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة، حيث أوجب الاستنجاء.
واحتجّ هؤلاء بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من استجمر فليوتر، ومن فَعَل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج"، قالوا: ولأن المقصود الإنقاء، ولأنه لو استنجى بالماء لم يُشترط عدد، وكذلك الحجر.
واحتجّ أصحاب المذهب الأول بحديث سلمان رضي الله عنه الآتي: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار"
(1)
، فإنه صريح في وجوب الثلاث.
وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وحديث عائشة رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار"، وهو حديث صحيح.
وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرّمّة"، أخرجه النسائيّ، وهو حديث صحيح، وبحديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: "بثلاثة أحجار"، حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقيّ.
وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثةً، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس"، رواه البخاريّ، وأحمد، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وفي رواياته زيادة: "فألقى الروثة، وقال: ائتني بحجر"، يعني ثالثًا، وفي بعضها: "ائتني بغيرها".
وبحديث جابر رضي الله عنه الآتي آخر الباب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من استجمر فليوتر".
وفي رواية لأحمد، والبيهقيّ:"إذا استجمر أحدكم، فليستجمر ثلاثًا"، قال البيهقيّ رحمه الله: هذه الرواية تُبَيّن أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد.
(1)
سيأتي - إن شاء الله تعالى - برقم (262).
وقال الخطابيّ رحمه الله في حديث سلمان رضي الله عنه: "أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار": في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقلّ من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بدونها، ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنًى، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى؛ لأنه يزيل العين والأثر، فدلالته قطعيّة، فلم يَحتَجْ إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهرًا لا قطعًا، فاشتُرط فيه العدد، كالعدّة بالأقراء لَمّا كانت دلالتها ظنًّا اشتُرط فيها العدد، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء، ولهذا اكتُفي بقرء في استبراء الأمة، ولو كانت العدّة الولادة لم يُشترط العدد؛ لأن دلالتها قطعيّة. انتهى كلام الخطابيّ ملخّصًا.
[فإن قيل]: التقييد بثلاثة أحجار إنما كان لأن الإنقاء لا يحصل بدونهما غالبًا، فخرج مخرج الغالب.
[قلنا]: لا يجوز حمل الحديث على هذا؛ لأن الإنقاء شرط بالاتّفاق، فكيف يُخلّ به، وَيذكُر ما ليس بشرط، مع كونه موهمًا للاشتراط.
[فإن قيل]: فقد ترك ذكر الإنقاء.
[قلنا]: ذلك من المعلوم الذي يُستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد، فإنه لا يُعرف إلا بتوقيف، فنصّ على ما يخفى، وترك ما لا يخفى، ولو حُمِلَ على ما قالوه لكان إخلالًا بالشرطين معًا، وتعرُّضًا لما لا فائدة فيه، بل فيه إيهام.
والجواب عن الحديث الذي احتجّوا به: أن الوتر الذي لا حرج في تركه هو الزائد على ثلاثة؛ جمعًا بين الأحاديث، والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلامنا؛ قاله النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب"
(1)
.
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد عارضت الحنفيّة حديث سلمان رضي الله عنه المذكور الذي هو نصّ في اشتراط الثلاث بحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه: "فأخذ الحجرين، وألقى الروثة"، قال الطحاويّ: هو دليل على أن عدد الأحجار ليس بشرط؛ لأنه قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار؛ لقوله:
(1)
"المجموع" 2/ 104.
"ناولني"، فلما ألقى الروثة دلّ على أن الاستنجاء بالحجرين يُجزئ؛ إذ لو لم يكن كذلك لقال: ابغني ثالثًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: قد روى أحمد هذه الزيادة بإسناد رجاله ثقات، قال في آخره:"فألقى الروثة، وقال: إنها ركس، ائتني بحجر"، قال: مع أنه ليس فيما ذكر استدلال؛ لأنه مجرّد احتمال، وحديث سلمان رضي الله عنه نصّ في عدم الاقتصار على ما دونها، وأيضًا في سائر الأحاديث الناصّة على وجوب الثلاث زيادة يجب المصير إليها، مع عدم منافاتها بالاتّفاق، فالأخذ بها متحتّم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ هو ما ذهب إليه المشترطون للثلاث في الاستجمار بالأحجار؛ لقوّة دليله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[567]
(
…
) - (حَذَثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّام، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
(2)
، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَاَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمًّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَضَّاَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاء، ثُمَّ لِيَنْتثِرْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهير، عَمي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
راجع "نيل الأوطار" 1/ 149.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا معمر".
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كَامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
[تنبيه]: قوله: (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم)
قد تقدّم البحث في هذا الكلام. غير مرّة، وأن هذا الحديث مما أخذه المصنّف من صحيفة همّام بن منبّه، وهي صحيفة مشهورة مطبوعة متداولة، والله تعالى أعلم.
وقوله: ("إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاء، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ") قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار، وأصحها إسنادًا، وأجمع المسلمون طرًّا أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِمَنْخِرَيْهِ) بفتح الميم، وكسر الخاء، وبكسرهما جميعًا، لغتان معروفتان؛ قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْمَنْخِرُ"، مثالُ مَسْجِد: خَرْقُ الأنف، وأصلُهُ موضع النَّخِير، وهو الصوت من الأنف، يقال: نَخَرَ يَنْخَرُ، من باب قَتَلَ: إذا مدّ النَّفَسَ في الْخَيَاشيم، و"الْمِنْخِرُ" - بكسر الميم للإتباع - لغةٌ، ومثلُهُ مِنْتِنٌ، قالوا: ولا ثالث لهما، و"الْمُنْخُورُ"، مثلُ عُصْفُور لغة طَيِّئٍ، والجمعُ مَنَاخِرُ، ومَنَاخيرُ. انتهى
(3)
.
وقد تقدّم تمام شرح الحديث، ومسائله في الحديث الماضى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[568]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأ، فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ"). رحمه الله
(1)
"التمهيد" 18/ 225.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 126.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 596.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكير التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِك) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو إِدْرِيس الْخَوْلَانِيُّ) هو: عائذ الله بن عبد الله، تقدّم قبل باب.
وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[569]
(
…
) - (حَدَّثنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ (ح) وَحَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيىَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، أَئهُ سَمِعَ أَبَاَ هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولانِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الله الْكِرْمانيّ، أبو هشام الْعَنَزِيّ - بفتح النون، بعدها زاي - قاضي كِرْمان، صدوقٌ يُخطئ [8].
رَوَى عن سعيد بن مسروق، وابنه سفيان بن سعيد الثوريّ، وعاصم الأحول، وليث بن أبي سُليم، وابن عجلان، وزُفَر بن الْهُذيل، وعبيد الله بن عمر، ويوسف بن أبي إسحاق، ويونس بن يزيد الأيليّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه حميد بن مسعدة، وعَفّان، وعبيد الله العيشيّ، وأحمد بن عبدة، وداود بن عمرو الضبيّ، وسعيد بن منصور، وعلي بن المدينيّ، وعلي بن حُجْر، ومحمد بن أبي يعقوب الكِرْمانيّ، وغيرهم.
قال حرب الكرمانيّ: سمعت أحمد يُوَثِّق حسان بن إبراهيم، ويقول: حديثه حديث أهل الصدق، وقال عثمان الدارميّ وغيره، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال المفضل الغلابيّ، عن ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: قد حَدّث بإفرادات كثيرة، وهو عندي من أهل الصدق، إلا أنه يَغْلَط في الشيء، ولا يتعمد.
وجاء أن أحمد أنكر عليه بعض حديثه، وقال الْعُقيليّ: في حديثه وَهَم، وقال ابن المدينيّ: كان ثقةً، وأشدّ الناس في القدر، وقال ابن حبان في "الثقات": ربما أخطأ، وذَكَرَ ابن عديّ أنه سمع من أبي سفيان، طَرِيفٍ، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدريّ حديثَ:"مفتاحُ الصلاة الوضوء"، فحدَّث به مرةً عن أبي سفيان، ولم يسمه، ومرةً ظَنّ أنه أبو سفيان الثوريّ، فقال: ثنا سعيد بن مسروق، قال ابن صاعد: هذا وَهَم من أبي عُمَر الْحَوْضيّ على حسّان، وقال ابن عديّ: الوهم فيه من حسّان، فإن حَبّان بن هلال حدَّث به عن حسّان مثل الْحَوضيّ، وحدَّث به الْعَيْشيّ، عن حسّان، فقال: عن أبي سفيان على الصواب. انتهى.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت شيخًا من أهل كرمان يذكر أنه وُلد سنة ست وثمانين، ومات سنة (186) وذَكَر أنه مات، وله مائة سنة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (237) و (745) و 2408).
3 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [10](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب المذكور في الباب الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني رواية يونس هذه مثل رواية مالك الماضية.
[تنبيه]: رواية يونس هذه التي أحالها المصنّف على رواية مالك أخرجها الإمام ابن حبّان في "صحيحه"، (4/ 286)، فقال:
(1438)
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا حرملة بن يحيى،
حدثنا ابن وهب، حدثنا يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو إدريس الْخَوْلانيّ، أنه سمع أبا هريرة، وأبا سعيد الْخُدْريّ، يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ، فليستنثر، ومن استَجْمَر فليوتر".
قال أبو حاتم رحمه الله: "الاستنثار": هو إخراج الماء من الأنف، والاستنشاق: إدخاله فيه، فقوله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ، فليستنثر"، أراد: فليستنشق، فأوقع اسم البداية الذي هو الاستنشاق على النهاية الذي هو الاستنثار؛ لأنه لا يوجد الاستنثار إلا بتقدم الاستنشاق له، و"الاستجمار": هو الاستطابة، وهو إزالة النجاسة عن المخرجين. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[570]
(238) - (حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنِ ابْنِ الْهَاد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ
(1)
، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِن الشيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ) هو: بشر بن الْحَكَم بن حَبِيب بن مِهْرَان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن النيسابوريّ، ثقةٌ زاهد فقيه [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عُبيد الدَّرَاورديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم، المدنيّ، صدوق، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
(1)
وفي نسخة: "من نومه".
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد القرشيّ التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، كان جدُّه الحارثُ من المهاجرين الأولين، ثقةٌ له أفراد [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّ، أبو محمد المدنيّ، وأمه سعدى بنت عوف الْمُرّيّة، ثقة فاضلٌ، من كبار [3].
رَوَى عن أبيه، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة، ومعاوية، وعُمَير بن سَلَمَة الضَّمْريّ، وحُمْران بن أبان، وغيرهم.
وروى عنه ابنا أخيه: طلحة وإسحاق ابنا يحيى بن طلحة، والزهريّ، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وخالد بن سلمة المخزومي، ومحمد بن عبد الرحمن، مولى آل طلحة، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وقال: كان ثقةً كثير الحديث. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائيّ، والعجليّ.
قال خليفة وغيره: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال ابن منجويه: مات سنة مائة، وهو قول ابن حبان في "الثقات"، قال: وكان من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (238) و (387) و (1306) وكرّره خمس مرّات و (2988) وكرّره مرّتين.
والباقون تقدّموا.
وقوله: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ)
(1)
.
وقوله: (فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: "الاستنثار" مأخوذ من النَّثْرة، وهي طرف الأنف، عند جمهور أهل اللغة، وقال الخطّابيّ: هي الأنف، واختُلف في حقيقة الاستنثار، فقال جمهور أهل اللغة: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو قول الفقهاء، وأهل الحديث، وقال ابن الأعرابيّ، وابن قتيبة: إن الاستنثار هو الاستنشاق، والصواب
(1)
وفي نسخة: "من نومه".
الأول، وهو الذي يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم "ثم لينتثر" بعد قوله:"فليستنشق". انتهى
(1)
.
وقوله: (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ) قال العلماء رحمهم الله تعالى: الْخَيشوم أعلى الأنف، وقيل: هو الأنف كلُّه، وقيل: هي عظام رِقَاقٌ لَيِّنةٌ في أقصى الأنف، بينه وبين الدماغ، وقيل: غير ذلك، وهو اختلاف متقارب المعنى.
قال القاضي عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان يبيت على خياشيمه" على حقيقته، فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يُتَوَصَّل إلى القلب منها، لا سيما وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غَلَقٌ سواه، وسوى الأذنين، وفي الحديث:"إن الشيطان لا يَفْتَح بابًا مُغْلَقًا" رواه مسلم، وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه، من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم.
قال: ويحتمل أن يكون على الاستعارة، فإن ما ينعقد من الغُبَار، ورطوبة الخياشيم قَذارة تُوافق الشيطان، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه": "الخيشوم" - بفتح الخاء المعجمة، وبسكون الياء المعجمة، وسكون الواو - هو الأنف، وقيل المنخر.
وقوله: "فليستنثر" أكثر فائدةً من قوله: "فليستنشق"؛ لأن الاستنثار يقع على الاستنشاق، بغير عكس، فقد يستنشق، ولا يستنثر، والاستنثار من تمام فائدة الاستنشاق؛ لأن حقيقة الاستنشاق جذب الماء بريح الأنف إلى أقصاه، والاستنثار إخراج ذلك الماء، والمقصود من الاستنشاق تنظيف داخل الأنف، والاستنثار يُخرِج ذلك الوسخ مع الماء، فهو من تمام الاستنشاق.
وقيل: إن الاستنثار مأخوذ من النَّثْرَة، وهي طرف الأنف، وقيل: الأنف نفسه، فعلى هذا فمن استنشق، فقد استنثر؛ لأنه يَصْدُق أنه تناول الماء بأنفه، أو بطرف أنفه، وفيه نظر.
ثم إن ظاهر الحديث أن هذا يقع لكل نائم، ويَحْتَمِل أن يكون مخصوصًا
(1)
"طرح التثريب" 1/ 206 - 207.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 31 - 32.
بمن لم يَحْتَرِس من الشيطان بشيء من الذكر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، في يوم مائة مرّةٍ، كانت له عَدْل عشر رقاب، وكتبت له مائةُ حسنة، ومُحِيت عنه مائة سيئة، وكانت له حِرْزًا من الشيطان، يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك"، متّفقٌ عليه.
وكذلك من قرأ آية الكرسي، فقد أخرج البخاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، فقال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يَقْرَبُك شيطان حتى تصبح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَك، وهو كَذُوبٌ، ذاك شيطان".
ويَحْتَمِل أن يكون المراد هنا أنه لا يَقْرَب من المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يَقصد من الوسوسة فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ.
ثم إن الاستنشاق من سنن الوضوء اتّفاقًا لكل من استيقظ، أو كان مستيقظًا، وقالت طائفة بوجوبه في الغسل، وطائفة بوجوبه في الوضوء أيضًا، وهل تتأدى السنة بمجرده بغير استنثار، أم لا؟ خلافٌ، وهو محلُّ بحث وتَأَمُّل، والذي يظهر أنها لا تتم إلا به؛ لما تقدم، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ويَحْتَمل البقاء على ظاهره، كما جاء أن الشيطان يدخل إذا لم يَكْظِم المتثائب فاه
(2)
، ويَحْتَمل أن يكون ذلك عبارةً عمّا ينعقد من رطوبة الأنف، وقَذَره الموافقة للشيطان، وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث، والمستشنع إلى الشيطان، كما قال الله تعالى:{كَأَنَّهُ}
(1)
"الفتح" 6/ 395.
(2)
أخرجه المصنّف، وسيأتي في "الرقاق" (2995) عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تثاوب أحدكم، فليُمسك بيده، فإن الشيطان يدخل".
رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، وكما قال الشاعر [من الطويل]:
أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي
…
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وهي الشياطين، وَيحْتَمِلُ أن يكون ذلك عبارةً عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "يَعْقِدُ الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَد
…
" الحديث، متّفقٌ عليه، ويكون أمره بالاستنثار أمرًا بالوضوء، كما قد جاء مفسَّرًا في غير كتاب مسلم: "فليتوضأ، وليستنثر، فإن الشيطان يبيتُ على خياشيمه". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يقربك شيطان .. إلخ " على القرب من محلّ الوسوسة، وهو القلب أولى، فلا ينافي مبيته في الخيشوم، فينبغي له أن يستنثر حتى لا يتوصّل إلى القلب بعد الاستيقاظ، وبهذا يُجمَع بين الأحاديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[571]
(239) - (حَدَّثَنَا
(2)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُوتِرْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْحَنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه، ثقةٌ ثبت إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضَلٌ، يدلّس [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
(1)
"المفهم" 1/ 483 - 484.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا" بالواو.
4 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد سنة (70) وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أحاديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، فلا يُخشى فيه تدليس ابن جريج، وأبي الزبير، وأنه مسلسلٌ بالمكيين من ابن جريج، وجابر رضي الله عنه، وإن كان مدنيًّا، إلا أنه سكن مكة أيضًا.
وأما شرح الحديث، وفوائده، فتُعلم من شرح الأحاديث الماضية، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[8/ 571](239)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 294 و 336 و 400)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(76)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(565)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِكَمَالِهِمَا إِذَا لَمْ يَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[572]
(240) - (حَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَبُو الطَّاهِر، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالُوا: أَخْبَرَنا
(1)
عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدَّادٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، أَسْبغِ الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"وَيْل لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) أبو جعفر المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(وَأَبُو الطَّاهِرِ) هو أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدم قريبًا.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ، تُكلّم فيه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قبل حديثين.
5 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ) أبو الْمِسْور المدنيّ، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
6 -
(أَبُوهُ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
7 -
(سَالِم مَوْلَى شَدَّادٍ) هو: سالم بن عبد الله النَّصْريّ - بالنون، والصاد المهملة - أبو عبد الله المدنيّ، وهو سالم مولى شداد بن الهاد، وهو سالم مولى النَّصْريين، وهو سالم سَبَلان - بفتح السين المهملة، والباء الموحّدة - وهو سالم مولى مالك بن أوس بن الْحَدَثَان، وهو سالم مولى دوس، وهو سالم أبو عبد الله الدَّوْسيّ، وهو سالم مولى الْمَهْريّ، وهو أبو عبد الله الذي رَوَى عنه بُكير بن الأشجّ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن عثمان، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهم.
ورَوَى عنه بكير بن الأشجّ، وسعيد المقبريّ، وأبو الأسود يتيم عروة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ونعيم المجمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن أبي كثير، وعمران بن بِشر بن مُحْرِز، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.
قال أبو حاتم: شيخٌ، وقال أبو حاتم أيضًا: كان سالِمٌ من خيار
المسلمين، وقال عطاء بن السائب: حدثني سالم البرّاد، وكان أوثق عندي من نفسي
(1)
، وأخرج النسائي في "الطهارة" من طريق عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذُباب قال: أخبرني أبو عبد الله سالم سَبَلان، وكانت عائشة تستعجب بأمانته، وتستأجره، قال: فأرتني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
…
الحديث، وقال عبد الغني بن سعيد في "إيضاح الإشكال": وهو الذي رَوَى عنه أبو سلمة، فقال: ثنا أبو سالم، أو سالم مولى المْهَرْيّ، وقال العجليّ: سالم مولى الْمَهْريّ تابعيٌّ ثقةٌ، وسالم مولى النَّصْريين تابعيّ ثقةٌ، وسالم سَبَلان تابعيّ ثقة، هكذا فَرّق بينهم، وذكره ابن حبان في "الثقات" في موضعين، فقال: سالمٌ أبو عبد الله مولى دَوْس، ثم قال: سالم بن عبد الله سَبَلان، مولى مالك بن أوس، وذكر الحاكم أبو أحمد أن مسلمًا، والحسين الْقَبّانيّ وَهِمَا، حيث أَخْرجا سالم سَبَلان، وسالم مولى شداد كلّ واحد في ترجمة على الانفراد، وذكر ابن أبي عاصم أنه مات سنة عشر ومائة.
أخرح المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (240) و (568) و (2601).
8 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت ترجمتها في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مخرمة، والباقون مصريّون.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: مخرمة، عن بُكير، وتابعيّ، عن تابعيّ: بُكير، عن سالم.
4 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 129.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدَّادٍ) وفي الرواية الثانية: "أن أبا عبد الله، مولى شدّاد بن الهاد"، وفي الثَّالثة:"سالم، مولى الْمَهْريّ"، هذه كلها صفاتٌ له، وهو شخصٌ واحدٌ، كما تقدّم في ترجمته، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ صفة، أو بدل، أو عطف بيان لـ "عائشة"(يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، والسابقين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وآخر من مات من العشرة، تُوُفِّي رضي الله عنه بالعقيق سنة (55) على المشهور، ونُقل إلى المدينة، ودُفن بها، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 71.
فقوله: "يومَ" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "دَخَلَ"، وهو مضاف إلى "تُوُفّي"، ويجوز إعرابه وبناؤه؛ لإضافته إلى جملة مضارعيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا
…
وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا
…
أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
و"تُوُفّي فلانٌ" بمعنى مات مبنيّ للمفعول، وقد يقال على قلّة: تَوَفَّى فلانٌ بالبناء للفاعل بمعنى استوفى أجله.
[تنبيه]: هذه الرواية فيها بيان أن هذه القصّة وقعت يوم مات سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، ووقع عند الإمام أحمد في "مسنده" من طريق عمران بن بشير، عن سالم سَبَلان، قال: خرجنا مع عائشة إلى مكة، فكانت تَخرُج بأبي يحيى التيميّ يصلي لها، فأدركنا عبد الرحمن بن أبي بكر، فأساء الوضوء، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويل للأعقاب من النار". انتهى.
والظاهر أنه إن صحّت هذه الرواية أنها في وقت آخر، والله تعالى أعلم.
(فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصدّيق رضي الله عنهما وقد سبق تمام نسبه في ترجمة أبيه رضي الله عنه في "الإيمان" 8/ 133، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عثمان، ابن أبي بكر بن أبي قحافة القُرَشيّ التيمئ، وأمه أم رُومان والدة عائشة، فهو شقيق عائشة رضي الله عنهم، أسلم قبل الفتح، وحسن إسلامه، وقيل: إنه كان أسنّ ولد أبي بكر رضي الله عنه، وشَهِد مع خالد اليمامة، فقَتَل سبعة من
أكابرهم، ويقال: إنه كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، أو عبد العُزَّى، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعنه ابناه: عبد الله، وحفصة، وابن أخيه: القاسم بن محمد، وعمرو بن أوس الثقفيّ، وأبو عثمان النَّهْديّ، وموسى بن وَرْدان، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن أبي مليكة، وغيرهم.
قال الزبير: كان امرءًا صالحًا، وكانت فيه دُعَابةٌ، وقال عروة بن الزبير: نَفّله عمر بن الخطاب ليلى بنت الجوديّ بنت ملك دمشق، قال ابن عبد البر: وكان أبوها عربيًّا من غَسّان، أمير دِمشق، وكان عبد الرحمن نزلها قبل فتح دمشق، فأحبّها، وهام بها، وعَمِل فيها الأشعار، والقصة أسندها الزبير بن بكّار من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قَدِمَ عبد الرحمن الشامَ في تجارة، فرأى ابنة الجوديّ، وحولها ولائدُ، فأعجبته، وعَمِلِ فيها [من الطويل]:
تَذكَّرْتُ لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَنَا
…
فَمَا لابْنَةِ الْجُودِيِّ لَيْلَى وَمَا لِيَا
وَأَنَّى تُعَاطِي قَلْبَهُ حَارِثِيَّةٌ
…
تَدَمَّنُ بُصْرَى أَوْ تَحُلُّ الْجَوَابِيَا
وَأَنَّى تُلَاقِيهَا بَلَى وَلَعَلَّهَا
…
إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلًا أَنْ تُوَافِيَا
فلما سمع عمر رضي الله عنه الشعر قال لأمير الجيش: إن ظَفِرت بها عَنْوَةً، فادفعها لعبد الرحمن، ففعل، فأُعْجِب بها، وآثرها على نسائه، فشكونه إلى عائشة، فقالت له: لقد أفرطت، فقال: والله إني لأرشف من ثناياها حَبّ الرُّمّان، فأصابها وجعٌ، فسقطت أسنانها، فجافاها، حتى شَكَته إلى عائشة، قالت: أفرطت في الأمرين، فجهّزها إلى أهلها
(1)
.
وروى عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب في حديث ذكره أن عبد الرحمن بن أبي بكر، لم يُجَرَّب عليه كذبةٌ قطّ، وقال ابن عبد البرّ: كان شُجَاعًا راميًا، حَسَنَ الرمي، وشَهِد اليمامة، فقَتَل سبعةً من أكابرهم، منهم مُحكّم اليمامة، وكان في ثَلْمَة من الحِصْن، فرماه عبد الرحمن بسهم، فأصاب نحره فقتله، ودخل المسلمون من تلك الثَّلْمة، وشَهِد وقعة
(1)
راجع "سير أعلام النبلاء" 2/ 471 - 473.
الْجَمَل مع عائشة، وأخوه محمد مع عليّ. وأخرج البخاريّ من طريق يوسف بن ماهَك: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فَخَطَب، فذَكَر يزيد بن معاوية لكي يُبَايَعَ له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فقال مروان: هذا الذي أَنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17]، فأنكرت عائشة ذلك من وراء الحجاب. وأخرجه النسائيّ، والإسماعيليّ، من وجه آخر مطولًا، فقال مروان: سنةُ أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هِرَقْل وقَيْصَر، وفيه: فقالت عائشة: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته. وأخرج الزبير، عن عبد الله بن نافع، قال: خَطَب معاوية، فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلَّمه الحسين بن عليّ، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرحمن: أهرقليةٌ؟ كلما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبدًا، وخَرَج إلى مكة، فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد، وكان موته فَجْأَةً، من نومة نامها بمكان على عشرة أميال من مكة، فحُمِل إلى مكة، ودُفِن بها، ولما بلغ عائشة خبره خرجت حاجةً، فوقفت على قبره، فبكت، وأنشدت أبيات مُتَمِّم بن نُوَيرة في أخيه مالك، ثم قالت: لو حضرتك دفنتك حيث مِتّ، ولَمَا بكيتك
(1)
.
وقال ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيكة: تُوُفِّي عبد الرحمن بِحُبْشيّ
(2)
، وهو على اثني عشر ميلًا من مكة، فحُمِل إلى مكة، فدُفِن بها، وقال ابن سعد، وغير واحد: كان ذلك سنة ثلاث وخمسين، وقال يحيى بن بكير: سنة (54)، وقال أبو نعيم: مات في نَوْمَةٍ نامها سنة (3) وقيل: (5) وقيل: سنة ست وخمسين، وقال أبو زرعة الدِّمَشقيّ: تُوُفي بعد مُنْصَرَف معاوية من المدينة في قَدْمَته التي قَدِمَ فيها لأخذ البيعة ليزيد، وتُوُفّيت عائشة بعد ذلك بيسير سنة (59).
وقال العسكريّ: هو أول مَن مات من أهل الإسلام فَجْأَةً، وأَرَّخ ابنُ حبّان وفاته تبعًا للبخاريّ سنة (58). وقال أبو الفرج الأصبهانيّ: لم يُهاجر عبد الرحمن مع أبيه؛ لصغره، وخَرَج قبل الفتح مع فِتْية من قريش، وقيل: بل
(1)
راجع "الإصابة" 4/ 275 - 276.
(2)
بضم الحاء المهملة، وسكون الموحّدة: جبل بأسفل مكة على ستة أميال منها.
كان إسلامه يوم الفتح، وإسلام معاوية في وقت واحد.
له أحاديث، نحو الثمانية، اتفق الشيخان على ثلاثة منها
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1212) و (2056) و (2057) وأعاده بعده.
(فَتَوَضَّأ) أي عبد الرحمن رضي الله عنه (عِنْدَهَا) أي عند عائشة رضي الله عنها (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، أَسْبغِ الْوُضُوءَ) أي أكمله، ولعلّها رأت منه تقصيرًا، أو خشيت عليه (فَإِنِّي) الفاء للتعليل، أي لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ") قال القرطبيّ رحمه الله: "ويلٌ" كلمة عذاب، وقُبُوح، وهلاك، مثلُ "ويح"، وعن أبي سعيد الخدريّ، وعطاء بن يسار: هو وادٍ في جهنّم، لو أُرسلت فيه الجبال لَمَاعت من حرّه، وقال ابن مسعود: صديد أهل النار، ويقال: ويلٌ لزيد، ووْيلًا له، بالرفع على الابتداء، والنصب على إضمار الفعل، فإن أضفته لم يكن إلا النصب؛ لأنك لو رفعته لم يكن له خبر.
و"الأعقاب" - بفتح الهمزة -: جمع عَقِبٍ - بفتح، فكسر - وعَقِبُ كلّ شيء آخره، و"الْعَرَاقيب" - بالفتح - جمع عُرقوب - بضمّ، فسكون - وهو الْعَصَبُ الغليظ الموتّر فوق عقب الإنسان، وعُرْقوب الدابّة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها، قال الأصمعيّ: وكلّ ذي أربع فعُرقوباه في رجليه، وركبتاه في يديه، ومعنى ذلك أن الأعقاب، والعراقيب تُعَذَّب إن لم تُعَمَّم بالغسل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": "وَيْلٌ" جاز الابتداء بالنكرة؛ لأنه دعاءٌ، واختُلِف في معناه على أقوال: أظهرها ما رواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: "ويل وَادٍ في جهنم". وقوله: "للأعقاب": أي المرئية إذ ذاك، فاللام للعهد، ويَلتحِق بها ما يُشاركها في ذلك، و"العَقِب": مؤخر القدم، قال البغويّ: معناه ويل لأصحاب الأعقاب المقصّرين في غسلها، وقيل: أراد أن العقب مُختَصٌّ بالعقاب إذا قُصِّر في غسله. انتهى
(3)
.
(1)
"سير أعلام النبلاء" 2/ 472.
(2)
"المفهم" 1/ 495 - 496.
(3)
"الفتح" 1/ 320.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "ويلٌ للأعقاب "مبتدأ وخبر، كقولك:"سلام عليك"، قال أبو البقاء:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ} [البقرة: 79] ابتداء وخبره، ولو نُصِب لكان له وجهٌ، على أن يكون التقدير: ألزمهم الله تعالى ويلًا، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يُذكَر قبل المصدر، والويل مصدر لم يُستَعمَل منه فعلُ؛ لأن فاءه وعينه معتلّتان.
و"الْعَقِب": ما أصاب الأرض من مؤخَّر الرجل إلى موضع الشراك.
وخَصّ العقب بالعذاب؛ لأنه العضو الذي يُغسل، فالتعريف للعهد، وقيل: أراد صاحب العقب، فحذف المضاف، وإنما قال ذلك؛ لأنهم كانوا لا يستقصون على أرجلهم في الوضوء. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[9/ 572 و 573 و 574 و 575](240)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(451 و 452)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 19)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1552)، و (الشافعيّ) في "مسنده"، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 87)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(267)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 40 و 81 و 84 و 99 و 191 و 258)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(11505 و 11506 و 11507 و 11508 و 11509)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 38)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1059)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(683 و 684 و 685)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(572 و 573 و 574)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 69)، و"المعرفة"(1/ 215)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث يُروى متّصلًا مسندًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه شَتَّى، من حديث عائشة، ومن حديث
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 795.
أبي هريرة، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيديّ، وقد ذكرتها كلّها في "التمهيد"، والحمد لله. انتهى
(1)
.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن واجب الرجلين غسلهما، لا مسحهما، إلا لمن لبس الخفّين.
2 -
(ومنها): بيان وجوب تعميم الرجلين بالغسل، فلو بقي شيء منهما لما سقط الوجوب.
3 -
(ومنها): أن العالم يستدلّ على ما يُفتي به؛ ليكون أوقع في نفس سامعه.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: ومراد مسلم رحمه الله بإيراده هنا الاستدلالُ به على وجوب غسل الرجلين، وأن المسح لا يجزئ، وهذه مسألة اختَلَف الناس فيها على مذاهب:
فذهب جمع من الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما، ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يُعْتَدّ به في الإجماع.
وقالت الشيعة: الواجب مسحهما.
وقال محمد بن جرير، والجبائيّ، رأس المعتزلة: يتخير بين المسح والغسل.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين المسح والغسل.
وتعلق هؤلاء المخالفون للجماهير بما لا تظهر فيه دلالةٌ، قال: ومن أخصر ما نذكره أن جميع مَن وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة، وعلى صفات متعددة، متفقون على غسل الرجلين، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأعقاب من النار"، فتواعدها بالنار؛ لعدم طهارتها، ولو كان المسح كافيًا لَمَا تواعد مَن ترك غسل عقبيه، وقد صَحَّ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه
(1)
"الاستذكار" 2/ 47.
أن رجلًا قال: يا رسول الله، كيف الطُّهُور؟ فدعا بماء، فغَسَل كفيه ثلاثًا إلى أن قال: ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثم قال:"هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، أو نقص، فقد أساء وظلم"، هذا حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أبو داود وغيره بأسانيدهم الصحيحة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مُؤدّيًا للفروض لَمَا تُوُعِّد بالنار، وأشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة أن الواجب المسح أخذًا بظاهر قراءة:{وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض، وقد تواترت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غَسَلَ رجليه، وهو الْمُبَيِّن لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عَبَسَة الذي رواه ابن خزيمة وغيره مُطَوَّلًا في فضل الوضوء:"ثم يَغسِل قدميه كما أمره الله"، ولم يَثْبُت عن أحد من الصحابة خلافُ ذلك، إلا عن عليّ، وابن عباس، وأنس، رضي الله عنهم، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور، وادَّعَى الطحاويّ، وابنُ حزم أن المسح منسوخ، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيتُ البحث في اختلاف العلماء في غسل الرجلين في المسألة الخامسة عشرة المذكورة في شرح حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وذكرت أن الحقّ والصواب هو مذهب الجمهور القائلين بوجوب الغسل، وأن المسح لا يُجزئ؛ لقوّة حججهم، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[573]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ
(3)
، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ حَدَّثَهُ، أنهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 129.
(2)
"الفتح" 1/ 320.
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا عبد الله بن وهب".
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(حَيْوَةُ) بن شُرَيح بن صَفْوان التُّجيبيّ، أبو زُرعة المصريّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد الْعُزَّى الأسدي أبو الأسود المدني يتيم عروة؛ لأن أباه كان أوصى إليه، وكان جده الأسود من مهاجرة الحبشة، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عروة، وعليّ بن الحسين، وسليمان بن يسار، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وسالم مولى شدّاد، وسالم بن عبد الله بن عمر، والأعرج، وعكرمة، والنعمان بن أبي عياش، وغيرهم.
ورَوَى عنه الزهريّ، وهو من أقرانه، ويزيد بن قُسيط، ومات قبله، وابن إسحاق، ومالك، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب، وعبيد الله بن أبي جعفر، وحيوة بن شُريح، وأبو شريح عبد الرحمن بن شُريح الإسكندرانيّ، والليث، وابن لَهِيعة، وشعبة، وأبو ضَمْرة، أنس بن عِيَاض الليثيّ، وغيرهم.
قال ابن لَهِيعة: قدم مصر سنة ست وثلاثين، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال: ثقةٌ، قيل له: يقوم مقام الزهريّ، وهشام بن عروة؟ فقال: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال الواقديّ: مات في آخر سلطان بني أمية، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزعم أنه تُوُفِّي سنة سبع عشرة ومائة، قال الحافظ: وهذا وَهَمٌ، لا مرية فيه، والأشبه أن يكون من سُقْم النسخة، وكأنها كانت سنة سبع وثلاثين، وقال القَرّاب: مات سنة إحدى وثلاثين، وقال ابن سعد بعد أن ذكر وفاته عن الواقديّ: ليس له عقب، وكان كثير الحديث، ثقةً، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: هو ثبت، له شأنٌ، وذِكْرٌ، وقال ابن الْبَرْقيّ: لا يُعْلَم له رواية عن أحد من الصحابة، مع أن سِنّه يحتمل ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، غير حرملة، فتقدّم في الباب الماضي.
وقوله: (فَذَكَرَ عَنْهَا) أي فذكر أبو عبد الله مولى شدّاد، عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث بُكير بن الأشجّ، عن سالم مولى شدّاد.
[تنبيه]: رواية محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مولى شدّاد التي أحالها المصنّف على رواية بُكير، لم أجد من أخرجها إلا ما كان من أبي نعيم، فقد أخرجها ناقصةً بعد إخراجه رواية بُكير، فقال في "مستخرجه":(1/ 306):
(573)
حدثنا محمد بن إبراهيم بن عليّ، ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أنا حيوة، أخبرني محمد بن عبد الرحمن، أن أبا عبد الله، يعني سالمًا، مولى شدّاد بن الهاد حدثه، أنه دخل على عائشة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعندها عبد الرحمن، فتوضأ، فذكر نحوه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[574]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي
(1)
يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَني، أَوْ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، حَدَّثَني سَالمٌ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فِي جَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ، فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) - بفتح الراء، وتخفيف القاف - هو: زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11] من أفراد المصنّف رحمه الله تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
3 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا عكرمةُ، حدّثني .. إلخ".
4 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، صدوقٌ يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطرابٌ، ولم يكن له كتابٌ [5] مات قبيل 160 (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
5 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد اجتمع فيه أربعة تابعيون، يروي بعضهم عن بعض، فسالم، وأبو سلمة، ويحيى تابعيون، معروفون، وعكرمة بن عمار أيضًا تابعيّ، سمع الْهِرْماس بن زياد الباهليّ الصحابيّ رضي الله عنه، وفي "سنن أبي داود" التصريح بسماعه منه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ، لكن سيأتي قريبًا أن إدخال أبي سلمة بين يحيى، وسالم خطأ من عكرمة بن عمّار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (حدثني، أو حدثنا) فيه أحسن احتياط، وقد تقدم التنبيه على مثل هذا غير مرّة، فلا تكن من الغافلين، والله أعلم.
وقوله: (عَلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ)"الْحُجْرة" - بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم - هي البيتُ، وجمعها حُجَرٌ، وحُجْرات، مثلُ غُرَفٍ، وغُرْفَات في وجوهها
(2)
.
وقوله: (فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) الفاعل ضمير سالم، يعني أن سالمًا مولى الْمَهريّ دكَرَ عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث الماضي من رواية بُكير، عن سالم.
وقوله: (سَالِمٌ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) ذكر القاضي عياض في "شرحه" ما نصّه:
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 130.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 122.
قال البخاريّ: قول عكرمة: "سالم مولى الْمَهْريّ" خطأٌ، والصواب: سالم مولى شدّاد بن الهاد، قال: وكذا ذكره مسلم في الحديثين قبل هذا، وفي حديث سلمة بن شبيب بعدُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا النقل عن البخاريّ غريبٌ، فقد أثبته في "تهذيب الكمال" 10/ 154 - 155، و"تهذيب التهذيب" 1/ 677، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 595، وغيرها، ولم يذكر تخطئة البخاريّ هذه، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: "الْمَهْرِيُّ" - بفتح الميم، وسكون الهاء، بعدها راء -: نسبة إلى مَهْرَة بن حَيْدَان بن عمرو بن الحاف بن قُضَاعة، قبيلة كبيرة
(2)
.
[تنبيه]: تقدّم في المسألة التاسعة عشرة من المسائل التي ذكرتها في مقدّمة هذا الشرح أن هذا الحديث مما أعلّه الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله، فقال: هذا حديثٌ قد خالف عكرمة بن عمّار أصحابَ يحيى بن أبي كثير، فقد رواه عليّ بن المبارك، وحرب بن شدّاد، والأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني سالم، قال: وذِكْرُ أبي سلمة عندنا في حديث يحيى بن أبي كثير غير محفوظ، وقد روي عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها من غير رواية يحيى بن أبي كثير، من غير ذكر سالم فيه. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إعلال الحافظ أبي الفضل رحمه الله صحيح، وعكرمة بن عمّار لا تُحتَمَل مخالفته لهؤلاء الحفّاظ، وهم: عليّ بن المبارك، وحرب بن شدّاد، والأوزاعي، وسيأتي شيبانُ النحويُّ من رواية الإمام أحمد، فهؤلاء الأربعة أكثر، وأحفظ من عكرمة بن عمّار، فإنه يَغْلَطُ، ويضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، كما مرّ في ترجمته آنفًا، لكن الحديث صحيح، لا يضرّه ذلك؛ لأن المصنّف أخرجه بالأسانيد الأخرى، فتنبّه.
وقول أبي الفضل رحمه الله: "فقد رواه عليّ بن المبارك .. إلخ" رواية هؤلاء
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 38.
(2)
"الأنساب" 5/ 417، و"اللباب" 3/ 275.
(3)
راجع "قرّة عين المحتاج" 1/ 147.
الثلاثة أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(1/ 195)، فقال:
(621)
حدثنا يزيد بن سنان البصريّ، قال: ثنا عُمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار (ح) وحدثنا أبو مقاتل البلخيّ، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا حرب بن شَدّاد (ح) وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قالوا: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن سالم (ح) وحدثنا يوسف، قال: ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعيّ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا عكرمة
(1)
مولى الْمَهْريّ، وقال حرب: سالم أبو عبد الله الدّوْسيّ، وقال الأوزاعيّ أيضًا: سالم الدَّوْسيّ، وقال علي بن المبارك: سالم، عن عائشة، أنها قالت لعبد الرحمن بن أبي بكر: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويلٌ للأعقاب من النار". انتهى.
وقد وافق عكرمة في هذه الرواية الجماعة، فأسقط أبا سلمة، والظاهر أن له روايتين، وهذا من اضطرابه، فتأمّل.
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله رواية الأوزاعيّ، فقال:
(24022)
حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا الأوزاعيّ، قال أبي
(2)
: وحدثني بُهْلُول
(3)
بن حكيم، عن الأوزاعيّ، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني سالم الدَّوسيّ قال: سمعت عائشة، تقول لعبد الرحمن بن أبي بكر: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويلٌ للأعقاب من النار".
وأخرجه أيضًا من رواية شيبان النحويّ عن يحيى، فقال:
(24157)
حدثنا حسن، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن سالم مولى دوس، أنه سمع عائشة، تقول لعبد الرحمن بن أبي بكر: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويلٌ للأعقاب من النار".
(1)
هكذا النسخة، والصواب:"سالم مولى المهريّ"، فتنبّه.
(2)
القائل: عبد الله بن أحمد الراوي للمسند عن أبيه.
(3)
بضم الباء الموحّدة، وسكون الهاء، كذا ضبطه بعضهم، وفي "القاموس" ما يدل على ذلك.
وقول أبي الفضل رحمه الله: "وقد روي عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنهما من غير رواية يحيى بن أبي كثير، من غير ذكر سالم فيه"، قد أخرج هذه الرواية الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(25061)
حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال: رأت عائشة عبد الرحمن بن أبي بكر يتوضأ، فقالت: يا عبد الرحمن، أحسن الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويلٌ للأعقاب من النار". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[575]
(
…
) - (حَدَّثَنِي
(1)
سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَني نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ سَالِمٍ، مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
(2)
، قَالَ: كُنْتُ أَنَا مَعَ عَائِشَةَ رضي الله عنهما، فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11](ت بضع 240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
فُلَيْح بْنُ سُلَيْمَانَ بن أبي المغيرة، واسمه رافع، ويقال: نافع بن حُنَين الْخُزاعيّ، أو الأسلميّ، أبو يحيى المدنيّ، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: فُلَيح لقبٌ غَلَب عليه، واسمه عبد الملك، صدوقٌ، كثير الخطأ [7].
رَوَى عن أبي طُوالة، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة،
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني"، وفي أخرى:"حدّثنا سلمة".
(2)
وفي نسخة: "مولى ابن شدّاد بن الهاد".
ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونُعيم بن عبد الله الْمُجمر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وغيرهم.
ورَوَى عنه زياد بن سعد، وهو أكبر منه، وزيد بن أبي أنيسة، ومات قبله، وابنه محمد بن فُليح، وابن المبارك، وابن وهب، وأبو عامر العقدي، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ضعيفٌ، ما أقربه من أبي أويس.
وقال الدوري عن ابن معين: ليس بالقوي، ولا يُحتجّ بحديثه، وهو دون الدراوردي. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أبلغك أن يحيى بن سعيد كان يَقْشَعِرُّ من أحاديث فليح؟ قال: بلغني عن يحيى بن معين قال: كان أبو كامل مُظَفَّر بن مُدْرِك يتكلم في فليح، قال أبو كامل: كانوا يرون أنه يتناول رجال الزهري، قال أبو داود: وهذا خطأ عسى يتناول رجال مالك. وقال الآخري قلت لأبي داود: قال ابن معين: عاصم بن عبيد الله، وابن عَقِيل، وفُلَيح لا يُحتَجُّ بحديثهم، قال: صدق. وقال النسائي: ضعيف، وقال مرّةً: ليس بالقوي. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطني: يختلفون فيه، وليس به بأس. وقال ابن أبي شيبة: قال علي بن المديني: كان فُليح وأخوه عبد الحميد ضعيفين. وقال الْبَرْقيّ عن ابن معين: ضعيفٌ، وهم يَكتبون حديثه، ويشتهونه. وقال الساجي: هو من أهل الصدق، ويَهِمُ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحاكم أبو عبد الله: اتفاق الشيخين عليه يُقَوِّي أمره. وقال الرَّمْلِيّ عن أبي داود: ليس بشيء. وقال الطبري: ولاه المنصور على الصدقات؛ لأنه كان أشار عليهم بحبس بني حسن لَمّا طلب محمد بن عبد الله بن الحسن. وقال ابن عديّ: لفليح أحاديث صالحة، يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب، وقد اعتمده البخاري في "صحيحه"، وروىَ عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به.
قال البخاري: قال سعيد بن منصور: مات سنة ثمان وستين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم (240) و (839) و (891) و (2382) و (2770).
4 -
(نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى آل عمر بن الخطّاب
المعروف بالْمُجْمِر - بضمّ الميم الأولى، وكسر الثانية - كان يُجَمِّر المسجد، وكذا أبوه، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، وجابر، وربيعة بن كعب الأسلميّ، وسالم مولى شدّاد، وصُهيب الْعُتْوَاريّ، وعليّ بن يحيى بن خلاد الزُّرَقيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه محمد، ومحمد بن عجلان، والعلاء بن عبد الرحمن، وسعيد بن أبي هلال، وبكير بن عبد الله، وعثمان، وثور بن زيد الديليّ، ومالك، وفُليح بن سليمان، وعمارة بن غَزِيّة، وداود بن قيس، وهشام بن سعد، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم، وابن سعد: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي مريم، عن مالك: سمعت نعيمًا المجمر يقول: جالست أبا هريرة عشرين سنة.
وذكر ابن حبان أن "المجمر" لقب أبيه عبد الله، قال: لأنه كان يأخذ الْمِجْمَرة قُدّام عمر رضي الله عنه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (240) و (246) وأعاده بعده، و (405) و (1379).
وقوله: (مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) هكذا في بعض النسخ، ووقع في بعضها:"مولى ابن شدّاد"، وهو أيضًا صحيح، قال النوويّ رحمه الله: كذا وقع في الأصول: "مولى ابن شدّاد"، قيل: إنه خطأ، والصواب حذف لفظة "ابن" كما تقدم، والظاهر أنه صحيحٌ، فإن مولى شدّاد مولى لابنه، وإذا أمكن تأويل ما صَحّت به الرواية، لم يجز إبطالها، لا سيما في هذا الذي قد قيل فيه هذه الأقوال، والله تعالى أعلم. انتهى.
وأراد بقوله: "قد قيل فيه هذه الأقوال" ما تقدّم من الاختلاف في سالم من أنه مولى شدّاد، أو مولى الْمَهْريّ، أو مولى دَوْس، أو مولى مالك بن أوس، أو غير ذلك.
وقوله: (قَالَ: كُنْتُ أَنَا مَعَ عَائِشَةَ رضي الله عنهما) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول المحقَّقة التي ضَبَطها المتقنون "أنا مع" بالنون والميم، بينهما ألف،
ووقع في كثير من الأصول، ولكثير من الرُّواة المشارقة والمغاربة:"أبايع عائشة" بالباء الموحدة، والياء المثنّاة، من المبايعة، قال القاضي: الصواب هو الأول، قال النوويّ: وللثاني أيضًا وجه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الوجه ما قاله القاضي عياض رحمه الله، ولا وجه لمبايعة عائشة رضي الله عنهما يوم موت سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، فلو كان في أيام وقعة الجمل لكان له وجهٌ، فتأمله، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَذَكَرَ عَنْهَا) أي ذكر سالم عن عائشة رضي الله عنهما.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن رواية نعيم بن عبد الله، عن سالم، مثلُ رواية بُكير، ومن بعده، عنه.
[تنبيه]: رواية نعيم بن عبد الله، عن سالم مولى شدّاد هذه لم أجد من ساقها بتمامها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[576]
(241) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَة، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيق، تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْر، فَتَوَضَّئُوا، وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ، وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّار، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الْحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(جَرِير) بن عبد الحميد الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم ابن راهويه المذكور في الباب الماضي.
4 -
(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد الله السّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.
5 -
(هِلَالُ بْنُ يِسَافٍ) - بكسر التحتانيّة، ثم مهملة، ثم فاء - ويقال: ابن إِساف الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن الحسن بن علي، وأبي الدرداء، وأبي مسعود الأنصاري، وسعيد بن زيد، وسمرة بن جندب، وسالم بن عُبيد الأشجعي، وعبد الله بن ظالم، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو إسحاق السَّبيعيّ، والأعمش، وسلمة بن كُهيل، وعَبْدة بن أبي لبابة، ومنصور، وعلي بن المدرك، وعبد الأعلى بن ميسرة، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل الكوفة: وكان ثقة، كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاري في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (241) و (735) و (1658) و (2137) و (2716) وكرّره ثلاث مرات.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": أما "يَسَاف": ففيه ثلاثُ لغات: فتح الياء، وكسرها، وإساف - بكسر الهمزة - قال صاحب "المطالع": يقوله المحدِّثون بكسر الياء، قال: وقال بعضهم: هو بفتح الياء؛ لأنه لم يأت في كلام العرب كلمة أولها ياء مكسورة إلا يِسَار لليد.
قلت: والأشهر عند أهل اللغة إِسَاف بالهمزة، وقد ذكره ابن السِّكِّيت، وابن قتيبة، وغيرهما، فيما يُغَيِّره الناس، ويلحنون فيه، فقال: هو هلال بن إساف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: وهلال بن يِسَاف بالكسر، وقد يُفتح: تابعيّ كوفيّ. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النووي" 3/ 130.
(2)
"القاموس المحيط" ص 777.
6 -
(أَبُو يَحْيَى) هو: مِصْدَع - بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه - وقيل: اسمه زياد، الأعرج الْمُعَرْقَبُ، مولى عبد الله بن عَمْرو،. ويقال: مولى مُعاذ بن عَفْراء، مقبول [3].
رَوَى عن عليّ، والحسن، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وعائشة.
ورَوَى عنه سعد بن أوس العدويّ، وسعيد بن أبي الحسن البصريّ، وعمار الدُّهْنيّ، وشَمِر بن عطية، وأبو رَزِين الأسديّ، وهلال بن يساف.
قال أبو حاتم: مِصْدَعٌ، أبو يحيى الأعرج الأنصاريّ، يقال: مولى ابن عَفْراء، وكذا قال أحمد، وقال ابن المدينيّ: سمعت ابن عيينة، قال عمار الدُّهْنيّ: كان مِصْدَع عالِمًا بابن عباس.
وإنما قيل له: الْمُعَرْقَب؛ لأن الحجاج، أو بِشْر بن مروان، عَرَضَ عليه سَبَّ عليّ، فأبى، فقَطَع عُرْقُوبه، قال ابن المدينيّ: قلت لسفيان: في أيّ شيء عُرْقِب؟ قال: في التشيع، قال عليّ: وهو الذي مَرّ به ابن أبي طالب، وهو يَقُصّ، فقال: تعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت، وأهلكت، وقد ذكره الْجُوزَجانيّ في "الضعفاء"، فقال: زائغٌ جائرٌ عن الطريق، يريد بذلك ما نُسِب إليه من التشيع، والْجُوزَجاني مشهور بالنَّصْب والانحراف، فلا يَقْدَح فيه قوله، وقال ابن حبان في "الضعفاء": يخالف الأَثْبات في الروايات، وينفرد بالمناكير.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (241) و (735).
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرّة بالطائف على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" 18/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند، وملتقى الإسناد هو
جرير، وإنما لم يقرُن المصنّف بين شيخيه، إشارة إلى فائدة جليلة، وهي بيان كيفيّة التحمّل، فإنه سمع من زهير وحده، ولذا قال:"حدّثني"، وسمع من إسحاق مع غيره، ولذا قال:"حدّثنا"، وأيضًا سمع شيخه زهير من جرير من لفظه، ولذا قال:"حدّثنا"، وسمع إسحاق من جرير بقراءة غيره عليه، فهذه فوائد إسناديّة جليلة، يُستحسن مراعاتها، كما هو دأب المصنّف رحمه الله في كتابه هذا، وليس هذا من باب الوجوب، وإلى هذه القواعد أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: هلال، عن أبي يحيى.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه هذا أخرجه المصنّف رحمه الله عنه بطريقين:
[أحدهما]: طريق أبي يحيى الأعرج، وهو متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته، وقال عنه في "التقريب": مقبول، يعني أنه يحتاج إلى متابع، وإنما أخرج له المصنّف من باب المتابعة.
[والثاني]: طريق يوسف بن ماهك، وهي أقوى الطريقين؛ لأن يوسف متّفقٌ على توثيقه، ولذا أخرجه الشيخان من طريقه، وإنما قدّم المصنّف رحمه الله رواية أبي يحيى على رواية يوسف؛ لكونها أتمّ سياقًا.
وبهذا يتبيّن بطلان زعم من يزعُم أن مسلمًا يبدأ دائمًا بالحديث الذي لا كلام في سنده، ثم يأتي بعد ذلك بما في إسناده كلام، فهذا كلام من لم يمارس هذا الكتاب حق الممارسة، وقد تقدّم لهذا نظائر، وسيأتي أيضًا، وسننبّه عليه - إن شاء الله تعالى.
وخلاصة القول أن المصنّف يقدّم ما يراه مستحقًّا للتقديم، إما من حيث المتن، كهذا، أو من حيث السند كما يفعله كثيرًا، فتنبّه لهذه الدقائق؛ فإنها مهمّة جدًّا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي يَحْيَى) قال النوويّ رحمه الله: الأكثرون على أن اسمه مِصْدَع - بكسر الميم، وإسكان الصاد، وفتح الدال، وبالعين المهملات - وقال يحيى بن معين: اسمه زياد الأعرج الْمُعَرْقَب الأنصاريّ، والله أعلم. انتهى. (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ) وفي رواية يوسف بن ماهَك الآتية: "تخلّف عنّا النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه".
قال في "الفتح": وظاهره أن عبد الله بن عمرو كان في تلك السفرة، ولم يقع ذلك لعبد الله مُحَقَّقًا إلا في حجة الوداع، أما غَزْوة الفتح، فقد كان فيها، لكن ما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها إلى المدينة من مكة، بل من الجعرانة، ويَحْتَمِل أن تكون عمرة القضيّة، فإن هجرة عبد الله بن عمرو كانت في ذلك الوقت، أو قريبًا منه. انتهى
(1)
.
(حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيق، تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ) أي عند دخول وقت صلاة العصر، وفي رواية يوسف بن ماهك الآتية:"فأدركنا، وقد حضرت صلاة العصر"، وفي رواية البخاريّ:"فأدركنا، وقد أَرْهَقَنا العصرُ"، وقوله:"أرهقنا" بفتح الهاء والقاف، و"العصرُ" مرفوع على الفاعلية، كذا لأبي ذر، وفي رواية كريمة بإسكان القاف، و"العصرَ" منصوب على المفعولية، ويُقَوِّي الأولَ رواية الأصيليّ:"أرهَقَتنا" بفتح القاف، بعدها مثناة ساكنة، ومعنى الإرهاق: الإدراكُ والْغَشَيان.
قال ابن بطال رحمه الله: كأن الصحابة أخَّروا الصلاة في أول الوقت؛ طَمَعًا أن يَلْحَقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت، بادروا إلى الوضوء، ولِعَجَلتهم لم يُسبِغوه، فأدركهم على ذلك، فأنكر عليهم.
وقال الحافظ: ويحتمل أيضًا أن يكونوا أخّروا؛ لكونهم على طهر، أو لرجاء الوصول إلى الماء، ويدلّ عليه رواية مسلم:"حتى إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر"، أي قرب دخول وقتها، فتوضّؤوا، وهم عجال. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 1/ 321.
(2)
راجع "الفتح" 1/ 319.
(فَتَوَضَّئُوا، وَهُمْ عِجَالٌ) بكسر العين، وتخفيف الجيم: جمع عَجْلان - بفتح، فسكون -، وهو المستعجل، كغَضْبَان، وغِضَاب، قال المجد رحمه الله: الْعَجَلُ، والْعَجَلَةُ محرَّكتين: السُّرْعة، وهو عَجِلٌ بكسر الجيم، وضمّها، وعَجْلانُ، وعاجلٌ، وعَجِيلٌ، من عَجَالَى - بالفتح - وعُجَالَى - بالضمّ - وعِجَال - بالكسر -. انتهى
(1)
.
(فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ) هكذا النسخ، بلفظ:"فانتهينا"، والظاهر أن يقول:"فانتهى إليهم" بلفظ الغيبة، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليوافق رواية يوسف بن ماهك الآتية:"تخلّف عنّا النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وقوله:"فأدركنا"، وقوله:"فجعلنا نمسح"؛ إذ كلها تدلّ على أن عبد الله تقدّم مع القوم، وأن الخطاب موجهٌ إليه مثلهم، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ) في محلّ نصب على الحال، أي تظهر، وتُضيء، يقال: لاح يلوح لَوْحًا بالفتح، ولُؤُوحًا بالضمّ والهمزة، ولَوَحَانًا بالتحريك، ولَيَاحًا: إذا بدا، وظهر، أفاده في "اللسان".
ومحلّ الجملة نصبٌ على الحال من الضمير المجرور، وكذا قوله:(لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ) حال من "أعقابهم"، والمعنى: أن تلك الأعقاب تظهر للعين من بين سائر الرجل بأنها لم يمسّها ماء الغسل.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ) مبتدأ سوّغه كونه مصدرًا في معنى الداء، كما في "سلام عليكم"، وهي كلمة تقابل "ويحَ"، وهي من المصادر التي لا أفعال لها، وهي كلمة عذاب، وهلاك، وقد تقدّم البحث عنها قريبًا بأتمّ من هذا. (لِلْأَعْقَابِ) جارّ ومجرور خبر المبتدأ، وهو جمع عَقِب، ككَتِف، وهو ما أصاب الأرض من مؤخّر الرجل إلى موضع الشراك (مِنَ النَّارِ) بيان لـ"الويل"، أو "من" بمعنى "في"، أي ويلٌ لها في النار (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ) أي بالغوا في إتمامه، يقال: سبغ الشيءُ يسبُغُ سُبُوغًا، من باب دخل: أي طال إلى الأرض، واتّسع، وأسبغه هو.
قال السنديّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن التهديد كان لتساهلهم في الوضوء،
(1)
راجع "القاموس" ص 927، و"لسان العرب" 11/ 425.
لا لنجاسة على أعقابهم، فيلزم من الحديث بُطلان المسح على الرجلين على الوجه الذي يقول به من يُجيز المسح عليها، وهو أن يكون على ظاهر القدمين، وهو ظاهرٌ، فتعيّن الغسل، وهو المطلوب، وأما القول بالمسح على وجه يستوعب ظاهر القدم وباطنه، وكذا القول بأن اللازم أحد الأمرين، إما الغسل، وإما المسح على الظاهر، وهم قد اختاروا الغسل، فلزمهم استيعابه، فورد الوعيد لتركهم ذلك، فهو ما لم يقل به أحدٌ، فلا يضرّ احتماله باتّفاق. انتهى.
وقال العينيّ رحمه الله عند شرح قوله: "ونحن نتوضّأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا" ما نصّه: قال القاضي عياضٌ رحمه الله: معناه نغسل، كما هو المراد في الآية بدليل تباين الروايات، وليس معناه ما أشار إليه بعضهم أنه دليلٌ على أنهم كانوا يمسحون، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرهم بالغسل، وقالوا أيضًا: لو كان غسلًا لأمرهم بالإعادة لِمَا صلّوا، وهذا لا حجة فيه لقائله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أعلمهم بأنهم مستوجبون النار على فعلهم بقوله:"ويلٌ للأعقاب من النار"، وهذا لا يكون إلا في الواجب، وقد أمرهم بالغسل بقوله:"أسبغوا الوضوء"، ولم يأت أنهم صلّوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبلُ، فيلزم أمرهم بالإعادة.
وقال الطحاويّ رحمه الله ما ملخّصه: إنهم كانوا يمسحون عليها مثل مسح الرأس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم عن ذلك، وأمرهم بالغسل، فهذا يدلّ على انتساخ ما كانوا يفعلونه من المسح، وفيه نظرٌ؛ لأن قوله:"نَمْسَح على أرجلنا" يَحْتَمِل معناه: نغسل غسلًا خفيفًا مُبَقّعًا حتى كأنه مسح، والدليل عليه ما في الرواية الأخرى:"رأى قومًا توضّئوا، وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئًا"، فهذا يدلّ على أنهم كانوا يَغسِلون، ولكن غسلًا قريبًا من المسح، فذلك قال لهم:"أسبِغُوا الوضوء"، وأيضًا إنما يكون الوعيد على ترك الفرض، ولو لم يكن الغسل في الأول فرضًا عندهم لَمَا توجّه الوعيد؛ لأن المسح لو كان هو المشهور فيما بينهم كان يأمرهم بتركه، وانتقالهم إلى الغسل بدون الوعيد، ولأجل ذلك قال القاضي عياض رحمه الله: معناه نغسل كما ذكرناه آنفًا، والصواب أن يقال: إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء، ووعيده، وإنكاره عليهم في ذلك الغسل يدلّ على أن وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي، لا الغسل المشابه
للمسح، كغسل هؤلاء، وقول عياض: وقد أمرهم بالغسل بقوله: "أسبغوا الوضوء" غير مسلَّم؛ لأن الأمر بالإسباغ أمر بتكميل الغسل، والأمر بالغسل فُهِم من الوعيد؛ لأنه لا يكون إلا في ترك الواجب، فلَمّا فُهِم ذلك من الوعيد أكَّده بقوله:"أسبِغُوا الوضوء"، ولهذا ترك العاطف، فوقع هذا تأكيدًا عامًّا، يَشمَل الرجلين، وغيرهما من أعضاء الوضوء؛ لأنه لم يقل: أسبغوا الرجلين، بل قال:"أسبِغُوا الوضوء"، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، ومطلوبيّة الإسباغ غير مختصّة بالرجلين، فكما أنه مطلوب فيهما، فكذلك مطلوبٌ في غيرهما.
[فإن قلت]: لِمَ ذَكَرَ الإسباغ عامًّا، والوعيد خاصًّا؟.
[قلت]: لأنهم ما قصّروا إلا في وظيفة الرجلين، فلذلك ذَكَر لفظ الأعقاب، فيكون الوعيد في مقابلة ذلك التقصير الخاصّ. انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[9/ 576 و 577 و 578](241)، و (البخاريّ) في "العلم"(60 و 96)، و"الوضوء"(163)، و (أبو داود) في "الطهارة"(97)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(111)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(450)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 193 و 201)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 53)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 26)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 179)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(161 و 166)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1055)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 38 و 39)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(617 و 618 و 619)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (566
(1)
"عمدة القاري" 1/ 383.
و 568)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 69)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(220)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان وجوب غسل الرجلين في الوضوء؛ لأنه لو جاز المسح لما توعّد بالنار مَن ترك غسل العقب.
2 -
(ومنها): بيان وجوب تعميم الأعضاء بالغسل، وأن من ترك جزءًا يسيرًا مما يجب تطهيره لا تصحّ صلاته.
3 -
(ومنها): تعليم الجاهل وإرشاده.
4 -
(ومنها): أن العالم يُنكر ما يراه من تضييع الفرائض والسنن، ويُغلظ القول في ذلك، ويرفع صوته في الإنكار؛ لقوله في رواية يوسف بن ماهك:"فنادى بأعلى صوته".
5 -
(ومنها): جواز رفع الصوت بالعلم، وقد بوّب عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقال:"باب رفع الصوت بالعلم"، ثم أورده.
6 -
(ومنها): استحباب تكرار المسألة ثلاثًا؛ لتُفْهَم، وعليه بوّب الإمام البخاريّ رحمه الله أيضًا، فقال:"باب من أعاد الحديث ثلاثًا لِيُفهَمَ عنه"، ثم أورده.
7 -
(ومنها): بيان ثبوت تعذيب الجسد يوم القيامة، وهو مذهب أهل السنّة والجماعة.
8 -
(ومنها): أن الأعضاء التي تقع فيها المخالفة تعذّب يوم القيامة، وتكون وسيلة لعذاب صاحبها، وذكر العقب في هذا الحديث لصورة السبب، وإلا فيُلحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصُل بها التساهل في إسباغها.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد يتمسّك بقوله: "فجعلنا نمسح
(1)
المراد فوائد حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه بجميع رواياته، لا خصوص هذه الرواية، فتنبّه.
على أرجلنا" من قال بجواز مسح الرجلين - يعني بلا خفّ - ولا حجة له فيه؛ لأربعة أوجه:
[أحدها]: أن المسح هنا يُراد به الغسل، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز أن يقولوا: تمسّحنا للصلاة، أي توضّأنا.
[ثانيها]: أن قوله: "وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء" يدلّ على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم؛ إذ لو كانوا يمسحونها لكانت القدم كلّها لائحة، فإن المسح لا يحصُلُ منه بَلَل الممسوح.
[ثالثها]: أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة رضي الله عنه، فقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لم يغسل عقبه، فقال:"ويلٌ للأعقاب من النار"
(1)
.
[رابعها]: أنا لو سلّمنا أنهم مسحوا، لم يضرّنا ذلك، ولم تكن فيه حجةٌ لهم؛ لأن ذلك المسح هو الذي تُوُعِّد عليه بالعقاب، فلا يكون مشروعًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[577]
(
…
) - (وحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
(2)
، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ:"أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ"، وَفِي حَدِيثِهِ: عَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ).
رجال هذا الإِسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ مصنّف [10](ت 235)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
هو الحديث الآتي للمصنّف بعد حديثين.
(2)
وفي نسخة: "حدّثناه أبو بكر".
2 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ حجة، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد بن المثنّى، أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بـ "الزَّمِنِ" البصريّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
5 -
(ابْنُ بَشَارٍ) هو: محمد بن بشّار العبديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف بـ "بُندار"، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بـ "غُنْدَر"، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
7 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام الواسطيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) أي سفيان وشعبة عن منصور بن المعتمر المذكور في السند السابق.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) إشارة إلى إسناد منصور المتقدّم، وهو: عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ") يعني أن شعبة لم يذكر في روايته لفظ: "أسبغوا الوضوء".
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال المصنّف رحمه الله: إن رواية شعبة ليس فيها زيادة "أسبغوا الوضوء"، لكن الحديث أخرجه أبو عوانة في "مسنده"(1/ 194 - 195) والطحاويّ في "معاني الآثار" من طريق شعبة، وفيه قوله:"أسبغوا الوضوء"، ولعلّ المصنّف وقعت له رواية دون هذه الزيادة، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ) الضمير لشعبة، يعني أن في حديث شعبة زيادة لفظة:"الأعرج"، بخلاف رواية جرير، وسفيان، فليس فيهما:"الأعرج"، بل اقتصرا على قولهما:"عن أبي يحيى"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية سفيان التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا، فأخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 194)، فقال:
(617)
حدثنا ابن أبي رجاء، قال: ثنا وكيع (ح) وحدثنا الحسن بن عفان، قال: ثنا أبو داود الْحَفَريّ (ح) وحدثنا أبو العباس الغزيّ، قال: ثنا الْفِرْيابيّ، قالوا: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يِساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو، قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضئون، فرأى أعقابهم تَلُوح، فقال:"ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء".
وأما رواية شعبة، فأخرجها هو أيضًا، فقال:
(619)
حدثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت هلال بن يِساف يحدث، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى على قوم يتوضئون، وكان في سَفَر، فقال:"أسبغوا الوضوء، ويلٌ للأعقاب من النار - أو - ويلٌ للعراقيب من النار"، قال شعبة أحدهما. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[578]
(
…
) - (حَدَّثَنَا
(1)
شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ حَضِرَتْ
(2)
صَلَاةُ الْعَصْر، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى
(3)
: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإِسناد: ستة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيُ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
بفتح الضاد وكسرها، كما سيأتي قريبًا.
(3)
وفي نسخة: "فنادانا".
بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 6 أو 235)، وله بضع وتسعون سنة (م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فُضيل بن حُسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) عن أكثر من (80) سنة (خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(أَبُو عَوَانَةَ) هو: الْوَضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الْبَزّاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(أَبُو بِشْرٍ) هو: جعفر بن أبي وَحْشِيّة - بفتح الواو، وسكون الحاء المهملة، وكسر المعجمة، وتشديد التحتانيّة - واسمه إياس اليشكريّ، أبو بِشْر الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، من أثبت الناس في سعيد بن جُبير [5].
رَوَى عن عباد بن شرحبيل اليشكري وله صحبة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وأبي عمير بن أنس بن مالك، وأبي نضرة العبدي، ويوسف بن ماهك، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، وجماعة. وعنه الأعمش، وأيوب وهما من أقرانه، وداود بن أبي هند، وشعبة، وغيلان بن جامع، ورقبة بن مصقلة، وأبو عوانة، وهشيم، وخالد بن عبد الله الواسطيّ، وعدةٌ.
قال علي بن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان شعبة يُضَعِّف أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم، وقال أحمد: أبو بشر أحب إلي من المنهال، قلت: مِن المنهال؟ قال: نعم شديدًا، أبو بشر أوثق، قال أحمد: وكان شعبة يقول: لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم، وقال أيضًا: كان شعبة يُضعِّف حديث أبي بشر عن مجاهد، قال: لم يسمع منه شيئًا، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والعجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن معين: طَعَنَ عليه شعبة في حديثه عن مجاهد، قال: من صحيفة، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وقال الْبَرْديجيّ: كان ثقةً، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير.
وقال مُطَيَّنٌ: مات سنة (123)، وقال نوح بن حبيب: سنة (24)، وكان ساجدًا خلف المقام حين مات، وقال ابن سعد، وخليفة، وغيرهما: سنة (25)، وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: سنة (26)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في الطاعون سنة (131).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.
5 -
(يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ) - بفتح الهاء وتُكْسَر - ابن بُهْزَاد - بضمّ الموحّدة، وسكون الهاء، بعدها زايٌ - الفارسيّ المكيّ، مولى قريش، والصحيح أنه غير يوسف بن مِهْرَان، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وأمه مُسيكة، وأبي هريرة، وعائشة، وحَكِيم بن حِزَام، وعبد الله بن صفوان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعُبيد بن عُمير، وحفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وغيرهم، وأرسل عن أُبيّ بن كعب.
ورَوَى عنه عطاء بن أبي رباح، وهو من أقرانه، وأيوب، وأبو بِشْر، وحميد الطويل، وأبو خثيم، وابن جريج، وإبراهيم بن مهاجر، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وآخرون.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: ثقةٌ عدلٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ثلاث ومائة، وقال الهيثم بن عديّ: مات سنة عشر، وقال الواقديّ، وخليفة، وجماعة: مات سنة ثلاث عشرة، وقيل: مات سنة أربع عشرة ومائة، حَكَى هذا ابنُ سعد أيضًا، وزاد: كان ثقةً قليلَ الحديث، وقال ابن حبان: مات سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة ست، وروى القرّاب في "تاريخه" بإسناده إلى الهيثم بن عديّ قال: سنة ثلاث ومائة مات فيها يوسف بن ماهك، ويحيى بن وَثّاب، وذكر غيرَهما، وهذا يدل على أنه في سنة ثلاث بغير عشر؛ لأن يحيى بن وَثّاب مات فيها اتّفاقًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (241) و (2883).
[تنبيه]: "ماهَك" بفتح الهاء، وحُكي كسرها، وهو غير منصرف عند الأكثرين؛ للعلميّة والعجمة، ورواه الأصيليّ منصرفًا، وإنما صرفه؛ لملاحظة الوصفيّة، وذلك أن ماهك بالفارستة تصغير ماء، وهو القمر بالعربيّ، وقاعدتهم أنهم إذا صغّروا الاسم أدخلوا في آخره كافًا، والتصغير من الصفات، والصفة لا تجامع العلميّة؛ لأن بينهما تضادًّا، فيبقى الاسم بعلّة واحدة، وهي العجمة، فلا يُمنع من الصرف، هذا إذا كان بفتح الهاء، وأما إذا كُسرت، فيكون اسم
فاعل من مَهَكتُ الشيءَ أمهَكُهُ مهكًا: إذا بالغت في سحقه، قاله ابن دريد، وفي "الْعُبَاب": مَهَكتُ الشيءَ: إذا ملّسته، أو يكون من مُهكة الشباب بالضمّ، وهو امتلاؤه، وارتواؤه، ونماؤه.
وذكر الصغانيّ هذه المادّة، ثم قال عقبها: ويوسف بن ماهك من التابعين الثقات، ويُمكن أن يقال: إنه عربيّ، مع كون الهاء مفتوحةً بأن يكون عَلَمًا منقولًا من مَاهَكَ، وهو فعلٌ ماضٍ من المماهكة، وهو الْجَهْد في الجماع من الزوجين، فعلى هذا لا يجوز صرفه أصلًا؛ للعلميّة ووزن الفعل.
وقال الدارقطنيّ: ماهك اسم أمه، أي فلا يُصرف؛ للعلميّة، والتأنيث، قال: والأكثر على أنه اسم أبيه، واسم أمّه: مُسيكة، وعن عليّ بن المدينيّ أن يوسف بن ماهك، ويوسف بن ماهان واحد، أفاده العينيّ رحمه الله في "شرحه"
(1)
.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو) بن العاص رضي الله عنهما، تقدّم في السند الماضي.
وقوله: (تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي تأخر خَلْفنا.
وقوله: (في سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ) وفي رواية للبخاريّ: "في سفرة سافرناها"، وقد تقدّم أنها كانت من مكة إلى المدينة.
وقوله: (فَأَدْرَكَنَا) جملة من الفعل والفاعل، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي لَحِقَ بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَقَدْ حَضِرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"حَضِرَت" بفتح الضاد وكسرها، لغتان، والفتح أشهر؛ قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "القاموس": حَضَر كنصر، وعَلِمَ، حُضُورًا وَحَضارةً: ضِدّ غاب. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَضَرتُ مجلس القاضي حُضُورًا، من باب قَعَدَ: شَهِدته، وحَضَرَ الغائب حُضُورًا: قَدِمَ من غيبته، وحَضَرَت الصلاة، فهي حاضرة، والأصل حَضَر وقت الصلاة، قال: حَضِرَ فلان بالكسر لغة، واتّفقوا على ضمّ المضارع مطلقًا، وقياس كسر الماضي أن يُفتَح المضارع، لكن
(1)
راجع "عمدة القاري" 2/ 12، وراجع أيضًا "الفتح" 1/ 173.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 131.
(3)
"القاموس المحيط" ص 340.
استُعْمِل المضموم مع كسر الماضي شُذُوذًا، ويُسمّى تداخل اللغتين. انتهى
(1)
.
فمعنى: "حضرت الصلاة": جاء وقت فعلها.
وفي رواية البخاريّ: "فأدركنا، وقد أرهقنا العصر"، قال في "الفتح":
قوله: "أرهقنا" - بفتح الهاء والقاف - و"العصر" مرفوع بالفاعلية، كذا لأبي ذرّ، وفي رواية كريمة بإسكان القاف، و"العصر" منصوب بالمفعولية، ويُقَوّي الأولَ رواية الأصيليّ:"أرهقتنا" - بفتح القاف، بعدها مثناة ساكنة - ومعنى الإرهاق: الإدراك، والْغَشَيان، قال ابن بطال: كأن الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعًا أن يلحقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء، ولعَجَلتهم لم يسبغوه، فأدركهم على ذلك، فأنكر عليهم
(2)
.
وقوله: (فَجَعَلْنَا) أي شرعنا.
وقوله: (نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا) قابل الجمع بالجمع، فالأرجل مُوَزَّعة على الرجال، فلا يلزم أن يكون لكلّ رَجُل أرجُلٌ، ومسائل الحديث تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: فيما قيل من الأسئلة والأجوبة على هذا الحديث:
1 -
(منها): ما قيل: إن الرَّجُل له رِجْلان، وليس له أرجُل، فالقياس أن يقال على رجلينا؟.
أجيب بأن الجمع إذا قوبل بالجمع يفيد التوزيع، فتُوَزّع الأرجل على الرجال.
2 -
(ومنها): ما قيل: فعلى هذا يكون لكلّ رَجُل رجلٌ.
أجيب بأن جنس الرجل يتناول الواحد والاثنين، والعقل يُعَيِّن المقصود، سيّما فيما هو محسوسٌ.
3 -
(ومنها): ما قيل: لِمَ خصّ الأعقاب بالعذاب؟.
أجيب بأنها العضو التي لم تُغسل، وقال صاحب "الغريبين": معنى: "ويلٌ للأعقاب من النار" أي لصاحب العقب الْمُقَصَّر عن غسلها، كما قال:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 140.
(2)
راجع "الفتح".
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية، وقيل: إن العَقِب يُخصّ بالمؤلم من العقاب إذا قُصَّر في غسلها، وفي "المنتهى في اللغة":"ويلٌ للأعقاب من النار" أراد التغليظ في إسباغ الوضوء، وهو التكميل والإتمام، والسبوغ: الشمول.
4 -
(ومنها): ما قيل: ما الألف واللام في "الأعقاب"؟.
أجيب بأنها للعهد، أي الأعقاب التي رآها كذلك لم يمسّها الماء، أو يكون المراد: الأعقاب التي صفتها هذه، لا كلّ الأعقاب.
5 -
(ومنها): ما قيل: إن اللام للاختصاص النافع؛ إذ المشهور أن اللام تُستعمَل في الخير، و"على" تُستعمل في الشرّ، نحو {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
أجيب بأنها هنا بمعنى "على"، نحو قوله عز وجل:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وقوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10]، فإن اللام في هذه المواضع استُعملت بمعنى "على".
6 -
(ومنها): ما قيل: كيف أخّرت الصحابة رضي الله عنهم الصلاة عن أول وقتها الأفضل؟.
أجيب بأنهم إنما أخروها عنه؛ طَمَعًا أن يصلّوها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لفضل الصلاة معه، فلما خافوا فواتها استعجلوا في الوضوء، فحصل منهم تقصير فيه، فأنكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[579]
(242) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ - يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ - عَنْ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا، لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَيْه، فَقَالَ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ").
(1)
راجع لهذه الفوائد "عمدة القاري" للعينيّ رحمه الله 2/ 15 - 16.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ
(1)
الْجُمَحِيُّ)
(2)
مولاهم، أبو حَرْب البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 100/ 526.
2 -
(الرَّبِيعُ بْنَ مُسْلِمٍ) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة [7](ت 167)(بخ م دت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 5262.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ، ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما أسلفته في "شرح المقدّمة"، وهو (27) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[9/ 579 و 580 و 581](242)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(165)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(41)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(110)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(62)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 26)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 406 و 407 و 409 و 466 و 467 و 482)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(162)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1088)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 38)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 69)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(687 و 688)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(569 و 570)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
بتشديد اللام.
(2)
بضم الجيم، وفتح الميم.
[580]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
(1)
، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَة، فَقَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(وَأَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10](ت 247)(ع) وهو أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون تقدّموا في هذا الباب، غير قتيبة، فتقدّم في الباب الماضي.
وقوله: (مِنَ الْمِطْهَرَةِ) بكسر الميم، وفتحها، لغتان مشهورتان، ذكرهما ابن السّكّيت، فمن كسرها جعلها اسمًا للإناء المعدّ للتطهر منه، ومن فتحها جعلها موضِعًا تُفعَل فيه الطهارة
(2)
.
وقوله: (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ) أي أكملوه، وكأنه رأى منهم تقصيرًا، أو خشيه عليهم.
وقوله: (فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ .. إلخ) فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته، وهو حسنٌ، وذكره بوصف الرسالة أحسن منه، وفيه أنه ينبغي للعالم أن يستدلّ على ما يُفتي فيه، ليكون أوقع في نفس سامعه.
وقوله: (وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ)"الَعَرَاقيب" - بالفتح -: جمع عُرْقُوب - بضم العين، وسكون الراء - وهي الْعَصَبة التي فوق العَقِب؛ قاله النوويّ رحمه الله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْعَراقيب": جمع عُرقوب، وهو العصب الغليظ الْمُوتر فوق عقب الإنسان، وعُرقوب الدابّة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها، قال الأصمعيّ: وكلُّ ذي أربع فعُرقوباه في رجليه، وركبتاه في يديه.
ومعنى ذلك أن العراقيب تُعَذَّب إن لم تُعَمّم بالغسل.
وهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أن فرض الرجلين الغسل، لا المسح، وهو مذهب جمهور السلف، وأئمة الفتوى، وقد حُكي عن ابن عبّاس، وأنس،
(1)
وفي نسخة: "قتيبة بن سعيد".
(2)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 131.
وعكرمة رضي الله عنهم أن فرضهما المسح إن صحّ ذلك عنهم، وهو مذهب الشيعة، وذهب ابن جرير الطبريّ إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح
(1)
، وقد تقدّم تحقيق أدلتهم، وترجيح مذهب الجمهور، مستوفًى في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[581]
(
…
) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر بآخره [6]، (ت 138) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
2 -
(أَبُوهُ) هو: أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، كان يجلُب الزيت إلى الكوفة، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون تقدّموا في هذا الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(10) - (بَابُ وُجُوبِ اسْتِيعَابِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَحَلِّ الطَّهَارَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[582]
(243) - (حَدَّثَني
(2)
سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِه، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ارْجِعْ، فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ"، فَرَجَعَ، ثُمَّ صَلَّى).
(1)
راجع "المفهم" 1/ 496.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمسمَعيّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ) الْحَرّانيّ المذكور في الباب الماضي.
3 -
(مَعْقِل) بن عُبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ - بالموحّدة - مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م دس) تقدم في "الإيمان" 14/ 119.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس المذكور قبل باب.
5 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما المذكور أيضًا قبل باب.
6 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) الخليفة الراشد استُشهِد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ رضي الله عنهما.
3 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
4 -
(ومنها): أن عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد السابقين إلى الإسلام، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(1)
(تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ) أي قدر موضعها، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الظفر" للإنسان مذكَّرٌ، وفيه لغات:
[أفصحها]: بضمّتين، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} .
[والثانية]: الإسكان؛ للتخفيف، وقرأ بها الحسن البصريّ، والجمع أَظفار، وربّما جُمع على أَظْفُر، مثل رُكْنٍ أَرْكُنٍ.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 98.
[والثالثة]: بكسر الظاء، وِزانُ حِمْلٍ.
[والرابعة]: بكسرتين؛ للإتباع، وقُرئ بهما في الشاذّ.
[والخامسة]: أُظْفُور، والجمع أَظَافير، مثلُ أُسْبُوع وأَسَابيع، قال الشاعر [من البسيط]:
مَا بَيْنَ لُقْمَتِهِ الأُولَى إِذَا انْحَدَرَتْ
…
وَبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قِيدُ أُظْفُورِ
(1)
(عَلَى قَدَمِهِ) تثنية قَدَم - بفتحتين - وهي مؤنّثة، وجمعها أَقْدام، مثلُ سبَب وأسباب (فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ارْجِعْ)؛ أي إلى موضع الوضوء (فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ) أي بتكميل ما تركت غسله (فرَجَعَ) ذلك الرجل (ثُمَّ صَلَّى) أي بعد أن أحسن وضوءه.
قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن مَن ترك جزءًا يسيرًا مما يجب تطهيره، لا تصح طهارته، وهذا مُتَّفَقٌ عليه، واختلفوا في المتيمم يترك بعض وجهه، فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يصحّ، كما لا يصحّ وضوءه، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداها إذا ترك أقلّ من النصف أجزأه، والثانية إذا ترك أقلّ من قدر الدرهم أجزأه، والثالثة إذا ترك الربع فما دونه أجزأه، وللجمهور أن يحتجوا بالقياس، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): هذا الحديث أعلّوه بأمور:
1 -
(منها): ما تقدّم في مقدّمة "شرح المقدّمة" أن الحافظ أبا الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله انتقده، فقال: هذا الحديث إنما يُعرَف من حديث ابن لَهِيعة، عن أبي الزبير بهذا اللفظ، وابن لَهِيعة لا يُحتجّ به، وهو خطأٌ عندي؛ لأن الأعمش رواه عن أبي سفيان، عن جابر، فجعله من قول عمر رضي الله عنهما. انتهى
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 385.
(2)
راجع "شرح المقدّمة" 1/ 144.
2 -
(ومنها): أن بعضهم أعلّه بضعف معقل بن عبيد الله.
3 -
(ومنها): أن بعضهم أعلّه بعنعنة أبي الزبير؛ لأنه مدلّس.
قال الجامع عفا الله عنه: يُجاب عن هذه الانتقادات بما يلي:
[أما الأول]: وهو إعلال أبي الفضل برواية ابن لَهِيعة، فيجاب بأنها لا تنافي رواية مَعْقِل بن عُبيد الله، بل هي متابعة قويّة، فيكون كلّ منهما رَوَى هذا الحديث عن أبي الزبير.
[وأما الثاني]: وهو لأبي الفضل أيضًا، حيث ضعّف رواية ابن لهيعة، فيجاب بأن ذلك ليس مقبولًا؛ إذ هي صحيحة؛ لأنها من رواية عبد الله بن وهب عنه، وروايته عنه قبل احتراق كتبه، كما هو معروف لدى أهل المعرفة، فقد قال عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ المصريّ: إذا رَوَى العبادلة عن ابن لَهِيعَة، فهو صحيح، وهم: ابن المبارك، وابن وهب، وابن يزيد المقرئ
(1)
، وما هنا من رواية ابن وهب عنه.
[وأما الثالث]: وهو تضعيف معقِل بن عبيد الله، فليس بمسلَّم؛ لأن الأكثرين على توثيقه، فقد احتجّ به مسلم، ووثقه أحمد، وابن معين في رواية، وغيرهما. قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله في "الميزان" - بعد نقل كلام أبي الحسن القطّان قوله: معقل بن عبيد الله عندهم مستضعف - ما نصّه: كذا قال، بل هو عند الأكثرين صدوقٌ، لا بأس به، وقد روى عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، ورَوى عن ابن معين: ليس به بأس، ورَوى الكوسج عن ابن معين ثقةٌ. انتهى
(2)
.
وقال في "السير" بعد ذكر نحو ما تقدّم: وما عرفت له شيئًا منكرًا، فأذكره، وحديثه لا يَنزِل عن رتبة الحسن. انتهى
(3)
.
وقال في "التهذيب" عن ابن عديّ بعد أن سرد له عدّة أحاديث: هو حسن الحديث، لم أجد في حديثه منكرًا. انتهى
(4)
.
والحاصل أن معقل بن عبيد الله الراوي عن أبي الزبير هنا ليس في روايته طعنٌ، كما زعموا.
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 413.
(2)
"ميزان الاعتدال" 4/ 146.
(3)
"سير أعلام النبلاء" 7/ 318 - 319.
(4)
"تهذيب التهذيب" 4/ 120.
[وأما الرابع]: وهو تضعيفه بعنعنة أبي الزبير، فيُجاب بأن الحديث له شواهد:
(منها): ما أخرجه أبو داود في "سننه"(165) بإسناد صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد توضأ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارجع، فأحسن وضوءك".
وأشار أبو داود إلى إعلاله بتفرّد ابن وهب عن جرير بن حازم، لكن ابن وهب ثقة حافظ، لا يضرّ تفرّده، وقد صححه ابن خزيمة، وغيره.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود أيضًا بإسناد صحيح (175) عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُصَلّي، وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة، درهو حديث صحيح، وقال الإمام أحمد: هذا إسناد جيّدٌ، وقوّاه ابن التركمانيّ، وابن القيّم والحافظ ابن حجر، والشيخ الألبانيّ.
وأعلّه المنذريّ وابن حزم، بأن في إسناده بقيّة بن الوليد، وهو مدلّس، وأجاب ابن القيّم عن ذلك بأنه صرّح بالتحديث في "مسند أحمد"، لكنه متّهم بتدليس التسوية.
وبالجملة فالحديث يتقوّى بمجموعه، وقد أجاد البحث فيه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وحقّقه في "صحيح أبي داود"(1/ 307 - 313)، فراجعه تستفد.
(ومنها): مرسل الحسن البصريّ رحمه الله، أخرجه أبو داود أيضًا بسند صحيح، فهو يقوّي حديثنا أيضًا.
والحاصل أن رواية المصنّف رحمه الله هنا صحيحة، كما أراد هو؛ لأنه إمام حجة، مقدّم في معرفة علل الحديث، فهو العمدة في هذا الباب، وما ذكر من الإعلال لا يؤثّر في روايته؛ لما عرفته من الأجوبة، فالحديث صحيح، والحمد لله، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثالثة):
في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[10/ 582](243)، و (أبو عوانة)
في "مسنده"(691 و 693)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(571)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(70)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الفرض غسلًا ومسحًا.
2 -
(ومنها): بيانُ أن مَنَ تَرك شيئًا من أعضاء طهارته جاهلًا لم تصح طهارته، ولا يُعذر بالجهل.
3 -
(ومنها): بيان أن الجزء اليسير كالكبير، لا فرق بينهما، فإن قوله:"موضع ظفر" ظاهر في ذلك.
قال النوويّ رحمه الله في "المجموع": فإن كان على رجله شُقُوقٌ وجب إيصال الماء إلى باطن تلك الشقوق، فإن شكّ في وصول الماء إلى باطنهما، أو باطن الأصابع لزمه الغسل ثانيًا حتى يتحقّق الوصول، هذا إذا كان قد شكّ في أثناء الوضوء، فأما إذا شكّ بعد الفراغ، ففيه خلا، ثم وقال: قال أصحابنا - يعني الشافعيّة - فلو أذاب في شقوق رجليه شَحْمًا، أو شَمَعًا، أو عجينًا، أو خضبهما بحنّاء، وبقي جِرْمه، لزمه إزالة عينه؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى البشرة، فلو بقي لون الحنّاء دون عينه لم يضرّه، ويصحّ وضوؤه، ولو كان على أعضائه أثر دهن مانع، فتوضّأ، وأمسّ الماء البشرة، وجرى عليها، ولم يَثْبُت صحّ وضوؤه؛ لأن ثبوت الماء ليس بشرط. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله بحثٌ نفيسٌ؛ لأنه تؤيّده ظواهر النصوص؛ إذ هي أوجبت غسل الأعضاء، ولا يتحقّق ذلك إلا بوصول الماء إلى جميع بشرة العضو المغسول.
[تنبيه مهمٌّ]: من هنا يُعلم - كما قال بعض الفضلاء - أن ما اعتاده النساء اليوم من طلاء أظافر اليدين والرجلين بمادّة ملوّنة (المونوكير) ولها جرم يمنع وصول الماء إلى الأظافر لا تصحّ معها الطهارة، ولا تصحّ الصلاة بها؛ لعدم
(1)
"المجموع" 1/ 456 - 457.
تحقّق الطهارة المأمور بها، فليُتنبّه لهذه الدقائق، فإنها مزلّة أقدام؛ إذ كثير من النساء يصلّين بغير طهارة شرعيّة، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
4 -
(ومنها): أن فيه تعليمَ الجاهل، والرفقَ به.
5 -
(ومنها): أنه قد استدَلَّ به جماعة على أن الواجب في الرجلين الغسل دون المسح.
6 -
(ومنها): أن القاضي عياضًا رحمه الله وغيره استَدَلّوا بهذا الحديث على وجوب الموالاة في الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَحْسِن وضوءك"، ولم يقل: اغسِلِ الموضعَ الذي تركته.
وتعقّبه النوويّ رحمه الله، فقال: وهذا الاستدلال ضعيفٌ، أو باطلٌ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"أَحْسِن وضوءك" محتملٌ للتتميم، والاستئناف، وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر. انتهى
(1)
، وهو تعقّبٌ وجيهٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(11) - (بَابُ خُرُوجِ الْخَطَايَا مَعَ مَاءِ الْوُضُوءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[583]
(244) - (حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْه، مَعَ الْمَاء، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاء، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْه، خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ، مَعَ الْمَاء، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاء، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْه، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ، مَعَ الْمَاء، أَوْ مَعَ آخِرِ فَطْرِ الْمَاء، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ").
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 132.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرَويّ الأصل، ثم الْحَدَثَانيّ، ويقال له: الأَنْبَاريّ، صدوقٌ، عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قدماء [10]
(ت 240) عن مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ المذكور قبل باب.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) أبو محمد المصريّ المذكور في الباب الماضي.
4 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة المذكور قبل بابين.
5 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ المذكور في الباب الماضي.
6 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوَان السمّان المذكور في الباب الماضي أيضًا.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله بالنسبة للسند الأول، ومن سداسيّاته بالنسبة للسند الثاني.
[فإن قلت]: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يؤخّر سند سُويد؛ لأنه متكلّم فيه، فهو من أهل المتابعة، لا من أهل الأصالة، فَلِمَ قدّمه؟.
[قلت]: إنما قدّمه؛ لكونه عاليًا؛ إذ هو يروي عن مالك مباشرة، بخلاف أبي الطاهر، فإنه يروي عنه بواسطة، وألله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول هروي، ثم حَدَثانيّ بفتحتين، وهو نسبة إلى الحَدِيثة بلدة مشهورة على الفرات
(1)
، والثاني مصريّ، كابن وهب.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ) قال بعضهم: في لفظ: "توضّأ" مجاز المشارفة: أي أراد الوضوء، وأشرف
(1)
راجع "اللباب" 1/ 347 - 348.
عليه، وذلك ليصحّ عطف "فغسل وجهه .. إلخ"؛ إذ غسل الوجه واليدين والرجلين هو الوضوء، وزيادة لفظة "العبد" لإفادة إخلاص العبادة، أي إذا توضّأ مُستَشعِرًا أنه عبد مخلص مطيع الأوامر. انتهى
(1)
. (أَوِ الْمُؤْمِنُ) قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: "أو" للشكّ من المحدّث، من كان، مالك، أو غيره. انتهى
(2)
.
وقال القاري رحمه الله: "أو" للشكّ من الراوي في لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلا فهما مترادفان في الشريعة، والمؤمنة في حكم المؤمن. انتهى
(3)
.
(فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ) قال الطيبيّ رحمه الله: "خرج" جواب الشرط، والفاء في "فَغَسَلَ" مُرَتّبةٌ له على الشرط، أي إذا أراد الوضوء، فغسل، خرج من وجهه كلُّ خطيئة. انتهى
(4)
. وقال القاري رحمه الله: قوله: "فغسل وجهه" عطفٌ على توضّأ عطفَ تفسير، أو المراد: إذا أراد الوضوء، وهو الأَوْجَهُ، وفيه إيماء إلى اعتبار النيّة المقتضية للمثوبة. انتهى
(5)
. (مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ) بفتح الخاء، وكسر الطاء، على وزن فَعِيلة، ويُجمع على خَطَايَا، وهو جمع نادر، و"الخَطِيئة": الذنب على عمد، ولك أن تُشدّد الياء؛ لأن كلّ ياء ساكنة، قبلها كسرة، أو واو ساكنة قبلها ضمة، وهما زائدتان للمدّ، لا للإلحاق، ولا هما من نفس الكلمة، فإنك تَقلب الهمزة بعد الواو واوًا، وبعد الياء ياءً، وتُدْغَمُ، وحكى أبو زيد في جمعه خَطَائِئ بهمزتين على فَعَائل، والفعل أخطأ، وخَطِئَ، وأخطأ يُخطِئُ: إذا سلك الخطأ عمدًا وسهوًا، ويقال: خَطِئَ بمعنى أخطأ، وقيل: خَطِئَ: إذا تعمّد، وأخطأ: إذا لم يتعمّد، ويقال لمن أراد شيئًا، ففعل غيره، أو فعل غير الصواب: أخطأ، أفاده في "اللسان"
(6)
.
وفي "المصباح": قال أبو عُبيدة: خَطِئَ خِطْئًا، من باب عَلِمَ، وأخطأ بمعنًى واحد لمن يُذنب على غير عمد، وقال غيره: خَطِئَ في الدين، وأخطأ في كلّ شيء، عامِدًا كان أو غير عامد، وقيل: خَطئ: إذا تعمّد ما نهيَ عنه،
(1)
"فتح المنعم" 1/ 141.
(2)
"التمهيد" 1/ 192 ترتيب المغراوي.
(3)
"المرقاة" 2/ 12.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 744.
(5)
"المرقاة" 2/ 13.
(6)
"لسان العرب" 1/ 67.
فهو خاطئٌ، وأخطأ: إذا أراد الصواب، فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب، وفعله، قيل: قصده، أو تعمّده، والْخِطْءُ - أي بكسر، فسكون -: الذنب؛ تسميةً بالمصدر. انتهى
(1)
.
وقوله: (نَظَرَ إِلَيْهَا) في محلّ جرّ، صفةٌ لـ"خطيئة" (بِعَيْنَيْهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي نظر إلى سببها؛ إطلاقًا لاسم المسبَّب على السبب؛ مبالغة، يعني أن هذا مجاز مرسلٌ؛ بعلاقة السببيّة؛ لأنه لا ينظر إلى نفس الخطيئة؛ إذ المرأة الأجنبيّة مثلًا سبب الخطيئة، وليست هي عين الخطيئة، وكذا البواقي.
[فإن قلت]: ذَكَرَ لكلّ عضو ما يَختصّ به من الذنوب، وما يُزيلها عن ذلك العضو، والوجه مشتملٌ على العين، والفم، والأنف، والأذن، فلم خُصّت بالذكر دونها؟.
[قلت]: العين طَلِيعة القلب، ورائده، فإذا ذُكرت أغنت عن سائرها، ويَعضِد هذا التأويل حديث عبد الله الصنابحيّ، وفيه:"فإذا غسل وجهه، خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه". انتهى
(2)
.
وقيل في الجواب عن هذا الاستشكال: أن سبب تخصيص خطيئة العين بالمغفرة هو أن كلًّا من الفم، والأنف، والأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه، فكانت متكفّلةً بإخراج خطاياه، بخلاف العين، فإنه ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فخُصّت خطيئتها بالخروج عند غسله دون غيرها مما ذُكر. انتهى
(3)
.
(مَعَ الْمَاءِ) متعلّقٌ بـ "خرج"، أي مع انفصال الماء (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) قال أبو عمر رحمه الله:"أو" للشك من المحدّث، ولا يجوز أن يكون ذلك شكًّا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يَظُنّ ذلك إلا جاهلٌ مجنون، وَيَحْمِلُ على الشكّ في مثل هذه الألفاظ: التحرّي في الإتيان بلفظ الحديث دون معناه، وهذا شيء قد اختَلَف فيه السلف. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 174.
(2)
"الكاشف" 3/ 744.
(3)
راجع "المرقاة" 2/ 14.
(4)
"التمهيد" 1/ 192 - 193 ترتيب المغراوي.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "أو" للشكّ من بعض الرواة، ويدلّ على أنه للشكّ زيادة مالك فيه:"مع الماء، أو مع آخر الماء"، أو نحو هذا، قال: ويُفهَمُ منه أن الغسل لا بدّ فيه من نقل الماء، ولا يُفهم منه أن غاية الغسل أن يقطُر الماء؛ لأنه على الشكّ، ولمَا جاء "حتى يُسبغ"
(1)
.
و"القطرة" - بفتح، فسكون -: النُّقطة، والجمع قَطَرات، يقال: قَطَرَ الماءُ قَطْرًا، من باب قَتَلَ، وقَطَرَانًا، وقَطَرته، يتعدّى، ولا يتعدّى، هذا قول الأصمعيّ، وقال أبو زيد: لا يتعدّى بنفسه، بل بالألف، فيقال: أقطرته. انتهى
(2)
.
والمعنى هنا: أن الخطيئة تخرُج مع النُّقطة الأخيرة التي تتساقط من غسل وجهه، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْه، خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ) أي ذَهَبَ، ومُحِي (كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ) أي أخذتها، كملامسة الْمرأة الأجنبيّة، و"كان" يحتمل أن تكون زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" فِي حَشْوٍ كـ "مَا
…
كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا"
وجملة "بطشتها" في محلّ جرّ صفة لـ"خطيئة"، أي كلُّ خطيئة مبطوشة بيديه.
ويَحْتَمِلُ أن تكون "كان" شانيّة، واسمها ضمير الشأن، وجملة "بطشتها" خبرها، وجعل اسمها ضمير العبد المسلم، وخبرها جملة "بطشتها يداه" مما لا يخفى بعده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ: قوله: "يداه" تأكيد للمبالغة (مَعَ الْمَاء، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاء، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْه، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا) الضمير لـ"الخطيئة"، وهو منصوب بنزع الخافض: أي مشت بها إلى الخطيئة، أو يكون مصدرًا: أي مَشَتِ الْمَشْيَةَ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:"واجعله الوارث": أي اجعل الجعل؛ قاله الطيبيّ رحمه الله
(3)
. (رِجْلَاهُ) تأكيد للمبالغة أيضًا (مَعَ الْمَاء، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاء،
(1)
"المفهم" 1/ 493.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 507.
(3)
"الكاشف" 3/ 745.
حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ) أي جميع ذنوبه، والمراد الصغائر، كما سبق تحقيقه، أو المراد ذنوب أعضاء الوضوء، والأول أوجه، وقال النوويّ رحمه الله: والمراد بالخطايا الصغائر دون الكبائر، كما تقدم بيانه، وكما في الحديث الآخر:"ما لم تُغْشَ الكبائر"، قال القاضي عياض: والمراد بخروجها مع الماء المجاز والاستعارة في غفرانها؛ لأنها ليست بأجسام، فتخرجَ حقيقةً. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي لدعوى المجاز، بل الظاهر حمله على الحقيقة، ولا مانع من تجسّد الخطايا، وخروجها مع الماء، فقد أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَزَل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم"، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح
(1)
.
فقد ثبت تجسّد الذنوب، وتسويده للحجر الأسود، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[11/ 583](244)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 32)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(2)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 303)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 183)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1040)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(669 و 670)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(575)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 81) والله تعالى أعلم.
(1)
الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله أيضًا، لكن في سند الترمذي عطاء بن السائب، وقد اختلط، والراوي عنه جرير بن عبد الحميد، سمع منه بعد الاختلاط، وتابعه حماد بن سلمة عند أحمد، وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط وبعده، لكن الحديث له شواهد، وقد بيّن ذلك كله الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة"، فراجعها (6/ 2390).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان خروج الخطايا مع ماء الوضوء، وقد أسلفت أن خروجها على ظاهره، ولا داعي لدعوى المجاز، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان احتياط الرواة في أداء الحديث بلفظه، بحيث إنهم إذا شكّوا في لفظة ذكروها بعبارتين مما تردّد في أذهانهم حتى تؤدّى على وجهها بأحد المحتملين، وهذا من شدّة ورعهم، وحرصهم في المحافظة على أداء ما سمعوه كما سمعوه، حتى ينالهم دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بقوله:"نضّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلَّغه كما سمع، فرب مبلَّغ أوعى من سامع"، وفي لفظ: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، وحفظها، وبلّغها
…
"، وفي رواية: "فأداها كما سمعها
…
" الحديث، أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ.
3 -
(ومنها): بيان أن الواجب في الوضوء غسل الرجلين، لا المسح.
4 -
(ومنها): الرّدُّ على الرافضة، وإبطالُ قولهم: الواجب مسح الرجلين.
5 -
(ومنها): بيان أن كلّ عضو يطهّر بانفراده؛ لأن خروج الخطايا منه فرع طهارته بنفسه.
6 -
(ومنها): أن ظاهر قوله: "خرج من وجهه"، "وخرج من يديه"، "وخرجت كلّ خطيئة مشتها رجلاه" يدلّ على أن التكفير يختصّ بأعضاء الوضوء فقط، وبهذا قال بعضهم، لكن قوله في آخر الحديث:"حتى يخرج نقيًّا من الذنوب"، ظاهر في تكفير عموم ذنوب بقيّة الأعضاء، ويؤيّد الأول حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الطويل الآتي للمصنّف في "كتاب الصلاة"، وفيه: فقلت: يا نبي الله، فالوضوء حدثني عنه، قال:"ما منكم رجلٌ يُقَرِّب وَضُوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر، إلا خَرجَت خطايا وجهه، وفيه، وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرّت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه، إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحَمِد الله، وأثنى عليه، ومَجَّدَه بالذي هو له أهل، وفَرَّغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته، كهيئته يوم ولدته أمه".
فظاهر هذا الحديث يدلّ على أن تكفير جميع الذنوب بالصلاة.
ويؤيّد الثاني ما تقدّم للمصنّف برقم (229) من حديث عثمان رضي الله عنه، قال - بعد أن توضّأ -: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال:"من توضأ هكذا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة".
فإن هذا ظاهر في تكفير الوضوء جميع ذنوبه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يُمكن أن يُجمع بين هذه الأحاديث باختلاف الأحوال والأشخاص، فربّ شخص يكون إخلاصه ومراقبته لله عز وجل أتمّ، فتكفّر ذنوبه بوضوئه، وتكون صلاته ومشيه إلى المسجد في زيادة الدرجات، وربّ شخص لا يكون كذلك، فيكون تمام تكفير ذنوبه بالوضوء والصلاة، والله تعالى أعلم بالصواب.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد استدلّ به أبو حنيفة رحمه الله على نجاسة الماء المستعمل، ولا حجة له فيه، وعند مالك أن الماء المستعمل طاهرٌ مطهّرٌ، غير أنه يُكره استعماله مع وجود غيره؛ للخلاف فيه، وعند أصبغ بن الفرج أنه طاهرٌ غير مطهّر، وقيل: مشكوك فيه، فيُجمع بينه وبين التيمّم، وقد سمّاه بعضهم ماء الذُّنُوب.
قال الجامع عفا الله عنه: الصحيح أن الماء المستعمل طاهرٌ مطهِّرٌ؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ، ولا يزال عنه اسم الطهوريّة إلا بنجاسة، جاء النصّ، أو الإجماع بها، وقد حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ"، وسأحقّقها أيضًا هنا في الموضع المناسب لها - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيهٌ]: أخرج الإمام مالك رحمه الله هذا الحديث في "الموطّأ"(55) مرسلًا، فقال
(1)
: وحدّثني عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصُّنابحيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا
(1)
القائل: "وحدّثني عن مالك" هو عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثيّ، راوي "الموطّأ" عن أبيه.
غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه - قال: - ثم كان مشيه إلى المسجد، وصلاته نافلة له".
وهذا مرسل صحيح الإسناد، وقوله:"عن عبد الله الصُّنَابحيّ" الصواب - كما قال ابن عبد البرّ - عن أبي عبد الله الصنابحيّ، واسمه عبد الرحمن بن عُسيلة، وهو تابعيّ، وروايته هذه مرسلة، إلا أن حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الذي سيأتي للمصنّف يشهد له، فيصحّ به.
قال القرطبيّ رحمه الله: استدلّ بحديث الصنابحيّ بعض أصحابنا على صحّة قول مالك: الأذنان من الرأس، ولم يُرد مالك بذلك أن الأذنين من الرأس، بدليل أنه لم يُختلف عنه أنهما يُمسحان بماء جديد، وأن من تركهما حتى صلّى لم تلزمه إعادة، وإنما أراد أن الأذنين يُمسحان كما يُمسح الرأس، لا أنهما يُغسلان كما يُغسل الوجه؛ تحرّزًا مما يُحكى عن ابن شهاب أنه قال: إن ما أقبل منهما على الوجه هو من الوجه، فيُغسل معه، وما يلي الرأس هو من الرأس، فيُمسح معه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كون الأذنين من الرأس هو المذهب الصحيح؛ لحديث الصُّنَابحيّ المذكور، وأما حديث:"الأذنان من الرأس"، فضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، وإن صححه بعضهم لتعدد طرقه، وقد حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ"
(2)
، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[584]
(245) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثنا أَبُو هِشَامٍ
(1)
"المفهم" 1/ 493 - 494.
(2)
"ذخيرة العقبى" 2/ 378 - 381.
الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِد، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، حَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِر، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِه، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ) هو: محمد بن معمر بن رِبْعِيّ الْقَيْسيّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بالْبَحْرَانيّ - بالموحّدة، والمهملة - صدوقٌ، من كبار [11].
رَوَى عن رَوْح بن عُبَادة، وأبي هشام المخزوميّ، ومحمد بن بَكْر الْبُرْسانيّ، وأبي عامر الْعَقَديّ، وأبي عاصم، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، ومحمد بن كثير العبديّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، وأحمد بن منصور الرَّمَاديّ، وابن أبي عاصم، وأبو حاتم، والبزار، وابن ناجية، وإبراهيم بن أبي طالب، وابن خزيمة، وزكرياء الساجي، وابن أبي داود، وابن صاعد، وآخرون.
قال أبو داود: ليس به بأسٌ، صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال مرّةً: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال البزار: ثنا محمد بن معمر، وكان من خيار عباد الله، وقال الخطيب: ثقةٌ، وقال مسلمة: لا بأس به، وقال أبو عروبة: كبيرٌ من أهل الصناعة، ذكره ابن عديّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد سنة خمسين ومائتين.
روى عنه الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (245) و (579) و (1216) و (2359)
(1)
.
(1)
هذا هو الذي سُجّل في برنامج الحديث (صخر)، وكذا سجّل أن البخاريّ روى عنه ثلاثة أحاديث فقط، وهذا مخالف لما نقله في "تهذيب التهذيب"(3/ 706) عن "الزهرة" من أن البخاريّ روى عنه أربعة أحاديث، ومسلمًا روى عنه ثمانية، والذي يترجح عندي أن ما في البرنامج هو الصواب؛ لأنه لا يلتبس بغيره حتى نظنّ ذلك؛ لأنه لا يوجد في "الصحيحين" من يسمّى بمحمد بن معمر غيره، فتفطّن لهذا، فإنه دقيق، والله تعالى أعلم.
2 -
(أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ) هو: المغيرة بن سلمة المخزوميّ، أبو هشام القرشيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9].
رَوَى عن مَهْديّ بن ميمون، ووهيب، وأبان العطار، وسليمان بن المغيرة، وسعيد بن زيد، والربيع بن مسلم الْجُمَحيّ، وعبد الواحد بن زياد، وأبي عوانة، وغيرهم.
وروى عنه علي بن المدينيّ، وإسحاق بن راهويه، وأبو موسى، وبُندار، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وعباس العنبريّ، ومحمد بن عبد الله بن المبارك الْمُخَرِّميّ، ومحمد بن معمر البحرانيّ.
قال علي بن المدينيّ: كان ثقةً، وقال أيضًا: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه، ولا أشدّ تواضعًا، وأخبرني بعض جيرانه أنه كان يصلي طول الليل، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً ثبتًا، وقال عليّ بن الحسين بن الجنيد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن قانع: ثقةٌ مأمون، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال البخاريّ، وابن قانع: مات سنة مائتين.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: (أبو هشام) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول التي ببلادنا، "أبو هشام"، وهو الصواب، وكذا حكاه القاضي عياض رحمه الله عن بعض رواتهم، قال: ووقع لأكثر الرواة: "أبو هاشم"، قال: والصواب الأول. انتهى
(1)
.
3 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبديّ مولاهم، أبو بِشْر، وقيل: أبو عبيدة البصريّ، أحد الأعلام، ثقةٌ [8].
رَوَى عن أبي إسحاق الشيبانيّ، وعاصم الأحول، والأعمش، وأبي مالك الأشجعيّ، ويزيد بن أبي بردة، وأيوب بن عائذ، وإسماعيل بن سُمَيع، والحسن بن عبيد الله، وحبيب بن أبي عمرة، والْجُرَيريّ، وصالح بن صالح بن حيّ، وغيرهم.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 133، و"إكمال المعلم" 2/ 42.
ورَوَى عنه ابن مهديّ، وعفّان، وعارم، ويونس بن محمد، وموسى بن إسماعيل، وقيس بن حفص، وأبو بكر بن أبي الأسود، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وأبو كامل، فضيل بن حسين الْجَحْدريّ، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم.
قال معاوية بن صالح، عن محمد بن عبد الملك: قلت لابن معين: من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: بعد شعبة، وسفيان، أبو معاوية، وبعده عبد الواحد، وقال عثمان الدارميّ: قلت ليحيى: عبد الواحد أحبّ إليك، أو أبو عوانة؟ قال: أبو عوانة أحبّ إليّ، وعبد الواحد ثقةٌ، وقال صالح بن أحمد، عن عليّ بن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما رأيت عبد الواحد بن زياد يطلب حديثًا قط بالبصرة، ولا بالكوفة، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة، أذاكره حديث الأعمش، فلا يعرف منه حرفًا.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة، بل ثبوته عن يحيى محلّ نظر، والله تعالى أعلم.
وقال ابن سعد: كان يُعرَف بالثقفيّ، وهو مولى لعبد القيس، وكان ثقةً كثير الحديث، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ عَمَدَ إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش، فوصلها، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، حسن الحديث، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ مأمونٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: أجمعوا أنه لا خلاف بينهم أن عبد الواحد بن زياد ثقةٌ، وقال ابن القطان الفاسيّ: ثقةٌ لم يُعْتَلّ عليه بقادح.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه النصوص من هؤلاء الأئمة في توثيق عبد الواحد، تُبيّن أن ما تقدّم عن يحيى القطّان إما لا يصحّ عنه، أو فيه مبالغة وتعنّتٌ، وكذلك قول أبي داود: ثقةٌ عَمَد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش، فوصلها، قول متناقض، كيف يكون ثقة، وهو يتعمّد في وصل ما أرسله شيخه، ألا يكون هذا كذبًا على شيخه؟، إن هذا لشيء عُجاب، وبالجملة إن عبد الواحد ثقة حجة، ولم يتكلّم عليه من تكلّم بشيء معتبر قادح، كما قال الحافظ ابن القطّان الفاسيّ رحمه الله، فتبصّر بالإنصاف، ولا تقلّد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال عمرو بن عليّ، وغيره: مات سنة ست وسبعين ومائة، وقال أحمد: مات سنة (177)، وقال البخاريّ، عن محمد بن محبوب: مات سنة (179).
وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
4 -
(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيم) بن عَبّاد بن حُنَيف - بالحاء المهملة، والنون، مصغّرًا - الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، الأَحْلافيّ
(1)
، ثقةٌ [5].
رَوَى عن عم أبيه، أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف، وجدته الرَّبَاب، وعبد الله بن سَرْجِس، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسعيد بن جبير، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، ومحمد بن المنكدر، وغيرهم.
وروى عنه الثوريّ، وعبد الواحد بن زياد، وعيسى بن يونس، وهشيم، وزهير بن معاوية، وشريك، ومروان بن معاوية، وعليّ بن مُسهِر، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وغيرهم.
قال البخاريّ، عن عليّ: له نحو عشرين حديثًا، وقال أبو طالب، عن أحمد: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن معين، وأبو داود، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: صالحٌ، وقال أبو سعيد الأشجّ، عن أبي خالد الأحمر: سمعت أوثق أهل الكوفة، وأعبدهم، عثمانَ بنَ حكيم، ووثقه العجليّ، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة، وابن سعد، وغيرهم، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وأَرّخ ابن قانع وفاته سنة (138)، وقال خليفة في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة: مات قبل الأربعين ومائة.
روى له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدَير - مصغّرًا - ابن
(1)
"الأَحْلافيّ" بفتح الهمزة، بعدها حاء مهملة، آخره فاء بوزن الأوزاعيّ: نسبة إلى الأحلاف بطنٌ من كلب. انتهى "لب اللباب" 1/ 40.
عبد الْعُزّى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تَيْم بن مُرّة التيميّ المدنيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، ثقة فاضل [3].
رَوَى عن أبيه، وعمه ربيعة وله صحبة، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي أيوب، وربيعة بن عباد، وسفينة، وأبي قتادة، وأنس، وجابر، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: يوسف، والمنكدر، وابن أخيه إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، والزهري، وَهُمْ من أقرانه، وشعبة، والثوريّ، وأبو عوانة، وابن عيينة، وآخرون.
قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم نُدْرِك أحدًا أجدر أن يَقْبَل الناسُ منه إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وقال ابن عيينة أيضًا: ما رأيت أحدًا أجدر أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُسأل عمن هو من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال الحميديّ: ابن المنكدر حافظ. وقال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة. وقال الترمذي: سألت محمدًا: سمع محمد بن المنكدر من عائشة؟ قال: نعم. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من سادات القراء. قال الواقدي وغيره: مات سنة ثلاثين، وقال البخاري عن هارون بن محمد الْفَرْوِيّ: مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقال ابن المديني عن أبيه: بلغ ستًّا وسبعين سنة.
قال الحافظ: فيكون مولده على هذا قبل سنة ستين بيسير، فتكون روايته عن عائشة، وأبي هريرة، وعن أبي أيوب الأنصاري، وأبي قتادة، وسفينة، ونحوهم مرسلة. وقد قال ابن معين، وأبو بكر البزار: لم يَسْمَع من أبي هريرة. وقال أبو زرعة: لم يلقه، وإذا كان كذلك فلم يَلْقَ عائشة؛ لأنها ماتت قبله. وأخرج ابن سعد من طريق أبي معشر قال: دخل المنكدر على عائشة رضي الله عنهما، فقال: إني قد أصابتني جائحة، فأعينيني، فقالت: ما عندي شيء، لو كان عندي عشرة آلاف لبعثت بها إليك، فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف من عند خالد بن أسد، فقالت: ما أوشك ما ابتُليتُ ثم أرسلت في إثره، فدفعتها إليه، فدخل السوق فاششرى جارية بألف درهم، فولدت له ثلاثة، فكانوا عُبّاد أهل المدينة: محمد، وأبو بكر، وعمر، وإذا كان كذلك فلم يَلْقَ عائشة؛ لأنها ماتت قبله. وقال الواقديّ: كان ثقة، وَرِعًا عابدًا، قليل
الحديث، يُكثر الإسناد عن جابر. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال الشافعي في مناظرته مع عشرة: فقلت: ومحمد بن المنكدر عندكم غاية في الثقة؟ قال: أجل وفي الفضل. وقال يعقوب بن شيبة: صحيح الحديث جدًّا. وقال إبراهيم بن المنذر: غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.
6 -
(حُمْرَانَ) بن أبان، مولى عثمان بن عفّان، اشتراه زمن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ثقةٌ [2](ت 75)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
7 -
(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس الأمويّ الخليفة الراشد رضي الله عنه، استُشهِد في ذي الحجة سنة (35) ومدة خلافته رضي الله عنه (12) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عثمان بن حكيم، والباقون بصريّون، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عثمان، عن ابن المنكدر، عن حمران.
وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم من شرح الأحاديث السابقة.
وقوله: (فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) تقدّم أن معنى إحسان الوضوء هو تكميله بمراعاة واجباته، ومستحبّاته.
وقوله: (خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ) هذا يدلّ أن الوضوء يكفّر ذنوب جميع الجسد، ولا يختصّ بأعضاء الوضوء فقط، وقد تقدّم توجيه ذلك في الحديث الماضي، فلا تكن من الغافلين.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[11/ 584](245)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 66)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(615 و 616)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(576)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ إِطَالَةِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فِي الْوُضُوءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[585]
(246) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ دِينَارٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرُ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُد، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُد، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ
(1)
، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاق، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، حَتَّى أَشْرْعَ فِي السَّاق، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا
(2)
رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوء، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ، فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ، وَتَحْجِيلَهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) المذكور قبل بابين.
2 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكرِيَّاءَ بْنِ دِينَارٍ) الْقُرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربّما نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [11](ت في حدود 250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الْهَيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
(1)
وفي نسخة: "ثم مسح برأسه".
(2)
وفي نسخة: "ثم قال لي: هكذا".
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
6 -
(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ) هو: عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ - بفتح الغين المعجمة، وكسر الزاي، بعدها تحتانيّة ثقيلة - ابن الحارث بن عمرو بن غَزِيّة بن عمرو بن ثعلبة بن خَنْساء بن مَبْذُول بن غَنْم بن مازن بن النّجّار الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، لا بأس به [6].
رَوَى عن أنس بن مالك، وأبيه غَزِيّة بن الحارث، وعباس بن سهل بن سعد، وأبي الزبير، وسُمَيّ مولى أبي بكر، وحبيب بن عبد الرحمن، وشُرَحبيل بن سعد، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ونُعيم المجمر، ويحيى بن عُمَارة بن أبي حسن، وغيرهم.
وروى عنه سليمان بن بلال، وعمرو بن الحارث، ووُهيب بن خالد، ويحيى بن أيوب المصريّ، ويونس بن يزيد، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وبكر بن مضر، وسعيد بن أبي هلال، وزهير بن معاوية، والدَّرَاوَرْديّ، وعبيدة بن حُمَيد، ومعتمر بن سليمان، وبشر بن المفَضَّل، وغيرهم.
قال أحمد، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال يحيى بن معين: صالحٌ، وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأسٌ، كان صدوقًا، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال الْبَرْقانيّ، عن الدارقطنيّ: لم يَلْحَق عُمارةُ بن غَزِيّة أنسًا، وهو ثقةٌ، وكذا قال الترمذيّ: لم يَلْقَ أنسًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" في أتباع التابعين، وقال العجليّ: أنصاريّ ثقةٌ، وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، فلم يورد شيئًا يدلّ على وَهْنه، وقال ابن حزم: ضعيفٌ، قال الحافظ: وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما قرأتُ بخطّه: ما علمت أحدًا ضغفه غيره، ولهذا قال عبد الحق: ضعّفه المتأخرون، ولم يقل العقيليّ فيه شيئًا، سوى قول ابن عيينة: جالسته كم من مرة، فلم نحفظ عنه شيئًا، فهذا تَغَفُّلٌ من العقيليّ؛ إذ ظن أن هذه العبارة تَلْيِينٌ، لا والله. انتهى
(1)
.
وقال محمد بن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، توفي سنة أربعين ومائة.
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 212 - 213.
روى له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
7 -
(نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرُ) المدنيّ، مولى آل عمر، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَنَ بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سليمان، والباقون كوفيّون، سوى عبد بن حميد، فكسّيّ، نسبة إلى "كِسّ" بكسر الكاف، وتشدد السين المهملة، وينطق بها الناس: بالفتح، والشين المعجمة: مدينة بما وراء النهر
(1)
.
3 -
(ومنها): أن شيخه محمد بن العلاء أحد مشايخ الستّة دون واسطة، كما مرّ قريبًا.
4 -
(ومنها): أن نعيم بن عبد الله يقال له: "الْمُجْمِر" - بضم الميم الأولى، وإسكان الجيم، وكسر الميم الثانية - ويقال:"الْمُجَمِّر" - بفتح الجيم، وتشديد الميم الثانية المكسورة - وقيل له ذلك؛ لأنه كان يُجَمَّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يُبَخِّره كأبيه، فهو صفة لهما معًا على الصحيح، وذكر النوويّ في "شرحه"
(2)
أن وصف عبد الله بذلك حقيقةٌ، ووصف ابنه نعيم به مجازٌ، فتعقّبه في "الفتح" بأنه قد جزم الحربيّ بأن نُعيمًا كان يُباشر ذلك
(3)
، والله أعلم.
5 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ نُعَيْمِ) بضم النون، مصغّرًا (ابْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرُ) تقدّم آنفًا أنه
(1)
راجع "لُبّ اللباب" 2/ 208.
(2)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 134.
(3)
راجع "الفتح" 1/ 284.
بصيغة اسم الفاعل من الإجمار، أو من التجمير، وأنه يوصف به نعيم وأبوه على الحقيقة (قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، وفي رواية البخاريّ من طريق سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمِر قال: "رَقِيتُ
(1)
مع أبي هريرة على ظهر المسجد، فتوضّأ" (فَغَسَلَ وَجْهَهُ) هذا تفسير وتفصيل لـ"توضّأ" (فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ) أي أكمل غسل وجهه باستيعاب محلّ الفرض، ومجاوزته، وأنقاه بإبلاغ الماء (ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ) أي أدخل الغسل فيه، وهو: ما بين المرفق والكتف، قال الفيّوميّ رحمه الله: فيه خمس لغات: بفتح، فضمّ، وِزانُ رَجُلٍ، وبضمّتين في لغة الحجاز، وقرأ بها الحسن، في قوله تعالى:{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، ومثالُ كَبِد، في لغة بني أسد، ومثالُ فَلْسٍ، في لغة بني تميم، وبَكْرٍ، والخامسةُ وزانُ قُفْلٍ، قال أبو زيد: أهل تِهَامة يؤنّثون الْعَضُدَ، وبنو تميم يُذكّرونه، والجمع أَعْضُد، وأَعضَاد، مثلُ أَفْلُس وأَقْفَال. انتهى
(2)
.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: أشرع" قال بعضهم: المعروف شَرَع، وقد حُكِي فيه: شَرَع، وأشرع.
ووقع في "مستخرج أبي نعيم" بلفظ "أسبغ" في المواضع الثلاثة
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى أشرع" رباعيّ: أي مدّ يده بالغسل إلى العضد، وكذلك قوله:"حتى أشرع في الساق": أي مدّ يده إليه، من قولهم:
(1)
بكسر القاف: أي صَعِدت.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 415.
(3)
نصّ "المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم" 1/ 307:
(577)
حدثنا جعفر بن محمد بن عمرو الأحمسيّ، ثنا أبو حصين الوادعيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا سليمان بن بلال، وعبد العزيز، عن عُمارة بن غَزِيّة، عن نعيم بن عبد الله المجمر، قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه، وأسبغ وضوءه، ثم غسل يده اليمنى حتى أسبغ كذا في العضد، ويده اليسرى حتى أسبغ كذا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أسبغ في الساق، ثم اليسرى كذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة، فمن استطاع منكم، فليطل بغرّته وتحجيله". انتهى.
أشرعت الرُّمْحَ قِبَلَهُ: أي مددته إليه، وسدَّدته نحوَهُ، وأشرعَ بابًا إلى الطريق: أي فتحه مُسَدِّدًا إليه، وليس هذا مِن شَرَعتُ في هذا الأمر، ولا مِن شَرَعَتِ الدوابُّ في الماء بشيء؛ لأن هذا ثلاثيّ، وذاك رباعيّ.
قال: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يبلُغ بالوضوء إِبطيه، وساقيه، وهذا الفعل منه مذهبٌ له، ومما انفرد به، ولم يَحْكه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلًا، وإنما استنبطه من قوله صلى الله عليه وسلم:"أنتم الْغُرُّ الْمُحَجَّلون"، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:"تبلُغُ حِلْية المؤمن حيثُ يبلغ منه الوضوء"، قال أبو الفضل عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وأن لا يُتَعدَّى بالوضوء حدوده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن زاد، فقد تعدّى وظلم".
قال: والإشراع المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة محمول على استيعاب المرفقين، والكعبين بالغسل، وعَبَّر عنه بالإشراع في العضد والساق؛ لأنهما مباديهما، وتطويل الغرّة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكلّ صلاة وإدامته، فتطول غرّته بتقوية نور وجهه، وتحجيله بتضاعف نور أعضائه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذهب إليه القرطبيّ من نفيه رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه من مذهب أبي هريرة، ولم يحكه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عجيبٌ منه، فما الذي حمله على هذا، وقد ثبت في نفس الحديث هذا ما يُبطل زعمه، حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه:"هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ"، فقد نصّ وصرّح بكونه نقله عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما قول عياض: والناس مجمعون على خلافه، فدعوى عاطلة من الصحّة؛ إذ سيأتي ما يردّه عن ابن عمر، وبعض السلف.
ومن غريب صنيع القرطبيّ بعد أن نفى نقل أبي هريرة له عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قوله:"والإشراع المرويّ عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .. إلخ"، أليس هذا من التناقض؟، ثم الأعجب بعد هذا التناقض تأويله الإشراع في العضد والساق بأن المراد استيعاب المرفق والكعب، يعني أنه ليس هناك إشراع حقيقي في العضد، والساق، وإنما هو من باب المبالغة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يُجاوز المرفق والكعب، وهذا كلّه عجيب غريبٌ من مثل القرطبيّ.
(1)
"المفهم" 1/ 498 - 499.
والحقّ أن أبا هريرة رضي الله عنه نقل الإشراع المذكور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو صريح هذا الحديث، وأن الإشراع في العضد والساق مما يُستحبّ في الوضوء، وسيأتي مزيد تحقيق لهذا قريبًا - إن شاء الله تعالى.
(ثُمَّ) غسل (يَدَهُ الْيُسْرَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُد، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ) وفي نسخة: "برأسه"(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ) هو: ما بين الركبة والقدم، وهي مؤنّثة، وتصغيرها: سُوَيقة
(1)
. (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاق، ثُمَّ قَالَ:) وفي نسخة: "ثمّ قال لي"(هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ) هذا صريحٌ في كون أبي هريرة رضي الله عنه نقل هذه الكيفيّة في الوضوء من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ رحمه الله: وفيه ردٌّ على من زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة رضي الله عنه، بل من روايته ورأيه معًا. انتهى
(2)
. (وَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ) قال أهل اللغة: "الْغُرَّة" - بضمّ الغين المعجمة، وتشديد الراء -: بياضٌ في جبهة الفرس، و"التحجيلُ": بياض في يديها ورجليها، قال العلماء: سُمِّي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غُرَّةً وتَحْجيلًا؛ تشبيهًا بغُرَّة الفرس
(3)
؛ قاله النوويّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل "الْغُرّة": لُمْعَةٌ بيضاء تكون في جبهة الفرس، على قدر الدرهم، يقال منه: فرسٌ أغرّ، ثم استُعملت في الجمال والشهرة، وطيب الذكر، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ
…
وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
(4)
والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: والتحجيل: وهو بياض يكون في ثلاث قوائم، من قوائم الفرس، وأصله من الْحِجْل - بكسر المهملة - وهو الْخَلْخال، والقيد، ولا بدّ أن يُجاوز التحجيل الأرساغ، ولا يُجاوز الركبتين والْعُرْقُوبين، وهو في الحديث مستعارٌ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 296.
(2)
"الفتح" 1/ 284.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 135.
(4)
وقع في "المفهم": "غُرَارُ" براءين، والذي في "اللسان" آخره نون، وهو الصواب؛ وهو جمع أغرّ، كغُرّ.
عبارةٌ عن النور الذي يعلو أعضاء الوضوء يوم القيامة. انتهى
(1)
.
وقال العينيّ: في الكلام تشبيه بليغٌ، حيث شبّه النور الذي يكون على موضع الوضوء يوم القيامة بغرّة الفرس، وتحجيله، ويجوز أن يكون كنايةً، بأن يكون كنى بالغرّة عن نور الوجه. انتهى.
وقال الأبيّ: إن الغرّة والتحجيل كناية عن إنارة كلّ الذات، لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء. انتهى.
وفيه نظر لا يخفى؛ إذ الترغيب في إطالة الغرّة والتحجيل ليزداد النور، ولو كان كما قال الأبيّ لما كان للإطالة فائدة
(2)
، والله تعالى أعلم.
(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف تنازعه كلّ من "الغرّ"، و"المحجّلون"، أو متعلّق بخبر متبدأ محذوف، أي ذلك كائن يوم القيامة.
قال ابن الملقّن رحمه الله: "يوم" من الأسماء الشّاذّة؛ لوقوع الفاء والعين فيه حرفي علّة، فهو من باب "ويل"، و"ويح"، و"القيامة": فِعَالة، مِن قام يقوم، أصله القِوَامة، فقُلبت الواو فيه ياء؛ لانكسار ما قبلها. انتهى
(3)
.
(مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ) متعلّق بخبر مبتدأ محذوف أيضًا، أي ذلك كائن من أجل إسباغ الوضوء، وهو: بضمّ الواو؛ لأن المراد الفعل، ويجوز فتحه أيضًا، وفي الرواية الآتية:"من آثار الوضوء"، قال ابن دقيق العيد رحمه الله:"الوضوء" بالضمِّ، ويجوز أن يقال بالفتح: أي من آثار الماء المستعمل في الوضوء، فإن الغُرّة والتحجيل نشآ عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسَبَ إلى كلّ منهما. انتهى
(4)
.
وحاصل ما أشار إليه رحمه الله أن الضمّ والفتح صحيحان؛ لأن الغرّة والتحجيل نشآ من الفعل، ومن الماء أيضًا، فجاز نسبتهما إليهما، والله تعالى أعلم.
(فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ) مفعول "استطاع" محذوف، أي من استطاع إطالة
(1)
راجع "المفهم" 1/ 499 - 500.
(2)
راجع "فتح المنعم" 2/ 146.
(3)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 404.
(4)
"إحكام الأحكام" 1/ 218 بنسخة الحاشية.
غرّته، وتحجيله، فليُطل، والمراد بإطالة التحجيل إطالة سبب التحجيل، وذلك بإطالة الغسل بالشروع في العضد والساق، وكذا إطالة الغرّة تتحقّق بالتوسّع في الغسل طولًا بالشروع في منابت الشعر، وصفحة العنق، وعرضًا بشحمة الأذنين، ولما كان الكلّ غالبًا يستطيع ذلك كان الغرض من التعبير الحثّ على الإطالة، أي فاطلبوا الغرّة والتحجيل، وليس المقصود التعليق على الاستطاعة، أفاده بعض المحققين
(1)
.
(فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ، وَتَحْجِيلَهُ) هكذا صرّح في رواية المصنّف بذكر التحجيل مع الغرّة، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"فمن استطاع منكم أن يُطِيل غُرَّته فليفعل"، ولذا قال في "الفتح": أي فليُطِل الغرة والتحجيل، واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى، نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ، واقتصر على ذكر الغُرّة، وهي مؤنثة، دون التحجيل، وهو مذكر، لأن مَحَلّ الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في رواية مسلم من طريق عُمَارة بن غَزِيّة ذكر الأمرين، ولفظه:"فليطل غرته وتحجيله".
وقال ابن بطال رحمه الله: كَنَى أبو هريرة رضي الله عنه بالغُرّة عن التحجيل؛ لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله.
وتعقّبه الحافظ، فقال: فيما قال نظر، لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع؛ لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلًا، ونقل الرافعيّ عن بعضهم أن الغرة تُطلق على كلٍّ من الغرة والتحجيل.
[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية أن قوله: "فمن استطاع .. إلخ" بقية الحديث، وهو ظاهر مذهب الشيخين، حيث ساقاه مساقًا واحدًا، دون إشارة إلى الإدراج، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"فتح المنعم" 2/ 146.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[12/ 585 و 586](246)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(136)، و (أحمد) في "مسنده"(362 و 400 و 523)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(603)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(577 و 578)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1049)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 57)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(218)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، كما بيّنّاه آنفًا، وهو ظاهر في أن قوله:"فمن استطاع منكم، فليُطل غرّته" مرفوع من جملة الحديث، ومن الغريب أن بعض العلماء
(1)
ادّعَى كونه مُدرجًا من كلام أبي هريرة، ولم يأتوا ببيّنة واضحة يُرَدّ بها صنيعُ الشيخين.
ومن الغريب استدلالهم بما رواه أحمد من طريق فُلَيح، عن نعيم بن عبد الله، وفي آخره: قال نعيم: لا أدري قوله: "من استطاع .. إلخ" من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ رحمه الله: ولم أَرَ هذه الجملة في رواية أحد ممن رَوَى هذا الحديث من الصحابة، وهم عشرة
(2)
، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
والغريب كيف يستدلّون برواية فُلَيح بن سليمان - وهو وإن أخرج له الشيخان، إلا أن الأكثرين على تضعيفه - على ردّ رواية عُمارة بن غزيّة، وسعيد بن أبي هلال، وهما أوثق منه بكثير، وكلاهما روياه من دون ترّدد وشكّ، فروايتهما مقدّمة من دون شكّ، كما هو صنيع الشيخين.
وأغرب من ذلك أن بعضهم ذكر تقويةً لرواية فُليح هذه رواية ليث بن أبي
(1)
ومنهم ابن القيّم رحمه الله، والشيخ الألبانيّ.
(2)
لم يُبيّن الحافظ أسماءهم، وسيأتي بيانها في التنبيه، ولكنهم تسعة، لأن العاشر وهو أبو ذرّ رضي الله عنه إنما ذُكر في حديث ابن لَهِيعة بالشك بينه وبين أبي الدرداء، ولعله هو العاشر عند الحافظ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(3)
"الفتح" 1/ 285.
سُليم، عن كعب، عن أبي هريرة
(1)
، وفيه هذه الجملة، ومعلوم أن ليثًا متروك الحديث، لا يصلح في المتابعة، ولا في الشواهد، فكيف يردّ رواية الثقات بمثله؟! هيهات هيهات.
والحاصل أن اتّفاق صنيع الشيخين مقدّم على كلّ من أعلّ الحديث، فهو مرفوعٌ كلّه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن منده رحمه الله في "مستخرجه": حديث "أمتي الغرّ المحجّلون من آثار الوضوء" رواه مع أبي هريرة من الصحابة ابنُ مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو أمامة الباهليّ، وأبو ذرّ الغفاريّ، وعبد الله بن بُسْر المازنيّ، وحُذيفة بن اليمان رضي الله عنهم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: فجملتهم ثمانية، ويزاد فيهم أبو الدرداء رضي الله عنه، أو أبو ذرّ بالشكّ، كما أخرج الإمام أحمد حديثه في "مسنده"
(3)
، بإسناد فيه ابن لَهِيعة، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" برقم (8524).
(2)
راجع "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" للإمام ابن الملقّن رحمه الله 1/ 412.
(3)
قال الإمام أحمد رحمه الله (20744): حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى بين يديّ، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك"، فقال له رجل: يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال:"هم غُرٌّ محجلون، من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يُؤْتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم يسعى بين أيديهم ذريتهم".
حدثنا يحيى بن إسحاق شك فيه، قال: سمعت أبا ذرّ أو أبا الدرداء، قال يحيى: فيقول: "فأعرفهم أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم".
حدثنا يعمر، حدثنا عبد الله بن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، أنه سمع أبا ذرّ، أو أبا الدرداء، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له في السجود
…
" فذكر معناه. انتهى.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب إطالة الْغُرّة والتحجيل في الوضوء، وسيأتي اختلاف العلماء فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى.
2 -
(ومنها): استحباب المحافظة على الوضوء، وسننه المشروعة فيه، وإسباغه.
3 -
(ومنها): بيان فضل الوضوء؛ لأن الفضل الحاصل بالْغُرّة والتحجيل من آتار الزيادة على الواجب، فكيف الظنّ بالواجب، وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة، أخرجها المصنّف وغيره، وقد سبق بيانها.
4 -
(ومنها): بيان ما أعدّ الله تعالى من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة.
5 -
(ومنها): بيان أن الواجب في الرجلين الغسل، لا المسح.
6 -
(ومنها): بيان جواز الوضوء على ظهر المسجد؛ لقول نعيم في رواية البخاريّ: "رَقِيتُ مع أبي هريرة على ظهر المسجد، فتوضّأ"، وهذا مشروط بما إذا لم يحصل منه أذى للمسجد، أو لمن فيه، وإلا لا يجوز؛ لحديث:"لا ضرر، ولا ضِرَار"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تطويل الغرّة والتحجيل:
(اعلم): أنهم اختَلَفوا في القدر المستحب من التطويل في التحجيل، فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه روايةً ورأيًا، وعن ابن عمر من فعله، أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن.
وقيل: المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق.
وقيل: إلى فوق ذلك.
وقال ابن بطال، وطائفة من المالكية: لا تُستحب الزيادة على الكعب والمرفق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا، فقد أساء وظلم".
قال الحافظ رحمه الله: وكلامهم مُعْتَرَضٌ من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب، فلا تُعارَض بالاحتمال.
(1)
حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" 2/ 784.
وأما دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك، فهي مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرَّح باستحبابه جماعة من السلف، وأكثر الشافعية والحنفية، وأما تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء، فمعترَضٌ بأن الراوي أدرى بمعنى ما رَوَى، كيف وقد صَرَّح برفعه إلى الشارع صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": (اعلم): أن هذه الأحاديث مُصرِّحة باستحباب تطويل الغرة والتحجيل، أما تطويل الغُرَّة فقال أصحابنا - يعني الشافعيّة -: هو غَسْل شيء من مُقَدَّم الرأس، وما يجاوز الوجه زائدًا على الجزء الذي يجب غسله؛ لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل، فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهذا مستحبّ بلا خلاف بين أصحابنا، واختلفوا في قدر المستحبّ على أوجه:
[أحدها]: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيت.
[والثاني]: يستحب إلى نصف العضد والساق.
[والثالث]: يستحب إلى المنكبين والركبتين، وأحاديث الباب تقتضي هذا كله، وأما دعوى الإمام أبي الحسن بن بطال المالكيّ، والقاضي عياض، اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب فباطلة، وكيف تصحّ دعواهما، وقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي هريرة رضي الله عنه؟ وهو مذهبنا، لا خلاف فيه عندنا كما ذكرناه، ولو خالف فيه مخالفٌ كان محجوجًا بهذه السنن الصحيحة الصريحة، وأما احتجاجهما بقوله صلى الله عليه وسلم:"من زاد على هذا، أو نقص فقد أساء وظلم"، فلا يصحّ؛ لأن المراد مَن زاد في عدد المرات، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ استحباب إطالة الغرّة والتحجيل بمجاوزة محل الفرض، فيغسل شيئًا من مقدّم رأسه، وما يجاوز الوجه زائدًا على الجزء الذي يجب غسله، وفي التحجيل يغسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهذا هو الذي عليه ظاهر النصّ، وبيّنه الراوي أبو
(1)
"الفتح" 1/ 285.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 134.
هريرة رضي الله عنه بفعله، فمن خالف هذا، وقال بعدم مشروعيّة مجاوزة محلّ الفرض، فقد أساء وظلم، أساء في فهم المراد، وظلم السنّة حيث أوّلها على خلاف ما تقتضيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أنه استَدَلَّ الْحَلِيميّ رحمه الله بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، جزم به في "منهاجه".
وتعقّبه الحافظ رحمه الله في "الفتح" بأنه ثبت في "صحيح البخاريّ" في قصة سارة رضي الله عنه مع الملك الذي أعطاها هاجر، أنّ سارة لَمّا هَمّ الْمَلِك بالدنوّ منها قامت تتوضأ وتصلي
(1)
، وفي قصة جُريج الراهب عند البخاريّ أيضًا أنه قام، فتوضأ، وصلَّى، ثم كَلَّم الغلام
(2)
، فالظاهر أن الذي اختَصَّت به هذه الأمة هو
(1)
هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيم؛ بسارة، فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم بامرأة، هي من أحسن النساء، فأرسل إليه أن يا إبراهيم مَن هذه التي معك؟ قال: أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تُكَذِّبي حديثي، فإني أخبرتهم أنكِ أختي، والله إنْ على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنتُ آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تُسَلِّط عليّ الكافر، فَغُطَّ حتى رَكَضَ برجله، قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته، فأُرْسِل، ثم قام إليها، فقامت توضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنتُ آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تُسَلّط عليّ هذا الكافر، فَغُطَّ حتى رَكَض برجله، قال عبد الرحمن: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: فقالت: اللهم إن يمت، فيقال: هي قتلته، فأُرسِل في الثانية، أو في الثالثة، فقال: والله ما أرسلتم إليّ إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها آجر، فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام، فقالت: أَشَعَرتَ أن الله كَبَت الكافر، وأخدم وليدة؟ "، أخرجه البخاريّ في "البيوع" برقم (2217) ومسلم في "الفضائل" برقم (2371).
(2)
هو ما أخرجه الشيخان أيضًا في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان رجل في بني إسرائيل، يقال له: جُرَيج يصلي، فجاءته أمه، فدعته، فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي؟ ثم أتته، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتننّ =
الغُرّة والتحجيل، لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا مرفوعًا قال:"سِيمَا ليست لأحد غيرِكُم"، وله من حديث حُذيفة رضي الله عنه نحوه، و"سِيما" - بكسر المهملة، وإسكان الياء الأخيرة - أي علامة.
وقد اعتَرَض بعضهم على الْحَلِيميّ بحديث: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي"، وهو حديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به؛ لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء، دون أُممهم إلا هذه الأمة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الثاني يُبعده ما تقدّم من قصّة سارة، وجُريج، فالصواب الردّ بضعف الحديث.
والحاصل أن الوضوء ليس خاصًّا بهذه الأمة، وإنما خصّها الله تعالى على سائر الأمم بالغرّة والتحجيل؛ زيادة في رفعة درجتها؛ لرفعة درجة نبيّها صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى خصّه بفضله العظيم، كما قال عز وجل:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[586]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنِي
(2)
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهَ، أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْن، ثُمَّ غَسَلَ
= جريجًا، فتعرضت له، فكلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت: هو من جريج، فأَتَوه، وكسروا صومعته، فأنزلوه، وسَبُّوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: مَن أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين"، أخرجه البخاريّ في "المظالم" برقم (2482)، ومسلم في "البرّ والصلة" برقم (2550).
(1)
"الفتح" 1/ 284 - 285.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
رِجْلَيْه، حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْن، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ الْوُضُوء، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بن سَعِيدٍ الْأَيلِيُّ) السّعْديّ مولاهم، أبو جعفر المصريّ، ثقةٌ فاضل [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظ [7](ت قديمًا قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: مدنيّ الأصل، أو نشأ بها، صدوقٌ [6](ت بعد 130)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ)"المنكب" - بفتح الميم، وكسر الكاف، بينهما نون ساكنة -: مُجتمع رأس الكتف والعضد، وأسفله الإبط.
وقوله: (حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْنِ) مفعول "رَفَعَ" محذوف: أي حتى الغسلَ إلى الساقين، والغاية داخلة؛ لأنه كان يَشرَع في الساق.
وقوله: (إِنَّ أُمَّتِي)"الأمة" في اللغة: الجماعة، وكلُّ جنس من الحيوان أمةٌ، ومن معانيها اللغويّة الحِينُ، ومنه قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تُطلق على معنيين: أمة الدعوة، وهي من بُعِثَ إليهم، وأمة الإجابة، وهي من آمن به، وصدّقه، وهذه هي المرادة هنا، وإتيانهم من الموقف إلى الحوض كما يظهر من الرواية الآتية
(1)
.
وقال العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: جاءت "الأمة" على ثمانية أوجه"، ذكرها العزيزيّ رحمه الله:
(1)
"فتح المنعم" 2/ 147.
1 -
"أمة": جماعة، كقوله تعالى:{أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23].
2 -
و"أمة": أتباع الأنبياء عليهم السلام، كما نقول: نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
و"أمة": رجل جامعٌ للخير يُقتدى به، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
4 -
و"أمة": دينٌ وملّةٌ، كقوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22].
5 -
و"أمة": حينٌ وزمان، كقوله تعالى:{إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8].
6 -
و"أمة": قامةٌ، يقال: فلان حسنُ الأمة: أي القامة.
7 -
و"أمة": رجل منفرد بدين لا يَشرَكه فيه أحدٌ، قال صلى الله عليه وسلم:"يُبعث زيد بن عمرو بن نُفيل أمة وحده"
(1)
.
8 -
و"أمة": أمّ، يقال: أمةُ زيد.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت هذه المعاني الثمانية لـ"الأُمّة"، فقلت:
وَمَعْنَى أُمَّةٍ أَتَى ثَمَانِيَهْ
…
فَمَنْ يُرِدْ يَسْمَعْ بِأُذْنٍ وَاعِيَهْ
جَمَاعَةٌ كَذَاكَ أَتْبَاعُ الرُّسُلْ
…
وَرَجُلٌ جَامِعُ خَيْرٍ قَدْ نَبُلْ
وَمِلَّةٌ حِيْنٌ وَقَامَةٌ وَمَنْ
…
بِدِنِهِ انْفَرَدَ بِالأُمِّ اخْتِمَنْ
والمراد بالأمة إذا قلنا: أمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنون خاصّةً، هذا هو الحقّ، وقد يُطلق على غيرهم بعلاقة كونه مرسلًا إلى الناس أجمعين. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(2)
.
وقوله: (يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وفي رواية البخاريّ: "يُدْعَون" بضم أوله: أي يُنَادَون، أو يُسَمَّوْن.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 189 - 190 والحاكم في "المستدرك" 3/ 439 - 440 والطبرانيّ (350)، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 9/ 417، ونسبه إلى الطبرانيّ والبزار باختصار، قال: وفيه المسعوديّ، وقد اختلط، وبقيّة رجاله ثقات، وصححه الحاكم في "المستدرك" 3/ 316 - 317 ووافقه الذهبيّ.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 402 - 404.
وقوله: (غُرًّا) - بضم المعجمة، وتشديد الراء - جمع أَغَرّ، أي ذَوِي غُرّة، ونُصِب على الحال من الواو في "يأتون"، وأما على رواية البخاريّ: فيكون منصوبًا على أنه مفعول ثانٍ لـ"يُدْعَون" بمعنى يُسمّون، أو يكون حالًا من الضمير في "يُدعون"، يعني أنهم إذا دُعُوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة.
وقوله: (مُحَجَّلِينَ) يحتمل الإعرابين السابقين، وهو بالحاء المهملة والجيم، اسم مفعول، من التحجيل، وقد سبق تفسير الغرّة والتحجيل في الحديث الماضي.
وقوله: (مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ)"من" تعليليّة، أي لأجل أثر الوضوء.
وقوله: (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) أي فليُطل الغرّة والتحجيل، واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى، نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ، واقتصر على ذكر الْغُرّة، وهي مؤنّثة، دون التحجيل، وهو مذكّر؛ لأن محلّ الْغُرّة أشرف أعضاء الوضوء، وأوّل ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في الرواية السابقة من طريق عُمارة بن غزيّة ذكر الأمرين معًا، حيث قال:"فليُطِل غُرّته وتحجيله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[587]
(247) - (حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيّ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ، سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْج، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَن، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُوم، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا
(1)
لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَم، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ").
(1)
وفي نسخة: "لكم سيماءٌ".
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثَانيّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكّة، ثقة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الْفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكّة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، يُدلِّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
4 -
(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ) الكوفيّ، ثقة [4](ت في حدود 140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
[تنبيه]: "الأشجعيّ" - بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة، وفتح الجيم -: نسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، قبيلة مشهورة
(1)
.
5 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قال ابن أبي عمر: حدّثنا مروان"، فيه بيان اختلاف شيخيه في صيغة الأداء، فصرّح ابن أبي عمر بالتحديث، فبيّنه، وقد تقدّم ذلك غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من مروان غير الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ حَوْضِي" قال ابن
(1)
راجع "اللباب" 1/ 64.
منظور رحمه الله: "الْحَوْضُ": مُجْتَمَعُ الماء معروفٌ، والجمع أَحْوَاض، وحِيَاض. انتهى
(1)
. وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَوْضُ الماء جمعه أَحْوَاضٌ، وحِيَاضٌ، وأصلُ حِيَاض: الواو، لكن قُلِبت ياءً؛ لكسرة ما قبلها، مثلُ ثَوْبٍ وأَثْوَابٍ، وثِيَاب. انتهى
(2)
. (أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ) أي من بعد أَيْلَة من عدن، و"أَيْلة" - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة -: بلدٌ بساحل بحر الْقلزم مما يلي ديار مصر
(3)
.
وقال بعضهم: "أيلة" مدينة كانت عامرةً بطرف الشام، كان يمُرّ بها الحاجّ من مصر، فتكون شَمَالهم، ويمرّ بها الحاجّ من غَزَّة، فتكون أمامهم، أقرب ما تكون إلى ما يُسمّى اليوم بالعقبة. انتهى.
و"عَدَن" - بفتحتين -: بلد باليمن مشتقٌّ من عدن من باب ضرب، وقعد: إذا أقام، وأُضيف إلى بانيه، فقيل: عدنُ أَبْيَن، قاله في "المصباح"
(4)
، وذكر بعضهم: أنها مدينة معروفة على ساحل البحر الأحمر. انتهى.
قال الأبيّ رحمه الله: قوله: "أبعد من أيلة من عدن" أي بعد ما بين طرفيه، قال: ولم يُبيّن هل ذلك طولٌ أم عرضٌ؟ لكن جاء في حديث آخر: "أن زواياه سواء"، وقام البرهان على أن تساوي الزوايا ملزوم لتساوي الأضلاع، فهو مربّع؛ لتساوي الأضلاع. انتهى
(5)
.
[تنبيه]: هكذا جاء في هذه الرواية تحديد طرفي الحوض ببعد أيلة من عدن، وفي رواية البخاريّ:"إن قدر حوضي كما بين أيلة، وصنعاء من اليمن"، وفيه:"حوضه ما بين صنعاء والمدينة"، وعند أحمد:"كما بين أيلة إلى الجحفة"، وفي لفظ:"ما بين مكّة و، عمان"، وفي رواية:"كما بين مكّة إلى أيلة"، وعند ابن ماجه:"ما بين الكعبة إلى بيت المقدس"، وجاء غير ذلك.
وقد جمع العلماء بين هذه الاختلافات، وأقرب الأقوال في ذلك أن المقصود به ضرب المثل لبعد أقطار الحوض وسَعَته، لا تحديد المسافة،
(1)
"لسان العرب" 7/ 141.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 156.
(3)
راجع "الأنساب" 1/ 237 - 238، و"اللباب" 1/ 98، و"معجم البلدان" 1/ 292.
(4)
"الأنساب" 4/ 165، و"معجم البلدان" 4/ 89، و"المصباح المنير" 2/ 397.
(5)
"شرح الأبيّ" 2/ 26.
وذِكرُه صلى الله عليه وسلم للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يَعرِف تلك الجهات، فيُخاطب كلّ قوم بالجهة التي يعرفونها، وسيأتي تمام البحث في هذا في موضعه - إن شاء الله تعالى.
(لَهُوَ) اللام لام القسم المحذوف، و"هو" مبتدأ على حذف مضاف: أي لَمَاؤه، وخبره قوله:(أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ) قال الأبيّ رحمه الله: كونه أشدّ بياضًا من الثلج حقيقةٌ؛ لأن البياض مقولٌ بالتفاوت. انتهى
(1)
.
(وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ) أي حال كونه مخلوطًا، وممزوجًا باللبن، قال الأبيّ رحمه الله: معنى "أحلى" هنا أزكى؛ لأن العسل وحده أحلى منه مع اللبن. انتهى
(2)
.
(وَلَآنِيَتُهُ) أي التي تُسْتَعْمَل لشربه (أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُوم، وَإِنِّي لَأَصُدُّ) من باب نصر: أي أمنع (النَّاسَ عَنْهُ) أي الورود إليه للشرب (كمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ") أي مثل ما يمنع الإنسان إبل غيره من الناس التي ليس لها حقّ في الورود إلى حوضه (قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟) أي يوم القيامة (قَالَ: "نَعَمْ) أي أعرفكم (لَكُمْ سِيمَا) جملة من مبتدأ وخبر، مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، تقديره هنا: بأي شيء تعرفنا؟ قال: لكم علامة تتميّزون بها عن غيركم، فقوله:"سيما" بكسر السين المهملة، والقصر، وفي بعض النسخ بالمدّ: العلامة، قال النوويّ رحمه الله:"السيما": العلامة، وهي مقصورة، وممدودةٌ، لغتان، ويقال أيضًا: السِّيمِيَاءُ بياء بعد الميم، مع المدّ. انتهى
(3)
. وقوله: (لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ) جملة في محلّ رفع صفة لـ"سيما"، ثم ذكر ما يُبيِّن به تلك السيما بقوله:(تَرِدُونَ) بفتح أوله، وكسر الراء، من الورود، يقال: وردَ البعيرُ وغيره الماءَ يَرِدُه وُرُودًا، من باب ضرب: بَلَغُه، ووافاه
(4)
. (عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ) منصوبان على الحال كما تقدّم (مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ") تقدّم أنه يَحْتَمِل أن يكون بضمّ الواو للفعل، أو بفتحها للماء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح الأبيّ" 2/ 26.
(2)
"شرح الأبيّ" 2/ 26.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 135.
(4)
"المصباح" 2/ 654.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[12/ 587 و 588](247)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4282)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 6)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1048)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(358 و 359)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(579 و 580)، وفوائد الحديث تأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[588]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَاللَّفْظُ لِوَاصِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، أَتَعْرِفُنَا
(1)
؟ قَالَ: "نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوء، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ، فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُجِيبُني مَلَكٌ
(2)
، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء أحد مشايخ الستّة المذكور أولَ هذا الباب.
2 -
(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الكوفيّ، ثقة [10].
رَوَى عن أبي بكر بن عيّاش، ووكيع، وأسباط بن محمد، وأبي أسامة، وابن فضيل، ويحيى بن آدم.
(1)
وفي نسخة: "تعرفنا".
(2)
ووقع في نسخة: "مالك"، فليُنظر.
ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن أبي عاصم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن يحيى بن مَنْدَه، ومُطَيَّن، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن محمد بن شيرويه، والهيثم بن خلف الدُّوريّ، وأبو يعلى، ومحمد بن السراج، وآخرون.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال مُطَيَّن، والسراج: مات سنة أربع وأربعين ومائتين.
روى عنه المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
3 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ) اللام هي الموطّئة للقسم، و"يُصَدّنّ" بضمّ الياء، وفتح الصاد المهملة، مبنيًّا للمفعول، وهو مبنيّ على الفتح؛ لاتّصاله بنون التوكيد، و"طائفة" نائب فاعله: أي لَيُمنَعَنّ جماعة، ومعمول "يَصِلون" محذوف، أي فلا يصلون إليّ، بل يُحال بينهم وبين الوصول إلى الحوض.
وفي رواية البخاريّ: "لَيَرِدَنَّ عليّ أقوام، أعرِفهم، وَيَعْرفونني، ثم يُحال بيني وبينهم"، وفي رواية له أيضًا: "ويرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيُحَلَّئُون
(1)
عن الحوض"، وفي رواية: "فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلُمّ، فقلت: أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ فقال.: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ بيني وبينهم، فقال: هلمّ، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يَخْلُص منهم إلا مثل همل النعم"
(2)
.
(1)
أي يُبْعَدون.
(2)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" برقم (6587).
وقوله: (هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي) أي فَلِمَ يُمعنون من ورود حوضي؟.
وقوله: (فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول، "فيُجيبني" بالباء الموحّدة، من الجواب، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة، إلا ابن أبي جعفر من رواتهم، فإنه عنده "فيجيئني"، بالهمز من المجيء، والأول أظهر، والثاني له وجه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟) وفي الرواية الآتية بعد حديث: "إنهم قد بدّلوا بعدك"، وسيأتي البحث فيه مستوفًى هناك - إن شاء الله تعالى - وتخريجه تقدّم في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[589]
(248) - (وَحَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ حَوْضِي لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوء، لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسةٌ:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ) هو: أبو مالك الأشجعيّ المذكور في الحديث الماضي.
4 -
(رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ) - بكسر الحاء المهملة، آخره شين معجمة - أبو
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 136.
مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 100) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
5 -
(حُذَيْفَةُ) بن اليمان واسم اليمان حِسْل، أو حُسَيل الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.
وقوله: ("إِنَّ حَوْضِي لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ) يعني أن بُعْد ما بين طرفي حوضه صلى الله عليه وسلم أزيد من بُعْد أيلة من عدن، وهما بلدان ساحليّان في بحر القلزم، أحدهما، وهو أيلةُ في شمال بلاد العرب، والآخر، وهو عَدَن في جنوبها، وهو آخر بلاد اليمن مما يلي الهند.
وقوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف، ولا ضرورة، ودلائله كثيرة
(1)
.
وقوله: (لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ) أي لأمنعنّ عن الحوض.
وقوله: (كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ") الإبل الغريبة هي التي لا يُعرف صاحبها، كما قال في الحديث الآخر:"كما يُذاد البعير الضالّ"، فهي تَرْعَى مع الإبل، وتُزاحم واردتها على حوضها، فصاحب الإبل يضربها جُهْده، ويَطرُدها حتى يَسقِيَ إبله، وهي تترامى بالعطش، وهو يَصُدّها، ولذلك ضرب المثل بضربها، وقال الحجّاج: لأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، قاله القاضي عياض رحمه الله
(2)
، وتمام شرح الحديث يُعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، والآتي.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[12/ 589](248)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4302)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(581)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 137.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 46.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[590]
(249) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا"، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ"، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ أَن رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ، مُحَجَّلَةٌ، بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوء، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْض، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي، كمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: ألَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) عن (77) سنة (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
3 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
6 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ،
صدوقٌ ربّما وهم [5](ت بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ، مولى الْحُرَقة المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في الإيمان 8/ 135.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدّمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، كما سبق آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: العلاء، عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحفظ مَن رَوَى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ) بتثليث الباء، والكسر أقلّها، وهي مواضع دفن الموتى
(1)
، والمراد بالمقبرة هنا مقبرة البقيع؛ لما أخرجه المصنّف من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّما كانت ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرُج إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين
…
" الحديث.
(فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) وفي رواية أحمد: "سلام عليكم"، وفيه دلالة على أن السلام على الموتى يُقدَّم فيه المبتدأ على الخبر، كالسلام على الأحياء، ويُقدَّم الدعاء على المدعوّ له، فإن السلام متضمّنٌ للدعاء، ونظيره قوله تعالى:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} الآية [هود: 73]، ولا ينافيه ما أخرجه أبو داود في "باب كراهية أن يقول: عليك السلام" من "كتاب الأدب" عن أبي جُرَيّ الْهُجَيميّ - بالتصغير فيهما - قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
راجع "لسان العرب" 5/ 69.
فقلت: عليك السلام يا رسول الله، فقال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحيّة الموتى"؛ لأن معناه أن هذه الصيغة تختصّ بالموتى، وأما "السلام عليكم" فمُشترك.
وأما ما قاله بعضهم من لزوم تقديم المبتدأ على الخبر في السلام على الأحياء والأموات، وإجابته عن حديث أبي جُرَيّ بأنه إخبار عن عادة أهل الجاهليّة من تقديم الخبر على المبتدأ في تحيّة الموتى، كما قال شاعرهم [الطويل]:
عَلَيْكَ سَلَامُ الله قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ
…
وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
فبعيدٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يُقِرّ أحدًا على ما يُخالف الشريعة.
فتبيّن بهذا أن السنّة في السلام على الأحياء والأموات تقديم المبتدأ على الخبر، وأنه يجوز في تحيّة الموتى تقديم الخبر
(1)
، والله تعالى أعلم.
(دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) بنصب "دار" على الاختصاص، أو النداء المضاف، والأول أظهر، ويصحّ جرّه على البدل من الضمير المجرور في "عليكم"، والمراد بالدار على هذين الوجهين الأخيرين: الجماعة، أو الأهل، وعلى الأول مثله، أو أهل المنزل، قال الأبيّ: يعني الاختصاص اللغويّ، لا الصناعيّ؛ لفقد شرطه، وهو تقديم ضمير المتكلّم، أو المخاطب. انتهى.
وسُمّيت القبور دارًا؛ تشبيهًا لها بمساكن الأحياء؛ لأنهم يجتمعون في القبور
(2)
.
(وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ) قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: في معناه قولان:
[أحدهما]: أن الاستثناء مردود على معنى قوله: "دار قوم مؤمنين": أي وإنا بكم لاحقون مؤمنين - إن شاء الله - يريد في حال إيمان؛ لأن الفتنة لا يأمنها مؤمنٌ، ألا ترى إلى قول إبراهيم؛ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقول يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
(1)
راجع "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 5/ 104.
(2)
المصدر السابق.
[والوجه الثاني]: أنه قد يكون الاستثناء في الواجبات التي لا بُدّ من وقوعها، كالموت، والكونُ في القبر، ولا بُدّ منه ليس على سبيل الشكّ، ولكنها لغة العرب، ألا ترى إلى قول الله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، والشكُّ لا سبيل إلى إضافته إلى الله عز وجل، تعالى عن ذلك علام الغيوب. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الاستثناء يحتمل أوجهًا:
[أحدها]: أَنه امتثال لأمر الله تعالى في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، فكان يُكثر من ذلك حتى أدخله فيما لا بدّ منه، وهو الموت.
[وثانيها]: أنه أراد إنا بكم لاحقون في الإيمان، ويكون هذا قبل أن يعلم بما آل أمره، كما قال:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].
[وثالثها]: أن يكون استثناءً في الواجب، كما قال تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وتكون فائدته التفويض المطلق.
[ورابعها]: أن يكون أراد: لاحقون في هذه البقعة الخاصّة، فإنه وإن كان قد علم أنه يموت بالمدينة، ويُدفن بها، فإنه قد قال للأنصار:"المحيا محياكم، والممات مماتكم"، رواه مسلم، لكن لم تُعيّن له البقعة التي يكون فيها إذ ذاك، وهذا الوجه أولى من كل ما ذُكر، وكلّها أقوال لعلمائنا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكره نحو ما تقدّم: وقيل: معناه إذ شاء الله، وقيل أقوال أُخَرُ ضعيفةٌ جدًّا تركتها؛ لضعفها، وعدم الحاجة إليها، منها: قولُ من قال: الاستثناء منقطعٌ، راجع إلى استصحاب الإيمان، وقولُ مَن قال: كان معه صلى الله عليه وسلم مؤمنون حقيقة، وآخرون يُظَنُّ بهم النفاق، فعاد الاستثناء إليهم، وهذان القولان، وإن كانا مشهورين فهما خطأٌ ظاهرٌ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"التمهيد" 20/ 249.
(2)
"المفهم" 1/ 500 - 501.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 138.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي ما رجحه القرطبيّ رحمه الله، وهو أن الاستثناء للبقعة التي يُدفن فيها؛ لأنها ليست معيّنة، فيحتمل أن يدفن في البقيع الذي زار أهله، ويحتمل أن يكون في محلّ آخر، كما هو الواقع بعد ذلك، فالاستثناء راجع إلى هذا المبهم، والله تعالى أعلم.
(وَدِدْتُ) بكسر الدال: أي تمنّيتُ وأحبيتُ، ووجه اتّصال وُدّه برؤية أصحاب القبور أنه جاء تصوّر اللاحقين بتصوّر السابقين، وقيل: كُشف له صلى الله عليه وسلم عالم الأرواح كلّها (أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا") معناه: تمنّيتُ رؤيتنا إخواننا في الحياة الدنيا، قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل: المراد تمني لقائهم بعد الموت، وقال بعضهم: أراد صلى الله عليه وسلم أن ينقُل أصحابه من علم اليقين إلى عين اليقين، فيراهم هو ومن معه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على جواز تمنّي لقاء الفضلاء والعلماء، وهذه الأخوّة هي أخوّة الإيمان اليقينيّ، والحبّ الصحيح للرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم (أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْتُمْ أَصْحَابِي) قال الباجيّ رحمه الله: لم يَنفِ بذلك أُخوّتهم، ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، واختصاصهم بها، وإنما مَنَع أن يُسمَّوا بذلك؛ لأن التسمية والوصف على سبيل الثناء والمدح للمسمَّى يجب أن يكون بأرفع حالاته، وأفضل صفاته، وللصحابة رضي الله عنهم بالصحبة درجة رفيعةٌ، لا يَلحَقهم فيها أحدٌ، فيجب أن يوصفوا بها. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال الإمام الباجيّ رحمه الله: ليس نفيًا لأُخُوَّتهم، ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوةٌ صحابةٌ، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
(وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ")"إخواننا" مبتدأ خبره الموصول، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: ظاهر هذا الكلام أن إخوانه صلى الله عليه وسلم غير أصحابه،
(1)
"المفهم" 1/ 501.
(2)
راجع "شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 1/ 63.
فأصحابه هم الذين رأوه، وصحبوه مؤمنين، وإخوانه هم الذين آمنُوا به، ولم يروه، وقد جاء منصوصًا عنه صلى الله عليه وسلم، والإخوان والإخوة هنا معناهما سواءٌ، وقد قُرِئت:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [الحجرات: 10]، و"بين إخوتكم"، و"بين إخوانكم"، وقد رُوي عن الحسن البصريّ أنه قرأ بهذه الثلاث
(1)
، قرأ {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، و"إخوتكم"، و"إخوانكم"، قال أبو حاتم: والمعنى واحد، ألا ترى إلى قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، وقوله:{أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} الآية [النور: 61]، إلا أن العامة أُولعَت بأن تقول: إخوتي في النسب، وإخواني في الصداقة. وممن قرأ:"فأصلحوا بين إخوانكم" ثابت البنانيّ، وعاصم الجحدريّ، ورُوي ذلك عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، ويعقوب:"إخوتكم"، وقراءة العامّة:{أَخَوَيْكُمْ} على اثنين في اللفظ.
وأما الأصحاب: فمن صَحِبَك وصحبته، وجائز أن يُسَمَّى الشيخُ صاحبًا للتلميذ، والتلميذ صاحبًا للشيخ، والصاحب: القرين المماشي المصاحب، فهؤلاء كلهم أصحابٌ، وصحابة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي: بعد هذا الوقت، يعني أنهم لم يوجدوا معه "الآن"، وكلمة "بَعْدُ" قد يراد بها الآن، كما في قول بعضهم [من الطويل]:
كَمَا قَدْ دَعَانِي فِي ابْنِ مَنْصُورَ قَبْلَهَا
…
وَمَاتَ فَمَا حَانَتْ مَنِيَّتُهُ بَعْدُ
أي الآن: قاله المرتضى في "شرح القاموس"
(3)
.
وَيَحتمل أن تكون على معناها، ويكون الظرف حالًا، أي: حال كون وقتهم بعد وقتنا هذا.
(1)
هكذا عند ابن عبد البرّ رحمه الله، والذي في تفسير القرطبيّ رحمه الله: أن الحسن قرأ "إخوانكم" بالنون، وأن ابن سيرين، ونصر بن عاصم، وأبا العالية، والجحدريّ قرأوا "بين إخوتكم"، بالتاء على الجمع، والباقون {أَخَوَيْكُمْ} على التثنية، وحكى أبو حيان في "البحر" الخلاف عن الحسن، قال: وقرأ أبو عمرو بالثلاث.
(2)
"التمهيد" 20/ 243 - 244.
(3)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 304.
وأُورد: كيف يتمنّى رؤيتهم، وهو حيّ، وهم حينئذ في علم الله تعالى، لا وجود لهم في الخارج، والمعدوم لا يُرى، وأيضًا هو من تمنّي ما لا يكون؛ لأن عمره لا يمتدّ حتى يرى آخرهم؟.
وأُجيب: بأن الرؤية بمعنى العلم، وهو يتعلّق بالمعدوم، أو رؤية تمثيل، بمعنى أن يُمثّلوا له كما مُثّلت له الجنّة في عُرْض الحائط، أو أن هذا من رؤية الكون كما زُويت له الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها؛ كرامةً من الله له.
وأُورد أيضًا على أن المراد بعد الموت: أنه يلزم منه تمنّي الموت، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يتمنّيَنّ أحدكم الموت".
وأُجيب: بمنع الملزوميّة، وإن سُلّمت فالمنع لِمَا قال:"لِضُرّ نزل به".
قال الأبيّ رحمه الله: وهذا كلّه على أنه تَمَنٍّ حقيقيّ، وقد لا يكون حقيقةً، وإنما هو تشريفٌ لقدر أولئك الإخوان. انتهى
(1)
.
(فَقَالُوا) أي الصحابة الحاضرون المخاطبون بهذا الكلام (كَيْفَ تَعْرِفُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي كيف تعرف يوم القيامة (مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ)"من" موصولة مفعول "تَعرِف"، و"بعدُ" مبنيّ على الضمّ كسابقه، أي من يولد بعد وفاتك، أو وُلد ولكن لم تره في الدنيا، قال السنديّ رحمه الله: كأنهم فَهِموا من تمنّي الرؤية، وتسميتهم باسم الأخوّة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا، فإن ما يُتمنَّى عادةً لا يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا لكانوا صحابةً، وفَهِموا من قوله:"وأنا فَرَطهم" أنه يَعرِفهم في الآخرة، فسألوه عن كيفيّة ذلك. انتهى
(2)
. (مِنْ أمّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤالهم هذا ("أَرَأَيْتَ) أي أخبرني، والخطاب مع كلّ من يصلح له من الحاضرين، أو السائلين، وقد تقدّم تحقيق البحث في هذه الكلمة (لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ)"الخيل" أُنثى، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خُيُول، وسُمّيت بذلك؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا؛ قاله الفيّومي
(3)
. (غُرٌّ) بضمّ الغين
(1)
"شرح الأبيّ" 2/ 28.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 94 - 95.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 186.
المعجمة، وتشديد الراء: جمع أَغَرّ، وهو الأبيض الوجه.
وقال في "اللسان": "الغُرّة" - بالضم - بياض في الجبهة، وفي "الصحاح": في جبهة الفرس، فَرَسٌ أغَرُّ، وغَرّاء، وقيل: الأغرّ من الخيل: الذي غُرّته أكبر من الدرهم، قد وَسَطت جبهته، ولم تُصِب واحدةً من العينين، ولم تَمِل على واحد من الخدين، ولم تَسِل سُفْلًا، وهي أفشى من الْقُرْحة، والقُرْحَة قدر الدرهم فما دونه، وقال بعضهم: بل يقال للأغَرّ: أغرُّ أقرح؛ لأنك إذا قلت: أغر، فلا بدّ من أن تصف الغُرّة بالطول والعرض، والصغر والعِظَم، والدِّقّة، وكلُّهُنّ غُرَرٌ، فالغُرّة جامعة لهنّ؛ لأنه يقال: أغرّ أقرح، وأغرّ مُشَمْرَخُ الغُرَّة، وأغرُّ شادخُ الغرّة، فالأغر ليس بضرب واحد، بل هو جنس جامع لأنواع، من قُرْحة، وشِمْراخ ونحوهما، وغُرّة الفرس: البياض الذي يكون في وجهه، فإن كانت مُدَوَّرةً فهي وَتِيرَةٌ، وإن كانت طويلةً فهي شادِخَةٌ، قال ابن سيده: وعندي أن الغرة نفسُ القدر الذي يَشْغَلُه البياض من الوجه، لا أنه البياض. انتهى ما في "اللسان" باختصار
(1)
.
(مُحَجَّلَةٌ) اسم مفعول من التحجيل، وهو الذي ابيضّت قوائمه، وجاوز البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف، أو نحو ذلك، ذلك موضع التحجيل فيه؛ قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال الجوهريّ رحمه الله: التحجيل: بياض في قوائم الفرس، أو في ثلاثٍ منها، أو في رجليه، قَلَّ أو كَثُرَ بعد أن يجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين؛ لأنها مواضع الأَحْجال، وهي الخلاخيل والقيود، يقال: فَرَسٌ مُحَجَّلٌ، وقد حُجِّلت قوائمه تحجيلًا، وإنها لذاتُ أَحْجال، فإن كان في الرجلين فهو مُحَجَّل الرجلين، وإن كان بإحدى رجليه، وجاوز الأرساغ فهو محجل الرجل اليمنى، أو اليسرى، فإن كان مُحَجّل يَدٍ ورجلٍ من شِقّ، فهو مُمْسَكُ الأيامن، مُطْلَق الأياسر، أو مُمْسَك الأياسر، مطلق الأيامن، وإن كان من خلاف قَلّ أو كثر، فهو مشكول، قال الأزهريّ: وأَخْذُ تحجيل الخيل من الْحِجْل، وهي حَلْقَةُ الْقَيد، جُعِل ذلك البياض في قوائمها بمنزلة القيود.
(1)
"لسان العرب" 5/ 14.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 122.
وقال أبو عبيدة: "الْمُحَجَّل": من الخيل أن تكون قوائمه الأربع بِيضًا، يبلغ البياض منها ثُلُث الوظيف، أو نصفه، أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الأرساغ، ولا يبلغ الركبتين والعُرْقوبين، فيقال: مُحَجَّل القوائم، فإذا بلغ البياض من التحجيل ركبة اليد، وعُرقوب الرجل، فهو فَرَسٌ مُجَبَّبٌ، فإن كان البياض برجليه دون اليد، فهو محجل إن جاوز الأرساغ، وإن كان البياض بيديه دون رجليه، فهو أعصم، فإن كان في ثلاث قوائم دون رجل، أو دون يد، فهو محجل الثلاث، مطلق اليد أو الرجل، ولا يكون التحجيل واقعًا بيد ولا يدين، إلا أن يكون معها أو معهما رجل أو رجلان. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ) تثنية "ظهر"، أي بينهم، يقال: فلانٌ نازلٌ بين ظهريهم، وبين أَظْهُرِهم، وبين ظَهْرانيهم، بزيادة الألف والنون للتأكيد، كلّها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله "ظهر" في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأنّ المعنى أن ظَهْرًا منهم قُدّامه، وظهرًا وراءه، فكأنه مكنوف من جانبيه، هذا أصله، ثم كثر استعماله في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف
(2)
.
(دُهْمٍ) بالجرّ صفة لـ"خيل"، وهو بضمّ، فسكون: جمع أدهم، وهو الأسود، وَالدُّهْمة: السواد؛ قاله النوويّ
(3)
.
وقال في "المصباح": "الدُّهْمَةُ": السواد، يقال: فرَسٌ أدهم، وبعيرٌ أدهم، وناقةٌ دَهْماءُ: إذا اشتدّت وُرْقَتُهُ حتى ذهب بياضه، وشاةٌ دَهْماءُ: خالصة الْحُمْرة. انتهى
(4)
.
وفي "اللسان" بعد ذكر نحو عبارة "المصباح": فإن زاد على ذلك حتى اشتدّ السواد، فهو جَوْنٌ، وقيل: الأدهم من الإبل: نحو الأصفر، إلا أنه أقلّ سوادًا. انتهى
(5)
.
(بُهْمٍ) بالجرّ أيضًا صفة لـ"خيلٍ" بعد صفة، وهو بضمّتين، أو بضمّ،
(1)
راجع "لسان العرب" 5/ 143 - 146.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 387.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 139.
(4)
"المصباح" 1/ 202.
(5)
"لسان العرب" 12/ 210.
فسكون، وهو الأشهر للازدواج، وهو جمع بَهِيم، وهو في الأصل الذي لا يُخالط لونه لونٌ سواه؛ قاله ابن الأثير
(1)
.
وقال النوويّ: "الْبُهم": قيل: السُّودُ، وقيل: البُهم الذي لا يُخالط لونه لونٌ سواه، سواء كان أسود، أو أبيض، أو أحمر، بل يكون لونه خالصًا، وهذا قول ابن السّكّيت، وأبي حاتم السجستانيّ، وغيرهما. انتهى
(2)
.
وقال في "اللسان": لونٌ بَهِيمٌ: لا يُخالطه غيره، وقيل: البهيم: الأسود، والبهيم من الخيل: الذي لا شِيَةَ فيه، الذكرُ والأُنثى في ذلك سواءٌ، والجمعُ: بُهُمٌ، مثل رَغِيف ورُغُف، ويقال: هذا فرسٌ جوادٌ وبهيمٌ، وهذه فرسٌ جوادٌ وبهيمٌ بغير هاء، وهو الذي لا يُخالط لونه شيءٌ سوى مُعظم لونه. انتهى
(3)
.
(أَلَا يَعْرِفُ) ذلك الرجل (خَيْلَهُ؟ ") الغُرّ المحجّلة، فالهمزة للتقرير، ولذا (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ) أي يعرف خيله، فإن "بلى" حرف إيجاب، لا تقع إلا بعد نفي، فترفع حكم النفي، وتوجب نقيضه، وهو الإثبات، فإذا قيل: ما قام زيدٌ، وقلتَ: بلى، فمعناه إثبات القيام له، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلت: بلى، فمعناه التقرير والإثبات، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، فلا تكن من الغافلين.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ) تقدّم البحث فيهما مستوفًى قريبًا (مِنَ الْوُضُوءِ) أي من أثر الوضوء، وهو بضمّ الواو، وفتحها، كما تقدّم بيانه قريبًا.
(وَأَنَا فَرَطُهُمْ) - بفتحتين - أي أنا فَرَطُ أولئك الإخوان، أي متقدّمهم، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الْفَرَطُ" - بفتحتين -: المتقدّم في طلب الماء، يُهيّئ الدِّلاء والأَرْشَاءَ، يقال: فَرَطَ القومَ فُرُوطًا، من باب قَعَدَ: إذا تقدّم لذلك، يستوي فيه الواحد والجمع، يقال: رجلٌ فَرَطٌ، وقومٌ فَرَطٌ، ومنه يقال للطفل الميتِ:"اللهم اجعله فَرَطًا": أي أجرًا متقدّمًا. انتهى
(4)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "الْفَارطُ"، و"الْفَرَط" بالتحريك: المتقدّم إلى
(1)
"النهاية" 1/ 167.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 139.
(3)
"لسان العرب" 12/ 59.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 469.
الماء، يتقدّم الواردة، فيُهَيِّيءُ لهم الأَرْسَانَ، والدِّلاء، ويملأُ الْحِيَاض، ويَستقي لهم، وهو فَعَلٌ بمعنى فاعلٍ، مثلُ تَبَعٍ بمعنى تابع، ورجلٌ فَرَطٌ، وقومٌ فَرَطٌ، ورجلٌ فارطٌ، وقومٌ فُرّاط. انتهى باختصار
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: قوله: "وأنا فرطكم على الحوض" فالفَرَط والمتفارط: هو الماشي المتقدم أمامَ القوم إلى الماء، هذا قول أبي عبيدة وغيره، وقال ابن وهب:"أنا فَرَطكم" يقول: أنا أمامكم، وأنتم ورائي، تتبعوني، واستشهد أبو عبيدة وغيره على قوله: الفارط المتقدم إلى الماء بقول الشاعر [من الكامل]:
فَأَثَارَ فَارِطُهُم غَطَاطًا جُثَّمًا
…
أَصْوَاتُهُ كَتَرَاطُنِ الْفُرْسِ
وقال القطاميّ [من البسيط]:
فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا
…
كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
وقال لبيد [من الرمل]:
فَوَرَدْنَا قَبْلَ فُرَّاطِ الْقَطَا
…
إِنَّ مِنْ وِرْدِيَ تَغْلِيسُ النَّهَلْ
الفارط: السائر إلى الماء، أي أغلس، ومَشَى بليل، والنَّهَل: الشربة الأولى.
وقال آخر [من الرجز]:
وَمَنْهَلٍ وَرَدتُهُ الْتِقَاطَا
…
لمَ أَلْقَ إِذْ وَرَدتُهُ فُرَّاطَا
إِلَّا الْقَطَا أَوَابِدًا غِطَاطَا
(2)
وقال ابن هرمة [من الكامل]:
ذَهَبَ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ فَرَطًا
…
وَبَقِيتُ كَالْمَغْمُورِ فِي خَلَفِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم: "لولا أنه وَعْدٌ صادق، وأن الماضي فَرَطٌ للباقي"، وقال له أيضًا:"الْحَقْ بِفَرَطنا عثمان بن مظعون".
[تنبيه]: رَوَى حديث: "أنا فرطكم على الحوض" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، منهم ابن مسعود، وجابر بن سمرة، والصُّنابح بن الأعسر،
(1)
"لسان العرب" 7/ 366.
(2)
"الأوابد": الطير التي لا تبرح من بلدانها، و"الغِطاط": طير يُشبه القَطَا.
وجندب، وسهل بن سعد، وغيرهم؛ قاله ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (عَلَى الْحَوْضِ) أي إليه، فـ"على" بمعنى "إلى"، ويَحْتَمل أن يُقدَّر هنا فعل يدلّ عليه سياق الكلام، تقديره: فيجدوني على الحوض؛ قاله القرطبيّ
(2)
.
(أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (لَيُذَادَنَّ) اللام هي اللام الموطّئة للقسم، والفعل مبنيّ للمفعول، مؤكّد بالنون المشدّدة، أي لَيُمنعنّ، ولَيُطْرَدَنّ (رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي) أي عن وروده.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الا لَيُذادنّ" كذا روايته هنا من غير خلاف، واختُلف فيه في "الموطّأ": فرُوي "فَلَيُذادنّ" بلام القسم، ورُوي:"فلا يُذادنّ" بـ "لا" النافية، وكلاهما صحيح، فاللام على قَسَمٍ محذوف، تقديره: فوالله لَيُذادنّ، وبـ "لا" يكون من باب لا أرينّك ها هنا، أي لا يتعاطى أسباب الذَّوْد عن حَوْضي، ومعنى "لَيُذادنّ" لَيُدْفعنّ، والذَّودُ: الدفع. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى: "فلا يذادنّ رجلٌ"، على النهي، أي لا يفعل أحد فعلًا يُطْرَد به عن حوضي
(4)
، قال: والأول أشبه. انتهى
(5)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "فليُذادنّ": أي فليُبعدنّ، ولَيُطردنّ، قال زهير [من الطويل]:
وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضهِ بِسِلَاحِهِ
…
يُهَدَّمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ
وقال الراجز:
يَا أَخَوَيَّ نَهْنِهَا
(6)
وذُودَا
…
إِنِّي أَرَى حَوْضَكُمَا مَوْرُودَا
(كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ) أي الغريب، فهو كقوله في الحديث الماضي:"إني لأذود عنه الرجال، كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وجه التشبيه أن أصحاب الإبل إذا وردوا المياه
(1)
"التمهيد" 20/ 256.
(2)
"المفهم" 1/ 504.
(3)
"المفهم" 1/ 504.
(4)
راجع "التمهيد" 20/ 257.
(5)
راجع "النهاية" 2/ 172.
(6)
يقال: نهنهه عن الشيء: كفه، وزجره.
بإبلهم ازدحمت الإبل عند الورود، فيكون فيها الضالّ والغريب، وكلُّ واحد من أصحاب الإبل يدفعه عن إبله حتى تشرب إبله، فيكثر ضاربوه، ودافعوه، حتى لقد صار هذا مثلًا شائعًا. انتهى
(1)
.
(أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) معناه: تَعَالَوْا، قال أهل اللغة: في "هَلُمَّ" لغتان: أفصحهما: هَلُمّ للرجل والرجلين والمرأة والجماعة من الصنفين، بصيغة واحدة، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله تعالى:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} ، {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، واللغة الثانية: هَلُمَّ يا رجل، وهلمّا يا رجلان، وهَلُمُّوا يا رجال، وللمرأة هلمّي، وللمرأتان هَلُمّتا، وللنسوة هَلْمُمْنَ، قال ابن السِّكِّيت وغيره: الأولى أفصح كما قدمناه، ذكره النوويّ
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "هَلُمّ" كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تَعَالَ، قال الخليل: أصله لُمَّ من الضمِّ والجمع، ومنه: لَمَّ اللهُ شَعَثَهُ، وكأن المنادي أراد: لُمَّ نفسَكَ إلينا، و"ها" للتنبيه، وحُذِفت الألف؛ تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعِلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ: أي قُصِدَ، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعِلا كلمةً واحدةً للدعاء، وأهل الحجاز يُنادون بها بلفظ واحد للمذكّر والمؤنّث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، وفي لغة نجد تَلحَقها الضمائر، وتُطابِقُ، فيقال: هَلُمي، وهَلُمّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يَجعلونها فعلًا، فيُلحقونها الضمائر، كما يُلحقونها قُمْ، وقُومَا، وقوموا، وقُمْنَ، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجمع من لغة عُقيل، وعليه قَيْسٌ، وإلحاق الضمائر من لغة تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} ؛ أي أَقْبِلْ، ومُتعَدِّيةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} : أي أحضِرُوهم. انتهى
(3)
.
(فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا) أي غيّروا دينهم (بَعْدَكَ) أي بعد مفارقتك لهم بالموت، وفي رواية:"وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ "، وفي رواية البخاريّ:"لا تدري ما أحدثوا بعدك"، وفي رواية له: "إنك لا عِلْمَ لك بما أحدثوا
(1)
"المفهم" 1/ 506.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 139.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.
بعدك، إنهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى". (فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا") أي بعدًا بعدًا، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الروايات "سُحْقًا سُحْقًا"، مرتين، ومعناه: بُعْدًا بُعْدًا، وكرّره للتأكيد، والمكان السَّحِيق: البعيد، وفي "سُحْقًا" لغتان، قُرِئ بهما في السبع: إسكان الحاء، وضمها، قرأ الكسائيّ بالضمّ، والباقون بالإسكان، ونُصِب على تقدير: أَلْزَمَهُم الله سُحْقًا، أو سَحَقَهُم سُحْقًا. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: معنى "سُحْقًا": بُعْدًا، والسُّحْقُ والْبُعْد، والإسحاق، والإبعاد سواء، بمعنى واحد، وكذلك النَّأْيُ، والبُعْدُ لفظتان بمعنى واحد، إلا أن سُحقًا وبُعْدًا هكذا إنما تجيء بمعنى الدعاء على الإنسان، كما يقال: أبعده الله، وقاتله الله، وسَحَقه الله، ومَحَقَه، وأسحقه أيضًا، ومن هذا قول الله عز وجل:{فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} يعني: بعيد، وكلُّ مَن أحدث في الدين ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، والله أعلم. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[12/ 590 و 591](249)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(150)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4306)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 300 و 408)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(6)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1046)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(360 و 361)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(582 و 583)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 82 - 83)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(151)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل إطالة الغرّة والتحجيل في الوضوء.
2 -
(ومنها): إثبات حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في وقت
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 139 - 140.
(2)
راجع "التمهيد" 20/ 262.
وروده ومكانه، فقال بعضهم: الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط، والمرور عليه، واحتجّوا بما أخرجه أحمد، والترمذيّ عن أنس رضي الله عنه، قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أوّلّ ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض"
(1)
.
وقد استُشكِلَ كون الحوض بعد الصراط بما جاء في أحاديث الباب من أن جماعةً يُدفعون عن الحوض بعد أن يكادوا يَرِدونه، ويُذهب بهم إلى النار، ووجه الاستشكال أن الذي يمرّ على الصراط إلى أن يَصِل إلى الحوض يكون قد نجا من النار، فكيف يُردّ إليها؟.
ويمكن أن يُجاب بأنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه، ويرون النار، ويراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُناديهم، فيُدفَعُون إلى النار.
وسيأتي تحقيق المسألة، واستيفاء مباحثها بذكر أدلّتها في موضعها المناسب لها إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: اشتهر اختصاص نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذيّ من حديث سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبيّ حوضًا، وإنهم يَتَباهون أيُّهم أكثر واردةً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً"
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: فإن ثبت أن لكلّ نبيّ حوضًا فالمختصّ بنبيّنا صلى الله عليه وسلم الكوثر، أي النهر الذي يصبّ من مائه في حوضه، فإنه لم يُنقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة الكوثر، والله تعالى أعلم
(3)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" تبعًا للقاضي عياض: مما يجب على كلّ مكلّف أن يَعلمه، ويُصدّق به أن الله عز وجل قد خصّ نبيّه
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(12360)، والترمذيّ في "جامعه"(2357).
(2)
أخرجه الترمذيّ 4/ 628، وصححه الشيخ الألبانيّ، ووري من مرسل الحسن البصريّ، وقال الترمذيّ: المرسل أصحّ.
(3)
قد صحّ ذلك، كما مرّ آنفًا.
محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرّح باسمه، وصفته، وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعيّ؛ إذ رَوَى ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم نيّف وثلاثون، منهم في "الصحيحين" ما يَنيف على العشرين، وفي غيرهما بقيّة ذلك مما صحّ نقله، واشتهر رواته، ثم رواته عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهَلُمّ جرًّا، وأجمع على إثباته السلف، وأهل السنّة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة
(1)
، وأحالوه على ظاهره، وغَلَوا في تأويله من غير استحالة عقليّة، ولا عاديّة تَلْزِم من حمله على ظاهره، وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخَرَقَ من حرّفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف. انتهى.
4 -
(ومنها): استحباب الخروج إلى المقابر، وزيارة القبور، وهذا أمر مجمع عليه للرجال، ومختلف فيه للنساء، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجْرًا، فإنها تُذَكِّر الآخرة"، أخرجه النسائيّ بإسناد صحيح، والصحيح أنه جائز للنساء أيضًا على الوجه المشروع، وهو السلام على المقبور، والدعاء له، وتذكّر الآخرة، ولا يطلب منه قضاء حاجته، ولا يناديه لذلك، ولا يستغيث به، وهذا من الْهُجْر أي الْفُحش الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور، وسأستوفي البحث في هذا بذكر الأدلة الشاملة للرجال والنساء في موضعه من "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في تسليمه صلى الله عليه وسلم على أهل القبور بيان مشروعيّة ذلك، وفيه معنى الدعاء لهم، ويدلّ أيضًا على حُسن التعاهد، وكرَم العهد، وعلى دوام الحرمة، ويحتمل أن يردّ الله تعالى أرواحهم، فيسمعون، ويردّون، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله حديثًا صحيحًا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما من مسلم يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، فيُسلّم عليه، إلا ردّ عليه السلام من قبره". انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أن فيه بِشارةً عظيمةً لهذه الأمة - زادها الله تعالى شَرَفًا -
(1)
هم المعتزلة وبعض الخوارج.
(2)
"المفهم" 1/ 500.
حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم فَرَطها على الحوض، فهنيئًا لَمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَطَه، فما أكبر الفوز العظيم.
7 -
(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله: قد احتج به مَن ذَهَب إلى أن أرواح الموتى على أفنية القبور، والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم بسلامه عليهم، وقد نادى أهلَ القليب ببدر، وقال:"ما أنتم بأسمع منهم، إلا أنهم لا يستطيعون أن يُجيبوا"، قيل: إن هذا خصوص، وقيل: إنهم لم يكونوا مقبورين؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وما أدري ما هذا؟ وقد رَوَى قتادة، عن أنس رضي الله عنه في الميت حين يُقْبَر أنه يسمع خَفْقَ نِعَالهم إذا وَلَّوا عنه مدبرين، وهذه أمور لا يُستطاع على تكييفها، وإنما فيها الاتباع والتسليم.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق هذه المسألة بأدلّتها في موضعها من "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى.
8 -
(ومنها): أن فيه جواز تمنِّي الخير، ولقاءِ الفضلاء، وأهلِ الصلاح.
9 -
(ومنها): ما قاله الزرقانيّ رحمه الله: دلّ بإثبات الأخوّة لهؤلاء على علوّ مرتبتهم، وأنهم حازوا فضيلة الآخريّة، كما حاز صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فضيلة الأوليّة، وهم الغرباء المشار إليهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء"، وهم الخلفاء الذين أفادهم بقوله:"رَحِمَ الله خلفائي"
(1)
، وهم القابضون على دينهم عند الفتن المشار إليهم بقوله:"القابض على دينه كالقابض على الجمر"
(2)
، وهم المؤمنون بالغيب إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفَطِن استخراجه من الأحاديث.
10 -
(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله: هذا الحديث فيه دلالة
(1)
أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" بلفظ: "اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي الذين يروون أحاديثي، وسنتي، ويعلمونها الناس"، وهو حديث موضوع، انظر "الضعيفة" للشيخ الألبانيّ 2/ 247.
(2)
أخرجه الترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"، وصحّحه الشيخ الألبانيّ بشواهد، راجع "الصحيحة" 2/ 645.
على أن كلَّ مَن أحدث في الدين ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض الْمُبْعَدِين عنه، وأشدُّهم طردًا مَن خالف جماعةَ المسلمين، وفارق سبيلهم، مثل الخوارج على اختلاف فِرَقِها، والروافض على تبايُن ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم يبدِّلون، وكذلك الظّلَمَةُ المسرِفُون في الجور والظلم، وتطميس الحقّ، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستَخِفُّون بالمعاصي، وجميعُ أهل الزيغ والأهواء والبِدَع، كلُّ هؤلاء يُخَاف عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبر، ولا يُخَلَّد في النار إلا كافرٌ جاحدٌ، ليس في قلبه مثقالُ حبة خردل من إيمان، وقد قال ابن القاسم رحمه الله: قد يكون من غير أهل الأهواء مَن هو شَرٌّ من أهل الأهواء، وكان يقال: تمامُ الإخلاص تَجَنُّب المعاصي. انتهى
(1)
.
11 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر رحمه الله أيضًا: وأما قوله: "فإنهم يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِين من الوضوء"، ففيه دليلٌ على أن الأمم أتباعَ الأنبياء، لا يتوضؤون مثل وضوئنا على الوجه، فاليدين، فالرجلين؛ لأن الغرة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين، هذا ما لا مَدْفَع فيه على هذا الحديث، إلا أن يَتَأَوَّل مُتَأَوِّلٌ هذا الحديث أن وضوء سائر الأمم لا يُكْسِبها غُرَّةً، ولا تحجيلًا، وأن هذه الأمة بُورك لها في وضوئها بما أُعطيت من ذلك شرفًا دائمًا، ولنبيها صلى الله عليه وسلم، كسائر فضائلها على سائر الأمم، كما فُضِّل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء، والله أعلم.
وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضؤون، فيَكسِبون بذلك الغُرَّة والتحجيل، ولا يتوضأ أتباعهم ذلك الوضوء، كما خُصَّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم بأشياء دون أمته، منها نكاح ما فوق الأربع، والموهوبة بغير صداق، والوصالُ، وغيرُ ذلك، فيكون ذلك من فضائل هذه الأمة، أن تُشبِه كلُّها الأنبياءَ. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي أن يقال: إن الوضوء ليس خاصًّا بهذه الأمة، وإنما خُصّت هي بالغرّة والتحجيل، كما هو صريح قوله صلى الله عليه وسلم:"لكم سيما ليست لأحد من الأمم"، فإنه صريح في اختصاصها بهذه السيما، مع أنه
(1)
"التمهيد" 20/ 262 - 263.
أثبت الوضوء في الأمم السابقة، كما في قصّة سارة، وجُريج الراهب، كما تقدّم بيان ذلك.
11 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري ما أحدثته أمته بعد موته.
[فإن قيل]: إن هذا يعارضه ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم، تُحْدِثون، ويُحْدَث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعْرَض عليّ أعمالكم، فإن رأيت خيرًا حَمِدت الله، وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم"
(1)
.
[أجيب]: بأن هذا الحديث مرسلٌ، فلا يعارض ما في "الصحيحين"، وعلى تقدير صحّته، كما هو رأي بعضهم، يمكن أن يُجمع بأن الأعمال تُعرض عليه عرضًا مجملًا، دون تعيين فاعلي الخير والشر، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم يذود غير المسلمين، ويُبعدهم عن حوضه.
[فإن قيل]: كيف يطرد الناس عنه، وهو صلى الله عليه وسلم أكرم الناس؟.
[أجيب]: بأن هذا الذود ليس بخلًا، وإنما القصد منه إرشاد كلّ أحد إلى حوض نبيّه، كما سبق أن لكلّ نبيّ حوضًا، وأنهم يتباهون بكثرة من يرده من أتباعهم، فيكون ذلك الذود منه صلى الله عليه وسلم من إنصافه، ورعاية جانب إخوانه النبيين عليهم السلام.
ويَحْتمل أن يطرُد من لا يستحقّ الشرب من الحوض، والعلم عند الله تعالى
(2)
.
13 -
(ومنها): أن فيه بيان ما أطلع الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأعلمه من الأمور الغيبيّات المستقبلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال القاضي عياض رحمه الله: ذهب أبو عُمَر بن عبد البر رحمه الله في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة مَن هو أفضل ممن كان من
(1)
أخرجه (ابن سعد) عن بكر بن عبد الله مرسلًا، وضعّفه الشيخ الألباني رحمه الله، انظر حديث رقم: 2746 في "ضعيف الجامع".
(2)
راجع "فتح المنعم" 2/ 154.
جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم:"خيركم قرني" على الخصوص، وإن كان مخرجه العموم، أو معناه: خير الناس في قرني، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث، وأما مَن خَلّط في زمنه صلى الله عليه وسلم، وإن رآه، وصَحِبه، ولم يكن له سابقة، ولا أثرٌ في الدين، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول مَن يَفْضلُهم، على ما دلت عليه الآثار.
قال القاضي: وقد ذهب إلى هذا أيضًا غيره من المتكلمين على المعاني، قال: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن مَن صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه مرّةً من عمره، وحَصَلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعدُ، فإن فضيلة الصحبة لا يَعْدِلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصِيفه" متّفقٌ عليه، قال: وحجة الآخر عن هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك لبعضهم عن بعض، فدلّ أن ذلك للخصوص، لا للعموم. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكره أن ابن عبد البرّ رحمه الله قال: إنه يكون فيمن بعد الصحابة من يكون أفضل ممن كان في جملة الصحابة: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه ولو مرّةً من عمره أفضل من كلّ من يأتي بعدُ، وأن فضيلة الصحبة لا يَعْدلها عملٌ، وهذا هو الحقّ الذي لا ينبغي أن يُصار إلى خلافه؛ لأمور:
[أولها]: مزيّة الصحبة، ومشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[وثانيها]: فضيلة السبق للإسلام.
[وثالثها]: خُصوصيّة الذبّ عن حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ورابعها]: فضيلة الهجرة والنُّصرة.
[وخامسها]: ضبطهم للشريعة، وحفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[وسادسها]: تبليغها لمن بعدهم.
[وسابعها]: السبق في النفقة في أول الإسلام.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 48 - 49.
[وثامنها]: أن كلّ خير وفضل وعلم وجهاد ومعروف في الشريعة إلى يوم القيامة، فحظّهم منه أكمل حظّ، وثوابهم فيه أجزل ثواب؛ لأنهم سَنُّوا سُنَن الخير، وافتتحوا أبوابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من سنّ في الإسلام سنّة حسنةً كان له أجرها، وأجر مَن عَمِل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم، ولا شكّ في أنهم الذين سَنُّوا جميع السنن، وسابقوا إلى المكارم، ولو عُدّدت مكارمهم، وفُسّرت خواصّهم، وحُصِرت لملأت أسفارًا، ولكلّت الأعين بمطالعتها حَيَارى.
وعلى هذه الجملة قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا: "إن الله اختار أصحابي على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعةً - يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا - فجعلهم أصحابي" وقال: "في أصحابي كلّهم خير"
(1)
.
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه"، متّفق عليه.
وكفى من ذلك كلّه ثناء الله تعالى عليهم جملةً، وتفصيلًا، وتعيينًا وإبهامًا، ولم يحصل شيء من ذلك لمن بعدهم.
فأما استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم: "إخواننا"، فلا حجة فيه؛ لأن الصحابة قد حصل لهم من هذه الأخوّة الحظّ الأوفر؛ لأن لهم الأخوّة اليقينيّة العامّة، وانفردت الصحابة بخصوصيّة الصحبة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "للعامل منهم أجر خمسين منكم"، فلا حجة فيه؛ لأن ذلك إن صحّ إنما هو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم في آخره:"لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون"، ولا بُعْد في أن يكون في بعض الأعمال لغيرهم من الأجور أكثر مما لهم فيه، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد القرطبيّ رحمه الله في هذا البحث، وأفاد،
(1)
رواه البزّار كما في "كشف الأستار"(2763) وقال الهيثميّ: ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف. انتهى. "مجمع الزوائد"(10/ 16).
(2)
"المفهم" 1/ 501 - 503.
وخلاصته ترجيح مذهب الجمهور أن مَن بعد الصحابة رضي الله عنهم لا يساويهم في الفضل، وإن عَمِل ما عَمِل؛ لأن رتبة الصحبة، لا يعادلها شيء من الفضائل، على اختلاف أنواعها، وأشكالها.
والحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم كلّهم، السابقون واللاحقون أفضل من جميع من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، وإن بلغ في العبادة ما يبلغ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم قد بدّلوا بعدك":
قال القرطبيّ رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فالذي صار إليه الباجيّ وغيره - وهو الأشبه بمساق الأحاديث - أن هؤلاء الذين يقال لهم هذا القول ناسٌ نافقوا، وارتدّوا من الصحابة وغيرهم، فيُحشرون في أمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم:"وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها"، وعليهم سيماء هذه الأمة، من الغرّة والتحجيل، فإذا رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفهم بالسيماء، ومن كان من أصحابه بأعيانهم، فيناديهم:"ألا هلُمّ"، فإذا انطلقوا نحوه حِيلَ بينهم وبينه، وأُخذ بهم ذات الشمال، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا ربّ أمتي أمتي"، وفي لفظ آخر:"أصحابي"، فيقال له إذ ذاك:"إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وإنهم لم يزالوا مرتدّين منذ فارقتهم"، فعند ذاك تذهب عنهم الغرّة والتحجيل، ويُطفأ نورهم، فيبقَون في الظلمات، فيُقتطع بهم عن الورود، وعن جواز الصراط، فحينئذ يقولون للمؤمنين:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فيقال لهم:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] مكرًا وتنكيلًا؛ ليتحقّقوا مقدار ما فاتهم، فيَعْظُم أَسَفهم وحَسْرتهم - أعاذنا الله من أحوال المنافقين، وألحقنا بالصالحين.
وقال الداوديّ وغيره: يحتمل أن يكون هذا في أهل الكبائر، والبدع الذين لم يَخرُجوا عن الإيمان ببدعتهم، وبعد ذلك يتلافاهم الله برحمته، ويشفع لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض رحمه الله: والأول أظهر. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 1/ 504 - 505.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الباجيّ ومن معه هو الأرجح، وحاصله أن المراد بهم الذين كانوا يتظاهرون في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده بالإسلام، وهم منافقون، يُجْعَل لهم سيما كسيما المؤمنين المخلصين، فيعرفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ظهر من السيما، فيناديهم، فيقال له:"إنهم قد بدلوا بعدك"، فيقول:"سُحقًا سُحقًا"، وما ذكره بعض الشراح من أن هذا بعيد، وفيه تكلّف
(1)
، ليس كما قال، بل هو واضح، لا بُعْد فيه، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[591]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، جَمِيعًا عَنِ العَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَة، فَقَالَ:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ
(2)
إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ:"فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد الدّرَاوَرْديّ المدنيّ، صدوقٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ)، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
3 -
(مَعْن) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [10](ت 198)(خ م) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
4 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة المذكور في الباب الماضي.
(1)
انظر ما قاله صاحب "فتح المنعم" 2/ 154.
(2)
وفي نسخة: "مثل حديث".
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ) وفي نسخة: "مثل حديث: إلخ"، يعني أن رواية مالك عن العلاء، مثلُ رواية إسماعيل بن جعفر، عنه.
[تنبيه]: رواية مالك هذه التي أحالها المصنّف على رواية إسماعيل بن جعفر، ساقها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"، (1/ 122)، فقال:
(360)
وحدثنا محمد بن يحيى النيسابوريّ، قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدثنيه مُطَرِّف بن عبد الله، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدِدتُ أني قد رأيت إخواننا"، قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال:"بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ" قالوا: كيف تَعْرِف مَن لم تَرَ من أمتك؟ قال: "أرأيت لو كانت لرجل خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ، في خيل دُهْم بُهْم، ألا يَعْرف خيله؟ " قالوا: بلى، قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة، غُرًّا مُحَجَّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض، فَلَيُذادَنَّ الرجل
(1)
عن حوضي، كما يذاد البعير الضالّ، أناديهم ألا هَلُمّ، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بَدّلوا، فأقول: فسُحقًا فسُحْقًا فسُحْقًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(13) - (بَابٌ "تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ")
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[592]
(250) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا خَلَفٌ - يَعْني ابْنَ خَلِيفَةَ -
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب "الرجال" بصيغة الجمع؛ لقوله بعده:"أناديهم"، وكذلك قول مسلم:"غير أن حديث مالك: فليُذادنّ رجال" يدلّ على هذا، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاة، فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى تَبْلُغَ إِبْطَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ: يَا بَنِي فَرُّوخَ، أَنْتُمْ هَا هُنَا، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَا هُنَا، مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِن، حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ) بن صاعد الأشجعيّ مولاهم، أبو أحمد، كان بالكوفة، ثم انتقل إلى واسط فسكنها مدةً، ثم تحوَّل إلى بغداد، فأقام بها إلى حين وفاته [8].
رَأَى عَمْرو بن حُرَيث صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبيه، وحفص ابن أخي أنس بن مالك، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي مالك الأشجعيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه سُريج بن النعمان، وسعيد بن منصور، وداود بن رُشيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقتيبة، وعليّ بن حُجْر، والحسن بن عوف، وهو آخر مَن رَوَى عنه، وقد حدَّث عنه هشيم، ووكيع من القدماء.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال رجل لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد عندنا رجل يقال له: خلف بن خليفة يزعم أنه رأى عمرو بن حريث، فقال: كَذَب لعله رأى جعفر بن عمرو بن حريث، وقال أبو الحسن الميمونيّ: سمعت أبا عبد الله، يُسأل: هل رأى خلف بن خليفة عمرو بن حريث؟ قال: لا، ولكنه عندي شُبِّه عليه، هذا ابن عيينة، وشعبة، والحجاج، لم يروا عمرو بن حريث، ويراه خلف؟ وقال أحمد أيضًا: قد رأيت خلف بن خليفة، وهو مفلوجٌ سنة سبع وثمانين ومائة، وقد حُمِل، وكان لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا فسماعه صحيح، وقال الأثرم، عن أحمد: أتيته، فلم أفهم عنه، قلت له: في أيّ سنة مات؟ قال: أظنه في سنة ثمانين، أو آخر سنة (79)، وقال زكريا بن يحيى بن حمويه، عن خلف بن خليفة: فَرَض لي عمر بن
عبد العزيز، وأنا ابن ثمان سنين، وقال ابن معين، والنسائيّ: ليس به بأس، وكذا قال ابن عمار، وزاد: ولم يكن صاحب حديث، وقال ابن معين أيضًا، وأبو حاتم: صدوق، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، ولا أُبَرِّئه من أن يُخطئ في بعض الأحايين في بعض رواياته، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: صدوقٌ ثقةٌ، لكنه خَرِفَ، فاضطرب عليه حديثه، وقال ابن سعد: أصابه الفالج قبل موته، حتى ضَعُف، وتَغَيَّر، واختلط، وحَكَى القرّاب اختلاطه عن إبراهيم بن أبي العباس، وكذا حكاه مَسْلَمة الأندلسيّ، ووَثَّقه، وقال: من سمع منه قبل التغير فروايته صحيحة.
وقال أسلم بن سهل في "تاريخ واسط" عن عبد الحميد: توفي سنة (80)، وذكر الحاكم في "المدخل" أن مسلمًا إنما أخرج له في الشواهد.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل هذا الكلام في "التهذيب" عن الحاكم، ولم يتعقّبه، وعندي فيه نظرٌ؛ لأن حديث الباب يردّه؛ لأنه ما أخرج له في الشواهد، وإنما أخرج له في الأصول، فتأمله بإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال ابن سعد: كان ثقةً، مات ببغداد سنة (181)، وهو ابن تسعين سنة، أو نحوها، وقال البخاريّ: يقال: مات سنة (181) وهو ابن مائة سنة وسنة، وكذا جزم به ابن حبان.
قال الحافظ: وفي هذا المقدار في سِنِّه نظر، فقد تقدم أنه قال: فَرَض لي عمر بن عبد العزيز، وأنا ابن ثمان سنين، فيكون مولده على هذا سنة (91) أو اثنتين؛ لأن ولاية عمر كانت سنة (99)، وقد ذكروا أنه تُوُفِّي سنة (81) فيكون عمره تسعين سنة، أو تسعين وأشهرًا، وعلى هذا فيبعد إدراكه لعمرو بن حريث بُعْدًا بَيِّنًا. انتهى.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (250 و (475) و (2038)(و 2844).
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ" هو: سعد بن طارق، و"أَبُو حَازِمٍ": هو سلمان الأشجعيّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والسماع.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى خلف، فأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو مالك أخرج له في التعاليق.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو مالك، عن أبي حازم.
4 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أي وراءه (وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من "أبي هريرة"(فَكَانَ) أي أبو هريرة (يَمُدُّ يَدَهُ) أي يُطيل غسله بيده (حَتَّى تَبْلُغَ إِبْطَهُ)"حتى" غاية للمدّ، والفعل مبنيّ للفاعل، يعني أنه يبالغ في إطالة الغسل إلى أن تبلغ يده إلى إبطه.
و"الإبط" بكسر، فسكون: ما تحت الْجَنَاح، ويُذكّر ويؤنَّثُ، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، ومن كلامهم: رفع السوط حتى بَرَقَت إبطه، والجمع آباط، مثلُ حِمْل وأحمال، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويزعُمُ بعض المتأخّرين أن كسر الباء لغةٌ، وهو غير ثابت؛ لأن سيبويه قال: لم يجئ على فِعِلٍ بكسر الفاء والعين من الأسماء إلا حرفان: إِبِلٌ، وحِبِرٌ، وهو الْقَلَح
(1)
، ومن الصفات إلا حرفٌ واحدٌ، وهي امرأةٌ بِلِزٌ، وهي الضخمة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أنكر الفيّوميّ كسر الباء، لكن في "القاموس" ما يُفيد أنه لغة، والله تعالى أعلم.
قال أبو حازم: (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءُ؟)"ما" استفهاميّة، مبتدأ، أو خبر مقدّم، و"هذا" خبره، أو مبتدأ مؤخّر، و"الوضوء"
(1)
"الْقَلَح" - بفتحتين -: صُفْرةٌ تُصيب الأسنان.
(2)
راجع "المصباح المنير" 1/ 2.
نعتٌ لاسم الإشارة، أو بدلٌ منه، أو عطف بيان، كما قال بعضهم:
مُعَرَّفٌ بَعْدَ إِشَارَةٍ بِـ "أَل"
…
يُعْرَبُ نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلْ
يقول: أيُّ شيء هذا الوضوء الذي يُخالف صفة الوضوء التي كنت تتوضّؤها قبل هذا؟ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان لا يتوضّأ هذا الوضوء إذا كان بين الناس، كما يدلّ عليه قوله:(فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (يَا بَنِي فَرُّوخَ) بفتح الفاء، وتشديد الراء، قال النوويّ رحمه الله: قال صاحب "كتاب العين": "فرُّوخ" بلغنا أنه كان من ولد إبراهيم عليه السلام، من ولد كان بعد إسماعيل، وإسحاق، كثُرَ نسله، ونما عدده، فولد العجم الذين هم في وسط البلاد.
قال القاضي عياض رحمه الله: أراد أبو هريرة رضي الله عنه هنا الموالي، وكان خطابه لأبي حازم. انتهى
(1)
.
وفي "القاموس"، و"شرحه":"وفَرُّوخ" كتَنُّور أخو إسماعيل، وإسحاق، أبو العجم الذين هم في وسط البلاد، وهو فارسيّ، ومعناه: السعيد طالعه، وقد تسقط واوه في الاستعمال، وهو غير منصرف؛ للعجمة والعلميّة. انتهى بتغيير يسير
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قصد أبو هريرة رضي الله عنه بقوله: "أنتم ها هنا" الموالي، وكان خطابه لأبي حازم سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، مولى عَزّة الأشجعيّة، وليس بأبي حازم سلمة بن دينار الفقيه الزاهد المدنيّ، مولى بني مخزوم، وكلاهما خرّج عنه في "الصحيح"
(3)
.
(أَنْتُمْ هَا هُنَا؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أأنتم ها هنا؟، أي حاضرون في هذا الموضع (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَا هُنَا، مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ) أي لئلا يعتقدوا أنه من واجبات الوضوء، قال القاضي عياض رحمه الله: أراد أبو هريرة رضي الله عنه بكلامه هذا أنه ينبغي لمن يُقتدَى به إذا ترخّص في أمر لضرورة، أو تَشَدَّد لوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهبًا شذّ به عن الناس أن لا يفعله بحضرة
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 140.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 272.
(3)
"المفهم" 1/ 507.
العامّة الْجَهَلَة؛ لئلا يترخّصوا برخصته؛ لغير ضرورة، أو يعتقدوا أن ما تشدّد فيه هو الفرض اللازم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول القاضي: "لوسوسة" فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه ليس التشدّد للوسوسة مشروعًا، بل الذي ينبغي للإنسان إذا ابتُلي بالوسواس أن لا يلتفت إليه، بل يبتعد، ويعرض عنه، ويستعيذ بالله عز وجل منه، فإنه من الشيطان، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنكارهم على أبي هريرة رضي الله عنه، واعتذاره عن إظهار ذلك الفعل يدلّ على انفراده بذلك الفعل. انتهى
(2)
.
وفي رواية ابن أبي شيبة في "مصنّفه"(1/ 55) عن عليّ بن مُسهر، عن يحيى بن أيوب البجليّ، عن أبي زُرعة، قال: دخلت على أبي هريرة، فتوضّأ إلى منكبيه، وإلى ركبتيه، فقلت له: ألا تكتفي بما فرض الله عليك من هذا؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مبلغ الحلية مبلغ الوضوء"، فأحببتُ أن يزيدني في حِليتي.
وهذا إسناد قويّ، رجاله رجال الشيخين عدا يحيى بن أيوب، وهو ثقةٌ، وقد خالفه عُمارة بن القعقاع، فوقفه على أبي هريرة.
ورواه أحمد في "مسنده"(2/ 232)، والبخاريّ في "صحيحه"(5953) من طريقين عن عُمارة، عن أبي زرعة، قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة
…
ثم دعا بتَوْر من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: منتهى الحلية. انتهى
(3)
.
(1)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 140 - 141.
(2)
"المفهم" 1/ 507.
(3)
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب اللباس" من "صحيحه"(5953): حدثنا موسى، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عُمارة، حدَثنا أبو زرعة، قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة، فرأى أعلاها مُصَوّرًا يُصَوِّر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حَبّةً، وليخلقوا ذَرَّةً"، ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: منتهى الحلية. انتهى.
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه مبيّنًا مُستنده في وضوئه على هذه الكيفيّة (سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم) فَعِيل بمعنى فاعل: هو الصَّدِيق، من الْخَلّة، بالفتح: وهي الصداقة، والضم لغة، كما في "المصباح"، وفي "اللسان": قال ابن دُريد: الذي سَمِعتُ به أن معنى الخليل: الذي أصفى المودّة، وأصحّها، قال: ولا أزيد فيها شيئًا؛ لأنها في القرآن، يعني قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، والجمع أخلّاء، وخُلّان، والأنثى خَلِيلة، والجمع خليلاتٌ، وقال الزجّاج: الخليل المحبّ الذي ليس في محبّته خَلَلٌ، وقوله عز وجل:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ؛ أي أحبّه محبّةً تامّةً، لا خلَل فيها، قال: وجائز أن يكون معناه الفقير: أي اتّخذه مُحتاجًا فقيرًا إلى ربِّه، قال: وقيل للصداقة خُلّةٌ؛ لأن كلّ واحد منهما يَسُدّ خلل صاحبه في المودّة والحاجة إليه. انتهى
(1)
.
يعني أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ) ولفظ النسائيّ: "تبلُغُ حليةُ المؤمن"، ولفظ ابن حبّان:"تبلغ حِلية أهل الجنّة مبلغ الوضوء".
و"الْحِلْية": - بكسر المهملة، وسكون اللام، وياء مُخفّفة - تُطلَق على السِّيماء، والمراد به هنا التحجيل من أثر الوضوء يوم القيامة، وعلى الزينة، والمراد به ما يُشير إليه قوله تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف: 31]
(2)
.
وقال في "اللسان": "الْحَلْيُ" - أي بفتح الحاء، وسكون اللام -: ما تُزُيِّن به من مصوغ المعدنيّات، أو الحجارة، والجمع "حُلَى" - أي بالضمّ - وقال الجوهريّ:"الْحَلْيُ" - أي بفتح، فسكون -: حَلْيُ المرأة، وجمعُهُ حُلِيٌّ، مثلُ ثَدْي وثُدِيّ، وهو فُعُول، وقد تُكسر الحاء؛ لمكان الياء، مثلُ عِصِيّ، وقُرئ {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} [الأعراف: 148] بالضمّ، والكسر، وحِلْيةُ السيف، جمعها: حِلًى، مثلُ لِحْية ولحًى، وربّما ضُمّ. انتهى
(3)
.
والمعنى المراد هنا: أن زينة المؤمن التي يُزيّنه الله تعالى بها في القيامة تبلغ (حَيْثُ يَبْلُغُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب قَعَدَ، مبنيًّا للفاعل، والفاعل
(1)
"لسان العرب" 11/ 218.
(2)
راجع "شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 95.
(3)
"لسان العرب" 14/ 195.
قوله: (الْوَضُوءُ") أي المواضع التي كان يبلغ إليها ماء الوضوء في الدنيا، فـ "حيثُ" ظرف لـ"يَبْلُغُ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[13/ 592](250)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(149)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 55) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 371)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(7)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1045)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(666)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(584)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 56 - 57)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(219)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان منتهى حلية المؤمن في الآخرة، وهو حيث يبلُغ الوضوء.
2 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن لا يفعل عند العوامّ ما لا يعرفون، إذا خاف عليهم أن يفهموا منه غير المراد.
3 -
(ومنها):، بيان شرف هذه الأمّة، حيث أكرمها الله عز وجل بالغرّة والتحجيل، ولم يجعل ذلك لغيرها من الأمم.
4 -
(ومنها): بيان فضل إطالة الغرّة والتحجيل بمجاوزة محلّ الفرض، وقد اختلف العلماء في القدر المستحبّ منه، فقيل: يُستحبّ فوق المرفقين، والكعبين من غير تحديد، وقيل: إلى نصف العضد والساق، وقيل: إلى المنكبين والركبتين، وهو مقتضى ظواهر الأحاديث، كما قال النوويّ رحمه الله.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ليس في الحديث تقييد، ولا تحديد لمقدار ما يُغسل من العضدين والساقين، وقد استَعمل أبو هريرة رضي الله عنه الحديث على إطلاقه، وظاهره، من طلب إطالة الغرّة، فغسل إلى قريب المنكبين، ولم يَنقُل
ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا كثُر استعماله في الصحابة والتابعين، فلذلك لم يقل به الفقهاء، ورأيت بعض الناس قد ذكر أن حدّ ذلك نصف العضد والساق. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لم يقل به الفقهاء، فيه نظر، لأنه قد تقدّم أنه قد صرّح باستحبابه جماعة من السلف، وهو مذهب أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال أكثر الشافعيّة، والحنفية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ فَضْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[593]
(251) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِه، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِد، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاة، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة، وكلّهم تقدّموا قبل باب، وتقدّم ذكر لطائف الإسناد أيضًا هناك.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلا أَدُلُّكُمْ) وفي رواية أبي عوانة بلفظ: "ألا أخبركم"، و"ألا" - بفتح الهمزة، والتخفيف -: أداة تحضيض، ومعناه: طلبُ الشيء بحثّ، وقد تقدّم غير مرّة.
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 219 - 220 بنسخة الحاشية.
وقال المباركفوري رحمه الله: قوله: "ألا أدلّكم" الهمزة للاستفهام، "ولا" نافية، وليست "ألا" للتنبيه بدليل قولهم: بلى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: الهمزة للاستفهام، و"لا" نافية فيه نظرٌ؛ لأن "ألا" التي تكون للاستفهام عن النفي لا يليها إلا الجملة الاسميّة، كما في قول الشاعر [من البسيط]:
أَلَا اصْطِبَارَ لِسَلْمَى أَمْ لَهَا جَلَدُ
…
إِذَا أُلَاقِي الَّذِي لَاقَاهُ أَمْثَالِي
(2)
ولأن المعنى عليه غير واضح، فالأولى ما قدّمته، والله تعالى أعلم.
(عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ) أي يزيل بذلك الفعل (الْخَطَايَا) - بالفتح -: جمع خَطيئة، وهو جمع نادر، و"الخطيئة": الذنب عن عمد، وقد تقّدم في الكلمة قريبًا، فلا تنس.
قال القاضي عياض رحمه الله: مَحْوُ الخطايا كناية عن غفرانها، قال: ويحتمل مَحْوُها من كتاب الحفظة، ويكون دليلًا على غفرانها. انتهى.
(وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ ") أي يُعلي به المنازل في الجنّة.
(قَالُوا) أي الصحابة المخاطبون بهذا الكلام (بَلَى) أي دلّنا على ذلك (يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ) خبر لمحذوف، دلّ عليه السياق: أي هو إسباغ الوضوء، أي إتمامه، وإكماله باستيعاب المحلّ بالغسل والمسح، وتثليث الغسل، وإطالة الغرّة والتحجيل.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: "إسباغ الوضوء": الإكمال والإتمام في اللغة، من ذلك قول الله عز وجل:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] يعني أتمها عليكم، وأكملها، وإسباغ الوضوء أن تأتي بالماء على كلّ عضو يلزمك غسله، وتعمّه كلّه بالماء، وجرّ اليد، وما تأت عليه بالماء منه، فلم تغسله، بل مسحته، ومن مسح عضوًا يلزمه غسله، فلا وضوء له، ولا صلاة، حتى يَغسل ما أمر الله بغسله على حسبما وصفت لك
(3)
.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 1/ 171.
(2)
راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 69 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
(3)
"التمهيد" 20/ 222 - 223 و"الاستذكار" 6/ 218.
(عَلَى الْمَكَارِهِ) جمع مَكْرَهٍ - بفتح الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء -: وهو ما يَكرهه الإنسان، ويَشُقّ عليه، والْكُرْهُ - بالضمّ والفتح -: المشقّة.
والمراد هنا: أن يتوضّأ مع البرد الشديد، والعلل التي يتأذّى معها بمسّ الماء، ومع إعوازه، والحاجة إلى طلبه، والسعي في تحصيله، أو ابتياعه بالثمن الغالي، وما أشبه ذلك من الأسباب الشاقّة، أفاده ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال أبو عمر رحمه الله: قوله: "على المكاره": قيل: إنه أراد شدّة البرد، وكل حال يُكْرِه المرء نفسَهُ على الوضوء، ومنه تكسيل الشيطان له عنه
(2)
.
(وَكَثْرَةُ الْخُطَا) بالرفع عطفًا على "إسباغ"، أي كثرة التردّد إليها، و"الْخُطَى" بالضمّ والقصر: جمع خُطْوة بالضمّ أيضًا، وهي ما بين القدمين، ويُجمع أيضًا على خُطْوات بضمّ، فسكون وعلى خُطُوات بضمّتين، قاله في "اللسان"
(3)
.
(إِلَى الْمَسَاجِدِ) متعلّق بـ "كثرةُ الخطا"، قال النوويّ رحمه الله: وكثرة الخطا تكون ببعد الدار، وبكثرةِ التكرار.
(وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ) أي انتظار وقتها، أو جماعتها (بَعْدَ الصَّلَاةِ) أي بعد أدائها، يعني أنه إذا صلَّى بالجماعة، أو منفردًا ينتظر صلاةً أخرى، ويُعلّق قلبه بها، وذلك بأن يجلس في المسجد، أو في بيته ينتظرها، أو يكون في شُغله، وقلبه معلّقٌ بها، أفاده المباركفوريّ، وقال السيوطيّ: يحتمل وجهين: أحدهما الجلوس في المسجد، والثاني تعلّق قلبه بالصلاة والاهتمام بها، والتأهّب لها. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الوجه الأول أظهر، والله تعالى أعلم.
وقال القاضي أبو الوليد الباجيّ رحمه الله: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من عمل الناس. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في تفريق الباجيّ بين المشتركتين، وبين غيرهما نظر لا يخفى؛ إذ ظاهر النصّ عموم النوعين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(1)
"النهاية" 4/ 168 - 169.
(2)
"الاستذكار" 6/ 218 - 219.
(3)
"لسان العرب" 14/ 231.
(4)
"زَهر الربى" 1/ 90.
(فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ") وفي الرواية التالية: "فذالكم الرباط، فذالكم الرباط" بالتكرار مرّتين، وفي رواية أبي عوانة بالتكرار ثلاث مرّات، وهو مبتدأ وخبره، والإشارة إلى ما ذُكر من الأعمال، أي الرباط الْمُرَغَّب فيه، وأصل الرباط: الحبس على الشيء، كأنه حَبَسَ نفسه على هذه الطاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط، كما قيل: الجهاد جهاد النفس، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن، أي أنه من أنواع الرباط؛ قاله القاضي عياضٌ رحمه الله.
وقال السيوطيّ رحمه الله: قوله: "فذلك الرباط": أي المذكور في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} الآية [آل عمران: 200]، وحقيقته ربط النفس والجسم مع الطاعات، وحكمة تكراره قيل: الاهتمام به، وتعظيم شأنه، وقيل: كرّره صلى الله عليه وسلم على عادته في تكرار الكلام؛ ليُفهم عنه، قال النوويّ: والأول أظهر. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: أراد به المذكور في قوله تعالى: {وَرَابِطُوا} ، وحقيقته: ربطُ النفس والجسم مع الطاعات، وقيل: المراد هو أفضل الرباط، كما قيل:"الجهاد جهاد النفس"
(2)
، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"الحجّ عرفة"
(3)
، والرباطُ ملازمة ثَغْر العدوّ؛ لمنعه، وهذه الأعمال تسدُّ طُرُق الشيطان عنه، وتمنع النفس عن الشهوات، وعداوةُ النفس والشيطان لا تخفى، فهذا هو الجهاد الأكبر الذي فيه قهر أعدى عدوّه، فلذلك قال:"الرباط" بالتعريف والتكرار تعظيمًا لشأنه، ويحتمل أنه الرباط المتيسّر الممكن. انتهى كلام السنديّ بزيادة من "المفهم"
(4)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "الرِّبَاط" بكسر الراء في الأصل: الإقامة على
(1)
"زهر الربى" 1/ 92.
(2)
قال الحافظ في "تسديد القوس": هو مشهور على الألسنة، وهو كلام إبراهيم بن أبي عبلة، بلفظ:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "جهاد القلب"، راجع "كشف الخفا" 1/ 424 - 425.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود رقم (1949)، والترمذيّ (889)، والنسائيّ (5/ 264)، وابن ماجه (3015).
(4)
"شرح السنديّ" على النسائيّ 1/ 90، و"المفهم" 1/ 508.
جهاد العدوّ بالحرب، وارتباط الخيل، وإعدادها، فشُبِّهَ ما ذُكِر من الأعمال الصالحة به، قال الْقُتَبيّ: أصل المرابطة أن يربِط الفريقان خيولهما في ثَغْر، كلٌّ منهما مُعِدّ لصاحبه، فسُمّي الْمُقَام في الثُّغُور رِبَاطًا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"فذلكم الرباط"، أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة كالجهاد في سبيل الله، فيكون الرباط مصدر رابطتُ، أي لازمتُ، وقيل: هو ها هنا اسم لِمَا يُربَط به الشيء، أي يُشدّ، يعني أن هذه الخلال تَرْبِط صاحبها عن المعاصي، وتكفّه عن المحارم. انتهى
(1)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[14/ 593 و 594](251)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(51 و 52)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(143)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 176)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 277 و 301 و 303 و 438)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(5)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1038)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(623 و 624)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(585 و 586 و 587)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 83)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(149)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل إسباغ الوضوء على المكاره، وأخرج ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" بسند صحيح، عن سعيد بن المسيّب، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة تَغسل الخطايا غَسْلًا"
(2)
.
(1)
"لسان العرب" 7/ 302.
(2)
"التمهيد" 20/ 224.
ورَوَى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عُبيد بن عُمير، قال: مِن صدق الإيمان وبِرّه إسباغُ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبِرّه أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة، ويَدَعَها، ولا يَدَعُها إلا لله عز وجل
(1)
.
ثم إن المكاره قد تكون ببرودة الماء في الشتاء، أو حرارته في الصيف، أو ألم الجسم، أو نحو ذلك، كما أسلفناه قريبًا.
2 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث من أفضل الأحاديث التي تُروى في فضائل الأعمال
(2)
.
3 -
(ومنها): مشروعيّة طرح العالم المسألة على المتعلّم، وابتداؤه بالفائدة، وعرضُها على من يرجو حفظها، وحملها، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله أيضًا.
4 -
(ومنها): الترغيب في كثرة الخطا إلى المساجد، وذلك يكون ببعد المسجد، أو تكرار الذهاب إليه، أو بهما معًا.
5 -
(ومنها): فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، فإن المنتظر يعدّ كأنه في الصلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فقد أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه، فقال:"إن الناس قد صَلَّوا، ورَقَدُوا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): حيث إن بعض العلماء قال: إن المراد بهذا الحديث هو ما في قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200] أحببت أن أذكر ما قاله المفسّرون في هذه الآية إيضاحًا للمقام، وتكميلًا للمرام، فقلت:
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال الحسن البصريّ: أُمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يَدَعُوه لسَرّاء، ولا
(1)
"الاستذكار" 6/ 218 - 219.
(2)
"الاستذكار" 6/ 218.
لِضَرّاء، ولا لشدّة، ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف.
وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قاله ابن عباس، وسهل بن حنيف، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، وغيرهم، ورَوَى ابن أبي حاتم ها هنا الحديث الذي رواه مسلم - يعني حديث الباب.
وأخرج ابن مردويه بسنده: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أقبل علي أبو هريرة يومًا، فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} ؟ قلت: لا، قال: أما إنه لم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يَعْمُرون المساجد، ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت:{اصْبِرُوا} أي على الصلوات الخمس، {وَصَابِرُوا} أنفسكم وهواكم، {وَرَابِطُوا} في مساجدكم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما عليكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن:"اتّقِ اللهَ حيثما كنت، وأَتْبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخلق حسن".
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة، وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا أبو صَخْر، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ أنه كان يقول في قول الله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يقول: اتّقوني فيما بيني وبينكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يقول: غَدًا إذا لقيتموني. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} الآية خَتَمَ تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جَمَعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوزَ بنعيم الآخرة، فَحَضَّ على الصبر على الطاعات، وعن الشهوات، والصبر: الحبس، وأَمَر بالمصابرة،
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 313 - 330.
فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: على الصلوات الخمس، وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها، فهي تدعو، وهو يَنْزِع، وقال عطاء، والقُرَظيّ: صابروا الوعد الذي وُعِدتم، أي لا تيأسوا، وانتظروا الفرج، قال صلى الله عليه وسلم:"انتظار الفرج بالصبر عبادة"
(1)
، واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله، والأول قول الجمهور، ومنه قول عنترة [من الطويل]:
فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا
…
وَلَا كَافَحُوا مِثْلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ
فقوله: "صابروا مثل صبرنا": أي صابروا العدوّ في الحرب، ولم يَبْدُ منهم جُبْنٌ ولا خَوَرٌ، والمكافحة: المواجهة، والمقابلة في الحرب.
ولذلك اختلفوا في معنى قوله: {وَرَابِطُوا} ، فقال جمهور الأمة: رابِطُوا أعداءكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ، وفي "الموطأ" عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال: كتب أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطاب، يذكر له جُموعًا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعدُ: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدّة، يجعل الله له بعدها فرجًا، وإنه لن يَغْلِب عسرٌ يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} .
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يُرابَط فيه
(2)
، رواه الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه"، واحتج أبو سلمة بقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الْخُطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"، ثلاثًا، رواه مالك.
(1)
حديث ضعيف، أخرجه الترمذيّ في "جامعه" 5/ 565.
(2)
وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": وما احتجّ به أبو سلمة لا حجّة فيه، ولا سيما مع ثبوت حديث الباب، فعلى تقدير تسليم أنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رباطٌ، فلا يَمنع ذلك من الأمر به، والترغيب فيه، ويَحتمل أن يكون المراد كلا الأمرين: رباط الجهاد، وانتظار الصلاة، أو ما هو أعمّ من ذلك. انتهى.
قال ابن عطية رحمه الله: والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها مِن ربط الخيل، ثم سمي كُلُّ ملازم لِثَغْر من ثغور الإسلام مرابطًا، فارسًا كان أو راجلًا، واللفظ مأخوذ من الربط، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فذلكم الرباط" إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعة"، وقوله:"ليس المسكين بهذا الطَّوّاف".
قال القرطبيّ: قوله: "والرباط اللغويّ هو الأول" ليس بِمُسَلَّم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها، قد قال:"الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضًا". فقد حَصَل أن انتظار الصلاة رباط لغويّ حقيقةً كما قال صلى الله عليه وسلم، وأكثرُ مِن هذا ما قاله الشيبانيّ: إنه يقال: ماءٌ مترابطٌ: أي دائمٌ لا يَنْزَح، حكاه ابن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغةً إلى غير ما ذكرناه، فإن المرابطة عند العرب العقد على الشيء، حتى لا يَنْحَلَّ، فيعود إلى ما كان صَبَرَ عنه، فيحبسُ القلب على النية الحسنة، والجسم على فعل الطاعة، ومن أعظمها، وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله، كما نُصّ عليه في التنزيل في قوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ، وارتباطُ النفس على الصلوات، كما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، رواه أبو هريرة، وجابر، وعليّ رضي الله عنهم، ولا عِطْرَ بعد عروس. انتهى المقصود من كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من أن تفسير الآية هو المرابطة في ثَغْر العدوّ هو الأرجح، ولكن لا ينافي ذلك أن يكون المرابطة في الخصال المذكورة في حديث الباب رباطًا لغويًّا أيضًا؛ لأن أهل اللغة قد أثبتوه، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قد ورد في فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(6462)
حدثنا عفّان، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن ثابت، عن
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 322 - 327.
أبي أيوب، أن نَوْفًا، وعبد الله بن عمرو - يعني ابن العاصي - اجتمعا، فقال نوف:"لو أن السموات والأرض، وما فيهما، وُضِع في كِفّة الميزان، ووُضِعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، لرَجَحت بهنّ، ولو أن السموات والأرض، وما فيهنّ، كُنّ طَبَقًا من حديد، فقال رجل: لا إله إلا الله لخرقتهنّ، حتى تنتهي إلى الله عز وجل".
فقال عبد الله بن عمرو: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فعَقَّب مَن عَقَّب، ورَجَع من رجع، فجاء صلى الله عليه وسلم، وقد كاد يَحسِر ثيابه عن ركبتيه، فقال:"أبشروا، معشر المسلمين، هذا ربكم، قد فتح بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي، قَضَوا فريضةً، وهم ينتظرون أخرى"
(1)
.
وأخرجه الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:(793) حدثنا أحمد بن سعيد الدارميّ، حدثنا النضر بن شُميل، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فرَجَعَ مَن رَجَع وعَقَّبَ من عَقَّب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا، قد حَفَزَه النَّفَسُ، وقد حَسَر عن ركبتيه، فقال:"أبشروا، هذا ربكم، قد فَتَحَ بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قَضَوْا فريضةً، وهم ينتظرون أخرى"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[594]
(
…
) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ ذِكْرُ الرِّبَاط، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ ثِنْتَيْنِ
(3)
، "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ").
(1)
حديث صحيح.
(2)
حديث صحيح.
(3)
وفي نسخة: "وفي حديث مالك مرّتين"، يعني أنه ذكره مرّتين.
رجال هذا الإسناد، سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِنُ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندَر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
والباقون تقدّموا قبل باب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ ثِنْتَيْنِ) يعني أن في حديث مالك ذكر قوله: "فذالكم الرباط" مرّتين.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال المصنّف رحمه الله أن حديث مالك فيه التكرار مرّتين، لكن الذي رأيته في "الموطّأ" رواية يحيى بن يحيى، وكذا في رواية الإمام أحمد في "مسنده" برقم (7961)، وكذا عند النسائيّ في "المجتبى" برقم (143) تكراره ثلاث مرّات، ولم أجد التكرار مرّتين، إلا أن في رواية أحمد برقم (7672) بلفظ:"فذلك الرباط" مرّة واحدةً، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية شعبة التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية إسماعيل بن جعفر، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7935)
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا أدلّكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويمحو به الخطايا: كثرة الْخُطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره". انتهى.
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضًا:
(7168)
حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلّكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا: إسباغ الوضوء في المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة". انتهى.
وأما رواية مالك، فقد ساقها في "الموطّأ"، فقال:
(348)
وحدثني عن مالك
(1)
، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الْخُطَى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(15) - (بَابُ السِّوَاكِ)
قال أهل اللغة: السواك - بكسر السين - يُطلق على الفعل، وعلى العُود الذي يُتسوّك به، وهو مذكّر، وقيل: يؤنّث أيضًا، حكاه الليث، وغلّطه الأزهريّ، وذكر صاحب "المحكم" تأنيثه أيضًا، ويقال: ساك فاه يسوكه سَوْكًا، فإن قلت: استاك، أو تسوّك لم تذكر الفم، ومثل استاك استنّ، وشاص فاه، كما ستعلمه في الباب، وجمع "السواك" سُوُك - بضمّتين - ككتاب وكُتُب، ثم قيل: إن السواك مأخوذ من ساك: إذا دلك، وقيل: من جاءت الإبل تتساوك، أي تتمايل هُزَالًا.
وهو في الاصطلاح: استعمال عُود أو نحوه في الأسنان؛ ليذهب الصفرة وغيرها عنها، ذكره ابن الملقّن
(2)
.
وقال ابن منظور: "السَّوْكُ": فعلك بالسِّوَاك، والْمِسْوَاك، ساك الشيءَ سَوْكًا: دَلَكَه، وسَاكَ فمه بالعود يَسُوكه سَوْكًا، قال عَدِيّ بن الرقَاع [من الكامل]:
وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ وَلَذَّةً
…
صَهْبَاءَ سَاكَ بِهَا الْمُسَحِّرُ فَاهَا
سَاكَ وسَوَّكَ واحدٌ، والْمُسَحِّرُ الذي يأتيها بسَحُورها، واستاك مُشْتَقٌّ من ساك، وإذا قلت: استاك، أو تَسَوَّك، فلا تذكر الفمَ، واسم الْعُود الْمِسْوَاك،
(1)
القائل: وحدثني عن مالك هو عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثيّ، راوي "الموطأ" عن أبيه.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 549 - 550.
يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وقيل: السواك تؤنثه العرب، وفي الحديث:"السِّوَاكُ مِطْهَرَةٌ للفم"، بالكسر، أي يُطَهِّرُ الفم، قال أبو منصور: ما سَمِعتُ أن السواك يُؤَنَّثُ، قال: وهو عندي من غُدَدِ الليث، والسواكُ مُذَكَّر، وقوله:"مَطْهَرَة" كقولهم: "الولدُ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَبْخَلَةٌ"، وقولِهم:"الكفرُ مَخْبَثَةٌ"، قال: والسواك: ما يُدْلَكُ به الفم من العيدان، والسواكُ: كالْمِسْوَاك، والجمع سُوُكٌ، وأخرجه الشاعر على الأصل، فقال عبد الرحمن بن حسان [من المتقارب]:
أَغَرُّ الثَّنَايَا أَحَمُّ اللِّثَا
…
تِ تَمْنَحُهُ سُوُكُ الإِسْحِلِ
وقال أبو حنيفة: رُبّمَا هُمِز، فقيل: سُؤُكٌ، وقال أبو زيد: يُجْمَعُ السِّوَاك سُوُكٌ على فُعُل، مثل كِتَاب وكُتُب
(1)
.
وقال الفيّوميّ: "السواك": عُودُ الأَرَاك، والجمع سُوْكٌ - بالسكون، والأصل بضمتين - مثلُ كِتَاب وكُتُب، والْمِسْوَاكُ مثله، وسَوَّكَ فاه تَسْوِيكًا، وإذا قيل: تَسَوَّك، أو استاك لم يُذْكَرِ الفم، و"السّوَاكُ" أيضًا مصدرٌ، ومنه قولهم: ويكره السواك بعد الزوال، قال ابن فارس: و"السواك": مأخوذ من تَسَاوَكَت الإبل: إذا اضطربت أعناقها من الْهُزَال، وقال ابن دُرَيد: سُكْتُ الشيءَ أَسُوكُهُ سَوْكًا، من باب قال: إذا دَلَكْتَهُ، ومنه اشتقاق السِّوَاك. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
[595]
(252) - (حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: عَلَى أمَّتِي - لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
(1)
"لسان العرب" 10/ 446.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 297.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجةٌ، رأس [8](ت 198) عن (91) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
5 -
(أَبُو الزِّنَادِ) هو: عبد الله بن ذَكْوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
6 -
(الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن فيه التحديث مرتين، والعنعنة في البقيّة.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: عمرو، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وزهير، فما أخرج له الترمذيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبي الزناد، عن الأعرج، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَوْلَا) قال العينيّ رحمه الله: "لولا" كلمة ربط امتناع الثانية لوجود الأولى، نحو: لولا زيد لأكرمتك، أي لولا زيد موجود، والمعنى هنا: لولا مخافة أن أشقّ لأمرتهم أمر إيجاب، وإلا لانعكس معناها؛ إذ الممتنع المشقّة، والموجود الأمر. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: أي لولا خوف أن أشقّ، فلا يَرِدُ أن "لولا" لانتفاء
(1)
"عمدة القاري" 5/ 262.
الشيء لوجود غيره، ولا مشقّة هنا. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: إذا كان "لولا" يستدعي امتناع الشيء لوجود غيره، وظاهر أن المشقة نفسها ليست بثابتة فلا بدّ من مقدّر، أي لولا خوف المشقّة، أو توقّعها لأمرتهم. انتهى
(2)
.
وقال البيضاويّ رحمه الله: "لولا" يدلّ على امتناع الشيء لثبوت غيره، والحقّ أنها مركّبة من "لو"، و"لا"، فـ"لو" تدلّ على انتفاء الشيء؛ لانتفاء غيره، فتدلّ ها هنا مثلًا على انتفاء الأمر؛ لانتفاء نفي المشقّة، وانتفاء النفي ثبوت، فيكون الأمر منفيًّا لثبوت المشقة. وفيه دليلٌ على أن الأمر للوجوب، لا للندب من وجهين:
[أحدهما]: أنه نَفَى الأمر مع ثبوت الندبيّة، فلو كان للندب لما جاز ذلك.
[وثانيهما]: أنه جَعَلَ الأمر ثِقَلًا ومشقّةً عليهم، وذلك إنما يتحقّق إذا كان للوجوب؛ إذ الندب لا مشقّة فيه؛ لأنه جائز الترك
(3)
.
(أَنْ أَشُقَّ) بضمّ الشين المعجمة، من المشقّة، يقال: شَق عليَّ الأمر يَشُقُّ شَقًّا، من باب نصَرَ، ومشقّةً: أي ثَقُلَ عليّ، أفاده في "اللسان".
و"أن" مصدريّة، وهي ومدخولها في محلّ رفع مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "لَوْلَا" غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ
…
حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اسْتَقَرْ
أي لولا المشقّة، أي مخافتها موجودة لأمرتهم بالسواك.
(عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) متعلّق بـ "أشُقّ"(وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: عَلَى أُمَّتِي) يعني أنه اختَلَف عليه شيوخه، فقتيبة، وعمرو الناقد قالا في روايتهما:"على المؤمنين"، وقال زهير بن حرب:"على أمّتي"، وهذا من احتياطه، ومراعاته لألفاظ شيوخه، كما سبق غير مرّة.
ووقع عند البخاريّ بلفظ: "لولا أن أشقّ على أمتي، أو على الناس"،
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 12.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 784.
(3)
راجع "الكاشف" 3/ 784.
قال الحافظ رحمه الله: قوله: "أو على الناس"، هو شكّ من الراوي، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في شيء من الروايات عن مالك، ولا عن غيره، وقد أخرجه الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق "الموطأ" لعبد الله بن يوسف، شيخ البخاريّ فيه بهذا الإسناد، بلفظ:"أو على الناس"، لم يَعْدُ قوله:"لولا أن أشقّ"، وكذا رواه كثير من رواة "الموطأ"، ورواه أكثرهم بلفظ:"المؤمنين" بدل "أمتي"، ورواه يحيى بن يحيى الليثيّ بلفظ:"على أمتي" دون الشك. انتهى
(1)
.
(لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ) أي باستعمال السواك؛ لأن السواك هو الآلة، وقد تقدّم أنه يُطْلَق على الفعل أيضًا، فعلى هذا لا يَحتاج إلى تقدير.
(عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ") أي عند إرادة أداء كلّ صلاة، فرضًا أو نفلًا، ولفظ البخاريّ:"مع كلّ صلاة"، وفي رواية مالك، والشافعيّ، والبيهقيّ، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وذكره البخاريّ تعليقًا في "كتاب الصوم" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:"لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ وضوء"، قيل: ويوفَّق بين الروايتين أن السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة؛ لأن الوضوء شُرع لها.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل، وفيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ يؤدّي إلى أن السواك للوضوء يكفي للصلاة، فلا يُطلب لها، وهذا غير سديد، بل الصواب أن يُوفّق بين الروايتين على طلب السواك لكلّ من الوضوء والصلاة، كما أنه يُطلب عند تغيّر الفم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"السواك مطهرةٌ للفم، مَرضاة للربّ"
(2)
، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "مع كلّ صلاة" لم أرها في شيء من روايات "الموطأ" إلا عن مَعْن بن عيسى، لكن بلفظ:"عند كلّ صلاة"، وكذا رواه النسائي عن قتيبة، عن مالك، وكذا رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن أبي الزناد، يعني هذه الرواية، وخالفه سعيد بن أبي هلال، عن الأعرج، فقال:"مع الوضوء" بدل "الصلاة"، أخرجه أحمد من طريقه، والله تعالى أعلم
(1)
"الفتح" 2/ 436.
(2)
حديث صحيح، أخرجه النسائيّ بإسناد صحيح برقم (5).
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[15/ 595](252)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(887)، و"التمنّي"(7240)، و (أبو داود) في "الطهارة"(46)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(23)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(7)، وفي "الكبرى"(6)، و (ابن ماجه) في (287)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 66)، و (الشافعيّ) في "الأمّ"(1/ 23)، وفي "مسنده"(1/ 27)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2328)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 245 و 400 و 509 و 531)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 174)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(139)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1068)، و (الحاكم) في "مستداركه"(1/ 146)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 44)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 34)، وفي "المعرفة"(1/ 185)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(197)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(474 و 475)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(588)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستّة: البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ، من رواية الأعرج، والترمذيّ من رواية أبي سلمة، وابن ماجه من رواب لأ سعيد المقبريّ، كلّهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال: واختَلفت الرواة عن مالك في إغظه، فقال أبو مصعب وجماعة:"ولأمرتهم بالسواك"، يعني أنه لم يزد:"مع كلّ صلاة"، أو نحوه، وكذا قال عبد الله بن يوسف، وزاد:"مع كلّ صلاة"، رواه البخاريّ من طريقه، وقال القعنبيّ، وأيوب بن صالح:"على المؤمنين، أو على الناس"، وكذا قال معن بن عيسى، وزاد في روايته أيضًا:"عند كلّ صلاة"، وزاد أيضًا قتيبة عن مالك في روايته:"عند كلّ صلاة"، كما رواه النسائيّ، وكذا قال ابن عيينة، عن أبي الزناد، كما رواه مسلم وغيره، وقد رواه جماعة عن مالك، عن ابن شهاب، عن حُميد،
عن أبي هريرة، مرفوعًا، فزادوا فيه:"مع كلّ وضوء"، كذا رواه عن مالك الشافعيّ في رواية حرملة، ورَوْح بن عُبَادة، وبِشْر بن عُمر الزهرانيّ، وإسماعيل بن أبي أُويس، ورواه النسائيّ من رواية بشر بن عمر، والبيهقيّ من رواية رَوْح، وإسماعيل، وقد ذكرها البخاريّ في "صحيحه" تعليقًا مجزومًا، فقال: وقال أبو هريرة، ووصلها ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وصحّحها، وهي في "الموطّأ" موقوفةٌ على أبي هريرة، وليس في بعض الروايات ذكر الوضوء، وفي بعضها ذكره على الشكّ بينه وبين الصلاة. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله في "التلخيص الحبير": قال ابن منده رحمه الله: وإسناده - يعني إسناد حديث: "لولا أن أشُقّ .. إلخ " - مُجْمعٌ على صحّته.
وقال النوويّ رحمه الله: غَلِطَ بعض الأئمة الكبار، فزعم أن البخاريّ لم يُخرجه، وهو خطأ منه، وليس في "الموطّأ" من هذا الوجه، بل فيه عن ابن شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لولا أن يَشُقّ على أمته لأمرهم بالسواك مع كلّ وضوء"، ولم يُصرّح برفعه.
قال ابن عبد البرّ: وحكمه الرفع، وقد رواه الشافعيّ عن مالك مرفوعًا.
وفي الباب عن زيد بن خالد، رواه الترمذيّ، وأبو داود، وعن عليّ، رواه أحمد، وعن أمّ حبيبة، رواه أحمد أيضًا، وعن عبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وجابر، وأنس، رواه أبو نُعيم في "كتاب السواك"، وإسناد بعضها حسنٌ، وعن الزبير، رواه الطبرانيّ، وعن ابن عمر، وجعفر بن أبي طالب، رواهما الطبرانيّ أيضًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
وزاد العلامة الألبانيّ رحمه الله جماعةً آخرين: العبّاس بن عبد المطّلب، عند الحاكم، وأحمد، ورجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، عند أحمد بسند صحيح، وزينب بنت جحش، عند أحمد، وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وله رؤيةٌ، رواه أبو داود، والحاكم، وغيرهما بسند حسن. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 62.
(2)
"التلخيص الحبير" 1/ 368.
(3)
"إرواء الغليل" 1/ 110 - 111.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة السواك، وأنه مستحبّ في كلّ صلاة.
2 -
(ومنها): شدة حرص الشريعة على العناية بالنظافة، والمحافظة عليها؛ إذ هي مَجْلَبة للصحّة، والأُلفة والمحبّة بين المجتمع، ففي تشريع السواك حكم عظيمة، وفوائد جسيمة، فإنه مطهرة للفم، ومرضاة للربّ، كما صحّ بذلك حديث عائشة رضي الله عنها، فهو مطهّر للفم من فضلات الطعام، والروائح الكريهة التي تنشأ من بعض الأطعمة، أو من أبخرة المعدة، أو من خلل في اللثة، والأسنان، ويُنظّف الأسنان واللسان من الأوان الغريبة، والصفرة الطارئة، ويحفظ الفم من الأمراض، والأضراس من التسوّس، واللثة من الضعف والتشقّق والارتخاء، ويحفظ المعدة من عفونات الطعام التي قد تتراكم بين الأسنان، ويُطيّب الرائحة.
وبالجملة فقد حثّ عليه الشرع، وجعله سببًا لرضا الربّ، وطلبه في كلّ حين، ولقد بالغ النبيّ صلى الله عليه وسلم في استعماله، حتى إنه إذا دخل البيت بدأ به، وإذا قام من نومه بدأ به، كما سيأتي بيان ذلك اس الأحاديث، فينبغي للعاقل أن لا يُحرَم هذه الفضيلة، ولا يفوّت هذه النعمة الباردة، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الرأفة والشفقة بأمته؛ فقد ترك إيجاب السواك عليها؛ لخوفه المشقّة عليها في ذلك.
4 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه دليلٌ على فضل التيسير في أمور الدين، وأن ما يشقّ منها مكروه، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله: فيه جواز الاجتهاد من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نصّ؛ لكونه جعل المشقّة سببًا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقّفًا على النصّ لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النصّ، لا وجود المشقّة. انتهى.
(1)
راجع "طرح التثريب" 1/ 70.
وتُعُقّب بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بأن سبب عدم ورود النصّ وجود المشقّة، فيكون معنى قوله:"لأمرتهم" أي عن الله تعالى بأنه واجب.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا تُعُقّب، وهذا التعقّب، وإن كان له وجه، إلا أن مسألة الاجتهاد من النبيّ صلى الله عليه وسلم الحقّ فيها الجواز، والوقوع، وقد حقّقت هذا في "التحفة المرضيّة" في الأصول، حيث قلت:
اخْتَلَفُوا هَلِ الرَّسُولُ يَجْتَهِدْ
…
فَالأَكْثَرُونَ جَوَّزُوهُ وَوُجِدْ
وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ وَالْبَعْضُ فِي
…
حَرْبٍ رَأَى وَالْبَعْضُ ذُو تَوَقُّفِ
وَالْحَقُّ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَقَدْ
…
جَاءَتْ وَقَائِعُ لَهَا قَدِ اجْتَهَدْ
وَالْخُلْفُ فِي خَطَئِهِ وَصُوِّبَا
…
وَقُوعُهُ بِلَا تَمَادٍ صَاحَبَا
فَاللهُ لَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ بَلْ
…
يُنْزِلُ وَحْيَهُ إِزَالَةَ الْخَلَلْ
ثُمَّةَ ذَا الْخُلْفُ لأَمْرٍ نُسِبَا
…
لِلدِّينِ لَا غَيْرُ فَخُذْهُ رَاغِبَا
أَمَّا الأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَدْ
…
اتَّفَقُوا فِي كَوْنِهِ فِيهَا اجْتَهَدْ
ولمزيد إيضاح المسألة فراجع "شرحها""المِنْحَة الرضيّة"، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
6 -
(ومنها): أنه استَدلّ أبو إسحاق الشيرازيّ رحمه الله في "اللُّمَع" على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقةً؛ لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به. انتهى.
قال الحافظ: ويؤكِّده قوله في رواية سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة عند النسائيّ، بلفظ:"لَفَرضت عليهم" بدل "لأمرتهم". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح أن الندب مأمور به، كما سيأتي تحقيقه، وأما تأكيد الحافظ كلام الشيرازي بحديث النسائيّ، فليس بواضح، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبًا لأمَرهم: شقّ عليهم به أو لم يشقّ. انتهى.
وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى.
8 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "عند كل صلاة" على استحبابه للفرائض والنوافل مطلقًا، وهو الحقّ.
قيل: ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة، وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعًا لغيرها، كصلاة العيد، وهذا اختاره أبو شامة. قال الحافظ: ويتأيد بقوله في حديث أم حبيبة رضي الله عنها عند أحمد بلفظ: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضؤون"، وله من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك"، فَسَوَّى بينهما، وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة، إلا إن طال الفصل مثلًا، فكذلك السواك.
قال: ويمكن أن يُفَرَّق بينهما بأن الوضوء أشقّ من السواك، ويتأيد بما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين، ثم ينصرف، فيستاك"، وإسناده صحيح، لكنه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود، وبَيَّن فيه أنه تَخَقَل بين الانصراف والسواك نوم، وأصل الحديث في مسلم، مُبَيَّنًا أيضًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في تقييده بالمكتوبات، وما ضاهاها نظرٌ لا يخفى، وما استدل به على ذلك غير واضح فيه، بل الحقّ أن عموم قوله:"عند صلاة" على ظاهره، فيُستحبّ لكلّ صلاة يؤديها المرء مكتوبة، أو نافلة مطلقًا دون فرق بين نوع ونوع؛ عملًا بظاهر النصّ، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الأمر يقتضي التكرار؛ لأن الحديث دَلّ على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك، ولا مشقة في وجوبه مرَّةً، وإنما المشقة في وجوب التكرار.
قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا البحث نظرٌ؛ لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر، وإنما أُخِذ من تقييده بـ "كلّ صلاة".
قال الجامع عفا الله عنه: القول باقتضاء الأمر التكرار عند خلُوّه عن القرينة هو الراجح؛ لأنه غالب أوامر الشرع، وقد أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
اخْتَلَفُوا هَلْ يَقْتَضي التَّكْرَارَ إِنْ
…
غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِمَرَّةٍ يَبِنْ
أَوْ ضِدِّهَا أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَرْطِ
…
قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَيْسَ يُعْطِي
وَأَوَّلًا رَجَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ
…
إِذْ هُوَ غَالِبُ النُّصُوصِ فَاعْلَمِ
ولمزيد الإيضاح في المسألة، راجع "المنحة الرضيّة" شرح هذه الأرجوزة، والله تعالى وليّ التوفيق.
10 -
(ومنها): ما قاله المهلب رحمه الله: فيه أن المندوبات ترتفع إذا خُشِيَ منها الحرج.
11 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به الإمام النسائيّ رحمه الله على استحباب السواك للصائم بعد الزوال؛ لعموم قوله: "كل صلاة"، وقد استوفيت هذا البحث في "شرح النسائيّ"
(1)
، وأعود إليه في هذا الشرح في "كتاب الصيام" - إن شاء الله تعالى.
12 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: إن الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالًا تُقَرِّب إلى الله تعالى، فاقتضى أن تكون حالَ كمالٍ ونظافةٍ؛ إظهارًا لشرف العبادة، وقد ورد من حديث عليّ رضي الله عنه عند البزار ما يدُلّ على أنه لأمر يتعلق بالملَك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلا يزال يدنو منه حتى يَضَعَ فاه على فيه، لكن لا ينافي ما تقدم، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: أما وضع الملك فاه على في القارئ، ففيه حديث عليّ رضي الله عنه، أخرجه البزّار بسند رجاله ثقات، كما قال الحافظ الهيثميّ مرفوعًا:"إن العبد إذا تسوّك، ثم قام يُصلّي قام الملك خلفه، فيسمع لقراءته، فيدنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يَضَعَ فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك، فطهّروا أفواهكم للقرآن"
(2)
.
وأما كونه يتأذّى بالرائحة الكريهة، فيدلّ له ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أكل من هذه البقلة: الثوم"، وقال مرّةً:"من أكل البصل، والثوم، والكرّاث، فلا يقربنّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع 1/ 204 - 208.
(2)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع "السلسلة الصحيحة" 3/ 214.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم السواك:
ذهب أكثر أهل العلم إلى عدم وجوبه، بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع، لكن حَكَى الشيخ أبو حامد، وتبعه الماورديّ، عن إسحاق بن راهويه، أنه قال: هو واجب لكل صلاة، فمن تركه عامدًا بَطَلَت صلاته، وعن داود أنه قال: وهو واجب، لكن ليس شرطًا.
واحتج من قال بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجهْ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا:"تَسَوَّكُوا"، ولأحمد نحوه من حديث العباس، وفي "الموطأ" في أثناء حديث:"عليكم بالسواك"، ولا يثبت شيء منها، وعلى تقدير الصحة فالمنفيّ في مفهوم حديث الباب الأمر به مُقَيَّدًا بكل صلاة، لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق، ولا من ثبوت المطلق التكرار، قاله في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: السواك سنةٌ، ليس بواجب في حال من الأحوال، لا في الصلاة، ولا في غيرها، بإجماعِ مَن يُعْتَدُّ به في الإجماع، وقد حَكَى الشيخ أبو حامد الإسفرايينيّ إمام أصحابنا العراقيين عن داود الظاهري أنه أوجبه للصلاة، وحكاه الماوردي عن داود، وقال: هو عنده واجب، لو تركه لم تبطل صلاته، وحَكَى عن إسحاق بن راهويه أنه قال: هو واجب، فإن تركه عمدًا بطلت صلاته، وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود، وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع
(1)
على المختار الذي عليه المحققون
(1)
قوله عن داود: لم تضرّ مخالفته في انعقاد الإجماع". إلخ كلام لا يليق مثله بمثل النوويّ، فإن الإمام داود بن عليّ الظاهريّ رحمه الله إمام جبل من جبال العلم، فكيف لا تُعدّ مخالفته ضارّة في انعقاد الإجماع، فانظر ترجمته في كتب الرجال، تَرَ حاله، ودرجته بين العلماء الأعلام، ففي "طبقات الحفّاظ" للسيوطيّ: داود بن عليّ بن خَلَف الحافظ الفقيه المجتهد
…
إلى أن قال: وصنّف التصانيف، وكان بصيرًا بالحديث، صحيحه وسقيمه، إمامًا ورِعًا ناسكًا زاهدًا، كان في مجلسه أربعمائة طيلسان. انتهى، وقد أشبعت الكلام في هذا الموضوع في "شرح النسائيّ" 1/ 199 - 203 فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
والأكثرون، وأما إسحاق فلم يَصِحّ هذا المحكي عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من استحباب السواك، وعدم وجوبه هو الأرجح عندي؛ لظاهر حديث الباب، وأما الأحاديث الواردة بصيغة الأمر، فقد تُكلّم فيها، وعلى تقدير صحّتها، فتُحمل على الاستحباب الأكيد؛ جمعًا بين الأحاديث، وقد أشبعت الكلام في هذه المسألة في "شرح النسائيّ"
(2)
، فراجعه، تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: استَدَلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "مع كلّ وضوء" من ذهب إلى أن السواك من سنن الوضوء، وهو أحد الوجهين للشافعيّة، قال الرافعيّ: وهو الوجه، ولم يَعُدّه كثيرون من سننه، وإن كان مندوبًا في ابتدائه. انتهى
(3)
.
وقال العلامة شمس الحقّ رحمه الله في "غاية المقصود" ما لفظه: وأحاديث الباب مع ما أخرجه مالك، وأحمد، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاريّ تعليقًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ وضوء"، تدلّ على مشروعيّة السواك عند كلّ وضوء، وعند كلّ صلاة، فلا حاجة إلى تقدير العبارة، بأن يقال: أي عند كلّ وضوء لصلاة، كما قدّرها بعض الحنفيّة، بل في هذا ردّ للسنّة الصحيحة الصريحة، وهي السواك عند الصلاة، وعلّل بأنه لا ينبغي عمله في المساجد؛ لأنه من باب إزالة المستقذرات، وهذا التعليل مردودٌ؛ لأن الأحاديث دلّت على استحبابه عند كلّ صلاة، وهذا لا يقتضي أن لا يُعمل إلا في المساجد حتى يتمشّى هذا التعليل، بل يجوز أن يستاك، ثم يدخل المسجد للصلاة، كما روى الطبرانيّ في "معجمه" عن صالح بن أبي صالح، عن زيد بن خالد الجهنيّ، قال:"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرُج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك". انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 142.
(2)
1/ 199 - 203.
(3)
"طرح التثريب" 2/ 65.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بل يجوز أن يستاك، ثم يدخل المسجد"، هذا غير صحيح، بل هو باطل؛ لمنابذته السنّة؛ إذ قوله صلى الله عليه وسلم:"عند كلّ صلاة" واضح في ذلك، وهل كانت الصلاة إلا في المسجد؟ وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستاك في المسجد، ثم يصلّي، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، فقد صحّ عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه أنه كان يشهد الصلوات في المساجد، وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استنّ، ثم ردّه إلى موضعه. أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وكذلك غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سُوكهم خلف آذانهم، يستنّون بها لكلّ صلاة.
وبالجملة فقول من قال: لا يستاك في المسجد - كالقرطبيّ، قال في "المفهم": لا يستاك في المسجد؛ لأنه من باب إزالة القاذورات. انتهى - من الأقوال الساقطة التي لا ينبغي الالتفات إليها؛ إذ الحقّ أنه من باب التطهير والتطييب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عند النسائيّ وغيره، مردوعًا:"السواك مطهرة للفم، مرضاة للربّ".
وقد حقّقت هذا الموضوع في "شرح النسائيّ"
(1)
، وذكرت مسائل كثيرة مما يتعلّق ببحث السواك، فراجعها، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في بيان ما ذكره العلماء من الأحوال التي يُستحبّ لها السواك:
(اعلم): أن السواك مستحبّ في جميع الأحوال، إلا أنه يتأكّد استحبابه في بعض الحالات:
1 -
(منها): عند القيام إلى الصلاة، سواء كانت فرضًا أو نفلًا، صلاها بوضوء، أو تيمّم، أو بغير طهارة، كمن لم يجد ماءً، ولا ترابًا، وصلّى على حسب حاله، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشُقّ على أمتي .... "، وفيه:"عند كلّ صلاة"، متّفق عليه.
2 -
(ومنها): عند اصفرار الأسنان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مَطْهَرة
(1)
راجع شرح الحديث الخامس، 1/ 188 - 189.
للفم، مرضاة للربّ"، حديثٌ صحيحٌ، رواه النسائيّ، وغيره.
3 -
(ومنها): عند الوضوء؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ وضوء"، وفي رواية:"لفرضت عليهم السواك مع الوضوء"، وهو حديث صحيح، رواه ابن خُزيمة في "صحيحه"، والحاكم، في "مستدركه"، وصححه، وأسانيده جيّدة، وذكره البخاريّ في "كتاب الصيام" من "صحيحه" تعليقًا بصيغة الجزم.
4 -
(ومنها): عند دخول المنزل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور هنا قبل حديث.
5 -
(ومنها): عند قراءة القرآن؛ لما رواه البزّار في "مسنده"
(1)
من حديث عليّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا تسوكّ، ثم قام يُصلّي، قام الملك خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك، فطهّروا أفواهكم للقرآن"، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه فُضيل بن سُليمان النميريّ، وهو وإن أخرج له البخاريّ، ووثّقه ابن حبّان، فقد ضعّفه الجمهور، قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله
(2)
.
6 -
(ومنها): عند تغيّر الفم، وتغيّره قد يكون بالنوم، وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة، وقد يكون بترك الأكل والشرب، وطول السكوت، وقال بعضهم: يكون أيضًا بكثرة الكلام؛ لما رواه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق جعفر بن تَمّام بن عباس، عن أبيه، قال: أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أُتِي، فقال: "ما لي أراكم تأتوني قُلْحًا
(3)
؟ استاكوا، لولا أن أشق على أمتي، لفرضت عليهم السواك، كما فرضت عليهم الوضوء"، وفي سنده أبو عليّ الزرّاد مجهول.
(1)
ورواه البيهقيّ في "الكبرى" 1/ 162، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع "الصحيحة" 3/ 214 رقم (1213).
(2)
راجع "طرح التثريب" 1/ 225.
(3)
بضمّ، فسكون: جمع أقلح، والقَلَح بفتحتين: صُفرة تعلو الأسنان؛ قاله الجوهريّ، وغيره. "الصحاح" 2/ 396، و "النهاية" لابن الأثير 4/ 99.
7 -
(ومنها): عند القيام من النوم؛ لما رواه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يرقد من ليل ولا نهار، فيستيقظ إلا تسوّك قبل أن يتوضّأ"، لكن في سنده علي بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف.
ويُغني عنه ما في "الصحيحين" من حديث حذيفة رضي الله عنه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك".
8 -
(ومنها): الانصراف من صلاة الليل؛ لما روى ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف، فيستاك".
9 -
(ومنها): عند إرادة النوم، وفيه ما أخرجه ابن عديّ في "الكامل" عن جابر رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه"، وفي سنده حرام بن عثمان، متروك، وهو قال فيه الشافعيّ رحمه الله: الراوية عن حرام حرام
(1)
، فلا ينبغي عدّ هذه من السنّة؛ لعدم صحّة الدليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في ذكر بعض ما ورد من الأخبار في السواك، مع بيان درجتها صحّةً، وضعفًا
(2)
:
1 -
(فمنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنها المذكور في الباب، وهو متّفق عليه.
2 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "عشر من الفطرة"، فذكر فيها "السواك"، رواه مسلم، ورواه أبو داود من حديث عمار رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): حديث أبي أيوب رضي الله عنه: "أربع من سنن المرسلين: الختان، والسواك، والتعطر، والنكاح"، رواه أحمد، والترمذيّ، ورواه ابن أبي خيثمة وغيره، من حديث مَلِيح بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه نحوه، ورواه الطبرانيّ من حديث ابن عباس، وهو حديث ضعّفه العراقيّ.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 369.
(2)
راجع في هذه المسألة "التلخيص الحبير" 1/ 238 - 248 بتحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض.
4 -
(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الطهارات أربع: قصُّ الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك". رواه البزار، ورواه الطبرانيّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي سنده معاوية بن يحيى الصدفيّ، ضعيف.
5 -
(ومنها): حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: "ما زال جبرائيل يوصيني بالسواك، حتى خَشِيت أن يُدَرْدِرني"، رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ، بسند ضعيف، ورواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة، وفي سنده عثمان بن أبي عاتكة متروك، ورواه الطبرانيّ، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفي سنده عبيد بن واقد، ضعيف، ورواه أبو نعيم من حديث جُبير بن مطعم، وأبي الطفيل، وأنس، والمطلب بن عبد الله، ورواه أحمد من حديث ابن عباس، ورواه ابن السكن من حديث عائشة.
6 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، حَمَلَ السواك، والْمُشْط، والْمُكْحُلة، والقارورة، والمرآة"، رواه العقيليّ، وأبو نعيم، وقال ابن الجوزيّ: لا يصحّ، وأعلّه بأيوب بن واقد، وسليمان الشاذكونيّ، فإنهما متروكان.
وعن عائشة رضي الله عنها: "كنت أَضَعُ له ثلاثة آنيةٍ مُخَمَّرة: إناء لطهوره، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه"، رواه ابن ماجه، وإسناده ضعيف.
ورَوَى ابن طاهر في "صفة التصوف" عن أبي سعيد رضي الله عنه نحو حديث عائشة الأول، وفيه خارجة بن مصعب متروك.
7 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها: "فضل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفًا"، رواه أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطنيّ، وابن عديّ، والبيهقيّ في "الشعب"، وأبو نعيم.
قال الحافظ رحمه الله: ومداره عندهم على ابن إسحاق، ومعاوية بن يحيى الصَّدَفيّ، كلاهما عن الزهريّ، عن عروة، لكن رواه أبو نعيم من طريق ابن عيينة، عن منصور، عن الزهريّ، ولكن إسناده إلى ابن عيينة فيه نظر، فإنه قال: ثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا سهل بن المرزبان، عن محمد، عن الحميديّ، عن ابن عيينة، فينظر في إسناده.
ورواه الخطيب في "المتفق والمفترق" من حديث سعيد بن عُفير، عن ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، وابن لهيعة ضعيف.
ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" من وجه آخر، عن أبي الأسود، إلا أن فيه الواقديّ، والواقديّ ضعيف.
وله طريق أخرى رواها أبو نعيم من طريق فَرَج بن فَضَالة، عن عروة بن رُويم، عن عائشة، وفَرَج ضعيف.
ورواه ابن حبّان في "الضعفاء" من طريق مسلمة بن عليّ، عن الأوزاعيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، ومسلمةُ ضعيفٌ، وقال: وإنما يُرْوَى هذا عن الأوزاعيّ، عن حسان بن عطية معضلًا، وقال يحيى بن معين: هذا الحديث لا يصحّ له إسناد، وهو باطلٌ.
ورواه أبو نعيم من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث جابر، وأسانيده معلولة.
8 -
(ومنها): حديث جابر رضي الله عنه: "إذا قام أحدكم من الليل يصلي، فليستك، فإنه إذا قام يصلي أتاه ملكٌ، فيضع فاه على فيه، فلا يخرج شيء من فيه، إلا وقع في الملك"، رواه أبو نعيم، ورواته ثقات؛ قاله ابن دقيق العيد رحمه الله، وفي الباب عن عليّ رضي الله عنه، رواه البزار
(1)
.
9 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"هنّ لكم سنة، وعليّ فريضة: السواك، والوتر، وقيام الليل"، رواه البيهقيّ، وفي إسناده موسى بن عبد الرحمن الصنعانيّ، وهو متروك، قال البيهقيّ: لم يثبت في هذا شيء.
10 -
(ومنها): ما رواه ابن خزيمة، وابن حبان، وأبو داود، والحاكم، والبيهقيّ، من حديث عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان، أو غير طاهر، فلما شَقّ ذلك عليه، أمِر بالسواك عند كل صلاة، ووُضِع عنه الوضوء إلا من حدث"، وهو حديث حسنٌ.
11 -
(ومنها): ما رواه أحمد، والطبرانيّ، من حديث واثلة بن
(1)
قد سبق أن الشيخ الألبانيّ رحمه الله صححه.
الأسقع رضي الله عنه مرفوعًا: "أُمرتُ بالسواك حتى خشيت أن يُكتَب عليّ"، وفيه ليث بن أبي سُليم، وهو متروك.
12 -
(ومنها): حديث رافع بن خَدِيج، وغيره: "السواك واجبٌ
…
" الحديث، رواه أبو نعيم، وإسناده واهٍ.
وروى ابن ماجَهْ من طريق أبي أمامة: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك"، وإسناده ضعيف، وقد تقدم من طُرُق صحيحة.
13 -
(ومنها): حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أُحصي يتسوك، وهو صائم"، رواه أصحاب السنن، وابن خزيمة، وعلّقه البخاريّ، وفيه عاصم بن عُبيد الله، وهو ضعيفٌ، فقال ابن خزيمة: أنا أبرأ من عُهدته، لكن حسّن الحديث غيره، قاله الحافظ رحمه الله.
14 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها: "من خير خصال الصائم السواك"، رواه ابن ماجهْ، وهو ضعيف، في إسناده مجالد بن سعيد، ليس بالقويّ، ورواه أبو نعيم من طريقين آخرين عنها، وروى النسائيّ في "الكنى"، والعقيليّ، وابن حبان في "الضعفاء"، والبيهقي من طريق عاصم، عن أنس رضي الله عنه:"يستاك الصائم أول النهار وآخره، برطب السواك ويابسه"، ورفعه، وفيه إبراهيم بن بيطار الْخُوَارَزْميّ، قال البيهقيّ: انفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال: إبراهيم بن عبد الرحمن، قاضي خُوَارَزْم، وهو منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يصحّ، ولا أصل له من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا من حديث أنس، وذكره ابن الجوزيّ في "الموضوعات".
وله شاهد من حديث معاذ، رواه الطبرانيّ في "الكبير"، وقال أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا الهيثم بن خارجة، ثنا يحيى بن حمزة، عن النعمان بن المنذر، عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، عن ابن عباس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تسوّك، وهو صائم".
ورَوَى البيهقيّ عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: لك السواك إلى العصر، فإذا صليت العصر فألقه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لَخُلُوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، وقد تقدم، وفي إسناده عمر بن قيس سندل، وهو متروك.
ورَوَى ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، من حديث قتادة، عن أبي هريرة نحوه، وفيه انقطاع
(1)
.
15 -
(ومنها): حديث مُحرِز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نام ليلةً حتى استَنَّ، رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"، وروى في "كتاب السواك" من حديث أبي عتيق، عن جابر، أنه كان يستاك إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل، وإذا خرج إلى الصلاة، فقلت له: قد شققت على نفسك، فقال: إن أسامة أخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستاك هذا السواك. وفيه حرام بن عثمان، وهو متروك
(2)
.
16 -
(ومنها): حديث عبد الله بن عمرو: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يستاكوا بالأسحار"، رواه أبو نعيم، وفي إسناده ابن لَهِيعة، وهو ضعيف.
17 -
(ومنها): حديث العباس: كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "تدخلون علي قُلْحًا، استاكوا
…
"، الحديث، رواه البزار، والبغويّ، والطبرانيّ، وابن أبي خيثمة، قال أبو علي بن السكن: فيه اضطراب.
ورواه أحمد من حديث تمام بن العباس، ورواه الطبراني من حديث جعفر بن تميم، أو تمام، عن أبيه، وقيل: عن تمام بن قُثَم، أو قُثَم بن تمام، في "مسند أحمد".
وروى الطبرانيّ، والبيهقيّ من حديث ابن عباس، قال: أتى رجلان النبيّ صلى الله عليه وسلم حاجتهما واحدة، فوَجَدَ مِن فيه إخلافًا فقال:"أما تستاك؟ " قال: بلى
…
الحديث.
18 -
(ومنها): حديث أبي موسى رضي الله عنه في السواك على طرف اللسان، متفقٌ عليه.
19 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستاك، فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله، فأدفعه إليه. رواه أبو داود.
وفي "الصحيحين" عنها في قصة سواك عبد الرحمن بن أبي بكر، قالت: فأخذته، فقضمته، ثم أعطيته له.
(1)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 36.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 69 وفيه حرام بن عثمان المذكور.
20 -
(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: "أراني أتسوّك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كَبِّر"، متفق عليه، وروى أبو داود بسند حسن عن عائشة نحوه.
21 -
(ومنها): حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "الغسل يوم الجمعة واجبٌ، وأن يَستَنَّ، وأن يمس طيبًا إن قَدَرَ عليه"، متفق عليه.
وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم.
22 -
(ومنها): حديثُ عليّ رضي الله عنه: "إن أفواهكم طُرُق للقرآن، فطهِّروها بالسواك"، رواه أبو نعيم، ووقفه ابن ماجَهْ
(1)
.
ورواه أبو مسلم الكجيّ في "السنن"، وأبو نعيم، من حديث الْوَضِين، وفي إسناده مَندَل، وهو ضعيف.
23 -
(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته يبدأ بالسواك"، رواه ابن حبّان في "صحيحه"، وأصله في مسلم.
24 -
(ومنها): حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "أكثرتُ عليكم في السواك"، رواه البخاري.
وذكره ابن أبي حاتم في "العلل" من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، بلفظ:"عليكم بالسواك"، وأعله أبو زرعة بالإرسال، ورواه مالك في "الموطأ" من حديث عُبيد بن السَّبّاق مرسلًا.
25 -
(ومنها): حديث أنس رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك بفضل وَضُوئه"، رواه الدارقطنيّ، وفي إسناده يوسف بن خالد السَّمْتيّ، وهو متروك، ورواه من طريق أخرى عن الأعمش، عن أنس، وهو منقطع، وفي البخاري تعليقًا: أن جريرًا رضي الله عنه أمر أهله بذلك، ووصله ابن أبي شيبة.
26 -
(ومنها): حديثُ: "يجزي من السواك الأصابع"، رواه ابن عديّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث عبد الله بن المثنى، عن النضر بن أنس، عن أنس، وفي إسناده نظر، وقال الضياء المقدسيّ: لا أرى بسنده بأسًا. وقال البيهقيّ: المحفوظ عن ابن المثنى، عن بعض أهل بيته، عن أنس
(1)
تقدّم أنه صحيحٌ.
نحوه، ورواه أيضًا من طريق ابن المثنى، عن ثُمامة، عن أنس.
ورواه أبو نعيم، والطبرانيّ، وابن عديّ، من حديث عائشة، وفيه المثنى بن الصبّاح، وهو ضعيفٌ.
ورواه أبو نعيم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، وكثيرٌ ضعفوه.
وأصحّ من ذلك ما رواه أحمد في "مسنده"، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه "دعا بكوز من ماء، فغسل وجهه وكفيه ثلاثًا، وتمضمض، فأدخل بعض أصابعه في فيه
…
" الحديث، وفي آخره: هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورَوَى أبو عبيد في "كتاب الطهور" عن عثمان أنه: "كان إذا توضأ يسوك فاه بإصبعه".
وروى الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: "نعم"، قلت: كيف يصنع؟ قال: "يُدخِل إصبعه في فيه"، رواه من طريق الوليد بن مسلم، ثنا عيسى بن عبد الله الأنصاريّ، عن عطاء، عنها، وقال: لا يُروَى إلا بهذا الإسناد.
قال الحافظ: عيسى ضعّفه ابن حبان، وذكر له ابن عدي هذا الحديث من مناكيره.
27 -
(ومنها): حديث جابر رضي الله عنه: "كان السواك من أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم موضع القلم من أذن الكاتب"، رواه الطبراني من حديث يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عنه، وقال: تفرد به يحيى بن اليمان، وسئل أبو زرعة عنه في "العلل"، فقال: وَهِمَ فيه يحيى بن يمان، إنما هو عند ابن إسحاق، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد من فعله.
قال الحافظ: كذا أخرجه أبو داود، والترمذيّ، ورواه الخطيب في "كتاب الرواة عن مالك"، في ترجمة يحيى بن ثابت، عنه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسوِكَتهم خَلْفَ آذانهم، يستنون بها لكل صلاة.
28 -
(ومنها): حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "السواك يُذهِب البلغم،
ويفرح الملائكة، ويوافق السنة"، رواه أبو نعيم
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[596]
(253) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أحد مشايخ الستّة المذكور قبل بابين.
2 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بِشْر الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
3 -
(مِسْعَر) - بكسر، فسكون - ابن كِدَام - بكسر الكاف - ابن ظُهير الْهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحِ) بن هانئ بن يزيد الْحَارثيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبيه، وقَمِير امرأة مسروق، وروى عنه ابنه يزيد، والأعمش، وإسرائيل، وشعبة، والثوريّ، وعبد الملك بن أبي سليمان، وقيس بن الربيع، ومِسْعَر، وشَرِيك.
قال أحمد، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (253) وأعاده بعده، و (300) و (2413) وأعاده بعده، و (2594).
5 -
(أَبُوهُ) هو: شُريح بن هانئ بن يزيد بن نَهِيك، أو الحارث بن كعب الحارثيّ الْمَذْحِجيّ، أبو المِقْدام الكوفيّ، مُخضرَمٌ، ثقةٌ [2].
(1)
سنده ضعيف.
أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَرَه، ورَوَى عن أبيه، وعُمر، وعليّ، وبلال، وسعد، وأبي هريرة، وعائشة.
ورَوَى عنه ابناه: المقدام ومحمد، والقاسم بن مُخَيْمِرة، والشعبيّ، والحكَم بن عُتيبة، ومقاتل بن بَشير، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان من أصحاب عليّ رضي الله عنه، وشَهِدَ معه المشاهد، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقُتِلَ بسِجِسْتان مع عبيد الله بن أبي بكرة، وقال الحسن بن الْحُرّ، عن القاسم بن مُخَيْمِرة: ما رأيت أفضل منه، وأثنى عليه خيرًا، وقال الأثرم: قيل لأحمد: شُرَيح بن هانئ صحيح الحديث؟ قال: نعم، هذا متقدِّم جدًّا، وقال الْمَرُّوذيّ، عن أحمد: ثقةٌ، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال خليفةُ: قتل مع ابن أبي بكرة بسِجِسْتان سنة ثمان وسبعين، وكذا قال ابن حبان، وقال ابن الْبَرْقيّ: كان على شُرْطة عليّ رضي الله عنه، وذكره مسلم في الْمُخَضْرَمِين.
أخرج له البخاريّ،. في "خلق أفعال العباد"، وفي "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث، برقم (253) وأعاده بعده، و (276) و (300) و (2413) وأعاده بعده، و (2594) و (2684) و (2685).
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت ترجمتها في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 315. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، مرتين، والعنعنة في البقيّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير المقدام، وأبيه، فما أخرج لهما البخاريّ في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير الصحابيّة، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، رَوَت (2210) أحاديث، وهي أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبيها، وأفقه نساء الأمة، وكان إليها الفتوى في وقتها، فكان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم يستفتونها، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْمِقْدَامِ) بكسر الميم (ابْنِ شُرَيْحٍ) بضمّ أوله، مصغّرًا (عَنْ أَبِيهِ) شُريح بن هانئ، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ) أي بأيّ عَمَل من الأعمال، فـ "أيُّ" هنا استفهاميّة.
[فائدة]: "أَيّ " تكون شرطًا، واستفهامًا، وموصولةً، وهي بعض ما تضاف إليه، وذلك البعض مبهمٌ مجهولٌ، فإذا استفهمت بها، وقلتَ: أَيُّ رجلٍ جاء؟ وأيُّ امرأةٍ قامت؟ فقد طلبت تعيين ذلك البعض المجهول، ولا يجوز الجواب بذلك البعض إلا مُعَيَّنًا، وإذا قلت في الشرط: أَيَّهُم تَضْرِبْ أَضْرِبْ، فالمعنى: إن تَضْرِب رجلًا أضرِبْهُ، ولا يقتضي العموم، فإذا قلت: أيُّ رجلٍ جاء، فأَكْرِمه، تعين الأول، دون ما عداه، وقد يقتضيه لقرينة، نحوُ: أَيُّ صلاةٍ وقعَت بغير طهارة وجب قضاؤها، وأيُّ امرأة خرجت فهي طالق.
وتزاد "ما" عليها نحو: "أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر"، والإضافة لازمة لها لفظًا أو مَعْنًى، وهي مفعول إن أضيفتَ إليه، وظرف زمان إن أضيفت إليه، وظرف مكان إن أضيفت إليه، والأفصح استعمالها في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث؛ لأنها اسم، والاسم لا تلحقه هاء التأنيث الفارقةُ بين المذكر والمؤنث، نحوُ: أَيُّ رجلٍ جاء، وأَفيُ امرأة قامت، وعليه قوله تعالى:{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} ، وقال تعالى:{بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، وقال عمرو بن كلثوم [من الوافر]:
بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْرُو بْنَ هِنْدٍ
وقد تُطَابَقُ في التذكير والتأنيث، نحوُ أَيّ رجلٍ، وأيّة امرأةٍ، وقُرِئ في الشاذ:"بأية أرض تموت"، وقال الشاعر:
أَيَّةُ جَارَاتِكَ تِلْكَ الْمُوصِيَةُ
وإذا كانت موصولةً فالأحسن استعمالُها بلفظ واحد، وبعضهم يقول: هو الأفصح، وتجوز المطابقة، نحو: مررت بأيهم قام، وبأيتهن قامت، وتقع صفةً تابعةً لموصوف، وتطابَقُ في التذكير والتأنيث؛ تشبيهًا بالصفات المشتقّات، نحو: برجل أَيِّ رجلٍ، وبامرأة أيَّةِ امرأةٍ، وحَكَى الجوهري التذكير فيها أيضًا، فيقال: مررت بجاريةٍ أَيّ جارية، ذكره الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟) أي في أيّ وقت كان، ليلًا أو نهارًا، قالت عائشة رضي الله عنها مجيبةً عن هذا السؤال (قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ) متعلّق بمحذوف دلّ عليه السؤال، أي يبدأ بالسواك، أي الاستياك، أو باستعمال السواك، على ما تقدّم من إطلاقه على المعنيين.
قال السنديّ رحمه الله: ولا يَخفى أن دخوله البيت لا يختصّ بوقت دون وقتٍ، فكذا السواك، ولعله إذا انقطع عن الناس بالوحي، وقيل: كان ذلك لاشتغاله بالصلاة النافلة في البيت، وقيل: غير ذلك. انتهى.
وقال القرطبيّ: يَحْتَمل أن يكون ذلك لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة، فقلّما كان يتنفّل في المسجد، فيكون السواك لأجلها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة" فيه نظر لا يَخفى؛ لأنه لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان كلّما دخل البيت بدأ بالصلاة، كما نُقل في هذا الحديث أنه كان يبدأ بالسواك، فإن حديث عائشة رضي الله عنها يدلّ على مداومته على السواك عند الدخول؛ لا سيما عند من يقول: إن "كان" تقتضي الدوام، وهو الراجح، كما سبق بيانه، وأما أنه كان يبدأ بالصلاة على الدوام، فلم يرد ما يدلّ عليه، وغاية ما هنالك أنه كان لا يتنفّل غالبًا إلا في البيت، وهذا لا يلزم منه أن يُصلي كلما دخل، فتبصّر، فالأحسن في التعليل ما قاله بعضهم من أن ذلك من باب حسن معاشرة الأهل بإزالة ما يحصل من تغيّر الفم عند محادثة الناس، أو طول السكوت، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع "المصباح المنير" 1/ 34.
(2)
"المفهم" 1/ 509.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[15/ 596 و 597](253)، و (أبو داود) في "الطهارة"(51)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(290)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(8)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 168)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 41 - 42 و 110 و 182 و 188 و 192 و 237)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(134)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1074)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(476 و 477)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(589 و 590)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(251)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 34)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب السواك عند دخول البيت، وقد صرّح به أبو شامة، والنوويّ، قال ابن دقيق العيد: ولا يكاد يوجد ذلك في كتب الفقهاء. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان حسن معاشرة الأهل؛ لأنه يزيد في الودّ، ودوام الصُّحبّة.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال النظافة في جميع أحواله.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من تتبّع أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال عنها؛ للاقتداء به فيها.
[تنبيه]: قال القرطبيّ في "المفهم": هذا الحديث يدلّ على استحباب تعاهد استعمال السواك، لما يكره من تغيّر الفم بالأبخرة، والأطعمة وغيرها.
قال: وعلى أنه يُتجنّب استعمال السواك في المساجد والمحافل، وحضرة الناس، ولم يُروَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تسوّك في المسجد، ولا في محفل من الناس؛ لأنه من باب إزالة القذر والوسخ، ولا يليق بالمساجد، ولا محاضر الناس، ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملإ من الناس. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 1/ 509.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا أقول: لا يليق بمثل القرطبيّ أن يتكلّم، ويُصدِرَ مثل هذا الحكم المخالف للنصوص الواضحة، فكيف يقول:"ولم يُرْوَ عنه صلى الله عليه وسلم .. إلخ" بعد أن شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة"؟ وهل الصلاة تكون في غير المسجد؟، وهل ثبت لديه أن جميع من كان معه صلى الله عليه وسلم في المسجد خرجوا من المسجد بعد إقامة الصلاة؛ لأجل السواك، إن هذا لهو العجب العجاب.
وهل بعد ما جاء من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سُوكهم خلف آذانهم، يستنّون بها لكلّ صلاة يُطلب بيّنة أوضح؟.
وبالجملة فالقول بأنه لا يستاك في المسجد قولٌ باطلٌ، منابذ للسنة الصحيحة.
وأما السواك في الملإ فسنّة ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: "أقبلت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك
…
" الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[597]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع الْعَبديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10](ت بعد 240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجة [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانَ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحافظ الحجة الفقيه، رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون تقدّموا في السند السابق، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[598]
(254) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ غَيْلَانَ، وَهُوَ ابْنُ جَرِيرِ الْمَعْوَلِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) وقيل: الشَّيْبَانيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضَميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ الْمِعْوَلِيُّ) الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أنس بن مالك، وأبي قيس، زياد بن رَبَاح، ومُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وعبد الله بن مَعْبَد الزِّمّانيّ، وأبي بُرْدة بن أبي موسى، وأبي قِلابة الْجَرميّ، وعامر الشعبيّ، وصفوان بن مُحْرِز، وغيرهم.
ورَوَى عنه موسى بن أبي عائشة، وأيوب، وجرير بن حازم، ومَهْديّ بن ميمون، وشدّاد بن سعيد، أبو طلحة الراسبيّ، وشعبة، وأبو هلال الراسبيّ، وأبان بن يزيد العطار، وحماد بن زيد، وآخرون.
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة، ونسبه ضَبّيًّا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: "الْمِعْوَلِيُّ" - بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو -: نسبة إلى مِعْوَلَة، بطنٌ من الأزد، وقال السمعانيّ: بفتح الميم، وتبعه النوويّ في "شرحه"، وخطَّأه ابن الأثير في "اللباب"، قال: والصواب بكسر الميم، وفتح الواو، ومال إليه السيوطيّ في "اللبّ"
(1)
.
4 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ، عبد الله بن قيس بن سُلَيم بن حضّار الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير أبي بُرْدة، فكوفيّ، وأما أبو موسى، فإنه سكن البلدتين، فإنه كان واليًا على البصرة زمن عمر، وعلى الكوفة زمن عثمان رضي الله عنهم.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث مختصر من حديث أبي موسى رضي الله عنه الطويل، وسيأتي للمصنّف رحمه الله بطوله في "كتاب الإمارة"(1824) من طريق قُرّة بن خالد، حدّثنا حُميد بن هلال، حدثني أبو بُرْدة، قال: قال أبو موسى: أقبلت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، فكلاهما سأل
(1)
راجع "اللباب" 3/ 238، و"الأنساب" 5/ 348 - 349، و"لبّ اللباب" 2/ 267.
العمل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يَستَاك، فقال:"ما تقول يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس؟ " قال: فقلت: والذي بعثك بالحقّ ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شَعَرتُ أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته، وقد قَلَصَت
(1)
، فقال:"لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس"، فبعثه على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قَدِمَ عليه، قال: انْزِل، وأَلْقَى له وِسَادةً، وإذا رجل عنده مُوثَقٌ، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًّا فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقْتَلَ قضاءَ الله ورسوله، فقال: اجلس نعم، قال: لا أجلس حتى يُقتَل قضاء الله ورسوله، ثلاث مرّات، فأَمَر به، فقُتِل، ثم تذاكرا القيام من الليل، فقال أحدهما، معاذٌ: أما أنا فأنام، وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي. انتهى.
وسيأتي شرحه مستوفًى في محلّه - إن شاء الله تعالى.
(وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ) جملة حاليّة إما من الفاعل، أو من "النبيّ صلى الله عليه وسلم"، يعني أنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم، والحال أن طرف السواك على لسانه صلى الله عليه وسلم يستاك به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[15/ 598](254)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(244)، و (أبو داود) في "الطهارة"(49)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(4)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(141)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1073)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 35)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(478 و 479 و 480 و 481)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(591)، والله تعالى أعلم.
(1)
أي انجمعت، أو ارتفعت.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدّة الاهتمام به، وتكراره.
2 -
(ومنها): جواز الاستياك بحضرة الناس، وقد عقد الإمام النسائيّ رحمه الله في "سننه" بقوله:"بابٌ هل يستاك الإمام بحضرة رعيّته". انتهى.
قال في "الفتح": يستفاد منه أن السواك من باب التنظيف والتطيّب، لا من إزالة القاذورات؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يَختف به. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن في رواية البخاريّ قال: "أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدته يستنّ بسواك بيده يقول: أع أع، والسواك في فيه، كأنه يتهوّع". انتهى.
ومعنى التهوّع: هو التقيّؤ، أي له صوتٌ كصوت المتقيّئ على سبيل المبالغة، ويُستفاد منه مشروعيّة السواك على اللسان طولًا، وأما الأسنان، فالأحبّ فيها أن تكون عَرْضًا، وفيه حديث مرسلٌ عند أبي داود، وله شاهد موصولٌ عند العقيليّ في "الضعفاء"، قاله في "الفتح"
(2)
.
4 -
(ومنها): أنه يُستفاد من قوله: "وطرف السواك على لسانه" استحباب الاستيعاب بالسواك، وأنه لا تختصّ به الأسنان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[599]
(255) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 235) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"الفتح" 1/ 424.
(2)
"الفتح" 1/ 424.
2 -
(هُشَيْم) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ، [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
4 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سَلَمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
5 -
(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حِسْل، أو حُسَيل حليف الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهم، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، فالرواة كلهم كوفيّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: حصينٌ، عن أبي وائل.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وأنه من السابقين إلى الإسلام، وثبت في "صحيح مسلم" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ) أي ليصلّي، وهو مضارع تَهَجّد، يُطلق على الصلاة، وعلى النوم، قال الجوهريّ رحمه الله: هَجَدَ، وتهجّد: أي نام ليلًا، وهَجَدَ، وتهجّد: أي سَهِرَ، وهو من الأضداد، ومنه قيل لصلاة الليل: التهجُّد، والتهجيد: التنويم، قال لبيد [من الرمل]:
قَالَ هَجِّدْنِي فَقَدْ طَالَ السُّرَى
…
وَقَدَرْنَا إِنْ خَنَا الدَّهْرِ غَفَلْ
(1)
وقال الفيّوميّ رحمه الله: هَجَدَ هُجُودًا، من باب قَعَدَ: نام بالليل، فهو هاجدٌ، والجمعُ: هُجُودٌ، مثلُ راقد ورُقُود، وقاعد وقُعُود، وواقف ووُقُوف، وهُجَّدٌ أيضًا، مثلُ رُكَع، وهَجَدَ أيضًا: صَلَّى بالليل، فهو من الأَضداد، وتَهَجّد: نام، وصَلَّى كذلك. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": أما التهجد فهو الصلاة في الليل، ويقال: هَجَدَ الرجل: إذا نام، وتَهَجّد: إذا خرج من الْهُجُود، وهو النوم بالصلاة، كما يقال: تَحَنَّث، وتَأَثَّمَ، وتَحَرَّج: إذا اجتنب الْحِنثَ، والإثم، والْحَرَج. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر عبارة النوويّ أنه لا يرى هَجَدَ بمعنى صلّى، والحقّ ما سبق في عبارة الجوهريّ، والفيّوميّ من أن هَجَدَ، وتَهَجّد يُطلق كلّ منهما على النوم، وعلى الصلاة، فهما من الأضداد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
ووقع في رواية للبخاريّ في "الوضوء" بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل"، ولم يقل:"ليتهجّد". قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه استحباب السواك عند القيام من النوم " لأن النوم مقتضٍ لتغيّر الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه، فيُستحبّ عند مقتضاه. قال: وظاهر قوله: "من الليل" عامّ في كلّ حالة، ويَحْتَمِل أن يُخصّ بما إذا قام إلى الصلاة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الثاني هو الصواب؛ لأن رواية المصنّف هذه بلفظ: "إذا قام ليتهجّد" مقيّدة لإطلاقه، ويشهد لهذا أيضًا حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي آخر الباب، حيث قال:"فتسوّك، وتوضّأ، ثم قام، فصلّى"، والله تعالى أعلم.
(يَشُوصُ) - بفتح الشين المعجمة، وسكون الواو، بعدها صاد مهملة -: أي يَدْلُكُ، و"الشَّوْصُ": دَلْك الأسنان بالسِّوَاك عَرْضًا قاله ابن الأعرابيّ،
(1)
"الصحاح" 2/ 483.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 634.
وإبراهيم الْحَرْبيّ، وأبو سليمان الخطابيّ، وآخرون، وقيل: هو الْغَسْلُ، قاله الهرويّ، وغيره، وقيل: التنقية، قاله أبو عُبيد، والداوديّ، وقيل: هو الْحَكّ، قاله أبو عُمَر بن عبد البرّ، وتأوّله بعضهم أنه بإِصْبَعه، فهذه أقوال الأئمة فيه، وأكثرها متقاربة، وأظهرها الأول، وما في معناه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": "الشَّوْصُ" - بالفتح -: الْغَسْل والتنظيف، كذا في "الصحاح"، وفي "المحكم": الغسل عن كُرَاع، والتنقية عن أبي عبيد، والدلك عن ابن الأنباريّ، وقيل: الإمرار على الأسنان من أسفلُ إلى فوقُ، واستدل قائله بأنه مأخوذ من الشَّوْصة، وهي ريحٌ تَرفع القلب عن موضعه، وعَكَسه الخطابيّ، فقال: هو دلك الأسنان بالسواك، أو الأصابع عَرْضًا. انتهى
(2)
.
وقال العينيّ رحمه الله: قال ابن سِيده: شاص الشيءَ شَوْصًا: غَسَله، وشاص فاه بالسواك شَوْصًا: غسله، وقيل: أَمَرّه على أسنانه من سُفْل إلى عُلْوٍ، وقيل: أن يطعن به فيها، وقد شاصه شَوْصًا وشَوَصَانًا، وشاص الشيءَ شَوْصَا: دَلَكَهُ، وشاصَ الشيءَ: زَعْزَعه، وفي "الجامع": كل شيء غسلته، فقد شُصْته، وقال أبو عُبيد: شُصته نقّيته، وفي "الغريبين": كلُّ شيء غسلته، فقد شُصته، ومُصْته، وقال ابن عبد البرّ: هو الحكّ، وقال الخطّابيّ: الشَّوْصُ: دلكُ الأسنان عَرْضًا، وقيل: غسل الشيء في لين ورِفْق. انتهى
(3)
.
(فَاهُ) بالنصب على أنه مفعول به لـ"يشوص"، ونصبه بالألف؛ لأنه من الأسماء الستة التي تُرفع بالواو، وتُنصَب، وتُجرّ بالياء، وهي التي ذكرها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ
مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا
…
وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا
"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"
…
وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ
وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ
…
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 144 - 145.
(2)
"الفتح" 1/ 424.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 69.
وَشَرْطُ ذَا الإِعْرَاب أَنْ يُضَفْنَ لَا
…
لِلْيَا كـ "جَا أَخُو أَبِيكَ ذَا اعْتِلَا"
وقوله: (بِالسِّوًاكِ) متعلّقٌ بـ "يشوص"، وهو بكسر السين: الآلة، أي العود، أو نحوه.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان من هديه إذا قام من الليل يدلُكُ أسنانه بالسواك؛ إزالةً لتغيّر الفم من النوم.
وفيه دليل على استحباب السواك عند القيام من النوم؛ لأن النوم مقتضٍ لتغيّر الفم؛ لما يتصاعد إليه من أبخرة المعِدَة، والسواكُ آلة تنظيفه، فيُستحبّ عند مقتضاه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[15/ 599 و 600 و 601](255)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(245) و"التهجّد"(1136) و"الجمعة"(889)، و (أبو داود) في "الطهارة"(55)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(2)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(286)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 48)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 168 و 169)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 397 و 402 و 407)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 175)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(136)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1072) و (1075)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 38)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(202)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(482 و 484 و 485)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(592 و 593 و 594 و 595).
وأما فوائد الحديث، وبقيّة مسائله، فقد تقدّمت في شرح حديث أوّل الباب، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 283 - 284.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[600]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ
…
" بِمِثْلِه، وَلَمْ يَقُولُوا: "لِيَتَهَجَّدَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ المعروف بابن راهويه، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(جَرِير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، قاضي الريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(مَنْصُور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
4 -
(ابْنُ نُمَيْر) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
6 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
7 -
(الْأَعْمَشُ) هو: سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ ورعٌ، عارف بالقراءة، لكنه يُدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ) الضمير لمنصور، والأعمش، ووقع في نسخة بلفظ "كليهما"، فيكون بتقدير فعل، أي أعني كليهما، وقد تقدّم نظيره.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث حُصين عن أبي وائل.
وقوله: (وَلَمْ يَقُولُوا: "لِيَتَهَجَّدَ") الضمير لمنصور، والأعمش، وذكره بضمير الجمع، إما على مذهب من يقول: أقلّ الجمع اثنان، وهو الأصحّ، كما في قوله عز وجل:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، وقد حقّقت هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، في الأصول، أو على التجوّز، كما هو مذهب الجمهور، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية منصور، والأعمش هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية حُصين ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 313)، فقال:
(593)
- حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا أبو الربيع، ثنا جرير (ح) وحدثنا أبو أحمد، ثنا عبد الله، ثنا إسحاق، أنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح) وحدثنا فاروق بن عبد الكبير، ثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا مسدّد، ثنا أبو معاوية (ح) وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، نا الحسن بن سفيان، نا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبي، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، يشوص فاه بالسواك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[601]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَحُصَيْنٍ، وَالْأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة أيضًا:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بن عثمان الْعَبْديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد
البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، إمام الجرح والتعديل [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام المشهور المذكور في ثالث حديث هذا الباب.
[تنبيه]: "سفيان" في سند المصنّف رحمه الله هو الثوريّ؛ لأن الراوي عنه عبد الرحمن بن مهديّ، وقد سبق أن بيّنّا أنه إذا أطلق سفيانَ أهل الطبقة التاسعة، كابن مهديّ، ويحيى القطّان، وأبي نعيم، ووكيع، ونحوهم، وكذا بعض كبار العاشرة، كمحمد بن كثير، فإنه الثوريّ؛ لكثرة روايتهم عنه، وإذا رووا عن ابن عيينة بيّنوه، وأما إذا أطلق أهل الطبقة العاشرة، كقتيبة، والحميديّ، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، ونحوهم، فإنه ابن عيينة؛ لكثرة روايتهم عنه.
وإنما نبّهتُ على هذا، وإن كان واضحًا عند المتخصّصين بمعرفة طبقات الرجال؛ لأني رأيت، أبا عوانة أخرج هذا الحديث في "مسنده"(1/ 165) رقم (482) من رواية سفيان بن عيينة، عن منصور بسند المصنّف، فخشيتُ أن يظنّ من لا دراية له بطبقات الرجال أن سفيان في سند المصنّف هو ابن عيينة بمجرّد ما يرى رواية أبي عوانة، هذه.
ومما يوضّح ذلك أن أبا عوانة رحمه الله أخرج الحديث بعد رواية ابن عيينة المذكورة من طريق أبي نُعيم، قال: ثنا سفيان، عن منصور، وحُصين، عن أبي وائل
…
بإسناده، بمثل حديث ابن عيينة. انتهى.
فبيّن أن سفيان هذا هو الثوريّ، وأنه روى عن منصور، مثل رواية ابن عيينة عنه، فتنبّه لهذه الدقائق، فإنها من نفائس علم الإسناد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (وَحُصَيْنٍ، وَالْأَعْمَشِ) بالجز عطفًا على "منصور"، فسفيان يروي عن الثلاثة كلِّهم، وهو عن أبي وائل، وقد وقع في النسخ المطبوعة رفع "حصين"، و"الأعمش" بضبط القلم، وهو غلط فاحشٌ، فليُتنبَّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[602]
(256) - (حَدثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّل، أَن ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلةٍ، "فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ اللَّيْل، فَخَرَجَ، فَنَظَرَ فِي السَّمَاء، ثُمَّ تَلَا هَذهِ الْآيَةَ في آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190] حَتَّى بَلَغَ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْت، فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ، ثُمَّ قَامَ، فَخَرَجَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاء، فتَلَا هَذ الْآيَةَ، ثُمَّ رَجَعَ، فتَسَوَّكَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الْكِسّيّ، قيل: اسمه عبد الحميد، و"عبدٌ" لقبه، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكَين، واسمه عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم، الأحول الْمُلائيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 218)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْعَبديّ، أبو محمد البصريّ القاضي، ثقةٌ [6].
رَوَى عن الحسن البصريّ، ومحمد بن واسع، وأبي المتوكل، وسعيد بن مسروق.
ورَوَى عنه ابن المبارك، وابن مهديّ، ورَوْح بن عُبادة، وأبو علي الحنفيّ، وابن عيينة، والقطان، وأبو نعيم، وعِدّة.
قال أحمد: ليس به بأسٌ ثقةٌ، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أبو حاتم، عن مسلم بن إبراهيم: كان شعبة يقول: اذهبوا إلى إسماعيل بن مسلم العبديّ، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (256) و (1226) و (1584) و (1968) و (1987).
4 -
(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ) هو: عليّ بن داود، ويقال: ابن دُؤَاد - بضمّ الدال، بعدها همزة - الناجيّ - بنون، فجيم - الساميّ البصريّ، مشهور بكنيته [3].
رَوَى عن أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وأم سلمة، وربيعة الْجُرَشيّ.
ورَوى عنه ثابت البنانيّ، وقتادة، وبكر بن عبد الله الْمُزَنيّ، وحميد الطويل، وأبو بِشْر جعفر بن أبي وَحْشيّةَ، وسليمان بن علي الرَّبَعيّ، وسليمان الأسود الناجيّ، وعاصم الأحول، وعليّ بن عليّ الرِّفَاعيّ، وإسماعيل بن مسلم العبديّ، وخالد الحذاء، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ما علمت إلا خيرًا، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وابن المدينيّ، والنسائيّ: ثقةٌ، ووثَّقَه العجليّ، والبزار، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (108)، وقال ابن قانع: مات سنة (102).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (256) و (308) و (715) و (1584) و (1987) و (1996) و (2201) و (2217).
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ، وإسماعيل بن مسلم، فتفرّد به هو، والترمذيّ، والنسائيّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فكسّيّ، نسبة إلى كسّ - بكسر الكاف، وتشديد السين المهملة، ويَنطق بها الناس بفتح الكاف، وبشين معجمة -: مدينة بما وراء النهر
(1)
.
5 -
(ومنها): أن إسماعيل، وأبا المتوكّل هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما روى المصنّف لكلّ منهما فيه.
(1)
راجع "الأنساب" 5/ 70 - 72، و"اللباب" 3/ 98.
6 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى، وقد تقدّم هذا غير مرّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن أبي المتوكّل الناجيّ رحمه الله (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ، أَنَّهُ) أي ابن عبّاس (بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلة من الليالي، فـ "ذات" مقحمة (فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ) أي في آخره، فـ "من" بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، أي في يوم الجمعة (فَخَرَجَ) أي من البيت (فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ) أي إليها، فـ "في" بمعنى "إلى"، كما في قوله تعالى:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} الآية [إبراهيم: 9] أي إلى أفواههم (ثُمَّ تَلَا) أي قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم (هَذ الْآيَةَ فِي) سورة (آلِ عِمْرَانَ) وقوله: ({إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار}) بدل من الآية محكيّ؛ لقصد لفظه (حَتَّى بَلَغَ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}) ظاهره أنه ما أكمل قراءة الآيات إلى آخر السورة.
[فإن قلت]: هذا يعارضه ما سيأتي للمصنّف في "كتاب الصلاة"
(1)
مما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم ختم السورة، فقد أخرجه، من طريق محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، أنه رَقَد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ، فتسوّك، وتوضأ، وهو يقول:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} ، فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فَعَل ذلك ثلاث مرات، ست ركعات، كل ذلك يستاك، ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأَذَّن المؤذن، فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، ومن أمامي
(1)
سيأتي برقم (763).
نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا".
فإن هذا صريح في كونه صلى الله عليه وسلم قرأ الآيات إلى آخر السورة، فكيف الجمع بينهما؟.
[قلت]: يمكن أن يجاب بتعدّد الواقعة، ففي مرّة قرأ إلى قوله:{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وفي مرّة أخرى قرأ إلى آخر السورة.
ويحتمل أن يكون التقدير هنا "حتى بلغ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "، أي مع ما بعدها إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْت، فَتَسَوَّكَ) أي استعمل السواك، وهو عُود الأَراك، يقال: سُكتُ الشيءَ أسوكه سَوْكًا، من باب قال: إذا دلكته، وسَوَّكَ فاه تسويكًا، وإذا قيل: تسوّك، أو استاك لم يُذكَر الفم؛ أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في أول الباب، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ) أي وضع جنبه بالأرض، قال المجد رحمه الله: ضَجَعَ كمنع ضَجْعًا، وضُجُوعًا: وَضَع جنبه بالأرض، كانضجع، واضطجع، واضّجَعَ، والْطَجَعَ. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَجَعتُ ضَجْعًا، من باب نَفَعَ، وضُجُوعًا: وضعتُ جنبي بالأرض، وأضجعت بالألف لغةٌ، فأنا ضاجع، ومُضْجِعٌ، وأضجعتُ فلانًا بالألف لا غير: ألقيتُهُ على جنبه، وهو حسنُ الضِّجْعة - بالكسر - والْمَضْجَع - بفتح الميم -: موضع الضُّجُوع، والجمع مضاجع، واضْطَجَعَ، واضَجَعَ، والأصل افْتَعَلَ، لكن من العرب من يَقلِب التاء طاءً، ويظهرها عند الضاد، ومنهم من يَقلب التاء ضادًا، ويدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يُقال: اطَّجَعَ بطاء مُشدَّدة؛ لأن الضاد لا تُدغم في الطاء، فإن الضاد أقوى منها، والحرف لا يُدغم في أضعف منه، وما ورد شاذّ، لا يُقاس عليه. انتهى
(3)
.
(1)
راجع "المصباح المنير" 1/ 297.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 55.
(3)
المصباح المنير" 2/ 358.
وإلى قاعدة قلب تاء الافتعال طاءً أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ
…
فِي "ادَّانَ" و"ازْدَدْ" وَ"ادَّكِرْ" دَالًا بَقِي
(ثُمَّ قَامَ) صلى الله عليه وسلم (فَخَرَجَ) من البيت (فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاء، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) المذكورة آنفًا (ثُمَّ رَجَعَ) إلى البيت (فَتَسَوَّكَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى) قد ذكر المصنّف رحمه الله هذا الحديث هنا مختصرًا، وسيذكره في "كتاب الصلاة" مطوّلًا من طرق متعدّدة، وسنستوفي شرحه، وذكر فوائده الكثيرة هناك - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[15/ 602](256)، وفي "الصلاة"(763)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(183)، و"الوتر"(992)، و"العمل في الصلاة"(1198)، و"التفسير"(4570 و 4571 و 4572)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1367)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(3/ 210 - 321)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(262)، و (ابن ماجهْ) في "الصلاة"(1363)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 121 - 122)، (وعبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4708)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 242 و 358)، و (أبو عوانة)(2/ 315 - 316)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(596)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2579 و 2592 و 2626)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 7)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب السواك عند القيام من النوم في الليل.
2 -
(ومنها): بيان جواز اضطجاع المميّز عند محرمه، وإن كان زوجها معها.
3 -
(ومنها): استحباب صلاة الليل.
4 -
(ومنها): استحباب قراءة الآيات المذكورة عند الانتباه من النوم في الليل، والتفكّر فيما اشتملت عليه من الآيات العظام.
5 -
(ومنها): استحباب النظر إلى السماء للتفكّر في بديع صنع الله عز وجل.
6 -
(ومنها): جواز تخلّل النوم بين صلوات الليل، وتكرار ما ذُكر من السواك، وقراءة الآيات، والوضوء.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال ومن تبعه: فيه دليل على رَدّ مَن كَرِه قراءة القرآن على غير طهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ.
وتعقّبه ابن الْمُنَيِّر وغيره بأن ذلك مُفَرَّعٌ على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"تنام عيناي، ولا ينام قلبي"، وأما كونه توضأ عقب ذلك، فلعله جَدّد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.
قال الحافظ: وهو تعقُّبٌ جَيِّد بالنسبة إلى قول ابن بطال: "بعد قيامه من النوم"؛ لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عَقَّب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدثٌ، وهو نائم. نعم، خصوصيته أنه إن وقع شَعَر به، بخلاف غيره، وما ادَّعَوه من التجديد وغيره، الأصل عدمه، وقد سَبَق الإسماعيليُّ إلى معنى ما ذكره ابن الْمُنيِّر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تعقّب العينيّ على عادته المستمرّة كلام الحافظ هذا، ولكنه تعقّب بلا طائل، فتأمّله بالإنصاف، وبقيّة مباحث الحديث ستأتي في "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 1/ 345.
(16) - (بَابُ خِصَالِ الْفِطْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[603]
(257) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ - أَوْ - خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَار، وَنَتْفُ الْإِبْط، وَقَصُّ الشَّارِبِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ المذكور في الباب الماضي.
4 -
(سُفْيَانَ بْنُ عُيَينَةَ) الإمام المشهور المذكور في الباب الماضي.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشيّ، أبو بكر المدنيّ، الإمام الحافظ الحجة الفقيه، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الإمام الحجة الفقيه الشهير، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيوخه، فالأول والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وأبو بكر كوفيّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ، والباقيان بغداديّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيّب.
5 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: أصحّها أبو الزناد، عن الأعرج، عنه، وقيل: حماد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن ابن سيرين، عنه، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ
…
سَعِيدٍ اوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ
عَنْ أَعْرَج وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا
…
أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَى
6 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدّموا غير مرّة.
7 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، بل هو رئيسهم، وتقدّموا غير مرّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْفِطْرَةُ) مبتدأ، وهو - بكسر الفاء، وسكون الطاء المهملة -: بمعنى الْخِلْقة، والمراد بها هنا السنّة القديمة التي اختارها الله تعالى للأنبياء، فكأنها أمر جِبِلّيّ، فُطِروا عليها، وسيأتي اختلاف العلماء في معناها، في "المسائل" - إن شاء الله تعالى -. وقوله:(خَمْسٌ) خبر المبتدأ، وليس المراد به الحصر، فسيأتي بلفظ "عشرٌ من الفطرة"، فالحديث من أدلّة القائلين: إن مفهوم العدد غير معتبر، وقوله:(أَوْ) للشكّ من الراوي، أي أو قال (خَمْسٌ مِنَ الْفِطرَةِ) بتقديم لفظ "خمس"، وهو أظهر من الأول في إفادة عدم الحصر، وسَوَّغ الابتداء بالنكرة فيه أن فوله:"خمس" صفة لموصوف محذوفٍ، تقديره: خصالٌ خمسٌ، ثم فسرها، أو على الإضافة، أي خمسُ خصالٍ، ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الذي شُرعَ لكم خمسٌ من الفطرة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: التعبير في بعض روايات الحديث بالسنة بدل الفطرة يراد بها الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جَزَم بذلك الشيخ أبو حامد، والماورديّ، وغيرهما، وقالوا: هو كالحديث الآخر: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين".
وأغرب القاضي أبو بكر بن العربيّ، فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبةٌ، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين! كذا قال في "شرح الموطأ".
وتعقّبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق، وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها؛ اكتفاءً بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كافٍ.
ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دَلّ الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من أركانه، لا من زوائده، حتى يقوم دليل على خلافه، وقد وَرَدَ الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال أُمر بها إبراهيم عليه السلام، وكلُّ شيء أَمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به.
وتُعُقِّب بأن وجوب الاتّباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه، بل يتم الاتّباع بالامتثال، فإن كان واجبًا على المتبوع كان واجبًا على التابع، أو ندبًا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق ما هو الواجب من هذه الخصال، وما هو غير الواجب منها، عند تفصيل كلّ خصلة في المسائل الآتية - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه آخر]: اختُلِف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة - أعني "خمس من الفطرة" - فقيل: لرفع الدلالة، وأن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل: بل كان أُعْلِم أوّلًا بالخمس، ثم أُعلِم بالزيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب
(1)
10/ 352.
المقام، فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وقيل: أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخصس المذكورة، كما حُمل عليه قوله:"الدين النصيحة"، و"الحج عرفة"، ونحو ذلك، ويدلّ على التأكيد ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا:"من لم يؤخذ شاربه فليس منا"، وسنده قويّ، وأخرج أحمد من طريق يزيد بن عمرو الْمَعَافريّ نحوه، وزاد فيه:"حلق العانة، وتقليم الأظافر"، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (الْخِتَانُ) بدل، أو عطف بيان لـ "خمس"، أو خبر لمحذوف، أي أجدها، أو مفعول لفعل مقدّر، أي أعني، وهو - بكسر الخاء المعجمة -: قطع الْقُلْفَة
(2)
التي تُغطّي الْحَشَفَة من الرجل، وقطع بعض الجِلْدة التي في فم فرج المرأة، ويسمّى خِتان الرجل إِعْذَارًا - بالعين المهملة، والذال المعجمة، والراء - وخِتان المرأة خَفْضًا - بالخاء المعجمة، والفاء، والضاد المعجمة
(3)
- قاله العراقيّ رحمه الله.
وقال المجد رحمه الله: خَتَنَ الولدَ يَخْتِنُهُ - من باب ضرب - وَيخْتُنُهُ - من باب نصر - فهو خَتِين، ومَختون: قَطَعَ غُرْلَتَهُ، والاسم ككِتَاب، وكتَابَةٍ. والْخِتَانَةُ: صِنَاعته، والْخِتَانُ موضع من الذكر. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": الْخِتَان - بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف المثنّاة - مصدر خَتَنَ: أي قَطَعَ، والْخَتْنُ - بفتح، فسكون -: قطعُ بعض مخصوص من عضو مخصوص، والْخِتَان اسم لفعل الخاتن، ولموضع الْخَتْن أيضًا، كما في حديث عائشة رضي الله عنها:"إذا التقى الختانان".
وقال أيضًا: قال أبو عُبيد: عَذَرتُ الجارية والغلام، وأعذرتهما:
(1)
"الفتح" 10/ 349.
(2)
"الْقُلْفة": الجِلدة التي تُقطع في الختان، وجمعها قُلَفٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، والْقَلَفَة مثلها، والجمع قَلَفٌ، وقَلَفَاتٌ، مثلُ قَصَبَة وقَصَب وقَصَبَات؛ قاله في "المصباح" 2/ 514.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 75.
(4)
"القاموس المحيط" ص 1075.
ختنتهما، وأختنتهما وزنًا ومعنىً، قال الجوهريّ: والأكثرون: خَفَضتُ الجارية، قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا وُلد في القمر فُسِخت قُلْفَته، أي اتّسعت، فصار كالمختون. انتهى بتصرّف
(1)
، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
(وَالاسْتِحْدَادُ) بالحاء، والدال المهملتين: هو حلق العانة بالحديد، سُمّي استحدادًا؛ لاستعمال الحديدة فيه، وهي الموسَى؛ قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الفتح": "الاستحداد" - بالحاء المهملة - استفعال من الحديد، والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد، قيل: بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يُسْتَحْيَى منه، إذا حصل الإفهام بها، وأغنى عن التصريح، والذي يظهر - قال الحافظ - أن ذلك من تصرّف الرواة، فقد وقع في حديثي أنس، وعائشة رضي الله عنهما الآتيين قريبًا بلفظ:"وحلق العانة"، وكذا وقع في رواية النسائيّ
(3)
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أيضًا بلفظ: "وحلق العانة"، فتنبّه.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الاستحداد: استفعال من الحديد، وهو إزالة شعر العانة بالحديد، فأما إزالته بغير ذلك، كالنتف، وبالنُّورة، فهو مُحصِّل للمقصود، لكن السنّة والأَولى الأوّل الذي دلّ عليه لفظ الحديث، فإن الاستحداد استفعال من الحديد. انتهى
(4)
، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثامنة - إن شاء الله تعالى -.
(وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ) هو تفعيل من القلْم، وهو القطع، والمراد: تقطيع ما طال منها، وهو مبالغة الْقَلْم، يقال: قَلَمته قَلْمًا، من باب ضَرَبَ: إذا قطعته، وقَلَمتُ الظُّفر: أخذتُ ما طال منه، وقَلَّمتُ بالتشديد مبالغة، وتكثير؛ أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(5)
.
(1)
"الفتح" 10/ 352.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 148.
(3)
راجع النسائيّ 1/ 15 رقم (11).
(4)
"إحكام الأحكام" 1/ 342 - 345 بنسخة "الحاشية".
(5)
"المصباح المنير" 2/ 515.
ووقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "قَصّ الأظفار"، وفي حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ:"قَصّ الأظفار"، والتقليم أعمّ.
و"الأَظفار" - بفتح الهمزة -: جمع ظُفُر - بضم الظاء والفاء، وبسكونها - وحَكَى أبو زيد كسر أوله، وأنكره ابن سِيدَهْ، وقد قيل: إنها قراءة الحسن، وعن أبي السمّاك أنه قرأ بكسر أوله وثانيه؛ قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الظفر" للإنسان مذكّر، وفيه لغات:
[أفصحها]: بضمّتين، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} الآية [الأنعام: 146].
[والثانية]: الإسكان؛ للتخفيف، وقرأ بها الحسن البصريّ، والجمع أَظفار، وربّما جُمِع على أُظْفُر، مثلُ رُكْن وأَرْكُن.
[والثالثة]: بكسر الظاء، وزانُ حِمْل.
[والرابعة]: بكسرتين؛ للإتباع، وقُرئ بهما في الشاذّ.
[والخامسة]: أُظْفُور، والجمع أظافير، مثلُ أُسبوع وأسابيع، قال الشاعر [من البسيط]:
مَا بَيْنَ لُقْمَتِهِ الأُولَى إِذَا انْحَدَرَتْ
…
وَبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قِيدُ أُظْفُورِ
انتهى المقصود من كلام الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
والمراد بتقليمها إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإِصْبَع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه، فيُستَقذَر، وقد ينتهي إلى حدٍّ يَمنَعُ من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وفيه خلاف سيأتي تحقيقه في المسألة الحادية عشرة - إن شاء الله تعالى -.
(وَنَتْفُ الْإِبْطِ) أي نَزْعُ شعرها، يقال: نتَفتُ الشعرَ نَتْفًا، من باب ضرب: إذا نزعته
(3)
.
و"الإِبْطُ": بكسر، فسكون: ما تحت الْجَناح، يذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو
(1)
"الفتح" 10/ 357.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 385.
(3)
"المصباح" 2/ 592.
الإبط، وهي الإبطُ، والجمع آباطٌ، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمالٍ، ويزعم بعض المتأخّرين أن كسر الباء لغة، وهو غير ثابت؛ قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "يزعم .. إلخ" وهذا هو الذي أثبته صاحب "القاموس"، ودونك عبارته:"الإبْطُ": باطن المنكب، وتُكسَر الباء، وقد يؤنّثُ، جمعه: آباطٌ. انتهى
(2)
، وسيأَتي تمام البحث فيه في المسألة الثانية عشرة - إن شاء الله تعالى -.
(وَقَصُّ الشَّارِبِ") أي قطع الشعر النابت على الشفة العليا، يقال: قَصَصتُه قَصًّا، من باب قتل: إذا قطعته، وقَصّيته بالتثقيل مبالغة، والأصل قَصّصته، فاجتمع ثلاثة أمثال، فأُبدل من إحداها ياء للتخفيف، وقيل: قَصّيتُ الظفرَ ونحوه، وهو الْقَلْمُ؛ قاله الفيّوميّ
(3)
.
و"الشارب": هو الشعر الذي يَسيل على الفم، قال أبو حاتم: ولا يكاد يُثَنّى، وقال أبو عُبيدة: قال الكلابيّون: شاربان باعتبار الطرفين، والجمع شوارب؛ قاله الفيّوميّ أيضًا
(4)
.
وقال في "القاموس"، و"شرحه": الشوارب: ما سال على الفم من الشعر، قال اللحيانيّ: وقالوا: إنه لعظيم الشوارب، قال: وهو من الواحد، فُرِّقَ، فجُعِل كلُّ جزء منه شاربًا، ثمّ جُمع على هذا، وقد طَرّ شارب الغلام، وهما شاربان. انتهى.
وقيل: إنما هو الشارب، والتثنية خطأٌ، وقال أبو عليّ الفارسيّ: لا يكاد الشارب يُثنَّى، ومثله قال أبو حاتم. قال أبو عبيدة: قال الكلابيّون: شاربان باعتبار الطرفين، والجمع شوارب. انتهى
(5)
.
وسيأتي تمام البحث في قصّ الشارب في المسألة الثالثة عشرة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 1 - 2.
(2)
"القاموس المحيط" ص 592.
(3)
"المصباح" 2/ 505.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 308.
(5)
راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" في مادّة "شرب".
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[16/ 603 و 604](257)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 921) موقوفًا، و (البخاريّ) في "اللباس"(5889 و 5891) و"الاستئذان"(6297) وفي "الأدب المفرد"(1257)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4198)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2756)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(9 و 10 و 11) وفي "الزينة"(5043 و 5044 و 5235)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(292)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 229 و 239 و 283 و 410 و 489)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5479 و 5480 و 5481)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(470 و 471)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(597 و 598)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 149)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3195)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان خصال الفطرة، وهي السنّة على ما يأتي من بيان اختلاف العلماء فيها في "المسألة التالية" - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): ما قيل: إنه يُستفاد منه أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ لأنه اقتصر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه على خمس، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما على ثلاث، وفي حديث عائشة رضي الله عنها على عشر، مع ورود غيرها، فأفاد ذلك أن العدد لا يقتضي نفي الزيادة عليه، وهو قول أكثر الأصوليين.
وأجاب من قال بحجّيّته بما تقدّم من أن الله تعالى أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالزيادة في خصال الفطرة بعد أن لم يكن أعلمه حين حدّث ببعضها؛ قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان عناية الشرع في أمور النظافة، فقد شرع الله عز وجل هذه الخصال لمراعاة النظافة.
(1)
"طرح التثريب" 1/ 237 - 238.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذه الخصال مجتمعة في أنها محافظة على حسن الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الْخِلْقة التي خُلِق الإنسان عليها، وبقاء هذه الأمور، وترك إزالتها يُشوِّه الإنسان، ويُقبِّحه بحيث يُستقذَرُ، ويجتنَبُ، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى، فسُمّيت هذه الخصال فِطرةً لهذا المعنى، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": ويتعلَّق بهذه الخصال مصالحُ دينية ودنيوية، تُدرَك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملةً وتفصيلًا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يَتَأَذَّى به، من رائحة كريهة، ومخالفةُ شعار الكفّار، من المجوس، واليهود، والنصارى، وعبّاد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]؛ لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل: قد حَسَّنتُ صوركم، فلا تُشَوِّهوها بما يُقَبِّحها، أو حافظوا على ما يَستَمِرّ به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أَدْعَى لانبساط النفس إليه، فيُقْبَل قوله، ويُحمَد رأيه، والعكس بالعكس. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما أن هذه الخصال هي التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم؛ فأتمّهنّ، فجعله الله تعالى إمامًا.
أخرج عبد الرزاق في "تفسيره"، والطبريّ بسند صحيح، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية [البقرة: 124] قال: ابتلاه الله تعالى بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد
…
الحديث
(3)
.
وفي "تفسير ابن كثير" رحمه الله: وقد اختُلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل؛، فرُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في ذلك روايات، فرُوي عنه: ابتلاه الله بالمناسك، ورُوي عنه: ابتلاه بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس
(1)
"المفهم" 1/ 511 - 512.
(2)
"الفتح" 10/ 351.
(3)
راجع "الفتح" 10/ 350.
في الجسد، في الرأس: قصّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظافير، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. رواه الطبريّ، والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ
(1)
.
وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية قال: عشر، ستّ في الإنسان، وأربع في المشاعر، فأما التي في الإنسان، فحلق العانة، ونتف الإبط، والختان، وكان ابن هُبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب، والسواك، وغسل يوم الجمعة، والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت خصال الفطرة المذكورة في هذا الحديث وغيره، فقلت:
يَا أَيُّهَا الطَّالِبُ حُسْنَ السِّيرَةِ
…
عَلَيْكَ إِدْمَانُ خِصَالِ الْفِطْرَةِ
فَإِنَّهَا تَصُونُ حُسْنَ الصُّورَةِ
…
وَتَحْفَظُ الْوُدَّ مَعَ الْعَشِيرَةِ
فَاخْتَتِنَنْ وَاسْتَكْ وَقَلِّمْ وَافْرُقِ
…
وَاغْسِلْ بَرَاجِمَكَ ثُمَّ اسْتَنْشِقِ
وَمَضْمِضَنْ وَاسْتَنْثِرَنْ وَانْتَضِحَا
…
وَقُصَّ شَارِبَكَ وَفِّرِ اللِّحَى
وَاسْتَنْجِ وَاحْلِقْ عَانَةً وَاغْتَسِلِ
…
لِجُمْعَةٍ بِنَتْفِ إِبْطٍ أَكْمِلِ
فَتِلْكَ عَشْرٌ مَعَ خَمْسٍ وَرَدَا
…
فِيمَا مِنَ الأَخْبَارِ نَقْلُهُ بَدَا
وَبَعْضُهَا بِهَا الْخَلِيلُ قَدْ بُلِي
…
فَفَازَ أَنْ كَانَ إِمَامَ الْكُمَّلِ
وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ
…
يَا فَوْزَ مَنْ نَالَ سُلُوكَ شَرْعِهِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الفطرة:
قال الخطابيّ رحمه الله: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة،
(1)
رواه ابن جرير الطبريّ (1910)، و"الحاكم" في "المستدرك" 2/ 266.
(2)
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في "مختصر تفسير ابن كثير" 1/ 231 - 232: إسناد ابن أبي حاتم في هذا إلى ابن عباس إسناد صحيح.
وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنها من سنن الأنبياء.
وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج"، وقال النووي في "شرح المهذّب": جزم أبو إسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين.
واستَشْكَل ابن الصلاح ما ذكره الخطابيّ، وقال: معنى الفطرة بعيدٌ من معنى السنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف، أي سنة الفطرة.
وتعقّبه النوويّ بأن الذي نقله الخطابي هو الصواب، فإن في "صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من السنة قَصُّ الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار"، قال: وأصح ما فُسِّر الحديث بما جاء في رواية أخرى، لا سيّما في البخاري. انتهى.
قال الحافظ: وقد تبعه شيخنا ابن الملَقّن على هذا، ولم أَرَ الذي قاله في شيء من نسخ البخاريّ، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ:"الفطرة"، وكذا من حديث أبي هريرة. نعم، وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية، وفي أخرى بلفظ:"الفطرة"، كما في رواية مسلم، والنسائيّ، وغيرهما.
وقال الراغب: أصل الفَطْر - بفتح الفاء - الشّقّ طُولًا، ويُطلَق على الوهي، وعلى الاختراع، وعلى الإيجاد، والفِطْرة: الإيجاد على غير مثال.
وقال أبو شامة: أصل الفطرة الْخِلْقة المبتدَأَة، ومنه فاطر السماوات والأرض، أي المبتدئ خَلْقَهُنّ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مولود يولد على الفطرة"، أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، والمعنى أن كلَّ أحد لو تُرِك من وقت ولادته، وما يؤديه إليه نظره، لأدّاه إلى الدين الحقّ، وهو التوحيد، ويؤيده قوله تعالى قبلها:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30] وإليه يشير في بقية الحديث، حيث عَقّبه بقوله:"فأبواه يهوِّدانه، وينصِّرانه".
والمراد بالفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فُعِلت اتَّصَفَ فاعلُها بالفطرة التي فَطَر الله العباد عليها، وحَثَّهم عليها، واستحبها لهم؛ ليكونوا على أكمل الصفات، وأشرفها صورة. انتهى.
وقد ردّ القاضي البيضاويّ الفطرةَ في حديث الباب إلى مجموع ما وَرَدَ في معناها، وهو الاختراع، والسنة، فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، وكأنها أَمْرٌ جِبِلِّيّ، فُطِروا عليها. انتهى
(1)
.
وقال العلامة أبو عبد الله القرطبي المفسّر رحمه الله: واختَلَف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة، منها:
الإسلام، قاله أبو هريرة، وابن شهاب، وغيرهما، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف، من أهل التأويل.
واحتجوا بالآية، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعَضَدُوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يومًا: "ألا أحدّثكم بما حدّثني الله في كتابه؟ إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء، مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا، لا حرام فيه، فجَعَلوا مما أعطاهم الله حلالًا وحرامًا
…
" الحديث
(2)
، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"خمس من الفطرة"، فذكر منها قصّ الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل، فيكون معنى الحديث أن الطفل خُلِق سليمًا من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم، حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يُدركوا في الجنة، أولاد مسلمين كانوا، أو أولاد كفار.
وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، أي على ما فَطَر الله عليه خلقه، من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ، قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة، والفاطر المبتدئ.
واحتجُّوا بما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، قال المروزيّ: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.
(1)
راجع "الفتح" 10/ 351 - 352 "كتاب اللباس" رقم (5889).
(2)
حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أخرجه مسلم مطوّلًا في "كتاب الجنة، وصفة نعيمها"، برقم (2865).
قال أبو عمر في كتاب "التمهيد" له: ما رَسَمَه مالك في "موطئه" وذَكَر في "باب القدر" فيه من الآثار يدلّ على أن مذهبه في ذلك نحوُ هذا، والله أعلم.
ومما احتجُّوا به ما رُوِيَ عن كعب القرظيّ في قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صَيَّره إلى الضلالة، وإن عَمِل بأعمال الهدى، ومَن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيَّره إلى الهدى، وإن عَمِل بأعمال الضلالة، ابتَدَأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعَمِل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم ردَّه الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
قال القرطبيّ: وجاء معنى قول كعب هذا مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عُصفُور من عصافير الجنة، لم يَعمَل السوء، ولم يدركه، قال:"أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب اَبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"، أخرجه ابن ماجه في "السنن". وخرّج أبو عيسى الترمذيّ، عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كتابان، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان؟ "، فقلنا: لا، يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى:"هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمِل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا يُنقَص منهم أبدًا"، ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمِل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا
…
"، وذَكَر الحديث، وقال فيه: حديث حسن.
وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، ولا قوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مولود يولد على الفطرة" العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذ لو فَطَر الجميع على الإسلام، لَمَا كَفَرَ أحدٌ، وقد ثبت أنه خَلَق أقوامًا للنار، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179]، وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء، وقال في الغلام الذي قتله الخضر:"طُبع يومَ طُبع كافرًا".
ورَوَى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: صَلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار، وفيه: وكان فيما حَفِظنا أن قال: ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات شتّى، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم حَسَنُ القضاء، حسَنُ الطلب"، أخرجه الترمذيّ
(1)
.
قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب، ألا ترى إلى قوله عز وجل:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأحقاف: 25]، ولم تُدَمِّر السماوات والأرض، وقوله:{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 44]، ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.
وقال إسحاق بن راهويه الحنظليّ: تَمّ الكلام عند قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ، ثم قال:{فِطْرَتَ اللَّهِ} أي فَطَر الله الخلق فطرة، إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:"كلُّ مولود يولد على الفطرة"، ولهذا قال: لا تبديل لخلق الله.
قال شيخنا أبو العباس: من قال: هي سابقة السعادة والشقاوة، فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} ، وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تُبَدَّل وتغير.
وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خُلِق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال:"كلُّ مولود يولد على خلقةٍ، يَعْرِف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة"، يريد: خلقةً مخالفةً لخلقة البهائم التي لا تَصِل بخلقتها إلى معرفته.
واحتجُّوا على أن الفطرة الخلقةُ، والفاطر الخالق؛ لقول الله عز وجل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، يعني خالقهنّ، وبقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، يعني خالقهنّ، وبقوله:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، يعني خلقني، وبقوله:{الَّذِي فَطَرَهُنَّ} ، يعني خلقهن،
(1)
حديث ضعيف، أخرجه الترمذيّ، في "الجامع" برقم (4/ 483) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق، وأنكروا أن يكون المولود يُفْطَر على كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقةً، وطبعًا، وبنيةً، ليس معها إيمان ولا كفر، ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا.
واحتجُّوا بقوله في الحديث: "كما تُنْتَج البهيمة بهيمةً جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء؟ "، يعني مقطوعة الأذن، فَمَثَّل قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق، ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعدُ، وأنوفها، فيقال: هذه بَحائر، وهذه سوائب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السائمة، فلما بَلَغُوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلَّهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم، ما انتقلوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا؛ لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} الآية [النحل: 78]، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا أصحّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها.
ومن الحجة أيضًا في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثّر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يُرْتَهَن بشيء، وقال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولَمّا أجمعوا على دفع القَوَد والقصاص، والحدود، والآثام عنهم في دار الدنيا، كانت الآخرة أولى بذلك، والله تعالى أعلم.
ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلامَ، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل.
وأما قول الأوزاعيّ: سألت الزهريّ عن رجل عليه رقبة، أيجزي عنه الصبيّ أن يُعْتِقه وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه وُلد على الفطرة، يعني الإسلام، فإنما أجزأ عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه، وخالفهم آخرون، فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى.
وليس في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، ولا في أن يَختم الله للعبد بما قضاه له، وقدَّره عليه دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنًا أو كافرًا؛ لِمَا شَهِدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يَعقِل إيمانًا ولا كفرًا.
والحديث الذي جاء فيه أن الناس خُلِقوا على طبقات ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به عليّ بن زيد بن جُدْعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه، على أنه يَحْتَمِل قوله:"يولد مؤمنًا"، أي يولد ليكون مؤمنًا، ويولد ليكون كافرًا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث:"خَلَقتُ هؤلاء للجنة، وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يُختَم به لهم، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يَستحقّ جنةً أو نارًا، أو يعقل كفرًا أو إيمانًا.
قال القرطبيّ رحمه الله: وإلى ما اختاره أبو عمر، واحتجّ له ذهب غير واحد من المحققين، منهم ابن عطية في "تفسيره" في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس
(1)
. قال ابن عطية: والذي يُعْتَمَد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة، والهيئة التي في نفس الطفل التي هي مُعَدَّةٌ، ومُهَيَّأَةٌ لأن يُمَيّز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدلّ بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فَطَرَ البشر، لكن تَعرِضهم العوارض، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه"، فذِكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة.
وقال شيخنا
(2)
في عبارته: إن الله تعالى خَلَق قلوب بني آدم مُؤَهَّلَةً لقبول
(1)
هو صاحب "المفهم".
(2)
يعني به أبا العباس القرطبيّ، صاحب "المفهم" رحمه الله.
الحق، كما خَلَق أعينهم وأسماعهم قابلةً للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحقّ، ودين الإسلام، وهو الدين الحقُّ، وقد دلّ على صحة هذا المعنى قوله:"كما تُنْتَجُ البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، يعني أن البهيمة تَلِد ولدها كامل الخلقة، سليمًا من الآفات، فلو تُرِك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملًا بريئًا من العيوب، لكن يُتَصرَّف فيه، فيُجْدَع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات، والنقائص، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقعٌ، وجهه واضح.
قال القرطبيّ: وهذا القول مع القول الأول، موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم، بما نَصَب من الآيات الظاهرة، من خلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار، فلما عَمِلَت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين، فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية، فذهبت بأهوائهم يمينًا وشمالًا، وأنهم إن ماتوا صغارًا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال؛ لأن الله تعالى لَمّا أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذّرّ أقروا له بالربوبية، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية [الأعراف: 172]، ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يُكْتَب العبد في بطن أمه شقيًّا أو سعيدًا على الكتاب الأول، فمن كان في الكتاب الأول شقيًّا، عُمّر حتى يجري عليه القلم، فينقض الميثاق الذي أُخِذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدًا عُمِّر حتى يجري عليه القلم، فيصير سعيدًا، ومن مات صغيرًا من أولاد المسلمين قَبْلَ أن يجري عليه القلم، فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين، فمات قبل أن يجري عليه القلم، فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول، الذي أُخِذ عليهم في صلب آدم، ولم ينقضوا الميثاق.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم لَمّا سئل عن أولاد المشركين، فقال: "الله أعلم بما
كانوا عاملين" يعني لو بلغوا، ودَلّ على هذا التأويل أيضًا حديث البخاريّ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة"، قال: فقيل يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين"، وهذا نَصّ، يرفع الخلاف، وهو أصحّ شيء رُوي في هذا الباب، وغيرُهُ من الأحاديث فيها عِلَلٌ، وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، قاله أبو عمر بن عبد البر رحمه الله.
وقد رُوِي من حديث أنس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:"لم تكن لهم حسنات، فيُجْزَوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات، فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خَدَم لأهل الجنة"، ذكره يحيى بن سلام في "التفسير" له. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس رضي الله عنه الذي فيه أن أولاد المشركين خَدَم أهل الجنّة قال الحافظ في "الفتح": حديث ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسيّ، وأبو يعلى، قال: وللطبرانيّ، والبزّار من حديث سمُرة رضي الله عنه مرفوعًا:"أولاد المشركين خَدَمُ أهل الجنّة"، وإسناده ضعيف. انتهى
(1)
.
وهذا الذي قاله في "الفتح" من تضعيف هذا الحديث هو الذي يظهر لي، وأما محاولة الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة"
(2)
في تصحيحه بمجموع طرقه، فعندي فيه نظر، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال الجامع: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن القول بكون أولاد المشركين في الجنّة هو المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحقّقون - كما قال النوويّ رحمه الله.
وقد ذكروا في هذه المسألة نحو عشرة أقوال، وليس هذا محلّ استيفائها، وإنما ذكرت هذا القدر بسبب تمْسير الفطرة الواردة في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، وسأستوفي هذا البحث في "كتاب القدر" حيث يذكر
(1)
راجع "الفتح" 3/ 290.
(2)
راجع "السلسلة الصحيحة"(3/ 452 - 453) رقم (1468).
المصنّف رحمه الله حديث: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة"
(1)
- إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس"، أو "خمس من الفطرة":
كذا وقع عند الشيخين، وأبي داود، والنسائيّ بالشك، من طريق سفيان بن عيينة، ووقع في رواية أحمد:"خمس من الفطرة"، ولم يشكّ، وكذا في رواية معمر، عن الزهري عند الترمذيّ، والنسائيّ، ووقع في رواية يونس بن يزيد التالية بلفظ:"الفطرة خمس"، وهي محمولة على الأولى.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله في هذه الرواية: "الفطرة خمس"، وقد ورد في رواية أخرى:"خمسٌ من الفطرة"، وبين اللفظين تفاوتٌ ظاهرٌ، فإن الأول ظاهره الحصر، كما يقال: العالم في البلد زيدٌ، إلا أن الحصر في مثل هذا تارةً يكون حقيقيًّا، وتارة يكون مجازيًّا، والحقيقيّ مثاله ما ذكرناه من قولنا:"العالم في البلد زيد" إذا لم يكن فيها غيره، ومن المجاز:"الدين النصيحة"، كأنه بولغ في النصيحة إلى أن جُعل الدين إياها، وإن كان في الدين خصالٌ أخرى غيرها.
قال الجامع عفا الله عنه: تمثيله للمجازيّ بحديث "الدين النصيحة" فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه لا يخرج منه شيء من أمور الدين، حيث استوعب جميع شعبه فيه بقوله:"لله، ولكتا به، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم"، فأي شيء من أمور الدين خرج عن هذا؟، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وإذا ثبت في الرواية الأخرى عدم الحصر - أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" - وجب صرف هذه الرواية عن ظاهرها المقتضي للحصر، وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضًا - يعني رواية مسلم الآتية -:"عشر من الفطرة"، وذلك أصرح في عدم الحصر، وأنصّ على ذلك. انتهى كلام ابن
(1)
سيأتي - إن شاء الله تعالى - في "كتاب القدر" برقم (2658) برقم محمد فؤد عبد الباقي رحمه الله.
دقيق العيد رحمه الله
(1)
.
وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلةً، قال الحافظ: فإن أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمّ من ذلك، فلا تنحصر في الثلاثين، بل تزيد كثيرًا، وأقلّ ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر رضي الله عنه:"من الفطرة حلقُ العانة، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب"، رواه البخاريّ.
وأخرج الإسماعيليّ في رواية له بلفظ: "ثلاثٌ من الفطرة"، وأخرجه في رواية أخرى، بلفظ:"من الفطرة"، فذكر الثلاث، وزاد الختان.
ويأتي للمصنّف حديثُ عائشة رضي الله عنها بلفظ: "عشرٌ من الفطرة
…
"، فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة، إلا الختان، وزاد إعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البراجم، والاستنجاء، أخرجه من رواية مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عنها، لكن قال في آخره: إن الراوي نسي العاشرة، إلا أن تكون المضمضة.
وقد أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ: "عشرةٌ من السنة"، وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق.
وأخرج النسائي من طريق سليمان التيميّ، قال: سمعت طلق بن حبيب يذكر "عشرة من الفطرة"، فذكر مثله، إلا أنه قال:"وشككت في المضمضة"، وأخرجه أيضًا من طريق أبي بشر، عن طلق، قال:"من السنة عشر"، فذكر مثله، إلا أنه ذكر الختان بدل غسل البراجم.
ورجّح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة، قال الحافظ: والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه ابن معين، والعجليّ، وغيرهما، وليّنه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما، فحديثه حسنٌ، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغٌ، وقول سليمان التيميّ: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرًا من الفطرة، يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه
(1)
"إحكام الأحكام" 1/ 340 - 342 بنسخة "الحاشية".
النسائيّ، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرُها وسندَها، فحذف سليمان السند.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ في ترجيح الرواية الموصولة المرفوعة حسن، والله تعالى أعلم.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا، نحو حديث عائشة، قال:"من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وغسل البراجم، والانتضاح"، وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة، ساقه ابن ماجه، وأما أبو داود، فأحال به على حديث عائشة، ثم قال: ورُوي نحوه عن ابن عباس، وقال:"خمس في الرأس"، وذكر منها الفَرْقَ، ولم يذكر إعفاء اللحية.
قال الحافظ: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"، والطبريّ من طريقه بسند صحيح، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية [البقرة: 124]، قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فذكر مثل حديث عائشة، كما في الرواية التي تقدمت عن أبي عوانة، سواءً، ولم يشكّ في المضمضة، وذكر أيضًا الفرق، بدل إعفاء اللحية.
وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس، فذَكَر غسل الجمعة، بدل الاستنجاء، فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلةً، اقتصر أبو شامة في "كتاب السواك، وما أشبه ذلك" منها على اثني عشر، وزاد النووي واحدة في "شرح مسلم"، ذكره في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: أخرج الإمام الترمذيّ رحمه الله من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، رفعه:"أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطير، والسواك، والنكاح"، حديث ضعيف
(2)
.
واختُلِف في ضبط "الحياء"، فقيل: بفتح المهملة، والتحتانية الخفيفة،
(1)
راجع "الفتح" 10/ 349 - 352.
(2)
حديث ضعيف؛ لأن في سنده سفيان بن وكيع، وحجاج بن أرطاة، ضعيفان، وأبو الشمال مجهول.
وقد ثبت في "الصحيحين" أن الحياء من الإيمان، وقيل: هي بكسر المهملة، وتشديد النون، فعلى الأول خصلة معنوية، تتعلق بتحسين الْخُلُق، وعلى الثاني هي خصلة حِسّية، تتعلق بتحسين البدن.
وأخرج البزار، والبغويّ، في "معجم الصحابة"، والحكيم الترمذيّ في "نوادر الأصول" من طريق فُليح بن عبد الله الخطميّ، عن أبيه، عن جدّه، رفعه: "خمس من سنن المرسلين
…
"، فذكر الأربعة المذكورة إلا النكاح، وزاد الحلم، والحجامة، والحلم بكسر المهملة، وسكون اللام، وهو أيضًا حديث ضعيف
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الختان:
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: اختَلَف العلماء، هل هو واجبٌ؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه سنّة، وليس بواجب، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعيّ.
وذهب الشافعيّ إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكيّة.
وذهب بعض أصحاب الشافعيّ إلى أنه واجب في حقّ الرجال، سنّة في حقّ النساء.
واحتجّ من قال: إنه سنّة بحديث أبي المليح بن أُسامة، عن أبيه رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الختان سنّة للرجال، مكرمة للنساء"، رواه أحمد في "مسنده"، والبيهقيّ، ورواه البيهقيّ من رواية أبي أيوب، وابن عبّاس، قال ابن عبد البرّ: إنه يدور على الحجاج بن أرطاة، وليس ممن يُحتجّ به.
وأشار العراقيّ إلى تعقّبه، فقال: قد رواه الطبرانيّ في "مسند الشاميين" من غير طريق الحجاج، من رواية سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التعقّب فيه نظرٌ؛ لأن هذا الطريق أيضًا ضعيف، لأن سعيد بن بشير الأزديّ الشاميّ، ضعيفٌ
(2)
.
(1)
حديث ضعيف. انظر: "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (2858).
(2)
راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 9، و"التقريب" ص 120.
قال العلامة ابن الْمُلقّن في "البدر المنير": هذا الحديث ضعيف بمرّة، وهو مرويّ من طرق:
[أحدها]: من حديث أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، رفعه:"الختان سنّة للرجال، مَكْرَمة للنساء"، رواه أحمد في "مسنده"
(1)
، والبيهقيّ في "سننه"
(2)
من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي المليح، به، وضعْفه لائحٌ بسبب الحجاج هذا، قال البيهقيّ في "سننه": لا يُحتجّ به، وقال ابن الجوزيّ في "تحقيقه": ضعيف.
[ثانيها]: من حديث أبي أيوب، مرفوعًا، به، رواه البيهقيّ في "سننه"
(3)
من حديث الحجاج، عن مكحول، عن أبي أيوب، به، وهو ضعيفٌ منقطع، كما قاله البيهقيّ، وقال ابن أبي حاتم في "علله"
(4)
: سألت أبي عنه، فقال: الذي أتوهّم أنه خطأ، إنما أراد حديث حجاج ما قد رواه مكحول، عن أبي الشمال، عن أبي أيوب، مرفوعًا: "خمس من سنن المرسلين: التعطّر، والحنّاء، والسواك
…
" الحديث، فترك أبا الشمال، فلا أدري هذا من الحجاج، أو من عبد الواحد بن زياد الراوي عنه؟، قال: وقد رواه النعمان بن المنذر، عن مكحول مرسلًا.
[ثالثها]: من حديث ابن عباس، مرفوعًا، به، رواه الطبرانيّ في أكبر معاجمه
(5)
والبيهقيّ في "سننه"
(6)
من حديث الوليد بن الوليد، عن ابن ثوبان، عن محمد بن عجلان، عن عكرمة، عنه، به، قال البيهقيّ: هذا إسناد ضعيف، والمحفوظ أنه موقوف عليه، وكذا قال ابن الرفعة: لا يصحّ، وقال في "المعرفة"
(7)
: إنه لا يثبتُ رفعه.
[رابعها]: من حديث شدّاد بن أوس، مرفوعًا، به، رواه ابن أبي
(1)
5/ 75.
(2)
8/ 325.
(3)
8/ 325.
(4)
2/ 247 رقم (2231).
(5)
"المعجم الكبير" 11/ 233 رقم (11590).
(6)
8/ 324 - 325.
(7)
6/ 466.
شيبة
(1)
وابن أبي حاتم في "علله"
(2)
، والطبرانيّ في "الكبير"
(3)
من حديث حجاج بن أرطاة، عن أبي المليح، عن أبيه، عن شدّاد، به. قال ابن عبد البرّ في "تمهيده"
(4)
بعد أن رواه: هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطاة، وليس ممن يُحتجّ به، وقال ابن القطّان في كتاب "أحكام النظر": هذا حديث منقطع الإسناد. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(5)
.
قال العراقيّ رحمه الله: وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنّة خلاف الواجب، بل المراد به الطريقة.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن الحديث لا يصلح للاحتجاج به؛ لضعفه، فلا حاجة إلى تأويله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
واحتجّوا على وجوبه بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الآية [النحل: 123]، وثبت في "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم"
(6)
.
واستَدَلَّ ابنُ سُريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة، فلولا أن الختان فرضٌ لَمَا أُبيح النظر إليها من المختون.
(1)
"المصنّف " 6/ 233.
(2)
"العلل " 2/ 247.
(3)
"المعجم الكبير" 7/ 273 - 274 رقم (7112 و 7113).
(4)
"التمهيد" 21/ 59.
(5)
راجع "البدر المنير" 6/ 743 - 745.
(6)
قال الماورديّ رحمه الله: "القدوم" بفتح القاف، وتخفيف الدال، وتشديدها: هو الفأس الذي اختتن به إبراهيم عليه السلام، وذهب غيره إلى أن المراد به مكانٌ يُسمّى القدوم، قال أبو عبيد الهرويّ في "الغريبين": يقال: هو مكان مقيله، وقيل: اسم قرية بالشام، وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل: بقرب جبل حَلَب، وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرّح ابن السكّيت بأنه لا يُشدَّد، وأثبت بعضهم الوجهين في كلّ منهما.
ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم؛ لَمّا اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة، وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأشهر أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وعاش بعدها أربعين سنة، ذكره في "الفتح" 10/ 355.
ونقضه ابن عبد البرّ بجواز نظر الطبيب، وليس الطبّ واجبًا إجماعًا.
واحتجّ القفّال لوجوبه بأن بقاء الْقُلْفَة تَحبس النجاسة، وتَمنع صحّة الصلاة، فتجب إزالتها، وشبّهه بالنجاسة في باطن الفم.
وقاسه بعض الشافعيّة على وجوب القطع في السرقة، فقال: هو قطع جزء من البدن، لا يستخلف؛ تعبّدًا، فوجب كالقطع في السرقة، واحترز بعدم الاستخلاف عن الشعر، والظفر، وبالتعبّد عن القطع للآكلة، فإنه لا يجب. انتهى كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب: الشافعيّ، وجمهور أصحابه، وقال به من القدماء عطاءٌ، حتى قال: لو أسلم الكبير لم يَتِمّ إسلامه حتى يَختتن، وعن أحمد، وبعض المالكيّة: يجب، وعن أبي حنيفة: واجبٌ، وليس بفرض، وعنه سنّة يأثم بتركه، وفي وجه للشافعيّة: لا يجب في حقّ النساء، وهو الذي أورده صاحب "المغني" عن أحمد.
وذهب أكثر العلماء، وبعض الشافعيّة إلى أنه ليس بواجب.
ومن حجتهم حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه
(2)
رفعه: "الختان سنّة للرجال، مكرمة للنساء"، وهذا لا حجة فيه؛ لما تقرّر أن لفظ السنّة إذا ورد في الحديث لا يُراد به التي تقابل الواجب، لكن لَمّا وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دلّ على أن المراد افتراق الحكم.
وتُعُقّب بأنه لم ينحصر في الوجوب، فقد يكون في حقّ النساء للإباحة، على أن الحديث لا يَثبتُ؛ لأنه من رواية حجاج بن أرطاة، ولا يُحتجّ به، أخرجه أحمد، والبيهقيّ، لكن له شاهد، أخرجه الطبرانيّ في "مسند الشاميين" من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس، وسعيد مختلف فيه، وأخرجه أبو الشيخ، والبيهقيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس، وأخرجه البيهقيّ أيضًا من حديث أبي أيوب.
(1)
راجع "طرح التثريب" 1/ 238 - 239.
(2)
هذا فيه نظر؛ لأنه تقدّم أنه من رواية أبي المليح، عن أبيه، لا من رواية شدّاد بن أوس، كما هو عند الإمام أحمد في "مسنده"، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق أن هذه الروايات كلّها ضعاف، لا تصلح للاحتجاج بها، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.
واحتجّوا أيضًا بأن الخصال المنتظمة مع الختان ليست بواجبة، إلا عند بعض من شذّ، فلا يكون الختان واجبًا.
وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة، وبالسنّة في الحديث القدرُ المشترك الذي يَجمع الوجوب والندب، والطلب المؤكّد، فلا يدلّ ذلك على عدم الوجوب، ولا ثبوته، فيُطلب الدليل من غيره.
وأيضًا فلا مانع من جمع مختلفي الحكم بلفظ واحد كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فإيتاء الحقّ واجبٌ، والأكل مباح.
هكذا تمسّك به جماعة، وتعقّبه الفاكهانيّ في "شرح العمدة"، فقال: الفرق بين الآية والحديث أن الحديث تضمّن لفظة واحدة، استُعمِلت في الجميع، فتعيّن أن يُحمَل على أحد الأمرين: الوجوب، أو الندب، بخلاف الآية، فإن صيغة الأمر تكرّرت فيها، والظاهر الوجوب، فصُرِف في أحد الأمرين بدليلٍ، وفي الآخر على الأصل.
وهذا التعقّب إنما يتمّ على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يُجيزه كالشافعيّة، فلا يَرِد عليهم.
ثم ذكر أدلّة من أوجب الاختتان، وهي التي تقدّمت في كلام العراقيّ.
ثم قال بعد أن ناقش الاستدلال على الوجوب بفعل إبراهيم عليه السلام ما حاصله: إن الاستدلال بذلك متوقّف على أنه كان في حقّ إبراهيم عليه السلام واجبًا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به، وإلا فالنظر باقٍ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ - كما قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله أنه لم يقم دليلٌ صحيحٌ يدلّ على وجوب الختان، والمتيقّن الندب، كما في حديث:"خمسٌ من الفطرة"، ونحوه، والواجب الوقوف على المتيقّن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال منه.
(1)
"الفتح" 10/ 352 - 354.
والحاصل أن الأرجح هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من أن الختان مستحبّ، لا واجبٌ؛ لعدم دليل الوجوب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: في كيفية الختان:
قال الماورديّ رحمه الله: ختان الذكر: قطعُ الجلدة التي تُغطّي الحشفة، والمستحبّ أن تُستَوعَب من أصلها عند أول الحشفة، وأقلُّ ما يُجزئ أن لا يبقى منها ما يُغشَى به شيء من الْحَشَفة.
وقال إمام الحرمين: المستحبّ في الرجال قطع الْقُلْفَة
(1)
، وهي الجلدة التي تُغطّي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء مُتَدَلٍّ، وقال ابن الصبّاغ: حتى تنكشف جميع الحشفة، وقال ابن كجّ فيما نقله الرافعيّ: يتأدّى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة، وإن قل، بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، قال النوويّ: وهو شاذّ، والأول هو المعتمد. قال الإمام: والمستحقّ من ختان المرأة ما يُطلق عليه الاسم، قال الماورديّ: ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر، كالنواة، أو كَعُرْف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله.
وقد أخرج أبو داود في "سننه" من حديث أم عطيّة رضي الله عنها: أن امرأةً كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة"، وقال: إنه ليس بقويّ.
قال الحافظ: وله شاهد من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في "كتاب العقيقة"، وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقيّ.
وقد استحبّ العلماء من الشافعيّة فيمن يولد مختونًا أن يُمرّ الموسَى على موضع الختان من غير قطع، قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تامًّا، بل يظهر طرف الحشفة، فإن كان كذلك وجب تكميله.
وأفاد الشيخ أبو عبد الله ابن الحاجّ في كتابه "المدخل" أنه اختُلف في النساء، هل يُخفضن عمومًا، أو يفرّق بين نساء المشرق، فيُخفضن، ونساء
(1)
بوزن غُرْفَةٍ، وقَصَبَة، كما أسلفناه.
المغرب، فلا يُخفضن؛ لعدم الفضلة المشروع قطعها منهنّ، بخلاف نساء المشرق؟ قال: فمن قال: إن من وُلد مختونًا استُحبّ إمرار الموسى على الموضع؟ امتثالًا، قال في حقّ النساء كذلك، ومن لا فلا، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في بيان الخلاف في الوقت الذي يُشرَع فيه الختان:
نقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع؛ لأنه فعل اليهود
(2)
، وقال مالك: يَحسُن إذا أثغر: أي ألقى ثَغْره، وهو مقدّم أسنانه، وذلك يكون في سبع سنين وما حولها، وعن الليث: يُستحبّ ما بين سبع سنين إلى عشر سنين، وعن أحمد: لم أسمع فيه شيئًا.
وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "سبع من السنّة في الصبيّ: يُسمَّى في السابع، ويُختن
…
" الحديث، وهو ضعيفٌ.
وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن ابن المنكدر، أو غيره، عن جابر رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ختن حسنًا وحُسينًا لسبعة أيام"، قال الوليد: فسألت مالكًا عنه، فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرةٌ، فكلّما قدّمها كان أحبّ إليّ.
وأخرج البيهقيّ من طريق موسى بن عليّ، عن أبيه، أن إبراهيم؛ خَتَنَ إسحاق، وهو ابن سبعة أيام، ذكر ذلك كله في "الفتح"
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح ما تقدّم عن مالك رحمه الله، حيث قال: الختان طهرة، فكلما قُدّم كان أحبّ، فالأحسن تقديمه قبل سنّ البلوغ، وكلما تقدّم كان أفضل، ولا يتقيّد ذلك بوقت مخصوص؛ لعدم صحّة الدليل على ذلك، والآثار المذكورة كلها ضعيفة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستحداد، وهو حلق العانة:
(1)
10/ 353.
(2)
هكذا قالوا، ويحتاج إلى ثبوت ذلك، والله أعلم.
(3)
10/ 353.
قال النوويّ رحمه الله: المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل، وحواليه، وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة، ونُقل عن أبي العبّاس بن سُريج أنه الشعر النابت حول حَلَق الدبر، فتحصّل من مجموع هذا استحبابُ حلق جميع ما على القبل والدبر، وحولهما، قال: وذكر الحلق لكونه هو الأغلب، وإلا فيجوز الإزالة بالنورة، والنتف، وغيرهما.
وقال أبو شامة: العانة الشعر النابت على الرَّكَب - بفتح الراء، والكاف - وهو ما انحدر من البطن، فكان تحت الثنيّة، وفوق الفرج، وقيل: لكلّ فخذ رَكَبٌ، وقيل: ظاهر الفرج، وقيل: الفرج بنفسه، سواء كان من رجل أو امرأة، قال: ويُستحبّ إماطة الشعر عن القبل والدبر، بل من الدبر أولى؛ خوفًا من أن يعلق شيء من الغائط، فلا يُزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكّن من إزالته بالاستجمار، قال: ويقوم التّنَوُّر مكان الحلق، وكذا النتف، والقصّ.
وسئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض؟ فقال: أرجو أن يُجزئ، قيل: فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحدٌ؟.
وقال ابن دقيق العيد: قال أهل اللغة: العانة الشعر النابت على الفرج، وقيل: هو منبت الشعر، قال: وهو المراد في الخبر.
وقال أبو بكر بن العربيّ: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة؛ لأنه يتكثّف، ويتلبّد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط، قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يُشرَع، وكذا قال الفاكهيّ في "شرح العمدة": إنه لا يجوز، كذا قال، ولم يذكر للمنع مستندًا، والذي استند إليه أبو شامة قويّ، بل ربّما تُصُوِّر الوجوب في حقّ من تعيّن ذلك عليه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل، وأمكنه أن لو حَلَقَ الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط يحتاج معه إلى غسله، وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر المسألة في "الفتح"، وفيه نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل على مشروعية حلق شعر الدبر، فضلًا عن وجوبه، وأما ما ذكره في حقّ من لم يجد الماء، فليس كذلك؛ فإن الشارع شرع الاستنجاء بالأحجار مطلقًا، سواء كان على دبره شعر أو لا، ولم يأمر أحدًا بالغسل بالماء زيادة على الأحجار إذا كان له شعر، ولقد أجاد الشوكانيّ رحمه الله، حيث
قال بعد نقل ما تقدّم ما نصّه: وأقول: الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النوويّ، فلا دليل على سنّيّة حلق الشعر النابت حول الدبر، وإن كان الاحتلاق بالحديد كما في "القاموس"، فلا شكّ أنه أعمّ من حلق العانة، ولكنّه وقع في "صحيح مسلم" وغيره بدل الاستحداد في حديث:"عشرٌ من الفطرة""حلق العانة"، فيكون مبيّنًا لإطلاق الاستحداد في حديث:"خمس من الفطرة"، فلا يتمّ دعوى سنّيّة حلق شعر الدبر، أو استحبابه إلا بدليل، ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل أحد من أصحابه رضي الله عنهم. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في كيفيّة إزالة شعر العانة:
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الأولى في إزالة الشعر هنا الحلق؛ اتّباعًا، ويجوز النتف بخلاف الإبط، فإنه بالعكس؛ لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط يَضْعُفُ بالنتف، ويقوى بالحلق، فجاء الحكم في كلّ من الموضعين بالمناسب.
وقال النوويّ رحمه الله: السنّة في إزالة شعر العانة الحلقُ بالموسَى في حقّ الرجل والمرأة معًا، وقد ثبت الحديث في "الصحيحين" حديثُ جابر رضي الله عنه في النهي عن طَرْق النساء ليلًا حتى تمتشط الشَّعِثَة، وتَستَحِدَّ الْمُغِيبة، لكن يتأدّى أصل السنّة بالإزالة بكلّ مزيل.
وقال أيضًا: والأولى في حقّ الرجل الحلق، وفي حقّ المرأة النتف، واستُشكِل بأن فيه ضررًا على المرأة بالألم، وعلى الزوج باسترخاء المحلّ، فإن النتف يُرخي المحلّ باتّفاق الأطبّاء، ومن ثَمَّ قال ابن دقيق العيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حقّ المرأة؛ لأن النتف يُرخي المحلّ، لكن قال ابن العربيّ: إن كانت شابّةً فالنتف في حقّها أولى؛ لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقّها الحلق؛ لأن النتف يُرخي المحلّ، ولو قيل: الأولى في حقّها التنور مطلقًا لما كان بعيدًا.
(1)
"نيل الأوطار" 1/ 167 - 168.
وحكى النوويّ في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك الزوج منها وجهين، أصحّهما الوجوب ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول النوويّ في التفريق بين الرجل والمرأة، وكذا ما قاله ابن العربيّ في الشابّة والكهلة، كلُّ ذلك مما لا دليل عليه، فالحقّ أن الرجل والمرأة مطلقًا في ذلك سواء، فالسنّة في حقّ الكلّ الحلق، كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، لكن من شقّ عليه ذلك، فله الإزالة بغيره؛ دفعًا للمشقّة، كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): قال في "الفتح": يفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة بأن نتف الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي، بخلاف حلق العانة، فيحرم إلا في حقّ من يباح له المسّ والنظر، كالزوج والزوجة.
ونقل العراقيّ عن النوويّ أنه سوّى بين الإبط والعانة في أنه يتوئى ذلك بنفسه، ولا يتخيّر بين ذلك، وبين مباشرة غيره؛ لما فيه من هتك المروءة والحرمة، بخلاف قصّ الشارب
(2)
.
قال العراقيّ: وهو مسلّم فيما إذا أتى بالأفضل من النتف في الإبط، وأما إذا أتى بالحلق فلا بأس بمباشرة غيره له؛ لعسر تمكنه، كما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله أن المزيّن حلق له. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: المنع لا دليل عليه، وما ذُكر من هتك المروءة غير صحيح، يردّه ما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وأما التنَوُّر، فسئل عنه أحمد رحمه الله فأجازه، وذكر أنه يفعله، وفيه حديث أم سلمة رضي الله عنها، أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ، ورجاله ثقات، ولكنه أعلّه بالإرسال، وأنكر أحمد صحّته، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلى، ووَليَ عانته بيده"، وفي لفظ:"كان إذا اطَّلَى بدأ بعورته، فطلاها بالنُّورة، وسائرَ جسده أهلُهُ"
(3)
.
(1)
"الفتح" 10/ 355 - 356.
(2)
"الفتح" 10/ 356.
(3)
حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه في "سننه" رقم (3751 و 3752).
ومقابله حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يتنوّر، وكان إذا كثُر شعره حلقه"، ولكن سنده ضعيف جدًّا، قاله في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الحكمة في اختصاص الإبط بالنتف، والعانة بالحلق على وجه الأفضليّة أن الإبط محلّ الرائحة الكريهة، والنتفُ يُضعف الشعر، فتخفّ الرائحة الكريهة، والحلق يكثّف الشعر، فتكثر فيه الرائحة الكريهة. انتهى
(2)
.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ العراقيّ رحمه الله أيضًا: [فإن قيل]: قد قدّمتم الاتّفاق على أن حلق العانة، وتقليم الأظفار سنّة، وليست بواجبة، فما وجه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في "مسنده" من حديث رجل من بني غفار:"من لم يَحلق عانته، ويقلّم أظفاره، ويَجُزّ شاربه، فليس منّا"، وهذا يدلّ على وجوب هذه الأشياء؟.
[أُجيب عنه]: بوجهين:
[أحدهما]: أن هذا لا يثبُت؛ لأن في سنده ابن لَهِيعة، والكلام فيه معروفٌ، وإنما يثبُت منه الأخذ من الشارب فقط، كما رواه الترمذيّ، وصحّحه
(3)
، والنسائيّ من حديث زيد بن أرقم، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يأخذ من شاربه، فليس منّا".
[والثاني]: أن المراد على تقدير ثبوته ليس على سنّتنا، وطريقتنا، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن"، فهذا هو المراد قطعًا. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أما الحديث الأول، فهو ضعيف، لا يحتاج إلى التأويل، وأما الحديث الثاني فهو صحيح، كما مرّ آنفًا، وهذا التأويل لا ينافي الوجوب، فالقول بوجوب إحفاء الشوارب، كما هو مذهب ابن حزم، وبعض طائفة هو الظاهر؛ لظاهر الأمر؛ إذ لا صارف له، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
10/ 356.
(2)
"طرح التثريب" 2/ 80.
(3)
حديث صححيح، أخرجه الترمذي في "جامعه" 5/ 93، والنسائيّ رقم (13) و (4691).
(4)
"طرح التثريب" 2/ 81 - 82.
(المسألة الحادية عشرة): في الكلام على تقليم الأظفار:
(اعلم): أن الحديث دلّ على العناية بإزالة ما طال من الظفر؛ لئلا يمنع من تكميل الطهارة، وتحسينًا للهيئة؛ لأنه إذا طال ظفره يكون مشوّه الْخَلْق، مشابهًا للحيوانات، وقد خَلَق الله عز وجل الإنسان في أحسن صورة، وأجمل تركيب، كما قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]، فينبغي المحافظة على هذه الصورة التي أحسن الله تعالى خلقها بإزالة ما أمر الشارع بإزالته، وإبقاء ما أمر الله بإبقائه.
ولقد استحوذ الشيطان على بعض الناس، فزيّن لهم مخالفة أمر الله تعالى، فيُطيلون أظفارهم، ويَحلقون لحاهم، ويوفّرون شواربهم، وهذا هو طاعة الشيطان، ومخالفة هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشابهة لأعداء الإسلام.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، ويأخذ بأيدينا، وأيدي إخواننا، ويردّنا إليه ردًّا جميلًا؛ بمنّه وكرمه آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية عشرة): في كيفيّة قصّ الأصابع:
قال في "الفتح": لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القصّ شيء من الأحاديث، لكن جزم النوويّ في "شرح مسلم" بأنه يُستحبّ البداءة بمسبّحة اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإبهام، وفي اليُسرى البداءة بخنصرها إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مُستندًا، وقال في "شرح المهذّب" بعد أن نَقَل عن الغزاليّ، وأن المازريّ اشتدّ إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزاليّ إلا في تأخير إبهام اليمنى، فالأولى تقديم اليمنى بكمالها على اليسرى، قال: وأما الحديث الذي ذكره الغزاليّ، فلا أصل له.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يَحتاج من ادّعى استحباب تقديم اليد على الرجل في القصّ إلى دليل، فإن الإطلاق يأبى ذلك.
قال الحافظ: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء، والجامع التنظيف، وتوجيه البداء باليمنى؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:"كان يُعجبه التيمّن في طهوره وترجّله، وفي شأنه كلّه"، والبداءة بالمسبّحة منها، لكونها أشرف الأصابع،
لأنها آلة التشهّد، وأما إتباعها بالوسطى، فلأن غالب من يُقلّم أظفاره يقلمها من قِبَل ظهر الكفّ، فتكون الوسطى جهةً يمينه، فيستمرّ إلى أن يَختِم بالخنصر، ثم يكمّل اليد بقصّ الإبهام، وأما في اليسرى، فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمرّ على جهة اليمين إلى الإبهام
…
إلى آخر ما قاله الحافظ في "الفتح"
(1)
.
قال: وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزاليّ، ومن تبعه، وقال: كلُّ ذلك لا أصل له، وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيّل متخيّل أن البداءة بمسبّحة اليمنى من أجل شرفها، فبقيّة الهيئة لا يُتخيّل فيه ذلك. نعم، البداءة بيمنى اليدين، ويمنى الرجلين له أصل، وهو "كان يُعجبه التيامن".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله هو التحقيق الذي لا يقتضي الدليل سواه؛ لأن الشارع لَمَّا أمر بتقليم الأظفار أطلق فيه، فتقييد إطلاقه بما لا يقتضيه نصّ آخر مما لا ينبغي؛ لأن للشارع في إطلاق الأمر أحيانًا حكمةً كما له في تقييدها في بعض الأحيان حكمةً، فالإنسان مخيّر في فعل ما يسهل عليه، إلا أن اليمين له شرفٌ، كما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، فبداءته بيُمنى اليدين والرجلين مستحبّ، وما عدا ذلك من الكيفيّات التي ذكرها الغزاليّ، وتبعه النوويّ، والعراقيّ، وأيّده صاحب "الفتح"، فمما لا ينبغي الالتفات إليه، حيث لا مستند لهم في ذلك من النصوص.
وكذلك ما ذكره الدمياطيّ أنه تلقَّى عن بعض المشايخ أن من قصّ أظفاره مخالفًا لم يُصبه رَمَدٌ، وأنه جرّب ذلك مدّةً طويلةً، وأن أحمد نصّ على استحباب قصّها مخالفًا، كما نقل. ذلك كله في "الفتح"، فمما لا يُلتفت إليه أيضًا؛ لأنه لا أثارة عليه من النصوص، فالتجربة لا تكون مستندًا لتشريع الأحكام، بل العمدة في ذلك كلّه هو النقل عمن لا يَنطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، نسأل الله تعالى أن يسلك بنا مسلك الاتّباع، ويُجنّبنا الابتداع، إنه وليّ ذلك آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 10/ 357 - 358.
[تنبيهات]:
(الأول): قال في "الفتح": لم يثبت في استحباب قصّ الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه المستغفريّ بسند مجهول، ورويناه في "مسلسلات التيميّ" من طريقه، قال: وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبّ أن يأخذ من أظفاره، وشاربه يوم الجمعة"، وله شاهد موصول عن أبي هريرة رضي الله عنه، لكن سنده ضعيف، أخرجه البيهقيّ أيضًا في "الشعب".
وسئل أحمد عنه، فقال: يُسنّ في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخيّر، وهذا هو المعتمد، فيستحبّ كيفما احتاج إليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اعتمده في "الفتح" من أن المستحبّ كونه مخيّرًا في ذلك هو الحقّ، فله أن يأخذ من أظفاره، وشاربه إذا احتاج إلى ذلك؛ لعدم صحّة الدليل على تعيين وقت لذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(التنبيه الثاني): أنه استَحَبّ بعض أهل العلم دفن شعره وأظفاره؛ لكونها أجزاء آدميّ، وفي سؤالات مُهنّا عن أحمد: قلت له: يأخذ من شعره وأظفاره، أيدفنه أم يُلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يَدفِنه، ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار، وقال: لا يتلعب به سَحَرة بني آدم
(2)
.
وروى الخلّال عن أحمد أنه قال: يدفن الشعر والأظفار، وإن لم يفعل لم نر به بأسًا
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحديث المذكور ضعيف، أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"
(4)
، والبيهقيّ في "الشعب"
(5)
، قال البيهقيّ رحمه الله بعد إخراجه بسنده:
(1)
"الفتح" 10/ 358.
(2)
راجع " الفتح" 10/ 358.
(3)
"الترجل" ص 19.
(4)
"المعجم الكبير" 22/ 73.
(5)
"شعب الإيمان" 2/ 269.
هذا إسناد ضعيف، وروي من أوجه كلّها ضعيفة. انتهى، وقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله البحث فيه في "الضعيفة"
(1)
، فراجعها تستفد.
والحاصل أنه لم يثبت في دفن الشعر والأظفار شيء، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(التنبيه الثالث): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: يخيّر الذي يقلم أظفاره بين أن يباشر ذلك بنفسه، وبين أن يقصّ له غيره، كقصّ الشارب سواءً، إذ لا هتك حرمة في ذلك، ولا ترك مروءة، ولا سيّما من لا يُحسن قصّ أظفار يده اليمنى، فإن كثيرًا من الناس لا يتمكّن من قصّها؛ لعسر استعمال اليسار، فالأولى في حقّه أن يتولّى له ذلك غيره، لئلا يجرح يده، أو يؤذيها. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله، وهو بحث جيّدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في نتف الإبط:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن نتف الإبط سنّة، وادّعى بعضهم الاتّفاق عليه، لكن يَرِد عليه خلاف أبي بكر بن العربيّ، فإنه أوجب الخصال الخمسة، حيث قال في "شرح الموطّأ": والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين!، واستغربه الحافظ في "الفتح"، وقال: وتعقّبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الْخَلْق، وهي النظافة، لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها، اكتفاءً بدواعي الأنفس، فمجرّد الندب إليها كاف. انتهى
(2)
.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ويتأدّى أصل السنّة بإزالته بأيّ وجه كان من الحلق، والقصّ، والنورة.
قال في "الفتح": ولا سيّما من يؤلمه النتف، وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعيّ" رحمه الله، عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلتُ على الشافعيّ، ورجلٌ يحلق إبطه، فقال: إني علمت أن السنّة النتف، ولكن لا
(1)
"السلسلة الضعيفة" 5/ 380 - 383.
(2)
"الفتح" 10/ 352.
أقوى على الوجع، قال الغزاليّ: هو في الابتداء مُوجعٌ، ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كافٍ؛ لأن المقصود النظافة.
وتُعُقِّب بأن الحكمة في نتفه أنه محلّ للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ يجتمع بالعرق فيه، فيتلبّد، ويهيج، فشُرِع فيه النتف الذي يُضعفه، فتخفّ الرائحة به، بخلاف الحلق، فإنه يقوّي الشعر، ويهيجه، فتكثر الرائحة لذلك.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكلّ مزيل، لكن بُيِّنَ أن النتف مقصود من جهة المعنى، فذكر نحو ما تقدّم، قال: وهو معنى ظاهر، لا يُهْمَلُ؛ فإن مَوْرِد النصّ إذا احتَمَل معنى مناسبًا يحتمل أن يكون مقصودًا في الحكم لا يُترَكُ، والذي يقوم مقام النتف في ذلك النورة، لكنه يُرِقّ الجلد، فقد يتأذّى صاحبه به، ولا سيّما إن كان جلده رقيقًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مراعاة مورد النصّ هو الحقّ، كما أشار إليه ابن دقيق العيد رحمه الله، فلا ينبغي استعمال غير النتف إلا عند الحاجة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: يُستحبّ الابتداء بالإبط الأيمن؛ لحديث: "كان يُعجبه التيمّن في تنعّله، وترجّله، وطهوره، وفي شأنه كلّه"، متّفقٌ عليه، وكذلك يستحبّ أن يبدأ في قصّ الشارب بالجانب الأيمن، للحديث المذكور
(2)
.
وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" فوائد أُخر، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم قصّ الشارب:
(اعلم): أنه اختَلَف العلماء في الشارب هل يُحلق، أو يُقصّ؟، فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه؛ لظاهر قوله:"أحفوا، وأنهكوا"، وهو قول الكوفيين.
وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وإليه ذهب مالك، وكان
(1)
راجع "الفتح" 10/ 356 - 357.
(2)
راجع "نيل الأوطار" 1/ 168.
يرى تأديب من حلقه، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: إحفاء الشارب مُثلة.
وقال في "الفتح": وأما القصّ فهو الذي في أكثر الأحاديث، قال: وورد الخبر بلفظ الحلق، وهي رواية النسائيّ، عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ القصّ، وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهريّ، ووقع عند النسائيّ، من طريق سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ تقصير الشارب. نعم وقع الأمر بما يُشعِر بأن رواية الحلق محفوظة، كحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ:"جُزُّوا الشوارب"، وحديث ابن عمر بلفظ:"أحفوا الشوارب"، وبلفظ:"أنهكوا الشوارب".
فكلُّ هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة؛ لأن الْجَزّ، وهو بالجيم والزاي الثقيلة: قصّ الشعر، والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء: الاستقصاء، ومنه:"حتى أحفوه بالمسألة".
قال أبو عبيد الهرويّ: معناه: أَلْزِقُوا الْجَزَّ بالبشرة.
وقال الخطابيّ: هو بمعنى الاستقصاء، والنهكُ بالنون والكاف: المبالغة في الإزالة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة:"أَشِمِّي، ولا تُنْهِكي": أي لا تبالغي في ختان المرأة، وجرى على ذلك أهل اللغة.
وقال ابن بطال: النهك التأثير في الشيء، وهو غير الاستئصال.
قال النوويّ: المختار في قصّ الشارب، أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يُحْفِه من أصله، وأما رواية:"أحفوا"، فمعناها: أزيلوا ما طال على الشفتين.
قال ابن دقيق العيد: ما أدري، هل نقله عن المذهب، أو قاله اختيارًا منه لمذهب مالك؟.
قال الحافظ: قلت: صَرَّح في "شرح المهذَّب" بأن هذا مذهبنا.
وقال الطحاويّ: لم أَرَ عن الشافعيّ في ذلك شيئًا منصوصًا، وأصحابه الذين رأيناهم، كالْمُزَنيّ، والربيع، كانوا يُحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه.
وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير.
وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشارب عندي مثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين، وقال أشهب: سألت مالكًا عمن يحفي شاربه؟ فقال: أرى أن يوجع ضربًا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. انتهى.
وأغرب ابن العربيّ، فنقل عن الشافعي أنه يَستَحِبّ حلق الشارب، وليس ذلك معروفًا عند أصحابه.
قال الطحاويّ: الحلق هو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. انتهى.
وقال الأثرم: كان أحمد يُحفي شاربه إحفاء شديدًا، ونصَّ على أنه أولى من القصّ.
وقال القرطبيّ: وقصُّ الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، قال: والْجَزّ، والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك، قال: وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك.
قال الحافظ: هو الطبريّ، فإنه حَكَى قول مالك، وقول الكوفيين، ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال، ثم قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القصّ يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل، وكلاهما ثابت، فيتخير فيما شاء.
وقال ابن عبد البرّ: الإحفاء مُحْتَمِل لأخذ الكل، والقصّ مفسَّرُ المراد، والمفسَّر مُقَدَّم على المُجْمَل. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معًا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القصّ، ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ضِفْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان شاربي وَفَى، فقصّه على سواك، أخرجه أبو داود.
(1)
واعترضه الصنعانيّ في "العدّة"(1/ 346) بأن هذا ترجيح لمذهب مالك، وأن قوله:"إن الإحفاء محتمل لأخذ الكلّ" عبارة غير جيّدة؛ إذ هو ظاهر في أخذ الكلّ. انتهى.
واختُلِف في المراد بقوله: "على سواك"، فالراجح أنه وَضَعَ سواكًا عند الشفة تحت الشعر، وأخذ الشعر بالمقصّ، وقيل: المعنى قصَّه على أثر سواك، أي بعدما تسوك، ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقيّ في هذا الحديث، قال فيه: فوضع السواك تحت الشارب، وقَصَّ عليه.
وأخرج البزار، من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا، فقال:"ائتوني بِمِقَصّ وسواك" فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه.
وأخرج الترمذيّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وحسّنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقُصّ شاربه".
وأخرج البيهقيّ، والطبرانيّ من طريق شُرَحبيل بن مسلم الخولانيّ، قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقُصّون شواربهم: أبو أمامة الباهليّ، والمقدام بن معدي كرب الكِنْديّ، وعتبة بن عوف السّلَميّ، والحجاج بن عامر الثُّمَاليّ، وعبد الله بن بُسْر.
وأما الإحفاء، ففي رواية ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوسَ، فقال:"إنهم يُوفُون سِبَالهم، ويَحلِقون لحاهم، فخالفوهم"، قال: فكان ابن عمر يستقرض سَبَلته، فيجزُّها كما يجز الشاة، أو البعير، أخرجه الطبريّ، والبيهقيّ، وأخرجا من طريق عبد الله بن أبي رافع، قال: رأيت أبا سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاريّ، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع: يُنهِكون شواربهم، كالحلق، لفظ الطبريّ، وفي رواية البيهقيّ: يقصون شواربهم، مع طرف الشفة، وأخرج الطبريّ من طرق، عن عروة، وسالم، والقاسم، وأبي سلمة، أنهم كانوا يَحلِقون شواربهم. وعلّق البخاريّ أثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُحفي شاربه، حتى يُنظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين - يعني بين الشارب واللحية -. انتهى.
قال الحافظ: لكن كلُّ ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها، نظرًا إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس، والأمن من التشويش على الآكل، وبقاء زُهومة المأكول فيه، وكل
ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداوديّ في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مقتضى تصرف البخاريّ، لأنه أورد أثر ابن عمر، وأورد بعده حديثه، وحديث أبي هريرة، في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث.
وعن الشعبي أنه كان يقصّ شاربه حتى يَظهر حرف الشفة العلياء، وما قاربه من أعلاه، وبأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار.
وقد أبدى ابن العربيّ لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفًا، فقال: إن الماء النازل من الأنف، يتلبد به الشعر؛ لما فيه من اللزوجة، ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسّة شريفة، وهي الشمّ، فشُرع تخفيفه؛ ليتم الجمال، والمنفعة به.
قال الحافظ: وذلك يحصل بتخفيفه، ولا يستلزم إحفاءه، وإن كان أبلغ.
وقد رجّح الطحاويّ الحلق على القصّ بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك، ووهَّى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من حَلَق"، وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا سيما الثاني.
ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربيّ مشروعية تنظيف داخل الأنف، وأخذ شعره إذا طال، والله أعلم.
وقد رَوَى مالك عن زيد بن أسلم، أن عمر رضي الله عنه كان إذا غَضِب فَتَل شاربه، فدل على أنه كان يوفِّره، وحَكَى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب إرهابًا للعدوّ، وزَيَّفَه. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصّل من مجموع ما سبق من أقوال أهل العلم، وعمل السلف، من الصحابة، والتابعين، واستعراض أدلتهم أن أرجح الأقوال قول من قال بالتخيير، لثبوت الأحاديث في الأمرين، فيختار المكلّف أيهما شاء، ولذا قال بعض المحقّقين: ينبغي لمن يريد المحافظة على السنن أن
(1)
"الفتح" 10/ 360.
يستعمل هذا مرّة، وهذا مرّةً، فيكون قد عمل بكلّ ما ورد، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا.
وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" فوائد، وتحقيقات، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[604]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ
(1)
، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْفِطرَةُ خَمْسٌ: الاخْتِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِب، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَار، وَنَتْفُ الْإِبْطِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حَافظ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النجاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[605]
(258) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا أبو الطاهر".
جَعْفَرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: "وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِب، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَار، وَنَتْفِ الْإِبْط، وَحَلْقِ الْعَانَة، أَنْ لَا نَتْرُكَ أكثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبت إمام [10](ت 226) على الأصحّ (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ المذكور في الباب الماضي.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، كان يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
4 -
(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) هو: عبد الملك بن حَبِيب الأزديّ، أو الكِنْديّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [4](ت 128) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه مات (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (28) من رباعيّات الكتاب، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وجعفر بن سليمان، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، وقد دخلا البصرة.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، كما أشرت إليه آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عِمْرَانَ) بكسر العين المهملة (الْجَوْنِيِّ) - بفتح الجيم، وسكون
الواو -: نسبة إلى جَوْن: بطنٌ من الأزد، قاله في "اللب"
(1)
. (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ) أي ابن مالك رضي الله عنه، هكذا نسخ "صحيح مسلم" بإعادة "قال أنس"، وهو صحيحٌ، فيكون فاعل "قال" الأول ضمير أبي عمران الجونيّ، ولفظ أبي عوانة في "مسنده" (1/ 162):"عن أنس بن مالك، قال: وُقّت لنا .. إلخ"، وهو الذي في "سنن النسائيّ"(وُقِّتَ صلنا) بالبناء للمفعول، أي حُدّد لنا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الوقتُ: مقدارٌ من الزمان مفروضٌ لأمرٍ ما، وكلُّ شيء قَدَّرتَ له حينًا، فقد وقّتّه توقيتًا، وكذلك ما قدّرت له غايةً، والجمع أوقاتٌ، قال: وَوَقّتَ الله الصلاةَ توقيتًا، وَوَقَتَها يَقِتُهَا، من باب وَعَدَ: حَدَّد لها وقتًا، ثم قيل لكلّ شيء محدود: مَوْقُوتٌ، ومُوَقَّتٌ. انتهى
(2)
.
(فِي قَصِّ الشَّارِبِ) أي أخذه بالْمِقَصّ، وهو الْمِقْرَاضُ، قاله أبو نعيم رحمه الله
(3)
. (وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ) أي قطع ما طال منها (وَنَتْفِ الْإِبْطِ) أي نزع الشعر النابت تحت الجناح (وَحَلْقِ الْعَانَةِ) أي إزالة الشعر النابت فوق الفرج بالموسى (أَنْ) بالفتح مصدريّة، صلتها قوله:(لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) والمصدر المؤوّل من "أن" وصِلتها نائب فاعل "وُقِّتَ".
قال النوويّ رحمه الله: معناه لا نترُك تركًا نتجاوز به أربعين، لا أنه وقّت لهم الترك أربعين، قال: والمختار أن يُضبط بالحاجة والطُّول، فإذا طال حُلِق. انتهى
(4)
.
وقال في "شرح المهذّب": ينبغي أن يَختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا، وفي جميع الخصال المذكورة.
وقد تعقّب الشوكانيّ قول النوويّ: "والمختار .. إلخ"، لكن تعقّبه غير سديد، فراجع ما كتبته في "شرح النسائيّ "
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": هذا تحديد أكثر المدّة، والمستحبّ تفقّد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء، إلا أنه إذا كثُر
(1)
"لبّ اللباب" 1/ 223.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 667.
(3)
"المسند المستخرج" 1/ 316.
(4)
"شرح مسلم" 3/ 149.
(5)
راجع "المجتبى" شرح الحديث رقم (14).
ذلك أزيل. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[16/ 605](258)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4200)، و (الترمذيّ) في "الا ستئذان"(2758 و 2759)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(14) وفي "الكبرى"(16)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(295)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 122 و 203 و 255)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(469)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(599)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عناية الشرع في المحافظة على النظافة، حيث حدّد لها أربعين يومًا.
2 -
(ومنها): أنه يُسمَح للشخص أن يترك ذلك إلى هذه المدّة.
3 -
(ومنها): أنه لا يُشرع مجاوزة أربعين يومًا في هذه النظافة، وليس معنى هذا أنه إن احتاج قبل الأربعين إلى إزالة شيء مما ذُكر يُمنع من إزالته، بل إذا احتاج في أيّ وقت فله ذلك، ولا ينتظر تمام الأربعين؛ لأن التحديد به لمنع مجاوزته، لا للزوم التأخير إليه، بل من المستحبّ التفقد كلّ يوم جمعة؛ لأن المبالغة في التنظف فيه مطلوبة، كما سيأتي في بابه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد تكلّم النقّاد في هذا الحديث، ودونك أقوالهم:
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله في قوله: "وُقّت لنا" بالبناء للمجهول ما
(1)
"المفهم" 1/ 515.
نصّه: وقد وقع خلاف في علم الأصول والاصطلاح، هل هي صيغة رفع أو لا؟، والأكثرون أنها صيغة رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قالها الصحابيّ، مثلُ قوله:"أُمِرنا بكذا"، و"نُهينا عن كذا".
وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي
كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذا "كُنَّا نَرَى
…
فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى
ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي
…
تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي
قال: وقد صُرِّح في رواية أحمد، وأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ بأن الموقِّت هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فارتفع الاحتمال، لكن في إسنادها صدقة بن موسى، أبو المغيرة، ويقال: أبو محمد السلميّ البصريّ الدقيقيّ، قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرّةً: ضعيفٌ، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال الترمذيّ: ليس بالحافظ، وقال أبو حاتم الرازيّ: ليّن الحديث، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، ليس بالقويّ، وقال أبو حاتم ابن حبّان: كان شيخًا صالحًا، إلا أن الحديث لم يكن من صِناعته، فكان إذا روى قَلَب الأخبار حتى خرج عن حدّ الاحتجاج به. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله بزيادة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لكن في إسنادها صدقة .. إلخ" رواية النسائيّ ليس فيها صدقة، فقد أخرجه عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الْجَونيّ، عن أنس بن مالك، قال: وَقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، فقد زالت العلّة، وثبت صحّة التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم هو الموقّت -والحمد لله-.
وقال في "الفتح": وأما ما أخرجه مسلم من حديث أنس: "وُقت لنا في قصّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا يُتْرَك أكثر من أربعين يومًا"، كذا "وُقِّت" فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ:"وَقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأشار العقيليّ إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء، وصَرَّح ابن عبد البر بذلك، فقال: لم يروه غيره، وليس بحجة.
(1)
راجع "نيل الأوطار" 1/ 169.
وتُعُقِّب بأن أبا داود، والترمذيّ أخرجاه من رواية صدقة بن موسى، عن ثابت، وصدقةُ بن موسى، وإن كان فيه مقال، لكن تبين أن جعفرًا، لم ينفرد به.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "عن ثابت" فيه نظر لا يخفى؛ لأن رواية صدقة عند أبي داود، والترمذيّ ليست عن ثابت، وإنما هي عن أبي عمران الْجَوْنيّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: وقد أخرج ابن ماجهْ نحوه من طريق عليّ بن زيد بن جُدْعَان، عن أنس، وفي عليّ أيضًا ضعف.
وأخرجه ابن عديّ من وجه ثالث، من جهة عبد الله بن عُمَران، شيخ مصريّ، عن ثابت، عن أنس، لكن أَتَى فيه بألفاظ مستغربة، قال:"أن يحلق الرجل عانته كلَّ أربعين يومًا، وأن يَنتف إبطه كلَّما طَلَعَ، ولا يَدَع شاربيه يطولان، وأن يُقَلِّم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة"، وعبد الله، والراوي عنه مجهولان. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله بعد ذكر حديث مسلم هذا ما نصّه: وهكذا أخرجه ابن ماجهْ بلفظ: "وُقِّت لنا" على البناء للمفعول، وحكمه الرفع على الصحيح عند أهل الحديث والأصول، وقال أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ في هذا الحديث:"وَقَّتَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فَصَرَّح بالفاعل.
وقد تكلّم الْعُقيليّ، وابن عبد البرّ في حديث أنس هذا، فقال الْعُقيليّ في "الضعفاء" في ترجمة جعفر بن سُليمان؛ وليس بحجة؛ لسوء حفظه، وكثرة غلطه.
قال العراقيّ: تابعه عليه صدقة بن موسى الدَّقِيقيّ، فرواه عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن أنس، أخرجه كذلك أبو داود، والترمذيّ، ولكن صدقة ضعيفٌ، ورُوي أيضًا من رواية عبد الله بن عمران، شيخ مصريّ، عن أبي عمران.
وله طريق آخر رواه أبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن سلمة القطّان في زياداته على سنن ابن ماجه من رواية عليّ بن زيد بن جُدعان، عن أنس، وابن جُدعان أيضًا ضعّفه الجمهور.
(1)
"الفتح" 10/ 358.
قال: وقد ورد حديث أنس من وجه لا يثبت، ثم ذكر ما تقدّم من رواية ابن عديّ، ثم قال: قال صاحب "الميزان": هو حديث منكر
(1)
، قال: وأصحّ طرقه طريق مسلم على ما فيها من الكلام، وليس فيها تأقيتٌ لما هو أولى، بل ذكر أنه لا يزيد على أربعين. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من مجموع ما قالوا أن حديث الباب صحيح، أما المرفوع فلأن جعفر بن سليمان لم ينفرّد به، بل تابعه عليه صدقة بن موسى الدقيقيّ، وهو وإن كان الأكثرون على تضعيفه، إلا أنه يصلح للاعتبار، كما يفيده كلام الأئمة.
وأما الموقوف فهو رواية المصنّف رحمه الله، وحكمه أنه مرفوع؛ لأن قول أنس رضي الله عنه:"وُقّت لنا .. إلخ"، كقول الصحابيّ:"أُمرنا بكذا، ونهينا عن كذا"، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[606]
(259) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ - (ح) وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن
(1)
راجع "ميزان الاعتدال" 1/ 33.
(2)
راجع "طرح التثريب" 1/ 247 - 248.
الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت فقيهٌ مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
7 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ الصحابيّ ابن الصحابيّ الشهير رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وملتقى الإسنادين هو عُبيد الله بن عمر، فكلّ من يحيى بن سعيد، وعبد الله بن نمير يرويان عنه.
3 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
4 -
(ومنها): أن شيخه الأول أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستّة بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبيد الله عن نافع.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، وشدّة اتّباع الآثار، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "أَحْفُوا) بقطع الهمزة، من الإحفاء، كذا للأكثر، وحكى ابن دُريد: حَفَى الرجل شاربه يحفوه حَفْوًا: إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزته همزة وصل.
وقال الحافظ رحمه الله: الإحفاء بالحاء المهملة، والفاء: الاستقصاء، ومنه:"حتى أَحْفَوه بالمسألة"، وقد ورد بلفظ:"أَنْهِكُوا الشوارب"، وبلفظ:"جُزّوا الشوارب"، وكل هذه الألفاظ تدلّ على أن المطلوب المبالغة في الإزالة؛ لأن الجزّ قصّ الشعر والصوف إلى أن يبلُغ الجلد، والنهك: المبالغة في الإزالة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة:"أَشِمِّي، ولا تُنْهِكِي": أي لا تُبالغي في ختان المرأة. انتهى
(1)
.
(الشَّوَارِبَ) منصوب على المفعوليّة، وهو: جمع شارب، وهو الشعر الذي يسيل على الفم، قال أبو حاتم: ولا يكاد يُثنّى، وقال أبو عبيدة: قال الكلابيّون: شاربان باعتبار الطرفين؛ قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال الجيّانيّ: وقع في كلامهم: إنه لعظيم الشوارب، وهو من الواحد الذي فرق، وسُمّي كلّ جزء منه باسمه، فقالوا لكلّ جانب منه: شاربًا، ثم جُمع شوارب، وحَكَى ابن سِيده عن بعضهم: من قال: الشاربان أخطأ، وإنما الشاربان ما طال من ناحية السَّبَلَة، قال: وبعضهم يُسمّي السَّبَلَة
(3)
كلّها شاربًا، ويؤيّده أثر عمر رضي الله عنه الذي أخرجه مالك أنه كان إذا غضب فَتَلَ شاربه، والذي يمكن فَتْله من شعر الشارب السِّبَال، وقد سمّاه شاربًا؛ قاله في "الفتح".
وقال أيضًا: وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا، واختُلِفَ في جانبيه، وهما السبالان، فقيل: هما من الشارب، ويشرَع قصّهما معه، وقيل: هما من جملة شعر اللحية. انتهى
(4)
.
(وَأَعْفُوا اللِّحَى) بقطع الهمزة، ووصلها: أي وفّروها، قال ابن الأثير رحمه الله: إعفاء اللحية: أن يوفّر شعرها، ولا يُقَصّ كالشوارب، مِن عَفَى الشيءُ: إذا كثُر، وزاد، يقال: أعفيته، وعَفَيته. انتهى
(5)
.
(1)
راجع "شرح النوويّ" 3/ 151، و"الفتح" 10/ 362.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 308.
(3)
"السَّبَلَة" محرّكةً: الدائرة في وسط الشفة العليا، أو ما على الشارب من الشعر، أو طرفه، أو مُجتَمَع الشاربين، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية كلّها، أو مقدّمها خاصّةً، جمعه: سِبَالٌ؛ قاله في "القاموس" ص 911.
(4)
10/ 362.
(5)
"النهاية" 3/ 118.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: عفا الشيءُ: كثُر، وفي التنزيل:{حَتَّى عَفَوْا} أي كثُروا، وعَفَوته: كثّرته، يتعدّى، ولا يتعدّى، ويُعدّى بالهمزة، فيقال: أعفيته، وقال السَّرَقُسْطيّ: عَفَوتُ الشعرَ أعفوه عَفْوًا، وعفيته أَعفيه عَفْيًا: تركته حتى يكثُر، ويطول، ومنه:"أحفوا الشوارب، وأعفوا اللّحَى"، يجوز استعماله ثلاثيًّا، ورباعيًّا. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ في "شرحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى"، وفي الرواية الأخرى:"وأوفوا اللحى"، هو بقطع الهمزة في "أحفوا، وأعفوا، وأوفوا"، وقال ابن دريد: يقال أيضًا: حَفَا الرجل شاربه يَحفوه حَفْوًا: إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزة "أحفوا" همزة وصل، وقال غيره: عفوت الشعر، وأعفيته لغتان، قال: وأما "أوفوا" فهو بمعنى "أعفوا": أي اتركوها وافيةً كاملةَ لا تقُصّوها، قال: وأما قوله: "وأرخوا" فهو أيضًا: بقطع الهمزة، وبالخاء المعجمة، ومعناه: اتركوها، ولا تتعرضوا لها بتغيير، وذكر القاضي عياض أنه وقع في رواية الأكثرين كما ذكرنا، وأنه وقع عند ابن ماهان "أرجوا" بالجيم، قيل: هو بمعنى الأول، وأصله أرجؤا بالهمز، فحذفت الهمزة تخفيفًا، أي فهو كقوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51]
(2)
، ومعناه: أَخّروها، واتركوها، وجاء في رواية البخاريّ:"وَفّروا اللّحَى"، فحصل خمس روايات:"أعفوا"، و"أوفوا"، و"أرخوا"، و"أرجوا"، و"وفروا"، ومعناها كلها: تركها على حالها. هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": "اللّحَى" - بكسر اللام، وحُكِي ضمّها، والكسر أفصح، وبالقصر والمدّ -: جمع لِحية بالكسر فقط، وهو اسم لِمَا نبت على الخدّين والذَّقَن. انتهى
(4)
.
وقال في "اللسان": "اللِّحْيَةُ": اسمٌ يَجمع ما نبت على الخدّين والذّقَن،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 419.
(2)
راجع "طرح التثريب" 1/ 248.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 151.
(4)
"شرح النوويّ" 3/ 151، و "الفتح" 10/ 362.
والجمع لِحّى - أي بالكسر -، ولُحًى - أي بالضمّ - مثلُ ذُرْوَة
(1)
وذُرًى. انتهى، ونحوه في "القاموس"
(2)
.
وفي "المصباح": "اللحية": الشعر النازل على الذقَن، والجمع لِحًى، مثلُ سِدْرَةٍ وسِدَر، وتُضمّ اللام أيضًا، مثلُ حِلْية وحُلًى. انتهى
(3)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبّب؛ لأن حقيقة الإعفاء: الترك، وترك التعرّض للحية يستلزم تكثيرها، وأغرب ابن السِّيد، فقال: حَمَل بعضهم قوله: "أعفوا اللِّحَى" على الأخذ منها بإصلاح ما شذّ منها طولًا وعرضًا، واستشهد بقول زُهير [من الوافر]:
عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ
وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وَفِّرُوا، أو أكثِرُوا، وهو الصواب.
قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدًا فَهِمَ من الأمر في قوله: "وأعفوا اللحَى" تجويز معالجتها بما يُغَزّرها، كما يفعله بعض الناس، قال: وكأن الصارف عن ذلك قرينة السياق في قوله في بقيّة الخبر: "وأحفوا الشوارب". انتهى.
قال الحافظ: ويمكن أن يؤخذ من بقيّة ألفاظ الحديث الدالّة على مجرّد الترك. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من تفسير صاحب "اللسان"، و"القاموس"، و"الفتح" اللحية بأنه اسم للشعر الذي فبت على الخدّين والذّقَن أنه لا يجوز التعرّض لشيء من ذلك بحلق، ولا تقصير، فما يفعله بعض الناس من حلق ما ينبت على الخدين بدعوى أنه ليس من اللحية خطأ بيّن، نشأ من الجهل باللغة، فليُتفطّن.
وقال أبو شامة رحمه الله: وقد حَدَث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشدّ مما نُقِل عن المجوس أنهم كانوا يَقُصّونها.
(1)
"الذروة" بالكسر والضمّ: أعلى الشيء.
(2)
"لسان العرب" 15/ 243، و"القاموس المحيط" ص 1197.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 551.
(4)
"الفتح" 10/ 363 - 364.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: يُستثنَى من الأمر بإعفاء اللحى، ما لو نبتت للمرأة لحية، فإنه يُستحب لها حلقها، وكذا لو نبت لها شارب، أو عَنْفَقَة، قال: هذا مذهبنا، وقال محمد بن جرير: لا يجوز حلق شيء من ذلك، ولا تغيير شيء من خِلقتها بزيادة، ولا نقص. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لم أر لمدّعي الاستحباب، ولا لمدّعي عدم الجواز دليلًا صريحًا، فالأولى أن يقال بالإباحة حتى يوجد نصّ صريح لأحدهما، والله تعالى أعلم بالصواب.
[فائدة]: في قوله: "أعفوا"، و"أحفوا " ثلاثة أنواع من البديع: الجِنَاسُ، والمطابقة، والموازنة، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا في "الطهارة"[16/ 606 و 607 و 608](259)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5892 و 5893)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4199)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2764)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(15) و"الزينة"(5226) و"الكبرى"(13)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 947)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 564)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 52 و 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5475)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 149 و 150 و 151)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3193 و 3194)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(465 و 466 و 467 و 468)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(650 و 601 و 602)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في إعفاء اللحية:
قال النوويّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الروايات في "أعفوا اللّحَى" ما نصّه:
(1)
راجع "شرح مسلم" 3/ 149.
(2)
10/ 364.
فحصل خمس روايات: "أعفوا"، و"أوفوا"، و"أَرْخُوا"، و"أَرْجُوا"، و "وفِّروا"، ومعناها كلِّها تركُها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء، وقال القاضي عياض رحمه الله: يكره حَلْقها، وقصُّها، وتحذيفها
(1)
وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها، كما تكره في قصِّها وجزِّها، قال: وقد اختَلَف السلف هل لذلك حدٌّ، فمنهم من لم يُحَدِّد شيئًا في ذلك، إلا أنه لا يتركها لحدّ الشهرة، ويأخذ منها، وكَرِه مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة، فيُزال، ومنهم من كَرِه الأخذ منها إلا في حجّ أو عمرة.
قال: وأما الشارب فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه، بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"أحفُوا"، و"أَنْهِكوا"، وهو قول الكوفيين.
وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حلقه مُثْلَةً، ويأمر بأدب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويَذْهَب هؤلاء إلى أن الإحفاء، والْجَزَّ، والقَصّ بمعنى واحد، وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة.
وذهب بعض العلماء إلى التخيير بين الأمرين. انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ: والمختار ترك اللحية على حالها، وأن لا يُتَعَرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، والمختار في الشارب ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة. انتهى
(2)
.
وأخرج الإمام البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه"، من طريق عُمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خالفوا المشركين، وفِّرُوا اللِّحَى، وأَحْفُوا الشوارب"، وكان ابن عمر إذا حجّ، أو اعتمر قَبَضَ على
(1)
أي تقصير بعضها، قال في "المصباح": حذَفَ من شعره: إذا قصّر منه، وحذّف بالتثقيل مبالغة، وكلُّ شيء أخذت من نواحيه حتى سوّيته، فقد حذّفته تحذيفًا. انتهى.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 151.
لحيته، فما فَضَل
(1)
أخذه. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "وكان ابن عمر .. إلخ" هو موصول بالسند المذكور إلى نافع، وقد أخرجه مالك في "الموطأ"، عن نافع بلفظ:"كان ابن عمر إذا حَلَق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه"، قال: وفي حديث الباب مقدار المأخوذ.
وقال الكرمانيّ: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك، فحَلَق رأسه كلّه، وقصر من لحيته؛ ليدخل في عموم قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} الآية [الفتح: 27]، وخَصَّ ذلك من عموم قوله:"وفِّرُوا اللحَى"، فحمله على حالة النسك.
قال الحافظ: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخُصّ هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تَتَشَوَّه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه، فقد قال الطبريّ: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث، فكرهوا تناول شيء من اللحية، من طولها ومن عرضها، وقال قوم: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فَعَل ذلك، وإلى عمر أنه فَعَل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله.
وأخرج أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه بسند حسن قال: "كنا نُعَفِّي السِّبَال، إلا في حجّ أو عمرة"، وقوله:"نُعَفّي" - بضم أوله، وتشديد الفاء -: أي نتركه وافرًا، وهذا يؤيد ما نُقِل عن ابن عمر، فإن السِّبَال - بكسر المهملة، وتخفيف الموحدة - جمع سَبَلَة - بفتحتين - وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يُقَصِّرون منها في النسك.
ثم حكى الطبري اختلافًا فيما يؤخذ من اللحية، هل له حدّ أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكفّ، وعن الحسن البصريّ أنه يؤخذ من طولها وعرضها، ما لم يَفْحُش، وعن عطاء نحوه، قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصّها وتخفيفها.
(1)
قوله: "فما فَضَلَ" بفتح الفاء والضاد المعجمة، ويجوز كسر الضاد، كعِلم، والأشهر الفتح، ذكره في "الفتح" 10/ 362.
قال وكره آخرون التعرُّض لها إلا في حجّ أو عمرة، وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته، لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها، لَعَرَّض نفسه لمن يَسْخَر به، واستَدَلَّ بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"، وهذا أخرجه الترمذيّ، ونَقَل عن البخاريّ أنه قال في رواية عُمَر بن هارون: لا أعلم له حديثًا منكرًا إلا هذا. انتهى.
وقد ضَعَّف عُمر بن هارون مطلقًا جماعة.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن حلق اللحية حرام، وهو الذي نصّ عليه الإمام الشافعيّ في "الأمّ" كما قال ابن الرفعة، وقال الأذرعيّ: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علّة بها. انتهى. وأما الأخذ من طولها إذا فحش فلا بأس به؛ كما ثبت ترخيص ذلك عن بعض السلف - رحمهم الله تعالى -.
والحاصل أن ترك اللحية على حالها، وعدم التعرّض لها هو الصواب؛ لظواهر النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أعفوا"، و"أوفوا"، و"وفّروا"، وإن ترخّص أحد في أخذ ما زاد على القبضة اتّباعًا لما ثبت عن بعض السلف، كابن عمر وغيره، فلا بأس به؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما، مع شدّة اتّباعه للسنّة، وهو الذي رَوَى حديث "أعفوا اللحى" كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، فلولا أن عنده حجةً على هذا لَمَا فعله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فائدة]: نقل النوويّ عن الغزاليّ، وهو في ذلك تابع لأبي طالب المكيّ في "القوت" قال: يكره في اللحية عشر خصال: خَضبها بالسواد لغير الجهاد، وبغير السواد؛ إيهامًا للصلاح، لا لقصد الاتّباع، وتبييضها؛ استعجالًا للشيخوخة؛ لقصد التعاظم على الأقران، ونتفها؛ إبقاء للمرودة، وكذا تحذيفها، ونتف الشيب، ورجّح النوويّ تحريمه؛ لثبوت الزجر عنه، وتصفيفها طاقةً طاقةً تصنعًا ومخيلةً، وكذا ترجيلها، والتعرض لها طولًا وعرضًا على ما فيه من الاختلاف، وتركها شَعِثَةً؛ إيهامًا للزهد، والنظرُ إليها إعجابًا، وزاد النوويّ: وعقدُها؛ لحديث رُوَيفع رفعه: "مَن عَقَد لحيته، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم منه
بريء
…
" الحديث
(1)
، أخرجه أبو داود
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أطلق الكراهة في هذه الأشياء، وفي بعضها نظر لا يخفى؛ لأن أدلّة التحريم واضحة عليه، كعقد اللحية، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر بعض شُبَهِ من يُخادعون أنفسهم بحلق لحيتهم، ودحضها:
(منها): قول بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعفى لحيته، وأمر به لأن قومه العرب كانوا يُعَفّون لحاهم، فاتبع صلى الله عليه وسلم ما راج في بيئته، ولم يُخالفهم، بل بعض الضلّال يزيد على هذا، فيقول: لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا العصر لحلق لحيته - والعياذ بالله -.
وهذا كله من دعاوي الجاهليّة، أوحاها إليهم الشيطان، لمجادلة أهل الحقّ، كما قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
فالله سبحانه وتعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم باتّباع ملّة إبراهيم حنيفًا، وكذا أمر أمته بذلك، فالخصال التي كانت باقيةً في بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب من أبيهم إبراهيم عليه السلام أخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمل بها؛ لأنها من ملّة إبراهيم، لا لأجل اتّباع عادات العرب المجرّدة، وإلا فكم من عادات العرب كانت سائدة حينما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبطلها، ولن يتّبعهم عليها، كالوشم، ووصل الشعر، وكقتل الأولاد، ووأد البنات، وعدم التستّر عند البول والغائط حتى عابه بعضهم، فقال: إنه يبول كما تبول المرأة، وكالربا، والنسيء في أشهر الحرم، وكالجناية على الوالد بجناية ولده، وبالعكس، والطواف عريانًا، والرجوع من مزدلفة في الحجّ، والمشي عريانًا، وبيع الملامسة، والمنابذة، وغير ذلك مما يُحصى من عادات العرب، جاء صلى الله عليه وسلم بإبطالها، ولم يقلّدهم فيها، بل إنما فعل - مما كانت
(1)
راجع "الفتح" 10/ 363.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (16547)، وأبو داود برقم (36)، والنسائيّ (5067)، بإسناد صحيح.
عليه - ما كان موروثًا عن دين إبراهيم عليه السلام فقط، ومن جملته إعفاء اللحية، فظهر بهذا ما موّهوا به من هذه الشبهة الباطلة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ومنها): قول الآخرين: إن إعفاء اللحية كان واجبًا لمخالفة المجوس والمشركين، واليوم نرى اليهود يُعفون لحاهم، فوجب أن نخالفهم بحلق اللحية.
وهذه حجة داحضة، لا يقولها إلا أحمق جاهل، فإن إعفاء اللحية وحلقها كانا موجودين في زمنه صلى الله عليه وسلم، فاختار صلى الله عليه وسلم ما كان موافقًا لملّة إبراهيم عليه السلام، وهو الإعفاء، وأمر به، وردّ ما كان مخالفًا ذلك، وهو الحلق، وأنكره بألفاظ، وأساليب مختلفة، فكذلك في هذا العصر يوجد من يُعفي لحيته، ومن يحلقها، ونحن مأمورون بمخالفة الحالقين، لا المعفين.
قال بعض المحقّقين: لو كانت القاعدة أن ما يفعله اليهود هو الواجب التحرّز لوجب علينا ترك الاختتان؛ لأن اليهود يختتنون.
وبالجملة فليست هذه الشبهة صادرة إلا من ذي هوى النفس، لا ممن له صلة بالدين، وغيرة عليه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.
(ومنها): أن بعضهم يقول: إن أصحاب اللحى يَخدعون الناس بلحاهم، فجعلوا اللحى حبائل ووسائل لتحصيل متاع الدنيا؛ ليغترّ عامّة الناس بهم، ويظنّوا بهم أنهم أهل صلاح وخير، وهذا نوع من النفاق المنهيّ عنه في الإسلام.
قلنا: المكر والخديعة لا يختصّ بأصحاب اللحى، بل كثير ممن يخدعون الناس يَتظاهرون بمظاهر الإسلام، ككثرة الصلاة، والذكر، ونحو ذلك؛ للغرض المذكور، فهل هذا يبرر لنا أن نترك أفعال الخير كلّها من أجل أن بعض الأشرار يخدعون بها الناس؟ فهذا هو الانسلاخ من الدين بالكليّة.
وبالجملة فليس تظاهر بعض الناس المخادعين ببعض خصال الإسلام مبرّرًا لتركها، فلو كان فيهم من أعفى لحيته ليغترّ بها الناس، فلا يحلّ لنا أن نحلق لحانا، ونترك ما أمرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم لأجل هؤلاء المجرمين، بل يجب علينا أن نمتثل بأمره صلى الله عليه وسلم، ونقوم بإصلاح حالنا، وننصح المخادعين، لعل الله يهديهم على أيدينا، اللهم اهدنا فيمن هديت.
(ومنها): قول بعضهم: إني أحلق مقلّدًا لبعض العلماء.
نقول: هذا الذي يحلق لحيته دون ضرورة ليس من أهل العلم المهديين، بل هو من علماء السوء الضالّين المضلّين، ومما يجب التنبّه له أن الإنسان إذا مات مات شرّه معه غالبًا إلا علماء السوء، فإنهم إذا ماتوا لم تمت سنتهم السيئة، بل يبقى في الأمة شرّها، وينتشر في الأرض شررها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فعُمِل بها بعده، كُتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عَمِل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء"، رواه مسلم.
فهذا العالم السوء الذي يسنّ للناس المنكرات يلحقه بعد موته إثم كلّ من عَمِل بما سنّه لهم من هذه السنّة السيّئة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ومنها): أن بعضهم يقول: إن إعفاء اللحية سنّة، وليس بواجب.
نقول: كونه سنةً حقّ لا يُنكر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شرعه، وأمر به، فهو سنّته، وأما دعوى عدم الوجوب فباطلٌ، فقد تقدّم أن الحقّ أنه واجب، وأن حلقها حرام، فكيف يدّعي عدم الوجوب من يسمع قوله صلى الله عليه وسلم:"خالفوا المشركين، وَفِّرُوا اللِّحَى، وأَحْفُوا الشوارب"، متّفق عليه، وأمره صلى الله عليه وسلم للوجوب، فمخالفة المشركين، وتوفير اللحية، وإحفاء الشوارب واجبة.
وبالجملة فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يوفّر لحيته، ويأمر بها، والغريب أن من ادّعى السنيّة يعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما سنّها لنعمل بها، لا لنتركها.
وأغرب من ذلك أن الذين يحلقون لحاهم يدّعون أنهم يُحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يزعمون أنه أحبّ إليهم من أهلهم وأموالهم، ثم لا يُحبّون صورته صلى الله عليه وسلم التي يعلمون أنه كان ملتحيًا، ويحبّون صورة أعدائه الكفرة الحالقين لحاهم، ومن المعلوم لدى العامّ والخاصّ أن المحبّ يُحبّ كلّ ما كان منسوبًا إلى محبوبه، من الصورة، والسيرة، واللباس، والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، وكلّ ما يُنسب إليه.
فالذي يؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه مما سواهما، وهذه المحبّة لا محالة تضطرّ صاحبها إلى اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم في
شؤونه كلّها، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فإن لم تدع المحبّة صاحبها إلى الاتّباع فهي مجرّد دعوى لا حقيقة لها، ولا بيّنة عليها.
والدَّعَاوِي مَا لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا
…
بَيِّنَاتٍ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ
ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال:
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتُ تُظْهِرُ حُبَّهُ
…
هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ
…
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
(ومنها): قول بعضهم: إن إصلاح القلب وتزكية النفس، وتزكية الباطن هو الأصل في الدين، فإذا صفا قلبك، وطهُر باطنك فلا حاجة إلى إعفاء اللحية، والتقيّد بزيّ من الأزياء.
قلنا: هذا أيضًا من أبطل الشُّبَه، يناقض بعضه بعضًا، فإن القلب إذا صلح صلح الجسد معه، والباطن إذا زكا زكا الظاهر معه، كما شهد بذلك الحديث الصحيح:"ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"، متّفق عليه.
ففساد الباطن يدعو إلى فساد الظاهر، فمن صلح قلبه، وزكى باطنه لا محالة يضطرّ إلى السلوك وفق سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن ادّعاء صفاء الباطن، وصلاح القلب مع هذا الإجرام، والإصرار عليه.
فأنصف من نفسك أيها الأخ المسلم، ولا تخدعها بما لا ينفعها يوم الحساب، من مثل هذه الشُّبه الباطلة، والحجج العاطلة، وهل تتوهّم أن تنجو يوم لقاء ربّك بمثل هذه الحيل؟ كلّا ثم كلّا.
(ومنها): أن بعضهم يقول: إن الإسلام ليس بمنحصر في اللحية، ولا يكفَّر الرجل بحلق لحيته، فلماذا هذا التشدّد؟.
قلنا: حلق اللحية والإصرار عليه عنادًا من الذنوب التي لا يختلف فيها أهل العلم، فهو كسائر المعاصي التي لا يخرج الإنسان بها من الإيمان إلا إذا استحلّها، كما هو شأن سائر المعاصي، إلا أننا نسألكم لو كان الإيمان وحده كافيًا لكون الرجل مقبولًا عند الله تعالى لَمَا كانت الحاجة ماسّةً إلى بيان الأوامر والنواهي، ولَمَا كان الكتاب والسنّة مملوءين من الترغيب في الخير،
والترهيب من الشرّ، ولَمَا أوعد الله تعالى أهل المعاصي بعذاب القبر، وعذاب جهنّم.
ثم إن العلماء لا يهتمّون بإبلاغ أمره صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى فقط، بل إنهم يبلّغون جميع الأحكام الشرعيّة، أوامرها ونواهيها ليلًا ونهارًا، غير أن حالقي اللحى لمّا لم يخضعوا لأمره صلى الله عليه وسلم، بل يتّبعون أهواءهم، ويطيعون شياطينهم، ويقلّدون أعداءهم، ويستهزئون بما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان الاهتمام بإرشادهم أشدّ من هذه الناحية، لا من حيث كونه أشدّ المعاصي، فتنبّه.
وقال الشيخ التهانويّ رحمه الله: من أصرّ على حلق اللحية، واستحسنه، وظنّ أن إعفاء اللحية عارٌ ومذلّةٌ، وسَخِرَ بأصحاب اللحى، أو استهزأ بهم - أي مع أنه يعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها، وأنه كانت له لحية كثّة - فلا يمكن أن يكون إيمانه سالِمًا، بل يجب عليه قطعًا أن يتوب إلى الله تعالى، ويُجدّد الإيمان، وعليه أن يُحبّ صورة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ويختارها لنفسه ولجميع المسلمين. انتهى.
وقال أيضًا: لو كان إعفاء اللحية سببًا للعار عند بعض الحمقى، فإنه لا يجوز للمسلم أن يترك ما وجب عليه لأجل أهل الحماقة والسفاهة، ولو ذهبنا نتأثّر بما يقول الناس لا نكاد نستقيم على إيماننا، فإن الكفّار والمشركين يعُدّون الإسلام والإيمان عارًا، أفنترك الإيمان والإسلام - والعياذ بالله - لإجل إرضاء الكفرة؟ كلّا.
فلما آمنا واعتصمنا بدين الإسلام، ورضيناه دينًا في كلّ حال، ولو كره الكافرون، كذلك يجب علينا أن نرضى بهيئة الإسلام، ونتأسّى بنبيّنا نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم، رغم أنوف الفاسقين الذين يختارون لأنفسهم صور الكافرين والمشركين، فإن الاهتمام بإرضاء الأعداء تلبيس من الشيطان، وقد قال الله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120].
وقال أيضًا: ويشتدّ الأسف عندما نرى طلبة العلوم الدينيّة مبتلين بهذه المعصية، فمثلهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وجريمتهم هذه أشدّ من جريمة غيرهم؛ لأنهم يعلمون ما في الكتاب والسنّة، ثم يختارون
العمل السيّئ المعارض لكتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم لأنفسهم، فيستحقّون بذلك الوعيد الذي ورد في علماء السوء الذي لا يعملون بعلومهم، وجريمتهم تتعدّى إلى غيرهم؛ لأن الجهّال يقتدون بهم، فهم يتسبّبون في إشاعة هذا المنكر.
قال: ويجب على القائمين بأمور المدارس الإسلاميّة أن يُخرجوا من المدرسة من ارتكب هذه المعصية، واختار لنفسه هيئة غير إسلاميّة، إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، وذلك لأنه إذا تخرّج يقتدي به الناس، فيكون مهلكة للأمة. انتهى بتصرّف
(1)
.
(ومنها): أن بعضهم يقول: إن النظافة مما أمر به الإسلام، وأنا أحلق لحيتي للنظافة.
قلنا: هذه أيضًا كلمة صدرت من سفاهة وحماقة؛ إذ فيها استهزاء بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسخريّةٌ بفعله، فإنه كان كثّ اللحية، وكان أنظف الناس، فهذا القائل اتّبع أعداء الإسلام، فحلق لحيته، ثم جاء بحجة باطلة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.
وخلاصة القول أن الواجب على المسلم أن يكون همّه كلّه الآخرةَ، ولا يغترّ بأهل الدنيا، وزُخرُفها، بل يكون ديدنه دائمًا طلب رضا الله عز وجل، لا طلب رضا أحد سواه، فقد أخرج الترمذيّ عن عائشة رمنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مُؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وَكَلَهُ الله إلى الناس".
ورضا الله تعالى محصور في اتّباع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31].
وليحذر كلّ الحذر من أن يصيبه الوعيد الشديد الذي بيّنه الله تعالى في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وبالجملة فمسألة اللحية مما ينبغي الاهتمام به؛ لأنه مما انتشر مخالفته
(1)
"رسالة وجوب إعفاء اللحية"(ص 76 - 78).
بين كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، بل بين كثير ممن يدّعي العلم هداهم الله تعالى، وقد ألّف الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رسالة بعنوان "وجوب إعفاء اللحية"، قد أجاد فيها وأفاد، وقد قدّم لها العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأثنى عليها، فعليك بالاستفادة منها
(1)
، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: ومما أفاده في تلك الرسالة قوله: ومما لا بدّ من التنبيه عليه أنه كما لا يحلّ للرجل أن يحلق لحيته كذلك يحرم على الحلاق أن يحلق لحية أحد، أو يقصّرها خلاف حكم الشريعة، وكذلك يحرم على الحلاق قصّ شعر رؤوس المسلمين على طريق الإفرنج؛ لأن ذلك كلّه تعاون على الإثم والعدوان، وهو محرّم. انتهى، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[607]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِب، وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور قبل حديث.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة الفقيه الحافظ الحجة المتقن [7](179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) الْعَدويّ المدنيّ، مولى ابن عمر، صدوقٌ، يقال: اسمه عمر، من كبار [7].
رَوَى عن أبيه، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وصفية بنت أبي عبيد، يقال: مرسل.
وروى عنه يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر، وجرير بن
(1)
الرسالة مطبوعة بتحقيق أحمد يوسف الدقاق.
حازم، ومالك، والدّراوَرْديّ، وعباد بن صُهيب، وسُليم بن مسلم المكيّ.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: هو أوثق ولد نافع، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال مرّةً: ليس بشيء، وقال الآجريّ، عن أبي داود: من ثقات الناس، وقال ابن عديّ: لولا أنه لا بأس به ما رَوَى عنه مالك، وقد روى غير مالك عنه أشياء غير محفوظة، وأرجو أنه صدوق، لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج حديثه في "صحيحه"، وسماه عُمَر، وقال الحاكم، أبو أحمد: لم أقف على اسمه، ويقال: هو ثقة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ في "مسند مالك"، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[608]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريع، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُو الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا للِّحَى").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الْكِنديّ، أبو مسعود الْعَسْكَريّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ، صدوفما، له غرائب [10](ت 235) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6](ت قبل 150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به.
وقوله: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "خالفوا المجوس"، قال في "الفتح": وهُم المراد في حديث ابن عمر، فإنهم كانوا يقصّون لحاهم، ومنهم من كان يَحلقها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يبعد أن يكون المشركون أيضًا يفعلونه كالمجوس، والله تعالى أعلم.
[تنبيه مهمّ]: هذا الحديث فيه دليلٌ على اجتناب التشبّه بالمشركين، والمجوس، ونحوهم، من الكفرة، والمنافقين، والفسقة، وأهل المعاصي؛ لأن التشبه بهم يُلحق بهم، ويُدخِل في زمرتهم، فقد أخرج أبو داود في "سننه"
(2)
بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَشَبَّه بقوم فهو منهم".
وذلك لأن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين في الباطن، ويقود ذلك إلى محبتهم وموالاتهم، وذلك مناف لمقتضى الإيمان؛ لأن الله تعالى قال:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [الممتحنة: 1].
وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كتابًا عديم النظير في بابه، يسمى "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، وأجاد فيه، وأفاد، وأسهب، وأعاد، فعليك به، تنل الهدى والرشاد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[609]
(260) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَة، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: "جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ").
(1)
"الفتح" 10/ 362.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 44 رقم (4031).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصّغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم، المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
4 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ) - بضمّ الحاء المهملة، وفتح الراء - أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5](ت بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) هو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُهنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن جعفر.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) زمنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جُزُّوا الشَّوَارِبَ) بضم الجيم، وتشديد الزاي، أمرٌ مِن جَزّ الصوفَ يجُزّه، من باب نصر: إذا قطعه (وَأَرْخُوا) بقطع الهمزة، وبالخاء المعجمة، أمرٌ من الإرخاء: أي أطيلوها، ورُوي بلفظ:"أرجئوا"، بالجيم، والهمزة: أي أخّروها، وبلفظ:"وفّروا" من التوفير، وهو الإبقاء، وتقدّم بلفظ:"أحفوا"، و"أوفوا"، و"أعفوا"،
وكلّ هذه الروايات بمعنى واحد، وهو تركها على حالها، وعدم التعرّض لها بحلق، ولا تقصير.
(اللِّحَى) تقدّم أنه بكسر اللام، وحُكي ضمّها، وقوله:(خَالِفُوا الْمَجُوسَ) بيان للمعنى الحامل على الأمر بالجزّ، والإرخاء، أي لأنهم يتركون شواربهم، ويحلقون لحاهم، فيجب مخالفة هديهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[16/ 609](260)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 229 و 261 و 256 و 365 و 366 و 387 و 499)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(465)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(603)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 230)، وأما بقيّة المسائل فتقدّمت في شرح الأحاديث السابقة، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[610]
(261) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِب، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَة، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاء، وَقَصُّ الْأَظْفَار، وَغَسْلُ الْبَرَاجِم، وَنَتْفُ الْإِبْط، وَحَلْقُ الْعَانَة، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ" - قَالَ زَكَرِيَّاءُ: قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ - إِلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ، زَادَ قتيْبَةُ: قَالَ وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ - يَعْني الاسْتِنْجَاءَ -).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(وَكِيع) بن الجرّاح بن مليح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
3 -
(مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ) بن جُبير بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزَّى بن عثمان بن عبد الدار العَبْدَريّ المكيّ الْحَجَبيّ، ليّن الحديث [5].
رَوَى عن أبيه، وعمة أبيه، صفية بنت شيبة، وقَرِيبه مسافع، وطلق بن حبيب، وعُبيد بن محمد بن الحارث، وأبي حبيب يعلى بن منية.
وروى عنه ابنه زُرَارة، وحفيده عبد الله بن زُرارة، وقَريبه عبد الله بن مسافع بن شيبة، وابن جريج، ومسعر، وزكرياء بن أبي زائدة، وعبد الله بن أبي السفر، وغيرهم.
قال الأثرم، عن أحمد: رَوَى أحاديث مناكير، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا يحمدونه، وليس بقويّ، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال النسائيّ: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: في حديثه شيء، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، ولا بالحافظ، ورَوَى عن طلق بن حبيب، عن أبي الزبير، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل من الجنابة، والحجامة، ومن غسل الميت، ويوم الجمعة، قال أبو داود بعد تخريجه: ضعيفٌ، وقال ابن عديّ: تكلموا في حفظه، وقال العجليّ: ثقةٌ.
أخرج له المصنف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (261) و (314) و (2081) و (2424).
4 -
(طَلْقُ
(1)
بْنُ حَبِيبٍ) الْعَنَزيّ - بفتح العين المهملة، والنون - البصريّ، صدوقٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [3].
رَوَى عن عبد الله بن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وجندب، وأنس بن مالك، والأحنف بن قيس، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
(1)
بفتح الطاء المهملة، وسكون اللام، آخره قاف.
وروى عنه طاوسٌ، من أقرانه، وسعيد بن المهلَّب، والأعمش،
ومنصور، ومصعب بن شيبة، وسليمان التيميّ، والمختار بن فُلْفُل، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوق في الحديث، وكان يرى الإرجاء، وقال حماد بن زيد، عن أيوب: قال لي سعيد بن جبير: لا تجالسه، قال حماد: وكان يرى الإرجاء، وقال طاوس: كان طلق ممن يَخْشَى الله تعالى، وقال مالك بن أنس: بلغني أن طلق بن حبيب كان من العباد، وأنه هو وسعيد بن جبير، وقراء كانوا معهم طَلَبَهم الحجاج وقتلهم، وقال أبو زرعة: كوفي سمع ابن عباس، وهو ثقة، لكن كان يرى الإرجاء، وقال ابن سعد: كان مرجئًا ثقةً إن شاء الله تعالى، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مرجئًا عابدًا، وقال العجليّ: مكيّ تابعيّ ثقة، كان من أعبد أهل زمانه، وقال أبو بكر البزار في "مسنده": لا نعلمه سمع من أبي ذرّ شيئًا، وقال أبو الفتح الأزديّ: كان داعية إلى مذهبه تركوه، وذكره البخاريّ في "الأوسط" فيمن مات بين التسعين إلى المائة، وقال البخاريّ: ثنا عليّ، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو معدان، قال: سمعت حبيب بن أبي ثابت، قال: كنت مع طلق بن حبيب، وهو مُكَبَّل بالحديد، حين جيء به إلى الحجاج، مع سعيد بن جبير، ويقال: إنه أخرج من سجن الحجاج بعد موته، وتُوُفّي بعد ذلك بواسط، وقال أبو جعفر الطبري في "تاريخه": كَتَبَ الحجاج إلى الوليد أن أهل الشقاق لجأوا إلى مكة، فكتب الوليد إلى الْقَسْريّ، فأخذ عطاءً، وسعيد بن جبير، ومجاهدًا، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار، فأما عمرو، وعطاء، ومجاهد، فأُرسلوا؛ لأنهم كانوا من أهل مكة، وأما الآخران فَبَعَث بهما إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (261) و (2670).
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزَّى القرشيّ الأسديّ، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وُلد عام الهجرة، وحَفِظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث، وعن أبيه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة، وسفيان بن أبي زهير، وغيرهم،
وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد مَن ولي الخلافة منهم، يكنى أبا بكر، ثم قيل له: أبو خُبيب بولده.
ورَوَى عنه أخوه عروة، وابناه عامر وعباد، وابن أخيه محمد بن عروة، وأبو ذُبيان خليفة بن كعب، وعَبيدة بن عمرو السلماني، وعطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، ووهب بن كيسان، وابن أبي مليكة، وسماك بن حرب، وأبو الزبير، وثابت البناني، وآخرون.
وبويع بالخلافة سنة أربع وستين، عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود وُلد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنّكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمّاه باسم جده، وكناه بكنيته، وزعم الواقديّ أنه وُلد في السنة الثانية، والأصح الأول، وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي، قال: سمعت أصحابنا يقولون: وُلد سنة الهجرة، وأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي وُلد فيه يمشي، وكانت أسماء مع أبيها بالسُّنْح، فأُتيَ به، فَحَنَّكه، قال الزبير: والثبت عندنا أنه وُلد بقباء، وإنما سَكَن أبوه السُّنْح لَمّا تزوج مُليكة بنت خارجة بن زيد، قال الواقدي، ومن تبعه: وُلد في شوال سنة اثنتين.
ووقع في "الصحيح" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، صلى الله عليه وسلم أسماء، أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت، وأنا مُتِمٌّ، فأتيت المدينة، ونزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تَفَل في فيه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، وبَرّك عليه، وكان أول مولود وُلد في الإسلام. لفظ أحمد في "مسنده".
وأخرج ابن منده، من طريق عبد الله بن محمد بن عروة، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: خرجت أسماء حين هاجرت، وهي حامل، قالت: فنفستُ به فأتيته به ليحنكه، فأخذه، فوضعه في حجره، وأُتي بتمرة، فمصّها، ثم مضغها في فيه، فحنكه، فكان أول شيء دخل بطنه ربق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم مسحه، وسماه عبد الله، ثم جاء بعدُ، وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك الزبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه وبايعه، وكان أول مولود وُلد
في الإسلام بالمدينة، وكانت يهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد، فَكَبَّر الصحابة حين وُلد.
وفي "الرسالة" للشافعي: أن عبد الله بن الزبير كان له عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وقد حَفِظَ عنه.
وقال الدِّينَوري في "المجالسة": حدثنا إبراهيم بن يزيد، حدثنا أبو غسان، حدثنا محمد بن يحيى، أخبرني مصعب بن عثمان، قال: قال عبد الله بن الزبير: هاجرت وأنا في بطن أمي.
وأخرج الزبير من طريق مسلم بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كُلِّمَ في غِلْمَة من قريش تَرَعْرَعوا: عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن أبي سلمة، فقيل: لو بايعتهم، فتصيبهم بركتك، ويكون لهم ذكر، فأُتي بهم إليه، فكأنهم تكعكعوا، فاقتحم عبد الله بن الزبير أولهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه ابن أبيه. ومن طريق عبد الله بن مصعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جمع أبناء المهاجرين والأنصار الذين وُلدوا في الإسلام، حتى ترعرعوا، فوقفوا بين يديه، فبايعهم، وجلس لهم، فجمع منهم ابن الزبير. وأخرج البخاري في ترجمة عبد الله بن معاوية، عن عاصم بن الزبير أنه رَوَى عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن الزبير قال لابنه عبد الله: أنت أشبه الناس بأبي بكر.
وأخرج أبو يعلى، والبيهقي في "الدلائل" من طريق هُنيد بن القاسم، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحتجم، فلما فرغ قال:"يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه، حيث لا يراك أحد"، فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَمَد إلى الدم فشربه، فلمّا رجع قال: يا عبد الله ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، قال:"لعلك شربته؟ " قال: نعم، قال:"ولمَ شربت الدم؟، ويل للناس منك، وويل لك من الناس"، قال أبو موسى: قال أبو عاصم: فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.
وله شاهد من طريق كيسان، مولى ابن الزبير، عن سلمان الفارسي، قال الحافظ: رويناه في "جزء الغطريف"، وزاد في آخره:"لا تمسّك النار إلا تحلة القسم".
وفي البخاري عن ابن عباس أنه وصف ابن الزبير، فقال: عفيف الإسلام، قارئ القرآن، أبوه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت الصديق، وجدته صفية، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الزنجي بن خالد، عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصليًا أحسن صلاة من ابن الزبير، وأخرج أبو نعيم بسند صحيح عن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود، وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق ليث عن مجاهد: ما كان باب من العبادة إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل بالبيت، فرأيت ابن الزبير يطوف سِبَاحةً، وشهد ابن الزبير اليرموك مع أبيه الزبير، وشهد فتح إفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان، ذكره الزبير، وابن عائذ، واقتص الزبير قصة الفتح، وأن الفتح كان على يديه، وشهد الدار، وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة، وكان على الرجالة. قال الزبير: حدثني يحيى بن معين، عن هشام بن يوسف، عن معمر، أخبرني هشام بن عروة، قال: أُخذ عبد الله بن الزبير من وسط القتلى يوم الجمل، وفيه بضع وأربعون جراحة، فأَعطت عائشة البشير الذي بشّرها بأنه لم يمت عشرة آلاف، ثم اعتزل ابن الزبير حروب علي ومعاوية، ثم بايع لمعاوية، فلما أراد أن يبايع ليزيد امتنع، وتحوّل إلى مكة، وعاذ بالحرم، فأرسل إليه يزيدُ سليمانَ أن يبايع له، فأبى، ولَقَّب نفسه عائذ الله، فلما كانت وقعة الحرّة، وفَتَكَ أهل الشام بأهل المدينة، ثم تحولوا إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار، ففجعهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فتوادعوا، ورجع أهل الشام، وبايع الناس عبد الله بن الزبير بالخلافة، وأرسل إلى أهل الأمصار يبايعهم، إلا بعض أهل الشام، فسار مروان، فغلب على بقية الشام، ثم على مصر، ثم مات، فقام عبد الملك بن مروان، فغلب على العراق، وقتل مصعب بن الزبير، ثم جَهَّزَ الحجاج إلى ابن الزبير، فقاتله إلى أن قُتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وهذا هو المحفوظ، وهو قول الجمهور، وعند البغوي عن ابن وهب، عن مالك، أنه قُتل على رأس اثنتين وسبعين، وكأنه أراد بعد انقضائها
(1)
.
(1)
راجع "الإصابة" 4/ 78 - 82، و"تهذيب التهذيب" 2/ 333 - 334.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا
(1)
.
والباقون تقدّموا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، هي خالته، وتابعيّ، عن تابعيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": "عشرة من السنة" بدل "الفطرة".
قال النوويّ رحمه الله: يدلّ على عدم انحصار الفطرة في العشر
(2)
.
(قَصُّ الشَّارِبِ) أي قطع الشعر النابت على الشفة العليا، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في المسألة الثالثة عشرة من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور أول الباب (وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ) أي توفيرها، وتكثيرها، وقد تقدم مستوفى البحث في المسألة الثالثة من شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما (وَالسِّوَاكُ) بكسر السين يُطلق على الفعل، وهو الاستياك، وعلى الآلة التي يُستاك بها، وقد تقدّم تمام البحث فيه في "باب السواك"(وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ) أي جعل الماء في الأنف، وجذبه بالنَّفَس ليَنزل ما في الأنف، وقد تقدّم البحث عنه مستوفى في "باب صفة الوضوء، وكماله"، وفي رواية أبي عوانة:"والاستنثار بالماء" (وَقَصُّ
(1)
هكذا سجَّل له في برنامج الحديث (صخر)، والذي في "المجتبى" لابن الجوزيّ أن له من الأحاديث (33) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاري بستة، ومسلم بحديثين، والذي في البرنامج هو الأشبه بالصواب، فليتنبّه.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 147.
الْأَظْفَارِ) أي قطع ما طال منها، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في المسألة الحادية عشرة من شرح حديث أبي هريرة المذكور.
(وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ) - بفتح الباء الموحّدة، وبالجيم - جمع بُرْجُمَة - بضم الباء، والجيم - وهي عُقَد الأصابع التي في ظهر الكفّ، قال الخطابيّ: هي المواضع التي تتسخ، ويجتمع فيها الوسخ، ولا سيما ممن لا يكون طَرِيّ البدن، وقال الغزاليّ: كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام، فيجتمع في تلك الغضون وسخ، فأمر بغسلها.
وقال النوويّ: وهي سنة مستقلة، ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يُحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد أُلْحِقَ بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأُذن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنه ربما أضرّت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أيّ موضع كان من البدن بالعَرَق والغُبَار ونحوهما. انتهى.
وقد أخرج ابن عديّ من حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء؛ لأن الوسخ إليها سريع.
وللترمذي الحكيم، من حديث عبد الله بن بِشر رفعه:"قُصُّوا أظفاركم، وادفنوا قُلاماتكم، ونَقُّوا براجمكم"، وفي سنده راو مجهول.
ولأحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "ولم لا يبطئ عني، وأنتم لا تستنّون - أي لا تستاكون - ولا تَقُصّون شواربكم، ولا تُنَقُّون رواجبكم"، والرواجب جمع راجبة - بجيم بعدها موحّدة - قال أبو عبيد: البراجم، والرواجب: مفاصل الأصابع كلّها، وقال ابن سِيدَهْ: الْبُرْجُمَة: المفصل الباطن عند بعضهم، والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: قَصَب الأصابع، وقيل: هي ظُهُور السُّلاميات، وقيل: ما بين البراجم من السّلاميات، وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم الْمُسبّحات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبع ثلاث برجمات، إلا الإبهام فلها برجمتان، وقال الجوهريّ: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكفّ، وقال أيضًا: الرواجب رؤوس السلاميات من ظهر الكفّ، إذا قَبَض القابض كفَّه، نَشَزَت وارتفعت،
والأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعَصَب ظاهر الكفّ، واحدها أشجع، وقيل: هي عروق ظاهر الكف؛ قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَنَتْفُ الْإِبْطِ) أي نزع الشعر النابت في باطن المنكب بالأصابع، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (وَحَلْقُ الْعَانَةِ) أي الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، والشعر الذي حوالي فرج المرأة، وقد تقدّم شرحه أيضًا مستوفًى.
(وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ") - بالقاف، والصاد المهملة - قال أبو عوانة في "مستخرجه":"هو غسل الذكر بالماء"، وهو بمعنى تفسير وكيع الآتي بأنه الاستنجاء، وقال أبو عبيدة: معناه انتقاص البول، بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في رواية:"الانتضاح" بدل "انتقاص الماء"، قال الجمهور: الانتضاح نَضْحُ الفرج بماء قليل بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس، وقيل: هو الاستنجاء بالماء، وذكر ابن الأثير أنه رُوِيَ "انتفاص الماء" - بالفاء، والصاد المهملة - وقال في "فصل الفاء": قيل: الصواب أنه بالفاء، قال: والمراد نضحه على الذكر، من قولهم لنضح الدم القليل: نَفَصَةٌ، وجمعها نَفْصٌ، قال النوويّ: وهذا الذي نقله شاذّ، والصواب ما سبق. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وأما "الانتضاح": فقال أبو عبيد الهرويّ: هو أن يأخذ قليلًا من الماء، فينضح به مذاكيره بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس، وقال الخطابيّ: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النَّضْح، وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدةٌ، وعلى الأول فهو غيره، ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الْحَكَم بن سفيان الثقفيّ، أو سفيان بن الحكم، عن أبيه، أنه "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم أَخَذ حَفْنةً من ماء، فانتضح بها"، وأخرج البيهقيّ، من طريق سعيد بن جبير أن رجلًا أتى ابن عباس، فقال: إني أجد بللًا إذا قمت أصلي، فقال له ابن عباس: انضح بماء، فإذا وجدت من ذلك شيئًا، فقل هو منه. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 10/ 350 - 351.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 150.
(3)
"الفتح" 10/ 351.
(قَالَ زَكَرِيَّاءُ) أي ابن أبي زائدة الراوي عن مصعب بن شيبة (قَالَ مُصْعَبٌ) أي ابن شيبة (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ) أي الخصلة العاشرة من خصال الفطرة، وهذا صريح في كون الناسي هو مصعب بن شيبة، وفي الرواية التالية أن الذي نسي هو زكريّا، وبعده مما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم (إِلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا شكّ منه فيها، قال القاضي عياض رحمه الله: ولعلها الختان المذكور مع الخمس، يعني في حديث أبي هريرة الماضي، وتبعه القرطبيّ، والنوويّ، وقال: وهو أولى. انتهى
(1)
.
(زَادَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد (قَالَ وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ - يَعْنِي الاسْتِنْجَاءَ -) يعني أن وكيعًا فسّر الانتقاص بالاستنجاء، وقد سبق بيان الاختلاف فيه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[16/ 610](261)، و (أبو داود) في "الطهارة"(53)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2757)، و (النسائيّ) في "الزينة"(5040 و 5041)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(293)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(472 و 473)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(604 و 605)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(88)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في الكلام على هذا الحديث:
(اعلم): أنه اختُلف في هذا الحديث، فقد صحّحه المصنّف، حيث أخرجه هنا، وأعلّه النسائيّ، فقال بعد إخراجه من طريق سليمان التيميّ، قال: سمعت طلقًا يذكر عشرة من الفطرة
…
الحديث، ومن طريق جعفر بن إياس، عن طلق، قال:"عشرة من السنّة" ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: وحديث
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 150، و"المفهم" 1/ 512.
سليمان التيميّ، وجعفر بن إياس أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب منكر الحديث.
وحاصل ما أشار إليه النسائيّ رحمه الله ترجيح رواية سليمان التيميّ، وجعفر بن إياس، المقطوعة على رواية مصعب بن شيبة المتّصلة المرفوعة.
وهكذا رجّح الدارقطنيّ في "العلل" روايتهما، فقال: وهما أثبتُ من مصعب بن شيبة، وأصحّ حديثًا، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: مصعب بن شيبة أحاديثه مناكير، منها:"عشرة من الفطرة"، ولَمّا ذكر ابن منده أن مسلمًا أخرجه، وقال: تركه البخاريّ، فلم يُخرجه، وهو حديث معلول، رواه سليمان التيميّ، عن طلق بن حبيب، مرسلًا.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله
(1)
: لم يلتفت مسلم لهذا التعليل؛ لأنه قدّم وصل الثقة عنده على الإرسال، قال: وقد يقال في تقوية رواية مصعب: إن تثبّته في الفرق بين ما حفظه، وبين ما شكّ فيه جهةٌ مقوّيةٌ لعدم الغفلة، ومن لا يُتّهم بالكذب إذا ظهر منه ما يدلّ على التثبّت قويت روايته.
وأيضًا لروايته شاهد صحيح، مرفوع في كثير من هذا العدد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الشيخان
(2)
.
وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ترجيح النسائيّ للرواية المقطوعة على الموصولة ما نصّه: والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة وَثَّقه ابن معين، والعجليّ، وغيرهما، وليّنه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما، فحديثه حسنٌ، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحّته من هذه الحيثية سائغٌ، وقولُ سليمان التيميّ: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرًا من الفطرة، يَحْتَمِل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قِبَل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائيّ، وَيحْتَمل أن يريد أنه سمعه يذكرُها وسَنَدَهَا، فحَذَف سليمانُ السندَ.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عمار بن ياسر،
(1)
راجع "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" 1/ 401 - 402.
(2)
راجع "شرح السيوطيّ على النسائيّ" 8/ 128 - 129.
مرفوعًا، نحو حديث عائشة، قال:"من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وغسل البراجم، والانتضاح" وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة، ساقه ابن ماجه، وأما أبو داود، فأحال به على حديث عائشة، ثم قال: ورُوي نحوه عن ابن عباس، وقال:"خمس في الرأس"، وذكر منها "الفَرْقَ"، ولم يذكر "إعفاء اللحية".
قال الحافظ: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"، والطبريّ من طريقه بسند صحيح، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية، قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فذكر مثل حديث عائشة رضي الله عنها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث صحيح، كما هو مذهب المصنّف، حيث أخرجه هنا، وكذا ابن خزيمة، حيث أخرجه في "صحيحه" برقم (88)، وذلك ترجيحًا لرواية مصعب؛ لأمرين:
[أحدهما]: كونه حفظ الحديث، ومما يقوّي ذلك، وأنه متثبّت فيه - كما قاله ابن دقيق العيد - أنه ميّز بين ما حفظه، وبين ما شكّ فيه، وهذا دليلٌ قويّ على أنه لم يغفل في هذا الحديث.
[الثاني]: وجود شاهد صحيح مرفوع لكثير من هذا العدد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره، كما سبق بيانه.
والحاصل أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[611]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مِثلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُوهُ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ).
(1)
"الفتح" 10/ 350.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الْهَمدانيّ الكوفيّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) عن (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بالإسناد السابق، فـ"في" بمعنى الباء، يعني أن يحيى بن زكريا روى الحديث بسند أبيه مثل حديث وكيع عنه.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ) أي يحيى بن أبي زائدة (قَالَ: قَالَ أَبُوهُ) أي زكريا بن أبي زائدة (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ) تقدّم أن الذي نسيها هو مصعب، ولعله سقط هنا قوله:"قال مصعبٌ"، وأما حمله على أنه أيضًا نسيها، فبعيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي زائدة هذه لم أجد من أخرجها تامّة، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[(17) - (بَابُ آدَابِ التَّخَلِّي، وَالاسْتِنْجَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[612]
(262) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ
(1)
، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِين، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاَثةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يُرسل كثيرًا [5](ت 96) وهو ابن (50) أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
3 -
(سَلْمَانُ) هو: سلمان الخير، أبو عبد الله، ابن الإسلام أصله من أصبهان، وقيل: من رامهرمز، أسلم عند قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول مشاهده الخندق، وشَهِد بقية المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس، وكعب بن عُجْرة، وابن عباس، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو الطُّفيل، وأم الدرداء الصغرى، وأبو عثمان النَّهْديّ، وزاذان أبو عمر، وسعيد بن وهب الْهَمْدانيّ، وطارق بن شهاب، وعبد الله بن وديعة، وعبد الرحمن بن يزيد النخعيّ، وشَهْر بن حَوْشَب، وفي سماعه منه نظر، وجماعة.
يقال: إنه أدرك وصيّ عيسى ابن مريم عليه السلام وقيل: عاش مائتين وخمسين سنة، أو أكثر، ورُويت قصةُ إسلامه من وجوه كثيرة، وقال أبو ربيعة الإياديّ، عن ابن بريدة، عن أبيه، رفعه: "إن الله يحب من أصحابي أربعة
…
"، فذكره فيهم، وقال سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال: آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، قال الواقديّ، وغير واحد: مات بالمدائن في خلافة عثمان، وقال أبو عبيد، وغيره: مات سنة (36)، وقال خليفة في موضع آخر: مات سنة (37)، وقيل: مات سنة (33)، قال الحافظ: وهو أشبه؛ لما رَوَى عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، وقد
(1)
وفي نسخة: "بغائط".
مات ابن مسعود قبل سنة (34) باتفاق، وقال أبو الشيخ: سمعت جعفر بن أحمد بن فارس، يقول: سمعت العباس بن يزيد، يقول لمحمد بن النعمان: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتين وخمسين فلا يشكّون فيه.
وقال ابن حبان: هو سلمان الخير، ومن زعم أنهما اثنان، فقد وَهِمَ.
وذكر العسكريّ أن اسم المرأة التي اشترته حُليسة، وقال ابن عبد البر: يقال: إنه شَهِد بدرًا.
وروى البخاريّ في "صحيحه" عن سلمان أنه قال: أنا من رامَهُرْمُز، وفيه أيضًا عن سلمان، أنه تداوله بضعة عشر من ربّ إلى ربّ.
وأخرج ابن حبان، والحاكم في "صحيحيهما" قصة إسلام سلمان، من رواية حاتم بن أبي صَغِيرة، عن سماك بن حرب، عن زيد بن صُوحان، عنه، ورُوي من طُرُق أَخرى، من حديث بُريدة بن الحصيب وغيره.
قال الحافظ: وقد قرأت بخط أبي عبد الله الذهبيّ: رَجَعتُ عن القول بأنه قارب الثلاثمائة، أو زاد عليها، وتَبَيَّن لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك، والعلم عند الله تعالى. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (262) وأعاده بعده، و (1913) و (2451)(2753) وأعاده بعده.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والذي قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(منها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، فله فيه سندان، يلتقيان في الأعمش.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 68 - 69، و"الإصابة" 3/ 118 - 120.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه يحيى بن يحيى التميميّ، فنيسابوريّ، والصحابيّ مدنيّ، وَلي المدائن.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الرجل عن خاله، وهو إبراهيم، فإن عبد الرحمن خاله، وكذا أخوه الأسود بن يزيد، فأمه مُليكة بنت يزيد بن قيس أخت لهما.
6 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المعمّرين، لا يشاركه في مدّة عمره على بعض الأقوال غيره، كما أسلفت الخلاف في ذلك آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلْمَانَ) الفارسيّ رضي الله عنه، وقوله:(قَالَ: قِيلَ لَهُ) يحتمل أن يكون فاعل "قال" ضمير عبد الرحمن، وقوله:"عن سلمان" حال منه، أي قال عبد الرحمن حال كونه راويًا عن سلمان رضي الله عنه.
ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير سلمان، ويكون الكلام من باب التجريد؛ إذ الأصل أن يقول: قيل لي، لكنه جرّد من نفسه شخصًا حَكَى عنه.
وقد بيّن القائل في الرواية التالية، حيث قال:"عن سلمان، قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يُعلّمكم .. إلخ"، وفي رواية ابن ماجه:"قال: قال بعض المشركين، وهم يستهزئون به: إني أرى صاحبكم .. إلخ"، والحاصل أنهم قالوا ذلك استهزاءً، ومقول "قيل" جملة قوله:(قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ) أي أيَّ شيء كان، خطيرًا، أو حقيرًا (حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟) بكسر الخاء المعجمة، والمدّ: هو التخلّي، والقعود للحاجة؛ قاله ابن الأثير رحمه الله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو بكسر الخاء، ممدود، مهموزٌ، وهو اسم فعل الحدث، وأما الحدث نفسه فبغير تاء ممدودٌ، وتُفتح خاؤه، وتُكسر، ويقال: بفتحها، وسكون الراء والقصر، من غير مدّ. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 1/ 516.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: وأكثر الرواة يفتحون الخاء، قال: وقد يَحْتَمل أن يكون بالفتح مصدرًا، وبالكسر اسمًا، يقال: خَرِيءَ خَرَاءَةً، وخُرءَةً، وخَرْءًا: سَلَحَ، مثلُ كَرِهَ كَرَاهَةً، وكَرْهًا، والاسم: الْخِرَاءُ، والْخُرْءُ بالضمّ: الْعَذِرَةُ؛ أفاده في "اللسان".
وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَرِيءَ يَخْرَأُ، من باب تَعِبَ: إذا تغَوّط، واسم الخارج خَرْءٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس. انتهى.
وقال السنديّ رحمه الله: الْخِرَاءةُ - بكسر الخاء، وفتح الراء، بعدها ألفٌ ممدودة، ثمّ هاءٌ -: هو القعود عند الحاجة، وقيل: هو فعلُ الحدث، وأنكر بعضهم فتح الخاء، لكن في "الصحاح": خَرِيءَ خَرَاءةً، ككره كَرَاهَةً، وهو يفيد صحّة الفتح، وقيل: لعلّه بالفتح مصدرٌ، وبالكسر اسم، وقيل: المراد هيئة القعود للحدث.
قال السنديّ: وهذا المعنى يقتضي أن يكون بكسر الحاء، وسكون الراء، وهمزة، كجِلْسَةٍ لهيئة الجلوس. انتهى.
والمراد هنا أن نبيّكم صلى الله عليه وسلم يعلّمكم آداب التخلّي، وكيفية القعود عند قضاء الحاجة، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) عبد الرحمن، أو سلمان على الاحتمال الماضي (فَقَالَ: أَجَلْ) - بفتحتين، وسكون اللام - كنعَمْ وزنًا ومعنًى، قال في "اللسان": وقولهم: "أَجَلْ" إنما هو جواب مثلُ "نَعَمْ"، قال الأخفش: إلا أنه أحسنُ من "نَعَمْ" في التصديق، و"نعم" أحسن منه في الاستفهام، فماذا قال: أنت سوف تذهب، قلت: أجل، وكان أحسن من نعم، وإذا قال: أتذهب؛ قلت: نعم، وكان أحسن من أجل، و"أجل" تصديق لخببر يُخبِرُك به صاحبك، فيقول: فَعَلَ ذلك، فتُصدّقه بقولك له: أجل، وأما "نعَمْ" فهو جواب المستفهم بكلام لا جَحْدَ فيه، تقول له: هل صلّيتَ؟ فيقول: نعم، فهو جواب المستفهم. انتهى.
يقول سلمان رضي الله عنه: نعم عَلَّمنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم كلّ شيء نحتاج إليه في ديننا حتى الخراءة التي ذكرتها أيها المستهزئ، فإنه علّمنا آدابها.
قال الطيبيّ رحمه الله: جواب سلمان هذا من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لَمّا استهزأ كان من حقّه أن يُهَدَّد، أو يُسكَت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأجاب جواب المرشد للسائل المجِدّ. انتهى.
وقال بعضهم: يحتمل أنه ردٌّ له بأن ما زعمه سببًا للاستهزاء ليس بسبب له، بل المسلم يصرِّح به عند الأعداء؛ لأنه أمرٌ يُحسّنه العقل عند معرفة تفصيله، فلا عبرة بالاستهزاء به؛ لإضافته إلى أمر مستقبح ذكرُهُ، والجواب بالردّ لا يُسمّى أسلوب الحكيم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أسلوب الحكيم نوعٌ من أنواع الْمُحَسِّنات البديعيّة المعنويّة، وهو تَلَقِّي المخاطب بغير ما يترقّبه، إما بترك سؤاله، والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد؛ إشارةً إلى أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال، أو يَقصِد هذا المعنى.
إذا تقرّر هذا، فقد اتّضح أن ما قاله الطيبيّ رحمه الله من أن جواب سلمان رضي الله عنه من أسلوب الحكيم هو الحقّ، لا الاحتمال الذي ذكره البعض، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(لَقَدْ نَهَانَا) اللام واقعة في جواب قسم مقدَّر؛ لتأكيد الجملة؛ لمناسبة إنكار السائل، أي: والله لقد نهانا نبيّنا صلى الله عليه وسلم (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) و"أن" مصدريّة، والمؤوّل بالمصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر قياسًا، أي عن استقبال القبلة، والمراد الاستقبال بالفروج، كما هو في رواية "الموطّأ":"لا تستقبلوا القبلة بفروجكم"، و"أل" في "القبلة" للعهد، والمعهود الكعبة، كما فُسِّر بذلك في حديث أبي أيوب الآتي، حيث قال:"فقدمنا الشامَ، فوجدنا مَراحيضَ قد بُنِيت نحو الكعبة" الحديث (لِغَائِطٍ) قال النوويّ رحمه الله: كذا ضبطناه في مسلم: "لغائط" باللام، ورُوي في غيره:"بغائط"، ورُوي:"للغائط" باللام، والباء، وهما بمعنى. انتهى.
(1)
راجع "المنهل العذب المورود" 1/ 38.
وقال وليّ الدين رحمه الله: ضبطناه في "سنن أبي داود" بالباء الموحّدة، وفي مسلم باللام. انتهى.
أي لأجل غائط، أو بسببه.
و"الغائط" في الأصل: المكان المنخفض من الأرض، ثم صار اسمًا للخارج المعروف من دبر الآدميّ؛ قاله النوويّ
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الغائط": الْمُطْمَئِنّ الواسع من الأرض، والجمع غِيطان، وأَغْواط، وغُوْطٌ، ثم أُطلق الغائط على الخارج الْمُسْتَقذَر من الإنسان؛ كراهةً لتسميته باسمه الخاصّ؛ لأنهم كانوا يَقضُون حوائجهم في المواضع الْمُطْمَئِنّة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسّعوا فيه، حتى اشتقّوا منه، وقالوا: تَغَوّط الإنسان، قال ابن الْقُوطيّة: غاط في الماء غَوْطًا: دخل فيه، ومنه الغائط. انتهى
(2)
.
(أَوْ بَوْلٍ) - بفتح الموحّدة، وسكون الواو - هو: في الأصل مصدر بالَ يبول بولًا، من باب قال، ومَبَالًا، فهو بائلٌ، ثم استُعمل البول في العين - أي الماء الخارج من الْقُبُل - وجُمِع على أبوال
(3)
.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: دلّ الحديث على المنع من استقبال القبلة ببول، أو غائط، وهذه الحالة تتضمّن أمرين: أحدهما خروج الخارج المستقذر، والثاني كشف العورة، فمن الناس من قال: المنع لكشف العورة، وَيَنبني على هذا الخلاف في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة، فمن علّل بالخارج أباحه؛ إذ لا خارج، ومن علّل بالعورة منعه. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الظاهر؛ لظاهر قوله: "بغائط، أو بول"، وسيأتي تمام البحث قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ)"أو" للتنويع، وليست للشكّ، والمصدر المؤوّل معطوف على المجرور السابق، أي: ونهانا أيضًا عن الاستنجاء باليد اليمنى، ومعنى
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 154.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 457.
(3)
راجع "المصباح" 1/ 66.
(4)
"إحكام الأحكام" 1/ 53.
"نستنجي": أي نغسل موضع النَّجْو - بفتح، فسكون -: أي الخِراءة بالماء، أو نمسحه بالحجر ونحوه.
وقال ابن الأثير رحمه الله: الاستنجاء: استخراجِ النَّجْو من البطن، وقيل: هو إزالته عن بدنه بالغسل والمسح، وقيل: هو مِن نجَوْتُ الشجرةَ، وأنجيتها: إذا قطعتها، كأنه قَطَعَ الأذى عن نفسه، وقيل: هو من النَّجْوَة، وهو ما ارتفع من الأرض، كأنه يَطلُبها ليجلس تحتها. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: واستنجيتُ: غسلتُ موضعَ النّجْو، أو مسحته بحجر، أو مَدَرٍ، والأول مأخوذ من استنجيتُ الشجرَ: إذا قطعته من أصله؛ لأن الغسل يُزيل الأثر، والثاني من استنجيتُ النَّخْلةَ: إذا التقطتَ رُطَبَهَا؛ لأن المسح لا يقطع النجاسة، بل يُبقي أثرها. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: يُسمّى الاستنجاءُ الاستطابةَ أيضًا، وهى إزالة الأذى عن المَخرجين بحجر، أو نحوه، أو هي مأخوذة من الطيب؛ لأن إزالة الفضلة تُطَيِّب المحلَّ، وتذهب عنه القَذَر، يقال: استطاب الرجل، فهو مستطيبٌ، وأطاب، فهو مُطِيب؛ قاله ابن الملقّن
(3)
.
وقال الفيّوميّ: الاستطابة: الاستنجاء، يقال: استطاب، وأطاب إطابةً أيضًا؛ لأن المستنجي تطيب نفسه بإزالة الْخَبَث عن المخرج. انتهى
(4)
.
(بِالْيَمِينِ) قال ابن سِيدهْ: اليمين: نقيض اليسار، جمعه أيمان، وأيمُن، ويَمَان؛ قاله في "اللسان"
(5)
، ويقال لها: الْيُمنى، وهي مؤنّثة؛ قاله في "المصباح"
(6)
.
والنهي عن الاستنجاء باليمين يدلّ على إكرامها، وصيانتها عن الأقذار،
(1)
"النهاية" 5/ 26.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 595.
(3)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 420.
(4)
"المصباح" 2/ 382.
(5)
"لسان العرب" 13/ 458 - 459.
(6)
2/ 682.
ونحوها؛ لأن اليمين للأكل والشرب، والأخذ، والإعطاء، وهي مصونة عن مباشرة الثُّفْل
(1)
، وعن ممارسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات، خلاف الشمال، فإنها لخدمة أسفل البدن بإماطة ما هناك من الْقَذَارَات، وتنظيف ما يحدث من الإنسان وغيره، وسيأتي تحقيق المسألة قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاَثةِ أَحْجَارٍ) أي نهانا أيضًا عن الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار، وهذا نصّ صريح صحيحٌ في أن استيفاء ثلاث مسحات واجبٌ لا بدّ منه، وهو الصواب، والمسألة فيها خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: فيه بيان أن الاستنجاء بالأحجار أحد المطهِّرين، وأنه إذا لم يستعمل الماء لم يكن بُدّ من الحجارة، أو ما يقوم مقامها، وهو قول سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل. انتهى.
(أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ) - بفتح الراء، وكسر الجيم -: فعيلٌ بمعنى فاعل، وهو الروث، والْعَذِرَةُ؛ سُمّي به؛ لأنه رَجَعَ عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا، أو عَلَفًا، وكذلك كلُّ فعلٍ، أو قولٍ يُرَدّ فهو رَجِيعٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعول بالتخفيف؛ أفاده الفيّوميّ
(2)
.
(أَوْ) ليست للشكّ، بل للتنويع، كما سبق قريبًا، أي: ونهانا أيضًا أن نستنجي (بِعَظْمٍ) - بفتح، فسكون -: جمعه عِظَامٌ، وأعظُمٌ، مثلُ سِهَام، وأَسْهُم؛ قاله الفيّوميّ
(3)
.
وقال المجد رحمه الله: الْعَظْمُ: قَصَبُ الْحَيَوان الذي عليه اللحمُ، جمعه: أَعظُمٌ، وعِظَامٌ، وعِظَامةٌ، والهاء لتأنيث الجمع. انتهى
(4)
.
(1)
"الثُّفْلُ" بضم، فسكون، جمعه أثفال، كقُفْل وأققال: حُثَالة الشيء، وهو الثخين الذي يبقى أسفل الصافي، أفاده في "المصباح" 1/ 82.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 220.
(3)
المصدر السابق 2/ 417.
(4)
"القاموس المحيط" ص 1027.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "برجيع، أو بعظم" الرَّجِيع: الْعَذِرة، والأرواث، ولا يُستنجى بها؛ لنجاستها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين أتاه بالحجرين والروثة:"إنها رجسٌ"، رواه البخاريّ. وقد أخرج أبو داود في "سننه" بسند صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَدِم وَفْدُ الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا محمد انْهَ أُمّتك أن يستنجوا بعظمٍ، أو روثة، أو حُمَمة، فإن الله تعالى جَعَلَ لنا فيها رزقًا
(1)
.
وأخرج البخاريّ في "المناقب" من "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يَحْمِل مع النبيَّ صلى الله عليه وسلم إداوةً لوضوئه، وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:"مَنْ هذا؟ " فقال: أنا أبو هريرة، فقال:"ابغني أحجارًا، أستنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا بروثة"، فأتيته بأحجار، أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟، قال:"هما من طعام الجنّ، وإنه أتاني وَفْدُ جنّ نَصِيبين - ونعم الجنُّ - فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يَمُرُّوا بعظم، ولا بروثة، إلا وَجَدُوا عليها طعامًا"
(2)
.
وأخرج المصنّف رحمه الله في "الصلاة" حديث ابن مسعود رضي الله عنه بطوله، وفيه: وسألوه الزاد، فقال: لكم كلُّ عظم ذُكِر اسمُ الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة عَلَفٌ لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم"
(3)
.
وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود في "سننه" برقم (39).
(2)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه""كتاب المناقب" رقم (3860).
(3)
سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب الصلاة" مطوّلًا برقم (450).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[17/ 612](262)، و (أبو داود) في "الطهارة"(7)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(16)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(41 و 49) وفي "الكبرى"(40)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(316)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 437 و 438)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(579 و 580)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(606 و 607)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتعليم أمته كلّ ما تحتاج إليه من أمر دينها.
2 -
(ومنها): شدّة اهتمام أعداء الإسلام من المشركين، وأهل الكتاب في البحث عما يعيبون به الإسلام، ويجادلون في ذلك بالباطل، وليس مرادهم إلا إغواء ضعفاء الإيمان، فلا ينبغي الاستماع إليهم، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
3 -
(ومنها): بيان فضل فقه الصحابيّ الجليل سلمان رضي الله عنه، حيث أجاب المشركين المعاندين ببيان الأحكام الشرعيّة التي لو فكّر أيّ عاقل لاستحسنها، ولعمل بها، فكلّ التعليمات النبويّة ليس فيها شيء يأباه القلب، ويعرض عنه، إلا من كتب الله عز وجل عليه الشقاء المؤبّد، فإنه الذي لا يدرك محاسنها، ولكنه لا يضرّ الإسلام شيئًا، كما قال الشاعر [من البسيط]:
مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى فِي الأُفْقِ طَالِعَةً
…
أَنْ لَا يَرَى ضَوْأَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
4 -
(ومنها): بيان النهي عن استقبال القبلة بغائط، أو بول، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
5 -
(ومنها): بيان النهي عن الاستنجاء باليمين، وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
6 -
(ومنها): بيان مشروعيّة الاستنجاء بالحجارة، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
7 -
(ومنها): بيان النهي عن الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار، وأن ما دونها لا يجزئ؛ لأن قوله:"أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" نصّ صريحٌ صحيحٌ في أن استيفاء ثلاث مسحات واجبٌ، لا بد منه، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وهذا هو المذهبُ الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم استقبال القبلة، واستدبارها حال قضاء الحاجة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختَلَف أهل العلم في هذا الباب:
فذهبت طائفة إلى ظاهر هذه الأخبار، فقالت: لا يجوز استقبال القبلة، ولا استدبارها بغائط، ولا بول، في البراري والمنازل، هذا قول سفيان الثوريّ، وقال أحمد بن حنبل: يعجبني أن يتوقى في الصحراء والبيوت، وكره مجاهد، والنخعي ذلك.
وحجة هذه الفرقة ظاهر هذه الأخبار التي فيها النهي عن العموم.
ورَخَّصت طائفة في استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول، هذا قول عروة بن الزبير، وكان يقول: وأين أنت منها؟ وقد حُكِيَ هذا القول عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واحتَجَّ بعض من يوافق هذا القول بما رواه خالد بن أبي الصَّلت، قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا استقبال القبلة بالفروج، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذُكِر عنده أن ناسًا يَكرَهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوَ قد فعلوها، استقبِلُوا بمقعدي إلى القبلة".
رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف، قد استوفى علله في "تهذيب التهذيب"
(1)
في ترجمة خالد بن أبي الصلت، فتحسين النوويّ له في "شرحه" غير مقبول، فتنبّه.
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 522 - 523.
وذهب بعضهم إلى الإباحة، قالوا: جاءت الأخبار في هذا الباب مختلفةً، ولا يُعْرَف ناسخها من منسوخها، فوجب إيقاف الخبرين، وحَمْلُ الأشياء على الإباحة التي كانت؛ لِعدم معرفة الناسخ من الخبرين.
وفَرَّقت فرقة بين استقبال القبلة، واستدبارها في الصحاري والمنازل، فنَهَت عن ذلك في الصحاري، ورَخَّصَت فيه في المنازل، رُوي هذا القول عن الشعبيّ، وبه قال الشافعيّ، وإسحاق بن راهويه، وحُكِي عن مالك هذا المعنى، حَكَى ابن القاسم عن مالك، أنه سئل عن استقبال القبلة للغائط: أترى البيوت مثل الصحاري؟ قال: لا، ولا أرى في البيوت شيئًا، وحَكَى عنه ابن وهب أنه قال: في البيوت أَحَبّ عندي.
واحتج من قال بهذا القول في النهي عن ذلك في الصحاري بخبر أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه الآتي، واحتج في الرخصة في ذلك في المنازل بحديث ابن عمر رضي رضي الله عنهما الآتي أيضًا.
قال ابن المنذر رحمه الله بعد نقل هذه المذاهب: وأصح هذه المذاهب مذهبُ مَنْ فَرَّق بين الصحاري والمنازل في هذا الباب، وذلك أن يكون ظاهر نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم على العموم إلا ما خصته السنة، فيكون ما خصته السنة مُسْتَثنًى من جملة النهي، وإنما تكمن الأخبار متضادّةً إذا جاءت جملةٌ فيها ذِكرُ النهي يقابل جملةً فيها ذكر الإباحة، فلا يمكن استعمال شيء منها، إلا بطرح ما ضادّها، وسبيل هذا كسبيل نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالثمر جملةً، ثم رَخَّصَ في بيع الْعَرَايا بِخَرْصِها، فبيع العرية مستثنى من جملة نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر، وكذلك نهيه عن بيع ما ليس عند المرء وإذنه في السلم، وهذا الوجه موجود في كثير من السنن، والله أعلم.
فلما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بالغائط والبول نهيًا عامًّا، واستَقْبَل بيت المقدس، مستدبرًا الكعبة، كان إباحةُ ذلك في المنازل مخصوصًا من جملة النهي. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
(1)
"الأوسط" 1/ 324 - 328.
وقال النووي رحمه الله في "شرحه": وأما النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط، فقد اختَلَف العلماء فيه على مذاهب:
[أحدهما]: مذهب مالك، والشافعيّ - رحمهما الله تعالى - أنه يحرم استقبال القبلة في الصحراء بالبول والغائط، ولا يحرم ذلك في البنيان، وهذا مرويّ عن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والشعبيّ، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين - رحمهم الله تعالى -.
[والمذهب الثاني]: أنه لا يجوز ذلك، لا في البنيان، ولا في الصحراء، وهو قول أبي أيوب الأنصاريّ الصحابيّ رضي الله عنه، ومجاهد، وإبراهيم النخعيّ، وسفيان الثوريّ، وأبي ثور، وأحمد في رواية.
[والمذهب الثالث]: جواز ذلك في البنيان والصحراء جميعًا، وهو مذهب عروة بن الزبير، وربيعة، شيخ مالك، وداود الظاهريّ - رحمهم الله تعالى -.
[والمذهب الرابع]: لا يجوز الاستقبال، لا في الصحراء، ولا في البنيان، ويجوز الاستدبار فيهما، وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأحمد - رحمهما الله تعالى -.
واحتج المانعون مطلقًا بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقًا، كحديث سلمان المذكور هنا، وحديث أبي أيوب، وأبي هريرة، وغيرهما، قالوا: ولأنه إنما منع لحرمة القبلة، وهذا المعنى موجود في البنيان والصحراء، ولأنه لو كان الحائل كافيًا لجاز في الصحراء؛ لأن بيننا وبين الكعبة جبالًا، وأوديةً، وغير ذلك من أنواع الحائل.
واحتج من أباح مطلقًا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ذكره: "أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم مستقبلًا بيت المقدس، مستدبر القبلة"، وبحديث عائشة رضي الله عنها المذكور آنفًا، وقد عرفت أنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به.
واحتج مَن أباح الاستدبار دون الاستقبال، بحديث سلمان رضي الله عنه.
واحتج من حَرَّم الاستقبال والاستدبار في الصحراء، وأباحهما في البنيان، بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في هذا الكتاب، وبحديث عائشة رضي الله عنها الذي مرّ ذكره، وقد عرفت ما فيه.
وبحديث جابر رضي الله عنه قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يُقْبَض بعام يستقبلها، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما، وإسناده حسن.
وبحديث مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته، مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن: أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ فقال: بلى، إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس، رواه أبو داود وغيره، وهو حديث حسن.
قال النوويّ رحمه الله: فهذه أحاديث صحيحةٌ مصرحةٌ بالجواز في البنيان، وحديث أبي أيوب، وسلمان، وأبي هريرة، وغيرهم وردت بالنهي، فيُحْمَل على الصحراء؛ لِيُجْمَع بين الأحاديث، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها، والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى، بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة، بخلاف الصحراء.
وأما من أباح الاستدبار، فيُحْتَجّ على ردّ مذهبه بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن الاستقبال والاستدبار جميعًا، كحديث أبي أيوب، وغيره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب المختار هو ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، وكثير من أهل العلم، وهو الفرق بين البنيان، والصحراء، فيجوز في البيان، ويحرم في الصحراء، وهذا هو الذي اختاره ابن المنذر رحمه الله، كما سبق في كلامه، وهو مذهب الإمام البخاريّ رحمه الله حيث قال في "صحيحه":"باب لا تُستقبَلُ القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، جدارٍ، أو نحوه"، ومذهب النسائيّ أيضًا، حيث قال في "المجتبى" بعد ذكر أحاديث
النهي: "الرخصة في ذلك في البيوت"، وهو أعدل المذاهب؛ لجمعه بين الأدلّة - كما قال النوويّ، والحافظ - رحمهما الله تعالى -.
والحاصل أنه يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان، لا في الصحراء؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، وقد استوفيت مباحث هذه المسألة في "شرح النسائيّ"، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فوائد]: ذكرها النوويّ رحمه الله في "شرحه"
(1)
:
(الأولى): قال رحمه الله: المختار عند الشافعيّة: أنه إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان إذا كان قريبًا من ساتر، من جُدْران ونحوها، بحيث يكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها، وأن يكون الحائل مرتفعًا بحيث يَستُر أسافل الإنسان، وقدَّروه بآخرة الرَّحْل، وهي نحو ثلثي ذراع، فإن زاد ما بينه وبينه على ثلاثة أذرع، أو قصر الحائل عن آخرة الرحل، فهو حرام كالصحراء، إلا إذا كان في بيت بُنِي لذلك، فلا حجْر فيه كيف كان، قالوا: ولو كان في الصحراء، وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، فالاعتبار بوجود الساتر المذكور وعدمه، فيحلّ في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم فيهما لعدمه، هذا هو الصحيح المشهور عند أصحابنا، ومنهم من اعتبر الصحراء والبنيان مطلقًا، ولم يعتبر الحائل، فأباح في البنيان بكل حال، وحَرَّم في الصحراء بكل حال، والصحيح الأول، وفرَّعوا عليه، فقالوا: لا فرق بين أن يكون الساتر دابةً، أو جدارًا، أو وَهْدةً، أو كثيب رمل، أو جبلًا، ولو أرخى ذيله في قُبالة القبلة، ففي حصول السَّتر وجهان لأصحابنا، أصحهما عندهم، وأشهرهما أنه ساتر؛ لحصول الحائل. انتهى، وهو بحثٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(الثانية): حيث جَوَّزنا الاستقبال والاستدبار، قال جماعة من أصحابنا: هو مكروه، ولم يذكر الجمهور الكراهة، والمختار أنه لو كان عليه مشقة في تكلُّف التحرف عن القبلة، فلا كراهة، وإن لم تكن مشقة، فالأولى تجنبه؛
(1)
راجع "شرح النوويّ على صحيح مسلم" 3/ 155 - 156.
للخروج من خلاف العلماء، ولا تُطلَق عليه الكراهة؛ للأحاديث الصحيحة فيه. انتهى.
(الثالثة): أنه يجوز الجماع مستقبل القبلة في الصحراء والبنيان، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وداود الظاهريّ، واختَلَف فيه أصحاب مالك، فجوَّزه ابن القاسم، وكرهه ابن حبيب، والصواب الجواز، فإن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يَرِد فيه نَهْيٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(الرابعة): أنه لا يحرم استقبال بيت المقدس، ولا استدباره بالبول والغائط، لكن يكره.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أطلق النوويّ الكراهة، وهو محلّ نظر؛ لأنه ليس عليها دليلٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(الخامسة): إذا تجنب استقبال القبلة، واستدبارها حال خروج البول والغائط، ثم أراد الاستقبال، أو الاستدبار حال الاستنجاء جاز. انتهت هذه الفوائد منقولة عن النوويّ رحمه الله، وهي فوائد حسان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنجاء بالحجارة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بثلاثة أحجار، وقد اختَلَف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن بعدهم في الاستنجاء، فرأت طائفة منهم الاستنجاء بالأحجار، وممن كان يستنجي بثلاثة أحجار: ابنُ عمر، ورُوي ذلك عن خزيمة بن ثابت، وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، ورَوَينا عن عمر بن الخطاب أنه بال، ثم أَخَذ حجرًا، فمسح به ذكره.
قال: وممن رُوي عنه أنه أنكر الاستنجاء بالماء حذيفةُ، وسعد بن مالك، وابن الزبير، ثم أخرج بسنده أن حذيفة رضي الله عنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذن لا يزال في يدي نَتْنٌ، وأخرج بسنده عن عبد الله بن الزبير أنه قال: لعن الله غاسل استه، وعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه مرّ برجل يبول، فغسل أثر
البول، فقال سعد: لِمَ تزيدون في دينكم ما ليس منه؟، وقال سعيد بن المسيب: أوَ يفعل ذلك - يعني الغسل بالماء - إلا النساء؟ وكان الحسن البصريّ لا يغسل بالماء، ورَوَينا عن عطاء أنه قال: غسلُ الدبر مُحْدَث.
قال: وممن كان يرى الاستنجاء بالحجارة: سفيانُ الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وسئل مالك عمن استنجى بالأحجار، ولم يستنج بالماء، وصَلَّى؟ قال: لا يُعيد.
قال: ورأت طائفة الاستنجاء بالماء، فممن كان يَرَى ذلك ابنُ عمر بعد أن لم يكن يراه، ورافع بن خَدِيج، وحُذيفة رضي الله عنهم.
ثم أخرج بسنده عن نافع، قال: بلغ ابنَ عمر أن معاوية يغسل عنه أثر الغائط والبول، فكان ابن عمر يَعجَب منه، ثم غسله بعدُ، فقال: يا نافع جرّبناه، فوجدناه صالحًا.
وأخرج من طريق الأوزاعيّ قال: حدثني أبو النجاشيّ، قال: صحبت رافع بن خَدِيج سبع سنين، فكان يستنجي بالماء.
ومن طريق حُصين بن عبد الرحمن، عن زِرّ، عن حنظلة، قال: كان حذيفة يستنجي بالماء إذا خرج من الخلاء. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الصحيح هو القول بجواز الاستنجاء بالحجارة، والماء، كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الذين أنكروا الاستنجاء بالماء، فيُعتذر عنهم بأنه لم يثبت عندهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيء، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
والحاصل أن الاستنجاء بالماء جائز، بل هو الأولى إن تيسّر، وسنعود إلى تحقيق المسألة في "باب الاستنجاء بالماء" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الأوسط" 1/ 344 - 349.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: دلت الأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن ثلاثة أحجار تجزي من الاستنجاء، وبذلك قال كلُّ من نَحفَظ عنه من أهل العلم، إذا أنقي، ودلّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاستنجاء لا يجزي بأقل من ثلاثة أحجار.
ثم أخرج حديث سلمان رضي الله عنه المذكور في الباب، بلفظ: قال: قال المشركون: لقد علَّمكم صاحبكم حتى يوشك أن يعلمكم الخرأة، قال: أجل نهانا أن نستنجي بالعظام، وبالرجيع، وقال:"لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار"، قال: فقوله: "لا يجزي أحدكم دون ثلاثة أحجار" يدلُّ على إغفال مَن زَعَم أن المعنى منه إزالة النجاسة، وأن أقلّ من ثلاثة أحجار تجزي إذا نَقّي، ويلزم قائل هذا القول طَرْحُ الاستنجاء إذا لَمْ يكن للغائط أثرٌ، وذلك موجود في بعض الناس، وحديث ابن مسعود
(1)
، مع حديث سلمان يدلّ أن أقلّ من ثلاثة أحجار لا تجزي.
قال أبو بكر: وثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا استجمر فليوتر".
قال: فإن قال قائل: فإن اسم الوتر يقع على واحد، ففي حديث سلمان حيث قال:"لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار" دليلٌ على أنه أراد بقوله: "مَن استجمر فليوتر" ثلاثة أحجار، وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استجمر أحدكم، فليستجمر ثلاثًا"، دليل على ذلك، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفَسِّر بعضها بعضًا، ويدُلّ بعضها على معنى بعض.
(1)
أراد بحديث ابن مسعود رضي الله عنه ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"(156) عن عبد الرَّحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثةً فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال:"هذا ركس".
وهذا على مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله ما حاصله: ذهب الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبو ثور إلى أنه لا بدّ في الاستنجاء بالحجر من إزالة عين النجاسة، واستيفاء ثلاث مسحات، فلو مسح مرةً، أو مرتين، فزالت عين النجاسة وجب مسحه ثالثة.
وذهب مالك، وداود إلى أن الواجب الإنقاء، فإن حصل بحجر أجزأه، وهو وجه لبعض الشافعيّة، قال: ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، مَسَحَ بكل حرف مسحة أجزأه؛ لأن المراد المسحات، والأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أصحّ المذاهب مذهب من قال: إنه لا يُجزئ أقلّ من ثلاثة أحجار؛ لأنه نصّ الحديث الصحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال ابن المنذر رحمه الله: لا نَحْفَظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الأخبار أنه أمر بالاستنجاء بغير حجارة، ومن استنجى بالحجارة، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بما عليه، وإن استنجى بغير الحجارة، فالذي نَحفَظ عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا: ذلك جائزٌ، والاستنجاء بالحجارة أحوط، كان عطاء يقول: إني لأستنجي بالإذخر، وقال طاوس: ثلاثة أحجار، أو ثلاثة حثيات من تراب، أو ثلاثة أعواد، ويجزي كلّ ذلك عند الشافعيّ، وكذلك إن كانت آجُرّات، أو مقابس، أو خَزَفٌ، وهو على مذهب إسحاق، وأبي ثور، وأجاز مالك الاستنجاء بالمدر.
قال ابن المنذر رحمه الله: وأرجو أن يَجزِي ما قالوا، وليس في النفس شيء إذا استنجى بالأحجار وأنقي، فإن استنجى بثلاثة أحجار، ولم يُنْقِ زاد حتى يُنْقِي، وكان الشافعي يقول: لا يجزيه إلَّا أن يأتي من الامتساح بما يَعْلَم أنه لَمْ
(1)
"الأوسط" 1/ 349 - 351.
(2)
"شرح النوويّ" 3/ 156.
يُبقِ أثرًا قائمًا، فأما أثر لاصقٌ لا يُخرجه إلَّا الماء، فليس عليه إنقاؤه؛ لأنه لو جَهَد لَمْ يُنقِه بغير ماء، قال ابن المنذر: وكذلك نقول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: كان الشافعيّ رحمه الله يقول: وإن وَجَد حجرًا له ثلاثة وجوه، فامتسح بكل واحد امتساحةً كانت كثلاثة أحجار، وكذلك قال أبو ثور، وإسحاق.
وقد عارض بعض الناس الشافعيّ، وقال: ليس يخلو الأمر بثلاثة أحجار من أحد أمرين: إما أن يكون أُريد بها إزالة نجاسة، فإن كان هكذا، فبأيّ شيء أُزيلت النجاسة يجزي، بحجر، وغير حجر، ولو أزيلت بحجر واحد، أو يكون عبادةً، فلا يجزي أقلّ من العدد، أو معنى ثالثًا، فيقال: أريد بها إزالة نجاسة وعبادة، فلما بَطَلَ المعنى الأول، لَمْ يَبْقَ إلَّا هذان المعنيان، ولا يجزي في واحد من المعنيين إلَّا بثلاثة أحجار؛ لأن العبادات لا يجوز أن ينتقص عددها.
قال ابن المنذر: والخبر يدلّ على صحة ما قاله هذا القائل، وذلك موجود في حديث سلمان رضي الله عنه:"لا يكفي أحدَكم دون ثلاثة أحجار"، وكُلَّما أُمر الناسُ بعدد شيء لَمْ يجز أقلّ منه، فلا يجزي أن تُرمَى الجمرةُ بأقلَّ من سبع حصيات، مع أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَغْنًى به عن غيره، ولا تأويل لما قال:"لا يَكفِي أحدكم دون ثلاثة أحجار" لمتأوّل معه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله، سيأتي الجواب عنه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما نصه صلى الله عليه وسلم على الأحجار، فقد تعلق به بعض أهل الظاهر، وقالوا: الحجر متعين، لا يجزئ غيره، وذهب العلماء كافّة من الطوائف كلها إلى أن الحجر ليس متعينًا، بل تقوم الْخِرَف والخشب وغير ذلك مقامه، وأن المعنى فيه كونه مزيلًا، وهذا يحصل بغير الحجر، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة أحجار"؛ لكونها الغالب المتيسر، فلا يكون له مفهوم، كما في قوله
تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، ونظائره، ويدلّ على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والبعر والرجيع، ولو كان الحجر متعينًا لنهى عما سواه مطلقًا. قال: قال أصحابنا - يعني الشافعيّة -: والذي يقوم مقام الحجر كلُّ جامدٍ طاهرٍ مزيلٍ للعين، ليس له حرمة، ولا هو جزء من حيوان. قالوا: ولا يشترط اتحاد جنسه، فيجوز في القبل أحجار، وفي المدبر خِرَق، ويجوز في أحدهما حجر مع خرقتين، أو مع خرقة وخشبة، ونحو ذلك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن الأولى كون الاستنجاء بثلاثة أحجار، ولا يُشترط ذلك؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ائتني بثلاثة أحجار، ولا تأتني بعظم، ولا روث"، رواه البخاريّ، فإن نهيه صلى الله عليه وسلم عن إتيانه بعظمٍ، وروث، يدلّ على جواز إتيانه بغيرهما، فدلّ على أن الأحجار ليست متعيّنة، ولولا هذا لكان الحقّ مع من اشترط الأحجار؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار"، رواه مسلم.
وهذا هو الجواب الذي أشرت إليه في تعقّب كلام ابن المنذر السابق، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في أقوال أهل العلم في الاستنجاء بالرَّجِيع، والعظم:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الاستنجاء بالروث والعظام، قال: فلا يجوز الاستنجاء بشيء مما نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بما قد استنجى به مرّةً، إلَّا أن يُطهَّر بالماء، ويرجع إلى حالة الطهارة، وقال سفيان الثوريّ: لا يستنجي بعظم، ولا رجيع، ويُكره أن يستنجي بماء قد استنجى به، وقال إسحاق، وأبو ثور: لا يجوز الاستنجاء بعظم، وغيره، مما نَهَى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعيّ: لا يستنجي بعظمِ ذَكيّ،
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 157.
ولا ميتٍ؛ للنهي عن العظم مطلقًا، ولا بحُمَمَة
(1)
. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه النهيُ عن الاستنجاء بالنجاسة، ونَبَّهَ صلى الله عليه وسلم بالرجيع على جنس النجس، فإن الرجيع هو الروث، وأما العظم فلكونه طعامًا للجنّ، فنبه على جميع المطعومات، وتلتحق به المحترمات، كأجزاء الحيوان، وأوراق كتب العلم، وغير ذلك، ولا فرق في النجس بين المائع والجامد، فإن استنجى بنجس لَمْ يصحّ استنجاؤه، ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء، ولا يجزئه الحجر؛ لأن الموضع صار نجسًا بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات، فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك إن لَمْ يكن نقل النجاسة من موضعها، وقيل: إن استنجاءه الأول يجزئه مع المعصية. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[613]
(
…
) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَش، وَمَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لَنَا الْمُشْرِكُونَ
(3)
: إِنِّي أَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ، حَتَّى يُعَلِّمَكُمُ الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ: أَجَلْ، إِنَّهُ نَهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِه، أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَنَهَى عَنِ الرَّوْث، وَالْعِظَام، وَقَالَ:"لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثةِ أَحْجَارٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المذكور في الباب الماضي.
(1)
"الْحُمَمَةُ" وزانُ رُطَبَة: ما أُحرق من خشب، ونحوه، والجمع بحذف الهاء. اهـ. "المصباح" 1/ 152.
(2)
"الأوسط" 1/ 356 - 357.
(3)
وفي نسخة: "قال: قال له المشركون".
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ إمام حجة [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حافظ حجة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله:
(قَالَ لَنَا الْمُشْرِكُونَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصل، وهو صحيح، وتقديره: قال لنا قائل المشركين، أو أنه أراد واحدًا من المشركين، وجمَعه لكون باقيهم يوافقونه. انتهى
(1)
.
وفي نسخة: "قال له المشركون".
وقوله: (إِنِّي أَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ) مفعول "يُعلِّمكم" الثاني محذوف، تقديره: يعلّمكم كلَّ شيء، كما سبق في الرواية الماضية، وجملة "يُعلِّمكم" في محلّ المفعول الثاني لـ "أرى" على أنَّها علميّة، والتقدير: إني أرى صاحبكم معلّمًا إياكم كلَّ شيء.
وقوله: (أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) في الكلام محذوف، يُفهم من المقام، تقديره: أي ونهانا عن أن يستقبل أحدنا القبلة عند قضاء الحاجة، وقد أوضحت هذا المقدّر الرواية الماضية، حيث قال فيها:"لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول".
وقوله: (وَنَهَى عَنِ الرَّوْث، وَالْعِظَامِ) فيه محذوف أيضًا، أي ونهانا أيضًا عن استعمال الروث والعظام عند الاستجمار.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 157.
وقوله: (لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ)"لا" فيه نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، والمراد من النفي النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح؛ إذ هو إخبار بعدم ذات الشيء، بخلاف النهي، فإنه إعدام لحكمه مع وجوده، فتنبّه.
ويحتمل أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم، لكن حذفت منه الحركة المقدّرة على قلّة، وعليه حَمَل بعضهم قراءة قنبل:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] بإثبات الياء، مع جزم "يصبر"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[614]
(263) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثنَا أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَمَسَّحَ
(2)
بِعَظْمٍ، أَوْ بِبَعْرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان الْقَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 486.
3 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 135.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
(1)
راجع "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل" 1/ 67.
(2)
وفي نسخة: "أن نَمْسَحَ".
5 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.
وقوله: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَمَسَّحَ)
(1)
وفي نسخة: "أن نمسح"، أي أن نستنجي.
وقوله: (بِعَظْمٍ) تقدّم ضبطه، ومعناه قريبًا.
وقوله: (أَوْ بِبَعْرٍ)"أو" فيه للتنويع، لا للشكّ، و"البعر" بفتح الموحدة، وسكون العين المهملة، وفتحها: هو رَجِيع ذوات الخفّ والظِّلْف، واحدتها بهاء، وجمعه أَبْعارٌ، وفعله كمنع، أفاده في "القاموس"
(2)
.
وفي "المصباح": الْبَعَرُ معروف، والسكون لغة، وهو من كلّ ذي ظِلْفٍ وخُفّ، والجمع أَبْعارٌ، مثلُ سبَبٍ وأَسباب، وبَعَرَ الْحَيَوَانُ بَعْرًا، من باب نَفَعَ: ألقَى بَعَرَهَ. انتهى
(3)
.
والحديث يدلّ على النهي عن الاستنجاء بالعظم، والبَعَر، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى قريبًا، فلا تنس نصيبك منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[17/ 614](263)، و (أبو داود) في "الطهارة"(38)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 336 و 343 و 384)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(583)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(608)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "أن نَمْسَحَ".
(2)
"القاموس المحيط" ص 318.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 53.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[615]
(264) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، (ع) قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: سَمِعْتَ الزُّهْرِيَّ يَذْكُرُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ
(1)
، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا"، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ، قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَة، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ؟، قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور في السند الماضي.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير المذكور قبل باب.
3 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاوز (80)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 486.
4 -
(أَبُو أَيُّوبَ) الأنصاريّ خالد بن زيد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، مات غازيًا بالروم سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بين اثنين منهما، وأفرد الثالث، وسبب ذلك اتفاق الأولين في صيغة الأداء، حيث قالا:"حدّثنا سفيان بن عيينة"، بخلاف الثالث، فإنه لَمْ يقل مثل ما قالا، بل قال: قلت لسفيان .. إلخ، وهذا من دقائق علم الإسناد، ومما يشهد للمصنّف رحمه الله بشدّة تحرّيه في كيفية صيغ التحمّل، وإن كان معظمه لا يختلف به المعنى غالبًا، فلله درّه، ما أدقّ معرفته بالصناعة الحديثية، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "ولا بغائط".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: زهير، ويحيي، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الزهريّ، عن عطاء.
5 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"، يعني أن اللفظ الذي ساقه لفظ شيخه يحيى بن يحيى، وأما الآخران فروياه بالمعني، وقد تقدّم البحث عنه غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شهِد بدرًا، وما بعدها، ونزل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أول ما قَدِمَ المدينة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أَيُّوب، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ) قال عبد الغنيّ المقدسيّ رحمه الله: الغائط الموضع المطمئنّ من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فَكَنَوْا به عن نفس الحدث كراهة لذكره بخاصّ اسمه. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الغائط في الأصل: المطمئنّ من الأرض، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة، ثم استُعمل في الخارج، وغَلَب على الحقيقة الوضعيّة، فصار حقيقةً عرفيّة.
والحديث يقتضي أن اسم الغائط لا ينطلق على البول؛ لتفرقته بينهما، وقد تكلّموا في أن قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الآية [المائدة: 6]، هل يتناول الريح مثلًا، أو البول، أو لا؟ بناءً على أنه يُخصّص لفظ "الغائط" لِمَا كانت العادة أن يُقْصَد لأجله، وهو الخارج من المدبر، ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلًا، أو يقال: إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل والدبر كيف كان. انتهى
(1)
.
(1)
"إحكام الإحكام" 1/ 229 - 230.
واستظهر الصنعانيّ رحمه الله في "حاشيته" عدم تناوله للريح والبول، قال: فإنهم كانوا لا يقصدون الغائط للبول والريح، فإطلاقه على مطلق الخارج كما أفاده الآخر من الترديد غير واضح. نعم، الحكم في الآية عامّ؛ لأدلّة أخرى. انتهى
(1)
.
(فَلَا) ناهية، فلذا جُزم الفعل بعدها (تَسْتَقْبِلُوا) أي تواجهوا بفروجكم (الْقِبْلَةَ) أي الكعبة؛ لأنَّها المرادة عند الإطلاق (وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَما) أي لا تجعلوها خلفكم، والاستدبار خلاف الاستقبال (بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ) متعلّق بالفعل قبله، وقيل: متعلّق بحال محذوف من ضمير "لا تستقبلوا"، أي لا تستقبلوا القبلة حال كونكم مقترنين ببول، ولا غائط (وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا") أي توجّهوا إلى جهة المشرق، أو المغرب.
وقال البغويّ رحمه الله: هذا خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق، أو المغرب، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال
(2)
.
وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" لفظة أمر تُستعمل على عمومه في بعض الأعمال، وقد يخُصّه خبر ابن عمر بأن هذا الأمر قُصد به الصحارَى دون الكُنُف، والمواضع المستورة، والتخصيص الثاني الذي هو من الإجماع أن من كانت قبلته في المشرق، أو في المغرب عليه أن لا يستقبلها، ولا يستدبرها بغائط أو بول؛ لأنَّها قبلته، وإنما أُمر أن يستقبل، أو يستدبر ضدّ القبلة عند الحاجة. انتهى
(3)
.
وقال السنديّ رحمه الله: والمقصود الإرشاد إلى جهة أخرى لا يكون فيها استقبال القبلة، ولا استدبارها، وهذا مختلف بحسب البلاد، فلكلِّ أن يأخذ بهذا الحديث بالنظر إلى المعنى، لا بالنظر إلى اللفظ. انتهى
(4)
.
(1)
"العدّة" 1/ 238.
(2)
راجع "شرح السنّة" رقم (177).
(3)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 266.
(4)
"شرح السندي على النسائيّ" 1/ 23.
(قَالَ أَبُو أَيُّوبَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (فَقَدِمْنَا) بكسر الدال المهملة، يقال: قَدِمَ الرجلُ البلدَ يَقْدَمُهُ، من باب تَعِبَ، قُدُومًا، ومَقْدَمًا: إذا دخله. (الشَّامَ) منصوب على الظرفيّة، لا على المفعوليّة، و"الشأم": بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة: شَأْميّ على الأصل، ويجوز شَآمٍ بالمدّ من غير ياء، مثلُ يَمَنيّ، ويَمَانٍ. قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الشّأْم: بلاد عن مَشْأمة القبلة، وسُمِّيت لذلك، أو لأن قومًا من بني كنعان تشاءموا إليها: أي تياسروا، أو سُمّي بِسام بن نوح، فإنه بالشين بالسريانيّة، أو لأن أرضها شاماتٌ بيضٌ وحُمْر، وسُودٌ، وعلى هذا لا تُهْمَز، وقد تُذكَّرُ، وهو شاميّ، وشآميّ، وشآمٍ. وأشأمَ: أتاها. انتهى
(2)
.
وحدّه في الطول من الْعَرِيش إلى الفرات، وفي العرض بين الجزيرة والغور إلى الساحل
(3)
.
(فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ) بفتح الميم: جمع مِرْحاض - بكسر الميم، وسكون الراء -: وهو البيت المتّخَذ لقضاء حاجة الإنسان: أي للتغوّط؛ قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أراد المواضع التي بُنِيت للغائط، واحدها مِرْحاضٌ: أي مواضع الاغتسال. انتهى
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَحَضتُ الثوبَ رَحْضًا، من باب نَفَعَ: غسلته، فهو رَحِيضٌ، والْمِرْحَاضُ - بكسر الميم -: موضع الرَّحْض، ثم كُنِي به عن الْمُسْتَرَاح؛ لأنه موضع غسل النَّجْوِ. انتهى
(6)
.
وقال المجد رحمه الله: رَحَضَهُ، كمنعه: غَسَله، كأرحضه، فهو رَحِيضٌ، ومَرْحُوضٌ، والْمِرْحَاضُ - بالكسر -: خَشَبَةٌ يُضْرَب بها الثوب، والْمُغْتَسَلُ، وقد
(1)
"المصباح المنير" 1/ 328.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1014.
(3)
راجع "الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 1/ 451.
(4)
"شرح النوويّ" 3/ 158.
(5)
"النهاية" 2/ 208.
(6)
"المصباح المنير" 1/ 222.
يُكْنَى به عن مَطْرَحِ الْعَذِرَة، وكَمِكْنسة: شيءٌ يُتوضّأ فيه، مثلُ الكنيف. انتهى
(1)
.
(قَدْ بُنِيَتْ) بالبناء للمفعول (قِبَلَ الْقِبْلَةِ) أي جهة القبلة، قال ابن الملقّن رحمه الله؛ يعني أنَّها بُنيت في الجاهليّة، وبناؤها نحو الكعبة ليس قصدًا لها، ولا لقبلة أهل الشام إذ ذاك، وهي بيت المقدس، وإنما هو مجرّد جهل ومصادفة. انتهى
(2)
.
(فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا) بالنونين: معناه: نحرِص على اجتنابها بالميل عنها بحسب قدرتنا (وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؟) قال الصنعانيّ رحمه الله: المراد نستغفره بالذكر القلبيّ، لا اللسانيّ؛ لأنه عند كشف العورة، وفي محلّ قضاء الحاجة؛ لأن الانحراف يُشعر بأنه بعد كشف العورة، والقعود لقضاء الحاجة، والانحراف لا يُخرجه عن تلك الهيئة. انتهى
(3)
.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قيل: يراد به: ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة الممنوعة عنده، وإنما حملهم على هذا التأويل أنه إذا انحرف عنها لَمْ يفعل ممنوعًا، فلا يحتاج إلى الاستغفار، والأقرب أنه استغفار لنفسه، ولعلّ ذلك لأنه استَقْبَلَ، واستدبر بسبب موافقته لمقتضى النهي غلطًا أو سهوًا، فيتذكّر، فينحرف، ويستغفر الله تعالى.
[فإن قلت]: فالغالط والساهي لَمْ يفعلا إثمًا، فلا حاجة إلى الاستغفار.
[قلت]: أهل الورع والمناصب العليّة في التقوى قد يفعلون مثل هذا؛ بناءً على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في عدم التحفّظ ابتداء، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(4)
.
وقال غيره: استغفار أبي أيوب؛ لأن مذهبه تحريم الاستقبال في البنيان كما سلف، ولا يتأتى له الانحراف الكامل في قعوده إلَّا بحسب إمكانه، فاستغفر احتياطًا، ولا يُظنّ به أنه كان يفعل ما يعتقد تحريمه.
(1)
"القاموس المحيط" ص 578.
(2)
"الإعلام" 1/ 451.
(3)
"العدّة حاشية العمدة" 1/ 247.
(4)
"إحكام الأحكام" 1/ 247.
ومن قال: إن استغفاره لبانيها ففيه بُعْد لوجهين:
[أحدهما]: أن تعقيب الوصف بالفاء، والعطف عليه يشعر بالعلّيّة، فالحكم: المنع من الجلوس إلى القبلة، والوصف: الانحراف المتعقّب بالفاء، والمعطوف عليه: الاستغفار.
[ثانيهما]: أن الظاهر أن المراحيض بناء الكفّار في الجاهليّة، فكيف يجوز الاستغفار لهم؟.
ويَحْتَمِل أن استغفاره لمن بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده؛ قاله ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
وقوله: (قَالَ: نَعَمْ) هو جواب لقول يحيى بن يحيى أَوّلًا: قلت لسفيان بن عيينة: سمعتَ الزهريَّ يذكره عن عطاء .. إلخ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[17/ 615](264)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(144) و"الصلاة"(395)، و (أبو داود) في "الطهارة"(9)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(8)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(21)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(318)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 25)، و (الحميديّ) في "مسنده"، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 155)(378)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 416 و 421)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(57)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1416 و 1417)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 232)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 91)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3936 و 3938 و 3939 و 3940 و 3941 و 3942 و 3943 و 3944 و 3945 و 3946 و 3947 و 3948 و 3973)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (505 و 506 و 507
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 1/ 457.
و 508)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(609)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(174)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 60)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تعظيم جهة القبلة، وتكريمها، والنهي عما يلزم منه عدم ذلك.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من القيام ببيان الإحكام وإيضاحه لأمته.
3 -
(ومنها): ابتداء العالم أصحابه بالعلم، خصوصًا إذا عَلِمَ أن بهم حاجةً إلى العمل به.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم التنبيه على الوقائع المخالفة للشرع، والرجوع عنها، والاستغفار منها، والتوبة إن كان تلبّس بها متلبّسٌ.
5 -
(ومنها): استحباب الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير شنيعة النطق بها.
6 -
(ومنها): أن في قول أبي أيوب رضي الله عنه: "فقدمنا الشام .. إلخ" دلالةً على أن للعموم صيغةً عند العرب، وأهل الشرع، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين، والمعنى به استعمال صيغة العموم في بعض أفراده، كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا
(1)
.
7 -
(ومنها): أن فيه القراءة على العالم، وأن قوله: نعم يقوم مقام إخباره، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وكذلك الإقرار يجري عندنا هذا المجري، وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه، وهو أن يقال للرجل: الفلان عندك كذا؟ فيقول: نعم، فيلزمه، كما لو قال: لفلان عندي كذا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 1/ 452.
(2)
"التمهيد" 1/ 402.
(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: اختلفوا في علّة هذا النهي من حيث المعنى، والظاهر أنه لإظهار الاحترام، والتعظيم للقبلة؛ لأنه معنى مناسبٌ وَرَد الحكم على وفقه، فيكون علّةً له، وأقوى من هذا في الدلالة على هذا التعليل ما رُوي من حديث سَلَمَة بن وَهْرَام، عن سُراقة بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أتى أحدكم البراز، فليُكرم قبلة الله عز وجل، ولا يستقبل القبلة"، وهذا ظاهر قويّ في التعليل بما ذكرناه.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث سراقة بن مالك رضي الله عنه هذا ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده مبشّر بن عبيد، وقد تفرّد به، وهو متروك الحديث، كما بيّنه الدارقطنّيّ، وأخرجه الدارقطنيّ في "سننه"
(1)
، والبيهقيّ من طريقه، في "المعرفة"
(2)
من مرسل طاوس، وفي سنده زمعة بن صالح ضعيف، وسلمة بن وهرام، وهو مختلف فيه.
والحاصل أن الحديث لا يثبُت، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ومنهم من علّل بأمر آخر، فذكر عيسى بن أبي عيسى قال: قلت للشعبيّ: عجبتُ لقول أبي هريرة، ونافع عن ابن عمر، قال: وما قالا؟ قلتُ: قال أبو هريرة: "لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها"، وقال نافع، عن ابن عمر: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذهب مذهبًا مواجه القبلة، قال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء؛ لأن لله خلقًا من عباده يصلّون في الصحراء، فلا تستقبلوهم، ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن، فإنه لا قبلة لها.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أيضًا ضعيف؛ لأن في سنده عيسى بن أبي عيسى الحناط، وضعّفه أحمد، وغيره، بل قال الفلاس، والنسائيّ: متروك
(3)
.
(1)
"سنن الدارقطنيّ" 1/ 56 - 58.
(2)
"معرفة السنن والآثار" 1/ 194 - 195.
(3)
راجع "التعليق المغني على الدارقطني" 1/ 61.
قال: وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان في الصحراء فاستتر بشيء، هل يجوز الاستقبال والاستدبار أم لا؟ فالتعليل باحترام القبلة يقتضي المنع، والتعليل برؤية المصلّين يقتضي الجواز. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن حديث رؤية المصلّين غير صحيح، فلا يصحّ التعليل به، فالأولى التعليل باحترام القبلة، ولا يقال: إن حديث سَلَمة بن وَهْرام أيضًا ضعيف؛ لأنا نقول: لا نحتجّ به، وإنما نحتجّ بظاهر حديث أبي أيوب رضي الله عنه الصحيح:"فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها"، فإن ظاهره يدلّ على أن العلّة هو احترامها، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة
…
" الحديث يقتضي - كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله أمرين؛ أحدهما: ممنوع منه، والثاني علّة لذلك المنع، وقد تقدّم الكلام في علّة المنع في المسألة السابقة، ولنتكلّم هنا على محلّ العلّة، فالحديث دل على المنع من استقبال القبلة بغائط أو بول، وهذه الحالة تتضمّن أمرين؛ أحدهما: خروج الخارج المستقذر، والثاني: كشف العورة، فمن الناس من قال: المنع للخارج؛ لمناسبته لتعظيم القبلة، ومنهم من قال: المنع لكشف العورة.
وينبني على هذا الخلاف خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة، فمن عَلَّل بالخارج أباحه؛ إذ لا خارج، ومن علّل بكشف العورة منعه
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر هذا البحث ابن دقيق العيد رحمه الله، ولم يرجّح، والذي يظهر لي أن التعليل بالخارج هو الأقرب؛ لظاهر قوله "بغائط أو بول"، ولم يقل: بالعورة، وأما الوطء مستقبل القبلة، مع كشف العورة، فيحتاج إلى ثبوت النهي عنه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(1)
"إحكام الإحكام" 1/ 234 - 236.
(2)
"إحكام الإحكام" 1/ 237 - 238.
[فائدة]: وردت أحاديث في النهي عن الجماع متجرّدًا، ولكنها أحاديث ضعيفة، فمنها ما أخرجه النسائيّ، والطبرانيّ عن عبد الله بن سَرْجِس رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا أتى أحدكم أهله، فليستتر، ولا يتجرّدا تجرّد الْعَيْرَيْن"، وهو حديث ضعيف
(1)
، وأخرجه ابن ماجة بسند ضعيف، عن عتبة بن عبد السُّلَميّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجرد تجرد الْعَيْرَيْنِ"
(2)
، وأخرجه الطبرانيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو أيضًا ضعيف.
والحاصل أن الأحاديث الواردة في هذا غير صحيحة، لكن التستر أفضل، لحديث: "إن الله حَيِيّ سَتِير، يحبّ الحياء والسَّتر
…
" الحديث، أخرجه أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله أيضًا: أُولِعَ بعض أهل العصر، وما يَقرُب منه بأن قالوا: إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلًا، أو على الأفعال، كانت عامّةً في ذللث، مطلقةً في الزمان والمكان، والأحوال، والمتعلّقات، ثم يقولون: المطلق يكفي في العمل به سورة واحدة، فلا يكون حجةً فيما عداها، وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يُحصى من ألفاظ الكتاب والسنّة، وصار ذلك ديدنًا لهم في الجدال.
فمثلًا يقولون: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية [النور: 2] قد حصل الامتثال بجلده صلى الله عليه وسلم لمن أتى ذلك في عصره، فلا حجة فيه على جلد من أتى هذه الفاحشة بعده، وكذلك {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية [المائدة: 38]، وفي الأحاديث، كحديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا يقولون مثل ذلك.
قال: وهذا عندنا باطلٌ، بل الواجب أن ما دلّ على العموم في الذوات مثلًا يكون دالّا على ثبوت الحكم في كلّ ذات تناولها اللفظ، ولا تخرج عنها
(1)
ضعيف. راجع "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (278).
(2)
حديث ضعيف. أخرجه ابن ماجة برقم (1911).
ذات إلَّا بدليل يخصّه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذوات، فقد خالف مقتضى العموم.
نعم المطلق يكفي العمل به مرّةً كما قالوه، ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كلّ ذات، فإن كان المطلق مما لا يقتضي العملُ به مرّة واحدةً مخالفةً لمقتضى صيغة العموم اكتفينا في العمل به مرّةً واحدةً، وإن كان العمل به مرّةً واحدةً مما يُخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم؛ محافظةً على مقتضى صيغته، لا من حيث إن المطلق يعمّ.
مثالُ ذلك إذا قال: من دخل داري، فأعطه درهمًا، فمقتضى الصيغة العموم في كلّ ذات صدق عليها أنَّها داخلة.
فإن قال قائلٌ: هو مُطلقٌ في الأزمان، فأعمل به في الذوات الداخلة الدارَ في أول النهار مثلًا، ولا أعمل به في غير ذلك الوقت؛ لأنه مطلقٌ في الزمان، وقد عَمِلتُ به مرّةً، فلا يلزم أن أعمل به مرّةً أخرى؛ لعدم عموم المطلق.
قلنا له: لَمّا دلّت الصيغة على العموم في كلّ ذات دخلت الدار، ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار، فإذا أخرجت تلك الذوات، فقد أخرجت ما دلّت الصيغة على دخوله، وهي كلُّ ذات. وهذا الحديث أحدُ ما يُستدلّ به على ما قلناه، فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع، وقد استعمل قوله:"لا تستقبلوا، ولا تستدبروا" عامًّا في الأماكن، وهو مطلقٌ فيها، وعلى ما قال هؤلاء المتأخّرون لا يلزم منه العموم، وعلى ما قلناه يعمّ؛ لأنه إذا أُخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله ببعض زيادة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن دقيق العيد بحث نفيسٌ، وحاصله أن العامّ يُحْمَل على عمومه، ولا يُنظر إلى كونه مطلقًا؛ إذ المحافظة
(1)
"إحكام الإحكام" 1/ 240 - 246 بنسخة الحاشية.
على العموم لا تنافي الإطلاق، فالعمل بالعامّ يستلزم العمل بالمطلق، وأقوى دليل على ذلك عمل هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه بعموم هذا الحديث؛ فإنه عالم بلغة العرب، وعالم بمقاصد الشريعة، وقد حمل العامّ على عمومه.
[فإن قلت]: على هذا يلزم ترجيح مذهب من يقول بتحريم الاستقبال والاستدبار في البناء، فكيف رجحتم مذهب من قال بالجواز فيه؟.
[قلت]: إنما رجحنا ذلك لدليل آخر، قام بتخصيص عمومه، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه، فلولاه لكان مذهب أبي أيوب زجه هو الراجح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[616]
(265) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّاب، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ - حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِه، فَلا يَسْتَقْبِلِ
(1)
الْقِبْلَةَ، وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ) أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.
2 -
(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) بن رياح بن عَبِيدة - بفتح أوله - الرياحيّ - بكسر الراء، ثم تحتانيّة - أبو حفص البصريّ، ثقة [10].
رَوَى عن إبراهيم بن سعد، وجُويرية بن أسماء، وعامر بن أبي عامر الخزّاز، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، وطائفة.
ورَوَى عنه أحمد بن الحسن بن خِرَاش، والعباس بن عبد العظيم العنبريّ، وأحمد بن يوسف السلميّ، وأحمد بن منصور الرَّمَاديّ، وعباس
(1)
وفي نسخة: "فلا يستقبلنّ".
الدُّوريّ، ومحمد بن رافع، والبخاري في غير "الجامع"، وحنبل بن إسحاق، وإسحاق بن الحسن الحربيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقةٌ، مأمونٌ، صدوق، لَمْ يُقْضَ لنا السماع منه، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في شعبان سنة إحدى وعشرين ومائتين، وفيها أَرّخه غير واحد، وقال أبو داود: مات قبل القعنبيّ بشهرين.
تفرّد به المصنّف، له عنده هذا الحديث فقط، والنسائيّ، وله عنده حديث واحد في إعطاء عليّ رضي الله عنه الراية.
3 -
(يَزِيدُ بْنَ زُريعٍ) المذكور في الباب الماضي.
4 -
(رَوْح) بن القاسم التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقة حافظٌ [6](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
5 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
6 -
(الْقَعْقَاع) بن حَكِيم الْكِنانيّ المدنيّ، ثقةٌ [4](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 25/ 204.
7 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ، ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
وقوله: (إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ) أي لقضاء حاجته من البول، أو الغائط.
وقوله: (فَلَا يَسْتَقْبِلِ) وفي نسخة: "فلا يستقبلنّ .. إلخ " بنون التوكيد، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[17/ 616](265)، و (أبو داود) في "الطهارة"(8)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(40)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(312 و 313)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1431)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(509 و 510 و 511)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(610)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في انتقاد الحفّاظ الإسناد هذا الحديث:
قال الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في جزء "علل الأحاديث" التي في "صحيح مسلم": هذا حديث أخطأ فيه عمر بن عبد الوهّاب الرياحيّ، عن يزيد بن زُريع؛ لأنه حديث يُعرَف بمحمد بن عجلان، عن القعقاع، وليس لسهيل في هذا الإسناد أصل، رواه أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، على الصواب، عن رَوْح، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بطوله
(1)
، وحديث عمر بن عبد الوهاب مختصر
(2)
.
وقال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع"(ص 17): وهذا غير محفوظ عن سُهيل، وإنما هو حديث ابن عجلان، حدّث به الناس عنه، منهم روح بن القاسم، وكذلك أميّة بن يزيد.
وقال الحافظ أبو الحجاج المزيّ في "تحفة الأشراف"(9/ 441 - 442) بعد أن أورد سند المصنّف ما نصّه: كذا قال الرياحيّ - يعني عمر بن عبد الوهّاب - عن يزيد بن زُريع، وهو معدود من أوهامه، وخالفه أميّة بن بسطام، وهو أحد الأثبات في يزيد بن زُريع، فقال: عن يزيد بن زريع، عن
(1)
الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، مطوّلًا، من طريق ابن عجلان، قال: أخبرني القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أنا لكم مثل الوالد، أُعَلِّمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستنج بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الرَّوْث والرِّمَة".
(2)
راجع ما تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 144.
روح بن القاسم، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، وهو محفوظ من رواية ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، رواه عنه جماعة جمّةٌ، منهم: عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الله بن رجاء المكيّ، والمغيرة بن عبد الرَّحمن المخزوميّ. انتهى كلام المزيّ رحمه الله.
وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكره نحو ما تقدّم: قلت: ومثل هذا لا يظهر قدحه، فإنه محمول على أن سهيلًا، وابن عجلان سمعاه جميعًا، واشتهرت روايته عن ابن عجلان، وقَلَّتْ عن سهيل، ولم يذكره أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة إلَّا من جهة ابن عجلان، فرواه أبو داود، عن ابن المبارك، عن ابن عجلان، عن القعقاع، والنسائيّ عن يحيى بن سعيد القطّان، عن ابن عجلان، وابن ماجة عن سفيان بن عيينة، والمغيرة بن عبد الرَّحمن، وعبد الله بن رجاء المكيّ، ثلاثتهم عن ابن عجلان. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي فيما قاله النوويّ من تصحيح الإسنادين نظر، بل ما قاله هؤلاء النقّاد من الإعلال المذكور هو الحقّ، فالحديث حديث محمد بن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، لا حديث سُهيل، عن القعقاع .. إلخ، فإنه من أوهام عمر بن عبد الوهاب، كما صرّحوا به.
لكن هذا كلّه بالنسبة للإسناد، وأما متن الحديث فصحيح؛ لأنه ثابت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق ابن عجلان المذكور، وله شواهد من حديث سلمان، وأبي أيوب، وغيرهما رضي الله عنهم.
والحاصل أن الحديث صحيح، وإن كان إسناد المصنّف معلولًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 158.
[617]
(266) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّه، وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَة، فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلَاِتي، انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ شِقِّي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَقُولُ نَاسٌ: إِذَا قَعَدْتَ لِلْحَاجَةِ تَكُونُ لَكَ، فَلَا تَقْعُدْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَة، وَلَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَقَدْ رَقِيتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْن، مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقَعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ نزيل البصرة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9].
رَوَى عن أبيه، وأفلح بن حميد، وسلمة بن وَرْدان، ومالك، وشعبة، والليث، وداود بن قيس، وسليمان بن بلال، وزيد بن أسلم، ويزيد بن إبراهيم، وجماعة.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وأخرج له مسلم أيضًا، والترمذيّ، والنسائيّ بواسطة أحمد بن الحسن الترمذيّ، وعبد بن حميد، وعمرو بن منصور النسائيّ، وموسى بن حِزَام، وهلال بن العلاء، والميمونيّ، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، ومحمد بن علي بن ميمون، وأبو مسعود الرازيّ، ومحمد بن سهل بن عسكر، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذُّهْليّ ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وآخرون، وحدَّث عنه عبد الله بن داود الْخُرَيبيّ، وهو أكبر منه.
وقال أبو الحسن ابن القطان، عن الحسن بن منصور: سمعت عبد الله بن داود الْخُريبي يقول: حدَّثني القعنبيّ عن مالك، وهو - والله عندي - خير من مالك، وقال ابن سعد: كان عابدًا فاضلًا قرأ على مالك كتبه، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ رجل صالحٌ، قرأ مالك عليه نصف "الموطأ"، وقرأ هو على مالك النصف الباقي، وقال أبو زرعة: ما كتبتُ عن أحد أجلّ في عيني منه، وقال
أبو حاتم: ثقةٌ حجةٌ، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: القعنبيّ أحبّ إليك في "الموطأ"، أو ابن أبي أويس؟ قال: القعنبيّ أحبّ إليّ، لَمْ أر أخشع منه، وقال عبد الصمد بن المفضل البلخيّ: ما رأت عيناي مثل أربعة، فذكره فيهم، وقال ابن معين: ما رأيت رجلًا يحدث لله، إلَّا وكيعًا، والقعنبيّ، وقال الْحُنَينيّ: كنا عند مالك، فقيل: قَدِمَ القعنبيّ، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من الْمُتَقَشِّفة الْخُشْن، وكان لا يحدِّث إلَّا بالليل، وربما خرج وعليه باريَةٌ اتَّشَحَ بها، وكان من المتقنين في الحديث، وكان يحيى بن معين لا يقدِّم عليه في مالك أحدًا، وقال الدارقطنيّ: قال النسائيّ: القعنبيّ فوق عبد الله بن يوسف في "الموطأ"، وقال الحاكم: سئل ابن المدينيّ عنه؟ فقال: لا أُقَدِّم من رواة "الموطأ" أحدًا على القعنبيّ، وقال ابن قانع: بصريّ ثقة، وقال عمرو بن عليّ: كان مجاب الدعوة.
قال البخاريّ: مات سنة إحدى وعشرين ومائتين، أو سنة (220)، وقال أبو داود وغيره: مات في محرم سنة (221)، زاد غيره: بمكة، هكذا ذكره أبو موسى الزَّمِنُ في "تاريخه"، وقال مُطَيَّن في "تاريخه": مات بطريق مكة، ولكن قال ابن عديّ، وابن حبان: إنه مات بالبصرة. والله أعلم.
روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا
(1)
.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في الإيمان 14/ 160.
3 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري القاضي المدني، ثقة ثبت [5](ت 144)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 96.
(1)
وله في "صحيح البخاريّ "(139) حديثًا، هكذا في برنامج الحديث (صخر)، وقال في "تهذيب التهذيب" (2/ 434) نقلًا عن "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ مائة وثلاثة وعشرين حديثًا، ومسلم سبعين حديثًا. انتهى. والظاهر أن الاختلاف بالتكرار، والله تعالى أعلم.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) بن حَبَّان بن مُنقِذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 121)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
5 -
(عَمُّهُ، وَاسِعُ بْنُ حَبَّانَ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحدة - ابن مُنقِذ بن عمرو الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، صحابيّ ابن صحابيّ، وقيل: بل هو تابعيّ ثقةٌ [2]، وهو الصحيح (ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 565.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين، وعبد الله بن مسلمة، وإن كان بصريًّا، إلَّا أنه مدنيّ الأصل، وسكنها مدّةً.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى، عن محمد بن يحيى، عن عمّه، وهذا هو الأصحّ، وعلى قول من قال: إن لواسع رؤيةً، ولذا عُدَّ في الصحابة، ففيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوي، وقد تقدّم غير مرّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى) بن حَبّان (عَنْ عَمِّه، وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ) بالفتح، أنه (قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ، فـ "أل" فيه للعهد (وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، وهو مبتدأ، خبره قوله:(مُسْنَدٌ) اسم فاعل من أسند رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: السَّنَدُ - بفتحتين -: ما استندتَ إليه من حائط وغيره، وسَنَدتُ إلى الشيء سُنُودًا، من باب قَعَدَ، وسَنِدتُ أَسْنَدُ، من باب تَعِبَ لغةٌ، واستندتُ إليه بمعنًى، ويُعدّى بالهمزة، فيقال: أسندته إلى الشيء، فَسَنَد هو. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 291.
وقوله: (ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ) منصوب على المفعوليّة، وجملة "وعبد الله .. إلخ" في محلّ نصب على الحال، رُبط بالواو، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ اوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
(فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلَاِتي) أي انتهيت من أفعالها (انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ) أي إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (مِنْ شِقِّي) - بكسر الشين، وتشديد القاف -: أي جانبي، وفي رواية أبي عوانة من طريق خالد بن مخلد الْقَطوانيّ، عن سليمان بن بلال:"فلما قضيت صلاتي، انصرفتُ إليه من شقّي الأيسر"(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (يَقُولُ نَاسٌ) تقدّم أنه اسمٌ وُضِع للجمع، كالقوم والرهط، وواحده إنسان من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس: إذا تحرّك، فيشمل الإنس والجنّ، قال الله عز وجل:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ثم فسَّر الناس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
(1)
.
قال في "الفتح": يشير بقوله: "ناسٌ" إلى من كان يقول بعموم النهي، كما سبق، وهو مرويّ عن أبي أيوب، وأبي هريرة، ومَعْقِل الأسديّ، وغيرهم. انتهى
(2)
.
(اِذَا قَعَدْتَ) ذكر القعود لكونه الغالب، وإلا فحال القيام كذلك
(3)
(لِلْحَاجَةِ) أي لقضاء الحاجة، من البول والغائط، وجملة قوله:(تَكُونُ لَكَ) صفة لـ "الحاجة"، أو منصوب على الحال؛ إذ المعرّف بـ "أل" الجنسيّة كالنكرة، على حدّ قول الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
…
فَمَضَيْتُ ثُمَّةَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي
(فَلَا تَقْعُدْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) أي الكعبة (وَلَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ) فيه لغتان: فتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال مخفَّفةً، وهو إما مصدر، أو مكان، والثانية: ضمّ الميم، وفتح القاف والدال المهملة المشدّدة، من التقديس، وهو
(1)
راجع "المصباح" 2/ 630.
(2)
"الفتح" 1/ 298.
(3)
"الفتح" 1/ 298.
التطهير، سُمي به لأنه موضعٌ يُتقدَّس، أي يُتطَهَّر فيه من الذنوب، وقد تقدّم البحث فيه في أول "باب الإسراء".
(قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (وَلَقَدْ) اللام جواب قسم محذوف، أي والله لقد (رَقِيتُ) - بكسر القاف: أي صَعِدتُ، وهذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، وحَكَى صاحب "المطالع" لغتين أُخريين، إحداهما: بفتح القاف بغير همزة، والثانية: بفتحها مع الهمزة، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هاتان اللغتان اللتان حكاهما صاحب "المطالع" لَمْ أجدهما في كتب اللغة التي بين يديّ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَقِيتُ في السلّم وغيره أَرْقَى، من باب تَعِبَ رُقِيًّا على فُعُولٍ، ورَقْيًا، مثلُ فَلْسٍ أيضًا، وارتقيتُ، وتَرَقَّيتُ مثلُهُ، ورَقِيتُ السطح والجبلَ: عَلَوتُهُ، يتعدّى بنفسه، والْمَرْقَى، والْمُرْتَقَى: موضع الرُّقِيّ، والْمَرْقَاةُ مثلُهُ، ويجوز فتح الميم على أنه موضعُ الارتقاء، ويجوز الكسر تشبيهًا باسم الآلة، كالْمِطْهَرَة، والْمِسْقَاة، وأنكر أبو عُبيد الكسر، وقال: ليس في كلام العرب. انتهى
(2)
.
(عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ) هكذا في هذه الرواية متعديًا بـ "على"، والذي في "الصحاح"، و"القاموس"، و"المصباح"، و"اللسان" تعديته بـ "إلى"، وبـ "في"، أو بنفسه، والله تعالى أعلم.
(عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ) هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية التالية:"رقيتُ على بيت أختي حفصة"، وفي رواية للبخاريّ:"على ظهر بيتٍ لنا"، وفي رواية له:"على ظهر بيتنا"، وفي رواية ابن خزيمة:"دخلت على حفصة بنت عمر، فصعِدتُ ظهر البيت"، وفي رواية أبي عوانة:"على ظهر منزلنا".
وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز؛ لكونها
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 158.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 236.
أخته، فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، واستمرّ في يدها إلى أن ماتت، فورثه عنها، وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنه وَرِث حفصة دون إخوته؛ لكونها كانت شقيقته، ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَرَأَيْتُ) عطف على "رَقِيتُ"، وهو بمعنى أبصرتُ، فلا يقتضي إلَّا مفعولًا واحدًا، وهو قوله:(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)[فإن قلت]: كيف نظر ابن عمر رضي الله عنهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحالة، ولا يجوز له ذلك؟.
[أجيب]: بأنه لَمْ يقصد الإشراف عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صَعِد السطح لضرورة له، كما قال في رواية للبيهقيّ، من طريق نافع، عن ابن عمر:"فحانت منه التفاتة"، نعم لَما اتّفَقَت له رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أَحَبَّ أن لا يُخْلِي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعيّ، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور، ودَلّ ذلك على شدّة حرص الصحابيّ رضي الله عنه على تتبع أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليتبعها، وكذا كان رضي الله عنه، أفاده في "الفتح"
(2)
.
وقال في "العمدة": وقعت منه تلك الرؤية اتّفاقًا من غير قصد لذلك، فنَقَلَ ما رآه، وقصده ذلك لا يجوز، كما لا يتعمّد الشهود النظر إلى الزنا، ثم يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويتحضلوا الشهادة بعد ذلك.
وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما قَصَدَ ذلك، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمّل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله، فنقل ما شاهد. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الرُّقيّ من ابن عمر رضي الله عنهما الظاهر منه أنه لَمْ يكن عن قصد الاستكشاف، وإنما كان لحاجةٍ غير ذلك، ويَحْتَمِلُ أن يكون
(1)
1/ 298.
(2)
1/ 298.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 427.
ليطّلع على كيفيّة جلوس النبيّ صلى الله عليه وسلم للحدث، على تقدير أن يكون قد استَشعَرَ ذلك، وأنه تحفّظ من أن يطّلع على ما لا يجوز له، وفي هذا الثاني بُعْدٌ. انتهى
(1)
.
(قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ) حال من الفاعل، ولابن خزيمة:"فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على خلائه"، وفي رواية له:"فرأيته يقضي حاجته، محجوبًا عليه بلبن"، وللحكيم الترمذيّ بسند صحيح:"فرأيته في كَنِيف"، وهو بفتح الكاف، وكسر النون، بعدها ياء تحتانية، ثم فاء، وانتَفَى بهذا إيراد مَن قال ممن يرى الجواز مطلقًا: يَحْتَمِل أن يكون رآه في الفضاء، وكونه رآه على لبنتين لا يدلّ على البناء؛ لاحتمال أن يكون جَلَس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، وَيرُدُّ هذا الاحتمال أيضًا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يَرَى المنعَ من الاستقبال في الفضاء إلَّا بساتر، كما رواه أبو داود، والحاكم بسند لا بأس به
(2)
.
[تنبيه]: قوله: "لَبِنتين": تثنية لَبِنَةٍ، واحد اللَّبِن، وهو ما يُعْمَل من الطين، ويُبْنَى به، وهو بفتح اللام، وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء، مع فتح اللام، ومع كسرها، وكذا كلُّ ما كان على هذا الوزن، أعني مفتوح الأول، مكسور الثاني يجوز فيه الأوجه الثلاثة، كَكَتِفٍ، فإن كان ثانيه، أو ثالثه حرف حلق، جاز فيه وجهٌ رابعٌ، وهو كسر الأول والثاني، كَفَخِذٍ
(3)
، والله تعالى أعلم.
(مُسْتَقْبِلًا) منصوبٌ على الحال كسابقه، إما على الترادف، أو التداخل، وقوله:(بَيْتَ الْمَقْدِسِ) منصوب على المفعوليّة لـ "مستقبلًا"، وقوله:(لِحَاجَتِهِ) متعلّق بـ"قاعدًا"، أو بخبر لمبتدأ محذوف، أي وذلك كائن لحاجته، واللام فيه للتعليل؛ أي لأجل قضاء حاجته، ويحتمل أن تكون للتوقيت، أي وقت قضاء حاجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والمستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 1/ 522.
(2)
"الفتح" 1/ 298.
(3)
راجع "المصباح المنير" 2/ 548، و"شرح النوويّ" 3/ 154.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[17/ 617 و 618](266)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(145 و 148 و 149) وفي "فرض الخمس"(3102)، و (أبو داود) في "الطهارة"(12)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(11)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(23)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(322)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 193 - 194)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 151)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 41 و 99)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 171)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(59)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1418 و 1421)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 61)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 234)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(30)، و (الطبرانيُّ) في "الكبير"(13312)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(512 و 513 و 514)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(611 و 612)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 92)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(177)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: دلّ الحديث على أن النهي إنما أُريد به الصحاري، لا البيوت؛ لما في ذلك من الضِّيق والحرج، وما جعل الله في الدين من حرج. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: واستقباله بيت المقدس يدلّ على خلاف ما ذَهَبَ إليه النخعيّ، وابن سيرين، فإنهما منعا ذلك، وما رُوي من النهي عن استقبال شيء من القبلتين بالغائط لا يصحّ؛ لأنه من رواية عبد الله بن نافع، مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وهو ضعيفٌ، وقد ذهب من منع استقبال القبلة
(1)
"الاستذكار" 7/ 174.
واستدبارها مطلقًا إلى أن حديث ابن عمر رضي الله عنهما لا يصلَحُ تخصيص حديث أبي أيوب رضي الله عنه به؛ لأنه فعلٌ في خلوة، وهو محتمِلٌ للخصوص، وحديث أبي أيوب قولٌ قُعِّدت به القاعدة، فبقاؤه على عمومه أولى.
والجواب عن ذلك أن نقول: أما فعله صلى الله عليه وسلم، فأقلّ مراتبه أن يُحْمَل على الجواز بدليل مطلق اقتداء الصحابة بفعله، وبدليل قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها
(1)
حين سألتها المرأة عن قبلة الصائم: "ألا أخبرتها أني أفعل ذلك؟ "
(2)
وقالت عائشة رمنها: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا"
(3)
، تعني التقاء الختانين، وقَبِلَ ذلك الصحابة، وعَمِلُوا عليه.
وأما كون هذا الفعل في خلوة، فلا يصلح مانعًا من الاقتداء؛ لأن الحدث كلّه كذلك يُفعَلُ، ويمنَعُ أن يُفعَلَ في الملإ، ومع ذلك فقد نُقِلَ، وتُحُدّث به، سيّما وأهل بيته كانوا ينقلون ما يفعله في بيته، من الأمور المشروعة.
(1)
كان في نسخة "المفهم" عائشة بدل أم سلمة، وهو غلطٌ، والإصلاح من "الموطأ"، فتنبّه.
(2)
رواه الإمام مالك رحمه الله في "الموطأ" 1/ 291، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رجلًا قَبّل امرأته، وهو صائم في رمضان، فوَجَد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يُحِلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لهذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ "، فقالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده". انتهى.
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 6/ 239، والترمذيّ 1/ 180 وابن ماجة 1/ 199.
وأما دعوى الخصوص، فلو سمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم لغضب على مدّعيها، وأنكر ذلك، كما قد غَضِبَ على من ادّعى تخصيصه بجواز القُبْلة، فإنه غَضِب عليه، وأنكر ذلك، وقال:"إني لأخشاكم، وأعلمكم بحدوده"، وكيف يجوز توهّم هذا؟ وقد تبيّن أن ذلك إنما شُرعَ إكرامًا للقِبلة، وهو أعلم بحرمتها، وأحقّ بتعظيمها، وكيف يَستَهين بحرمة ما حرّم الله؟ هذا ما لا يصدُر توهّمه إلَّا من جاهل بما يقول، أو غافل عما كان يحترمه الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي الوقوف على هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى فيما يُطلَب إخفاؤه؛ ليُقتدى به، ويُهتدى بضوئه.
4 -
(ومنها): ما كان عليه ابن عمر رضي الله عنهما من شدّة الحرص على تتبّع آثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو معروف بذلك.
5 -
(ومنها): جواز الإخبار عن مثل هذا الفعل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان عادة مما يُخفى؛ لأجل الاقتداء، والعمل به.
6 -
(ومنها): بيان أن أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّها للتشريع، إلَّا ما خُصّ به، وهو معنى قوله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [الأحزاب: 21].
7 -
(ومنها): استعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط.
8 -
(ومنها): أن في قوله: "يقول ناس .. إلخ" دليلًا على أن الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في معاني السنن، وكان كلّ واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هنا وقع بينهم الاختلاف.
قال الخطابيّ رحمه الله: قد يتوهّم السامع من قول ابن عمر رضي الله عنهما: "يقول ناس .. إلخ" أنه يريد إنكار ما رُوي في النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة نسخًا لما حكاه من رؤيته صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة، وليس الأمر في ذلك على ما يُتوهّم؛ لأن المشهور من مذهبه أنه لا يجيز الاستقبال والاستدبار
(1)
"المفهم" 1/ 523 - 524.
في الصحراء، ويُجيزهما في البنيان، وإنما أنكر قول من يزعم أن الاستقبال في البنيان غير جائز، ولذلك مثّل لما شاهد من قعوده في الأبنية. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: يؤيّد ما ذكره الخطابيّ رحمه الله ما أخرجه أبو داود في "سننه" بسند حسن، عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر، أناخ راحلته، مستقبل القبلة، ثم جَلَس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرَّحمن، أليس قد نُهِي عن هذا؟ قال: بلي، إنما نُهِي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يستُرُك فلا بأس. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[618]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا لِحَاجَتِه، مُسْتَقْبِلَ الشَّام، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور أول الباب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبتٌ [5](ت سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
(1)
حديث حسن، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (11).
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وشرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به، تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(18) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ)
[619]
(267) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِه، وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِه، وَلَا يَتَنَفَّس"
(1)
في الْإِنَاءِ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الإمام المشهور المذكور قريبًا أيضًا.
3 -
(هَمَّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقة [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ السُّلَميّ، أبو إبراهيم، ويقال: أبو يحيى المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وجابر، وعنه ابنه ثابت، ويحيى بن أبي كثير، وزيد بن أسلم، وحصين بن عبد الرَّحمن، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وعبد العزيز بن رفيع، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "ولا يتنفسنّ".
قال النسائي: ثقة. وقال الهيثم بن عديّ: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وتسعين، وقال غيره: وسبعين بتقديم السين، وهو وَهَمٌ ظاهر. وفي كتاب ابن سعد: تُوُفِّي في خلافة الوليد، وكان ثقةً، قليل الحديث، وقال البخاري: روى عنه ابنه قتادة بن عبد الله وكذا ذكر البخاري في "التاريخ".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
6 -
(أبو قتادة) الأنصاري السَّلَمِيّ فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه الحارث بن رِبْعيّ - بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها عين مهملة -، وقيل: النعمان، وقيل: عمرو، وقيل: عون، وقيل: مراوح، والمشهور: الحارث بن ربعي بن بُلْدُمَة - بضم الموحدة والمهملة، بينهما لام ساكنة - ابن خُناس - بضم المعجمة، وتخفيف النون، وآخره مهملة - ابن سنان بن عُبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سَلَمَة السَّلَمي - بفتحتين - المدني. وأمه كبشة بنت مُطَهَّر بن حرام بن سَوَاد بن غَنْم.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعنه ولداه ثابت وعبد الله، ومولاه أبو محمد نافع بن عباس بن الأقرع، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن رباح الأنصاري، ومعبد بن كعب بن مالك، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن بن عوف، وعمرو بن سليم الزرقي، وآخرون. قال ابن سعد: شهد أُحُدًا وما بعدها، وقال الحاكم أبو أحمد يقال: كان بدريًّا ولا يصح.
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع". وأخرج مسلم أيضًا عن أبي قتادة في قصة طويلة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، قال: فدعمته، فاستيقظ
…
فذكر الحديث، وفيه:"حفِظَك الله كما حفِظت نبيّه صلى الله عليه وسلم ". وقال أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة.
وقال الواقدي: توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، ويقال: ابن سبعين، ولم أَرَ بين علمائنا اختلافًا في ذاك، قال: وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة، وعلي بها، وصلى عليه. وحكى خليفة أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين، وهو شاذّ، والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في "الأوسط" في "فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين"، ثم روى بإسناده أن مروان بن الحكم لما كان واليًا على المدينة من قِبَل معاوية أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانطلق معه فأراه. وقال ابن عبد البر: رُوي من وجوه عن موسى بن عبد الله والشعبي أنهما قالا: صلى عليٌّ على أبي قتادة، وكبّر عليه سبعًا، قال الشعبي: وكان بدريًّا، ورجح هذا ابن القطان، ولكن قال البيهقي: رواية موسى والشعبي غلط؛ لإجماع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. قال الحافظ: ولأن أحدًا لَمْ يوافق الشعبي على أنه شهد بدرًا، والظاهر أن الغلط فيه ممن دون الشعبي، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
والحاصل أن الأصحّ في وقت وفاته ما قاله الواقديّ.
أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (170) حديثًا، اتفقا على (11) وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بثمانية، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج الله أبو داود، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعي: يحيى، عن عبد الله، والابن عن أبيه.
(1)
راجع "الإصابة" 7/ 272 - 274، و"تهذيب التهذيب" 4/ 574.
4 -
(ومنها): أن النوويّ رحمه الله ادّعى في "شرحه"، أن في هذا السند تصحيفًا، ودونك نصّه:
قوله: "حدّثنا يحيى بن يحيى، حدّثنا عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن همام .. إلخ" هكذا هو في الأصول التي رأيناها في الأول "هَمّام" بالميم، عن يحيى بن أبي كثير، وفي الثاني "هشام" بالشين، وأظن الأول تصحيفًا من بعض الناقلين عن مسلم، فإن البخاريّ، والنسائيّ، وغيرهما من الأئمة رووه عن هشام الدّستوائيّ، كما رواه مسلم في الطريق الثاني، وقد أوضح ما قلته الإمام الحافظ، أبو محمد، خَلَفٌ الواسطيّ، فقال: رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن هشام، وعن يحيى بن يحيى، عن وكيع، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، فصَرَّح الإمام خلفٌ بأن مسلمًا رواه في الطريقين، عن هشام الدّستوائيّ، فدَلّ هذا على أن همّامًا بالميم تصحيفٌ وَقَعَ في نسخنا ممن بعد مسلم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ادَّعى النوويّ التصحيف هنا، ولي فيه نظر؛ لأنه لا دليل عليه إلَّا احتجاجه بما قاله خلف الواسطيّ، وهذا وحده لا يكفي، وقد ذكر الحافظ المزيّ رحمه الله ما ذكره خلف، ولكن الظاهر من سياقه أنه لَمْ يُوافقه عليه، ودونك عبارته:
في كتاب خلف، وأبي مسعود:"عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن هشام"، وفي "صحيح مسلم":"عن همّام"، وفي بعض الأصول الصحيحة منه:"عن همّام بن يحيى". انتهى كلام المزيّ رحمه الله
(2)
.
فظاهر كلام المزيّ رحمه الله أنه يصوّب ما وقع في "صحيح مسلم" بلفظ "همّام"، فقد أيّد ذلك بقوله:"وفي بعض الأصول الصحيحة .. إلخ"، ولم يعلّق الحافظ ابن حجر في "نكته"، ولا الحافظ وليّ الدين في "أطرافه" شيئًا، مع شدّة اهتمامهما في مثل ذلك.
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 159.
(2)
"تحفة الأشراف" 8/ 538.
ومما يؤيّد ما ذكرته أن الحافظ أبا نُعيم رحمه الله أثبت ذلك في "مستخرجه"(1/ 322)، ونصّه: "رواه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن همّام. انتهى.
والحاصل أن الحكم على هذا السند بالتصحيف عندي غير مقبول، فهمّام بن يحيى مشهور بالرواية عن يحيى بن أبي كثير، كاشتهار رواية هشام الدستوائيّ عنه، وإن لَمْ يكن في الحفظ مثله، فغير مستغرب وقوعه في هذا السند، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه يُلقّب بأنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "خير فرساننا أبو قتادة"، وذلك في قصّة طويلة ساقها الشيخان، وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع حينما أُغير على لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي قصّة مشهورة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) تقدّم الخلاف في اسمه، والمشهور أنه الحارث بن رِبْعيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية، وقوله: (يُمْسِكَنَّ) مجزوم المحلّ بها؛ لكونه مبنيًّا؛ لاتّصال نون التوكيد به، كما قال في "الخلاصة":
....................
…
وَأَعْرَبُوا مُضَارِعًا إِنْ عَرِيَا
مِنْ نُونِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ وَمِنْ
…
نُونِ إِنَاثٍ كَـ"يَرُعْنَ مَنْ فُتِنْ"
وذكر في "الفتح" ما يُفيد أن "لا" ناهية والأفعال الثلاثة مجزومة، ورُوي بالرفع فيها على أن "لا" نافية
(1)
.
وقوله: "يُمْسِكَن" - بضم أوله - من الإمساك: أي لا يأخذنّ (أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ) - بفتحتين -: الفرج من الحيوان، جمعه ذِكَرَةٌ - بكسر، ففتح - بوزن عِنبَةٍ، ومَذَاكيرُ على غير قياس؛ قاله الفيّوميّ
(2)
.
(1)
"الفتح" 1/ 305.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 209.
(بِيَمِينِهِ) أي بيده اليمين؛ تشريفًا لها، وقال ابن الملقّن رحمه الله:"اليمين" قيل: من اليمن، وقيل: من القوّة، قال تعالى:{لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} [الحاقة: 45]، وقال نفطويه: أي لأخذنا بيمينه، فمنعناه من التصرّف، وفي "الصحاح": أن تصغيرها يُمَيِّنٌ بالتشديد بلا هاء، وفي "الجمهرة": الجمع أَيْمُن. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَهُوَ يَبُولُ) جملة حاليّة في محلّ نصب، أفادت أن النهي مقيّد بحالة البول، وهو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(وَلَا يَتَمَسَّحْ) أي لا يستنج، وهو من باب التفعُّل، أشار به أنه لا يتكلّف المسح باليمين؛ لأن التفعّل للتكلّف غالبًا، قاله العينيّ رحمه الله
(2)
. (مِنَ الْخَلَاءِ) - بالفتح، والمدّ، كالفضاء وزنًا ومعنًى - وقال النوويّ رحمه الله: الخلاء بالمدّ: الغائط، قال: وليس التقييد به للاحتراز عن البول، بل هما سواء. انتهى
(3)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: المسح هنا الاستنجاء، وسُمّي الخارج من القبل والدبر خلاءً؛ لكونه يُفعل في المكان الخالي، ويلازم ذلك غالبًا، ولفظ الحديث يتناول القبل والدبر. انتهى
(4)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر النهي التحريم، وعليه حمله الظاهريّة، وجمهور الفقهاء على الكراهة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: حمله على التحريم هو الأرجح؛ لأن الأصل في المناهي للتحريم، وسيأتي تحقيق الحقّ فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: قال في "الفتح": محل الخلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 498.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 448.
(3)
"شرح النوويّ" 3/ 159.
(4)
"الإعلام" 1/ 498.
غيرها، كالماء وغيره، أما بغير آلة، فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمين. انتهى
(1)
.
(وَلَا يَتَنَفَّسْ) وفي نسخة: "ولا يتنفّسَنَّ" بنون التوكيد، وهو من باب التفعيل أيضًا (فِي الإِنَاءِ") أي الوعاء، جمعها آنيةٌ، وجمع الآنية الأواني، مثلُ سِقَاءٍ، وأسقيةٍ، وأساقي، وأصله غير مهموز، ولهذا ذكره الجوهريّ في باب "أَنى، فعلى هذا أصله إنايٌ، قُلبت الياء همزةً؛ لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة"؛ قاله العينيّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: لا يتنفّس في نفس الإناء، وأما التنفّس ثلاثًا خارج الإناء فسنّة معروفة، قال العلماء: والنهي عن التنفّس في الإناء هو من طريق الأدب؛ مخافة من تقذيره، ونتنه، وسقوط شيء من الفم والأنف فيه، ونحو ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: إن أراد بقوله: "هو من طريق الأدب" أن النهي للتنزيه، لا للتحريم، ففيه نظر؛ لما سيأتي في المسألة الرابعة.
[تنبيه]: قيل: الحكمة في النهي عن التنفّس في الإناء أنه أبعد عن تقذير الإناء والماء، فإنه من الطف الجواهر، وأقبلها للتغيّر بالريح، وعن خروج شيء تَعَافُهُ النفس من الفم، فإذا أبانه عند إرادة التنفّس أمن من ذلك، وقد ثبت إبانة الإناء للتتفّس ثلاثًا، وهو في هذا الحديث مطلقٌ، ولأن إبانة الإناء أهنأ في الشرب، وأحسن في الأدب، وأبعد عن الشره، وأخفّ للمعدة، وإذا تنفّس في الإناء، واستوفى رِيّه حمله ذلك على فوات ما ذكرناه من حكمة النهي، وتكاثر الماء في حلقه، وأثقل معدته، وربّما شُرق به، وآذى كبده.
وقيل: علّة الكراهة أن كلّ عبّة شربةٌ مستأنفة، فيستحبّ الذكر في أولها، والحمد في آخرها، فإذا وصل، ولم يفصل بينها، فقد أخلّ بسنن كثيرة.
وقد أخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه
(1)
"الفتح" 1/ 305.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 282.
يُسمّي الله، فإذا أخّره محمد الله، يفعل ذلك ثلاثًا"، وأصله في ابن ماجة، وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البزّار، والطبرانيّ، وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عبّاس المشار إليه قبلُ: "وسَمُّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم".
قال في "الفتح": وهذا يحتمل أن يكون شاهدًا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن سنان الجزريّ، ضعيف، وشيخه مجهول، فتنبّه.
ومسألة الشرب سيأتي البحث عنها مستوفًى في "كتاب الأشربة" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[18/ 619 و 620 و 621](267)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(153 و 154) وفي "الأشربة"(5630)، و (أبو داود) في "الطهارة"(31)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(15)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(47)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(310)، و (الحميديّ) في "مسنده"(428)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 383) و (5/ 295 و 296 و 300 و 309 و 310 و 311)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(78 و 79)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1434)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(588 و 589 و 590 و 591 و 592 و 593 و 594)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(613 و 614 و 615 و 616 و 617)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 112)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(181)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 10/ 94.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن مسّ الذكر بيمينه عند البول.
2 -
(ومنها): النهي عن الاستنجاء باليمين.
3 -
(ومنها): النهي عن التنفّس عند الشرب في الإناء.
4 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى جواز الشرب في نَفَس واحد؛ لأنه إنما نهي عن التنفّس في الإناء، والذي يشرب في نفس واحد، ولم يتنفّس في الإناء، فلا يكون مخالفًا للنهي، وهو مقتضى حديث أبي سعيد الخدريّ منه، حيث أقرّه صلى الله عليه وسلم عليه، وقال المازريّ: ومذهبنا جوازه، وحكاه القاضي عن ابن المسيّب، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، قال: وكرهه ابن عبّاس، وطاوس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان؛ قاله ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي سعيد رضي الله عنه المشار إليه هو ما أخرجه أحمد، والترمذيّ رحمه الله بسند حسن، عن أبي سعيد الخدريّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن النفخ في الشرب، فقال رجل: القَذَاة أراها في الإناء؟ قال: "أهرقها"، قال: فإني لا أَرْوَى من نَفَسبى واحد، قال:"فَأَبِن القَدَحَ إِذَنْ عن فيك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى
(2)
.
ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم أقرّه على قوله: "من نفَس واحد"، وإنما أرشده إلى إبانة القدح عن فيه؛ لأجل أن يروي، فدلّ على جواز الشرب من نفس واحد.
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" بعد أن أورد حديث أبي سعيد المذكور ما نصّه: وفيه إباحة الشرب في نَفَس واحد، وكذلك قال مالك رحمه الله ثم أخرج بسنده، عن ابن القاسم، عن مالك، أنه رأى في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: إني لا أَرْوَى من نفس واحد، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فأَبِنِ القَدَح عن فيك"، قال مالك: فكأني أرى في ذلك الرخصة أن يشرب من
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 502 - 503.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (10771 و 11227)، والترمذيّ برقم (1809).
نفس واحد ما شاء، ولا أرى بأسًا بالشرب من نفس واحد، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث:"إني لا أروى من نفس واحد"، قال أبو عمر: يريد مالك رحمه الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ ينه الرجل حين قال له: "إني لا أروى من نفس واحد" أن يشرب في نفس واحد، بل قال له كلامًا، معناه: فإن منت لا تروى في نفس واحد، فأبن القدح عن فيك، وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد إن شاء الله.
وقد رُوِيت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد، وليس منها شيء تجب به حجة، ثم أخرج بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الشراب بنفس واحد شرب الشيطان، وفي سنده إبراهيم بن أبي حبيبة، قال أبو عمر: ضعيفٌ، لا يحتجّ به، ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: يعني أن ما دلّ عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنهما من جواز الشرب بنفس واحد أولى من هذا الموقوف الضعيف؛ لأنه مرفوع، وصحيح.
والحاصل أن الشرب بنفس واحد لا كراهة فيه، ولكن المستحبّ أن يشرب بثلاثة أنفاس؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: إنه أروي، وأبرأ، وأمرأ، قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا، متّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم. وسيأتي تمام البحث في "كتاب الأشربة" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنجاء باليمين:
ذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وذهب الظاهريّة إلى أنه للتحريم، حتى قال الحسين بن عبد الله الناصريّ في كتابه "البرهان على مذهب
(1)
راجع "التمهيد" 1/ 392 - 393.
أهل الظاهر": ولو استنجى بيمينه لا يُجزيه، وهو وجه عند الحنابلة، وطائفة من الشافعيّة؛ قاله العينيّ
(1)
.
ومال العلامة الشوكانيّ رحمه الله إلى رأي أهل الظاهر، حيث قال: وهو الحقّ؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشوكانيّ هو الصواب، وأما ما قاله في "الفتح" من أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم هي أن ذلك من الآداب، فقد تعقّبه الصنعانيّ رحمه الله، فقال: ولا يخفى بُعد هذه القرينة. انتهى.
والحاصل أن كون النهي هنا للتحريم هو الأظهر؛ لعدم وجود صارف معتبر، وقولهم:"يصرفه كونه للأدب" عجيب، كيف يكون كونه أدبًا صارفًا عن التحريم؟، أليست كلّ الأحكام الشرعية أوامرها، ونواهيها آدابًا، وإرشادات، فهل كلّها للندب، والكراهة التنزيهيّة؟ إن هذا لهو العجب العجاب!!!.
وخلاصة القول أن كون الشيء أدبًا من الآداب الشرعيّة لا ينافي وجوبه، أو تحريمه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): الأصحّ أن النهي عن مسّ الذكر باليمين محمول على حالة البول، فيكون ما عداه مباحًا، وقال بعضهم: يكون ممنوعًا أيضًا من بابٍ أولى؛ لأنه إذا نُهي عنه في تلك الحالة، وهي مظنّة الحاجة، فلأن يُنهى في غيرها أولى.
وتعقّبه أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله بأن مظنّة الحاجة لا تختصّ بحالة الاستنجاء، وإنما خُصّ النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يُعطَى حكمه، فلما مُنِع الاستنجاء باليمين مُنع مسّ آلته بها حَسْمًا للمادّة، ثم استدلّ على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن عليّ رضي الله عنه حين سأله عن مسّ الذكر: "إنما هو
(1)
"عمدة القاري" 2/ 450.
(2)
"نيل الأوطار" 1/ 12.
بضعةٌ منك"، فدلَّ على الجواز في كلّ حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حققه ابن أبي جمرة رحمه الله حسنٌ جدًّا، وحديث طلق رضي الله عنه الذي احتجّ به حديث صحيح رواه أصحاب السنن، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث يقتضي النهي عن مسّ الذكر باليمين في حالة البول، ووردت روايات أخرى في النهي عن مسّه باليمين مطلقًا، من غير تقييد بحالة البول، فمن الناس من أخذ بهذا العامّ المطلق، وقد يسبق إلى الفهم أن المطلق يُحْمَل على المقيّد، فيختصّ النهي بهذه الحالة، وفيه بحثٌ؛ لأن هذا الذي يقال يتّجه في باب الأمر والإثبات، فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق، أو العامّ في حورة الإطلاق، أو العموم مثلًا كان فيه إخلال باللفظ الدالّ على المقيّد، وقد تناوله لفظ الأمر، وذلك غير جائز، وأما في باب النهي، فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيّد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق، مع تناول النهي له، وذلك غير سائغ.
هذا كلّه بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث، وهو أن يُنظر في الروايتين، هل هما حديث واحدٌ، أو حديثان؟، وذلك أيضًا بعد النظر في دلائل المفهوم، وما يُعمَل به منه، وما لا يُعمل به، وبعد أن ننظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم - أعني رواية الإطلاق والتقييد - فإن كان حديثًا واحدًا، مخرجه واحد، واختلف عليه الرواة، فينبغي حمل المطلق على المقيّد؛ لأنَّها تكون زيادةً من عدل في حديث واحد، فتُقبَل، وهذا الحديث المذكور راجع إلى رواية يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(2)
.
وقوله: "وهذا الحديث .. إلخ" أراد حديث أبي قتادة رضي الله عنه المذكور هنا، يعني أنه روي بلفظ:"لا يمسكنّ أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول"، وبلفظ:
(1)
راجع الفتح" 1/ 306.
(2)
"إحكام الأحكام" 1/ 58 - 261.
"نهى أن يمسّ ذكره بيمينه"، فالرواية المطلقة والمقيّدة كلتاهما من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، فهو حديث واحد، وحينئذ يتعيّن حمل المطلق على المقيّد، ولا بدّ.
قال الصنعانيّ رحمه الله: بل التحقيق أنه ليس من المطلق والمقيّد، بل هو مقيّد لا غير؛ إذ الرواية المطلقة لَمْ تَرِد عنه صلى الله عليه وسلم، إنما أحد الرواة أسقط القيد نسيانًا، قال: إلَّا أنه لا يتمّ هذا إلَّا إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ ينطق بذلك الحديث إلَّا مرّةً واحدةً مقيّدًا، ولا دليل على هذا، لِمَ لا يجوز أنه نطق به مطلقًا، ثم نطق به مقيّدًا، كما في كثير من الأحاديث؟ والتقييد زيادة من عدل، وإن كان الحديث ليس واحدًا.
وبالجملة فالتقييد زيادة، سواءٌ كانت في حديث، أو في حديثين، وإن جرى الاصطلاح بأن الزيادة إنما تُسمّى كذلك إذا كانت في حديث واحد، لكن المعنى الحاصل عنها حاصل عن الروايتين؛ إذ الفرض أنه اتّحد التكلّم والموقف، وجالله حديث التقييد بزيادة من عدل، فيجب قبولها، ويجري قبول الزيادة دليلًا لحمل المطلق على المقيّد، فلا فرق بين الحديثين والواحد، فليُتأمّل. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسى جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قوله: "ولا يتمسّح من الخلاء بيمينه":
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يتناول القبل والدبر، وقد اختَلَف أصحاب الشافعيّ في كيفيّة التمسّح في القبل، إذا كان الحجر صغيرًا، لا بدّ من إمساكه بإحدى اليدين، فمنهم من قال: يُمسك الحجر باليمني، والذكر باليسرى، فتكون الحركة لليسرى، واليمنى قارّةٌ، ومنهم من قال: يؤخذ الذَّكر باليمنى، والحجر باليسري، وتُحرّك اليسري، والأول أقرب إلى المحافظة على الحديث؛ لأنه هناك لَمْ يتمسّح باليمين، ولا أمسك ذكره بها، بخلاف هذه
(1)
"العدّة" 1/ 261 - 262.
الصورة، فإنه أمسكه بها، قال الصنعانيّ: ولا يخفى أن الذي في الصورة الأولى محافظة تامّة، لا قريبة منها. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد أثار الخطابيّ هنا بحثًا، وبالغ في التبجح، وحَكَى عن أبي عليّ بن أبي هريرة أنه ناظر رجلًا من الفقهاء الخراسانيين، فسأله عن هذه المسألة، فأعياه جوابها، ثم أجاب الخطابيّ عنه بجواب فيه نظرٌ.
ومُحَصَّل الإيراد أن الْمُستَجْمِر متى استجمر بيساره استلزم مَسَّ ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شَمِله النهي.
ومحصل الجواب أنه يَقْصِد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة، كالجدار ونحوه، من الأشياء البارزة، فيستجمر بها بيساره، فإن لَمْ يَجِد، فليلصق مقعدته بالأرض، ويُمسك ما يستجمر به بين عقبيه، أو إبهامي رجليه، ويستجمر بيساره، فلا يكون متصرفًا في شيء من ذلك بيمينه. انتهى.
وهذه هيئةٌ منكرة، بل يَتَعَذَّر فعلُها في غالب الأوقات.
وقد تعقبه الطيبيّ بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختصّ بالدبر، والنهي عن المس مختصّ بالذكر، فبطل الإيراد من أصله.
قال الحافظ: كذا قال، وما ادّعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردودٌ، والمس وإن كان مختصًّا بالذكر لكن يُلْحَق به المدبر قياسًا، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خَصَّ الذَّكر بالذكر؛ لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الإحكام إلَّا ما خُصّ.
والصواب في الصورة التي أوردها الخطابيّ ما قاله إمام الحرمين، ومَن بعده كالغزاليّ في "الوسيط"، والبغوي في "التهذيب" أنه يُمِرّ العضو بيساره على شيء، يمسكه بيمينه، وهي متحركةٌ، فلا يُعَدّ مستجمرًا بَاليمين، ولا ماسًّا بها، ومن ادَّعَى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرًا بيمينه فقد غَلِطَ، وإنما هو كمن
(1)
راجع "العمدة"، مع حاشيته "العدّة" 1/ 263 - 264.
صَبّ بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[620]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ، فَلَا يَمَسَّ
(2)
ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت في آخر سنة 6 أو أول سنة 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(هِشَام الدَّسْتَوَائِيُّ) هو: هشام بن أبي عبد الله، واسمه سَنْبَر - كجعفر - أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[621]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: "أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ في الْإِنَاء، وَأَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِه، وَأَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ").
(1)
"الفتح" 1/ 305 - 306.
(2)
وفي نسخة: "فلا يُمسكنّ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة، واسمه كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجةٌ، من كبار الفقهاء الْعُبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.
وقوله: (وَأَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ) أي أن يستنجي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الاستطابة: الاستنجاء، يقال: استطاب، وأطاب إطابةً أيضًا؛ لأن المستنجي تَطِيب نفسه بإزالة الْخَبَث عن المخرج. انتهى
(1)
.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: الاستطابة: إزالة الأذى عن المخرجين بحجر ونحوه، أو مأخوذ من الطيب؛ لأن إزالة الفضلة تُطيِّب المحلّ، وتُذهِب عنه القذر، يقال: استطاب الرجل، فهو مستطيب، وأطاب، فهو مُطيبٌ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء السادس من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"
(1)
"المصباح المنير" 2/ 382.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 420.
رحمه الله تعالى بعد صلاة الظهر يوم الثلاثاء المبارك 4/ 10/ 1425 هـ الموافق 15/ نوفمبر/ 2004 م.
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السابع مفتتحًا بـ (19) - (بَابُ التَّيمُّنِ فِي الطُّهُورِ وَغَيْرِهِ) رقم الحديث [622](268).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
* * *