المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الثلاثاء 4/ 10/ 1425 هـ أول - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٧

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الثلاثاء 4/ 10/ 1425 هـ أول الجزء السابع من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(19) - (بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الطُّهُورِ وَغَيْرِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[622]

(268) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ إِذَا تَطَهَّرَ، وَفِي تَرَجُّلِهِ إِذَا تَرَجَّلَ، وَفِي انْتِعَالِهِ إِذَا انْتَعَلَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُلَيم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(أَشْعَثُ) بن أبي الشعثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.

4 -

(أَبُوهُ) هو: سُلَيم بن أسود بن حنظلة، أبو الشّعْثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3].

رَوَى عن عمر، وأبي ذرّ، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي موسى، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي أيوب، وطارق بن عبد الله رضي الله عنهم، ومسروق، والأسود بن يزيد، وقيس بن السكن.

ورَوَى عنه ابنه أشعث، وإبراهيم النخعيّ، وإبراهيم بن مهاجر، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الرحمن بن الأسود، وجامع بن شدّاد، وأبو إسحاق السبيعيّ، وغيرهم.

ص: 5

قال الميمونيّ، عن أحمد: بَخٍ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا يُسأَل عن مثله، وقال ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقةٌ.

قال خليفة: مات بعد الجماجم، سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقديّ: شَهِد مع عليّ رضي الله عنه مشاهده، وهلك في خلافة عبد الملك، أو الوليد.

قال الحافظ رحمه الله: وَقْعَةُ الجماجم كانت سنة (83) بالاتفاق، فلعلّ خليفة قال: مات بعد الجماجم، وأرّخه ابن قانع سنة (85) فهو أشبه، وقال ابن سعد: تُوُفّي زمن الحجاج، وكان ثقةً، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة، وقال البخاري في "التاريخ الصغير": كان يحيى بن سعيد يُنكر أن يكون سمع من سلمان، وقال ابن حزم في "المحلَّى": سليم بن أسود مجهول، فكأنه ما عَرَفَ أن أبا الشعثاء هذا اسمه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (268) وأعاده بعده، و (586) و (655) وأعاده بعده، و (741) و (1455).

5 -

(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت سنة (57) على الأصحّ، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 81.

ص: 6

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: أبو الشعثاء، عن مسروق.

5 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: إِنْ) مخفّفة من "إنّ" المشدّدة المؤكّدة، وهي هنا مهملة، غير عاملة (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحِبُّ) دخلت هذه اللام للفرق بين "إن" المخفّفة من الثقيلة المهملة، وبين "إن" النافية، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وإنما قيّد بإهمالها؛ لأنها إذا عملت، نحو "إنْ زيدًا قائمٌ" لا تحتاج إلى الفارق؛ لعدم الالتباس، وقوله:"وربما استُغني .. إلخ" إشارة إلى نحو قول الشاعر:

أَنَا ابْنُ أُبَاةِ الضَّيْمِ مِنْ آلِ مَالِكٍ

وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ

فإنه لا التباس فيه؛ لأن المراد المدح، ولا تأتي النافية فيه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (التَّيَمُّنَ) منصوب على المفعوليّة، أي استعمال اليد اليمنى، وقال ابن الملقّن رحمه الله: التيمّن: معناه هنا: الابتداء باليمين قبل الشمال، وفي "المغرب" للمطرّزيّ: يامن، وتيامن: أخذ جانب اليمين، ومنه:"كان صلى الله عليه وسلم يُحبّ التيامن في كلّ شيء"، وهذا اللفظ الذي ذكره رواه ابن حبّان في "صحيحه" بزيادة:"حتى في الترجّل والانتعال"، والتيمّن من الألفاظ المشتركة؛ لأنه أيضًا مصدر تَيَمَّنَ بالشيء: إذا تبرّك به، مأخوذ من اليمن - بضمّ الياء - وهو البركة، والتيمّن أيضًا: النسبة إلى اليمن - بفتح الياء والميم - يقال: تيمّن: إذا انتسب إلى اليمن. انتهى

(1)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 390.

ص: 7

(فِي طُهُورِهِ) بضمّ الطاء، والمراد به فعل الطهارة، ويجوز أيضًا فتحها؛ فقد قال سيبويه: الطَّهُور بالفتح يقع على الماء، والمصدر معًا

(1)

.

وقال الكرمانيّ: هو بضمّ الطاء، ولا يجوز فتحها، وتعقّبه العينيّ، فقال: لا نُسلّم هذا على الإطلاق؛ لأن الخليل، والأصمعيّ، وأبا حاتم السجستانيّ، والأزهريّ، وآخرين ذهبوا إلى أن الطَّهُور بالفتح في الفعل الذي هو المصدر، والماء الذي يُتطهَّر به، وقال صاحب "المطالع": وحُكي الضمّ فيهما، والفرق المذكور نقله ابن الأنباريّ عن جماعة من أهل اللغة، فإذا كان كذلك، فقول الكرمانيّ: ولا يجوز فتحها غير صحيح على الإطلاق. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الضمّ والفتح جائزان هنا، أما الضمّ فواضح؛ لأن معناه الحدث، ويكون المعنى أنه يحبّ التيمّن في طهارته، وأما الفتح فيحتمل أن يكون بمعنى الحدث أيضًا كالمضموم على ما ذكره أئمة اللغة الذين ذكرهم العينيّ، ويحتمل أن يكون بمعنى المطهّر، فيكون على حذف مضاف، أي في استعمال الماء الذي يتطهّر به.

والحاصل أن الوجهين هنا صحيحان، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِذَا تَطَهَّرَ) أي أراد التطهّر.

(وَفِي تَرَجُّلِهِ) أي تمشيطه شعره، وهو تسريحه، وهو أعمّ من أن يكون في الرأس، أو في اللحية

(3)

.

قال أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 324): الترجيل: التدهين. انتهى.

وقال ابن الأثير: الترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه، وتحسينه. انتهى

(4)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الترجيل تسريح الشعر، قال الهرويّ: شعرٌ مرجّلٌ: أي مسرَّحٌ، وقال كُرَاع: شَعْرٌ رَجِلٌ، ورَجْلٌ، وقد رَجَّلَه صاحبه: إذا سرّحه، ودَهَنه. انتهى

(5)

.

(1)

راجع "الإعلام" 1/ 391.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 45.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 44.

(4)

"النهاية" 2/ 203.

(5)

"إحكام الأحكام" 1/ 210 - 211.

ص: 8

وقال الفتح: ترجيل الشعر: تسريحه ودهنه، قال في "المشارق": رجّل شعره: إذا مشطه بماء، أو دهن؛ لِيَلين، ويرسل الثائر، ويمدّ المنقبض. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: بهذا يظهر لك خطأ العينيّ في تعقّبه على صاحب "الفتح" بأن قوله: "ودهنه" تفسير من عنده، ولم يفسّره أهل اللغة، فإن كراعًا من أهل اللغة المعروفين، وكذا فسّره به غيره

(2)

، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(إِذَا تَرَجَّلَ) أي إذا أراد أن يسرّح شعره.

(وَفِي انْتِعَالِهِ) أي في لبسه نعله، يقال: نَعَلَ يَنْعَلُ - بالفتح فيهما - وتنعَّلَ، وانتَعَلَ: إذا لبس النعل، وأنعلتُ الخيل بالهمزة، ومنه حديث:"إن غسّان تُنعل خيلها"، و"النعل" - بفتح، فسكون -: الحذاء، وهي مؤنّثة، وهي التي تُلبَس على الرجل في المشي، وتُسمَّى التاسومة، والجمع أَنْعُلٌ، ونِعَالٌ، مثلُ سَهْمٍ وأَسْهُمٍ وسِهَامٍ

(3)

، وفي "القاموس": النعلُ: ما وُقِيت به القدم من الأرض، كالنَّعْلَة، مؤنّثةٌ. انتهى

(4)

.

(إِذَا انْتَعَلَ) أي إذا أراد لبس نعله، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: معنى التيمّن في التنعّل: البداءة بالرجل اليمنى، ومعناه في الترجّل: البداءة بالشقّ الأيمن من الرأس في تسريحه ودَهْنه، وفي الطهور: البداءة باليد اليمنى، والرجل اليمنى في الوضوء، وبالشقّ الأيمن في الغسل، والبداءة باليمنى عند

(1)

"الفتح" 1/ 324.

(2)

قال ابن الملقّن رحمه الله في "الإعلام"(1/ 391): الترجل: تسريح الشعر، يقال: شعرٌ مرجَّلٌ: أي مسرَّحٌ، وشعرٌ رَجِلٌ، ورَجْلٌ، ورَجَلَهُ صاحبه: إذا سرّحه، ودَهَنَهُ، وشعرٌ رَجَلٌ، ورَجِلٌ، ورَجْلٌ: بين السُّبُوطة والْجُعُودة، وقد رَجِلَ رَجَلًا، ورَجَّلَهُ هو، ورجلٌ رَجِلُ الشعر، ورَجَلَهُ، وجمعهما أَرْجالٌ، ورَجَالَى، ذكره ابن سيده في "محكمه". انتهى.

(3)

راجع "المصباح" 2/ 613، و"عمدة القاري" 3/ 44.

(4)

"القاموس المحيط" ص 958.

ص: 9

الشافعيّ من المستحبّات، وإن كان يقول بوجوب الترتيب؛ لأنهما كالعضو الواحد، حيث جُمعا في لفظ القرآن الكريم في لفظ واحد، حيث قال الله عز وجل:{وَأَيْدِيكُمْ} ، {وَأَرْجُلَكُمْ} . انتهى

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: معنى التيمّن في النعل البداءة بالرجل اليمنى، بخلاف النزع، فإنه ينزع اليسرى؛ لأن الانتعال للرجل أفضل من الْحَفَاء، إلى آخر ما ذكره ابن دقيق العيد، ثم قال: والضابط في ذلك أن كلّ ما كان من باب التكريم والزينة كان باليمين، وما كان بخلافه فباليسار. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع اختلاف في ألفاظ هذا الحديث، ففي هذه الرواية:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُحبّ التيمّن في طهوره إذا تطهّر، وفي ترجّله إذا ترجّل، وفي انتعاله إذا انتعل"، وفي الرواية التالية:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ التيمّن في شأنه كلّه، في نعليه، وترجّله، وطهوره"، وعند البخاريّ في "الوضوء":"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعجبه التيمّن في تنعّله، وترجّله، وطهوره، في شأنه كلّه"، قال الحافظ: كذا للأكثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة"، وعند البخاريّ في "الأطعمة" من طريق عبد الله بن المبارك، عن شعبة أن أشعث شيخه كان يُحدّث به تارةً مقتصرًا على قوله:"في شأنه كلّه"، وتارةً على قوله:"في تنعّله .. إلخ"، وزاد الإسماعيليّ من طريق غندر، عن شعبة:"أن عائشة أيضًا كانت تُجمله تارةً، وتبيّنه أخرى"؛ قاله في "الفتح"

(3)

.

وعند النسائيّ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحبّ التيامن ما استطاع، في طهوره، ونعله، وترجّله"، قال شعبة: ثم سمعت الأشعث بواسط يقول: "يُحبّ التيامن، فذكر شأنه كلّه"، ثم سمعته بالكوفة يقول:"يُحبّ التيامن ما استطاع".

وعند ابن حبّان: "كان يُحبّ التيامن في كلّ شيء حتى في الترجّل، والانتعال"، وفي رواية ابن منده: "كان يحبّ التيامن في الوضوء،

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 211 - 214.

(2)

"الإعلام" 1/ 392.

(3)

1/ 325.

ص: 10

والانتعال"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الطهارة"[19/ 622 و 623](268)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(168) و"الصلاة"(426) و"الأطعمة"(5380) و"اللباس"(5854 و 5926)، و (أبو داود) في "اللباس"(4140)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(608)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(112)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(401)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 127)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 94 و 130 و 147 و 202 و 210)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 216)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(216)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1091)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(598 و 599)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(618 و 619)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة التيمّن في الطهارة، فيبدأ في وضوئه بغسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى، وفي غسله بالشقّ الأيمن.

2 -

(ومنها): استحباب التيمّن في لبس النعل، فيبدأ بالرجل اليمنى قبل اليسرى.

3 -

(ومنها): استحباب التيامن في تسريح الشعر، فيبدأ بالشقّ الأيمن، وكذا في غسله، وحلقه.

4 -

(ومنها): التبرّك باليمين، قال القرطبيّ رحمه الله: كانت محبته صلى الله عليه وسلم للتيمن تبرّكًا منه باسم اليمين؛ لإضافة الخير إليها، كما قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا

(1)

هكذا عزا العينيّ هاتين الروايتين إلى ابن حبان، وابن منده في "عمدة القاري" 3/ 46، والذي رأيته في "الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان" 2/ 210:"كان يحبّ التيامن ما استطاع، في طهوره، وتنعّله، وترجّله"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 11

أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]، ولما فيه من الْيُمْن والبركة، وهو من باب التفاؤل، ونقيضه الشمال، ويؤخذ من الحديث احترام اليمين وإكرامها، فلا تُستعمل في إزالة شيء من الأقذار، ولا في شيء من خسيس الأعمال، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء، ومسّ الذكر باليمين. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): استحباب البدء باليمين في شيء يكون من باب التكريم، قال النوويّ رحمه الله: هذه قاعدة مستمرّة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب، والسراويل، والخفّ، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب، وترجيل الشعر، وهو مَشْطُهُ، ونَتْف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك، مما هو في معناه، يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضدّه، كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، والخفّ، وما أشبه ذلك، فيُستحَبّ التياسر فيه، وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها.

قال: (واعلم): أن الابتداء باليسار، وإن كان مُجْزِيًا فهو مكروه، نَصَّ عليه الشافعيّ، وهو ظاهرٌ، ثم ذكر الحديث الآتي:"ابدؤوا بأيامنكم"، قال: فهذا نصّ في الأمر بتقديم اليمين، ومخالفته مكروهة، أو محرّمة.

قال: ثم (اعلم): أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفّان، والخدان، بل يُطَهَّران دَفْعَةً واحدةً، فإن تعذّر ذلك كما في حقّ الأقطع ونحوه، قُدِّم اليمين، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

6 -

(ومنها): ما قاله في "المنهل": ومما يُطلب استعمال اليد اليسرى فيه حمل النعل، فما يقع من بعض أهل العلم، وغيرهم، من حملهم كتبهم بشمائلهم، ونعالهم بأيمانهم مخالف للسنّة المطهّرة، قال في "شرح المشكاة": وكثيرًا ما رأينا عوامّ طلبة العلم يأخذون الكتب باليسار، والنعال باليمين، إما لجهلهم، أو

(1)

"المفهم" 1/ 511.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 160 - 161.

ص: 12

غفلتهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه التيمن ما استطاع في ترجله، ونعله، ووضوئه، ورَوَينا عنه أنه قال:"إذا توضأتم، فابدؤوا بميامنكم".

قال: وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ، فغسل يده اليمنى، ثم اليسرى في الوضوء، وكذلك يَفْعَل المتوضئ إذا أراد اتباع السنة.

قال: وممن مذهبه أن المتوضئ يبدأ بيمينه قبل يساره: مالكٌ، وأهلُ المدينة، وسفيانُ الثوريّ، وأهلُ العراق، والأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُهُ، وأحمدُ بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.

قال: وأجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، وقد روينا عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: لا تبالي بأيّ يديك بدأت. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته الفضل، وصَح وضوؤه، وقالت الشيعة: هو واجب، ولا اعتداد بخلاف الشيعة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: إن صحّ الإجماع الذي ذكره ابن المنذر، والنوويّ كان صارفًا للأمر عن الوجوب إلى الاستحباب في الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وغيرهم بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لَبِستم، أو توضأتم، فابدؤوا بأيامنكم"، وهو حديث صحيح، ونصّ صريح في الأمر بالبدء باليمين، لكنه مستحبّ؛ لما ذُكر من الإجماع، إن صحّ، وإلا فالأصل الوجوب؛ لأنه أمرٌ، وهو للوجوب، ولأنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بدأ باليسار في وضوئه، فتثبت قولًا وفعلًا، لكن الأمر ما عرّفناك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

انظر "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 9/ 126.

(2)

"الأوسط" 1/ 386 - 388.

ص: 13

[تنبيه]: قال ابن الملقّن رحمه الله: لو تعارض الانتعال والخروج من المسجد، خرج منه بيساره، ووضعها على نعله اليسرى من غير لبس، ثم خرج باليمنى ولبسها، ثم لبس اليسرى. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: قال ابن الملقّن رحمه الله أيضًا: قسَم بعضهم ما يستحبّ فيه التيامن، وما لا يستحبّ خمسة أقسام:

[أولها]: ما يستحبّ فيه التيامن فقط.

[ثانيها]: ما يُستحبّ فيه التياسر فقط، وقد تقدّمت أمثلتهما.

[ثالثها]: ما اختُلف فيه، وهو الامتخاط، والتنخّم، ومسح القذا، قال: والذي ينبغي في هذا القطع باليسار.

[رابعها]: ما خُيِّر فيه، وهو سدّ الفم عند التثاؤب، فإن سُدّ باليمنى يخيّر بين سدّه بظاهرها، أو باطنها، وإن سُدّ باليسرى، فليكن بظاهرها.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن دفع التثاؤب يكون باليسار؛ لأن التثاؤب من عمل الشيطان؛ لما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم، فَلْيَرُدّه ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: "ها" ضحك الشيطان"، والله تعالى أعلم.

[خامسها]: ما يجمع فيه بينهما، وذلك أكل كلّ حارّ ببارد، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل قثاء برُطَب، هذا بيده، وهذا بيده، قال بعض العلماء: وهذا مستثنى من الأكل بالشمال. انتهى كلام ابن الملقّن

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر ابن الملقّن رحمه الله هذا الحديث، والحديث في "الصحيحين" عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثّاء"، وأما زيادة: هذا بيده، وهذا بيده، فليس في "الصحيحين"، بل هي رواية أخرجها الطبرانيّ في "الأوسط"، من حديث عبد الله بن جعفر، قال:"رأيت في يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم قثّاءً، وفي شماله رُطَبًا، وهو يأكل من ذا مرّةً، ومن ذا مرّةً"، وفي سنده ضعف، وأخرج فيه - وهو في

(1)

"الإعلام" 1/ 395.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 395 - 396.

ص: 14

"الطبّ" لأبي نعيم - من حديث أنس رضي الله عنه: "كان يأخذ الرطب بيمينه، والبطّيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطّيخ، وكان أحبّ الفاكهة إليه"، وسنده ضعيف أيضًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

فتبيّن بهذا أن ما قاله البعض من أن هذا مستثنًى من الأكل بالشمال، غير صحيح؛ لأن الحديث ضعيف، لا يصلح لمعارضة الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"

(2)

، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[623]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَشْعَث، عَنْ أَبِيه، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّه، فِي نَعْلَيْه، وَتَرَجُّلِه، وَطُهُورِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) بن معاذ الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) هو: معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ، متقن، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد العتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، الإمام الحجة الثبت الناقد الْجِهْبذ المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) الشأن: الحال والْخَطْبُ، وهو بالهمزة الساكنة، وتُخفَّف بقلبها؛ " لكثرة الاستعمال، وأكّده بقوله: "كلّه" ليدلّ على التعميم؛ لأن

(1)

"الفتح" 9/ 485.

(2)

سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب الأشربة" برقم (2020).

ص: 15

التأكيد يرفع المجاز، فيُمكن أن يقال: حقيقة الشأن ما كان فعلًا مقصودًا، وما يُستحبّ فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تُرُوكٌ، وإما غير مقصودة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال العينيّ رحمه الله: هذا عامّ مخصوص بالأدلّة الخارجيّة. انتهى.

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "في شأنه كلّه" عامّ مخصوص؛ لأن دخول الخلاء، والخروج من المسجد، ونحوهما يُبدأ باليسار. انتهى

(2)

.

قال الصنعانيّ رحمه الله: قوله: "فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد يُبدأ باليسار" هذه من الأمور الدائرة على الألسنة، ويُبحَث عن دليله، فإني لا أعرف فيه حديثًا، وإنما ورد في اليد اليسرى في التخلّي، وحديث عائشة رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي داود، والطبرانيّ:"كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من الأذى"، وقال الحافظ في "التلخيص": إنه منقطع، قال: ورواه أبو داود من طريق أخرى من حديث حفصة، ورواه أحمد، والحاكم، وابن حبّان، فهذا ما ورد، وقياس الرجل على اليد لا يتمّ هنا. انتهى كلام الصنعانيّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أما حديث عائشة رضي الله عنها المذكور، فصحيح، كما حقّقه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" 1/ 61 - 65، وكذلك حديث حفصة رضي الله عنها صحيح أيضًا، ولفظه:"عن حفصة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه، وشرابه، وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك".

وحديث حفصة رضي الله عنها يصلح للاحتجاج به في مسألة دخول الخلاء، والخروج من المسجد، ونحو ذلك؛ لأن قولها:"يجعل يمينه .. إلخ" عامّ يشمل اليد، والرجل، فليس من باب القياس، كما يراه الصنعانيّ، بل هو من باب الاستدلال بعموم النصّ.

ومما يؤيّد ذلك ما أخرجه الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن

(1)

1/ 324.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 215.

(3)

"العدّة" 1/ 215.

ص: 16

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتعل أحدكم، فليبدأ باليمين، وإذا نَزَع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع".

ففيه تنبيه على أن كلّ ما كان من باب التشريفما فهو باليمين، وما كان بخلافه فهو بالشمال، فدخول المسجد من الأول بخلاف الخروج منه، والخلاء بالعكس، وبالجملة فعناية الشارع بمثل هذا مما لا يخفى على من تأمّله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: قال ابن الملقّن رحمه الله: يدخل في عموم قوله: "في شأنه كله" الأحوال التي أسلفناها، ومنها الأخذ والعطاء، ومنها السواك، كما قدّمناه، ومذهب أحمد استحبابه باليسار؛ لأنه إزالة مستقذر، فكان كالحجر في الاستنجاء، ونُقِل عن القرطبيّ أيضًا، ويردّه رواية أبي داود في هذا الحديث في "اللباس":"وسواكه"، زادها مسلم بن إبراهيم أحد رواته عن شعبة، ثم قال أبو داود: رواه عن شعبة معاذ، لم يذكر "سواكه".

وقال الترمذيّ الحكيم: والاستياك باليسار إلا من علّة من فعل الشيطان، قال: وقد روي مرفوعًا: "الشيطان يأكل بيساره، ويشرب بيساره، ويعمل الأعمال بيساره، فاجتنبوا الأعمال بها إلا من علّة"

(1)

.

ولأن في السواك تعبّدًا حيث أُمر به، فهو من باب التكريم، فيُفعل باليمين، كالأكل والشرب.

[فإن قلت]: كان ينبغي التفصيل بين حالة التغير، فيكون باليسار، وبين عدمها، فيكون باليمين.

[أجيب]: بأن إطلاق أحاديث الترغيب في السواك يردّ هذا التفصيل،

(1)

هكذا أورده ابن الملقّن، ولم يذكر سنده حتى يُنظر فيه، ولكن يغني عنه ما تقدّم لمسلم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وما أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 325) وابن ماجه في "سننه"(2/ 302) بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله".

ص: 17

ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه مَطْهَرةً، حيث قال:"السواك مطهرة للفم، مرضاة للربّ"، ولرواية أبي داود بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع، في شأنه كله، في طهوره، وترجله، ونعله، وسواكه"، هكذا في رواية مسلم بن إبراهيم أحد الثقات الحفّاظ عن شعبة، بزيادة "وسواكه"، وهي زيادة صحيحة.

والحاصل أن المستحبّ كون السواك باليمين، لما ذُكر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: في قولها أيضًا: "في شأنه كله" دلالة على أن التختّم في اليمين دون اليسار؛ لأن لباس الخاتم من جملة شأنه صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح عند الشافعيّة، لكن صحّ أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم تختّم في اليسار، فيجوز الأمران؛ قاله ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

[تنبيه آخر]: في قوله: "كلّه" دلالة على أن التأكيد لا يرفع المجاز؛ لأنه ورد هنا مؤكِّدًا للعموم مع الجزم بالخصوص بما ذكرناه؛ قاله ابن الملقّن رحمه الله أيضًا

(2)

.

وقوله: (فِي نَعْلَيْهِ) بدل من قوله: "في شأنه كلّه" بإعادة الجارّ، ووقع في نسخة شرح النوويّ بلفظ:"في نعله" بالإفراد، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض الأصول "في نعله" على إفراد النعل، وفي بعضها "نعليه" بزيادة ياء التثنية، وهما صحيحان، أي في لبس نعليه، أو في لبس نعله، أي جنس النعل، ولم يَرد في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين، وذكر الحميديّ والحافظ عبد الحق في كتابيهما:"الجمع بين الصحيحين": "في تنعله" بتاء مثناة فوقُ، ثم نون، وتشديد العين، وكذا هو في روايات البخاريّ وغيره، وكله صحيحٌ، ووقع في روايات البخاريّ:"يحب التيمن ما استطاع، في شأنه كله"، وذكر الحديث إلى آخره، وفي قوله:"ما استطاع" إشارة إلى شدّة

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 398.

(2)

"المصدر السابق" 1/ 398.

ص: 18

المحافظة على التيمن، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ وَالظِّلَالِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[624]

(269) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ - قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ - أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ"، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَان، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاس، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر بن إياس السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ت بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 161.

ص: 19

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه: العلاء، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ") كذا وقع في "صحيح مسلم"، ووقع عند أبي عوانة في "مستخرجه"، بلفظ:"اتقوا اللاعنين"، قالوا: وما اللاعنين يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلّى في طريق المسلمين، أو في ظلّهم".

ولفظ أبي عوانة من طريق سليمان بن بلال، عن العلاء:"اجتنبوا اللاعنين"، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذين يبرزون على طريق الناس، أو في مجلس قوم".

قال أبو سليمان الخطابيّ رحمه الله: المراد باللاعنين: الأمران الجالبان للّعن الحاملان الناسَ عليه، والداعيان إليه، وذلك أنّ مَن فعلهما شُتِم، ولُعِن، يعني أن عادة الناس لعنه، فلما صارا سببًا لذلك أضيف اللعن إليهما، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، والمَلاعن: مواضعُ اللعن.

قال النوويّ رحمه الله: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلُهما، وهذا على رواية أبي داود، وأما رواية مسلم فمعناها - والله أعلم -: اتقوا فعل اللعّانين: أي صاحبي اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح مسلم" 3/ 161 - 162.

ص: 20

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: قوله: "اتّقوا اللعّانين" وفي غير مسلم: "اتّقوا الملاعن"، فذكر هاتين، وزاد:"موارد الماء"، وسُمّيت ملاعن؛ لجلبها اللعن؛ لأنها أماكن راحة الناس، فإذا وجدوا ذلك فيها، قالوا: لعن الله من فعله، وقد يكون اللاعنان بمعنى الملعونين؛ لأن الحالتين ملعونتان، أي فاعلهما، كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]: أي مرضيّة.

قال الأبّيّ رحمه الله: والمعنى على الأول: اتّقوا صاحبتي اللعن، أي اللتين يقع اللعن عند وجودهما، واتّقاؤهما من نوع ما تقدّم من النهي عن استقبال القبلة، واستدبارها، والاستنجاء باليمين، لكون ذلك من آداب الأحداث. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله في تفسير قوله: "اتّقوا الملاعن الثلاث" هي مَلْعَنة، وهي الفعلة التي تَلْعَن فاعلها، كأنها مظنّة اللعن، ومَعْلَمةٌ له، كما يقال:"الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ"

(2)

، وأرضٌ مأسدة. انتهى.

(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون مجلسه صلى الله عليه وسلم حينما تكلّم بهذا الحديث (وَمَا اللَّعَّانَانِ) أي الأمران الجالبان للعن (يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الَّذِي يَتَخَلَّى) قال الطيبيّ رحمه الله: هو على حذف مضاف، أي تخلّي الذي يتخلَّى، أو عبّر عن الفعل بفاعله. انتهى. (يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ) أي يتغوّط في موضع يَمُرّ به الناس (أَوْ فِي ظِلِّهِمْ) قال الخطابيّ وغيره من العلماء: المراد بالظلّ هنا مُسْتَظَلُّ الناس الذي اتخذوه مَقِيلًا ومُنَاخًا ينزلونه، ويقعدون فيه، وليس كلُّ ظلّ يحرم القعود تحته، فقد قَعَد النبيّ صلى الله عليه وسلم تحت حائش النخل لحاجته، وله ظلّ بلا شكّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فقد قَعَد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ" أشار به إلى ما أخرجه المصنّف رحمه الله من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال:"وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ، أو حائشُ نخل"، يعني حائط نخل

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"شرح الأبيّ" 2/ 45.

(2)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه برقم (3656).

(3)

سيأتي للمصنّف في "كتاب الحيض" برقم (342).

ص: 21

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[20/ 624](269)، و (أبو داود) في "الطهارة"(25)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 372)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(67)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1415)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(33)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 185 - 186)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(486)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(620)، والله أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن التخلّي وقضاء الحاجة من البول والغائط في طريق الناس.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن التخلّي في ظلّ ينتفع به الناس.

3 -

(ومنها): أن سبب النهي عن التخلّي فيما ذُكر؛ لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يَمُرّ به، ونتنه، واستقذاره.

4 -

(ومنها): بيان شدّة حرص الشريعة على إبعاد الفرد والمجتمع عما يُلحق الأذى بهم، مما يوجب لعن بعضهم لبعض، وشتمهم.

5 -

(ومنها): الحثّ على ما يجلب المحبّة بين الناس، ودعاء بعضهم لبعض من إدخال السرور في قلوبهم، وإزالة الضرر عنهم، ولذا صار إماطة الأذى عن طريق المسلمين من شعب الإيمان فقد أخرج المصنّف: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبةً، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"

(1)

.

وأخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعون خَصْلَةً، أعلاهن مَنِيحة الْعَنْز، ما من عامل

(1)

تقدّم في "كتاب الإيمان" برقم (35).

ص: 22

يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة". قال حسان - أحد رواته -: فعددنا ما دون منيحة الْعَنْز، من ردّ السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في الأماكن التي منع قضاء الحاجة فيها:

قال الموفّق ابن قُدامة رحمه الله: لا يجوز أن يبول في طريق الناس، ولا مَوْرد ماء، ولا ظلٍّ ينتفع به الناس؛ لحديث معاذ رضي الله عنه مرفوعًا:"اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"، حديث حسنٌ رواه أبو داود

(1)

، والْمَوْرِد: الطريق.

ولا يبول تحت شجرة مثمرة، في حال كون الثمرة عليها؛ لئلا تسقط عليه الثمرة، فتتنجس به، فأما في غير حال الثمرة فلا بأس، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان أحبّ ما استتر به لحاجته هَدَفٌ، أو حائش نخل"، رواه مسلم.

ولا يبول في الماء الدائم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن البول في الماء الراكد، متفق عليه، ولأن الماء إن كان قليلًا تنجس به، وإن كان كثيرًا، فربما تغير بتكرار البول فيه، فأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي مَن يمر به، وإن بال فيه وهو كثير لا يؤثر فيه البول، فلا بأس؛ لأن تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليل على أن الجاري بخلافه.

ولا يبول على ما نُهِي عن الاستجمار به؛ لأن هذا أبلغ من الاستجمار به، فالنهي ثَمَّ تنبيهٌ على تحريم البول عليه.

ويكره أن يبول في شِقٍّ، أو ثُقْب؛ رَوَى عبد الله بن سَرْجِس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُبَال في الْجُحْر، حديث صحيحٌ رواه أبو داود، ولأنه لا يَأْمَن أن يكون فيه حيوان يَلْسَعه، أو يكون مسكنًا للجنّ، فيتأذى بهم، فقد حُكِي أن سعد بن عبادة رضي الله عنه بال في جُحْر بالشام، ثم استلقى ميتًا، فسُمِعَتِ الجنُ تقول [من مجزوّ الرمل]:

(1)

حديث حسنٌ، رواه أبو داود في "سننه" رقم (7).

ص: 23

نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ

رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ

وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْ

نِ فَلَمْ تُخْطِئْ فُؤَادَهْ

(1)

ولا يبول في مُسْتَحَمِّه - أي محلّ اغتساله - لأن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولنّ أحدكم في مُسْتَحَمِّه، فإن عامة الوسواس منه"، حديث صحيحٌ، رواه أبو داود، وابن ماجه

(2)

، وقال ابن ماجه: سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول: إنما هذا في الْحَفِيرة، فأما اليوم فمُغْتسلاتهم الْجَصّ والصاروج

(3)

، والْقِير، فإذا بال، وأرسل عليه الماء فلا بأس به.

قال: وقد قيل: إن البصاق على البول يورث الوسواس، وإن البول على النار يورث السّقَم، وتوقي ذلك كله أولى، ويكره أن يتوضأ على موضع بوله، أو يستنجي عليه؛ لئلا يتنجس به. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(4)

، وهو بحث مفيدٌ، إلا أن قوله:"إن البصاق" إلى قوله: "يورث السقم" يحتاج إلى دليل صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[625]

(270) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ

(1)

كذا ذكره الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستيعاب" في ترجمة سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: ولم يختلفوا أنه وُجد ميتًا في مغتَسَله، وقد اخضرّ جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول، ولا يرون أحدًا، ثم ذكر البيتين المذكورين، وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله بعد ذكر كلام ابن عبد البرّ رحمه الله المذكور: ولكن لم أجد له إسنادًا صحيحًا على طريقة المحدّثين. انتهى "إرواء الغليل" 1/ 94.

(2)

حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (27)، وابن ماجه برقم (300).

(3)

الصاروج: النورة، وأخلاطها التي تصرج بها الحياض والحمامات.

(4)

"المغني" 1/ 156 - 157.

ص: 24

خَالِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا، وَتَبِعَهُ غُلَامٌ مَعَهُ مِيضَأَةٌ

(1)

، هُوَ أَصْغَرُنَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ سِدْرَةٍ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الحافظ المذكور قبل باب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطّحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 407.

3 -

(خَالِد) بن مِهْرَان، أبو الْمُنَازل - بفتح الميم، وضمّها - الْحَذّاء البصريّ، ثقةٌ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) اسم أبيه منيع، أبو معاذ البصريّ، مولى أنس، ويقال: مولى عمران بن حصين، ثقةٌ، رُمي بالقدر [4].

رَوَى عن أنس، وعمران، وجابر بن سَمُرة، وأبي بُردة بن أبي موسى، والحسن، ووهب بن عمير، وأبي رافع الصائغ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن.

ورَوَى عنه ابناه: إبراهيم، ورَوْح، وخالد الحذاء، وشعبة، وعبد الله بن بكر بن عبد الله المزنيّ، ورَوْح بن القاسم، وحماد بن سلمة، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، لا يُحتَجّ بحديثه، وكان قدريًّا، وقال ابن عديّ: يُكنى أبا معاذ، وفي أحاديثه بعض ما يُنكَر عليه.

قال البخاريّ: قال يحيى القطان: مات بعد الطاعون بالبصرة، سنة إحدى وثلاثين ومائة، وهو قول ابن سعد، وابن حبان في "الثقات" في ترجمته، ووثقه يعقوب بن سفيان، وقال البزار: بصريّ مشهور، وقال حماد بن زيد، والبخاريّ، وابن سعد، والْجُوزَجانيّ: كان يرى القدر، وأنكر الذهبي قول الْجُوزَجانيّ: إنه كان رأسًا في القدر، فقال: بل هو قدريّ صغير.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله

(1)

وفي نسخة: "ومعه ميضأة" بالواو.

ص: 25

في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (270) و (271) وأعاده بعده، و (578) و (2141).

5 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وغير عطاء، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من خالد الحذاء.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: خالد، عن عطاء.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا) أي بستانًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: حاطه يحوطه حَوْطًا: إذا رعاه، وحوّط عليه تحويطًا: إذا أدار عليه نحو التراب حتى جعله محيطًا به، وأحاط القوم بالبلد إحاطةً: استداروا بجوانبه، وحاطوا به، من باب قال، لغةٌ في الرباعيّ، ومنه قيل للبناء: حائطٌ، اسم فاعل من الثلاثيّ، والجمع حِيطان، والحائط البستان، وجمعه حوائط، انتهى

(1)

.

(وَتَبِعَهُ) بكسر الموحّدة، من باب تَعِبَ (غُلَامٌ) هو المترعرع، قاله أبو عُبيد، وقال في "المحكم": من لدن الفطام إلى سبع سنين، وحكى الزمخشريّ في "أساس البلاغة" أن الغلام هو الصغير إلى حدّ الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء: غلامٌ، فهو مجاز، ذكره في "الفتح"

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 156 - 157.

(2)

"الفتح" 1/ 302.

ص: 26

وقال في "العمدة": الغلام: هو الذي طرّ شاربه، وقيل: من حين يولد إلى أن يشيب

(1)

، وزعم الزمخشريّ أن الغلام هو الصغير إلى حدّ الالتحاء، فإن أُجري بعدما صار ملتحيًا اسم الغلام فهو مجازٌ، ويُروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض أراجيزه:

أَنَا الْغُلَامُ الْهَاشِمِيُّ الْمَكِّي

وقالت ليلى الأخيليّة في الحجّاج [من الطويل]:

غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ تَبَاهِيَا

قال: وقال بعضهم: يستحقّ هذا الاسم إذا ترعرع، وبلغ حدّ الاحتلام بشهوة النكاح، كأنه يشتهي النكاح ذلك الوقت، ويُسمّى قبل ذلك تفاؤلًا، وبعد ذلك مجازًا، وفي "المخصّص": هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين، وعن أبي عبيدة: هو المترعرع المتحرّك، والجمع أغلمة، وغِلْمة، وغلمان، والأنثى غلامة، انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قيل: الغلام المذكور يحتمل أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه، وقوّاه الحافظ في "الفتح"، لكن يُبعده قول أنس رضي الله عنه عند البخاريّ:"منّا"، وعند الإسماعيليّ:"من الأنصار"، وما أجاب به الحافظ تكلّف ظاهر.

ويحتمل أن يكون أبا هريرة رضي الله عنه؛ لما في رواية أبي داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة، فاستنجى"، ونحوه للبخاريّ في "ذكر الجنّ"، وفيه ما في الذي قبله.

ويحتمل أن يكون جابرًا رضي الله عنه؛ لما في حديث جابر رضي الله عنه الطويل عند مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم انطلق لحاجته، فاتّبعه جابر بإداوة، ولا سيّما، وهو أنصاري، وفيه ما سبق.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر هذه الاحتمالات في "الفتح"، وعندي أنه لا داعي إلى هذه التكلّفات التي لا يقبلها الذوق السليم، وأيُّ مانع

(1)

قد نظمت أبياتًا، بيّنت فيها أطوار المولود من حين كونه جنينًا في بطن أمه، إلى آخر شيخوخته، تقدّمت في "شرح المقدّمة"، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 439 - 440.

ص: 27

من أن نقول: إنه غلام أنصاريّ من أقران أنس رضي الله عنه، من المراهقين، وما الذي اضطرّنا إلى معرفة عينه، حتى نتكلّف هذه التكلّفات الباردة؟.

ومما يوهن هذه الاحتمالات قول أنس رضي الله عنه هنا: "هو أصغرنا"، فهل ابن مسعود، أو أبو هريرة، أو جابر أصغر من أنس؟ سبحان الله!!، إن هذا لشيء عجيب!!!، والله تعالى المستعان.

وقوله: (مَعَهُ) بفتح العين المهملة، وتُسكّن، قال في "المحكم":"مع" اسم معناه الصحبة، متحرّكة، وساكنة، غير أن المتحرّكة العين تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة العين تكون حرفًا لا غير، ويجوز هنا تسكين العين، وعند اجتماعها بالألف واللام تُفتح العين، وتكسر، فيقال: معَ القوم، فتحًا وكسرًا، وقال الجوهريّ:"مع" للمصاحبة، وقد تسكّن، وتنوّن، فيقال: جاؤوا معًا.

انتهى

(1)

. وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَ"مَعَ""مَعْ" فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ

فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ

(مِيضَأَةٌ) وفي نسخة: "ومعه ميضأة"، والجملة في محلّ رفع صفة لـ"غلام".

و"الْمِيضأة": - بكسر الميم، وبهمزة، بعد الضاد المعجمة، ويمدّ، ويُقصَر -: هي الإناء الذي يُتوضّأ به كالركوة، والإبريق، وشبههما

(2)

.

وأصله: مِوْضأة - بكسر الميم، وسكون الواو -؛ لأنه من وَضُؤَ، فقُلبت الواو ياء؛ لوقوعها ساكنة بعد كسرة.

(هُوَ أَصْغَرُنَا) هذا يردّ قول مَن قال: إن الغلام هو ابن مسعود، أو أبو هريرة، أو جابر، كما مرّ آنفًا (فَوَضَعَهَا) أي الميضأة (عِنْدَ سِدْرَةٍ) بكسر، فسكون: شجرة النَّبِق، والجمع سِدَرٌ، ثم يُجمع على سِدَرَات، فهو جمع الجمع، وتُجمع السِّدْرة أيضًا على سِدْرَان بالسكون؛ حملًا على لفظ الواحد، قال ابن السّرّاج: وقد يقولون: سِدْرٌ، ويريدون الأقلّ؛ لقلّة استعمالهم التاء في هذا الباب، وإذا أُطلق السِّدْر في الغسل، فالمراد الْوَرَقُ المطحون، والسِّدْر

(1)

راجع "عمدة القاري" 3/ 440.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 163، و"المصباح المنير" 2/ 663.

ص: 28

نوعان: أحدهما: ينبُتُ في الأَرْيَاف، فيُنتفَعُ بوَرَقه في الغسل، وثمرته طيِّبةٌ، والآخر ينبُتُ في البرّ، ولا يُنتفع بوَرَقه في الغسل، وثمرته عَفِصَةٌ

(1)

، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ) أراد بها هنا الغائط، أو البول (فَخَرَجَ عَلَيْنَا) أي على أنس، وعلى الصحابة الذين معه، وقوله:(وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وهو من قول أنس، وليس مدرجًا كما زعمه بعضهم. قاله في "الفتح" بعد ذكر اختلاف الروايات ما نصّه: وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس، راوي الحديث، ففيه الردّ على الأصيليّ حيث تعقب على البخاريّ استدلاله بهذا الحديث على الاستنجاء بالماء، قال: لأن قوله: "يستنجي به" ليس هو من قول أنس، إنما هو من قول أبي الوليد، أي أحد الرواة عن شعبة، قال: وقد رواه سليمان بن حرب، عن شعبة، فلم يذكرها، قال: فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه. انتهى. وقد انتفى هذا الاحتمال بالروايات التي ذكرناها، وكذا فيه الردّ على من زعم أن قوله:"يستنجي بالماء" مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلًا، فلا حجة فيه، كما حكاه ابن التين، عن أبي عبد الملك البونيّ، فإن رواية خالد التي ذكرناها - يعني رواية مسلم هذه - تدل على أنه قول أنس، حيث قال:"فخرَجَ علينا".

ووقع هنا في "نُكَت البدر الزركشيّ" تصحيف، فإنه نسب التعقب المذكور إلى الإسماعيليّ، وإنما هو للأصيليّ، وأقرّه، فكأنه ارتضاه، وليس بمرضيّ كما أوضحناه، وكذا نسبه الكرمانيّ إلى ابن بطال، وأقرّه عليه، وابن بطال إنما أخذه عن الأصيليّ. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.:

(1)

في "ق": العُفُوصة: المرارة، والقبض. اهـ.

(2)

راجع "المصباح المنير" 1/ 271.

(3)

"الفتح" 1/ 302.

ص: 29

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[21/ 625](270) و [21/ 626 و 627](271)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(150 و 151 و 152 و 217 و 500)، و (أبو داود) في "الطهارة"(43)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(45) و"الكبرى"(37)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 48)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 152)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 203 و 259 و 284 و 112)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(84 و 85 و 86 و 87)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1442)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(595 و 596 و 597)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(621 و 622 و 623)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 105)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(195)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الاستنجاء بالماء، بل هو المستحبّ، والمرجّح على الاقتصار على الحجر، وقد ترجم عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"باب الاستنجاء بالماء"، وفيه ردّ على من منع ذلك، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): خدمة الصالحين، وأهل الفضل، والتبرّك بذلك، وتفقّد حاجاتهم، خصوصًا المتعلّقة بالطهارة.

3 -

(ومنها): جواز استخدام الرجل الفاضل بعض أتباعه الأحرار؛ ليتمرّنوا على التواضع، وحسن الخلق، خصوصًا إذا أُرصدوا لذلك، مثل أنسٍ رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنّ أنسًا غلام كَيِّس، فليخدُمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟، ولا لشيء لم أصنعه: لمَ لم تصنع هذا هكذا؟ ".

4 -

(ومنها): مشروعيّة التباعد لقضاء الحاجة عن الناس، والاستتار عن أعين الناظرين، وقد اشتهر هذا من فعله صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): جواز الاستعانة في أسباب الوضوء.

ص: 30

6 -

(ومنها): استحباب اتّخاذ آنية الوضوء، كالإداوة، ونحوها.

7 -

(ومنها): استحباب حمل الماء معه إلى الكنيف.

8 -

(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله استدل بهذا الحديث على غسل البول.

9 -

(ومنها): أن فيه حجةً على ابن حبيب من المالكيّة حيث منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم، لأن ماء المدينة كان عذبًا.

10 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والْبِرَك، وتعقّبه في "الفتح" بأنه لا يستقيم إلا لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد الأنهار والبِرَك، فَعَدَلَ عنها إلى الأواني. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على أن المستحب أن يتوضأ من الأواني، دون المشارع، والْبِرَك، ونحوها؛ إذ لم يُنْقَل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله غير مقبول، ولم يوافقه عليه أحدٌ فيما نعلم، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الذي قاله هذا القائل لا أصل له، ولم يُنْقَل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وجدها، فَعَدَل عنها إلى الأواني. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الاستنجاء بالماء:

قال النوويّ رحمه الله: قد اختَلَف الناس في هذه المسألة، فالذي عليه الجماهير، من السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى، من أئمة الأمصار، أن الأفضل أن يَجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أوّلًا؛ لِتَخِفّ النجاسة، وتَقِلّ مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على أيهما شاء، سواء وَجَد الآخر، أو لم يجده، فيجوز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر؛ لأن الماء يُطَهِّر المحل طهارة حقيقيةً، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يُخَفِّف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفوّ عنها.

(1)

"الفتح" 1/ 304.

(2)

راجع "شرح النوويّ" 3/ 163.

ص: 31

وبعض السلف ذهبوا إلى أن الأفضل هو الحجر، وربما أوهم كلام بعضهم أن الماء لا يُجزي.

وقال ابن حبيب المالكيّ: لا يجزئ الحجر إلا لمن عَدِمَ الماء، وهذا خلاف ما عليه العلماء، من السلف والخلف، وخلاف ظواهر السنن المتظاهرة. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح" عند البخاريّ رحمه الله: "باب الاستنجاء بالماء": أراد بهذه الترجمة الردّ على مَن كرهه، وعلى مَن نَفَى وقوعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رَوَى ابنُ أبي شيبة بأسانيد صحيحة، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إذًا لا يزال في يدي نَتْنٌ، وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله، ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم استَنْجَى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه مَنَع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم. انتهى

(2)

.

وقد تقدّم أن ابن المنذر حَكَى عن سعد بن أبي وقّاص، وحُذيفة، وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يرون الاستنجاء بالماء، وعن سعيد بن المسيّب، قال: ما يفعل ذلك إلا النساء، وقال عطاء: غسل الدبر مُحدَث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كلّ هذه الأقوال يردّها ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة الصحيحة، فالاستنجاء بالماء سنّة ثابتةٌ، قد وردت به أحاديث كثيرة:

(فمنها): حديث أنسٍ رضي الله عنه المذكور في الباب.

(ومنها): حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لنسوة: "مُرْنَ أزواجكنّ أن يستنجوا بالماء، فإني أستحييهم منه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ.

(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة، فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر، فتوضّأ"، وهو حديث حسنٌ، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغير ذلك.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 163.

(2)

"الفتح" 1/ 302.

ص: 32

قال الخطابيّ رحمه الله: وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم، فلهذا كره الاستنجاء به سعيد، وموافقوه، وهذا قول باطلٌ، منابذٌ للأحاديث الصحيحة. انتهى.

والحاصل أن الاستنجاء بالماء سنّة ثابتةٌ، لا يمكن إنكارها، إلا لمن لم تبلغه هذه الأحاديث الصحيحة، وبهذا يُعتذر عن الصحابة والتابعين الذين أنكروه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[626]

(271) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي، إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح المذكور قبل بابين.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِنُ، تقدّم قريبًا.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، غُنْدَرٌ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج المذكور قبل باب.

والباقيان تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (يَدْخُلُ الْخَلَاءَ) بالفتح، والمدّ: المحلّ الذي يُتبرّز فيه، وهو بمعنى قوله في الرواية الماضية:"دخل حائطًا"؛ إذ الحائط هو البستان، وجملة

ص: 33

"يدخل الخلاء" في محلّ نصب خبر "كان"، وانتصاب "الخلاء" بنزع الخافض، من قبيل: دخلتُ الدار

(1)

.

وقوله: (فَأَحْمِلُ أَنَا) أتى بـ"أنا" توكيدًا وفصلًا؛ ليحسن عطف "وغلامٌ" على الضمير المتّصل، على حدّ قوله عز وجل:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وقوله: (وَغُلَامٌ نَحْوِي) أي في قدر سنّي.

وقوله: (إِدَاوَةً) - بكسر الهمزة -: إناء صغير من جلد، تُتّخذ للماء، وهي الْمِطْهَرة، وجمعها أداوى، بفتح الواو.

وقوله: (مِنْ مَاءٍ)"من" فيه للبيان؛ أي مملوءة من ماء.

وقوله: (وَعَنَزَةً) - بفتح العين، والزاي - وهي عصًا طويلة، في أسفلها زُجّ، ويقال: رُمْحٌ قصيرٌ، وإنما كان يَستصحبها النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان إذا توضأ صلى، فيحتاج إلى نصبها بين يديه؛ لتكون حائلًا يصلى إليه؛ قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": "الْعَنَزَة" - بفتح النون -: عصًا أقصر من الرمح، لها سِنَانٌ، وقيل: هي الحربة القصيرة، وفي رواية كريمة عند البخاريّ: الْعَنَزة عصًا، عليها زُجّ، بزاي مضمومة، ثم جيم مشدّدة: أي سنان، وفي "الطبقات" لابن سعد: أن النجاشيّ كان أهداها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيّد كونها كانت على صفة الحربة؛ لأنها من آلات الحبشة. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": العنَزَة - بفتح العين المهملة، وفتح النون -: أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفي طرفها زُجّ كزُجّ الرمح، والزُّجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح، يعني السنان.

وفي "التلويح": العنزة: عصًا في طرفها زُجّ يتوكّأ عليها الشيخ.

وفي "مفاتيح العلوم" لأبي عبد الله محمد بن أحمد الخوارزميّ: هذه

(1)

راجع "عمدة القاري" 3/ 445.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 163.

(3)

"الفتح" 1/ 304.

ص: 34

الحربة، وتُسمّى الْعَنزَة، كان النجاشيّ أهداها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكانت تقام بين يديه إذا خرج إلى المصلّى، وتوارثها من بعده الخلفاء رضي الله عنهم.

وفي "الطبقات" أهدى النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث عَنَزَات، فأمسك واحدة لنفسه، وأعطى عليًّا واحدة، وأعطى عمر واحدة

(1)

.

وأخرج البخاريّ رحمه الله في "كتاب المغازي" من "صحيحه" عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عُبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مُدَجَّج، لا يُرَى منه إلا عيناه، وهو يُكنَى أبو ذات الكَرِش، فقال: أنا أبو ذات الكَرِش، فحَمَلت عليه بالْعَنَزة، فطعنته في عينه فمات، قال هشام: فأُخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطأت، فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه، فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر، فأعطاه، فلما قُبض أبو بكر سألها إياه عمر، فأعطاه إياها، فلما قُبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه، فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل عليّ، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتل. انتهى.

[تنبيه]: الحكمة في حمل العنزة كثيرة:

(منها): ليصلّي إليها في الفضاء.

(ومنها): ليتّقي بها كيد المنافقين واليهود، فإنهم كانوا يرومون قتله، واغتياله بكلّ حالة، ومن أجل هذا اتّخذ الأمراء المشي أمامهم بها.

(ومنها): اتقاء السبع، والمؤذيات من الحيوانات.

(ومنها): نبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشيةَ الرشاش.

(ومنها): تعليق الأمتعة.

(ومنها): التوكؤ عليها.

(ومنها): ما قاله بعضهم: إنها تُحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، قال العينيّ: وهذا بعيد؛ لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل، والعنزة ليست كذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 444.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 445.

ص: 35

قال الجامع عفا الله عنه: في تعقّب العينيّ نظرٌ؛ لأن المراد بكونها سترة هنا أن تُركَز، ويعلّق عليها إزارٌ أو داءٌ، أو نحو ذلك مما يستر أسافله، فلا وجه لاعتراضه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[627]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ

(1)

- يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ - حَدَّثَني رَوْحُ بْنُ الْقَاسِم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتبَرَّزُ لِحَاجَتِه، فَآتِيهِ بِالْمَاء، فَيَتَغَسَّلُ بِهِ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(وَأَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم، وعُليّة أمه، وكان يَكره النسبة إليها، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت فاضل [8](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنبريّ البصريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

والباقيان تقدّما قبل حديث، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ) أي يأتي الْبَرَاز - بفتح الباء - وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض؛ ليخلو لحاجته، ويستتر، وَيبْعُد عن أعين الناظرين.

وقوله: (فَيَتَغَسَّلُ بِهِ) أي يستنجي بذلك الماء، ويغسل محل الاستنجاء، وفي نسخة:"فيغتسل به"، والله تعالى. أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "قالا: حدّثنا إسماعيل".

(2)

وفي نسخة: "فيغتسل به".

ص: 36

(22) - (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[628]

(272) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟

(1)

، فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْحنظليّ، أبو محمد ابن راهويه المروزيّ، ثم النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(هَمَّام) بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [2](ت 65)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 298.

6 -

(جَرِير) بن عبد الله بن جابر البجليّ الصحابي الشهير رضي الله عنه، مات سنة (51)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

(1)

وفي نسخة: "أتفعل هذا؟ ".

ص: 37

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، قرن بين ثلاثة منهم.

2 -

(ومنها): أنه إنما أفرد شيخه أبا بكر عن الثلاثة الأولين؛ لكونه روى عن شيخين: أبي معاوية، ووكيع، بخلافهم، فإنهم إنما رووا عن أبي معاوية فقط، فلو جمعه معهم لتوهّم أن وكيعًا شيخ لهم أيضًا.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ ليحيى .. إلخ" معناه: أن هذا اللفظ الذي ساقه هنا لفظ شيخه يحيى بن يحيى التميميّ، وهو أخذه عن أبي معاوية قراءةً، ولهذا قال: أخبرنا أبو معاوية، وأما أبو بكر فقال: حدّثنا أبو معاوية؛ إشارةً إلى أنه سمعه من لفظه، وأما الآخران فلم يصرّحا بصيغة الأخذ.

4 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه: يحيى، وإسحاق، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وإسحاق ما أخرج له ابن ماجه، وأبو بكر ما أخرج له الترمذيّ.

5 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه: يحيى، وإسحاق، فنيسابوريّان.

6 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين الكوفيين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن همّام بن الحارث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ) بن الحارث النخعيّ، أنه (قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ) أي ابن عبد الله البجليّ رضي الله عنه (ثُمَّ تَوَضَّأَ) وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه"

(1)

: "ثم توضّأ من مطهرة المسجد التي يتوضّأ فيه العامّة"(وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، فَقِيلَ) أي قال له قائلٌ منكرًا مسحه على خفّيه.

[تنبيه]: هذا القائل هو همام بن الحارث الراوي عن جرير، فقد جاء مُبَيَّنًا

(1)

"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 326 رقم (624).

ص: 38

عند الطبرانيّ من طريق جعفر بن الحارث، عن الأعمش، وعند الترمذيّ من رواية شهر بن حوشب، أنه الذي قال له ذلك، فيحتمل أن يكون كلّ منهما قال له، والله تعالى أعلم. (تَفْعَلُ هَذَا؟) بتقدير همزة الاستفهام، وفي نسخة:"أتفعل هذا؟ " بإثباتها، ولفظ النسائيّ:"أتمسح؟ "، وفي رواية أبي عوانة:"أتفعل، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وما يمنعني، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفّين؟ "، وفي رواية الطبرانيّ من طريق زائدة، عن الأعمش:"فعاب عليه ذلك رجلٌ من القوم"

(1)

.

وإنما أنكر ذلك عليه؛ لاعتقاده أن المسح على الخفّين منسوخٌ بآية المائدة (فَقَالَ) جرير رضي الله عنه ردًّا على المنكر، ومبيّنًا له مستنده في ذلك (نَعَمْ) أي أمسح عليهما، وقوله:(رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ) جملة تعليليّة؛ أي إنما فعلت ذلك لأني رأيته صلى الله عليه وسلم يفعله (قَالَ الأَعْمَشُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ) النخعيّ (كَانَ يُعْجِبُهُمْ) الضمير لأصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ففي الرواية التالية:"فكان أصحاب عبد الله يُعجبهم .. إلخ"(هَذَا الْحَدِيثُ) أي حديث جرير رضي الله عنه في "المسح"، وفي رواية النسائيّ:"يُعجبهم قول جرير"(لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ) أي في رمضان من السنة العاشرة، وكان نزولها في غزوة بني المصطلق سنة أربع، أو خمس من الهجرة.

وفي رواية النسائيّ: "وكان إسلام جرير قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير"، وعند الطبرانيّ من رواية محمد بن سيرين، عن جرير:"إن ذلك كان في حجة الوداع".

وفي رواية أبي داود: أن جريرًا بال، ثم توضّأ، فمسح على الخفين، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح، قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة

(2)

.

وفي رواية الترمذيّ من رواية شهر بن حوشب، قال: رأيت جرير بن عبد الله توضّأ، ومسح على خفيه، فقلت له في ذلك؟ فقال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

راجع "الفتح" 1/ 590، و"عمدة القاري" 4/ 178.

(2)

"سنن أبي داود" 1/ 118.

ص: 39

توضّأ، ومسح على خفّيه، فقلت له: أقبل المائدة، أم بعد المائدة؟ فقال: ما أسلمتُ إلا بعد المائدة.

قال الترمذيّ رحمه الله: هذا حديث مفسّر؛ لأن بعض من أنكر المسح على الخفّين تأوّل أن مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم على الخفّين قبل نزول المائدة، وذَكَر جرير في حديثه أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على الخفّين بعد نزول المائدة. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كان يعجبهم هذا الحديث .. إلخ": معناه: أن الله تعالى قال في سورة المائدة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [6]، فلو كان إسلام جرير متقدمًا على نزول المائدة، لاحْتَمَلَ كون حديثه في مسح الخفّ منسوخًا بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخرًا علمنا أن حديثه يُعْمَل به، وهو مُبَيِّن أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخفّ، فتكون السنة مُخَصّصةً للآية.

قال: ورَوَينا في "سنن البيهقيّ" عن إبراهيم بن أدهم، قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي الله عنه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما ذُكِرَ في قصة جرير رضي الله عنه هذه: أن الذين أنكروا على جرير رضي الله عنه مسحه على خفّيه قالوا: إنما المسح عليهما كان قبل نزول المائدة التي ذُكر فيها الوضوء، وأرادوا بهذا القول أن المسح على الخفّين كان رُخصةً، ثم نُسخ بهذه الآية، فقال جرير رضي الله عنه ردًّا عليهم: ما أسلمت إلا بعد نزول آية المائدة، وليس المراد جميع سورة المائدة؛ لأن منها ما تأخّر نزوله عن إسلامه، كآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [3]، فإنها نزلت يوم عرفة في حجة الوداع، وإسلام جرير كان في رمضان سنة عشر من الهجرة، وأما آية الوضوء التي هي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فنزلت في غزوة بني المصطلق، وكانت سنة خمس، أو

(1)

"جامع الترمذيّ" 1/ 84.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 164 - 165.

ص: 40

أربع من الهجرة، فلو كان إسلام جرير متقدّمًا على نزول آية المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخفّ منسوخًا بهذه الآية، فلما كان إسلامه متأخّرًا عَلِمْنَا أن حديثه غير منسوخ، بل يُعمَل به، وهو مبيّنٌ أن المراد بالآية غير صاحب الخفّ، فيكون حديثه مخضصًا للآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف رحمه الله هنا في "الطهارة" (22/ 628 و 629)(272)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(387)، و (أبو داود) في "الطهارة"(154)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(93)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(118 و 774) وفي "الكبرى"(121 و 850)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(543)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(756 و 757)، و (الحميديّ) في "مسنده"(797)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 55)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 176)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 358 و 361 و 363 و 364)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1335 و 1336 و 1337)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(695 و 696 و 697 و 698)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(624)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(2421 و 2422 و 2423 و 2424 و 2425 و 2426 و 2427 و 2428 و 2429 و 2430)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 270 و 273)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 193)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(11/ 153)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفيّن، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث: الحكمُ الجليلُ الذي فَرّق بين أهل السنة وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول، أو مبتدع، خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف

ص: 41

بينهم في ذلك بالحجاز، والعراق، والشام، وسائر البلدان، إلا قومًا ابتدعوا، فأنكروا المسح على الخفين. انتهى

(1)

، وسيأتي بيان المذاهب، وأدلتها في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أن مسألة المسح على الخفّين صارت شعارًا لأهل السنّة، ولذلك تُذْكَرُ في كتب العقائد؛ لأن إنكارها ردّ للمتواتر، وعُدّ ترك القول به شعارًا لأهل البدع.

قال الخطّابيّ رحمه الله في "معالمه" بعد أن ذكر ما تمسّك به أهل البدع في إنكار المسح من الأدلة الواهية ما نصّه:

والعجب من الروافض تركوا المسح على الخفّين مع تظاهر الأخبار فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستفاضة علمه على لسان الأمة، وتعلّقوا بمثل هذا التأويل من الكتاب، وبمثل هذه الرواية من الحديث، ثم اتّخذوه شعارًا، حتى إن الواحد منهم ربما تَأَلَّى، فقال: برئت من ولاية أمير المؤمنين، ومسحتُ على خفّي إن فعلتُ كذا.

قال: حدّثني إبراهيم بن فراس، حدّثنا أحمد بن عليّ المروزيّ، حدّثنا ابن أبي الجوّال، أن الحسن بن زيد مَقَتَ على كاتب له، فحبسه، وأخذ ماله، فكتّبَ إليه من الحبس:

أَشْكُو إِلَى اللهِ مَا لَقِيتُ

أَحْبَبْتُ قَوْمًا بِهِمْ بُلِيتُ

لَا أَشْتِمُ الصَّالِحِينَ جَهْرًا

وَلَا تَشَيَّعْتُ مَا بَقِيتُ

أَمْسَحُ خُفِّي بِبَطْنِ كَفِّي

وَلَوْ عَلَى جِيفَةٍ وَطِيتُ

قال: فدعا به من الحبس، وردّ عليه ماله، وأكرمه. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): جواز البول بمشهد الناس، وإن كان الأولى الغيبة عنهم.

4 -

(ومنها): بيان كون البول من نواقض الوضوء.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص في الإنكار لما اعتقدوه باطلًا، وشدّة مناقشتهم في ذلك.

(1)

"التمهيد" 11/ 134.

(2)

"معالم السنن" للخطابيّ 1/ 94 - 95.

ص: 42

6 -

(ومنها): فضل جرير بن عبد الله رضي الله عنه، حيث كان واسع الصدر، يتحمّل إنكار طلابه عليه، وإن كانوا مخطئين في ذلك.

7 -

(ومنها): بيان الردّ على من أنكر المسح على الخفّين، وادّعى بأنه منسوخ؛ لأن حديث جرير رضي الله عنه متأخّر عن آية الوضوء.

8 -

(ومنها): بيان أنه يُطلَب ممن رأى شيئًا يخالف الشرع في ظنّه أن لا يسكت عليه، وإن كان الفاعل عالمًا فاضلًا، بل يبادر بالإنكار عليه، ويناقشه بالتي هي أحسن.

9 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي لمن أُنكر عليه شيء، وكان يعتقد صحّته أن لا يغضب لمن ينكر عليه، ويناقشه بحسب ظنّه، بل يبيّن له مستنده في ذلك بالتي هي أحسن، كما قال جرير رضي الله عنه:"وما يمنعني، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله؟ ".

10 -

(ومنها): بيان أن للمنكر أن يردّ دليل الْمُدَّعي، وأن المطلوب من المدّعي أن يمنع ما ردّ به دليله، حتى يَسلَم دليله من الطعن.

11 -

(ومنها): بيان جواز الاستدلال بالتاريخ عند الحاجة إليه، فقد استدلّ جرير رضي الله عنه بتاريخ إسلامه على بقاء حكم المسح على الخفّين، وأنه لم يُنسَخ.

12 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "فمسح على خفّيه" على أن المشروع من المسح هو مسح أعلى الخفّ، وهو الصحيح؛ لأن لفظة "على" ظاهرة في ذلك، وفيه خلاف، سنحقّقه في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.

13 -

(ومنها): أنه لا فرق في جواز المسح بين أن يكون لحاجة، أم لا، حتى يجوز للمرأة الملازمة لبيتها، والزَّمِنِ الذي لا يمشي، ونقل النوويّ رحمه الله في "شرحه" الإجماع عليه

(1)

.

قال ابن الملقّن رحمه الله: وعند المالكيّة أنه يُشترط في جواز المسح على الخفّ أن يكون لبسه على الوجه المعتاد عند الناس في لباس الخفاف، فإن لبسه لا لغرض سوى الترخّص بالمسح، أو كانت امرأةً خَضَبَت بالحناء،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 164.

ص: 43

فلبست للمسح، لئلا تغسل الحناء، وشبه ذلك، فالمشهور عندهم أن هؤلاء لا يمسحون، فإن فعلوا ففي الإعادة خلاف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نُقل عن المالكيّة من اشتراطهم في جواز المسح أن يلبسه بالصفة المذكورة مما لا دليل عليه، فالحقّ أن المسح مشروع مطلقًا، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم المسح على الخفّين: قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين.

قال: وممن رَوَينا عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وأَمَر بالمسح عليهما عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجرير بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب الأنصاريّ، وأبو أمامة الباهليّ، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيديّ، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وعمار بن ياسر، وأبو زيد الأنصاريّ، وجابر بن سَمُرة، وأبو مسعود الأنصاريّ، وحُذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، رضي الله عنهم.

ورُوي ذلك عن مَعْقِل بن يسار، وخارجة بن حُذَافة، وعبد الله بن عمرو، وبلال رضي الله عنهم. ورَوَينا عن الحسن - يعني البصريّ - أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين

(2)

.

قال: وكان عطاء بن أبي رباح، فيمن تبعه من أهل المسح على الخفين،

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 623 - 624.

(2)

لقد أجاد الماورديّ رحمه الله حيث نقل كلام الحسن هذا، وفسّره، فقال: حدّثني سبعون بدريًّا، قال: وأراد أنه سمع ذلك من بعضهم، ورُوي له ذلك عن بعضهم؛ لأنه لم يُدرك سبعين بدريًّا. انتهى، وهو تفسير حسنٌ جدًّا، راجع "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقّن رحمه الله 1/ 616.

ص: 44

وبه قال الحسن، وأهل البصرة، وكذلك قال عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، ومن تبعهم من أهل المدينة، وبه قال الشعبيّ، ومن وافقه من أهل الكوفة، وكذلك قال مكحول، وأهل الشام، وبه قال مالك بن أنس، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وأجمع كل مَن نَحْفَظ عنه من أهل العلم، وكلُّ مَن لَقِيتُ منهم على القول به.

قال: وقد رَوَينا عن ابن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، قال: وذلك أن كل مَن رُوي عنه من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَرِهَ المسح على الخفين، فقد رُوِي عنه غيرُ ذلك.

قال ابن المنذر: وإنما أنكر المسح على الخفين مَن أنكر الرجم، وأباح أن تُنكَح المرأة على عمتها، وعلى خالتها، وأباح للمطلقة ثلاثًا الرجوع إلى الزوج الأول إذا نكحها الثاني، ولم يدخل بها، وأسقط الجلد عمن قذف مُحْصَنًا من الرجال، وإذا ثبت الشيء بالسنة وجب الأخذ به، ولم يكن لأحد عذرٌ في تركه، ولا التخلف عنه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله ملخّصًا

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "التمهيد"(11/ 134) ما ملخّصه: لا خلاف بين أهل السنة، أهل الفقه والأثر، في جواز المسح على الخفين بالحجاز، والعراق، والشام، وسائر البلدان، وما خالف في ذلك إلا قومٌ ابتدعوا، فأنكروه، وقالوا: إنه خلاف القرآن، وعسى القرآن نسخه، ومعاذَ الله أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله عز وجل، بل بَيَّنَ مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].

والقائلون بالمسح جمهور الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا، وكيف يُتَوَهَّم أن هؤلاء جاز عليهم جهل معنى القرآن، أعاذنا الله من الخذلان. رَوَى ابنُ عيينة، والثوريّ، وشعبة، وأبو معاوية، وغيرهم عن

(1)

"الأوسط" 1/ 426 - 434.

ص: 45

الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قال: رأيت جريرًا يتوضأ من مِطْهَرة، ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: وما يمنعني أن أفعله، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، قال إبراهيم: فكانوا - يعني أصحاب عبد الله وغيرهم - يُعجبهم هذا الحديث، ويستبشرون به؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.

وعن حماد بن أبي سليمان، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن جرير بن عبد الله قال: وَضّأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على خفيه، بعدما أنزلت سورة المائدة.

ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المسحَ على الخفين نحوُ أربعين من الصحابة، واستفاض، وتواتر، وأتت به الْفِرَقُ إلا أن بعضهم زعم أنه كان قبل نزول المائدة، وهذه دعوى لا وجه لها، ولا معنى.

وقد رُوِي عن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يمسح على خفيه، وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسائر أهل بدر، وا لحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه والأثر، كلهم يُجيز المسح على الخفين، في الحضر والسفر، للرجال والنساء.

قال: حدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا عبد الله بن الخيار الحمصيّ، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثني سفيان بن سعيد الثوريّ، قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وقيس بن سعد بن عُبَادة، وعبد الله بن عباس، وحُذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعريّ، وأبو مسعود الأنصاريّ، وخُزيمة بن ثابت الأنصاريّ، والبراء بن عازب، وأبو أيوب الأنصاريّ، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وصفوان بن عَسّال، وفَضَالة بن عُبيد الأنصاريّ، وجرير بن عبد الله البجليّ.

ص: 46

قال أبو عمر: ممن رَوَينا عنه أنه مسح على الخفين، وأمر بالمسح عليهما في الحضر والسفر بالطُّرُق الْحِسَان، من مصنَّف ابن أبي شيبة، ومصنَّف عبد الرزاق: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو مسعود، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة، وسلمان، وبلال، وخزيمة بن ثابت، وعمرو بن أبي أمية، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزُّبَيديّ، وأبو أيوب، وجرير، وأبو موسى، وعمار، وسهل بن سعد، وأبو هريرة، ولم يُرْوَ عن غيرهم خلافٌ إلا شيءٌ لا يثبت عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة.

ثم أخرج ابن عبد البرّ بسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن فِطْر، قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: سبق الكتاب الخفين، قال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليهما.

ورَوَى أبو زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، أنه كان يمسح على خفيه، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أدخل أحدكم رجليه في خفيه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما".

قال أبو عمر: ولا أعلم في الصحابة مخالفًا إلا شيء لا يصح عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وقد رُوي عنهم من وجوه خلافه في المسح على الخفين، وكذلك لا أعلم في التابعين أحدًا ينكر ذلك، ولا في فقهاء المسلمين إلا رواية جابر عن مالك، والروايات الصحاح عنه بخلافه، وهي منكرة، يدفعها موطؤه، وأصول مذهبه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": أجمع مَن يُعْتَدّ به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والخضر، سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِنِ الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة، والخوارج، ولا يُعْتَدّ بخلافهم.

(1)

راجع "التمهيد" 11/ 134 - 146.

ص: 47

وقد رُوِيَ عن مالك رحمه الله روايات فيه، والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير.

وقد رَوَى المسح على الخفين خلائق لا يُحْصَون من الصحابة، قال الحسن البصريّ رحمه الله: حَدَّثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة، وأقوال الأئمة المحقّقين أن المسح على الخفّين جائز، وقد تقدّم عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: ليس في المسح على الخفّين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كلّ من رُوي عنه منهم إنكاره، فقد رُوي عنه إثباته، وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من فقهاء السلف من رُوي عنه إنكاره، إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة مصرّحة بإثباته، وقال في "الفتح": وقد صرّح جمع من الحفّاظ بأن المسح على الخفّين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجازوا الثمانين، منهم العشرة، وقال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثًا عن الصحابة مرفوعةٌ، وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المسح على الخفّين نحو أربعين من الصحابة، وذكر أبو القاسم ابن منده أسماء من رواه في "تذكرته"، فكانوا ثمانين صحابيًّا، وذكر الترمذيّ، والبيهقيّ في "سننهما" منهم جماعةً، قال ابن عبد البرّ: وما رُوي عن عائشة، وابن عبّاس، وأبي هريرة في إنكار المسح لا يَثْبُت.

والحاصل أنه ما أنكر المسح على الخفّين إلا أهل البدع من الرافضة، والخوارج، ولا التفات إلى مخالفتهم، فأهل السنّة والجماعة، مجمعون على جوازه، فتمسّك بهديهم، واسلك سبيلهم، فإنهم أهل الصدق والوفاء، ولا يخالفهم إلا أهل الزيغ والجفاء، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 164.

ص: 48

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الغسل والمسح أيهما أفضل؟:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهلُ العلم في الغسل والمسح، أيُّ ذلك أفضل؟.

فقالت طائفة: الغسل أفضل؛ لأنه المفتَرَض في كتاب الله، والمسح رخصة، فالغاسل لرجليه مُؤَدٍّ لما افترض الله عليه، والماسح على خفيه فاعل لما أبيح له.

رَوَينا عن عمر بن الخطاب أنه أمرهم أن يمسحوا على خفافهم، وخَلَع هو خفيه، وتوضأ، وقال: إنما خلعت لأنه حُبِّب إليّ الطهور، وكان أبو أيوب يأمر بالمسح على الخفين، ويغسل قدميه، ويقول: أحب إلي الوضوء، ورَوَينا عن ابن عمر أنه قال: إني لَمُولَعٌ بغسل قدميَّ، فلا تقتدوا بي.

وقالت طائفة: المسح على الخفين أفضل من غسل الرجلين، وذلك لأنها من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طَعَن فيها طوائف من أهل البدع، فكان إحياء ما طَعَن فيه المخالفون من السنن أفضل من إماتته.

وقد احتَجَّ بعضُهم بالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب أن يُقبَل رخصه"

(1)

، وتقول عائشة:"ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما"، متّفقٌ عليه.

وممن رأى أن المسح على الخفين أفضل من غسل الرجلين: الشعبيّ، والحكم، وأحمد، وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى والنعمان يقولان: إنا لنريد الوضوء، فنلبس الخفين حتى نمسح عليهما، ورَوَينا عن النخعيّ أنه قال: مَن رَغِب عن المسح على الخفين، فقد رغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شَبَّهَ بعض أهل العلم مَن لبس خفيه على طهارة وأحدث بالحانث في يمينه، قال: فلما كان الحانث في يمينه بالخيار، إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، ويكون مؤديًا للفرض الذي عليه، فكذلك الذي أحدث، وقد لبس خفيه على طهارة، إن مَسَحَ، أو خَلَعَ خفيه، فغَسَلَ رجليه مؤدٍّ ما فُرِض عليه، مُخَيَّر في ذلك، ولا يجوز لمن

(1)

حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده" بسند صحيح برقم (5600).

ص: 49

أحدث ولا خُفَّ عليه إلا غسل رجليه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في أن المسح على الخفين أفضل، أم غسل الرجلين؟ فذهب أصحابنا - يعني الشافعيّة - إلى أن الغسل أفضل؛ لكونه الأصل، وذهب إليه جماعات من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو أيوب الأنصاريّ رضي الله عنهم، وذهب جماعات من التابعين إلى أن المسح أفضل، وذهب إليه الشعبيّ، والْحَكَم، وحماد، وعن أحمد روايتان: أصحهما: المسح أفضل، والثانية: هما سواء، واختاره ابن المنذر، هكذا نسب اختيار هذا القول إلى ابن المنذر، ولم يذكره في "الأوسط"، ولعله ذكره في موضع آخر، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي القول بأن الغسل أفضل، لكن بشرط أن لا يترك المسح رغبةً عن السنّة، هذا إذا كان بين أهل السنة الذي يرون المسح جائزًا، وأما إذا كان بين المبتدعة المنكرين له، فالمسح أولى؛ لأن إحياء السنّة المماتة أفضل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في كيفية المسح:

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: واختلف الفقهاء في كيفية المسح على الخفين، فقال مالك، والشافعيّ: يمسح ظهورهما وبطونهما، وهو قول ابن عمر، وابن شهاب، وقال مالك، والشافعيّ: إن مسح ظهورهما دون بطونهما أجزأه، إلا أن مالكًا قال: من فعل ذلك يُعيد في الوقت، قال: ومن مسح باطن الخفين دون ظاهرهما لم يُجزه، وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده، عند مالك وجميع أصحابه إلا شيئًا رُوِي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواءٌ، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما أعاد في الوقت، كمن مسح ظهورهما سواءً، وقال عبد الله بن نافع: مَن مسح ظهورهما، ولم يمسح بطونهما أعاد في الوقت وبعده.

والمشهور من قول الشافعيّ أن من مسح ظهورهما، واقتصر على ذلك

(1)

"الأوسط" 1/ 439 - 441.

ص: 50

أجزأه، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يجزه، وليس بماسح، مثل قول مالك سواءً، وله قول آخر مثل قول أشهب: إن مسح بطونهما ولم يمسح ظهورهما أجزأه، والصحيح في مذهبه أن أعلى الخف يجزئ عن أسفله، ولا يجزئ مسح أسفله، وتمام المسح عنده أن يمسح أعلى الخف وأسفله.

واحتجّ مالك، والشافعي في مسح أعلى الخف وأسفله بما رواه كاتب المغيرة بن شعبة، عن المغيرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح أعلى الخف وأسفله، والصحيح في هذا أنه مرسلٌ، فلا يصحّ الاحتجاج به.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ: يمسح ظاهر الخفين دون باطنهما، وقد قال به أحمد بن حنبل، وإسحاق، وجماعة، وهو قول قيس بن سعد بن عبادة

(1)

، وقول الحسن البصريّ، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم

(2)

.

واحتج من قال بهذا القول بما أخرجه أبو داود بسند صحيح، عن عليّ رضي الله عنه قال:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أرجح المذاهب ما ذهب إليه الحنفيّة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وجماعة أنه يمسح على ظاهر الخفّ؛ لصحّة حديث عليّ رضي الله عنه بذلك.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد ذكره نحو ما تقدّم: وبهذا - يعني القول بالمسح على ظاهر الخف - نقول، ولا أعلم أحدًا يرى أن مسح أسفل الخفّ وحده يجزي من المسح، وكذلك لا أعلم أحدًا أوجب الإعادة على من اقتصر على مسح أعلى الخفّ. انتهى

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

وقع في نسخة "التمهيد": "وهو قول قيس بن سعيد، وابن عبادة"، وهو تصحيف فاحشٌ، والصواب:"وهو قول قيس بن سعد بن عبادة"، وقد وقع في "الاستذكار"(2/ 263) على الصواب، فتنبّه.

(2)

راجع "التمهيد" 11/ 146 - 150.

(3)

"الأوسط" 1/ 454.

ص: 51

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في أول وقت المسح:

اختلفوا في الوقت الذي يَحتَسِب به مَن مَسَح على خفيه على أقوال:

[الأول]: قالت طائفة: يَحتسب به مِن وقت مسحه على خفيه تمامَ يوم وليلة للمقيم، وإلى تمام ثلاثة أيام ولياليهن من وقت مسحه في السفر؛ وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل.

ومن حجة من قال هذا القول ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلةً"، فظاهر هذا الحديث يدلّ على أن الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث، ثم ليس للحَدَث ذكر في شيء من الأخبار، فلا يجوز أن يُعْدَل عن ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير قوله إلا بخبر عن الرسول، أو إجماع يدلّ على خصوص.

قال ابن المنذر رحمه الله: ومما يزيد ذلك القول وضوحًا وبيانًا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسح على الخفين: يمسح إلى الساعة التي توضأ فيها، ولا شك أن عمر رضي الله عنه أعلم بمعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعده، وهو أحد مَن رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين بعدي"، وقال أيضًا:"اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر".

[الثاني]: أن وقت المسح من الحدث إلى الحدث، وهذا قول سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

[الثالث]: أن الماسح على خفيه يستتم بالمسح خمس صلوات، لا يمسح أكثر من ذلك، رُوي هذا القول عن الشعبيّ، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وسليمان بن داد.

[الرابع]: قول ربيعة ومالك ومن تبعهما من أهل المدينة، أنه لا وقت للمسح، بل يمسح كما شاء.

قال ابن المنذر رحمه الله: وتفسير قول مَن قال: "يمسح من الحدث إلى الحدث": أن يَلْبَس الرجل خفيه على طهارة، ثم يُحدث عند زوال الشمس، ولا يمسح على خفيه إلا من آخر وقت الظهر، فله أن يمسح على خفيه إلى أن

ص: 52

تزول الشمس من غد، وإذا زالت الشمس من غد وجب خَلْعُ الخف، ولم يكن له أن يمسح إذا كان مقيمًا أكثر من ذلك.

ومن حجة من قال هذا القول أن المسح رخصة، فلما أحدث هذا، فأبيح له المسح، ولم يمسح، وترك ما أبيح له إلى أن جاء الوقت الذي أحدث فيه، فقد تم الوقت الذي أبيح له فيه المسح، ووجب خلع الخف.

وفي القول الثاني له أن يمسح إلى الوقت الذي مسح، وهو آخر وقت الظهر على ظاهر الحديث.

وقال بعض من يقول بالقول الثالث: لَمّا اختلف أهل العلم في هذا الباب، نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك؛ لِمَا اختلفوا؛ لأن الرُّخَص لا يُستعمل منها إلا أقلُّ ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد اتَّضح مما سبق أن أرجح الأقوال هو القول الأول، وهو أنه يبدأ من وقت المسح؛ لموافقته لظاهر الحديث، كما سبق بيانه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في أقوال أهل العلم في اشتراط لبس الخفّ على طهارة لجواز المسح عليه:

قال ابن المنذر رحمه الله: ثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه لَمّا أهوى إليه؛ لينزع خفيه: "دَعْهُما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما"، متّفقٌ عليه.

قال: وأجمع كل مَن نَحْفَظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا تطهر، فأكمل طهوره، ثم لبس الخفين، ثم أحدث، فتوضأ أن له أن يمسح على خفيه، وأجمعوا على أنه إذا توضأ، وبَقِي عليه غسل إحدى رجليه، فأدخل الرجل المغسولة في الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلها الخفّ إنه طاهر، وله أن يصلي ما لم يحدث، واختلفوا فيه إن أحدث، وهذه حالته، فقالت طائفة:

(1)

"الأوسط" 1/ 442 - 445.

ص: 53

ليس له أن يمسح؛ لأنه أدخل إحدى رجليه الخفّ قبل أن يُكْمِل الطهارة، وتَحِلَّ له الصلاة، وهذا قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: إنما يمسح على الخفين مَن أدخلهما، وهما طاهرتان.

وفيه قول ثان، وهو أن لمن هذه حالته أن يمسح على الخفين، هذا قول يحيى بن آدم، وبه قال أبو ثور، وأصحاب الرأي، والمزنيّ، وبعض أصحابنا.

وقد احتجّ بعض أصحابنا القائلين بهذا القول بأن الرَّجُل إذا غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، وغسل إحدى رجليه، فقد طهرت رجله التي غسلها، فإذا أدخلها الخفّ، فقد أدخلها وهي طاهرة، ثم إذا غسل الأخرى من ساعته، وأدخلها الخفّ، فقد أدخلها، وهي طاهرة، فقد أدخل مَن هذه صفته رجليه الخفّ، وهما طاهرتان، فله أن يمسح عليهما بظاهر الخبر؛ لأنه قد أدخل قدميه وهما طاهرتان، قال: والقائل بخلاف هذا القول قائل بخلاف الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي هو القول الأول؛ لأن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أدخلتهما، وهما طاهرتان" يدلّ على الطهارة الكاملة؛ لأن طهارة الوضوء لا تُسمّى طهارة إلا بكمالها، ولذا لو غسل وجهه، ويديه، وأراد مسّ مصحف بيده لا يجوز له ذلك؛ لكون هذه الطهارة غير معتبرة؛ إذ لم تكمل، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في المسح على الخفّ المتخرّق:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في المسح على الخف المتخرِّق:

فقالت طائفة: يمسح على جميع الخفاف ما أمكن المشي فيها؛ لدخولهما في ظاهر أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا قول سفيان الثوريّ، وإسحاق، وذَكَر ذلك إسحاق عن ابن المبارك، وحُكِي ذلك عن ابن عيينة، وبه قال يزيد بن هارون، وأبو ثور، قال أبو ثور: ولو كان الخرق يمنع عن المسح لبيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

"الأوسط" 1/ 441 - 442.

ص: 54

وقالت طائفة: إذا كان في الخفّ خَرْق بدا شيء من مواضع الوضوء لم يمسح عليه، هذا قول الشافعيّ، وأحمد، ومعمر صاحب عبد الرزاق.

وفيه قول ثالث: وهو إن كان الخرق قد بدت أصبعه، أو كلها، أو طائفة من رجله توضأ، ومسح على خفيه، وغسل ما بدا من رجله، هذا قول الأوزاعيّ.

وفيه قول رابع: وهو أن الخرق إذا كان يسيرًا، فأرجو أن يجزئ عنه أن يمسح عليهما، وإن كان خرقه كثيرًا فأحب إليّ أن لا يمسح عليهما، هذا قول مالك.

وفيه قول خامس: وهو إن كان في خفيه خرق تخرج منه أصبع أو أصبعان أجزأه أن يمسح عليهما، فإن كان ثلاث أصابع لم يجزه، هذا قول أصحاب الرأي.

وقد رُوي عن الحسن أنه قال: إذا خرج الأكثر من أصابعه لم يُجزه المسح.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبالقول الأول أقول؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا مَسَحَ على الخفين، وأَذِن بالمسح عليهما إذنًا عامًّا مطلقًا، دخل فيه جميع الْخِفَاف، فكلُّ ما وقع عليه اسم الخُفّ فالمسح عليه جائز، على ظاهر الأخبار، ولا يجوز أن يُسْتَثنى من السنن إلا بسنّة مثلها، أو إجماع، وهذا يلزم أصحابنا القائلين بعموم الأخبار، والمنكرين على من عَدَل عنها إلا بحجة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد ابن المنذر رحمه الله في هذا التحقيق، وهذا هو واجب كلّ مسلم أنه إذا ثبتت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحّت وجب العمل بها على إطلاقها، ولا يجوز أن يتأوّلها متأوِّلٌ، أويجعلَ لها شرطًا، أو قيدًا، أو مَحْمِلًا من المحامل إلا بسنّة صحيحة مثلها، أو بإجماع أهل العلم على ذلك.

والحاصل أن الأرجح هنا أنه يجوز المسح على الخفاف المتخرّقة؛ لإطلاق النصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الأوسط" 1/ 448 - 450.

ص: 55

(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في جواز المسح على الْجُرْمُوق:

(اعلم): أن الْجُرموق - بضم الجيم، وسكون الراء - ويقال فيه: الموق أيضًا؛ خفّ غليظٌ يُلبس فوق الخفّ؛ قاله في "القاموس"، وقال ابن سِيده: الموق: ضرب من الخفاف، وقال الجوهريّ: الموق خفّ قصير، يُلبس فوق الخفّ، فارسيّ معرّب. انتهى.

وقد اختَلَفوا في المسح على الجرموقين، فرأت طائفة المسح عليهما، رُوي هذا القول عن النخعيّ، وقال مالك فيمن لبس زوجي خفاف إن احتاج، فالأعلى أحب إلي أن يمسح عليهما، وكان سفيان الثوريّ يرى أن يمسح على خفين، قد لبسهما على خفين، وقال أحمد: يمسح على الجرموقين فوق الخفين، وكذلك قال أصحاب الرأي، والحسن بن صالح، وكان الأوزاعيّ يرى أن يمسح على خفين، قد لبس أحدهما فوق الآخر.

وفيه قول ثان: وهو أنه لا يجوز المسح على الجرموقين، هكذا قال الشافعيّ بمصر، وقد كان يقول إذ هو بالعراق: له أن يمسح عليهما.

قال ابن المنذر: أَذِن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفاف، فإن كان الجرموقان يسميان خفين مسح عليهما، وإن لم يسميا خفين لم يمسح عليهما؛ لأن الله جلّ ذكرُهُ أمر بغسل الرجلين، وأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، فليس يجوز إلا غسل الرجلين، أو المسح على الخفين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق أن أهل اللغة سمّوا الجرموق خُفًّا، فثبت كونه خفًّا يشمله النصّ الوارد في الخفّ، فلا يُستراب في جواز المسح عليه، فالمذهب الأول هو الحقّ؛ لوضوح حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في جواز المسح على الْجَوْرَب:

(اعلم): أن الجورب هو كل ما يُلبس على القَدَم، وهو ما يسمّى بالشرّاب، وقال العينيّ: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشاميّة الشديدة البرد، وهو يُتّخذ من غزل الصوف المفتول، يُلبس في القدم إلى ما فوق الكعب. انتهى.

ص: 56

وقد اختَلَفوا في المسح عليهما، فقالت طائفة: يمسح على الجوربين، روي إباحة المسح عليهما عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وأبي مسعود، وأنس بن مالك، وابن عمر، والبراء بن عازب، وبلال، وأبي أمامة، وسهل بن سعد.

وقال بهذا القول عطاء بن أبي رباح، والحسن، وسعيد بن المسيب كذلك قالا: إذا كانا صفيقين، وبه قال النخعيّ، وسعيد بن جبير، والأعمش، وسفيان الثوريّ، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق، قال أحمد: قد فعله سبعة، أو ثمانية من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال إسحاق: مضت السنة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من التابعين في المسح على الجوربين، لا اختلاف بينهم في ذلك، وقال أبو ثور: يمسح عليهما إذا كانا يمشي فيهما، وكذلك قال يعقوب ومحمد، إذا كانا ثخينين لا يَشِفّان.

واحتج هؤلاء بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه، ونعليه، وهو حديث صحيح، قد ذكرت ما قاله المحقّقون فيه في "شرح النسائيّ"، فراجعه.

وأنكرت طائفة المسح على الجوربين، وكرهته، وممن كره ذلك، ولم يره مالك بن أنس، والأوزاعيّ، والشافعيّ، والنعمان، وهو مذهب عطاء، وهو آخر قوليه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن بن مسلم، ذكر هذا كلّه ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ جواز المسح على الجوربين، وقد استوفيت الأدلّة على ذلك في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): في اختلاف أهل العلم فيمن خلع خفّيه بعد المسح عليهما:

اختلفوا فيما يجب على مَن خَلَع خفيه بعد أن مسح عليهما، فقالت طائفة: يعيد الوضوء، كذلك قال النخعيّ، والزهريّ، ومكحول، وابن أبي

(1)

"الأوسط" 1/ 462 - 465.

ص: 57

ليلى، والحسن بن صالح، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وحُكِيَ عن أحمد أنه قال: احتياطًا، ورُوي هذا القول عن الشعبيّ، وابن سيرين.

وقالت طائفة: يغسل قدميه، رُوي هذا القول عن النخعيّ، وعطاء، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وأبو ثور، والمزنيّ.

وقالت طائفة ثالثة: إذا خلعهما صَلَّى، وليس عليه وضوء، ولا غسل قدميه، رُوي هذا القول عن النخعيّ، وبه قال الحسن البصريّ، ورُوي عن عطاء، وأبي العالية، وقتادة، وبه قال سليمان بن حرب.

وقالت طائفة: يغسل قدميه مكانه، فإن تطاول ذلك قبل أن يغسلهما أعاد الوضوء، حَكَى ابنُ وهب هذا القول عن مالك، والليث بن سعد.

وقد كان الشافعيّ يقول إذ هو بالعراق: يتوضأ، إذا انتقضت الطهارة عن عضو انتقضت عن سائر الأعضاء، وقال بمصر؛ عليه الوضوء، وفي "المختصر" المنسوب إلى البويطيّ: أحب إلي أن يبتدئ الوضوء من أوله، فإن غَسل رجليه فقط، فهو على طهارته، وحَكَى المزني عنه أنه قال: يغسل قدميه.

وقد احتَجّ من لا يرى عليه إعادة الوضوء، ولا غسل قدم، بأنه والخف عليه طاهرٌ كامل الطهارة بالسنة الثابتة، ولا يجوز نقض ذلك إذا خلع خفه إلا بحجة من سنة أو إجماع، وليس مع من أوجب عليه أن يعيد الوضوء، أو يغسل الرجلين حجة، ذكره ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ عندي هو ما قالته الطائفة الثالثة، وهو أن من خلع خفيه يصلّي، ولا وضوء، ولا غسل قدمه عليه؛ لأنه لا حجة على ذلك، بل ما ثبت له من الطهارة الكاملة قبل خلع خفيه ثابت لا يزال، حتى يأتي ما ينقضه، وليس الخلع مما ينقض الطهارة، لا بنصّ، ولا بإجماع، فثبت على ما هو عليه من الطهارة الكاملة، فيصليّ، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

(1)

"الأوسط" 1/ 457 - 460.

ص: 58

[629]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَاَ سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا

(1)

مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَش، فِي هَذَا الإِسْنَاد، بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيسَى وَسُفْيَانَ قَالَ: فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) - بوزن جعفر - المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.

5 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

6 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو عليّ بن مسهر القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

وإسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه، والأعمش تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ) أي كلّ هؤلاء الثلاثة: عيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة، وعليّ بن مسهر رووا عن الأعمش.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي بإسناد الأعمش الماضي.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 59

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ) يعني أن معنى رواياتهم كمعنى رواية أبي معاوية الماضية، وإن كان في ألفاظهم اختلافٌ، كما يرشد إليه استثناؤه التالي.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيسَى وَسُفْيَانَ .. إلخ)"غير" هنا بمعنى "إلا" الاستثنائيّة، يعني إلا أن في رواية عيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة ما نصّه: قَالَ - أي الأعمش: فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ .. إلخ.

[تنبيه]: أما رواية عيسى بن يونس، فقد ساقها الحافظ الدارقطنيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1/ 193) حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، نا يعقوب بن إبراهيم، نا أبو معاوية، وعيسى بن يونس، قالا: نا الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا، وقد بُلْتَ؟ قال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن جريرًا كان إسلامه بعد نزول المائدة.

هذا حديث أبي معاوية، وقال عيسى بن يونس: فقيل له: يا أبا عمرو، أتفعل هذا، وقد بُلْتَ؟ فقال: وما يمنعني، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه؟ وكان أصحاب عبد الله يعجبهم ذلك؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة انتهى.

وأما رواية سفيان بن عيينة، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(18405)

حدثنا سفيان، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: رأيت جرير بن عبد الله يتوضأ من مَطهَرة، ومسح على خفيه، فقالوا: أتمسح على خفيك؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: مرة - يمسح على خفيه، فكان هذا الحديث يعجب أصحاب عبد الله، يقولون: إنما كان إسلامه بعد نزول المائدة. انتهى.

وأما رواية عليّ بن مسهر، فلم أجد من ساقها بالتمام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 60

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[630]

(273) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَهَى

(1)

إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَتَنَحَّيْتُ، فَقَالَ:"ادْنُهْ"، فَدَنَوْتُ، حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْه، فَتَوَضَّأَ، فَمَسَحَ

(2)

عَلَى خُفَّيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) هو: زهير بن معاوية بن حُدَيج الْجُعْفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 62.

2 -

(شَقِيق) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [21] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(حُذَيْفَة) بن اليمان، واسم اليمان: حِسْل، أو حُسيل، حليف الأنصار، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

والباقيان تقدّما قبل حديث، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: الأعمش، عن شقيق.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة،

(1)

وفي نسخة: "فانتهينا".

(2)

وفي نسخة: "ومسح".

ص: 61

وقد أخرج مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيّ أيضًا استُشهِد بأحد رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ شَقِيقٍ) ولأبي داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة، عن الأعمش أنه سمع أبا وائل، ولأحمد عن يحيى القطّان، عن الأعمش: حدّثني أبو وائل، فبهذا انتفت تهمة التدليس في سند المصنّف (عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية الطبرانيّ من حديث عصمة بن مالك، قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سِكَك المدينة، فانتهى إلى سُباطة قوم، فقال: يا حذيفة استرني

" الحديث

(1)

. (فَانْتَهَى) أي وصل، وفي نسخة:"فانتهينا"، قال في "اللسان": انتهى الشيءُ وتَنَاهَى، ونَهَّى: بلغ نهايته، و"النهاية": غاية كلّ شيء وآخرُهُ، والإنهاءُ: الإبلاغ، وأنهيتُ الخبر، فانتهى، وتناهى: أي بلغ، وتقول: أنهيتُ إليه السهمَ: أوصلته إليه. انتهى

(2)

.

(إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ) بضمّ السين المهملة، وتخفيف الموحّدة، قال في "النهاية": هي الموضَع الذي يُرمَى فيه التراب، والأوساخ، وما يُكنَسُ من المنازل، وقيل: هي الْكُنَاسةُ نفسها، وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص، لا ملك؛ لأنها كانت مواتًا مباحةً. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "السُّبَاطة": هي مُلْقَى القمامةِ والتراب ونحوهما، تكون بفِنَاء الدور مَرْفَقًا لأهلها.

وقال في "الفتح": "السُّبَاطة": هي المزبلة، والكُناسة، تكون بفناء الدور مَرْفَقًا لأهلها، وتكون في الغالب سَهْلَةً، لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص، لا ملك؛ لأنها لاتخلو عن النجاسة، وبهذا يندفع إيراد مَن استشكله؛ لكون البول يُوهِي الجدار، ففيه إضرار، أو

(1)

راجع "الفتح" 1/ 393.

(2)

"لسان العرب" 15/ 344 - 345.

(3)

"النهاية" 2/ 335.

ص: 62

نقول: إنما بال فوق السباطة، لا في أصل الجدار، وهو صريح رواية أبي عوانة في "صحيحه"، وقيل: يحتمل أن يكون عَلِمَ إذنهم في ذلك بالتصريح، أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى، لكن لم يُعْهَد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وأما بوله صلى الله عليه وسلم في سُباطة قوم، فيحتمل أوجهًا:

[أظهرها]: أنهم كانوا يؤثرون ذلك، ولا يكرهونه، بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه، والأكل من طعامه، ونظائر هذا في السنة أكثر من أن تحصى، وقد أشرنا إلى هذه القاعدة في "كتاب الإيمان" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "احتَفَزْتُ كما يَحْتَفِز الثعلب

" الحديث.

[والوجه الثاني]: أنها لم تكن مختصّة بهم، بل كانت بفناء دُورهم للناس كلِّهم، فأضيفت إليهم؛ لقربها منهم.

[والثالث]: أن يكونوا أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة، إما بصريح الإذن، وإما بما في معناه. انتهى

(2)

.

وقال العلامة العينيّ رحمه الله: هذا كلّه على تقدير أن تكون السباطة ملكًا لأحد، أو لجماعة معيّنين، وقال الكرمانيّ رحمه الله: وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك، ولا يكرهونه، بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه، والأكل من طعامه، قال العينيّ: هذا أيضًا على تقدير أن تكون السباطة ملكًا لقوم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا وجه لمثل هذا الاستشكال؛ لأن العادة جارية بين الناس في أن الكُناسة لا يُمنع أحدٌ أن يقضي فيها حاجته، وهذا عرف مستمرّ على مرّ الدهور والأعصار، فلا داعي للتضايق بمثل هذه التأويلات المتكلّفة، فافهم، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 1/ 394.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 166.

ص: 63

[فإن قلت]: كان من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب، وقد روى أصحاب السنن بسند حسن، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد"

(1)

، والمذهب بالفتح: الموضع الذي يُتغوّط فيه.

[أجيب]: بأنه يَحْتَمل أن يكون صلى الله عليه وسلم مشغولًا في ذلك الوقت بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم، فلعلّه طال عليه الأمر، فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، ولو تكلّف ذلك لتضرّر بحبس البول؛ قاله العينيّ.

وقال القاضي عياض رحمه الله: وأما سبب بوله صلى الله عليه وسلم في السباطة التي بقرب الدُّور مع أن المعروف من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب، أنه صلى الله عليه وسلم كان من الشغل بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم بالمحل المعروف، فلعله طال عليه المجلس حتى حَفَزَه البول، فلم يمكنه التباعد، ولو أبعد لتضرر، وارتاد السُّباطة لدَمْثِها، وأقام حُذيفة بقربه؛ ليستره عن الناس، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي حَسَنٌ ظاهرٌ. انتهى

(2)

.

[فإن قلت]: روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دَمِثًا في أصل جدار، فبال، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتدْ لبوله موضعًا"، فهذا يُخالف ما تقدّم.

[أجيب]: بأنه يجوز أن يكون الجدار هنا عاديًّا، غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيًا عن جِرْمه، فلا يُصيبه البول، أفاده العينيّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي موسى رضي الله عنه المذكور ضعيف؛ لأن في سنده مجهولًا، وهو شيخ أبي التيّاح الضُبعيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَبَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك السباطة (قَائِمًا) حال من الفاعل، قال حذيفت رضي الله عنه (فَتَنَحَّيْتُ) أي تباعدت عن موضعه صلى الله عليه وسلم تأدّبًا معه على ظنّ أنه يَكرَه القرب منه في تلك الحالة كما هو العادة (فَقَالَ:) صلى الله عليه وسلم ("ادْنُهْ") أي اقرب، وهو بضمّ النون فعل أمر من دنا يدنو، كغزا يغزو، والهاء للسكت جيء بها؛ لكون الفعل معتلًّا حُذف آخره للجزم، كما قال في "الخلاصة":

(1)

حديث صحيحٌ، أخرجه أصحاب السنن، وسنده حسن.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 166.

(3)

راجع "عمدة القاري" 3/ 10.

ص: 64

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ

بِحَذْفِ آخِرٍ كـ"أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كـ "ع" أَوْ

كـ"يَعِ" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا

إنما دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم حُذيفة رضي الله عنه ليستره عن الناس، كما سبق من رواية الطبرانيّ: "فقال: يا حذيفة استرني

".

قال الحافظ رحمه الله: وليس فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول؛ لأن رواية البخاريّ بلفظ: "فأشار إليّ" تدلّ على أنه دعاه بالإشارة، لا بالكلام.

وتعقّبه العينيّ بأنه تردّه رواية الطبرانيّ المذكورة، حيث قال:"يا حذيفة استُرْنِي"، فإنها صريحة في التلفظ، قال: ويمكن أن يُجمع بين الروايتين بأن يكون صلى الله عليه وسلم أشار أوّلًا بيده، أو برأسه، ثم قال:"استرني"، وقال أيضًا ما معناه: إنه لا يدلّ على جواز الكلام وعدمه؛ إذ إشارته صلى الله عليه وسلم، أو قوله:"استرني" لم يكن إلا قبل شروعه في البول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التوجيه الأخير هو الأولى بالاعتماد عليه، فلا داعي للاستشكال، ولا للاعتراض، فالصواب أنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا حذيفة رضي الله عنه قبل شروعه في البول، لا بعد شروعه، حتى نستشكل الكلام على البول، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَدَنَوْتُ) أي قَرُبت منه صلى الله عليه وسلم (حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَتَوَضَّأَ) معطوف على محذوف؛ أي فأتيته بماء، فتوضّأ، وفي رواية البخاريّ:"ثم دعا بماء، فجئته بماء، فتوضّأ"، وفي رواية النسائيّ:"وكنت عند عقبيه حتى فرغ، ثم توضّأ"، وفي رواية أحمد:"أتى سُباطة قوم، فتباعدت منه، فأدناني حتى صرتُ قريبًا من عقبه، فبال قائمًا، ودعا بماء، فتوضّا به، ومسح على خفّيه".

[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "ثم دعا بماء" زاد مسلم وغيره من طُرُق عن الأعمش: "فتنحيت، فقال: ادْنُهْ، فدنوت حتى قمت عند عقبيه"، وفي رواية أحمد، عن يحيى القطان:"أَتَى سُباطة قوم، فتباعدت منه، فأدناني حتى صِرْتُ قريبًا من عقبيه، فبال قائمًا، ودعا بماء، فتوضأ، ومسح على خفيه"،

(1)

راجع "عمدة القاري" 3/ 204.

ص: 65

وكذا زاد مسلم وغيره فيه ذكر المسح على الخفين، وهو ثابت أيضًا عند الإسماعيلي وغيره، من طُرُقْ عن شعبة، عن الأعمش، وزاد عيسى بن يونس فيه، عن الأعمش، أن ذلك كان بالمدينة، أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" بإسناد صحيح، وزعم في الاستذكار أن عيسى تفرد به، وليس كذلك، فقد رواه البيهقيّ من طريق محمد بن طلحة بن مُصَرِّف، عن الأعمش كذلك، وله شاهد أخرجه الطبرانيّ من حديث عِصْمَة بن مالك قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سِكَك المدينة، فانتهى إلى سُباطة قوم، فقال: يا حذيفةُ استرني

" فذكر الحديث.

واستدلّ به على جواز المسح في الحضر، وهو ظاهرٌ، ولعل البخاريّ اختصره؛ لتفرد الأعمش به، فقد رَوَى ابن ماجه من طريق شعبة أن عاصمًا رواه له عن أبي وائل، عن المغيرة:"أن رسول الله لمجم أتى سباطة قوم، فبال قائمًا"، قال عاصم: وهذا الأعمش يروله عن أبي وائل، عن حذيفة، وما حفظه - يعني أن روايته هي الصواب - قال شعبة: فسألت عنه منصورًا، فحدثنيه عن أبي وائل، عن حذيفة - يعني كما قال الأعمش - لكن لم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصورٌ الأعمشَ على قوله:"عن حذيفة" دون الزيادة، ولم يَلتَفِت مسلم إلى هذه العلة، بل ذكرها في حديث الأعمش؛ لأنها زيادة من حافظ، وقال الترمذيّ: حديث أبي وائل، عن حذيفة أصح - يعني من حديثه عن المغيرة - وهو كما قال، كان جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين؛ لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصمًا على قوله:"عن المغيرة"، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما، فيصح القولان معًا، لكن من حيث الترجيح روايةُ الأعمش ومنصور؛ لاتفاقهما أصحّ من رواية عاصم وحماد؛ لكونهما في حفظهما مقال. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدّا، والله تعالى أعلم.

(فمَسَحَ) وفي نسخة: "ومسح" بالواو (عَلَى خُفَّيْهِ) أي بعد غسل سائر أعضاء الوضوء، ومسح الرأس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 1/ 392 - 394.

ص: 66

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[22/ 630 و 631](273)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(224 و 225 و 226) وفي "المظالم"(2471)، و (أبو داود) في "الطهارة"(23)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(13)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(18 و 26 و 27 و 28)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(305)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(751)، و (الحميديّ) في "مسنده"(442)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 123)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 394)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 171)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(61)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(1424 و 1425 و 1427 و 1428 و 1429)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 100)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(193)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(498 و 499 و 500 و 501 و 502 و 553)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(625 و 626)، وفي "الحلية"(4/ 111)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(5/ 11 - 12)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفّين.

2 -

(ومنها): جواز المسح في الحضر؛ لأن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم وفي المدينة، كما سبق في رواية عصمة بن مالك عند الطبرانيّ، وخالف في ذلك قوم، فخصّوه بالسفر، وهو قول باطلٌ تردّه الأحاديث الصحيحة.

3 -

(ومنها): جواز البول قائمًا، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): جواز البول بالقرب من الدار.

5 -

(ومنها): جواز البول في سُباطة الناس بغير إذنهم؛ لجريان العادة بذلك.

6 -

(ومنها): جواز قرب الإنسان من البائل إذا كان يبول قائمًا، وأما إذا كان قاعدًا فالأولى البعد عنه.

7 -

(ومنها): أدب الصحابيّ الجليل حذيفة رحمه الله، حيث تنحّى عن

ص: 67

النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كونه تابعًا له، وخادمه؛ حتى لا يتأذّى باستحيائه من قضاء حاجته؛ لقربه منه.

8 -

(ومنها): ما قيل: إنما استدنى النبيّ صلى الله عليه وسلم حُذيفة رضي الله عنه؛ ليستتر به عن أعين الناس وغيرهم من الناظرين؛ لكونها حالةً يُستَخفَى بها، ويُستَحىَ منها في العادة، وكانت الحاجة التي يقضيها بولًا من قيام، ويؤمن معها خروج الحدث الآخر، والرائحة، فلهذا استدناه، وجاء في الحديث الآخر لَمّا أراد قضاء الحاجة قال -:"تَنَحّ"؛ لكونه كان يقضيها قاعدًا، فتحصل الرائحة، وما يتبعها، ولهذا قال بعض العلماء: في هذا الحديث من السنّة القرب من البائل إذا كان قائمًا، فإذا كان قاعدًا فالسنة الإبعاد عنه. انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن مدافعة البول، ومصابرته مكروهة؛ لما فيه من الضرر.

10 -

(ومنها): مشروعيّة طلب البائل من صاحبه الذي يُدلي عليه القرب منه؛ ليستره.

11 -

(ومنها): جواز استخدام الحُرّ دون إكراه.

12 -

(ومنها): استحباب خدمة المفضول للفاضل.

13 -

(ومنها): استحباب التستّر عند البول.

14 -

(ومنها): بيان جواز كون الساتر حالة البول إنسانًا.

15 -

(ومنها): بيان أن البول ينقض الوضوء.

16 -

(ومنها): دفع أشدّ المفسدتين بأخفّهما، والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معًا، وبيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يُطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويُكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول، وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخّره حتى يبعد كعادته؛ لما يترتّب على تأخيره من الضرر، فراعَى أهمّ الأمرين، وقدّم المصلحة في تقريب حذيفة منه؛ ليستره من المارّة على مصلحة تأخيره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما؛ قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع "شرح النوويّ" 3/ 167.

(2)

"الفتح" 1/ 393.

ص: 68

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في سبب بول النبيّ صلى الله عليه وسلم قائمًا: قد ذَكَر العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك أوجهًا، حكاها الخطابيّ، والبيهقيّ، وغيرهما من الأئمة:

[أحدهما]: وهو مرويّ عن الشافعيّ رحمه الله أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بالبول قائمًا، قال: فنَرَى أنه كان به صلى الله عليه وسلم وجع الصلب إذ ذاك.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أبعد هذا الوجه، فأين الدليل عليه؟.

[والثاني]: أن سببه ما رُوي في رواية ضعيفة، رواها البيهقيّ، وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم بال قائمًا؛ لعلّة بِمَأْبَضه - والْمَأْبَض بهمزة ساكنة بعد الميم، ثم باء موحدة - وهو باطن الرُّكْبة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا أيضًا من جنس ما قبله؛ لضعف مستنده.

[والثالث]: أنه لم يَجِد مكانًا للقعود، فاضطر إلى القيام؛ لكون الطرف الذي من السُّباطة كان عاليًا مرتفعًا.

[والرابع]: أنه إنما بال قائمًا؛ لكونها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب، بخلاف حالة القعود، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: البول قائمًا أحصن للدبر.

[والخامس]: أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ لبيان الجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة يبول قاعدًا، ويدلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنهما قالت:"مَن حدّثكم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدِّقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا"، رواه الترمذيّ، والنسائيّ بإسناد جيّد

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ضعف هذه الأوجه، إلا الخامس، فالذي يترجّح عندي أنه صلى الله عليه وسلم إنما فَعَل ذلك لبيان الجواز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم البول قائمًا:

(1)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ برقم (12)، والنسائيّ (29)، وابن ماجه (303).

ص: 69

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اخَتَلف أهل العلم في البول قائمًا، فثبت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بالوا قيامًا، وممن ثبتٌ ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وروي ذلك عن عليّ، وثبت ذلك عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، ورُوي ذلك عن أنس، وأبي هريرة، وفعل ذلك محمد بن سيرين، وعروة بن الزبير.

وقد رَوَينا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم، ورُوي ذلك عن الشعبيّ، وقال ابن عيينة: كان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائمًا، ورُوي عن أبي موسى الأشعريّ أنه رأى رجلًا يبول قائمًا، فقال: ويحك، أفلا قاعدًا، بنو إسرائيل كانوا في شأن البول أشدّ منكم، إنما كان مع أحدهم شَفْرته، أو مِقراضه لا يصيب منه شيئًا إلا قطعه.

وفيه قول ثالث: وهو أن البول إن كان في موضع رَمْل، وما أشبه ذلك لا يتطاير منه شيء، فلا بأس بذلك، وإن كان في موضع صلب، يتطاير عليه منه، فأكره ذلك، ولْيَبُلْ جالسًا، هكذا قال مالك بن أنس.

قال ابن المنذر رحمه الله: في هذا الباب ثلاثة أخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبران ثابتان، وخبر معلولٌ، فأما الخبران الثابتان، ففي أحدهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بال قائمًا، ثم أخرج بسنده حديث حذيفة المذكور هنا.

وأما الخبر الثاني، ففي البول في حال الجلوس، ثم أخرج بسنده عن عبد الرحمن بن حَسَنَةَ رضي الله عنه قال: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده دَرَقَةٌ، فبال وهو جالسٌ

(1)

.

قال: وأما الخبر المعلول، فحدّثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائمًا، فقال:"يا عمر لا تَبُلْ قائمًا"، قال: فما بُلْتُ قائمًا بعدُ.

وهذا الخبر لا يثبت؛ لأن فيه عبد الكريم أبا أمية، متّفقٌ على ضعفه.

قال ابن المنذر رحمه الله: البول جالسًا أحبّ إليّ؛ للثابت عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه بال جالسًا، ولأن أهل العلم لا يختلفون فيه، ولا أنهى عن البول قائمًا؛

(1)

أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وغيرهما بإسناد صحيح.

ص: 70

لثبوت حديث حذيفة، وقد ثبت عن عمر أنه قال: ما بلت قائمًا منذ أسلمت، فقد يجوز أن يكون عمر إلى الوقت الذي قال هذا القول لم يكن بال قائمًا، ثم بال بعد ذلك قائمًا، فرآه زيد بن وهب، فلا يكون حديثاه متضادين. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله هو الصواب؛ لوضوح حجّته.

والحاصل أن البول قائمًا جائز بلا كراهة؛ لحديث حُذيفة رضي الله عنه المتّفق عليه، ولكن الأولى أن يبول قاعدًا؛ لأنه أكثر أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنهما المتقدّم.

[فإن قلت]: إنها قالت: "ما كان يبول إلا قاعدًا"، ففيه نفي بوله صلى الله عليه وسلم قائمًا، فكيف الجمع بينه، وبين حديث حذيفة رضي الله عنه هذا؟.

[أجيب]: بأن نفيها مُستنِدٌ إلى علمها، لا إلى الواقع، فحيث لم تره صلى الله عليه وسلم يبول قائمًا في البيت نفت ذلك، وحيث رآه حذيفة رضي الله عنه قائمًا خارج البيت أثبته، والمثبت مقدّم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ؛ لأنه عنده زيادة علم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[631]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْل، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ، وَيقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ جلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيض، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَ، فَجِئْتُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ

(2)

حَتَّى فَرَغَ).

(1)

"الأوسط" 1/ 333 - 338.

(2)

وفي نسخة: "عند عقبيه".

ص: 71

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مَنْصُور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا بيان لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة رحمه الله أنه (قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 16/ 171.

(يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ) أي في التحفّظ من البول، والاحتراز من رشاشاته، وقد بيّن ابن المنذر رحمه الله وجه هذا التشديد، فأخرج من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه "سمع أبا موسى، ورأى رجلًا يبول قائمًا، فقال: ويحك، أفلا قاعدًا"، ثم ذكر قصّة بني إسرائيل

(1)

(وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: هو إناء من زُجاج، والجمع القوارير، وهو أيضًا وِعَاءُ الرُّطَب، والتمر، وهي الْقَوْصَرَّةُ، وتُطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد، أو المنيّ يَقِرّ في رَحِمِها كما يَقِرّ الشيءُ في الإناء، أو تشبيها بآنية الزجاج؛ لصعفها، قال الأزهريّ: والعرب تَكْنِي عن المرأة بالقارورة، والْقَوْصَرَّة. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": سُمِّيت قارورةً؛ لاستقرار الشراب فيها. انتهى

(3)

.

(وَيَقُولُ) أي أبو موسى رضي الله عنه (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب، وإسرائيل لقبه، ويقال: معناه بالعربيّة عبد الله؛ لأن "إسرا" بمعنى عبد، و"إيل" اسم من أسماء الله تعالى بالسريانيّة، كما يقال: جبرائيل، وميكائيل

(4)

(كَانَ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ) قال العينيّ رحمه الله: الضمير في "كان" ضمير الشأن، والجملة

(1)

راجع "الأوسط" 1/ 336.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 497.

(3)

"لسان العرب" 5/ 88.

(4)

راجع "عمدة القاري" 3/ 206.

ص: 72

الشرطيّة خبره، وبهذا لا يَرِدُ سؤال الكرمانيّ بقوله: فإن قلت: "بنو" جمع، فلم أفرد ضمير "كان" الراجع إليه؟

(1)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حُمِّلوه، ويؤيّده رواية أبي داود، ففيها:"كان إذا أصاب جسد أحدهم"، لكن رواية البخاريّ بلفظ:"ثوب أحدهم" صريحة في الثياب، فلعلّ بعضهم رواه بالمعنى؛ قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمله على ما يعمّ الجسد والثوب أولى، فالظاهر أن هذا مما كُلّفوا به، فكانوا يقطعون ما أصابه شيء من البول، سواء كان ثوبهم، أو جسدهم، فتطهير النجاسة عندهم بالقطع، كما كان توبتهم بقتل النفس، والله تعالى أعلم.

وقوله: (بَوْلٌ) فاعل "أصاب"(قَرَضَهُ) أي قطعه، يقال: قرضت الشيء قَرْضًا، من باب ضرب: قطعته بالمقراض

(3)

. (بِالْمَقَارِيضِ) بالفتح: جمع مِقْراض، بالكسر، قال الفيّوميّ: ولا يقال إذا جمعت بينهما: مِقْراض، كما تقول العامّة، وإنما يقال عند اجتماعهما: قَرَضته بالمقراضين، وفي الواحد: قَرَضته بالمقراض. انتهى

(4)

.

وقوله: "بالمقاريض" يردّ حَمْل من حمل القَرْض على الغسل بالماء؛ قاله في "الفتح"

(5)

.

(فَقَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه (لَوَدِدْتُ) أي لتمنّيتُ، واللام هي الموطّئة للقسم، والمؤذنة به، يقال: وَدّه يودّه من باب تَعِبَ وَدًّا بفتح الواو، وضمّها: إذا أحبه، والجملة جواب القسم المقدّر؛ أي: والله وددتُ، وللبخاريّ:"ليته أمسك"(أَنَّ صَاحِبَكُمْ) بفتح همزة "أنّ"؛ لوقوعها موقع المفرد، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"عمدة القاري" 3/ 205.

(2)

"الفتح" 1/ 394.

(3)

راجع "المصباح" 2/ 497.

(4)

"المصدر السابق" 2/ 497 - 498.

(5)

1/ 394.

ص: 73

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

وهي هنا في تأويل المصدر مفعول "وددت"؛ أي وددت عدم تشديد صاحبكم، والمراد بالصاحب أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه، والخطاب لأبي وائل ومن معه ممن حضر مجلس حُذيفة رضي الله عنه حين تحديثه بهذا الحديث.

(لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها (يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ) أي أدّاه إلى أن يبول في قارورة.

قال النوويّ رحمه الله: مقصود حذيفة رضي الله عنه بهذا أن هذا التشديد خلافُ السنة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بال قائمًا، ولا شكّ في كون القائم مُعَرَّضًا للرّشيش، ولم يَلْتَفت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاحتمال، ولم يتكلَّف البول في قارورة، كما فعل أبو موسى رضي الله عنه، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي) بضمّ التاء من فوقُ، ومعناه: رأيتُ نفسي، وبهذا التقدير يندفع سؤال من يقول: كيف جاز أن يكون الفاعل والمفعول عبارةً عن شيء واحد؛ وهذا التركيب جائز في أفعال القلوب؛ لأنه من خصائصها، ولا يجوز في غيرها

(2)

، إلا ما أُلحق بها، كفقد، وعدم، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى غير مرّة.

وقوله: (أنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقع في النسخ برفع "رسولُ" مضبوطًا بالقلم، وعلى هذا فيكون معطوفًا على الفاعل، وأتى بـ "أنا" فاصلًا؛ لأن العطف على الضمير المتّصل المرفوع بدون فاصل ضعيف، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "رأيتني أنا والنبيّ صلى الله عليه وسلم"، فقال العينيّ رحمه الله: قوله: "أنا" للتأكيد؛ لصحّة عطف لفظ "النبيّ" على الضمير المنصوب على المفعوليّة، والتقدير: رأيتُ نفسي، ورأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الكرمانيّ رحمه الله: بنصب "النبيّ"؛ لأنه عطف على المفعول، لا على الفاعل، وعليه الرواية، قال

(1)

"شرح مسلم" 3/ 167.

(2)

راجع "عمدة القاري" 3/ 204.

ص: 74

العينيّ: ويجوز رفع "النبيّ" أيضًا؛ لصحّة المعنى عليه، ولكن إن صحّت رواية النصب يُقتصر عليها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يتعرّض أحد من شرّاح "صحيح مسلم" لبيان الرواية: هل هي بنصب "ورسول الله"، أو برفعه؟ إلا ما وقع في ضبط القلم، كما أسلفته آنفًا، والظاهر أن الوجهين جائزان، إن لم تثبت الرواية بأحدهما، فتتعيّن، فيكون المعنى على الرفع: رأيت نفسي، ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى النصب: رأيت نفسي، ورأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ومما يؤكّد الرفع وقوع الفصل بـ "أنا"؛ لأن النصب لا يحتاج إليه، كما أوضحه ابن مالك رحمه الله في كلامه السابق، والله تعالى أعلم.

(نَتَمَاشَى) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي حال كوننا متماشيين (فَأتى) صلى الله عليه وسلم (سُبَاطَةً) تقدّم أنه بالضمّ، كالْكُنَاسة وزنًا ومعنًى (خَلْفَ حَائِطٍ) أي جدار، ويجيء بمعنى البستان، كما تقدّم، لكن الظاهر هنا الأول (فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم (كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ) أي تنحّيتُ، وابتعدت منه صلى الله عليه وسلم حتى كنت على نَبْذة؛ أي ناحية، قال الجوهريّ: جلس فلانٌ نَبْذةً - بفتح النون، وضمّها: - أي ناحيةً، وانتبذ فلانٌ: أي ذهب ناحيةً. انتهى

(2)

.

وإنما انتبذ حذيفة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتأذّى به لو دنا منه بالاستحياء عن خروج شيء منه عند البول، فلما بال صلى الله عليه وسلم قائمًا، وأمن ما خشيه حذيفة أمره بالقرب منه.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: وإنما بَعُد منه صلى الله عليه وسلم، وعينه تراه؛ لأنه كان يحرسه صلى الله عليه وسلم، قال العينيّ رحمه الله: هذا إنما يتأتّى قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحرسه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قبل نزولها، فلما نزلت تركوا الحراسة. انتهى

(3)

.

(فَأشَارَ إِلَيَّ) أي أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة رضي الله عنه بعد أن ابتعد منه إلى أن يأتيه، فيستره عن أعين الناظرين، وقد سبق في الرواية أنه قال له:"ادْنُهْ"،

(1)

"عمدة القاري" 3/ 204.

(2)

راجع "الصحاح" 2/ 497.

(3)

راجع "عمدة القاري" 3/ 205.

ص: 75

وجمعنا بين الروايتين أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الإشارة والقول، وأن ذلك كان قبل شروعه في البول، فلا يكون دليلًا لإباحة الكلام في حالة البول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: "فأشار إليّ" يدلّ على أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما صَنَعَ ذلك؛ ليجمع بين المصلحتين: عدمِ مشاهدته في تلك الحالة، وسماع ندائه لو كانت له حاجة، أو رؤية إشارته إذا أشار له، وهو مستدبره، وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول؛ لأن هذه الرواية بَيَّنَت أن قوله في رواية مسلم:"ادنُهْ" كان بالإشارة، لا باللفظ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرف فيما ذكرته آنفًا أنه لا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن قوله: "ادنُهْ" كان قبل شروعه في البول، لا فيه، فلا يلزم ما ذكره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: وأما مخالفته صلى الله عليه وسلم لِمَا عُرِف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة، وعن أعين النّظّارة، فقد قيل فيه: إنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولًا بمصالح المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر، واستَدْنَى حذيفة ليستره من خلفه، مِن رؤية مَن لعله يمر به، وكان قدامه مستورًا بالحائط، أو لعله فعله لبيان الجواز، ثم هو في البول، وهو أخفّ من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشّف، ولما يقترن به من الرائحة، والغرض من الإبعاد: التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل، والدنُوّ من الساتر. انتهى

(1)

.

(فَجِئْتُ) إليه صلى الله عليه وسلم (فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ) وفي نسخة "عَقِبيه" بالتثنية، ولا اختلاف بينهما؛ لأن المفرد المضاف يعمّ، فيكون بمعنى التثنية، و"العقب" بفتح العين، وكسر القاف: مؤخّر القدم، وهي مؤنّثة (حَتَّى فَرَغَ) غاية لقيامه عند عقبه؛ أي قمت عند عقبه صلى الله عليه وسلم إلى أن انتهى من بوله. والحديث متّفق عليه، وقد سبق بيان مسائله في الحديث الماضي، فلا حاجة إلى إعادته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 1/ 393.

ص: 76

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[632]

(274) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ

(1)

(ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَة، عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ خَرَجَ لِحَاجَتِه، فَاتَّبَعَهُ

(2)

الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِه، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْن، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ

(3)

مَكَانَ "حِينَ""حَتَّى").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ المذكور قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 412.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، المدنيّ القاضي، ثقةٌ فاضلٌ عابد [5](ت 125) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

6 -

(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدنيّ ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة"جـ 2 ص 482.

7 -

(عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) بن شُعبة الثقفيّ، أبو يَعْفُور - بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وضمّ الفاء - الكوفيّ، ثقةٌ [3].

(1)

وفي نسخة: "ليث بن سعد".

(2)

وفي نسخة: "فاَتْبَعَهُ".

(3)

وفي نسخة: "وفي حديث ابن رمح".

ص: 77

رَوَى عن أبيه، وعائشة رضي الله عنهما، وعنه الشعبيّ، وعَبّاد بن زياد، ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، وبَكْر بن عبد الله الْمُزَنيّ، والحسن البصريّ، وغيرهم.

قال البخاريّ: قال الشعبيّ: كان خير أهل بيته، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال خليفة بن خياط: ولاه الحجاج الكوفة سنة (75)، وذكره في تسمية عُمّال الوليد على الصلاة بالكوفة سنة (9)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من أفاضل أهل بيته.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره سبع مرّات.

8 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم رضي الله عنه قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، ومات سنة (50) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلافهما في كيفيّة التحمّل، فقتيبة أخذه عن الليث بالسماع، ولذا قال:"حدثنا ليثٌ"، ومحمد بن رمح أخذه سماعًا لقراءة غيره على الليث، ولذا قال:"أخبرنا الليث"، وهذا كلّه من احتياطات المصنّف، وشدّة ورعه؛ إذ ليس ذلك مما يجب، بل هو من المستحسنات، كما قال في "ألفيّة الحديث":

وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"

وَقَارِيءٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"

وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"

وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه الثاني، فقد تفرّد به هو، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه إلى الليث مصريّون، وقتيبة بغلانيّ، دخل مصر، وأما يحيى، وسعد ونافع فمدنيّون، والمغيرة رضي الله عنه وابنه كوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه أربعة من التابعين المدنيين يروي بعضهم عن بعض: يحيى، عن سعد، عن نافع، عن عروة.

5 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": وفيه رواية الأقران في موضعين؛ لأن

ص: 78

يحيى وسعدًا تابعيّان صغيران، ونافع بن جبير، وعروة بن المغيرة تابعيّان

وسطان، ففيه أربعة من التابعين في نسق، وهو من النوادر. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): رواية الابن عن أبيه: عروة، عن المغيرة رحمه الله، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) تقدّم أن ميم "المغيرة" تُضمّ، وتُكسر، ودخلت فيه "أل"؛ للمح الوصفيّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كـ"الْفَضْلِ" و"الْحَارِثِ" والنُّعْمَانِ"

فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

(عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (خَرَجَ لِحَاجَتِهِ) أي لقضاء حاجته، من البول والغائط، وفي الرواية الآتية:"أنه كان في سفر"، وفي البخاريّ في "المغازي": أنه كان في غزوة تبوك، على تردّد في ذلك من رُواته، ولمالك، وأحمد، وأبي داود من طريق عبَّاد بن زياد، عن عروة بن المغيرة أنه كان في غزوة تبوك بلا تردّد، وأن ذلك كان عند صلاة الفجر

(2)

.

(فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ) بتشديد التاء من باب الافتعال، من تَبعَ، وَفي بعض النسخ:"فأَتْبَعَه" من الإتباع، من باب الإفعال، قال الجوهريّ رحمه الله: تَبِعْتُ القومَ تَبَعًا، وتَبَاعَةً - بالفتح -: إذا مشَيْتَ خلفَهُم، أو مَرُّوا بك، فمَضَيتَ معهم، وكذلك اتَّبَعتُهُم، وهو افتَعَلتُ، وأَتْبَعْتُ القومَ، على أَفْعَلتُ: إذا كانوا سَبَقُوكَ، فلَحِقتهم، وأَتْبَعتُ أيضًا غيري، يقال: أتبعتُهُ الشيءَ، فتبعه، قال الأخفش: تَبعْتُهُ، وأَتْبَعْتُهُ بمعنًى، مثلُ رَدِفتُهُ، وأردفْتُهُ، ومنه قوله تعا لي:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ} [الصافّات: 10] انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن مما سبق أن اتّبع، وأتبع بوصل الهمزة، وقطعها يكون بمعنى واحد، متعذيًا إلى مفعول واحد، وإن كان الغالب في

(1)

"الفتح" 1/ 343.

(2)

"الفتح" 1/ 367.

(3)

"الصحاح" 3/ 991.

ص: 79

"أتبع" الرباعيّ أن يكون متعدّيًا لاثنين، كقولك: أتبعت زيدًا عمرًا؛ أي جعلته تابعًا له.

[تنبيه]: إنما اتّبعه المغيرة رضي الله عنه؛ لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك، ففي الرواية التالية: "كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: يا مغيرةُ خُذ الإداوة، فأخذتها، ثم خرجت معه

" الحديث، وفي رواية النسائيّ، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقَرَع ظهري بعصًى كانت معه، فعَدَلَ، وعدَلتُ معه

" الحديث، وفي لفظ: "تخلّف يا مغيرة، وامضُوا أيها الناس

" الحديث، وفي "السنن الكبرى" للنسائيّ: قال: "كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان في سحَر، ضرب عُنُق راحلتي

" الحديث.

وفي قوله: "فاتّبعه المغيرة" التفاتٌ على رأي بعضهم؛ إذ الظاهر أن يقول: فاتّبعته، ويحتمل أن يكون عروة أدّى كلام أبيه بعبارة نفسه

(1)

، والأول أوضح، والله تعالى أعلم.

(بِإدَاوَةٍ) بكسر الهمزة: إناء صغير، يُحْمَل فيه الماء، جمعه أَدَاوَى، بالفتح، كفَتَاوَى (فِيهَا مَاءٌ) وعند أحمد

(2)

أن ذلك الماء أخذه المغيرة من

(1)

راجع "الفتح" 1/ 343.

(2)

قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(17515): حدثنا أبو المغيرة، حدثنا مُعان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهليّ، عن المغيرة بن شعبة، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فأتيت خِبَاء، فإذا فيه امرأة أعرابية، قال: فقلت: إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد ماء يتوضأ، فهل عندك من ماء؟ قالت: بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تُظِلّ السماء، ولا تُقِلّ الأرض رُوحًا أحبّ إلي من روحه، ولا أعزّ، ولكن هذه القربة مَسْكُ ميتة، ولا أحبّ أُنَجِّس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال:"ارجع إليها، فإن كانت دبغته فهي طهورها"، قال: فرجعت إليها، فذكرت ذلك لها، فقالت: إي والله، لقد دبغتها، فأتيته بماء منها، وعليه يومئذ جبة شامية، وعليه خُفّان وخمار، قال: فأدخل يديه من تحت الجبة، قال: من ضيق كميها، قال: فتوضأ، فمسح على الخمار والخفين. انتهى.

وفي سنده عليّ بن يزيد الألهانيّ ضعيفٌ.

ص: 80

أعرابيّة، صَبّته له من قِرْبة كانت من جلد ميتة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"سلها، فإن كانت دبغتها، فهو طهور"، وأنها قالت: إي والله لقد دبغتها، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَصَبَّ عَلَيْهِ) أي الماء، فالمفعول محذوف (حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ) أي وقت فزاغه من قضاء حاجته، من البول، أو الغائط، والمراد أنه لم تَطُل مدّة ما بين قضاء الحاجة، وبين صبّه الماء عليه (فَتَوَضَّأَ) أي غسل وجهه، ويديه، ومسح برأسه، كما فسّرته الروايات الأُخَر، وأما رجله فبيّنه بقوله (وَمَسَحَ عَلَى الْخُفيْنِ) يعني أنه ما غسله كسائر أعضائه، وإنما اكتفى بمسحه.

وفي رواية للبخاريّ: "فغسل وجهه ويديه"، قال في "الفتح": والفاء في "فغسل" تفصيلية، وتَبَيَّن من ذلك أن المراد بقوله:"توضأ" أي بالكيفية المذكورة، لا أنه غسل رجليه، واستَدَلَّ به القرطبيّ على الاقتصار على فروض الوضوء دون سننه، لا سيما في حال مظنة قلة الماء، كالسفر، قال: ويحتمل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها، فلم يذكرها المغيرة، قال: والظاهر خلافه.

قال الجامع عفا الله عنه: وفيما قاله القرطبيّ نظر لا يخفى؛ لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها، وذكرها المغيرة، ففي رواية المصنّف الآتية:"فتوضّأ وضوءه للصلاة"، وفي رواية: "فغسل يديه، ثم غسل وجهه، ثم ذهب ليغسل ذراعيه، فضاقت الجبّة، فأخرجهما من تحت الجبّة، فغسلهما، ومسح رأسه

"، ورواية أحمد: "أنه غسل كفيه"، وله من وجه آخر، قويّ: "فغسلهما، فأحسن غسلهما"، قال: وأشك أقال: "دَلَكَهما بتراب" أم لا؟، وللبخاريّ في "الجهاد": "أنه تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه"، زاد أحمد: "ثلاث مرات، فذهب يُخرِج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرجهما من تحت الجبة"، ولأحمد: "فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات"، فكلّ هذه الروايات نصّ في كونه صلى الله عليه وسلم توضّأ وضوءًا كاملًا، ومن الغريب أن يخفى هذا على القرطبيّ مع أنه يشرح أحاديث "صحيح مسلم"، فيذكر الاحتمال المتقدّم، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 1/ 367.

ص: 81

وقوله: (وَفي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ) وفي نسخة: "وفي حديث ابن رُمْح" (مَكَانَ "حِينَ""حَتَّى" (يعني أنه وقع اختلاف بين شيخيه: قتيبة، ومحمد بن رُمح، فذكر قتيبة بلفظ:"حين فرغ من حاجته"، وذكر ابن رُمح بلفظ:"حتى فرغ من حاجته".

قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "فصبّ عليه حين فرغ من حاجته"؛ فمعناه: بعد انفصاله من موضع قضاء حاجته، وانتقاله إلى موضع آخر، فصبّ عليه في وضوئه، وأما رواية "حتى فرغ" فلعلّ معناها: فصبّ عليه في وُضوئه حتى فرغ من الوضوء، فيكون المراد بالحاجة: الوضوء، وقد جاء في الرواية الأخرى مُبيَّنًا أن صبّه عليه كان بعد رجوعه من قضاء الحاجة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه] قال في "الفتح": وحديث المغيرة رضي الله عنه هذا ذكَرَ البزار أنه رواه عنه ستون رجلًا، وقد لخصتُ مقاصد طرقه الصحيحة في هذه القطعة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد بقوله في هذه القطعة ما ذكره في "الفتح" من أوجه الروايات المختلفة، وما يستفاد منها، وأنا - بعون الله تعالى - تبعته في هذا الشرح، فذكرت ما ذكره، وزدته مما فتح الله عليّ من تحقيقات غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[22/ 632 و 633 و 634 و 635 و 636 و 637 و 638](274) و [23/ و 639 و 640 و 641 و 642](274)، وسيأتي في "الصلاة" أيضًا، و (البخاريّ) في "الوضوء"(182 و 203 و 206) و"الصلاة"(363 و 388 (و (2918) و "المغازي"(4421) و"اللباس"(5798 و 5799)، و (أبو داود) في "الطهارة"(149 و 150)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(155)، و (النسائيّ)(1/ 63 و 76 و 82 و 83)، (وابن ماجه) في "الطهارة"(545)،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 168.

ص: 82

و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 35 و 36)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 32)، و (الحميديّ) في "مسنده"(757 و 758)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(747 و 748 و 749)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 176 و 177 و 178 و 179)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 244 و 246 و 247 و 248 و 249 و 250 و 125 و 253 و 254 و 255)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 257 و 258)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(628 و 629 و 635 و 631 و 632) وفي "الحلية"(7/ 335)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(83 و 85)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1326 و 1338 و 1342 و 1346 و 1347)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 271 و 274 و 283)، و (البغويّ) في شرح السنّة" (236)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير" (858 و 865 و 872 و 873 و 874 و 875 و 876 و 877 و 967 و 968 و 971 و 972 و 976 و 977 و 984 و 985 و 995)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفّين.

2 -

(ومنها): استحباب الإبعاد عند قضاء الحاجة، والتواري عن الأعين.

3 -

(ومنها): استحباب الدوام على الطهارة؛ لأمره صلى الله عليه وسلم المغيرة أن يتبعه بالماء، مع أنه لم يستنج به، وإنما توضّأ به حين رجع، كذا قيل، وهو محلّ نظر.

4 -

(ومنها): جواز الاستعانة في صبّ الماء على المتوضئ، وقد رُوي عن عمر وابنه رضي الله عنهما كراهة ذلك، وقد روي عنهما خلاف ذلك، فرُوي عن عمر أن ابن عبّاس رضي الله عنهم صبّ على يديه الوَضُوء، وقال ابن عمر: لا أبالي أعانني رجل على وضوئي، وركوعي، وسجودي، وهو الصحيح؛ قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

المراد فوائد حديث المغيرة رضي الله عنه بطرقه المختلفة، سواء في الروايات التي ساقها المصنّف، أم في الروايات التي أشرت إليها في الشرح، لا خصوص سياق الرواية التي فرغت من شرحها، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(2)

"المفهم" 1/ 529.

ص: 83

5 -

(ومنها): غسل ما يُصيب اليد من الأذى عند الاستجمار، وأنه لا يكفي إزالته بغير الماء.

6 -

(ومنها): الاستعانة على إزالة الرائحة بالتراب ونحوه، وقد يُستنبَط منه أن ما انتَشَر عن المعتاد لا يزال إلا بالماء، هكذا قيل، وليُتأمّل.

7 -

(منها): جواز الانتفاع بجلود الميتة، إذا دُبِغَت.

8 -

(ومنها): جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى يُتَحَقَّق نجاستها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبّة الرومية، ولم يَستَفصِل.

9 -

(ومنها): أن القرطبيّ رحمه الله استَدَلَّ به على أن الصوف لا يَنجَس بالموت؛ لأن الجبة كانت شامية، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات، ولم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا توقّف فيه

(1)

.

10 -

(ومنها): أن فيه الردَّ على مَن زَعَم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة؛ لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وكانت هذه القصة في غزوة تبوك، وهي بعدها باتّفاق، وقد تقدّم حديث جرير البجليّ في معنى ذلك قريبًا.

11 -

(ومنها): أن فيه مشروعيّة التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيِّقة فيه؛ لكونها أعون على ذلك.

12 -

(ومنها): المواظبة على سنن الوضوء حتى في السفر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءًا كاملًا، كما تقدّم بيانه، لا كما ظنّ القرطبيّ أنه اقتصر على فروض الوضوء دون السنن؛ لأنه إنما قال ذلك دون تأمّل الروايات المختلفة التي فسّر بعضها بعضًا، فلو تأمّلها لاتّضح له خلاف ما قال، فقد بُيّن في بعضها أنه توضّأ ثلاثًا ثلاثًا، كما قدّمنا بيان ذلك آنفًا، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد.

13 -

(ومنها): قبول خبر الواحد في الأحكام، ولو كانت امرأةً، سواء كان ذلك فيما تَعُمّ به البلوى أم لا، لأنه صلى الله عليه وسلم قَبِلَ خبر الأعرابية كما تقدم بيانه.

14 -

(ومنها): أن الاقتصار على غسل مُعْظَم المفروض غسله لا يجزئ؛

(1)

"المفهم" 1/ 530.

ص: 84

لإخراجه صلى الله عليه وسلم يديه من تحت الجبة، ولم يَكْتَفِ فيما بقي منهما بالمسح عليه، وما أكثر تساهل العوامّ في هذه المسألة، فترى بعضهم لا يعتنون بإكمال محلّ الفرض في الغسل، ولا سيّما إذا كانت عليهم ثيابٌ ضيّقةٌ، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.

15 -

(ومنها): أنه يُستَدَلّ به للمذهب الصحيح القائل بوجوب تعميم الرأس بالمسح، وهو مذهب مالك، والبخاريّ، لكونه صلى الله عليه وسلم كَمَّلَ بالمسح على العمامة، ولم يَكْتَف بالمسح على ناصيته فقط، وقد تقدّم في المسائل المذكورة في "باب صفة الوضوء" أن هذا المذهب هو الحقّ، وحاصله أن تعميم الرأس بالمسح واجب، ولكن لا يجب على الشعر فقط، بل على الرأس، وما عليه من العمامة، ونحوها، والله تعالى أعلم.

16 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن يسير التفريق في الطهارة لا يُفسدها، قال أبو محمد عبد الوهّاب: لا يُختَلف في أن التفريق غير المتفاحش لا يُفسد الوضوء، واختُلف في الكثير المتفاحش، فرُوي عن ابن وهب أنه يُفسده في العمد والسهو، وهو أحد قولي الشافعيّ، وحُكي عن ابن عبد الحكم أنه لا يُفسده في الوجهين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ في قول آخر، وعند ابن القاسم أنه يُفسده مع العمد، أو التفريط، ولا يُفسده مع السهو، وقال أبو الفضل عياضٌ: إن مشهور المذهب أن الموالاة سنّةٌ، وهذا هو الصحيح؛ بناءً على ما تقدّم من أن الفرائض محصورة في الآية، وليس في الآية ما يدلّ على الموالاة، وإنما أُخذت من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يُروَ عنه قطّ أنه فرّق تفريقًا متفاحشًا، واختلف في الفرق بين اليسير والكثير، فقيل: ذلك يرجع إلى الاجتهاد، وليس فيه حدّ، وقيل: جفاف الوضوء هو الكثير. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي أن الموالاة من مستحبّات الوضوء؛ لأنه لم يَرِد ما يدلّ على وجوبه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

17 -

(ومنها): مشروعيّة خدمة أهل العلم والفضل.

18 -

(ومنها): جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 1/ 530.

ص: 85

خلف بعض أمته، حيث صلّى هنا خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وسيأتي في "كتاب الصلاة" صلاته خلف أبي بكر رضي الله عنه.

19 -

(ومنها): بيان حكم المسبوق في صلاته، وهو أنه يُصلّي مع الإمام ما أدركه، ثم يقضي بعد سلام الإمام ما سُبِق به، ولا يسقط ذلك عنه، قال النوويّ: بخلاف قراءة الفاتحة، فإنها تسقط عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعًا انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النووي من سقوط الفاتحة عن المسبوق، وإن قال به جمهور الفقهاء، إلا أنه خلاف الراجح، وقد حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ" بأدلّتها، وسأتعرّض لها في هذا الشرح أيضًا في الموضع المناسب لها من "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى -.

20 -

(ومنها): طلب اتّباع المسبوق للإمام في ركوعه وسجوده وجلوسه، وإن لم يكن موضع جلوس المأموم.

21 -

(ومنها): أن المأموم إنما يفارق الإمام بعد سلامه، لا قبله.

22 -

(ومنها): أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت، حيث إن الصحابة رضي الله عنهم فعلوها في أول الوقت، ولم ينتظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم في ذلك.

23 -

(ومنها): أن من بادر إلى الطاعة يُشكَر.

24 -

(ومنها): أن الإمام الراتب إذا تأخّر عن أول الوقت استُحِبَّ للجماعة أن يقدّموا أحدهم، فيصلّي بهم، إذا وَثقوا بحسن خلق الإمام، وأنه لا يتأذّى من ذلك، ولا يترتّب عليه فتنة، فأما إذا لم يَأمنوا أذاه، فإنهم يصلّون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد استُحبّ لهم إعادتها معهم، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ رضي الله عنه بذلك، فقد أخرج المصنّف في "الصلاة"، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ، فإنها لك نافلة"، وفي لفظ: "ثم إن

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 173.

ص: 86

أقيمت الصلاة، فصلّ معهم، فإنها زيادة خير"، وفي لفظ: قال: "صلِّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصلِّ".

25 -

(ومنها): بيان فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حيث قدّموه للصلاة بهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[633]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: فَغَسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيْه، وَمَسَحَ بِرَأْسِه، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنة، وقد تغيّر قبل موته بثلاث سنين، لكنه حُجب عن الناس، فلم يُحدّث بعد اختلاطه (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

و"يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ" هو الأنصاريّ المذكور في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد يحيى بن سعيد الماضي، وهو عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جُبير، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ) الضمير لعبد الوهّاب الثقفيّ؛ أي قال عبد الوهّاب في روايته بعد قوله: "فتوضّأ": "فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، وَمَسَحَ بِرَاسِه، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ"، يعني أنه فسّر قوله:"فتوضّأ" بقوله: "فغسل .. إلخ".

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية الليث، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(182)

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا عبد الوهّاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، أن نافع بن جبير بن مُطْعِم

ص: 87

أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة، يحدِّث عن المغيرة بن شعبة:"أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جَعَلَ يَصُبُّ الماء عليه، وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[634]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَيْنَا أنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ نَزَلَ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنْ إِدَاوَةٍ كَانَتْ مَعِي، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) المذكور قبل حديثين.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(أَشْعَثُ) بن أبي الشعثاء سُليم بن الأسود المحاربيّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ) المحاربيّ، أبو سلّام الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ جليلٌ [2](ت 84)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 11/ 153، له عند المصنّف حديثان فقط، هذا، وتقدّم له في "الإيمان" برقم [11/ 153](30) حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، مرفوعًا: "أتدري ما حقّ الله على العباد؟

" الحديث.

وقوله: (ذَاتَ لَيْلَةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي ليلةً من الليالي، وهي منصوبة على الظرفيّة، كما تقول: ذات مرّة؛ أي مرّةً من المرّات، ويقال للمذكّر: ذا صباح، وذا مساء، كما قال الشاعر [من الوافر]:

عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحِ

لأَمْرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ

(2)

(1)

"صحيح البخاريّ" 1/ 56.

(2)

"المفهم" 1/ 529.

ص: 88

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[635]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ، فَأَخَذْتُهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ جَاءَ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْن، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا، فَضَاقَتْ عَلَيْه، فَأَخْرَجَ يَدَهُ

(2)

مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْه، فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاة، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، ثُمَّ صَلَّى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُسْلِم) بن صُبيح - بالتصغير - الْهَمْدانيّ مولاهم، أبو الضُّحَى الكوفيّ العطار، مشهور بكنيته، وقيل: مولى آل سعيد بن العاص.

رَوَى عن النعمان بن بشير، وابن عباس، وابن عمر، وشُتَير بن شَكَل، ومسروق بن الأجدع، وعبد الرحمن بن هلال، وعلقمة بن قيس، وغيرهم، وأرسل عن علي بن أبي طالب.

ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، وأبو يعفور الصغير، وسعيد بن مسروق، وفِطْر بن خَلِيفة، وعطاء بن السائب، وعمرو بن مُرّة، ومغيرة بن مِقْسَم، وحصين بن عبد الرحمن، والحسن بن عبد الله، وجابر الجعفيّ، وأبو حَصين الأسديّ، وعاصم بن بَهْدَلة وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن سعد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقةً كثير الحديث، وقال ابن

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "فضاقت، فأخرج يده".

ص: 89

زَبْر: مات سنة مائة، وقال النسائيّ: ثقةٌ، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو حَصِين، قال: رأيت الشعبيّ، وإلى جنبه مسلم بن صُبَيح، فإذا جاءه شيءٌ، قال: مات ترى يا ابن صُبَيح؟ وقال العجليّ: تابعيّ، ثقةٌ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

[تنبيه]: وقع خطأ في هامش النسخة التي حقّقها محمد ذهني (1/ 158) حيث كُتب فيها هنا ترجمة مسلم بن خالد الزنجيّ، بدل مسلم بن صُبيح، وهذا غلط بلا شكّ، ومن العجائب أن مسلم بن خالد ليس من رجال مسلم أصلًا، كما هو ظاهر من ترجمته في "التهذيب" وغيره، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى وليّ التوفيق.

2 -

(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الكوفيّ المذكور قبل باب.

والباقون تقدّموا في سند أول الباب، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (فِي سَفَرٍ) هو في غزوة تبوك، وكان ذلك قبل الفجر، كما ثبت ذلك في بعض طرقه في "الصحيح"، وكانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة

(1)

.

وقوله: (خُذِ الْإِدَاوَةَ) بالكسر: إناء من جلد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[636]

(

) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عِيسَى، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ تَلَقَّيْتُهُ بِالْإِدَاوَة، فَصَبَبْتُ عَلَيْه، فَغَسَلَ يَدَيْه، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَغْسِلَ ذِرَاعَيْه، فَضَاقَتِ الْجُبَّةُ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّة، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، ثُمَّ صَلَّى بِنَا).

(1)

"الإعلام" 1/ 612.

ص: 90

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، فشيخاه، وعيسى تقدّموا في ثاني أحاديث الباب، والباقون تقدّموا في السند الماضي.

و"إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ": هو ابن راهويه، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدمت قريبًا.

وقوله: (تَلَقَّيْتُهُ) أي استقبلته، يقال: لَقِيَهُ، كرَضِيَه، وتلَقّاه، والتقاه

(1)

.

وقوله: (بِالْإدَاوَةِ) - بالكسر -، وهي والركوة، والمِطهرة، والميضأة، بمعنًى متقارب، وهو إناء الوضوء

(2)

.

وقوله: (ثُمَّ ذَهَبَ) أي شرع، وأخذ.

وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز مثل هذا، للحاجة، وفي الخلوة، وأما بين الناس، فينبغي أن لا يُفعَل لغير حاجة؛ لأن فيه إخلالًا بالمروءة. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ينبغي أن لا يُفعَل .. إلخ" فيه نظر، فقد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم أمام المغيرة، ألا يكون أسوة؟، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[637]

(

) - (حَدَّثَنَا

(4)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَة، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ، فَقَالَ لِي:"أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِه، فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى فِي سَوَادِ اللَّيْل، ثُمَّ جَاءَ، فَأفرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَة، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا، حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّة، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْه، وَمَسَحَ بِرَأْسِه، ثُمَّ أَهْويتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْه، فَقَالَ:"دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا).

(1)

راجع "القاموس" ص 1198.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 168.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 169.

(4)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 91

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ سنّيٌّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": زكريّا مدلّسٌ، ولم أره من حديثه إلا بالعنعنة، لكن أخرجه أحمد عن يحيى القطّان، عن زكريّا، والقطّان لا يَحمِل من حديث شيوخه المدلّسين إلا ما كان مسموعًا لهم، صرّح بذلك الإسماعيليّ. انتهى

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

4 -

(عَامِر) بن شَرَاحيل الشَّعبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ فاضلٌ [3](ت 101) أو بعد ذلك، عن مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والباقيان تقدّما قريبًا، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

[تنبيه]: هذا الإسناد مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

وقوله: (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلة من الليالي.

وقوله: (فِي مَسِيرٍ): هو السير، وقد يكون الطريقَ الذي يُسار فيه، وقد تقدّم أنه في غزوة تبوك.

وقوله: (حَتَّى تَوَارَى فِي سَوَادِ اللَّيْلِ) أي اختفى عن بصري، وغاب عنّي بسبب احتجابه بظلام الليل.

وقوله: (ثُمَّ أَهْويتُ) أي مددتُ يدي، ويقال: أشرت إليه، قال الجوهريّ: يقال: أهوى إليه بيده ليأخذه، قال الأصمعيّ: أهويتُ بالشيء: إذا أومأت به، وقال غيره: أهويتُ؛ أي قصدتُ الهُويّ من القيام إلى القعود، وقيل: الإهواء: الإمالة انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 370.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 151.

ص: 92

قال ابن بطال رحمه الله: فيه رحمة العالم، وأن للخادم أن يَقْصِد إلى ما يَعرِف من عادة مخدومه قبل أن يَأمره، وفيه الفهم عن الإشارة، وردّ الجواب عما يُفْهَم عنها؛ لقوله: فقال: "دعهما". انتهى

(1)

.

وقوله: (لِأَنْزِعَ خُفيْهِ) بكسر الزاي، من باب ضرب.

وقوله: (دَعْهُمَا) أي اترك الخفّين.

وقوله: (فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا) أي القدمين، قال ابن الملقّن رحمه الله: الضمير في قوله: "دَعْهما" للخفّين، وفي قوله:"أدخلتهما" للرجلين، فا لضميران مختلفان. انتهى

(2)

.

وقوله: (طَاهِرَتَيْنِ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وللكشميهنيّ:"وهما طاهرتان"، ولأبي داود:"فإني أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان"، وللحميديّ في "مسنده": قلت: يا رسول الله، أيَمْسَح أحدنا على خفيه؟ قال:"نعم إذا أدخلهما، وهما طاهرتان"، ولابن خزيمة من حديث صفوان بن عَسّال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَمْسَح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا، إذا سافرنا، ويومًا وليلةً إذا أقمنا"، قال ابن خزيمة: ذكرته للمزنيّ، فقال لي: حدَّث به أصحابنا، فإنه أقوى حجة للشافعي. انتهى.

وحديث صفوان، وإن كان صحيحًا لكنه ليس على شرط البخاريّ، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس، وأشار المزنيّ بما قال إلى الخلاف في المسألة.

ومحصله: أن الشافعي والجمهور حملوا الطهارة على الشرعية في الوضوء، وخالفهم داود، فقال: إذا لم يكن على رجليه نجاسة عند اللبس، جاز له المسح، ولو تيمم ثم لبسهما لم يُبَح له عندهم؛ لأن التيمم مبيح لا رافع، وخالفهم أصبغ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد حقّقنا في "شرح النسائيّ"، أن الراجح كون التيمّم رافعًا، لا مبيحًا، وسيأتي البحث هنا في محلّه - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"الفتح" 1/ 370.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 613.

ص: 93

قال: ولو غَسَل رجليه بنيّة الوضوء، ثم لبسهما، ثم أكمل باقي الأعضاء لم يُبَح المسح عند الشافعي ومن وافقه على إيجاب الترتيب، وكذا عند من لا يوجبه؛ بناءً على أن الطهارة لا تتبعض، لكن قال صاحب "الهداية" من الحنفية: شرطُ إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة، قال: والمراد بالكاملة وقت الحدث، لا وقت اللبس، ففي هذه الصورة إذا كَمَّل الوضوء، ثم أحدث جاز له المسح؛ لأنه وقتَ الحدث كان على طهارة كاملة. انتهى.

قال الحافظ: والحديث حجة عليه، لأنه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد سَلَّم أن المراد بالطهارة الكاملةُ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا تعقّب جيّدٌ، وقد قدّمتُ البحث في هذا مستوفًى في المسألة التاسعة من مسائل حديث جرير رضي الله عنه، ورجحت القول باشتراط كمال الطهارة قبل لبس الخفّ، كما دلّ عليه ظاهر الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فإني أدخلتهما، طاهرتين"، وقال:"نعم إذا أدخلهما، وهما طاهرتان"، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: ولو توضأ مرتبًا، وبقي غسل إحدى رجليه، فلبس ثم غسل الثانية، ولبس لم يُبَح له المسح عند الأكثر، وأجازه الثوريّ، والكوفيون، والمزنيّ صاحب الشافعيّ، ومُطَرِّف صاحب مالك، وابن المنذر، وغيرهم؛ لصدق أنه أدخل كلًّا من رجليه الخفين، وهي طاهرة.

وتُعُقّب بأن الحكم المرتب على التثنية، غير الحكم المرتب على الوحدة، واستضعفه ابن دقيق العيد؛ لأن الاحتمال باقٍ، قال: لكن إن ضم إليه دليلٌ يدلّ على أن الطهارة لا تتبعض اتجه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: مذهب الأولين عندي أقرب لأنه الذي يقتضيه ظاهر النصّ؛ إذ طهارة الوضوء لا تكون معتبرة إلا بكمالها.

وقد أجاد الإمام ابن خزيمة رحمه الله حيث ترجم في "صحيحه"، فقال: باب الدليل على أن لابس أحد الخفّين قبل غسل كلا الرجلين إذا لبس الخفّ الآخر بعد غسل الرجل الأخرى، غير جائز له المسح على الخفّين إذا أحدث؛ إذ هو لابس أحد الخفّين قبل كمال الطهارة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخَّص في المسح على

ص: 94

الخفّين إذا لبِسهما على طهارة، ومن ذكرنا في هذا الباب صفته هو لابس أحد الخفين على غير طهر؛ إذ هو غاسل إحدى الرجلين، لا كلتيهما عند لبسه أحد الخفّين. انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: وأصرح من حديث المغيرة رضي الله عنه هذا في الدلالة على الطهارة الكاملة حديثا أبي بكرة، وصفوان بن عسّال رضي الله عنهما، فأما حديث أبي بكرة رضي الله عنه، فلفظه:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام، ولياليهنّ، وللمقيم يومًا وليلةً، إذا تطهّر، فلبس خفّيه أن يَمسح عليهما"، حديث صحيح، رواه ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"، وقال الشافعيّ: إسناده صحيح، وقال البخاريّ: حديث حسنٌ.

فقد شرط إكمال الطهارة، وعقّبه بحرف الفاء.

وأما حديث صفوان رضي الله عنه، فرواه الدارقطنيّ بلفظ:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفّين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا، إذا سافرنا، ويومًا وليلةً إذا أقمنا". انتهى

(2)

.

والحاصل أن أرجح المذاهب مذهب من اشترط لبس الخفّين على طهارة كاملة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.

[فائدتان]

(3)

:

(الأولى): المسح على الخفين خاصّ بالوضوء، لا مدخل للغسل فيه بإجماع، والله تعالى أعلم.

(الثانية): لو نزع خفيه بعد المسح قبل انقضاء المدة عند من قال بالتوقيت، أعاد الوضوء عند أحمد، وإسحاق، وغيرهما، وغسل قدميه عند الكوفيين، والمزنيّ، وأبي ثور، وكذا قال ما لك، والليث، إلا إن تطاول، وقال الحسن، وابن أبي ليلى، وجماعة: ليس عليه غسل قدميه، وقاسوه على من مسح رأسه، ثم حلقه أنه لا يجب عليه إعادة المسح، وفيه نظر؛ قاله في "الفتح".

(1)

"صحيح ابن خزيمة" 1/ 96 - 97.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 621 - 622.

(3)

ذكر هاتين الفائدتين في "الفتح" 1/ 371.

ص: 95

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في هذا النظر نظرٌ، فبأي حجة نوجب عليه غسل قدميه، فإن نظرنا إلى النصوص، فلا نصّ، وإن نظرنا إلى الإجماع فلا إجماع، فإن المسألة خلافيّة، فكيف يكون نزع الخفّ ناقضًا للوضوء، فالذي يترجّح عندي ما ذهب إليه الحسن، ومن معه، فتبصر بالإنصاف، وقد استوفيت هذا البحث في "شرح النسائيّ"، فراجعه تجد فيه تحقيقات نفيسة، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) قال ابن الملقّن رحمه الله: فيه إضمارٌ، تقديره: فأحدث، فمسح عليهما؛ لأن وقت جواز المسح بعد الحدث، ولا يجوز قبله؛ لأنه على طهارة الغسل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن في بعض طرقه في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم تبرّز قِبَلَ الغائط، وأنه اتّبعه بالإداوة، فتعيّن حمله على أن المراد: فأحدث، فمسح عليهما، لا أنه جدّد الوضوء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأن وقت جواز المسح بعد الحدث، ولا يجوز قبله" هذا يحتاج إلى دليل؛ فما المانع من المسح، لو أراد أن يجدّد الوضوء؟، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أَولَ الكتاب قال:

[638]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثنا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيّ، عَنْ عُرْوَةً بْنِ الْمُغِيرَة، عَنْ أَبِيه، أنَّهُ وَضَّأَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فتوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، فَقَالَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون المعروف بالسمين، المروزيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 154.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 613.

ص: 96

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلُوليّ - بفتح السين المهملة، ولامين - مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، تُكُلِّم فيه للتشيع [9].

رَوَى عن إسرائيل، وزهير بن معاوية، وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، والحسن بن صالح، وداود بن نصير الطائي، وهريم بن سفيان، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو نعيم، وهو من أقرانه، وابنا أبي شيبة، وعباس العنبري، وأبو كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا بن دينار، وأحمد بن سعيد الرِّبَاطي، وعباس الدُّوري، ويعقوب بن شيبة السدوسي، وجماعة.

قال ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقةٌ، وكان فيه تشيع، وقد كتبت عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاري: مات سنة (204)، وقال أبو داود وغيره: مات سنة (205).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (274) و (288) و (538) و (1127) و (1190) و (1766) و (2337) و (2460).

3 -

(عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمْدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، مولى عمرو بن عبد الله الوادعيّ، أخو زكريا بن أبي زائدة، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6]،

رَوَى عن قيس بن أبي حازم، وعبد الله بن أبي السفر، وعون بن أبي جُحيفة، وأبي إسحاق السبيعيّ، والشعبيّ، وعكرمة، مولى ابن عباس، وجماعة.

ورَوَى عنه ابن أخيه يحيى بن زكريا، وبهز بن أسد، وزيد بن الحباب، وعبد الرحمن بن مهديّ، وأبو عامر الْعَقَديّ، والنضر بن شُميل، وإسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وهُشيم، ومحمد بن عرعرة، والأصمعيّ، وغيرهم.

قال ابن مهديّ: كان كَيِّس الحفظ، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالحٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ليس به بأس، وقال الآجريّ، عن أبي داود: عمر يَرَى القدر، وقال في موضع آخر: زكريا أعلى من أخيه عمر بكثير، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وقال الْعُقيليّ: كان يَرَى القدرَ، وهو في الحديث مستقيم، وقال يعقوب بن سفيان: عمر لا بأس به، وزكرياء ثقةٌ.

ص: 97

تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (274) و (553) و (2693).

والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (وَضَّأَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي صبّ عليه ماء الوضوء.

وقوله: (فَقَالَ لَهُ) أي كلّم المغيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن خفّيه، وأراد أن ينزعهما.

وقوله: (فَقَالَ: "إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) ضمير "قال " للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وجملة:"إني .. إلخ" علّة لمحذوف، دلّت عليه الروايات السابقة؛ أي قال له:"دعهما، فإني أريد أن أمسح عليهما؛ لأني أدخلتهما طاهرتين"، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّاني الجيّاني رحمه الله بعد ذكره سند الإمام مسلم رحمه الله من طريقي زكريّا، وعمر ابني أبي زائدة ما نصّه: هكذا رُوي لنا عن مسلم إسناد هذا الحديث عن عمر بن أبي زائدة، من جميع الطُّرُق ليس بينه وبين الشعبيّ أحدٌ، وذكر أبو مسعود أن مسلم بن الحجاج خَرَّجه عن ابن حاتم، عن إسحاق، عن عمر بن أبي زائدة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ.

وهكذا قال أبو بكر الْجَوْزقيّ في كتابه الكبير، قال: ورواه زكريّا، عن عامر الشعبيّ، عن عروة، ثم قال: ورواه عُمر بن أبي زائدة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ، عن عروة.

قال أبو بكر: أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن الشَّرْقيّ، قال: نا محمد بن حيّويه الإسفرايينيّ، قال: نا عبد الله بن رجاء، نا عمر بن أبي زائدة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه أنه وضّأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأهويتُ إلى خفّيه، فقال:"دعهما، فإني أدخلتهما، وهما طاهرتان"، فمسح على خفّيه.

وذكر البخاريّ في "تاريخه" أن عمر بن أبي زائدة قد سمع من الشعبيّ، وأنه كان يَبعَث ابنَ أبي السفر، وزكرياء إلى الشعبيّ يسألانه. انتهى كلام أبي علي الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 791 - 792.

ص: 98

قال النوويّ رحمه الله بعد ذكره كلام الجيّانيّ هذا ما نصّه: وقد ذَكَر الحافظ، أبو محمد خلف الواسطيّ في "أطرافه" أن مسلمًا رواه عن ابن حاتم، عن إسحاق، عن عمر بن أبي زائدة، عن الشعبيّ، كما هو في الأصول، ولم يذكر ابن أبي السفر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن سند المصنّف المذكور هنا بلا واسطة ابن أبي السفر صحيح؛ لأن البخاريّ، وهو من هو في نقده قد أثبت سماع عمر بن أبي زائدة عن الشعبيّ، فالظاهر أنه سمع هذا الحديث منه، ولا يعارضه ما ذكره الْجوزقيّ من أنه أدخل ابن أبي السفر واسطة بينه وبين الشعبيّ؛ لإمكان حمله على أنه سمعه بواسطة، وبدونها، وقد ثبت نظير هذا في أحاديث الثقات.

وعلى تقدير ترجيحه فلا يؤثّر في الصحّة؛ لأن المصنّف إنما ذكره متابعة لرواية أخيه زكريّا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[639]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثنا يَزِيدُ - يَعْني ابْنَ زُريعٍ - حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ:"أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْه، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّة، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّة، وَألقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْه، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْه، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِه، وَعَلَى الْعِمَامَة، وَعَلَى خُفَّيْه، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْم، وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلَاة، يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 170 - 171.

ص: 99

الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأ إِلَيْه، فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْتُ، فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ) - بفتح الموحّدة، وكسر الزاي - أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن عبد الوارث بن سعيد، وفُضيل بن سليمان، وعبد الوهاب الثقفيّ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، ومعتمر بن سليمان، وابن أبي عديّ، ويزيد بن زُريع، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وموسى بن هارون، وزكرياء بن يحيى الساجيّ، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال النسائيّ: صالحٌ، وقال مرةً: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثّقه مسلمةُ بن قاسم.

قال ابن أبي عاصم: مات سنة سبع وأربعين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط

(1)

، برقم (274) و (421) و (987) و (2124) و (2298).

2 -

(يَزِيدُ بْنَ زُريْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ) هو: حميد بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة الْخُزَاعيّ مولاهم، وقيل غير ذلك، البصريّ، واسم أبي حميد: تِير، ويقال: تيرويه، ويقال: زاذويه، ويقال: داور، ويقال: طَرْخان، ويقال: مِهْران، ويقال: عبد الرحمن، ويقال: مَخْلَد، ويقال غير ذلك. ثقة مدلّس [5].

روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وبكر بن

(1)

هكذا سجّل له في برنامج الحديث (صخر)، وذكر في "تهذيب التهذيب" عن صاحب "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه تسعة أحاديث، وهو محلّ نظر، والله تعالى أعلم.

ص: 100

عبد الله المزنيّ، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، والحسن البصري، وغيرهم.

وروى عنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وابن إسحاق، والمعتمر بن سليمان، ووهيب بن خالد، والقطان، وزائدة، وغيرهم.

قال البخاري: قال الأصمعي: رأيت حميدًا، ولم يكن بطويل. وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الدارمي: قلت لابن معين: يونس بن عبيد أحب إليك في الحسن أو حميد؟ قال: كلاهما. قال الدارمي: يونس أكبر من حميد بكثير. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وأكبر أصحاب الحسن قتادة، وحميد. وقال ابن خِراش: ثقة صدوق، وقال مرة: في حديثه شيء، يقال: إن عامة حديثه عن أنس إنما سمعه من ثابت. وقال يحيى بن أبي بكير، عن حماد بن سلمة: أخذ حميد كتب الحسن فنسخها، ثم ردها عليه. وقال الأصمعي، عن حماد: لم يَدَع حميد لثابت علمًا إلا ووعاه، وسمعه منه. وقال مؤمل عن حماد: عامة ما يروي حميد عن أنس سمعه من ثابت. وقال أبو عبيدة الحداد عن شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبّته فيها ثابت. وقال علي بن المديني عن أبي داود: سمعت شعبة يقول: سمعت حبيب بن الشهيد يقول لحميد وهو يحدثني: انظر ما تحدث به شعبة، فإنه يرويه عنك، ثم يقول هو: إن حميدًا رجل نَسِيّ، فانظر ما يحدثك به. وقال عيسى بن عامر بن أبي الطيب، عن أبي داود، عن شعبة: كل شيء سمع حميد عن أنس خمسة أحاديث. وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان حميد الطويل إذا ذهبتَ تَقِفه على بعض حديث أنس يَشُكّ فيه. وقال الحميدي، عن سفيان: كان عندنا شُوَيْبٌ بصري، يقال له: دُرُست، فقال لي: إن حميدًا قد اختلط عليه ما سمع من أنس، ومن ثابت، وقتادة عن أنس إلا شيئًا يسيرًا، فكنت أقول له: أخبرني بما ثبت عن غير أنس، فأسأل حميدًا عنها، فيقول: سمعت أنسًا. وقال يوسف بن موسى، عن يحيى بن يعلى المحاربي: طرح زائدة حديث حميد الطويل. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة، وقد حدث عنه

ص: 101

الأئمة، وأما ما ذُكر عنه أنه لم يسمع من أنس إلا مقدار ما ذُكر، وسمع الباقي من ثابت عنه، فأكثر ما في بابه أن بعض ما رواه عن أنس يُدَلّسه، وقد سمعه من ثابت. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، إلا أنه ربما دلس عن أنس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هو الذي يقال له: حميد بن أبي داود، وكان يدلس، سمع من أنس ثمانية عشر حديثًا، وسمع من ثابت البناني، فدلس عنه. وقال أبو بكر البرديجي: وأما حديث حميد فلا يُحتجّ منه إلا بما قال: حدثنا أنس. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: فعلى تقدير أن تكون أحاديث حميد مُدَلَّسةً، فقد تبيّن الواسطة فيها، وهو ثقة صحيح

(1)

.

وقال الحافظ: رواية عيسى بن عامر أن حميدًا إنما سمع من أنس خمسة أحاديثَ قول باطلٌ، فقد صرّح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير، وفي "صحيح البخاري" من ذلك جملة، وعيسى بن عامر ما عرفته، وحكاية سفيان عن دُرُست ليست بشيء، فإن دُرُست هالك، وأما ترك زائدة حديثه فذاك لأمر آخر؛ لدخوله في شيء من أمور الخلفاء. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ ما قاله الحافظ العلائيّ، فأحاديث حميد كلها صحيحة؛ لأنه على تقدير أنه لم يسمع بعضها عن أنس، فقد عُرف من دلّس عنه، وهو ثابتٌ البنانيّ، وهو ثقة جليل، فتبيّن أن تدليسه لا يضرّ.

وبهذا يُردّ على الحافظ في عدّه حميدًا الطويل من أهل الطبقة الثالثة من مراتب المدلّسين، وهم الذين أكثروا من التدليس، فلم يُحْتَجّ بهم إلا إذا صرّحوا بالسماع، والحقّ أنه ممن يُقبل تدليسه؛ لكونه لا يدلّس إلا عن ثقة.

وبه يتبيّن أيضًا أن قول ابن حبّان: "إنه لا يوجد في الدنيا من يُدلس عن ثقة غير سفيان بن عيينة" غير صحيح، فقد ثبت عن حميد الطويل أنه لا يدلس إلا عن ثقة، فافهم هذا، فإنه مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

أي صحيح الحديث.

(2)

راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 493 - 494.

ص: 102

وقال رُسْته، عن يحيى بن سعيد: مات حميد الطويل، وهو قائم يصلي، وأرّخه ابن سعد وجماعة سنة (142)، وقال إبراهيم بن حميد الطويل: مات سنة (43)، وقد أتت عليه (75) سنة، ولم أسمع منه شيئًا، وكذا أرّخه عمرو بن علي وغيره.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.

4 -

(بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [3](ت 106)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

[تنبيه]: قد تكلّم النقّاد في هذا الإسناد، فقال الحافظ أبو عليّ الغسانيّ: قال أبو مسعود الدمشقيّ: هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن يزيد بن زُريع، عن عروة بن المغيرة، وخالفه الناس، فقالوا فيه: حمزة بن المغيرة، بدل عروة، وأما أبو الحسن الدارقطنيّ، فنَسَبَ الوهم فيه إلى محمد بن عبد الله بن بَزِيع لا إلى مسلم، هذا آخر كلام الغسانيّ.

قال القاضي عياض رحمه الله: حمزة بن المغيرة هو الصحيح عندهم، في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الأُخَر، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة، والحديث مرويّ عنهما جميعًا، لكن رواية بكر بن عبد الله بن المزنيّ إنما هي عن حمزة بن المغيرة، وعن ابن المغيرة، غير مُسَمًّى، ولا يقول بكر: عروة، ومَن قال:"عروة" عنه فقد وَهِمَ، وكذلك اختُلِف عن بكر، فرواه معتمر في أحد الوجهين عنه، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، وكذا رواه يحيى بن سعيد، عن التيميّ، وقد ذكر هذا مسلم، وقال غيرهم: عن بكر، عن المغيرة، قال الدارقطنيّ: وهو وَهَمٌ. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما ذكروه أن الصحيح في هذا الإسناد إنما هو عن بكر بن عبد الله المزنيّ، عن حمزة بن المغيرة، لا عن عروة، وذلك لمخالفة محمد بن عبد الله بن بَزِيع للحفّاظ فيه، فقد رواه النسائيّ في "سننه" عن عمرو بن عليّ الفلاس، وحميد بن مسعدة، كلاهما عن يزيد بن

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 88 - 89، و"شرح النوويّ" 3/ 171.

ص: 103

زُريع، قال: حدثنا حميد، قال: حدّثنا بكر بن عبد الله المزنيّ، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال: "تخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

ورواه أبو عوانة في "مسنده" فقال: حدّثنا يوسف القاضي، قال: حدّثنا مسدّد، قال: حدّثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا حميد، قال: حدّثنا بكر بن عبد الله المزنيّ، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال: "تخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

فقد اتّفق ثلاثة من الحفّاظ الذين رووا الحديث عن يزيد بن زريع على أن بكرًا المزنيّ إنما رواه عن حمزة بن المغيرة، لا عن عروة، فرواية محمد بن عبد الله بن بزيع مخالفًا لهم، حيث جعله عن بكر، عن عروة بن المغيرة تعتبر شاذّة.

والحاصل أن الحديث مرويّ عن حمزة، وعروة ابني المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، لكن رواية بكر المزنيّ إنما هي عن حمزة بن المغيرة، عن ابن المغيرة غير مسمّى، ولا يقول بكر: عن عروة.

أما روايته عن حمزة فقد قدّمناها من تخريج النسائيّ وأبي عوانة، وأما روايته عن ابن المغيرة غير مسمّى، فقد رواها مسلم هنا من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: حدّثني بكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه.

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيميّ، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة.

ورواها أيضًا ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن التيميّ، عن بكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه.

وخلاصة القول أن الصحيح كون رواية بكر المزني، عن حمزة، لا عن عروة، وأن الخطأ فيه من شيخ مسلم، محمد بن عبد الله بن بزيع، كما قال الدارقطنيّ، لا من مسلم كما ظنّه أبو مسعود الدمشقيّ؛ لأنه لا دليل على ذلك؛ إذ لم يوجد أحد ممن روى عن شيخه من سلك الجادّة، فروى ما يوافق الحفاظ، فيذكر في روايته حمزة بدل عروة، فأما إذ لم يوجد هذا فليس نسبة

ص: 104

الخطأ والوهم إلى مسلم صوابًا؛ إذ لا حجة فيه، فتبصّر

(1)

، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) تقدّم أن الصواب في هذا حمزة أخوه، لا عروة (عَنْ أَبِيهِ) المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه (قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي تأخّر عن الناس (وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ) أي بأمره، وفي رواية النسائيّ:"تخلّف يا مغيرة، وامضوا أيها الناس"، وفي رواية له: "فقرع ظهري بعصًا كانت معه، فعدل، فعدلت

" الحديث (فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ) أي من بول، أو غائط (قَالَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ) - بكسر الميم -: الإداوة، والفتحُ لغةٌ، ومنه حديث: "السواك مَطْهَرَةٌ للفم"

(2)

- بالفتح - وكلُّ إناء يُتَطَهَّر به مَطْهَرةٌ، والجمع المطاهر؛ قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

والمعنى هنا: أي فأتيته بإناء فيه ماء للطهارة.

(فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ) وفي الرواية الآتية في الصلاة من طريق عروة بن المغيرة، عن أبيه: "وغسل يديه ثلاث مرّات، ثم غسل وجهه

" الحديث.

(ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ) بكسر السين المهملة، وضمّها، يقال: حسر عن ذراعه حَسْرًا، من بابي ضرب، وقتل: كشف، وفي المطاوعة: فانحسر، وحسرت المرأة ذراعها، وخمارها

(4)

: كشفته، فهي حاسرٌ بغير هاء

(5)

.

(1)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع بن هادي في كتابه "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ" ص 83 - 89 فقد أجاد، وأفاد.

(2)

حديث صحيح، أخرج أحمد في "مسنده" رقم (7) و (63)، والنسائيّ في "سننه" رقم (5).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 380.

(4)

كان في "المصباح" تقييده بكونه من باب ضرب، فحذفته؛ لأنه من بابي ضرب، وقتل كسابقه، كما تفيده عبارة "القاموس المحيط"، حيث قال: حسره يَحْسُرُه - أي بالضمّ -، ويَحْسِرُهُ - أي بالكسر -: كشفه. انتهى.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 135.

ص: 105

(عَنْ ذِرَاعَيْه، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ) - بضمّ الكاف، وتشديد الميم -: مدخل اليد، ومخرجها من الثوب، جمعه أكمام، وكِمَمَة - بكسر، ففتح - كعِنبَةٍ

(1)

.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد أن يشمّر الثوب عن ذراعه؛ ليمكنه غسلهما ضاق عليه الكمّ (فَأَخْرَجَ يَدَهُ) المراد جنس اليد، فيشمل اليدين، وفي رواية أبي داود:"ثم حسر عن ذراعيه، فضاق كُمَّا جبّته، فأدخل يديه، فأخرجهما من تحت الجبّة، فغسلهما إلى المرفق"(مِنْ تَحْتِ الْجُبَّة، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ) - بفتح الميم، وكسر الكاف، بوزن مَجْلِس -: مُجْتَمَع رأس الكتف والْعَضُد

(2)

(وَغَسَلَ ذِرَاعَيْه، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ) قال في "القاموس": الناصية، والناصاة: قُصَاصُ الشعر. انتهى

(3)

. (وَعَلَى الْعِمَامَةِ) أي ومسح على العمامة مع الناصية، ففيه تكميل مسح الرأس بالعمامة، فليس فيه حجة لمن قدّر مسح الرأس بربعه؛ لأنه ما اكتفى بمسح الناصية، بل أكمله بمسح العمامة، فيكون دليلًا لمن يرى وجوب تعميم الرأس بالمسح، إما مباشرة، أو بما عليه من العمامة ونحوه.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا مما احتجّ به أصحابنا على أن مسح بعض الرأس يكفي، ولا يشترط الجميع؛ لأنه لو وجب الجميع لَمَا اكتفى بالعمامة عن الباقي؛ فإن الجمع بين الأصل والبدل في عضو واحد لا يجوز، كما لو مَسَحَ على خفّ واحد، وغسل الرجل الأخرى، وأما التتميم بالعمامة فهو عند الشافعيّ، وجماعة على الاستحباب؛ لتكون الطهارة على جميع الرأس، ولا فرق بين أن يكون لَبِس العمامة على طهر، أو على حدث، وكذا لو كان على رأسه قلنسوة، ولم ينزعها مسح بناصيته، ويستحب أن يُتِمّ على القلنسوة كالعمامة.

ولو اقتصر على العمامة، ولم يمسح شيئًا من الرأس لم يُجْزِه ذلك عندنا بلا خلاف، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأكثر العلماء رحمهم الله تعالى.

وذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى جواز الاقتصار، ووافقه عليه جماعة من السلف. انتهى.

(1)

راجع "المصباح المنير"، و"المعجم الأوسط" في مادّة كم.

(2)

"القاموس المحيط" ص 129، و"المصباح" 2/ 624.

(3)

"القاموس" ص 1205.

ص: 106

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد ومن معه من جواز الاقتصار على مسح العمامة هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك.

والحاصل أنه يجب تعميم الرأس بالمسح، إما مباشرة، أو على ما لا يلاقيه من العمامة، ونحوها، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة العاشرة من مسائل الحديث [544](226) فراجعه تستفد علمًا جَمًّا.

[تنبيه مهمّ]: ثم وجدت للعلّامة أبي الحسن عبيد الله بن محمد المباركفوريّ، صاحب "مِرْعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" رحمه الله بحثًا نفيسًا في هذه المسألة أحببت إيراده هنا؛ تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد، قال رحمه الله:

استُدِلّ بقوله: "فمسح بناصيته، وعلى العمامة" لما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، ومن معهما من أنه لا يجوز اقتصار المسح على العمامة، بل لا بدّ مع ذلك من المسح على الناصية، قيل: رواية مسلم هذه مفصّلة يُحمَل عليها ما في بعض طرقها، من أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفّين والعمامة، أخرجها الترمذيّ، وصححها.

وذهب أحمد، وغيره من فقهاء أصحاب الحديث إلى جواز الاقتصار على مسح العمامة.

واحتجّوا بحديث عمرو بن أُميّة رضي الله عنه عند أحمد، والبخاريّ، وابن ماجه، وبحديث بلال رضي الله عنه عند أحمد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وبحديث سلمان رضي الله عنه عند أحمد، وبأحاديث أبي أمامة، وخزيمة بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي ذرّ رضي الله عنهم عند الطبرانيّ، وبحديث أنس رضي الله عنه عند البيهقيّ، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الزيلعيّ في "نصب الراية".

واعتذر الأولون عن هذه الأحاديث بوجوه، كلُّها مخدوشة:

(فمنها): أنها معلولة، مضطربةُ الأسانيد، وفيها رجال مجهولون.

وتُعُقّب بأن أكثرها أحاديمث صحيحة مستقيمة، كما حقَّق صحّتها الحافظ في "التلخيص" وغيره.

(ومنها): أن أحاديث المسح على العمامة من أخبار الآحاد، فلا تعارض الكتاب؛ لأن الكتاب يوجب مسح الرأس.

ص: 107

وتُعُقّب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة؛ لأن من قال: قَبَّلتُ رأس فلان يصدُق، ولو بحائل.

(ومنها): أن الله تعالى فرض المسح على الرأس، والحديث في المسح على العمامة محتَمِل للتأويل، فلا يُترك المتيقّن للمحتَمِل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس.

وتُعُقّب بأن هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني، وقد تقدّم جوابه، وتوضيحه أنه أجزأ المسح على الشعر، ولا يسمّى رأسًا.

[فإن قيل]: يُسمّى رأسًا مجازًا بعلاقة المجاورة.

[قيل]: والعمامة كذلك بتلك العلاقة، فإنه يقال: قبّلت رأسه، والتقبيل على العمامة، ويؤيِّد ذلك حملهم قراءة الجرّ في {وَأَرْجُلَكُمْ} في آية الوضوء على حالة التخفّف، فتأمّل.

(ومنها): أن أحاديث المسح على العمامة مجملة، وحديث المغيرة رضي الله عنه عند مسلم مفصَّلٌ، فتُحمل عليه، ويقال: إن أداء المفروض من مسح الرأس وقع بمسح الناصية؛ إذ هي جزء الرأس، وصارت العمامة تَبَعًا له، يعني أن المسح على العمامة كان زائدًا على أصل الفرض، وتعميمًا وتكميلًا، فرَخَّص لهم صلى الله عليه وسلم بفعله بعد مسح الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم.

وتُعُقِّب بأنه لا موجب لحمل أحاديث المسح على العمامة على حديث المغيرة، فإنها وقائع مختلفة، ليست حكاية عن فعل واحد في وقت واحد، وأما أن المسح على العمامة كان زائدًا على أصل الفرض، وإتمامًا، ففيه أنه مجرّد دعوى، لا دليل عليها، فلا يُلتفت إليها.

(ومنها): أنها حكاية حال، فيجوز أن تكون العمامة صغيرةً رقيقةً بحيث تمنع وصول البلّة منها إلى الرأس.

وتُعُقّب بأن الكلّ من قوله، وفعله، وتقريره حجة لنا، وفي إنشاء مثل هذه الاحتمالات في أفعاله صلى الله عليه وسلم، وأحواله من غير دليل ردٌّ للسنّة الصحيحة الثابتة، وأيضًا لا يَتحقّق وصول البلّة إلى الرأس إلا إذا كانت العمامة غير ذات أكوار، وفيه إبطال لمسمّى العمامة.

ص: 108

(ومنها): أنه يَحتَمِل أن ذلك كان قبل نزول المائدة.

وتُعُقّب بأنه لا يثبت النسخ بالاحتمال حتى يُعلَم التاريخ، وأيضًا لا منافاة بين الآية وبين أحاديث المسح حتى يُحتاج إلى التوفيق، أو ادّعاء النسخ.

(ومنها): ما قال محمد بن الحسن في "موطّئه": بلغنا أن المسح على العمامة كان فتُرِك.

وتُعُقّب بأنه لا يثبت النسخ بمجرّد قول محمد بن الحسن، ولا بدّ لمن يَدَّعي النسخ أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح.

(ومنها): أن الخطاب في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] كالخطاب في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، ولا يجوز مسح الوجه في التيمّم بحائل، فكذلك في الرأس.

وتُعُقّب بأنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة المسح على العمامة، فقلنا به، ولم يثبت مسح الوجه في التيمّم بحائل، لا بحديث صحيح، ولا ضعيف، ولا بأثر صحابيّ، ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة، ولا حاجة إلى ردّ أحاديث المسح على العمامة بمثل هذا العذر الواهي.

(ومنها): أن المراد بقوله: "مسح عمامته" مسح ما تحتها من قبيل إطلاق الحالّ على المحلّ.

وتُعُقّب بأن هذا مجاز، وهو خلاف الأصل، فلا يُحمَل عليه إلا بدليل، ولا دليل.

(ومنها): أنه يَحتَمِل أنه مسح ناصيته، وسَوَّى عمامته بيديه، فحسِبَ الراوي تسوية العمامة عند المسح مسحًا؛ لكونه بعيدًا.

وتُعُقّب بأنه نسبة للخطأ إلى الصحابة من غير دليل، ورفعٌ للثقة بالأحاديث بمثل هذه الاحتمالات الضعيفة.

(ومنها): أنه يَحتَمِل أنه كان ذلك لمرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة.

وتُعُقّب بأن هذا أيضًا احتمالٌ محضٌ، فلا يُلتفت إليه؛ لما فيه من ردّ السنة الصحيحة الثابتة.

ص: 109

وبهذا علمتَ أن الحقّ ما ذهب إليه الإمام أحمد، ومن معه من ثبوت المسح على العمامة، كثبوته بالإجماع على الرأس.

والحاصل أنه ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة، فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكلّ صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مذكور في كتب الأئمة الصحاح، والنبيّ صلى الله عليه وسلم مُبيّن لأمر الله، فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين. انتهى كلام عبيد الله المباركفوريّ رحمه الله في "شرحه على المشكاة"

(1)

ببعض تصرّف، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَعَلَى خُفَّيْهِ) أي ومسح أيضًا على خفّيه (ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ) أي وصلنا إلى الصحابة الذين تقدّموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى المغيرة، بأمره صلى الله عليه وسلم (وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلَاةِ) هي صلاة الصبح، كما بُيِّن في رواية أخرى (يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي عَلِمَ عبد الرحمن بن عوف بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم (ذَهَبَ) أي شرع، وبدأ (يَتَأَخَّرُ) عن إمامته؛ لظنّه أنه صلى الله عليه وسلم يتقدّم، فيؤمّ الناس (فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ) أي أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عبد الرحمن؛ ليُتمّ صلاته إمامًا (فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ) وفي الرواية الآتية: "فلما سلّم عبد الرحمن بن عوف"(قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْتُ، فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا) - بفتح السين، والموحّدة، والقاف -، مبنيًّا للفاعل؛ أي الركعة الأولى التي فاتتنا قبل حضورنا.

زاد في رواية عروة الآتية: "فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم، ثم قال: أحسنتم، أو قال: قد أصبتم، يَغْبِطهم أن صَلَّوا الصلاة لوقتها".

[فإن قلت]: كيف بقي عبد الرحمن بن عوف إمامًا في صلاته، وتأخر أبو بكر الصديق رضي الله عنهما ليتقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

[أجيب]: بوجود الفرق بينهما، وذلك أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبيّ صلى الله عليه وسلم التقدم؛ لئلا يَخْتَلّ ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية

(1)

راجع "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 2/ 103 - 104.

ص: 110

أبي بكر رضي الله عنه، فإنه كان في أول ركعة من صلاته، فلا يحصل بتقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم على الناس اختلالٌ؛ أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

، ومسائل الحديث قد استوفيتها في الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادتها هنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[640]

(

) - (حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَة، عَنْ أَبِيه، أَنَّ النَّبِيَّ

(2)

صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْن، وَمُقَدَّمِ رَأْسِه، وَعَلَى عِمَامَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

3 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقّب بالطفيل، ثقة، من كبار [9](ت 187)، وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

4 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نَزَل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [41](143) وهو ابن (97) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ) تقدّم أنه حمزة بن المغيرة بن شعبة، وتقدّم أن من قال فيه عروة بن المغيرة، فقد وَهِمَ، والحديث، وإن كان مرويًّا عن حمزة، وعروة كليهما، إلا رواية بكر بن عبد الله المزنيّ عن حمزة، لا عن أخيه عروة، فتنبّه.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 173.

(2)

وفي نسخة: "أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 111

وقد تقدّم شرح الحديث، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[641]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَن، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَة، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي، غير:

1 -

(الْحَسَنِ) وهو: الحسن بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ فاضلٌ مشهور، وكان يرسل كثيرًا ويدلّس، من كبار [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

[تنبيه]: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون، رَوَى بعضهم عن بعض، وهم سليمان بن طَرْخان، وبكر بن عبد الله، والحسن البصريّ، وابن المغيرة، واسمه حمزة، كما بيّنته آنفًا، وهؤلاء التابعيون الأربعة بصريون إلا ابن المغيرة، فإنه كوفيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[642]

(

) (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّان، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ الْحَسَن، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ بَكْرٌ: وَقَدْ سَمِعْتُ

(1)

مِنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِه، وَعَلَى الْعِمَامَة، وَعَلَى الْخُفَّيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ، أبو بكر بُندار البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

وفي نسخة: "سمعته من ابن المغيرة".

ص: 112

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ المذكور في الباب الماضي.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(التَّيْمِيُّ) هو: سليمان بن طَرْخَان أبو المعتمر المذكور في السند الماضي.

وقوله: (قَالَ بَكْرٌ: وَقَدْ سَمِعْتُ

(1)

مِنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول ببلادنا:"سمعت" بالتاء في آخره، وليس بعدها هاء، وقال القاضي هو عند جميع شيوخنا "سمعته" يعني بالهاء في آخره بعد التاء، قال: وكذا ذكره ابن أبي خيثمة، والدارقطنيّ، وغيرهما، قال: ووقع عند بعضهم، ولم أروه:"وقد سمعتُ" من ابن المغيرة، يعني بحذف الهاء، وقد تقدم سماعه الحديث منه، هذا كلام القاضي رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل معنى كلام بكر رحمه الله هذا أنه سمع هذا الحديث عن الحسن البصريّ، عن ابن المغيرة بن شعبة، وسمعه أيضًا من ابن المغيرة دون واسطة الحسن، ثم إن قوله:"وقد سمعته" بالضمير أصرح في سماعه هذا الحديث، من قوله:"وقد سمعتُ" بدون الضمير؛ لاحتمال أن يكون المعنى أنه أراد مطلق السماع منه لهذا الحديث أو لغيره، فمعظم نسخ مسلم بدون هاء، وقد وقع في بعضها بالهاء، كما أشار إليه عياض، وبالهاء رواه النسائيّ في سننه.

والحاصل أن الرواية وإن كانت بدون هاء إلا أنها تُحمل على الهاء؛ لأن حذف العائد المنصوب جائز في كلام العرب بكثرة؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":

.......................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

وقال أيضًا:

وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

(1)

وفي نسخة: "سمعته من ابن المغيرة".

ص: 113

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[643]

(275) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ بِلَالٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَار، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ، حَدَّثَنِي بِلَالٌ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة، أبو محمد الْكِنْديّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، ربما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

3 -

(كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) بن أُميّة بن عديّ بن عُبيد بن خالد بن عمرو بن عوف بن غَنْم بن سَوَاد بن مُرّيّ بن أراشة الْبَلَويّ، الأنصاري المدنيّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو إسحاق، من بني سالم بن عوف، وقيل: من بني سالم بن بَلِيّ، حليف بني الخزرج. وقيل في نسبه غير ذلك.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وبلال. وروى عنه بنوه: إسحاق، والربيع، ومحمد، وعبد الملك، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وجابر، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن الْمُزَنِيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو وائل، ومحمد بن سيرين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وطارق بن شهاب، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو ثُمامة الحناط، وسعيد المقبري، وقيل: بينهما رجل، وإبراهيم، وليس بالنخعي، وعاصم العدوي، وموسى بن وَرْدان، وغيرهم. قال الواقديّ: كان استأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد المشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية.

ص: 114

وأخرج ابن سعد بسند جيّد عن ثابت بن عبيد أن يد كعب بن عجرة قُطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. قال خليفة: مات سنة إحدى وخمسين.

وقال الواقدي، وآخرون: مات سنة (2)، قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

4 -

(بِلَال) بن رَبَاح الحبشي المؤذِّن، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، وقيل: غير ذلك في كنيته، وهو بلال ابن حَمَامَة، وهي أمه، اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المشركين لَمّا كانوا يُعَذِّبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزِم النبي صلى الله عليه وسلم، وأَذّن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجرّاح، ثم خرج بلال رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدًا إلى أن مات بالشام، وقال البخاري: بلال بن رباح أخو خالد، وغُفْرة، مات بالشام زمن عمر رضي الله عنه، وقال أبو نعيم: كان تِرْبَ أبي بكر، وكان خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَوَى أبو إسحاق الْجُوزَجَانيّ، في "تاريخه" من طريق منصور، عن مجاهد قال: قال عَمّار: كُلُّ قد قال ما أرادوا - يعني المشركين - غيرَ بلال.

ومناقبه كثيرة مشهورة، وقال ابن إسحاق: كان لبعض بني جُمَح مُوَلَّد من مُوَلَّديهم، واسم أمه حَمَامة، قال البخاري: مات بالشام زمنَ عمر رضي الله عنه، وقال ابن بكير: مات بدمشق في طاعون عَمَوَاس سنة (17) أو (18)، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة عشرين، وهو ابن بضع وستّين سنة، وقال ابن زَبْر: مات بِدَارَيَّا، وحُمل على رقاب الرجال، فدُفن بباب كَيْسَان، وقيل: دُفن بباب الصغير، وفي "المعرفة" لابن منده أنه دُفِنَ بحلب رضي الله عنه، وأرضاه

(1)

.

أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (44) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بحديث، وله في هذا الكتاب حديثُ رقم (275) و (1329) وكرّره ستّ مرات، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع "الإصابة" 1/ 455 - 456، و"تهذيب التهذيب" 1/ 253 - 254.

ص: 115

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"إسحاق": هو ابن راهويه.

شرح الحديث:

(عَنْ بِلَال) بن رباح رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ) - بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف الميم - ما تُخَمِّر به المرأة رأسها، والجمع خُمُرٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، أفاده الفيّوميّ، وقال ابن الأثير في "النهاية": أراد به العمامة؛ لأن الرجل يُغطّي بها رأسه، كما أن المرأة تغطّيه بخمارها، وذلك إذا كان قد اعتمّ عِمّةَ العرب، فأدارها تحت الحنك، فلا يستطيع رفعها في كلّ وقت، فتصير كالخفّين، غير أنه يحتاج إلى مسح القليل من الرأس، ثم يمسح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: إذا كان قد اعتمّ عِمّةَ العرب إلخ، فيه نظر لا يخفى، فأين الدليل على هذا الشرط؟ فتنبّه.

وقوله أيضًا: "يحتاج إلى مسح القليل من الرأس" مما لا دليل عليه، بل هو مناف لما يقتضيه ظاهر النصّ، فتنبّه.

والحاصل أن المسح على العمامة لا يُشترط فيه شيء مما ذُكر؛ إذ لا نصّ في ذلك، فتبصر، وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فارجع إليه تستفد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بلال رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 643 و 644](275)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(101)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 75)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(561)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 12 و 14)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(180 و 183)، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"النهاية" 2/ 78.

ص: 116

(المسألة الثالثة): قد تكلّم النقّاد في إسناد حديث بلال رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم رحمه الله هنا فقد تكلّم فيه أبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطنيّ، وأبو الفضل بن عمّار.

فأما أبو حاتم، وأبو زرعة، فقد قال ابن أبي حاتم في "علله": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سفيان الثوريّ، وشريك، عن الأعمش، عن الحكم بن عُتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين.

قالا: ورواه أيضًا عيسى بن يونس، وأبو معاوية، وابن نُمير، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، عن بلال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ورواه زائدة، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، عن بلال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قلت لهما: فأيّ هذا الصحيح؟، قال أبي: الصحيح من حديث الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بلا كعب.

قلت لأبي: فمن غير حديث الأعمش؟ قال: الصحيح ما يقول شعبة، وأبان بن تَغْلِب، وزيد بن أبي أُنيسة أيضًا، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بلا كعب، وقال أبي: الثوريّ وشعبة أحفظهم.

قلت لأبي: فإن ليث بن أبي سُليم يحدِّث، فيضطرب، يحدث عنه يحيى بن يعلى، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، عن بلال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر في المسح.

ورواه معتمر، عن ليث، عن الحكم، وحبيب بن أبي ثابت، عن شُريح بن هانئ، عن بلال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو زرعة: ليث لا يُشتَغَل به، في حديثه مثلُ ذي كثير، هو مضطرب الحديث.

قلت لأبي زرعة: أليس شعبة، وأبان بن تغلب، وزيد بن أبي أنيسة يقولون: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بلا كعب؟ قال أبو زرعة: الأعمش حافظ، وأبو معاوية وعيسى بن يونس، وابن نمير، وهؤلاء قد حَفِظُوا

ص: 117

عنه، ومن غير حديث الأعمش الصحيحُ عن ابن أبي ليلى، عن بلال، بلا كعب، ورواه منصور، وشعبة، وزيد بن أبي أنيسة، وغير واحد، إنما قلت: من حديث الأعمش. انتهى كلام ابن أبي حاتم في "علله"

(1)

.

وأما الدارقطني فقد تكلّم فيه في "كتاب العلل"، وذكر الخلاف في طريقه، والخلاف عن الأعمش فيه، وأن بلالًا سَقَط منه عند بعض الرواة، واقتَصَر على كعب بن عجرة، وأن بعضهم عكسه، فأسقط كعبًا، واقتصر على بلال، وأن بعضهم زاد البراء بين بلال وابن أبي ليلى، وأكثر من رواه رووه كما هو في مسلم، وقد رواه بعضهم عن عليّ بن أبي طالب، عن بلال رضي الله عنهما. انتهى.

وأما الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله، فقال في "علله": هذا حديثٌ قد اختُلف فيه على الأعمش، فرواه أبو معاوية، وعيسى، وابن فُضيل، وعليّ بن مُسهر، وجماعة هكذا. ورواه زائدة بن قُدامة، وعمّار بن رُزيق عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، عن بلال، وزائدة ثبتٌ مُتقنٌ.

ورواه سفيان الثوريّ

(2)

، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، لم يذكر بينهما لا كعبًا، ولا البراء، وروايته أثبتُ الروايات.

وقد رواه عن الحكم غير الأعمش أيضًا: شعبة

(3)

، ومنصورُ بن المعتمر، وأبان بن تغلب

(4)

، وزيد بن أبي أنيسة

(5)

، وجماعة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، كما رواه الثوريّ، عن الأعمش، وحديث الثوريّ عندنا أصحّ من حديث غيره

(6)

، وابن أبي ليلى لم يَلْقَ بلالًا.

(1)

"علل الحديث لابن أبي حاتم" 1/ 15 - 16.

(2)

رواية الثوريّ عند أحمد في "مسنده" 6/ 13 و 15.

(3)

عند أحمد 6/ 13 و 15، والنسائيّ 1/ 76.

(4)

عند الحميديّ في "مسنده"(150).

(5)

عند أحمد 6/ 14.

(6)

أي فهو منقطع، لكن هذا بالنسبة للسند، وأما المتن فصحيح، انظر ما كتبه الشيخ علي حسن ص 65 - 66.

ص: 118

انتهى كلام الحافظ أبي الفضل رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن هؤلاء رجّحوا رواية الثوريّ، عن الأعمش بلا واسطة بين عبد الرحمن بن أبي ليلى، وبين بلال رضي الله عنه؛ لأن الثوريّ أثبت ممن خالفه فيه، ولأن الأعمش تابعه جماعة، وهم: شعبة، ومنصورُ بن المعتمر، وأبان بن تغلب، وزيد بن أبي أنيسة، وغيرهم، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، كما رواه الثوريّ، عن الأعمش، فأسقطوا الواسطة، فإذا ترجحت هذه الرواية فإن الإسناد يكون منقطعًا؛ لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يَلْق بلالًا، كما أوضحه أبو الفضل، هذا هو خلاصة كلامهم.

والذي يظهر أن الإمام مسلمًا لم يلتفت إلى هذه العلّة، فصحّح الحديث؛ لأن الأعمش حافظ إمام، وقد اتّفق أبو معاوية، وعيسى بن يونس في هذه الرواية، وعليّ بن مسهر في الرواية التالية، وعبد الله بن نمير في رواية النسائيّ، كلهم عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، عن بلال رضي الله عنه، فيكون هذا من باب زيادة الثقة، وأيّد ذلك بأن في رواية عيسى تصريح الأعمش، وكعب بالتحديث، وهذا وجه صحيح، وقد سبق أن أبا زرعة قوّاه، فقد قال: الأعمش حافظٌ، وأبو معاوية، وعيسى بن يونس، وابن نمير، وهؤلاء قد حفظوا عنه، فدلّ على أنه يرى صحّة هذا الطريق.

والحاصل أن مذهب المصنّف في تصحيح هذا الطريق، والحكم باتّصاله له وجه وجيه لمن تأمّله بالإنصاف، والله أعلم بالصواب.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ عِيسَى: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ، حَدَّثَنِي بِلَالٌ) فيه من دقائق علم الإسناد ما لا يخفى على بصير، ووجه ذلك أن الأعمش يروي عنه هنا اثنان: أبو معاوية، وعيسى بن يونس، فقال أبو معاوية في روايته: عن الأعمش، عن الحكم، وقال عيسى في روايته: عن الأعمش، قال: حدثني الحكم، فأتى بـ "حدّثني" بدل "عن"، ولا شك أن "حَدَّثنا" أقوى، لا سيّما من الأعمش الذي هو معروف بالتدليس.

(1)

راجع ما كتبته في "شرح المقدّمة" 1/ 145.

ص: 119

وقال أيضًا أبو معاوية في روايته: عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال، عن كعب بن عُجْرة، وقال عيسى في روايته: عن الأعمش، حدثني الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، قال: حدثني بلال، فأتى بـ "حدَّثني بلال" موضع "عن بلال"، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[644]

(

) (وَحَدَّثَنِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا عَلِيٌّ - يَعْنِي ابْنَ مُسْهِرٍ - عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرَويّ الأصل، ثم الحَدَثانيّ، ويقال: الأنباريّ، أبو محمد، صدوقٌ، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر هذه ساقها الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، إلا أنه بلفظ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم

". قال رحمه الله:

(101)

حدثنا هناد، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 174.

ص: 120

(24) - (بَابُ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ)

[645]

(276) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْن، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَلْهُ

(1)

فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ:"جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِر، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ"، قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ إِذَا ذَكَرَ عَمْرًا

(2)

أَثْنَىَ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، إلا أنه عمي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 111)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(الثَّوْرِيُّ) هو: سفيان بن سعيد، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الثقة الثبت الحجة المشهور، رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ) هو: عمرو بن قيس الْمُلائيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [6].

روَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وعكرمة، والمنهال بن عمرو، والحكم بن عتيبة، وعاصم بن أبي النَّجُود، وعون بن أبي جُحيفة، وعُمارة بن غَزِيّة، وجماعة.

ورَوَى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وهو أكبر منه، والثوريّ، وإسماعيل بن زكريا، وأبو خالد الأحمر، وأسباط بن محمد القرشيّ، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون، وقال العجليّ: ثقة، من كبار الكوفيين، متعبد، وكان الثوريّ يتبرك به، وكان يبيع الْمُلاء، وكان إذا كسد أهل السوق قال: إني لأرحم هؤلاء

(1)

وفي نسخة: "فاسأله".

(2)

وفي نسخة: "إذا ذُكِرَ عَمْرٌو".

ص: 121

المساكين، لو أن أحدهم إذا كسدت الدنيا ذكر الله، تَمَنَّى يوم القيامة أنه كان أكبر أهل الدنيا كسادًا، وقال عبد الرزاق: كان الثوريّ إذا ذكره قال: حسبك به شيخًا، وعن عمرو بن قيس قال: ما سمعت شيئًا من الحديث إلا وأنا أحفظه، وما كتبت قط، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من ثقات أهل الكوفة، ومتقنيهم، وعباد أهل بلده وقرائهم، ثم رَوَى عن الثوريّ أنه قال لحماد بن سلمة: يا أبا سلمة أُشَبِّهك بشيخ صالح، قال: من هو؟ قال: عمرو بن قيس الملائيّ، ووثَّقه يعقوب بن سفيان، والترمذيّ، وابن خِرَاش، وابن نمير، وغيرهم، وفي "صحيح مسلم" عن عبد الرزاق: كان الثوريّ إذا ذكر عمرو بن قيس أثنى عليه، وقال ابن عديّ: كان من ثقات أهل العلم وأفاضلهم.

قال أبو داود: مات بسجستان، وأرّخه بعضهم سنة (146).

روى له البخاري في "الأدب المفرد" والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (276) و (596).

[تنبيه]: قوله: "الْمُلائيّ" - بضمّ الميم، وتخفيف اللام، وبالمدّ - كان يبيع الملاء، وهو نوع من الثياب، معروفٌ، الواحدة ملاءة بالمدّ

(1)

.

4 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ) - بضمّ الميم، مصغّرًا - أبو عروة الْهَمْدانيّ الكوفيّ، نزيل الشام، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 100)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

5 -

(شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ) بن يزيد الحارثيّ الْمَذْحِجيّ، أبو الْمِقْدام الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم، قُتل مع ابن أبي بكرة بسجستان (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.

6 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو الحسن الخليفة الراشد رضي الله عنه، مات سنة (40) وله (63) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، وإسحاق هو: ابن راهويه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 175 - 176.

ص: 122

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(منها): أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من الثوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين رَوى بعضهم عن بعض: الحكم، عن القاسم، عن شُريح، وفي السند التالي يكون فيه أربعة تابعيين؛ لأن فيه الأعمش.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة؛ إذ هو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وهو أحد السابقين الأولين، بل هو أول من أسلم، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، ومات وهو يومئذ أفضل أهل الأرض من بني آدم بإجماع أهل السنّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ شُرَيْح) بصيغة التصغير (ابْنِ هَانِئٍ) الحارثيّ الكوفيّ أنه (قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَسْأَلُهَا) جملة في محل نصب على الحال، أي حال كوني سائلًا إياها (عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ) أي عن حكمه، أو مدّته (فَقَالَتْ) مرشدةً إلى الأعلم بالحكم منها (عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ) أي عليًّا رضي الله عنه، و"عليك" اسم فعل بمعنى "الزم"، وفي الرواية التالية:"فقَالت: ائت عليًّا"(فَسَلْهُ) أمر من سال يسأل، كخاف يخاف، ويقال في المثنّى: سَلا، وفي المجموع: سَلُوا على غير قياس؛ لأن القياس أن يقال: سالا، وسالوا، كخافا، وخافوا، وفي نسخة:"فاسأله"، وهو أمر سأل يسأل، قال الفيّومي رحمه الله: والأمر من سأل اسأل، بهمزة وصل، فإن كان معه واو جاز الهمز؛ لأنه الأصل، وجاز الحذف؛ للتخفيف، نحو "واسألوا"، و"سَلُوا". انتهى

(1)

.

(1)

راجع "المصباح المنير" 1/ 297.

ص: 123

(فَإنَّهُ) الفاء تعليليّة، أي لأن عليًّا رضي الله عنه (كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي فيكون أعَلم بالحكم منّي؛ لملازمته سفرًا وحضرًا، ومن لازم شخصًا فيهما يكون أعلم بشؤونه كلها ممن لا يلازمه إلا في الحضر.

[فإن قلت]: كانت عائشة رضي الله عنها ممن لا يسافر معه، فكيف قالت:"كان يسافر معه"؟.

[أجيب]: بأنها ما كانت تسافر معه مثل عليّ رضي الله عنه، بدليل قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها، فأيّتُهُنّ خرج سهمها، خرج بها معه

الحديث، متّفقٌ عليه، ففيه دلالة على أنها ما كانت تسافر معه صلى الله عليه وسلم إلا إذا خرجت قرعتها، مثل غزوة بني الْمُصْطَلِق، التي وقعت فيها قصّة الإفك المشهورة، والله تعالى أعلم.

وفي الرواية التالية: "فإنه أعلم بذلك منّي".

(فَسَأَلْنَاهُ) عطف على محذوف، أي أتيناه، فسألناه، وفي رواية النسائيّ:"فأتيت عليًّا، فسألته عن المسح"(فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه مجيبًا عن المسألة (جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن يمسح المقيم يومًا وليلةً، والمسافر ثلاثًا"(ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ) بالنصب بالفتحة الظاهرة على الياء عطفًا على "ثلاثة"(لِلْمُسَافِرِ) متعلّق بـ "جَعَلَ"، أي حدّد مدّة مسحِ المسافر بثلاثة أيام ولياليهنّ، بحيث لا يجوز أن يتجاوزها وقوله:(وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ) معطوف على ما قبله عطف معمولين على معمولي عامل واحد؛ لأن "يومًا" عطف على "ثلاثة"، وهو ظرف لـ "جَعَل"، و"للمقيم" عطف على "للمسافر"، وهو متعلّق بـ "جَعَل" أيضًا، فالعامل واحد، وهذا جائز باتّفاق النحاة، كما هو موضّح في محلّه.

(قَالَ) القائل عبد الرزّاق (وَكَانَ سُفْيَانُ) أي الثوريّ الراوي عن عمرو هنا (إِذَا ذَكَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير سفيان، وقوله:(عَمْرًا) منصوب على المفعوليّة، وفي بعض النسخ:"إذا ذُكر عمرو" ببناء الفعل للمفعول، ورفع عمرو على أنه نائب فاعله (أَثْنَى عَلَيْهِ) أي مدحه، قال الفيّوميّ رحمه الله: أثنيتُ على زيد بالألف، والاسم: الثناء - بالفتح والمدّ -، يقال: أثنيتُ عليه خيرًا وبخير، وأثنيتُ عليه شرًّا، وبشرّ؛ لأنه بمعنى: وَصَفته، هكذا نَصَّ عليه

ص: 124

جماعةٌ، منهم صاحب "المحكم"، وكذلك صاحب "البارع"، وعزاه إلى الخليل، واقتصر بعضهم على أنه لا يُستعمل إلا في الخير، والصواب الأول. انتهى كلام الفيّومي باختصار

(1)

.

والمعنى أن سفيان الثوريّ كان إذا ذَكَرَ شيخه عمرو بن قيس الملائيّ أثنى عليه بالخير، ومدحه، وكذلك أثنى عليه غيره من الحفّاظ، كما أسلفت كلامهم في ترجمته آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[24/ 645 و 646 و 647](276)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 84)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(552)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 55)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(789)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 177)، و (الحميديّ) في "مسنده"(46)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 96 و 100 و 113 و 120 و 133 و 149)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 181)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(195)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1322 و 1331)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 81)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(718 و 719 و 720 و 721 و 722 و 723 و 724)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(633 و 634 و 635)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 272 و 275)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(238)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفّين، والردّ على من أنكر ذلك، وهم أهل الزيغ والضلال.

(1)

راجع "المصباح المنير" 1/ 85 - 86.

ص: 125

2 -

(ومنها): بيان مدّة المسح على الخفّين بأنه يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر.

3 -

(ومنها): أن فيه الردّ على مالك، حيث لم ير للمقيم مسحًا، ولم يقيّد للمسافر بمدّة.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على سؤال أهل العلم عن أحكام دينهم.

5 -

(ومنها): جواز استفتاء النساء مع وجود الرجال، إذا كنّ عالمات.

6 -

(ومنها): ما كان عليه السلف من الورع في الفتوى، فإنهم لا يجترؤون، بل إذا وجدوا من هو أعلم منهم دلُّوا عليه السائل؛ نصيحةً له؛ عملًا بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة".

7 -

(ومنها): بيان ما كان عليه عليّ رضي الله عنه من حفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحتاج الأمة إليها.

8 -

(ومنها): ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من الورع والدين، حيث اعترفت بفضل عليّ رضي الله عنه، ووفور علمه، وأرشدت السائل إلى الاستفادة منه رضي الله عنهما، وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في توقيت مدّة المسح:

اختلفوا في المدة التي للمسافر والمقيم أن يمسح فيها على الخفين على مذاهب:

(الأول): ذهبت طائفة إلى أنه يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن على خفيه، وللمقيم يوم وليلة، هكذا قال عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبو زيد الأنصاريّ، وشُريح، وعطاء بن أبي رَبَاح، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وهو آخر قولي الشافعيّ، وكان قوله الأول كقول مالك.

(الثاني): ذهبت طائفة: إلى أنه يمسح على الخفين ما لم يخلعهما، ليس لذلك وقت، رُوي هذا عن الشعبيّ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن.

ص: 126

وقد اختلفت الأخبار عن ابن عمر، والحسن البصريّ في هذا الباب، فرُوي عن كل واحد منهما قولان: أحدهما كالقول الأول، والقول الآخر كالقول الثاني، وكان مالك بن أنس لا يؤقت في المسح على الخفين وقتًا، لم يَخْتَلف قوله في ذلك، وإنما اختلفت الروايات عنه في المسح في الحضر، وقد أخبر ابنُ بكير مذهبه الأول والآخر، قال ابن بكير: كان مالك يقول بالمسح على الخفين إلى العام الذي قال فيه غير ذلك، قيل له: وما قال؟ قال: كان يقول: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فلم يبلغنا أن أحدًا منهم يمسح على الخفين بالمدينة.

وحُكِي عن الليث بن سعد أنه كان يَرَى المسح، ويقول: يمسح المقيم والمسافر ما بدا له. قال ابن المنذر رحمه الله: وأكثر من بلغني عنه من أصحاب مالك يرون أن يمسح المقيم والمسافر كما يشاء.

وسئل الأوزاعي عن غَازٍ صَلَّى في خفيه أكثر من خمس عشرة صلاةً لثلاث ليال وأيامهن لم ينزع خفيه؟ قال: مضت صلاته، وقد حُكي عن ربيعة أنه قال: لم أسمع في المسح على الخفين وقتًا.

قال ابن المنذر رحمه الله: وقد احتج بعض من هذا مذهبه بحديث رُوِي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت السنة، ومنهم مَن رَوَى أنه قال: أصبت، ولم يقل السنة.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: امسح على الخفين ما لم تخلعهما.

(الثالث): قال سعيد بن جبير: المسح على الخفين من غدوة إلى الليل، وعن الشعبي أنه قال: لا أستتم خمس صلوات يمسح عليهما.

قال ابن المنذر بعد ذكره هذه الأقوال: وبالقول الأول أقول؛ إذ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَذِن أن يمسح المقيم يومًا والمسافر ثلاثًا، ثم أخرج بسنده عن عمرو بن ميمون الأوديّ، عن أبي عبد الله الْجَدَليّ، عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ثلاثة أيام للمسافر،

ص: 127

ويومًا للمقيم، ولو مَضَى السائل في مسألته لجعله خمسًا، وقد رَوَى هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وصفوان بن عَسّال، وأبو بكرة، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وغيرهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الجمهور من أن المسح موقّت للمقيم بيوم وليلة، وللمسافر بثلاثة أيام ولياليهنّ هو الحقّ؛ لثبوته بأحاديث صحيحة:

[فمنها]: حديث عليّ رضي الله عنه المذكور في الباب بلفظ: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم"، فإنه نصّ صريح في التوقيت.

[ومنها]: حديث صفوان بن عسّال رضي الله عنه قال: "رخّص لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كنّا مسافرين أن لا ننزِعَ خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنّ"، وهو حديث صحيح أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه.

[ومنها]: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن المسح على الخفّين؟ فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ، وللمقيم يوم وليلةٌ"، وهو حديث حسن.

[ومنها]: حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: "للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم"، وهو حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما.

[ومنها]: حديث عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهنّ للمسافر، وللمقيم يوم وليلة"، قال الترمذيّ: قال البخاريّ: هذا الحديث حسنٌ، وغير ذلك من الأحاديث.

والحاصل أن القول بتوقيت المسح هو المذهب الحقّ؛ لصحّة الأدلة عليه، وأما ما احتجّ به القائلون بعدم التوقيت، فأدلّة ضعيفة، لا تعارض أدلّة الجمهور، وقد استوفيت الكلام عليها في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الأوسط" 1/ 434 - 439.

ص: 128

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[646]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا

(1)

زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِيِ أُنَيْسَةَ، عَنِ الْحَكَم، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، وهو أخو يوسف، ثقةٌ جليلٌ حافظ، من كبار [10](ت 1 أو 212)(بخ م مد ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 88.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو) بن أبي الوليد الرَّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) إلا سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) الْجَزَريّ، أبو أُسامة، أصله من الكوفة، ثم سكن الرُّهَا، ثقةٌ له أفراد [6](ت 119 أو 124)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

و"إسحاق"، وهو ابن راهويه، و"الحكم"، وهو ابن عتيبة تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) يعني إسناد الحكم، عن القاسم بن مُخَيمِرة، عن شُريح بن هانئ، عن عليّ رضي الله عنه، مثل حديث قيس بن عمرو الملائيّ، عن الحكم بن عتيبة السابق.

[تنبيه]: رواية زيد بن أبي أُنيسة هذه لم أجد من ساقها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 129

[647]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنِ الْحَكَم، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْن، فَقَالَتِ: ائْتِ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا، فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ"

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) الْحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

وأبو معاوية، والأعمش تقدّما في الباب الماضي، والباقون تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) وفي نسخة: "مثله"، أي مثل حديث قيس بن عمرو الملائيّ، عن الحكم بن عتيبة السابق.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه ساقها الإمام ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 97)، فقال:

(194)

حدّثنا الحسن بن محمد الزعفرانيّ، ويوسف بن موسى، قالا: حدثنا أبو معاوية، نا الأعمش، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين؟ فقالت: ائْتِ عليًّا، فاسأله، فإنه أعلم بذلك مني، فأتى عليًّا، فسأله عن المسح على الخفين، فقال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذاك، يمسح المقيم يومًا وليلةً، والمسافر ثلاثًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(25) - (بَابُ جَوَازِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[648]

(277) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا

(1)

وفي نسخة: "مثله".

ص: 130

سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا، لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، قَالَ:"عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ المذكور قبل بابين.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ الكوفيّ المذكور قبل بابين أيضًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ المذكور في الباب الماضي.

4 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) - بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة، بوزن جعفر، ومنهم من ضبطه بكسر المثلثة

(1)

- الْحَضْرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [6].

رَوَى عن سعد بن عبيدة، وزِرّ بن حُبيش، وطارق بن شهاب، والمستورد بن الأحنف، وسليمان بن بُريدة، وحفص بن عبيد الله بن أنس، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، والمسعودي، وإدريس بن يزيد الأودي، والحكم بن ظُهير وأبو سِنان سعيد بن سِنان الشيباني، وأبو سنان ضرار بن مرة، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثَبْت في الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه

(1)

هكذا ذكره في "الفتح" 8/ 694، وقال أيضًا: وعلقمة بن مَرْثَد من ثقات أهل الكوفة، من طبقة الأعمش، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز، من روايته عن سعد بن عبيدة أيضًا، وثالث في مناقب الصحابة. انتهى.

ص: 131

يعقوب بن سفيان. وقال خليفة بن خياط: تُوفي في آخر ولاية خالد الْقَسْريّ على العراق.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون المذكور في الباب الماضي.

6 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان المذكور في الباب الماضي أيضًا.

7 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصَيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، أخو عبد الله، وُلدا في بطن واحد، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وعمران بن حصين، وعائشة، ويحيى بن يَعْمُر.

ورَوَى عنه علقمة بن مرثد، ومُحارب بن دِثَار، وعبد الله بن عطاء، والقاسم بن مُخَيمِرة، ومحمد بن جُحَادة، وغيلان بن جامع، وأبو سِنَان ضِرَار بن مُرّة، ومحمد بن عبد الرحمن، شيخ بَقِيّة، وغيرهم.

قال أحمد، عن وكيع: يقولون: إن سليمان كان أصحّ حديثًا من أخيه، وأوثق، وقال ابن عيينة: وحديث سليمان بن بُريدة أحبّ إليهم من حديث عبد الله، وقال العجليّ: سليمان وعبد الله كانا تَوْأَمًا، تابعيين، ثقتين، وسليمان أكثرهما، وقال البخاريّ: لم يذكر سماعًا من أبيه، وقال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة.

وقال أبو بكر بن مَنجويه: مات سنة خمس ومائة، وكذا أرَّخه ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلِد هو وأخوه في بطن واحد على عهد عمر بن الخطاب، لثلاث خلون من خلافته، ومات سليمان بِفَنين، قريةٌ من قُرَى مَرْوَ، وكان على قضاء مَرْوَ فيما قيل، وقال مسلم في الطبقة الثانية من أهل البصرة: مات هو وأخوه في يوم واحد، ووُلِدا في يوم واحد، وقال ابن قانع: وُلد سنة (15) من الهجرة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

8 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصَيب، أبو عبد الله، وقيل: غير ذلك الأسلميّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533، والله تعالى أعلم.

ص: 132

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان بالتحويل، يلتقيان في سفيان الثوريّ.

2 -

(ومنها): أن السند الأول مسلسل بالكوفيين إلى علقمة.

3 -

(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له" يعني أن لفظ الحديث الذي ساقه هنا لفظ شيخه محمد بن حاتم، وأما شيخه محمد بن عبد الله بن نمير، فرواه بمعناه.

5 -

(ومنها): وهي من أهمّ الفوائد الإسناديّة، أن المصنّف رحمه الله قال في الطريق الأول: حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدّثنا أبي، حدّثنا سفيان، عن علقمة بن مرثَد، وقال في الطريق الآخر: وحدّثني محمد بن حاتم، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني علقمة بن مَرْثَد .. إلخ.

وإنما فَعَلَ رحمه الله هذا، ولم يكتف بسوق الإسنادين مَسَاقًا واحدًا، بل كرّره بالتحويل؛ لفوائد:

[الأولى]: أن سفيان رحمه الله من المدلسين، وقال في الرواية الأولى:"عن علقمة"، والمدلس لا يُحْتَجّ بعنعنته بالاتفاق، إلا إن ثبت سماعه من طريق آخر، فذكر مسلم الطريق الثاني المصرِّح بسماع سفيان من علقمة، فقال: حَدَّثني علقمة.

[والثانية]: أنه سمع من شيخه محمد بن عبد الله بن نُمير مع جماعة، ولذا قال:"حدّثنا"، وسمع من شيخه محمد بن حاتم وحده، ولذا قال:"وحدّثني"، فبيّن اختلاف كيفيّة تحمّله عن شيخيه بما ذكره.

[والثالثة]: أن ابن نمير قال: "حدثنا سفيان"، ويحيى بن سعيد قال:"عن سفيان"، فلم يَستَجِز المصنّف رحمه الله الرواية عن الاثنين بصيغة أحدهما، فإن "حدَّثنا" متفق على حمله على الاتصال، و"عن" مختلف فيه، كما تقدم بيانه في "شرح المقدمة"

(1)

.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع "شرح النوويّ" 3/ 178، فإنه ذكر بعضه.

ص: 133

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ) رحمه الله (عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ) زاد الترمذيّ في روايته: "كُلَّها"، وعند أبي داود:"خمس صلوات"(يَوْمَ الْفَتْحِ) أي يوم فتح مكة الذي حصل به أعظم فتوح الإسلام، وأعزّ الله تعالى به دينه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجُندَه، وحَرَمه، واستَبْشَر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة في شهر رمضان، كما هو معروف في التاريخ والسير (بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ) أي على خلاف عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتوضّأ لكلّ صلاة، كما بُيّن في حديث أنس رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق سفيان الثوريّ، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة"، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يُجزِئ أحدنا الوضوء ما لم يُحْدِث.

(وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْه، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ) منصوب على الظرفية (شَيْئًا) منصوب على أنه مفعول به، وَيحتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا: أي صنعًا، وذلك الشيء هو تأديته صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بوضوء واحد (لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ) أي لم تكن تعتاده، وإلا فقد ثبت أنه كان يفعله قبل ذلك أحيانًا، وقد فعله بالصهباء أيام خيبر، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله من طريق بُشير بن يسار، عن سُوَيد بن النعمان رضي الله عنه؛ أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي أدنى خيبر - فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يُؤْتَ إلا بالسويق، فأَمَرَ به، فَثُرِّي، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض، ومضمضنا، ثم صلى، ولم يتوضأ.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا كان قبل الفتح بلا شكّ، وكان عمر رضي الله عنه في تلك الغزوة معهم، فلعلّه رضي الله عنه لم يشهد الواقعة، أو نسيها، فأطلق النفي، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (عَمْدًا) منصوب على التمييز، أو على الحال من الفاعل، فقُدّم اهتمامًا بشرعيّة المسألتين في الدين؛ ردًّا لزعم من لا يرى المسح على الخفّين (صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ) أي فعلتُ جمع الصلوات بوضوء واحد، متعمّدًا، لا ساهيًا؛ لبيان الجواز.

ص: 134

قال السنديّ رحمه الله: لَمّا كان وقوع غير المعتاد يَحْتَمِلُ أن يكون عن سهو، دَفَعَ ذلك الاحتمال ليُعلَم أنه جائز له ولغيره. انتهى.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الضمير المنصوب في "صنعته" بمعنى اسم الإشارة، والمشار إليه المذكور من الصلوات الخمس بوضوء واحد، والمسح على الخفّين. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: الضمير راجع للمذكور، وهو جمع الصلوات الخمس بوضوء واحد، والمسح على الخفّين، قال: كذا ذكر الشرّاح، لكن رجوع الضمير إلى مجموع الأمرين يوهم أنه لم يكن يمسح على الخفّين قبل الفتح، وليس كذلك، فالوجه أن يكون الضمير راجعًا إلى الجمع فقط، أي جمع الصلوات بوضوء واحد. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عمدًا فعلته": أي قصدًا؛ ليبيّن للناس أنه يجوز أن يُصلَّى بوضوء واحد صلوات، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه، وعليه ما ذَهَب إليه بعض الناس أن الوضوء لكلّ صلاة كان فرضًا خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه نُسخ ذلك بفعله هذا، قال القرطبيّ: ولا يصحّ أنه كان فرضًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما يفعله ابتغاءً لفضيلة التجديد، كما في حديث أنس رضي الله عنه أنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ لكلّ صلاة، طاهرًا وغير طاهر"

الحديث، وهو حديث حسنٌ، رواه أبو داود. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُرَيدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[25/ 648](277)، و (أبو داود)

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 759.

(2)

راجع "المرقاة على المشكاة" 2/ 3 - 8.

(3)

راجع "المفهم" 1/ 535.

ص: 135

في "الطهارة"(172)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(61)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 16)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(510)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 54)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 29)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 350 و 351 و 358)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 169)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1706 و 1707)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(647 و 648 و 649)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(636)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 41)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 162)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(231)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز المسح على الخفّ.

2 -

(ومنها): جواز الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يُحْدِث، وهذا جائز بإجماع مَن يُعْتَدّ به. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى.

3 -

(ومنها): أن في قول عمر رضي الله عنه: "لم تكن تصنعه" بيان صريحٌ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الوضوء لكلّ صلاة؛ عملًا بالأفضل، وأنه صَلَّى الصلوات في ذلك اليوم بوضوء واحد؛ بيانًا للجواز، كما قال صلى الله عليه وسلم:"عَمْدًا صنعته يا عمر".

4 -

(ومنها): جواز سؤال المفضول الفاضل عن بعض أعماله التي في ظاهرها مخالفة للعادة؛ لأنها قد تكون عن نسيان، فيرجع عنها، وقد تكون تَعَمُّدًا لمعنى خَفِيَ على المفضول فيستفيده.

5 -

(ومنها): أن فيه مشروعيّةَ إجابة السائل عما سأله.

6 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن من يقدر أن يُصلّي صلوات كثيرة بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يدفعه الأخبثان: البول والغائط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم الوضوء لكلّ صلاة:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري رحمه الله: أوجب الله تعالى الطهارة للصلاة في كتابه، فقال جل ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ

ص: 136

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية [المائدة: 6]، وقال جل ثناؤه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} الآية [النساء: 43]، ودلَّت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب فرض الطهارة للصلاة، واتَّفَقَ علماء الأمة أن الصلاة لا تجزي إلا بها، إذا وجد السبيل إليها.

قال: وظاهر قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة، فدَلّ قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وصلواتٍ بوضوء واحد على أن فرض الطهارة على من قام إلى الصلاة محدثًا دون من قام إليها طاهرًا.

قال: وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة الظهر والعصر بوضوء واحد، وكذلك فَعَل بالمزدلفة، جَمَع بين المغرب والعشاء بوضوء واحد، ولم تزل الأئمة تفعل ذلك بعده، وقد قام إلى العصر وإلى العشاء ولم يذكر أحد أنه أحدث لذلك طهارةً، والأخبار في هذا المعنى تكثر، فدل كلُّ ما ذكرناه على أن المأمور بالطهارة من قام إلى الصلاة محدثًا دون من قام إليها طاهرًا، وقد أجمع أهل العلم على أن لمن تطهّر للصلاة أن يصلي ما شاء بطهارته من الصلوات إلا أن يُحدِث حدثًا ينقض طهارته، وكان زيد بن أسلم يقول: نزلت الآية - يعني قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} يعني إذا قمتم من المضاجع؛ يعني النوم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وحَكَى أبو جعفر الطحاويّ، وأبو الحسن بن بطال في "شرح صحيح البخاري" عن طائفة من العلماء أنهم قالوا: يجب الوضوء لكل صلاة، وإن كان متطهرًا، واحتجّوا بقول الله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، وما أظنّ هذا المذهب يصحّ عن أحد، ولعلهم أرادوا استحباب تجديد الوضوء عند كل صلاة.

(1)

"الأوسط" 1/ 107 - 110.

ص: 137

ودليلُ الجمهور الأحاديث الصحيحة: منها: هذا الحديث، وحديث أنس رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ":"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يُحْدِث"، وحديث سُويد بن النعمان رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ" أيضًا:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى العصر، ثم أكل سويقًا، ثم صلى المغرب ولم يتوضأ"، وفي معناه أحاديث كثيرة، كحديث الجمع بين الوقوف بعرفة والمزدلفة، وسائر الأسفار، والجمع بين الصلوات الفائتات يوم الخندق، وغير ذلك.

وأما الآية الكريمة فالمراد بها - والله أعلم - إذا قمتم محدثين، وقيل: إنها منسوخة بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا القول ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أنه لا يجب الوضوء إلا على من أحدث، وأنه يجوز الجمع بين الصلوات بوضوء واحد، وهذا إجماع، وما نقل عن بعضهم لا يصحّ، أو يُحمل على أنهم أرادوا التجديد على سبيل الاستحباب، لا الوجوب، وإلا فهم محجوجون بهذه الأدلّة الصحيحة الصريحة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: ويستحب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على طهارة، ثم يتطهر ثانيًا من غير حدث، وفي شرط استحباب التجديد أوجه:

[أحدها]: أنه يستحب لمن صلى به صلاةً، سواء كانت فريضةً أو نافلةً.

[والثاني]: لا يستحب إلا لمن صلى فريضة.

[والثالث]: يستحب لمن فَعَل به ما لا يجوز إلا بطهارة، كمسّ المصحف، وسجود التلاوة.

[والرابع]: يستحب، وإن لم يفعل به شيئًا أصلًا، بشرط أن يتخلل بين التجديد والوضوء زمن يقع بمثله تفريق، ولا يستحب تجديد الغسل على المذهب الصحيح المشهور، وحَكَى إمامُ الحرمين وجهًا أنه يستحبّ، وفي

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 177.

ص: 138

استحباب تجديد التيمم وجهان: أشهرهما لا يستحب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي استحباب تجديد الوضوء، وإن لم يفعل به شيئًا أصلًا؛ لأن الوضوء عبادة مستقلّة بنفسها؛ لحديث عبد الله الصُّنابحيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى - المسجد، وصلاته نافلةً له"، أخرجه مالك، وأحمد، والنسائيّ، وابن ماجه

(1)

.

فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن ذنوبه كلها تكفّر بالوضوء، وتكون الصلاة به زيادة في الدرجات، ففيه أن الوضوء عبادة مستقلّة تُقصد وحدها، وإن لم تؤدَّ بها صلاة، أو نحوها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه آخر]: قد وردت أحاديث في الترغيب في المحافظة على الوضوء، وتجديده:

(فمنها): ما أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارميّ، بإسناد صحيح، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا، ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن"

(2)

.

(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

(1)

حديث صحيح، أخرجه مالك في "الموطّأ"(55)، وأحمد في "مسنده"(18589)، والنسائيّ في "سننه"(103)، وابن ماجه في "سننه"(278)، وهو مرسل من حديث الصنابحيّ؛ لأنه تابعيّ، إلا أنه صحيح بشواهده، فله شاهد عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه برقم (244).

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد (21873)، والدارميّ (653 و 654)، وابن ماجه (273).

ص: 139

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواكٌ

(1)

، ولأخّرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل"

(2)

.

(ومنها): ما أخرجه أحمد، والترمذيّ، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة، يقول: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالًا، فقال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خَشْخَشتك

(3)

أمامي، إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك، فأتيتُ على قصر من ذهب، مرتفع مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب، قلت: أنا عربيّ، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من المسلمين، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر"، فقال: يا رسول الله، ما كنت لأغار عليك، قال: وقال لبلال: "بم سبقتني إلى الجنة؟ " قال: ما أحدثت إلا توضأت، وصليت ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بهذا"

(4)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: أما حديث: "الوضوء على الوضوء نور على نور"، فقال الحافظ المنذريّ رحمه الله: لا يحضرني له أصل من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولعله من كلام بعض السلف. انتهى

(5)

.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: لم أجد له أصلًا. انتهى. وقال السبكيّ: لم أجد له إسنادًا. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: حديث ضعيفٌ، رواه رزين في "مسنده"

(6)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هكذا نصّ "المسند".

(2)

حديث حسن، أخرجه أحمد في "مسنده"(7461).

(3)

"الخشخشة": حركة لها صوت كصوت السلاح، أي: سمعت صوت مِشيتك.

(4)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(22487 و 22531)، والترمذيّ في "جامعه"(3622).

(5)

"الترغيب والترهيب" 1/ 99.

(6)

ذكره في "تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 302.

ص: 140

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(26) - (بَابُ النَّهْي عَنْ غَمْسِ الْمُسْتَيْقِظِ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا ثَلَاثًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[649]

(278) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، قَالَا: حَدَّثنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّل، عَنْ خالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدَكُمْ مِنْ نَوْمِه، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاء، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) هو: نصر بن عليّ بن نصر الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، امتنع عن القضاء [10](ت 250)، أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عُبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمَان، نَزَل نيسابور، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10].

رَوَى عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، وأبي عوانة، وعبد الواحد بن زياد، وحماد بن زيد، وبشر بن المفَضَّل، ومعتمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وجَعَلَ حفصًا جدَّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وإبراهيم بن أبي طالب، والحسين بن محمد الْقَبَّانيّ، وغيرهم.

قال ابن حبان: ثنا أحمد بن محمد بن عمر بن بِسطام، ثنا أحمد بن سَيّار، ثنا حامد بن عمر البكراويّ، قاضي كِرْمان، رأيته بنيسابور، وهو عندي ثقة. انتهى.

ص: 141

وقال البخاريّ: مات أول سنة (233)، وكذا قال ابن حبّان في "الثقات".

تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

3 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق، الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

4 -

(خَالِد) بن مِهْرَان الْحذّاء، أبو الْمُنَازِل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، يرسلُ [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقَيليّ البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الاتّصال.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى حامد، فتفرّد به هو والبخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: خالد، عن عبد الله بن شقيق.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ)، أي انتبه، وليست السين والتاء للطلب، فالاستيقاظ بمعنى التيقّظ، وهو لازم، و"إذا" شرطيّةٌ، وجوابها قوله:"فلا يغمس".

ص: 142

قال السنديّ رحمه الله: الظاهر أن المقصود: إذا شكّ أحدكم في يديه مطلقًا، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم، أو لأمر آخر، إلا أنه فَرَضَ الكلامَ في جزئيٍّ واقع بينهم على كثرة؛ ليكون بيان الحكم فيه بيانًا في الكلّيّ بدلالة العقل، ففيه إحالةٌ للأحكام إلى الاستنباط، ونَوْطُهُ بالعلل، فقالوا في بيان سبب الحديث: إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة، وبلادهم حارّة، فإذا نام أحدهم عَرِقَ، فلا يَأْمَنُ حالةَ النوم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس، فنهاهم عن إدخال يده في الماء. انتهى كلام السنديّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "الموضع النجس" فيه نظر لا يخفى، كيف يكون نجسًا وقد استنجى بالحجارة؟ والشرع أمر بالاستنجاء بها، وجعل ذلك مطهّرًا للموضع، ولا عبرة بما يبقى بعد الاستنجاء بشرطه، كما سبق في موضعه، فلا وجه لادّعاء نجاسة الموضع بعد أن حكم الشرع بطهارته، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ) النوم: غَشْيَةٌ ثقيلةٌ تَهْجُمُ على القلب، فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولهذا قيل: هو آفةٌ؛ لأن النوم أخو الموت، وقيل: النوم مُزيل للقوّة والعقل، وأما السِّنَةُ ففي الرأس، والنعاس في العين، وقيل: السِّنَةُ ريح النوم، تبدو في الوجه، ثم تنبعث إلى القلب، فيَنْعس الإنسان، فينام، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "من نومه" أخد بعمومه الشافعيّ، والجمهور، فاستحبوه عقب كل نوم، وخصَّه أحمد بنوم الليل؛ لقوله في آخر الحديث:"باتت يده"؛ لأن حقيقة المبيت أن يكون في، الليل، وفي رواية لأبي داود، ساق مسلم إسنادها:"إذا قام أحدكم من الليل"، وكذا للترمذيّ من وجه آخر صحيح، ولأبي عوانة في روايةٍ، ساق مسلم إسنادها أيضًا:"إذا قام أحدكم إلى الوَضُوء حين يصبح"، لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خَصَّ نوم الليل بالذكر؛ للغلبة، قال الرافعيّ في "شرح المسند": يمكن

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 7.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 631.

ص: 143

أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلًا أشدّ منها لمن نام نهارًا؛ لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب؛ لطوله عادةً. انتهى

(1)

.

(فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ) بتخفيف الميم، من باب ضرب، هذا هو المشهور، ويَحتَمِلُ أن يكون بتشديد الميم، من باب التفعيل

(2)

.

ثم إن التعبير بالغمس أبين في المراد من رواية: "فلا يُدخِلْ"؛ لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع، فاغترف منه بإناء صغير، من غير أن تلامس يده الماء، قاله في "الفتح".

(فِي الْإِنَاءِ) وفي الرواية الآتية: "في إنائه"، وفي رواية البخاريّ:"في وَضوئه"، بفتح الواو، أي الإناء الذي أُعِدّ للوُضوء، ولابن خزيمة:"في إنائه، أو وَضوئه" على الشك، والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوُضوء، ويُلْحَق به إناء الغسل؛ لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسًا، لكن في الاستحباب من غير كراهة؛ لعدم ورود النهي فيها عن ذلك، والله تعالى أعلم.

وخرج بذكر الإناء الْبِرَك، والْحِياض التي لا تَفْسُد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها، فلا يتناولها النهي، قاله في "الفتح"

(3)

.

(حَتَّى يَغْسِلَهَا)، أي يده (ثَلَاثًا)، وفي الرواية الآتية:"فليُفرغ على يده ثلاث مرّات"، (فَإِنَّهُ)، وفي رواية البخاريّ:"فإن أحدكم"، قال البيضاويّ: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمالُ النجاسة؛ لأن الشارع إذا ذَكَر حكمًا، وعَقَّبه وصفًا مصدَّرًا بَالفاء، أو بـ "إنّ"، أو بهما كان ذلك إيماءً إلى أن ثبوت الحكم لأجله، ومثال "إنّ" قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها من الطوّافين عليكم والطوّافات" بعد قوله: "إنها ليست بنجسة"

(4)

، ومثال الفاء قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات، ولم يحجّ، فليمت

" الحديث

(5)

، ومثال الجمع قوله صلى الله عليه وسلم في

(1)

"الفتح" 1/ 317.

(2)

"المرعاة شرح المشكاة" 2/ 88.

(3)

"الفتح" 1/ 317 - 318.

(4)

حديث صحيح، أخرجه مالك، وأصحاب السنن.

(5)

حديث ضعيف، رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، عن =

ص: 144

المحرم: "فإنه يُبعث يلبّي"، بعد قوله:"لا تقربوه طيبًا"

(1)

، فَنَبَّهَ على أن علة النهي كونه محرمًا، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه يدلّ على أن الباعث على الأمر بالغسل احتمال النجاسة. انتهى

(2)

.

(لَا يَدْرِي) فيه أن علة النهي احتمالُ هل لاقت يده ما يُؤثِّر في الماء أو لا؟ ومقتضاه إلحاق مَن شَكّ في ذلك، ولو كان مستيقظًا، ومفهومه أن مَن دَرَى أين باتت يده، كمَن لَفَّ عليها خرقةً مثلًا، فاستيقظ، وهي على حالها أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبًّا على المختار، كما في المستيقظ، ومَن قال بأن الأمر في ذلك للتعبد كمالك، لا يُفَرِّق بين شاكّ ومتيقن.

(أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ")، أي من جسده، قال الشافعيّ رحمه الله: كانوا يستجمرون، وبلادهم حارّة، فربما عَرِقَ أحدهم إذا نام، فيحتمل أن تطوف يده على المحلّ، أو على بثرة، أو دم حيوان، أو قذر غير ذلك.

وتعقّبه أبو الوليد الباجيّ بأن ذلك يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم؛ لجواز ذلك عليه.

وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العَرَق في اليد دون المحل، أو أن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى بؤمر بغسله، بخلاف اليد، فإنه يحتاج إلى غمسها، وهذا أقوى الجوابين، والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحلّ الاستجمار ما رواه ابن خزيمة وغيره، من طريق محمد بن الوليد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن خالد الحذّاء، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، في هذا الحديث، قال في آخره:"أين باتت يده منه"، وأصله في مسلم، دون قوله:"منه"، قال الدارقطنيّ: تفرد بها شعبة، وقال البيهقيّ: تفرد بها محمد بن الوليد.

= النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابسٌ، أو سلطان جائرٌ، ولم يحجَّ، فليمت إن شاء يهوديًّا، وإن شاء نصرانيًّا".

(1)

متفق عليه.

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 791.

ص: 145

قال الحافظ: إن أراد عن محمد بن جعفر، فمسلَّمٌ، وإن أراد مطلقًا فلا، فقد قال الدارقطنيّ: تابعه عبد الصمد، عن شعبة، أخرجه ابن منده من طريقه. انتهى

(1)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: هذا في حقّ من بات مستنجيًا بالأحجار معروريًا، ومن بات على خلاف ذلك ففي أمره سعة، ويُستحبّ له أيضًا غسلها؛ لأن السنّة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى.

وقال الباجيّ رحمه الله: الأظهر في سبب الحديث أن النائم لا يكاد يسلم من حكّ جسده، وموضع بثرة في بدنه، ومسّ رُفْغه وإبطه، وغير ذلك من مغابن جسده، ومواضع عَرَقه، فاستُحبّ له غسل اليد تنظُّفًا وتنزُّهًا، قال: وتعليقه بنوم الليل لا يدلّ على الاختصاص؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرّز من مسّ رُفغه وإبطه، وفَتْل ما يخرج من أنفه، وقتل برغوث، وحكّ موضع عَرَق، فإذا كان المعنى الذي شُرع له غسل اليد موجودًا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه بأن الشرع علّقه على النائم. انتهى مختصرًا ملخّصًا.

قال صاحب "المرعاة" بعد ما تقدّم: وعلى هذا يكون الحكم عامًّا لكلّ متوضئ، ولا يختصّ بالنائم، وأما على ما قال الشافعيّ وغيره في سبب الحديث، فيكون استحباب الغسل للمتوضئ المستيقظ من النوم خاصّةً، وأما من يريد الوضوء من غير نوم، فيُستحبّ له؛ لثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم، كما سبق في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم.

ثم إن النهي عن الغمس قبل الغسل للتنزيه، والأمر في رواية "فليغسل" للندب عند الجمهور، فلو خالف، وغَمَس قبل الغسل فقد أساء، ولا يَفسُد الماء، والقرينة الصارفة التقييدُ بالثلاث في غير النجاسة العينيّة، فإنه يدلّ على ندبيّة الغسل، ولأنه عُلِّل بأمر يقتضي الشكّ في نجاسة اليد، والوجوب لا ينبني على الشكّ، وحمله أحمد على كراهة التحريم، وقال بوجوب الغسل في نوم الليل، ولا يبعُد من الشارع الإيجاب لرفع الشكّ، ومن قال: إن الأمر بالغسل

(1)

"الفتح" 1/ 318.

ص: 146

للتعبّد كمالك لا يفرّق بين الشاكّ والمتيقّن، قال: والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور. انتهى كلام صاحب "المرعاة"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من وجوب الغسل، وكون النهي للتحريم هو الأرجح؛ لظاهر النصّ، وسيأتي تحقيق البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [26/ 649 و 650 و 651 و 652 و 653](278)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(162)، و (أبو داود) في "الطهارة"(103 و 104 و 105)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(24)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 6 - 7 و 99)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(393)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 21)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 27)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 51)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 98)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 241 و 253 و 271 و 265 و 284 و 316 و 395 و 455 و 471 و 500 و 507)، و (الدارمي) في "سننه"(1/ 196)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(99 و 100)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1061 و 1064 و 1065)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 49 و 50)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"، (1/ 45 و 46)، وفي "معرفة السنن والآثار"(1/ 195)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(726 و 727 و 728 و 729 و 730 و 731 و 732 و 733 و 734)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(639 و 640 و 641 و 642)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(9)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(208)، والله تعالى أعلم.

(1)

"مرعاة المفاتيح" 2/ 88 - 89.

ص: 147

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن غمس من استيقظ يده في الإناء قبل غسلها ثلاثًا.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، وهو ظاهر.

3 -

(ومنها): أن النجاسة تؤثِّر في الماء، قال في "الفتح": وهو صحيح، لكن كونها تؤثر التنجيس، وإن لم يتغير فيه نظرٌ؛ لأن مطلق التأثير لا يدلّ على خصوص التأثير بالتنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقَّن أشدَّ من الكراهة بالمظنون، قاله ابن دقيق العيد، ومراده أنه ليست فيه دلالةٌ قطعيةٌ على من يقول: إن الماء لا ينجس إلا بالتغيير. انتهى.

4 -

(ومنها): أن فيه الأخذَ بالوثيقة، والعملَ بالاحتياط في العبادة، ما لم يخرج عن حدّ الاحتياط إلى حدّ الوسوسة.

5 -

(ومنها): استحباب استعمال ألفاظ الكنايات فيما يُتَحاشَى من التصريح به، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَدرِي أين باتت يده"، ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره، أو ذكره، أو نجاسة، أو نحو ذلك، وإن كان هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، والأحاديث الصحيحة، وهذا إذا عُلِم أن السامع يَفهَم بالكناية المقصودَ، فإن لم يكن كذلك، فلا بُدَّ من التصريح؛ لينفي اللبس، والوقوعَ في خلاف المطلوب، وعلى هذا يُحْمَل ما جاء من ذلك مصرَّحًا به، والله تعالى أعلم، قاله النووي رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): استحباب غسل النجاسة ثلاثًا؛ لأنه أَمَرَنا بالتثليث عند توهمها فعند تيقنها أولى.

7 -

(ومنها): أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة، مع بقاء أثر النجاسة عليه، قاله الخطابيّ.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 181 - 182.

ص: 148

8 -

(ومنها): ما قيل: إن موضع الاستنجاء لا يطهر بالأحجار، بل يبقى نجسًا معفوًّا عنه في حقّ الصلاة، قاله النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقييده بالصلاة فيه نظر؛ لأن الشارع حينما شرع الاستنجاء بالأحجار شرعه مطهّرًا، وإن بقي الأثر، سواء كان في الصلاة، أم في غيرها، وأما الأمر بالغسل للمستيقظ، فلا يستلزم النجاسة، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): إيجاب الوضوء من النوم، قاله ابن عبد البر، وفي استنباطه من الحديث خفاء.

10 -

(ومنها): تقويةُ مَن يقول بالوضوء مِن مس الذكر، حكاه أبو عوانة في "صحيحه"، عن ابن عيينة، وفيه نظرٌ، كسابقه.

11 -

(ومنها): أن القليل من الماء لا يصير مستعملًا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء، قاله الخفّاف، صاحب "الخصال" من الشافعية.

12 -

(ومنها): أن النجاسة المتوهّمة تُغسل ثلاثًا استحبابًا.

13 -

(ومنها): أن النجاسة المتوهَّمة يستحبّ فيها الغسل، ولا يؤثّر فيها الرشّ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"حتى يغسلها"، ولم يقل: حتى يغسلها، أو يرشّها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل غسلها:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وَضُوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت".

وقد اختَلَف أهل العلم في الماء الذي يَغمِس فيه المرء يده قبل أن يغسلها، إذا انتبه من النوم، فقالت طائفة: يهريق ذلك الماء، هكذا قال الحسن البصريّ، وقال أحمد بن حنبل: أعجب إليّ أن يهريق ذلك الماء، إذا كان من منام الليل، لا من منام النهار؛ لأن نوم النهار لا يقال من منامه.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 179.

ص: 149

وقال آخرون: الماء طاهرٌ، والوضوء به جائز، هذا قول عطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبي عبيد، وقال الأوزاعيّ في رجل بات، وعليه سراويل: لا بأس أن يُدخِل يده في وضوئه قبل غسلها.

واختلفوا في المستيقظ من نوم النهار يدخل يده في وضوئه قبل غسلها، فقالت طائفة: نوم النهار ونوم الليل واحد، لا يُدخل يده في كل واحدة من الحالتين حتى يغسلها، هكذا قال إسحاق ابن راهويه، ورُوي عن الحسن أنه قال: نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد، وسَهَّل أحمد بن حنبل في ذلك، إذا انتبه من نوم النهار، ونهى عن ذلك إذا قام من النوم بالليل؛ لأن المبيت إنما هو بالليل. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في قوله: "فلا يَغْمِس يده إلخ" هل هو للتحريم، أو للتنزيه؟، وكذا في الرواية التي فيها:"فليغسل يده"، هل هو للندب، أو الوجوب؟

فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ذلك للتنزيه والندب، لا للتحريم والوجوب، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأهل الكوفة، وغيرهم.

وذهب الحسن البصريّ، وأهل الظاهر إلى أن ذلك على الوجوب والتحريم؛ لظاهر الأمر والنهي، وقالوا: يُهراق الماء.

وحَكَى الخطّابيّ عن داود، ومحمد بن جرير وجوب ذلك، وأنهما رأيا أن الماء ينجس به إذا لم تكن اليد مغسولةً.

وحكى الرافعيّ عن أحمد أنه يوجب غسلهما عند الاستيقاظ من نوم الليل دون النهار على ما تقدّم عنه من التفرقة.

ثم اخْتَلَف أصحاب داود الظاهريّ عنه، فقال أكثرهم: إنه إن فعله كان عاصيًا، ولا يفسد الماء بذلك، وقال بعض أصحابه عنه: لا يجوز الوضوء به.

قال: والصواب ما ذهب إليه الجمهور، وقال أبو الوليد الباجيّ: لأنه قد

(1)

"الأوسط" 1/ 371 - 373.

ص: 150

اقترن بالأمر ما دلّ على الندب؛ لأنه علَّل بالشكّ، ولو شكّ هل مسّت يده نجاسة؟ لما وجب عليه غسل يده. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح ما ذهب إليه الجمهور من استحباب غسل اليد بعد الاستيقاظ من النوم، وليس ذلك على الوجوب، والذي صرف الأمر بالغسل عن الوجوب ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضّأ بعد الاستيقاظ من دون أن يغسل يديه، كما هو في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، حيث إنه صلى الله عليه وسلم توضّأ من شنّ معلَّق بعد قيامه من النوم، ولم يرو عنه أنه غسل يديه، فدلّ على أن هذا الأمر للاستحباب، لا للوجوب.

ولا يقال: إنه من خصوصيّات النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صحّ عنه أنه غسل يديه قبل إدخالهما الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم يكون من بابِ أولى، ويكون تركه لبيان الجواز، فتبصّر.

وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" على هذا الحديث عشرين مسألةً مهمةً، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[650]

(

) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: قَالَ: يَرْفَعُهُ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور قبل بابين.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 44.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 151

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17، وهو أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير المذكور قبل باب.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان المذكور قبل باب أيضًا.

6 -

(أَبُو رَزِينٍ) هو: مسعود بن مالك الأسديّ، أسدُ خزيمة، مولى أبي وائل الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2].

رَوَى عن معاذ بن جبل، وابن مسعود، وعمرو بن أم كلثوم، وعليّ بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعريّ، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم بن أبي النَّجُود، وعطاء بن السائب، والأعمش، ومنصور، وموسى بن أبي عائشة، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة، عن أبي رزين، فقال: اسمه مسعود، كوفيّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شَهِدَ صِفِّين مع عليّ، وقال يحيى: كان أكبر من أبي وائل، وكان عالِمًا فَهِمًا، وقال أبو بكر بن عياش، عن عاصم: قال لي أبو وائل: ألا تَعْجَب من أبي رَزِين قد هَرِمَ، وإنما كان غلامًا على عَهْد عمر، وأنا رجل، وقع ذكره في البخاريّ في "الحيض" من "صحيحه"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر عبد العزيز بن صهيب، عن أبي صفية، أن ابن زياد قَتَل أبا رزين، وقال أبو بكر بن أبي داود: أبو رزين الأسديّ، وقال: اسمه عُبيد، ضُرِبَتْ عنقه بالبصرة، رَوَى عن عليّ، ويقال: إنه مولاه، وأبو رزين آخر، أسديّ رَوَى عن سعيد بن جبير، اسمه مسعود بن مالك.

وأما الحاكم أبو أحمد في "الكنى"، فجعلهما واحدًا، اسمه مسعود بن مالك، وذلك وَهَمٌ، بالغ الْبَرْقَانيّ فيما حكاه الخطيب عنه في الردّ على من

ص: 152

زعم أنهما واحدٌ، وسببُ الاشتباه مع اتفاقهما

(1)

في الاسم واسم الأب، والنسبة إلى القبيلة والبلدان، والأعمش رَوَى عن كلٍّ منهما.

فتلَخَّصَ أن أبا رزين مختلف في اسمه، والأصح أنه مسعود بن مالك، ومختلف في ولائه أيضًا، وأما الراوي عن سعيد بن جبير فهو أصغر منه بكثير، لكنه شاركه في الأصح في اسمه، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ: ولكن الذي ظهر لي أن أبا رزين الأسديّ المسمى بِعُبَيد هو المقتول زمن عُبيد الله بن زياد بعد سنة ستين أو قبلها، وأن أبا رزين المسمى بمسعود بن مالك آخرُ تأخر إلى حدود التسعين من الهجرة، والله تعالى أعلم.

وقد أَرَّخَ ابن قانع وفاته سنة خمس وثمانين، وقال خليفة: مات بعد الجماجم، وحَكَى ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن شعبة أنه كان يُنكر سماع أبي رزين من ابن مسعود، وكذا أنكر ابن القطان سماعه من ابن أم مكتوم، وقال العجليّ: مسعود أبو رزين الأسديّ كوفيّ ثقة.

قال الحافظ: وقرأت بخط مغلطاي: قولُ المزيّ: "وقال يحيى: كان عالِمًا فَهِمًا" تصحيفٌ، والصواب ما ذَكَرَ البخاريّ في "تاريخه"، فإنه قال: قال يحيى القطان: حدثنا أبو بكر السرّاج، قال: كان أبو رزين أكبر من أبي وائل، قال يحيى: وكان عالِمًا بهما، يعني بالباء الموحدة المكسورة والهاء والميم على التثنية، والْمُخْبَر عنه بذلك أبو بكر السرَّاج، لا أبو رزين، بخلاف ما يُفهِمه كلام المزيّ. انتهى

(2)

.

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (278) و (279) و (1575) و (2098).

7 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

هكذا نسخة "تهذيب التهذيب"(4/ 63)، والظاهر أن لفظة "مع" غلطٌ، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(2)

"تهذيب التهذيب" 4/ 63 - 64.

ص: 153

وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لوكيع، وأبي معاوية، يعني أنه رَوَى كلّ منهما عن الأعمش.

وقوله: (فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: قَالَ: يَرْفَعُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الذي فَعَله مسلم رحمه الله من احتياطه، ودقيق نظره، وغزير علمه، وثبوت فهمه، فإن أبا معاوية ووكيعًا اختَلَفَت روايتهما، فقال أحدهما:"قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الآخر:"عن أبي هريرة، يرفعه"، وهذا بمعنى ذلك عند أهل العلم كما قدمناه في الفصول، ولكن أراد مسلم رحمه الله أن لا يروي بالمعنى، فإن الرواية بالمعنى حرام عند جماعات من العلماء، وجائزة عند الأكثرين، إلا أن الأولى اجتنابها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله (بِمِثْلِهِ) يعني أن حديث أبي رزين وأبي عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل حديث عبد الله بن شقيق عنه.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي رَزِين، وأبي صالح التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية عبد الله بن شقيق، ساقها الإمام أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(103)

حدثنا مسدد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رَزِين، وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل، فلا يَغْمِس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يَدري أين باتت يده". انتهى.

ورواية وكيع ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9710)

حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، وأبي رزين، عن أبي هريرة، رفعه - كذا قال الأعمش - قال:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يَدري أين باتت يده". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 182.

ص: 154

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[651]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عِمْران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، الإمام الحافظ الحجة الثبت، من كبار [8](ت 198)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشيّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحافظ الحجة الفقيه، رأس [4](ت 125)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

و"زهير"، و"عبد الرزاق" تقدّما قبل باب، والباقيان في السند الماضي.

وقوله: (قَالُوا) الضمير لشيوخه الثلاثة.

ص: 155

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) الضمير لأبي سلمة، وابن المسيّب.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن حديث أبي سلمة، وابن المسيّب كلاهما عن أبي هريرة بمثل حديث عبد الله بن شقيق، عنه.

[تنبيه]: رواية الزهريّ، عن أبي سلمة التي أحالها المصنّف هنا ساقها الإمام النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1)

أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في وَضُوئه حتى يغسلها ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده".

ورواية ابن المسيّب ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7546)

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيب، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم فلا يُدخل يده في إنائه - أو قال - في وَضوئه حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[652]

( .... ) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيَ هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي إِنَائِه، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِيمَ بَاتَتْ يَدُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11](ت سنة بضع و 240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الحرّانيّ، نُسِب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلٌ) - بفتح الميم، وكسر القاف - هو ابن عُبيد الله الْعَبْسيّ

ص: 156

مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين بالمدينة، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله رواية أبي الزبير، عن جابر، وهو مدلّس، وقد عنعن، وليست من رواية الليث عنه؟.

[قلت]: قد صرّح بالإخبار عند الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، حيث قال:

(8985)

حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: أخبرني جابر، أن أبا هريرة أخبره، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليُفْرِغ على يديه ثلاث مرات، قبل أن يُدخلهما في الإناء، فإنه لا يدري فيم باتت يده". انتهى.

وابن لهيعة متكلَّم فيه، لكنه لا بأس به في المتابعات، وأيضًا لحديثه شواهد من غير رواية جابر عن أبي هريرة، كما بيّن ذلك المصنّف في هذا الباب من عدّة طرق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[653]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي الْحِزَامِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح)، وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح)، وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ مَخْلَدٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح)، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 157

بَكْرٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ، وَابْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فِي رِوَايَتِهِمْ جَمِيعًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيث، كُلُّهُمْ يَقُولُ:"حَتَّى يَغْسِلَهَا"، وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ:"ثَلَاثًا" إِلَّا مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّب، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي رَزِينٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِمْ ذكْرَ الثَّلَاثِ).

هذَه الأسانيد في الحقيقة خمسة أسانيد، ساقها المصنّف رحمه الله مساقًا واحدًا بالتحويل، وبعض رجالها تقدّموا قريبًا، ولنذكر من لم يتقدّم قريبًا، فنقول:

رجال الإسناد الأول: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ الْبَغْلانيّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) هو: المُغيرة - بضم الميم على المشهور، ويقال: بكسرها - ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام - بمهملة، وزاي - ابن خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ القرشيّ الأسديّ الْحِزَاميّ المدنيّ، لقبه قُصَيّ، وقيل: إنه من ولد حكيم بن حِزَام، ثقةٌ، له غرائب [7].

رَوَى عن أبي الزناد، وموسى بن عقبة، وسالم أبي النضر، وربيعة، وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وهشام بن عروة، والضحاك بن عثمان الحزاميّ، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وأبو عامر الْعَقَديّ، وابن مهديّ، وابن وهب، ومحمد بن المبارك الصوريّ، ويحيى بن يحيى، ويحيى بن بكير، والقعنبيّ، وخالد بن مخلد، وسعيد بن أبي مريم، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وآخرون.

قال الْجُوزَجانيّ، عن أحمد: ما بحديثه بأس، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بشيء، وقال الآجريّ، عن أبي داود: رجل صالح، كان ينزل عسقلان، وقال في موضع آخر: سألت أبا داود، عن المغيرة بن عبد الرحمن

ص: 158

الْحِزَاميّ من ولد حكيم بن حزام، فقال: لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال أبو زرعة: هو أحب إليّ من ابن أبي الزناد، وشعيب - يعني في حديث أبي الزناد. وقال الخطيب: كان علّامةً بالنسب، يُسَمَّى قُصَيًّا، وقال ابن عديّ: ينفرد بأحاديث، وأورد منها جملةً، ثم قال: عامتها مستقيمةٌ، وأورد له عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا في القضاء باليمين والشاهد، وقد رواه ابنُ عجلان، وغير واحد، عن أبي الزناد، عن ابن أبي صَفِيّة، عن شُرَيح قولَهُ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والإسناد الثاني: فيه خمسة أيضًا:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ)، تقدّم أول هذا الباب.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(هِشَام) بن حسّان الأزديّ القردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(مُحَمَّد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ، عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

والإسناد الثالث: فيه ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في هذا الباب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الْهَيْثَم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

ص: 159

4 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوق ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهني الحرقيّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والإسناد الرابع: فيه خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عقبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

والإسناد الخامس: فيه تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المذكور في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسَانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلال الْحُلْوَانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس وُيرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(زِيَاد) بن سعد بن عبد الرحمن الْخُرَاسانيّ، أبو عبد الرحمن، سكن مكة، ثم تحول إلى اليمن، وكان شريك ابن جريج، ثقة، ثبتٌ [6].

رَوَى عن ثابت بن عياض الأحنف، وأبي الزناد، وعبد الله بن الفضل، والزهريّ، وابن عجلان، وأبي الزبير المكيّ، وحميد الطويل، وهلال بن أسامة، وغيرهم.

ورَوَى عنه مالك، وابن جريج، وابن عيينة، وأبو معاوية، وزَمْعَة بن صالح، وعِدَّة.

ص: 160

قال ابن عيينة: كان عالِمًا بحديث الزهريّ، وقال أيضًا: كان أثبت أصحاب الزهريّ، وقال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، وقال النسائيّ: ثقة ثبتٌ، وقال مالك: حدثنا زياد بن سعد، وكان ثقةً، من أهل خراسان، سكن مكة، وقدم علينا المدينة، وله هيئةٌ وصلاحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وقال الخليليّ: ثقةٌ، يُحتَجّ به، وقال ابن المدينيّ: كان من أهل التثبت والعلم، وقال العجليّ: مكيّ ثقةٌ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

6 -

(ثَابِتٌ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ) هو: ثابت بن عياض الأحنف الأعرج العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3] تقدم في "الإيمان" 65/ 368.

وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) ضمير التثنية يعود إلى محمد بن بكر، وعبد الرزاق.

وقوله: (فِي رِوَايَتِهِمْ جَمِيعًا) الضمير يعود إلى الرواة الخمسة: الأعرج، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن والد العلاء، وهمّام بن منبّه، وثابت مولى عبد الرحمن.

وقوله: (كُلُّهُمْ يَقُولُ إلخ) يعني أن كلًّا من هؤلاء الخمسة يقول في روايته: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها"، وليس في رواية أحد منهم زيادة لفظة "ثلاثًا"، هكذا قال المصنّف رحمه الله، لكن رواية العلاء فيها ذكر الزيادة، كما سيأتي من رواية أبي عوانة في "مسنده"، ويَحْتَمِل أن يكون المصنّف رحمه الله وقعت له رواية ليست فيها هذه الزيادة، وهذا الأرجح؛ لأنه إمام ذو اطلاع واسع، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجها الإمام مالك رحمه الله في "الموطّأ"، رواية يحيى بن يحيى، فقال:

(33)

حدثني يحيى، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإن أحدكم لا يَدري أين باتت يده".

وأما رواية محمد بن سيرين، عنه، فأخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 161

(10184)

حدثنا يزيد، أخبرنا هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يَغْمِس يده في طَهُوره حتى يُفرِغ عليها، فيغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده".

وقال الإمام أحمد أيضًا:

(8776)

حدثنا هَوْذة، حدثنا عَوْف، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فأراد الطُّهُور، فلا يَضعَنَّ يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده".

وأما رواية همّام بن منبّه، فأخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 222)، فقال:

(733)

حدثنا السلميّ

(1)

، والدَّبَريّ

(2)

، قالا: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم، فلا يَضَع يده في الوَضُوء، حتى يغسلها، إنه لا يَدري أحدكم أين باتت يده".

وأما رواية ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، فأخرجها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 222)، فقال:

(734)

حدثنا الدَّبَريّ، قال: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني زياد، أن ثابتًا مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، أنه سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم نائمًا، ثم استيقظ، فأراد الوُضُوء، فلا يَضَع يده في الإناء حتى يَصُبَّ على يده". انتهى.

وأما رواية العلاء، عن أبيه، فقد أخرجها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

هو أحمد بن يوسف بن خالد، أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان الحافظ المتوفّى سنة (264 هـ) وله (80) سنة، انظر:"تقريب التهذيب" ص 17.

(2)

بفتحتين: نسبة إلى قرية من قرى صنعاء اليمن، وهو الشيخ المسند الصدوق، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عبّاد الصنعانيّ، راوية عبد الرزاق، وُلد سنة (195 هـ) وتوفّي بصنعاء سنة (285 هـ)، راجع:"سير أعلام النبلاء" 13/ 416 - 417.

ص: 162

(735)

حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قام أحدكم إلى الوُضُوء حين يُصبِح، أو لعله قال: من نومه، أو كلمة نحوها، فليُفرِغ على يديه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده". انتهى.

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: "ثَلَاثًا") ظاهر هذا أن رواية العلاء، عن أبيه أيضًا لم تقع فيها هذه الزيادة، لكن قد عرفت آنفًا من رواية أبي عوانة أنها وقعت فيها، وقد أسلفت آنفًا بأنه يُحمل على أن المصنّف رحمه الله لم تقع له هذه الرواية التي فيها الزيادة، فليُتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(27) - (بَابُ حُكْمِ وُلُوغِ الْكَلْبِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[654]

(279) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرَقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ"

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرِ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ، له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وأبو رَزِين مسعود بن مالك الأسديّ، وأبو صالح ذكوان السمّان.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "سبع مرّات".

ص: 163

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبي رَزِين، فما أخرج له البخاريّ إلا في "الأدب المفرد".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فمروزيّ، والصحابى، وأبي صالح، فمدنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين: الأعمش، عن أبي رزين، وأبي صالح.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ)، أي شرب بطرف لسانه، وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَلَغَ الكلب يَلَغُ وَلْغًا، من باب نَفَعَ، ووُلُوغًا: شَرِب، وسقوط الواو كما في يَقَعُ، ووَلَغَ يَلِغُ، من بابي وَعَدَ وَوَرِثَ لغةٌ، وَيوْلَغُ، مثلُ يَوْجَلُ لغةٌ أيضًا، ويُعدَّى بالهمزة، فيقال: أولغته: إذا سقيته. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله

(2)

: يقال: وَلَغَ الكلب في الإناء يَلَغُ - بفتح اللام في الماضي والمستقبل جميعًا - وُلُوغًا: إذا شَرِب بطرف لسانه، ويُولَغ: إذا أولغه صاحبه، قال الشاعر:

مَا مَرَّ يَوْمٌ إِلَّا وَعِنْدَهُمَا

لَحْمُ رِجَالٍ أَوْ يُولَغَانِ دَمَا

وحكى أبو زيد: وَلَغَ الكلب بشرابنا، وفي شرابنا، ويقال: ليس في شيء من الطيور ما يَلَغ غير الذباب.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 672.

(2)

"شرح الإلمام بأحاديث الأحكام" 2/ 210 - 211.

ص: 164

وقال ابن العربيّ رحمه الله: الولوغ للسباع والكلاب، كالشرب لبني آدم، وقد يُستعمل في الشرب للسباع، ولا يُستعمل الولوغ في الآدميّ، قال: وقال أبو عبيد: الوُلُوغ بضمّ الواو إذا شرب، فإن كثر ذلك، فهو بفتح الواو. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": قال أهل اللغة: يقال: وَلَغَ الكلب يَلَغُ بفتح اللام فيهما، وحَكَى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب، عن ابن الأعرابيّ أن من العرب من يقول: وَلِغَ بكسرها، والمصدر منها وَلَغًا، ووُلُوغًا، ويقال: أولغه صاحبه، قال: الوُلُوغ في الكلب والسباع كلّها أن يُدخِل لسانه في المائع، فيُحرّكه، ولا يقال: وَلَغَ بشيء من جوارحه غير اللسان، ولا يكون الوُلُوغ لشيء من الطير إلا الذباب، ويقال: لَحَسَ الكلب الإناءَ، وقَفَنَهُ، ولَجَنَهُ، ولَجَدَهُ بالجيم فيهما كلّه بمعنىً، إذا كان فارغًا، فإن كان فيه شيء قيل: وَلَغَ، وقال صاحب "المطالع": الشرب أعمّ من الولوغ، فكلُّ وُلُوغ شُرْب، ولا عكسَ. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قوله: "إذا وَلَغَ الكلب" يَحْتَمِل وجهين:

(أحدهما): أن يكون فيه حذفٌ، على أن يكون المراد: إذا ولغ في الشيء الذي في الإناء.

(والثاني): أن لا يكون فيه حذفٌ؛ لأنه إذا ولغ فيما في الإناء، فقد ولغ في الإناء، وكان الإناء ظرفًا لولوغه.

وأما الرواية التي فيها: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليُرقه"، فإن أُضمر عند قوله:"في" على أن يُقدَّر في شراب إناء أحدكم، أو في مظروف إناء أحدكم، استُغْنِي عن الإضمار في قوله:"فليُرقه"، وإن لم يُضمر أوّلًا، فلا بدّ من الإضمار آخرًا، وليكن التقدير: فليُرق شرابه، أو مظروفه، أو ما ولغ فيه، أو أشباه ذلك، ويُرَجَّح الثاني بأنّا إذا أضمرنا فليُرق شرابه، أو ما يقارب ذلك، كان الضمير للإناء، وقوله:"ثم ليغسله" الضمير فيه للإناء، فتتّحِد

(1)

"عارضة الأحوذيّ" 1/ 134.

(2)

"المجموع" 2/ 588.

ص: 165

الضمائر، ولا تختلف، وإذا أضمرنا إذا ولغ في شراب إناء أحدكم، كان الضمير في قوله:"فليرقه" للشراب، والضمير في "ثم ليغسله" للإناء، فتختلف الضمائر مع المجاورة في اللفظ، وغيره أولى منه. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى

(1)

.

(فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) ظاهره العموم في الآنية، ومفهومه يُخرِج الماء المستَنقَعَ مثلًا، وبه قال الأوزاعيّ مطلقًا، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس يَجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، والإضافة التي في "إناء أحدكم" يُلْغَى اعتبارُها هنا؛ لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا قوله:"فليغسله" لا يتوقف على أن يكون هو الغاسل، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: استُدلّ بقوله: "في إناء أحدكم" على أنه إنما يُغسل من ولوغ الكلب إذا كان ولوغه في إناء، أما إذا ولغ في ماء مُستَنقع، فإنه لا يُغسل منه، ولا يُنجّسه، وإن كان الماء قليلًا، حكاه الطحاويّ عن الأوزاعيّ، وهو قول شاذّ، فإن ذلك لم يَخرُج مخرج القيد، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لكون الغالب وضع مياههم وأطعماتهم في الآنية. انتهى

(3)

.

وكذا قوله: (فَلْيُرِقْهُ) أي فليَصبّه (ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ) لا يُشترط أن يكون المريق، والغاسل صاحب الإناء (سَبْعَ مِرَارٍ") وفي نسخة:"سبع مرّات"، قال أبو البقاء رحمه الله: أصله مرّات سبعًا على الصفة، فلمّا قُدّمت الصفة، وأضيفت إلى المصدر نُصِبت نصب المصدر. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 213 - 214.

(2)

"الفتح" 1/ 330.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 120.

(4)

راجع: "زهر الربى" 1/ 53.

ص: 166

أخرجه (المصنّف رحمه الله هنا [27/ 654 و 655 و 656 و 657 و 658] (279)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(172)، و (أبو داود) في "الطهارة"(71 و 72)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(91)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 53 و 176)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(364)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 34)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 21)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(330)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 43)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 173)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 253 و 314 و 424 و 460)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(536 و 537 و 538 و 539 و 540 و 541 و 542 و 543)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(643 و 644 و 645 و 646)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1294 و 1295 و 1296)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(51)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 63 و 64 و 65)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 21)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 239)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(288)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب غسل ما ولغ فيه الكلب.

2 -

(ومنها): أن فيه بيانَ نجاسة الكلب، وأن نجاسته مغلّظة، بل هي أغلظ النجاسات، ولذا أُمر بغسلها سبع مرّات، وباستعمال التراب فيه، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): بيان أنه لا يكفي في إزالة ولوغ الكلب إلا سبع غسلات.

4 -

(ومنها): أنه إذا ولغ الكلب في الإناء لا يكفي معالجة سؤره بالتطهير، بل لا بدّ من إراقته، ثم غسل الإناء بعده سبعًا، إحداهنّ بالتراب.

5 -

(ومنها): أن مفهوم الشرط في قوله: "إذا وَلَغَ" يقتضي قَصْرَ الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا: إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدَّى الحكم إلى ما إذا لَحَس، أو لَعِقَ مثلًا، يكون ذكر الوُلُوغ للغالب، وأما إلحاق باقي أعضائه، كيده، ورجله، فمذهب الشافعيّ أنه كذلك؛ لأن فمه أشرفها، فيكون الباقي من باب أولى، وخصه في القديم بالأُولى، وقال النوويّ في "الروضة": إنه وجه شاذّ، وفي "شرح المهذَّب": إنه القويّ من حيث الدليل، والأولوية المذكورة

ص: 167

قد تُمْنَع؛ لكون فمه محلَّ استعمال النجاسات، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ، من عدم إلحاق باقي أعضاء الكلب بفمه هو الأرجح عندي؛ لقوّة دليله، كما قال، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): وجوب استعمال التراب مرّة واحدةً في الغسلات، والأفضل كونها مع الأولى؛ ليأتي الماء عليه بعدها.

7 -

(ومنها): تعيّن التراب في ذلك، فلا يجوز غيره من المزيلات، والمطهّرات؛ لأمور:

1 -

أنه يحصل بالتراب من الإنقاء ما لا يحصل بغيره من المزيلات، والمطهّرات.

2 -

أنه ظهر في البحوث العلميّة الحديثة أنه يحصل من التراب خاصّة إنقاء لهذه النجاسة لا يحصل من غيره، وهذه إحدى المعجزات العلميّة لهذه الشريعة المحمّديّة التي لم ينطق صاحبها عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، فقد ثبت طبيًّا، واكتُشف بالآلات المكبّرة، والمجاهر الحديثة أن في لعاب الكلب مكروبات، وأمراضًا فتّاكةً، لا يُزيلها الماء وحده، ما لم يُستعمل معه التراب خاصّةً - فسبحان العليم الخبير -.

3 -

إن التراب مورد النصّ في الحديث، فالواجب التقيّد بالنصّ، ولو قام غيره مقامه لجاء نصّ يشمله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

8 -

(ومنها): ما قاله صاحب كتاب "روح الدين الإسلاميّ": ومن حِكَم الإسلام لوقاية الأبدان تقريره بنجاسة الكلب، وهذه معجزة علميّةٌ للإسلام، سبق بها الطبَّ الحديث، حيث أثبت أن الكلاب تنقل كثيرًا من الأمراض إلى الإنسان حين تصاب بدودة شريطيّة تتعدّاها إلى الإنسان، وتصيبه بأمراض عُضال، قد تَصِل إلى حدّ العدوان على حياته، وقد ثبت أن جميع أجناس الكلاب لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطيّة، فيجب إبعادها عن كلّ ما له صِلَةٌ بالإنسان، من مأكل، أو مشرب. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 330.

(2)

راجع: "توضيح الأحكام" للشيخ البسّام رحمه الله 1/ 143 - 144.

ص: 168

9 -

(ومنها): أنه يجوز استعمال التراب بأن يُطرح الماء على التراب، أو التراب على الماء، أو أن يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيُغسل به المحلّ، أما مسح موضع الولوغ بالتراب فقط، فلا يُجزئ.

10 -

(ومنها): أن ظاهر النصّ عامّ في جميع الكلاب، وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك بعض العلماء، فقال: إن الكلب المأذون فيه للصيد، والحرث، والماشية مستثنًى من هذا العموم، وهذا يردّه حديث عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه الآتي، فإنه ظاهر في أن كلب الصيد ونحوه مأمور بغسل ما ولغ فيه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

11 -

(ومنها): أن حكم النجاسة يتعدّى عن محلّها إلى ما يُجاورها بشرط كونه مائعًا.

12 -

(ومنها): أن المائعات تنجُس إذا وقع في جزء منها نجاسة.

13 -

(ومنها): أن الإناء ينجس إذا اتّصل بالمائع النجس.

14 -

(ومنها): أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغيّر؛ لأن ولوغ الكلب لا يُغيّر الماء الذي في الإناء غالبًا.

15 -

(ومنها): أن فيه بيان أن ورود الماء على النجاسة يُخالف ورودها عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الماء لَمّا وردت عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه، وأمر بغسله، وحقيقته تتأدّى بما يُسمّى غسلًا، ولو كان ما يُغسل به أقلّ مما أُريق.

16 -

(ومنها): أن الأوزاعيّ: أخذ من قوله: "في إناء أحدكم" إخراج ماء المستنقع، لكن الجمهور على أن العبرة بالماء القليل، وهو الراجح.

17 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى -: الضمير المنصوب في قوله: "ثم ليغسله" عائد إلى الإناء، والإناء حقيقة في جملته، وقد لا يقع الولوغ فيما يعمّ الإناء، بل يختصّ بما يلاقي بعض الإناء، فهل يقال: إنما يُغسل ما لاقى الشيء الذي حصل فيه الولوغ، أو يقال: يغسل جميع الإناء؟.

أما من قال: إن الغسل للنجاسة، أو القذارة، فلا شكّ أنه لا يقول إلا بالغسل فيما لاقاه الولوغ.

ص: 169

وأما من قال بالتعبّد، فيلزمه أن يقول بغسل جميع الإناء، ما لاقى الولوغ، وما لم يلاقه؛ عملًا بحقيقة لفظة الإناء، فإن استكرهت هذا، فتأنّس بما قاله المغاربة من المالكيّة: إنه يغسل جميع الذَّكر من المذي؛ عملًا بحقيقة لفظ الذَّكر، وانطلاقها على الجملة، هذا مع كون المعنى معقولًا قطعًا في غسل ما لاقى المذي، وأنه للنجاسة.

وإن لم يقل هذا الذاهب إلى التعبّد بغسل الإناء كلّه، واقتصر على الغسل فيما يلاقي عكر عليه هذا في القول بالتعبّد، وذلك بأن يقال: لو كان تعبّدًا لما اختصّ بمحلّ الولوغ، لكن يختصّ، فليس بتعبّد، وحينئذ يحتاج إلى الجواب عن هذا، وهذا الكلام يجري في غسل ظاهر الإناء. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الغسل للنجاسة هو الأظهر، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

18 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: هل يجب هذا الغسل على الفور، أو عند إرادة الاستعمال؟.

من قصر الأمر على التعبّد، فيناسبه إيجابه على الفور، وفي كلام بعض المالكيّة بناء على أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور؟، وأنه إذا لم يقل بذلك جاز التأخير، هذا معنى قوله.

وهو معترض؛ لأنه إذا لم يقل بأن الأمر المطلق على الفور لم يلزم منه انقطاع دلالة هذا الأمر على الفور من حيث إنه أمر مطلق، وقد يدلّ عليه من غير هذا الوجه، وهو التعقيب الذي تدلّ عليه الفاء، أو الظرفيّة التي تدلّ عليها "إذا" مع أن العامل فيها هو الفعل الذي بعدها في لفظ بعض الروايات، فيقتضي الأمر بالغسل المذكور عند الولوغ، فيخرج عنه ما لا يُمكن اعتباره، وهو حالة الولوغ تحقيقًا، ويبقى فيما عداه بحسب الإمكان، والمشهور من مذهب المالكيّة أنه لا يؤمر إلا عند قصد الاستعمال، وأما من قال بالتنجيس، فالأمر ظاهر في ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 263 - 265.

(2)

"شرح الإلمام" 2/ 261 - 263.

ص: 170

قال الجامع عفا الله عنه: كون الغسل فورًا هو الأشبه، والأقرب إلى براءة الذمّة، والمرجّح في الأصول عند تجرّد الأمر المجرّد عن القرائن

(1)

، فكيف، وقد حَفّت به هنا، كما قرّره ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - والله تعالى أعلم.

19 -

(ومنها): بيان لطف الله تعالى بعباده، ورأفته بهم، حيث أباح لهم اقتناء الكلاب للحاجة، كالصيد، ونحوه، كما يأتي في حديث عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه، ومنعهم من اقتنائها لغير حاجة؛ لما فيه من إلحاق الضرر بالناس بالترويع ونحوه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نجاسة سؤر الكلاب، وطهارته:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في طهارة الماء الذي يَلَغُ فيه الكلب، فقالت طائفة: الماء طاهر يُتَطَهَّر به للصلاة، ويغسل الإناء كما أَمَر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الزهري يقول: إذا لم يجد غيره توضأ به، وكذلك قال مالك، والأوزاعي.

وقالت طائفة: يتوضأ بالماء الذي وَلَغ فيه الكلب، ثم يتيمم بعده، رُوي هذا القول عن عَبْدة بن أبي لبابة، وبه قال سفيان الثوريّ، وعبد الملك الماجشون، ومحمد بن مسلمة.

وقالت طائفة: الماء الذي ولغ فيه الكلب نَجَس يُهَراق، ويغسل الإناء سبعًا أولاهنّ، أو أخراهن بالتراب، هذا قول الشافعيّ، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي

(2)

، ثم رجّح ابن المنذر القول بعدم نجاسة الماء الذي ولغ فيه الكلب

(3)

.

(1)

راجع: ما حقّقته في: "التحفة المرضيّة" في الأصول ص 138.

(2)

هكذا قال ابن المنذر أن أصحاب الرأي يقولون: يُغسل سبعًا بالتراب، وفيه نظر؛ لأنهم يقولون: يُغسل ثلاثًا، بلا ترتيب، فتنبّه.

(3)

"الأوسط" 1/ 306 - 308.

ص: 171

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختلف الفقهاء في سؤر الكلب، وما ولغ فيه من الماء والطعام، فجملة ما ذهب إليه مالك، واستقَرّ عليه مذهبه عند أصحابه أن سؤر الكلب طاهرٌ، ويغسل الإناء من ولوغه سبعًا تعبدًا استحبابًا أيضًا لا إيجابًا، وكذلك يستحب لمن وَجَدَ ماء لم يَلَغْ فيه الكلب مع ماء قد وَلَغَ فيه كلب أن يترك الذي ولغ فيه الكلب، وغيره أحب إليه منه، وجاءت عنه روايات في ظاهرها اضطراب، والذي تحصل عليه مذهبه ما أخبرتك، ولا بأس عنده بأكل ما ولغ فيه الكلب، من اللبن والسمن وغير ذلك، ويستحب هَرْق ما ولغ فيه من الماء، وفي الجملة هو عنده طاهر.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والليث بن سعد: سؤر الكلب نجس، ولم يَحُدُّوا الغسل منه، قالوا: إنما عليه أن يغسله حتى يغلب على ظنه أن النجاسة قد زالت، وسواء واحد أو أكثر.

وقال الأوزاعيّ: سؤر الكلب في الإناء نجس، وفي المستَنْقَع ليس بنجس، قال: ويغسل الثوب من لعابه، ويغسل ما أصاب لحم الصيد من لعابه.

وقال الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وأبو ثور، والطبريّ: سؤر الكلب نجس، ويُغْسَل الإناء منه سبعًا، أولاهن بالتراب، وهو قول أكثر أهل الظاهر، وقال داود: سؤر الكلب طاهرٌ، وغسل الإناء منه سبعًا فرضٌ إذا ولغ في الإناء، وسواء كان في الإناء ماء، أو غير ماء، هو طاهر، ويُغْسَل منه الإناء سبعًا، ويتوضأ بالماء الذي ولغ فيه، ويؤكل غير ذلك من الطعام والشراب الذي ولغ فيه.

قال أبو عمر رحمه الله تعالى: مَن ذهب إلى أن الكلب ليس بنجس فسؤره عنده طاهر، وغسل الإناء من ولوغه سبع مرات هو عنده تعبدٌ في غسل الطاهر خصوصًا لا يَتَعَدَّى، ومن ذهب إلى أن الكلب نجس، وسؤره نجس، ممن قال أيضًا: إن الإناء من ولوغه يغسل سبعًا، قال: التعبد إنما وقع في عدد الغسلات من بين سائر النجاسات.

ومما احتج به من قال بنجاسة الكلب قوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم

" الحديث، فأمره بتطهير الإناء يدلّ على نجاسته.

ص: 172

وتعقّبه ابن عبد البرّ بأنه قد يقع التطهير على النجس وعلى غير النجس، ألا ترى أن الجنب ليس بنجس فيما مَسّ ولاصق، وقد قال الله عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فأمر الجنب بالتطهّر. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ملخّصًا

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أرجح الأقوال القول بنجاسة ولوغ الكلب، وأنه إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبع مرّات، ويُعفَّر الثامنة بالتراب.

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله في "شرح المنتقى" ما حاصله: ذهب الجمهور إلى نجاسة الكلب، وذهب عكرمة، ومالك في رواية عنه إلى أنه طاهر، ودليلهم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]؛ إذ لا يخلو الصيد عن التلوّث بريق الكلاب، ولم نؤمر بالغسل.

وأجيب عن ذلك بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجّس من الصيد، وعدمُ الأمر؛ للاكتفاء بما في أدلّة تطهير النجس من العموم، ولو سُلِّم فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه. انتهى

(2)

.

واستدلّوا أيضًا بما في "سنن أبي داود" عن عبد الله بن عمر، قال:"كانت الكلاب تبول، وتُقبِل وتُدبِر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشّون شيئًا من ذلك"، وهو في "صحيح البخاريّ"، عن شيخه أحمد بن شبيب، بلفظ: وقال أحمد بن شبيب إلخ.

قال ابن المنيّر: لا حجة فيه لمن استَدَلّ به على طهارة الكلاب؛ للاتفاق على نجاسة بولها.

قال في "الفتح": وتُعُقِّب بأن من يقول: إن الكلب يؤكل، وأن بول ما يؤكل لحمه طاهر يقدَح في نقل الاتفاق، لا سيما وقد قال جمع بأن أبوال الحيوانات كلها طاهرة، إلا الآدمي، وممن قال به ابن وهب، حكاه الإسماعيلي وغيره عنه، وسيأتي بيان ذلك.

وقال المنذريّ: المراد أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها، ثم

(1)

راجع: "التمهيد" 18/ 269 - 278.

(2)

"نيل الأوطار" 1/ 4.

ص: 173

تقبل وتدبر في المسجد؛ إذ لم يكن عليه في ذلك الوقت غَلَقٌ. قال: ويبعد أن تترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تَمْتَهنه بالبول فيه.

وتُعُقِّب بأنه إذا قيل بطهارتها لم يمتنع ذلك، كما في الهرة، والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجَعْلِ الأبواب عليها، ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيليّ في روايته، من طريق ابن وهب في هذا الحديث عن ابن عمر، قال:"كان عمر يقول بأعلى صوته: اجتنبوا اللغو في المسجد، قال ابن عمر: وقد كنت أَبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الكلاب الخ"، فأشار إلى أَن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام، وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب.

وأما قوله: "في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فهو وإن كان عامًّا في جميع الأزمنة؛ لأنه اسم مضاف، لكنه مخصوص بما قبل الزمن الذي أُمر فيه بصيانة المسجد. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

والحاصل: أن القول بنجاسة وُلُوغ الكلب هو الراجح عندي؛ لقوّة حجته، وأما سائر أجزائه، فطاهر؛ لأنه لم يقُم دليل على نجاسته، فهو باقٍ على البراءة الأصليّة، فتفطّن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم غسل ولوغ الكلاب:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: قد اختلف أهل العلم في عدد ما يُغسل الإناء من ولوغ الكلب فيه، فكان أبو هريرة، وابن عباس، وعروة بن الزبير، وطاوس، وعمرو بن دينار، ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، يقولون: يغسل سبع مرات.

وذهبت طائفة إلى أنه يُغسَل ثلاث مرات، هكذا قال الزهريّ، وقال عطاء: كل ذلك قد سمعت سبعًا، وخمسًا وثلاث مرات.

(1)

"الفتح" 1/ 334 - 335.

ص: 174

وقال بعضهم: يُغسَل الإناء من ولوغ الكلب فيه كما يُغسَل من غيره. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في العمل بظاهر هذا الحديث، فذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء المسلمين إلى أن الإناء يُغسَل من ولوغ الكلب سبع مرات بالماء.

وممن رُوي عنه ذلك بالطرُق الصحاح أبو هريرة، وابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، وطاوس، وعمرو بن دينار، وبه قال مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود.

وقال الزهريّ: يغسل ثلاث مرات.

وقال عطاء: كلّ ذلك قد سمعت سبعًا وخمسًا وثلاث مرات.

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والليث بن سعد إلى أنه يُغسَل بلا حَدّ.

قال أبو عمر رحمه الله: قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا ما يَرُدّ قول هؤلاء، فلا وجه للاشتغال به، ولقد رُوي عن عروة بن الزبير أنه كان له قَدَحٌ يبول فيه، فولغ فيه الكلب، فأمر عروة بغسله سبعًا؛ اتِّباعًا للحديث في ذلك. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ملخّصًا

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الحق الذي لا يجوز أن يُعدَل عنه هو القول بوجوب غسل ولوغ الكلاب سبع مرّات، بل ثمان مرّات، كما سيأتي؛ لوضوح حجته كالشمس في رابعة النهار، والذين قالوا بغير هذا إما يُعتذر عنهم بأنه لم يصل إليهم الخبر، أو أعرضوا عنه؛ لما ظنّوه أرجح منه، والظنّ قد يُصيب، وقد يُخطئ، وهذا خطأ بلا شكّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال في "الفتح": خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية، فأما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلًا، مع إيجابهم التسبيع على

(1)

راجع: "الأوسط" 1/ 304 - 305.

(2)

راجع: "التمهيد" 18/ 267 - 269.

ص: 175

المشهور عندهم؛ لأن التتريب لم يقع في رواية مالك، قال القرافي منهم: لقد صحّت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها؟، وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والمعروف عند أصحابه أنه للوجوب، لكنه للتعبد؛ لكون الكلب طاهرًا عندهم، وأبدى بعض متأخريهم له حكمةً غير التنجيس.

وعن مالك رواية بأنه نجس، لكن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد، لكن يَرِد عليه قوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث:"طُهُور إناء أحدكم"؛ لأن الطهارة تُستَعمل إما عن حدث أو خبث، ولا حَدَث على الماء، فتعيّن الخبث. وأجيب بمنع الحصر؛ لأن التيمم لا يَرفع الحدث، وقد قيل له: طُهُور المسلم، ولأن الطهارة تُطلَق على غير ذلك، كقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مَطهَرة للفم".

والجواب عن الأول بأن التيمم ناشئ عن حدث، فلما قام مقام ما يُطَهِّر الحدثَ سُمِّي طَهُورًا، ومن يقول بأنه يرفع الحدث

(1)

يمنع هذا الإيراد من أصله.

والجواب على الثاني أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حُمِلت على الشرعية إلا إذا قام دليل.

ودعوى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من وُلُوغه الكلبُ الْمَنْهيّ عن اتخاذه دون المأذون فيه يَحتاج إلى ثبوت تقدم النهي عن الاتخاذ على الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدلّ على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه؛ لأن الظاهر من اللام في قوله:"الكلب" أنها للجنس، أو لتعريف الماهية، فيحتاج المدَّعِي أنها للعهد إلى دليل، ومثله تفرقة بعضهم بين البدويّ والحضريّ.

وادَّعَى بعضهم أن ذلك مخصوص بالكَلْب الكَلِب، وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطبّ؛ لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه، كقوله:"صُبُّوا عليّ من سبع قِرَب"، وقوله:"مَن تصبّح بسبع تمرات عَجْوة".

(1)

هذا القول هو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه في أبواب التيمّم - إن شاء الله تعالى -.

ص: 176

وتُعُقّب بأن الكلب الْكَلِب لا يقرب الماء، فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه؟.

وأجاب حفيد ابن رُشْد بأنه لا يقرب الماء بعد استحكام الكَلَب منه، أما في ابتدائه فلا يمتنع.

وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل، والتعليل بالتنجيس أقوى؛ لأنه في معنى المنصوص.

وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس، رواه محمد بن نصر المروزيّ بإسناد صحيح، ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة خلافه.

والمشهور عن المالكية أيضًا التفرقة بين إناء الماء فيراق، ويغسل وبين إناء الطعام فيؤكل، ثم يغسل الإناء تعبدًا؛ لأن الأمر بالإراقة عامّ، فيُخَصُّ الطعام منه بالنهي عن إضاعة المال.

وعورض بأن النهي عن الإضاعة مخصوص بالأمر بالإراقة، ويترجح هذا الثاني بالإجماع على إراقة ما تقع فيه النجاسة من قليل المائعات، ولو عَظُم ثمنه، فثبت أن عموم النهي عن الإضاعة بخلاف الأمر بالإراقة.

وإذا ثبتت نجاسة سؤره كان أعمّ من أن يكون لنجاسة عينه، أو لنجاسة طارئة، كأكل الميتة مثلًا، لكن الأول أرجح؛ إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم كالهرة مثلًا، وإذا ثبتت نجاسة سؤره لعينه لم يدُلّ على نجاسة باقيه إلا بطريق القياس، كأن يقال: لعابه نجس، ففمه نجس؛ لأنه متحلِّب منه، واللعاب عَرَقُ فمه، وفمه أطيب بدنه، فيكون عرقه نجسًا، وإذا كان عرقه نجسًا كان بدنه نجسًا؛ لأن العرق متحلِّب من البدن، ولكن هل يلتحق باقي أعضائه بلسانه في وجوب السبع والتتريب أم لا؟ تقدمت الإشارة إلى ذلك من كلام النوويّ.

وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب، واعتذر الطحاويّ وغيره عنهم بأمور:

ص: 177

[منها]: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع.

وتُعُقِّب بأنه يَحْتَمِل أن يكون أفتى بذلك، لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نَسِيَ ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، وأيضًا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعًا، ورواية مَن روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر، وأما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وَرَدَت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عنه، وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة، فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عنه، وهو دون الأول في القوّة بكثير.

[ومنها]: أن الْعَذِرَة أشدّ في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يُقَيَّد بالسبع، فيكون الوُلُوغ كذلك من باب أولى.

وأجيب بأنه لا يلزم من كونها أشدّ منه في الاستقذار أن لا يكون أشدّ منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النصّ، وهو فاسد الاعتبار.

[ومنها]: دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نَهَى عن قتلها نُسِخ الأمر بالغسل.

وتُعُقِّب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدًّا؛ لأنه من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن مُغَفَّلٍ رضي الله عنهما، وقد ذَكَر ابن مغفل أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب.

[ومنها]: إلزام الشافعية بإيجاب ثمان غَسَلات؛ عملًا بظاهر حديث عبد الله بن مغفل الذي أخرجه مسلم، ولفظه:"فاغسلوه سبع مرات، وعَفِّروه الثامنة في التراب"، وفي رواية أحمد:"بالتراب".

وأجيب بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بظاهر حديث عبد الله بن مغفل أن يتركوا هُمْ العمل بالحديث أصلًا ورأسًا؛ لأن اعتذار الشافعية عن ذلك إن كان مُتَّجِهًا فذاك، وإلا فكلٌّ من الفريقين مَلُومٌ في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.

ص: 178

وقد اعتذر بعضهم عن العمل به بالإجماع على خلافه، وفيه نظرٌ؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصريّ، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرمانيّ عنه، ونُقِل عن الشافعيّ أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، ولكن هذا لا يُثبِت العذر لمن وقف على صحته.

وجنح بعضهم إلى الترجيح لحديث أبي هريرة على حديث ابن مغفل، والترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادةُ من الثقة مقبولةٌ، ولو سلكنا مسلك الترجيح في هذا الباب لم نَقُل بالتتريب أصلًا؛ لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك فقلنا به؛ أخذًا بزيادة الثقة.

وجَمَعَ بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فقال: لَمّا كان التراب جنسًا غير الماء جُعِل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودًا باثنتين.

وتعقّبه ابن دقيق العيد بأن قوله: "وعَفِّروه الثامنة بالتراب" ظاهر في كونها غسلةً مستقلةً، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع، كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازًا، وهذا الجمع من مُرَجِّحات تعيّن التراب في الأولى، والكلام على هذا الحديث، وما يتفرع منه منتشر جدًّا، ويمكن أن يُفْرَد بالتصنيف، ولكن هذا القدر كافٍ في هذا المختصر، والله المستعان. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من بيان أقوال العلماء، وأدلّتها، بما لها وما عليها، ومما يأتي من حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه أن أرجح الأقوال هو القول بوجوب غسل وُلُوغ الكلب ثمان مرّات، مع تتريب إحداهنّ، وكونها الأُولى هو الأَولى؛ لوضوح حجته النيّرة الواضحة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: وللعينيّ الحنفيّ تعقّبات على ما سبق عن "الفتح"، وكلها تعصّباتٌ محضة، قد ذكرت تفنيدها في "شرح النسائيّ"؛ أخذًا مما قاله

(1)

"الفتح" 1/ 331 - 333.

ص: 179

المحقّقون من الحنفيّة، كصاحب "السعاية في شرح الوقاية"، والعلّامة المباركفوري في كتابيه:"أبكار المنن"، و"تحفة الأحوذيّ"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قال ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى -: الإناءُ عامّ يدخل تحته أحوال الإناء لما كنّا قد قرّرنا في عموم الحكم في الأحوال إذا كان التخصيص ببعضها يخالف ما دلّ عليه اللفظ من العموم في الذوات على خلاف ما يقوله بعض المتأخّرين، فعلى هذا يدخل فيه الإناء الذي فيه الطعام؛ للعموم، ولمالك - رحمه الله تعالى - قول أنه لا يغسل إلا إناء الماء دون إناء الطعام، قال في "المدوّنة": إن كان يُغسل سبعًا للحديث ففي الماء وحده. انتهى.

ووُجِّه ذلك بأمرين:

أحدهما: مبنيّ على تخصيص العامّ بالعرف، والعرف أن الطعام محفوظ عن الكلاب، مصونٌ عنها؛ لعزّته عند العرب، فلا يكاد الكلب يَصِل إلا إلى الماء، فيُقيّد اللفظ بذلك.

الثاني: أن في الحديث "فليُرقه، وليغسله سبع مرّات"، والطعام لا يجوز إراقته؛ لحرمته، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، متّفق عليه.

ويجيء على البحث المتأخّر وجه ثالث، وهو أن يقال: هو عامّ في الأواني، مطلقٌ في أحوالها عَمِلنا به فيما إذا كان فيها الماء، والمطلق إذا عُمِل به مرّةً كفى في تأدّي الواجب، فلا يبقى حجة في إناء الطعام.

فأما الوجه الأول فمبنيّ على تخصيص العموم بالعرف، وفيه مَنْعٌ في الأصول، والراجح عند كثير من الأصوليين خلافه.

وأما الثاني، فضعيفٌ؛ لأن عموم الأمر بالإراقة يقتضي إراقة الطعام أيضًا، وتحريم إراقته ممنوع بعد دلالة العموم على الأمر بها، وماليّته أيضًا يمنعها القائل بتنجيسه بعد الولوغ فيه.

وأما الاستدلال بالنهي عن إضاعة المال، فسيأتي البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

ص: 180

وأما الوجه المتأخّر فمتأخّر؛ لما بيّنّا أنا لو خصّصناه ببعض أحواله لكان الخارج عن تلك الأحوال مخصوصًا عن العموم مع دلالة العموم على تناوله، ووجوب المحافظة عليها. انتهى كلام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى -

(1)

وهو بحثٌ نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال خاصّ بالمال عامّ بالنسبة إلى ما يَلَغ فيه الكلب، وما لم يَلَغ فيه، وأمره صلى الله عليه وسلم بإراقة ما ولغ فيه الكلب خاصّ بالنسبة إلى ما لم يَلَغ فيه، عامّ بالنسبة إلى المال وغير المال، فكلّ واحد منهما عامّ من وجه، خاصّ من وجه.

فلئن قال أحد الخصمين: أَخُصّ عموم الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب بالماء؛ عملًا بنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال خصمه: أَخُصّ نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال بما لم يلغ فيه الكلب؛ عملًا بقوله: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرقه"، فإذا تقابلا فلا بدّ من الترجيح، وقد يُرجّح العمل بهذا الحديث؛ لوجهين:

أحدهما: أن يقال: النهي عن إضاعة المال عاتم مخصوص بالاتّفاق، فإنه يُخرج عنه المائعات التي تغلو قيمتها، وتكثر بعد وقوع قطرة من البول فيها، والعموم في هذا الحديث غير مخصوص بالإجماع - أي حيث لم يُجْمَع على تخصيصه - فإن القائل بالنجاسة يعمّ به كلّ ما يُولَغُ فيه، والعمل بالعموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه أولى من العمل بالعموم الذي أُجمع على تخصيصه.

فإن قال: لا أسلِّم أن المائع الذي وقعت فيه قطرة البول مالٌ بعد وقوعها فيه، قال خصمه: لا أسلِّم أن الطعام مال بعد ولوغ الكلب فيه.

الوجه الثاني: أن يقال: مقصود ذلك الحديث النهي عن التبذير، وإضاعة المال من غير غرض صحيح، والمقصود من هذا الحديث إما الإبعاد، وإما التنزّه عما لحقه سؤر الكلب؛ لنجاسته، أو لقذره، وهذا المقصود أخصّ بالنسبة إلى ما يقع فيه الولوغ من ذلك المقصود - أي النهي عن إضاعة المال -

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 225 - 227.

ص: 181

وقد ظهر اعتباره في بعض ما يقع فيه الولوغ، فالعموم بالنسبة إلى هذا المقصود أمسّ من العموم بالنسبة إلى ذلك المقصود إذا اعتبرنا المقاصد. انتهى كلام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى -

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - بحثٌ نفيسٌ.

وحاصله ترجيح القول بعموم الإناء إناء الماء والطعام؛ لقوة مُدرَكه، كما حقّقه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): لفظ الإناء لَمّا كان عامًّا دخل تحته إناء الفَخَّار

(2)

غير المزجَّج مما يتشرّب الماء وغيره، ويغوص فيه، وقد حُكم بطهارته بالغسل، فقد يُجعل أصلًا لمسألة اختُلِف فيها، وهي أن الفَخّار إذا اتّصَل به نجسٌ غَوّاصٌ، كالبول، هل يطهر بالغسل؟ وكذلك ما يناسبه مثل الزيتون يُمَلَّح بماء نجس، والقَمْح يُنقَع بماء نجس، وهذا البحث بناء على نجاسة الماء، فيستمرّ من غير اعتراض؛ لأنه حينئذ لا فرق بين أن يَلَغَ في الماء الذي في الإناء، أو يؤخذ الماء الذي في الإناء بعد وُلُوغه، ويُجعَل في إناء فَخّار.

قال الطحاويّ - رحمه الله تعالى - لَمّا تكلّم في مسألة نزح ماء البئر: فإن قال قائل: فأنتم قد جعلتم ماء البئر نجسًا بوقوع النجاسة فيها، فكان يقتضي ذلك أن لا تَطهُر البئر أبدًا؛ لأن حيطانها قد تشرّبت ذلك الماء النجس، واستكنّ فيها، فكان ينبغي أن تُطمّ.

قيل له: ألم تر العادات جرت على هذا؟ وقد فَعَل عبد الله بن الزبير ما ذكرنا في ماء زمزم

(3)

، ورآه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكروا ذلك عليه،

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 227 - 229.

(2)

"الْفَخّار" بفتح الفاء، وتشديد الخاء: الطين المشويّ، وقبل الطبخ هو خَزَفٌ، وصَلْصَال. قاله في:"المصباح" 2/ 464.

(3)

هو ما رواه الطحاويّ في: "شرح معاني الآثار"(1/ 17) بسند حسن، عن عطاء بن أبي رَبَاح أن حَبَشِيًّا وقع في زمزم فمات، فأمر ابن الزبير، فَنُزِح ماؤها، فجَعَل الماء لا ينقطع، فَنَظَر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم. انتهى.

ص: 182

ولا أنكره من بعدهما، ولا رأى أحد منهم طَمّها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الذي قد نَجِسَ من ولوغ الكلب فيه

(1)

أن يُغسل، ولم يأمر أن يُكْسَر، وقد تشرّب من الماء النجس، فكما لم يأمر بكسر الإناء في ذلك، فكذلك لا يُؤمر بِطَمّ تلك البئر، فهذه فائدة استنتجها الطحاويّ من هذا الحديث، ذكره ابن دقيق العيد رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة هذا البحث أن الإناء الذي أُمر بغسله من وُلُوغ الكلب عامّ، فيتناول ما يتشرّب الماء، كالفخّار، وما لا يتشرّبه كأواني الزجاج، فلا فرق بين النوعين في وجوب غسله فقط، ولا يلزم كسر النوع الأول، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): قال الحافظ العراقيّ - رحمه الله تعالى -: هل تتعدّد الغسلات في ولوغ الكلب بتعدّد الولغات من كلب واحد، أو كلبين، فأكثر؟ خلاف بين أصحابنا - يعني الشافعيّة - والأصحّ أنه يكفي للجميع سبع، وقيل: يجب لكلّ وَلْغة سبعٌ، وقيل: يكفي السبع في وَلَغَات الكلب الواحد، وتتعدّد بتعدّد الكلاب، وكذلك لو تنجّس بنجاسة أجنبيّة غير الكلب لم تجب الزيادة على السبع، بل يندرج الأصغر في الأكبر، كالحدث على الصحيح، وادَّعَى النوويّ، وابن الرفعة نفي الخلاف فيه، وليس بجيّد، ففيه وجه حكاه الرافعيّ في الشرح الصغير أنه يجب غسله للنجاسة الأجنبيّة أيضًا. انتهى كلام العراقيّ - رحمه الله تعالى -

(3)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[655]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ

(4)

: "فَلْيُرِقْهُ").

(1)

قد عرفت فيما سلف أن نجاسة الكلب محلّ نظر، فلا تنس، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح الإلمام" 2/ 229 - 230.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 125 - 126.

(4)

وفي نسخة: "ولم يذكر".

ص: 183

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 27.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقَاني - بضمّ المعجمة، وسكون اللام، بعدها قافٌ - أبو زياد الأسديّ الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا - بفتح المعجمة، وضمّ القاف الخفيفة، وبالمهملة - صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 3 أو 174)(ع)، تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ)، أي بإسناد عليّ بن مُسهر، عن الأعمش المذكور قبله، حال كون متنه مثل متنه.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن زكريّاء التي أحالها المصنّف هنا على رواية عليّ بن مسهر لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[656]

(

) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

والباقون تقدّموا في ثاني أحاديث هذا الباب.

وقوله: (إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ) قال في "الفتح": كذا هو في "الموطأ"،

ص: 184

والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه: "إذا وَلَغَ"، وهو المعروف في اللغة، يقال: وَلَغ يَلَغ - بالفتح فيهما -: إذا شَرِبَ بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحرَّكه، وقال ثعلب: هو أن يُدخِل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، فيحرّكه، زاد ابن دُرُسْتُوَيْهِ: شَرِب أو لم يشرَب، وقال ابن مكيّ: فإن غير مائع يقال: لَعِقَه، وقال المطرزيّ: فإن كان فارغًا يقال: لَحَسَه.

وادَّعَى ابنُ عبد البر أن لفظ "شَرِبَ" لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ "وَلَغَ"، وليس كما ادَّعَى، فقد رواه ابنُ خزيمة، وابن المنذر، من طريقين عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا شَرِب"، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ:"إذا وَلَغ"، كذا أخرجه مسلم وغيره من طُرُق عنه.

وقد رواه عن أبي الزناد شيخِ مالك بلفظ: "إذا شرب" ورقاءُ بن عمر، أخرجه الْجَوْزَقيّ، وكذا المغيرة بن عبد الرحمن، أخرجه أبو يعلى، نعم، ورُوِيَ عن مالك بلفظ:"إذا ولغ"، أخرجه أبو عبيد في "كتاب الطهور" له، عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيليّ، وكذا أخرجه الدارقطنيّ في "الموطآت" له، من طريق أبي عليّ الحنفيّ، عن مالك، وهو في نسخة صحيحة من "سنن ابن ماجه"، من رواية رَوْح بن عُبادة، عن مالك أيضًا، وكأنّ أبا الزناد حدَّث به باللفظين؛ لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بينا أخصّ من الوُلُوغ، فلا يقوم مقامهُ. انتهى

(1)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى أولَ الكتاب قال:

[657]

(

) - (وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ").

(1)

"الفتح" 1/ 330.

ص: 185

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ المذكور قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عُليّة، أبو بشر الأسديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وهشام بن حسّان هو: القُرْدوسيّ.

وقوله: (أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) قال النوويّ رحمه الله: معنى الغسل بالتراب هو أن يُخلَط التراب في الماء حتى يتكدّر، ولا فرق بين أن يُطرح الماء على التراب، أو التراب على الماء، أو يأخذ الماء الكدِرَ من موضع، فيغسل به، فأما مسح موضع النجاسة بالتراب، فلا يُجزئ، ولا يجب إدخال اليد في الإناء، بل يكفي أن يُلقيه في الإناء، ويحرّكه، ويُستحبّ أن يكون التراب في غير الغسلة الأخيرة؛ ليأتي عليه ما يُنظّفه، والأفضل أن يكون في الأولى. انتهى كلام النوويّ

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) هكذا رواية ابن سيرين فيها التتريب، قال في "الفتح": ولم يقع في رواية مالك التتريب، ولم يثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره، ورُوي أيضًا عن الحسن، وأبي رافع، عند الدارقطنيّ، وعبد الرحمن والد السُّدّيّ، عند البزار.

واختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، فلمسلم وغيره من طريق هشام بن حسّان عنه:"أُولاهنّ"، وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين، وكذا في رواية أبي رافع المذكورة، واختُلِف عن قتادة، عن ابن سيرين، فقال سعيد بن بَشِير عنه:"أُولاهنّ" أيضًا، أخرجه الدارقطنيّ، وقال أبان، عن قتادة:"السابعة"، أخرجه أبو داود، وللشافعيّ عن سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين:"أولاهن، أو إحداهنّ"، وفي رواية السدّيّ، عند البزار:"إحداهنّ"، وكذا في رواية هشام بن عروة، عن أبي الزناد عنه.

فطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: "إحداهنّ" مُبْهَمَةٌ، و"أولاهنّ"،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 186.

ص: 186

و"السابعة" مُعَيَّنةٌ، و"أو" إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمُقتضى حمل المطلق على المقيد أن يُحْمَل على أحدهما؛ لأن فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي نَصَّ عليه الشافعيّ في "الأُمّ"، و"البُوَيطيّ"، وصرح به المرعشيّ، وغيره من الأصحاب، وذكره ابن دقيق العيد، والسبكيّ بحثًا، وهو منصوص كما ذكرنا، وإن كانت "أو" شَكًّا من الراوي، فرواية من عَيَّن ولم يَشُكَّ أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية "أُولاهنّ" ورواية "السابعة"، وروايةُ "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية، والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضًا؛ لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نَصَّ الشافعي في حرملة على أن الأُولى أَوْلى، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" تحقيقٌ نفيسٌ، خلاصته ترجيح رواية "أُولاهن" روايةً ودرايةً على غيرها، فيكون التتريب في الغسلة الأولى، حتى يتحقّق التنظيف المطلوب على الوجه الأحسن والأليق، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "أولاهنّ"، وفي رواية:"أُخراهنّ" الذي يُفهَم منه أن المراد بالأولى المبتدأ بها، وبالأخرى المختتم بها، وفيه نزاع، وهو أن الأخرى تأنيث آخر - بفتح الخاء - وأن ذلك لا يدلّ إلا على المغايرة، لا على الانتهاء. قال ابن مالك - رحمه الله تعالى -: الفرق بي نآخرة وأخرى أن التي هي أنثى آخر لا تدلّ على الانتهاء، كما لا يدلّ عليه مذكّرها، فلذلك تعطف عليهما مثلهما من صنف واحد، كقولك: عندي رجل، وآخر، وآخر، وعندي امرأةٌ، وأُخرى، وأُخرى، وليس كذلك آخرة تدلّ على الانتهاء، كما يدلّ عليه مذكّرها، ولذلك لا يُعطَف عليهما مثلهما من صنف واحد، فلا يقال: جاء زيدٌ أول، وعمرو آخر، ورجلٌ آخر.

(1)

"الفتح" 1/ 331.

ص: 187

وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب - رحمه الله تعالى -: لا يقال: العشر الأُخَر؛ لأن الأُخَرَ جمع أُخرى، وأُخرى تأنيث آخر، ومدلوله وصفٌ مغاير بمتقدّمٍ ذِكرُهُ، وإن كان متقدّمًا في الوجود، وكذلك مؤنّثه ومجموعه، وليست دلالته على المتأخّر في الوجود حتى صارت نسيًا منسيًّا، فتقول: مررت بزيد، ورجلٍ آخر، فلا يُفهم من ذلك إلا وصفه لمغاير متقدّم ذكره، وهو زيد، حتى صار معناه أحد الشيئين، ولا يُفهم من ذلك كونه متأخّرًا وجودًا، ومن ثمّ لم يقولوا: ربيع الآخَر، ولا جمادى الأُخرى؛ لعلمهم بانتفاء دلالة ذلك على مقصودهم؛ لأن المقصود التأخّر الوجوديّ، فعدلوا إلى ربيع الآخِرِ - بكسر الخاء - وإلى جمادى الآخِرة، حتى تَحْصُل الدلالة على مقصودهم في التأخّر الوجوديّ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال ابن دقيق العيد رحمه الله أيضًا: قوله: "فاغسلوه سبعًا، أولاهنّ، أو أخراهنّ بالتراب"، قد يدلّ لما قاله بعض أصحاب الشافعيّ: إنه لا يكفي ذرّ التراب على المحلّ، بل لا بُدّ أن يجعله في الماء، ويوصله إلى المحلّ.

ووجه الاستدلال أنه جعل مرّة التتريب داخلةً في قسم مسمَّى الغسلات، وذَرّ التراب لا يُسمّى غسلًا، قال: وهذا ممكنٌ، وفيه احتمالُ أنه إذا ذَرّ التراب على المحلّ، وأتبعه بالماء يصحّ أن يقال: غَسَلَ بالتراب، ولا بُدّ من مثل هذا في أمره صلى الله عليه وسلم في غسل الميت بماء وسِدْر عند من يرى أن الماء المتغيّر بالطاهر غير طَهُور، إن جرى على ظاهر الحديث في الاكتفاء بغسلة واحدة؛ إذ بها يحصل مسمَّى الغسل، وهذا جيّد.

إلا أن قوله: "وعفِّروه" قد يُشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذَرّ التراب على المحلّ، فإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرًا لغةً، فقد ثبت ما قالوه

(2)

، لكن لفظة التعفير حينئذ تُطلق على ذرّ التراب على المحلّ، وعلى إيصاله بالماء

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 214 - 218.

(2)

أي: بعض أصحاب الشافعيّ الذين قالوا: لا يكفي ذَرّ التراب على المحلّ.

ص: 188

إليه، والحديث الذي دلّ على اعتبار مسمّى الغسلة إذا دلّ على خلطه بالماء، وإيصاله إلى المحلّ به، فذلك أمر زائد على مطلق التعفير على التقدير الذي ذكرناه من شُمول اسم التعفير للصورتين معًا، أي ذرِّ التراب، وإيصاله بالماء. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:

[658]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

: "طُهُورُ

(3)

إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيه، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد بعينه تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) الأشهر فيه ضمّ الطاء، ويقال بفتحها، لغتان، تقدّمتا في أول كتاب الطهارة

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[659]

(280) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، سَمِعَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّل، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَاب، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ "، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْد، وَكَلْبِ الْغَنَم، وَقَالَ: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاء، فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ").

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 155 - 158.

(2)

وفي نسخة: "وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "طهر".

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 184.

ص: 189

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عَمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ

القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجّة الناقد البصير [7](ت 160)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) - بمثنّاة، ثم تحتانيّة ثقيلة، وآخره مهملة - يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة - البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5].

رَوَى عن أنس، وأبي عثمان النَّهْديّ، وأبي الوَدّاك، وحفص الليثيّ، والحسن البصريّ، وثمامة بن عبد الله بن أنس، وأبي مِجْلَز، ومُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخّير، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، وموسى بن سَلَمة، في آخرين.

ورَوَى عنه سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وعبد الوارث بن سعيد، والمثنى بن سعيد الضُّبَعيّ، وهمّام، والحمادان، وبِسْطام بن مسلم، وابن عُلَيّة، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثبتٌ ثقةٌ ثقةٌ، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: معروف، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال رَوْح بن عُبَادة، عن شعبة: كنا نَكْنِيه أبا حماد، وبلغني أنه كان يُكْنَى أبا التياح، وهو صغير، وقال شعبة: قال أبو إسحاق: سمعت أبا إياس يقول: ما بالبصرة أحدٌ أحب إلي من أن ألقى الله تعالى بمثل عمله من أبي التّيّاح، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال الحاكم في "تاريخ نيسابور": ثقةٌ مأمونٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال مسلم بن الحجاج رحمه الله: مات بِسَرَخْس، وقال الترمذيّ، وعمرو بن عليّ: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقال خليفة بن خياط: مات سنة ثلاثين، وقال ابن حبان: مات سنة ثمان وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.

ص: 190

5 -

(مُطَرِّفُ

(1)

بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن الشِّخِّير - بكسر الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة المكسورة، بعدها تحتانيّة، ثم راءٌ - العامريّ الْحَرَشيّ - بمهملتين مفتوحتين، ثم معجمة - أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2].

رَوَى عن أبيه، وعثمان، وعليّ، وأبي ذرّ، وعمّار بن ياسر، وعِيَاض بن حِمَار، وعبد الله بن مغفل، وعثمان بن أبي العاص، وعمران بن حصين، وعائشة، ومعاوية، وأبي مسلم الْجَذْميّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أخوه أبو العلاء يزيد، وابن أخيه الآخر عبد الله بن هانئ بن عبد الله بن الشِّخِّير، وحميد بن هلال، ويزيد الرِّشْك، وأبو نَضْرة، والحسن البصريّ، وغَيْلان بن جرير، وسعيد بن أبي هند، ومحمد بن واسع، وأبو التياح، وثابت البنانيّ، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة، وقال: رَوَى عن أُبَيّ بن كعب، وكان ثقةً ذا فضل ووَرَع وأدب، وقال العجليّ: كان ثقةً، ولم يَنْجُ بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا مُطَرِّف، وابن سيرين، وقال العجليّ أيضًا: بصريّ ثقةٌ، من كبار التابعين، رجلٌ صالحٌ، وقال مهديّ بن ميمون، عن غيلان بن جرير: كان بينه وبين رجل كلام، فكَذَب عليه، فقال مطرف: اللهم إن كان كاذبًا فأمته، فخَرّ مكانه ميتًا، وعن غيلان أن مطرفًا كان يلبس المطارف، ويركب الخيل، ويَغْشَى السلطان، ولكن إذا أفضيتَ إليه أفضيتَ إلى قُرّة عين، وقال يزيد بن عبد الله بن الشّخِّير: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، ومطرف أكبر مني - يعني بعشر سنين -، وقال ابن حبان في "الثقات": وُلِد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان من عُبّاد أهل البصرة وزُهّادهم.

قال ابن سعد: تُوُفّي في أول ولاية الحجاج، وقال عمرو بن عليّ، والترمذيّ: مات سنة خمس وتسعين.

قال الحافظ رحمه الله: الأشبه من كلام ابن سعد أنه مات في آخر ولاية الحجاج، فلا مخالفة حينئذ بين ما قال ابن سعد وبين ما قال عمرو بن عليّ. انتهى.

(1)

بضم الميم، وفتح الطاء المهملة، وكسر الراء المشدّدة.

ص: 191

وذكر جماعة أنه مات في طاعون الجارف سنة سبع وثمانين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

6 -

(ابْنُ الْمُغَفَّلِ) - بضمّ الميم، وفتح الغين المعجمة، والفاء المشدّدة المفتوحة - هو: عبد الله بن مُغَفَّل بن عبد نَهْم بن عَفِيف بن أسحم بن ربيعة بن عديّ بن ثعلبة بن ذُوَيب المزنيّ، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الرحمن، سكن المدينة، ثم تحوَّل إلى البصرة، وهو من أصحاب الشجرة.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعثمان، وعبد الله بن سالم، وعنه حميد بن هلال، وثابت البنانيّ، ومُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، ومعاوية بن قرة، وعقبة بن صُهْبان، والحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن بُريدة، وابن له غير مُسَمّى يقال: اسمه يزيد، وغيرهم.

قال الحسن البصريّ: كان أحد العشرة الذين بعثهم إلينا عمر، يفقهون الناس، وكان من نقباء أصحابه.

قال البخاريّ: قال مسدد: مات بالبصرة سنة (57)، وقال غيره: مات سنة (61)، وقال ابن عبد البرّ: سنة ستين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وشعبة، وإن كان واسطيًّا، إلا أنه نزل البصرة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: أبي التيّاح، عن مُطرّف.

5 -

(ومنها): أن أبا التيّاح، ومطرّف، وابن مغفّل هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا جملة ما لهم فيه من الأحاديث، والله تعالى أعلم.

ص: 192

شرح الحديث:

(عَن) عبد الله (ابْنِ الْمُغَفَّلِ) رضي الله عنه، وهو بصيغة اسم المفعول، و"أل" فيه للمح الوصفيّة، ويجوز حذفها، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كـ "الْفَضْلِ" وَ"الْحَارِثِ" وَ"النُّعْمَانِ"

فذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

(قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ) سبب ذلك كما في "صحيح مسلم" عن ابن عبّاس، عن ميمونة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يومًا واجِمًا، فقالت ميمونة: يا رسول الله، لقد استنكرتُ هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن جبريل كان وَعَدني أن يلقاني الليلة، فلم يَلْقَني، أما والله ما أخلفني"، قال: فظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جِرْوُ كلبٍ تحت فُسْطاط لنا، فأَمَر به، فأُخرِج، ثم أَخَذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له:"قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة"، قال: أَجَلْ، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، ولا صورة، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأَمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير.

وقيل: إنما أمر بذلك تغليظًا عليهم؛ لأنهم كانوا مُولَعِين به.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما أمرهم بقتلها لَمّا كثُرت، وكثُر ضررها، ثم لَمّا قَتَلَ أكثرها، وذهب ضررها أنكر قتلها، وقال:"ما بالهم وبال الكلاب؟ "، ويَحْتَمِلُ أن يكون ذلك ليقطع عنهم عادة إِلْفهم لها؛ إذ كانوا قد أَلِفُوها، ولابسوها كثيرًا. انتهى.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ ")، أي: ما حالهم وحالها؟، فـ "ما" استفهاميّة، وهو استفهام إنكار، وهو يحتمل أن يكون إنكارًا لاقتنائهم، وهو ظاهر هذه الرواية، وَيحْتَمِل أن يكون إنكارًا لقتلهم، ويؤيّده رواية أبي نُعيم في "مستخرجه" (1/ 335) بلفظ:"ما بالي وبال الكلاب؟ "، (ثُمَّ رَخَّصَ) أي سهّل صلى الله عليه وسلم، ويسّر، يقال: رَخَّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله (فِي كَلْبِ الصَّيْدِ)، أي في اقتناء كلب لأجل أن يصطاد به (وَكَلْبِ الْغَنَمِ)، أي وفي اقتناء كلب؛ لحِرَاسة الغنم، وفي الرواية التالية:

ص: 193

"ورخّص في كلب الغنم، والصيد، والزرع"، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ) من باب نفع، وشَرِبَ، ووَعَدَ، وورِثَ، ووَجِلَ، كما سبق بيان ذلك كلّه، أي شَرِبَ بطرف لسانه (فِي الْإِنَاءِ) هذا مبيّن أن ما تقدّم بلفظ:"في إناء أحدكم" بالإضافة غير معتبَر، كما حقّقناه في ما مضى (فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ) هذا ظاهرٌ في أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد أن رخّص لهم في كلب الصيد والغنم، ففيه ردّ على من زعم من المالكيّة أن الكلب الذي أمر بغسل وُلُوغه غير المأذون فيه، كما سبق تحقيقه (وَعَفِّرُوهُ)، أي ادْلُكُوه، وهو: بتشديد الفاء، وتُخَفَّف، قال في "المصباح": الْعَفَر - بفتحتين -: وجه الأرض، ويُطلق على التراب، وَعَفَرتُ الإناء عَفْرًا، من باب ضَرَبَ: دَلَكتُهُ بالْعَفَر، فانعفر هو، واعتَفَرَ، وعَفَّرته بالتثقيل مبالغةٌ، فتعفّر ومعناه: مَرّغوه، وادْلُكوه بالتراب، وقال صاحب "المطالع": عَفِّروه: اغسلوه بالتراب، أي مع الماء (الثَّامِنَةَ) أي المرّة، أو الْغَسْلَة الثامنة، فهو منصوب على المصدريّة، كما تقدّم نظيره في الحديث الماضي (فِي التُّرَابِ") متعلّق بـ "عفّروه"، و"التُّرَاب": اسم جنس، لا يُثنّى، ولا يُجمع، وقال المبرّد: هو جمعٌ، واحدته تُرَابةٌ، قاله ابن الملقّن رحمه الله.

[فائدة]: "التراب" فيه لغات، قال في "القاموس"، و"شرحه" (1/ 157): التُّرْب - أي بضم، فسكون - والتُّرَاب، والتُّرْبة، والتَّرْبَاءُ كصَحْرَاء، والتُّرَبَاءُ، كنُفَسَاء، والتَّيْرَب، كصَيْقَلٍ، والتَّيْرَاب، بزيادة الألف، وتقديم الياء على الراء، والتَّوْرب، كجَوْهَر، والتَّوْرَاب، بزيادة الألف، والتَّرْيَبُ، كعَثْيَر، والتَّرِيب، كأَمِيرٍ، وجمع التُّرَاب أَتْرِبةٌ، وتِرْبان بالكسر، وحُكي الضمّ، ولم يُسمع لسائرها بجمع. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 40 - 41): التراب معروفٌ، والصحيح المشهور الذي قاله الإمام الفرّاء، والمحقّقون: إنه اسم جنس لا يُثَنَّى، ولا يُجمع، ونَقَل أبو عمرو الزاهد في "شرح الفصيح" عن المبرّد أنه قال: هو جمع، واحدته تُرَابةٌ، والنسبة إلى التراب تُرَابيّ، وذكر أبو جعفر النحّاس في كتابه "صِنَاعة الكتاب" في التراب خمس عشرة لغةً، فقال: يقال: تُرَابٌ، وتَوْرَبٌ، يعني على مثال جَعْفَر، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَبٌ - بفتح أولهما - والإِثْلِبُ، والأَثْلَبُ، الأول بكسر الهمزة واللام، والثاني بفتحهما، والثاء مثلّثةٌ

ص: 194

فيهما، ومنه قولهم: بفيه الأَثْلَبُ، وهو الْكَثْكَثُ بفتح الكافين، وبالثاء المثلّثة المكرّرة، والْكِثْكِثُ بكسر الكافين، والدِّقْعِمُ بكسر الدال والعين، والدَّقْعَاءُ بفتح الدال والمدّ، والرَّغَامُ بفتح الراء والغين المعجمة، ومنه: أرغم الله تعالى أنفه، أي ألصقه بالزَغَام، وهو الْبَرَا مقصورًا مفتوح الباء الموحّدة، كالعَصَا، والْكِلْخِمُ بكسر الكاف، والخاء المعجمة، وإسكان اللام بينهما، والْكِمْلِخُ بكسر الكاف واللام، وإسكان الميم بينهما، والخاء أيضًا معجمة، والْعِثْيَرُ بكسر العين المهملة، وإسكان الثاء المثلّثة، وبعدها مثنّاةٌ من تحتُ مفتوحةٌ. انتهى.

وذكر ابن الملقّن رحمه الله في "شرح العمدة"(1/ 316) أن للتراب نحو خمسين اسمًا، ذكرها مفصّلةً في كتابه "الإشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات"، لكن لم نجد ذلك الكتاب، والله تعالى أعلم.

وقد نظمت اللغات المذكورة هنا بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَّ لِلتُّرَابِ سُمِعَا

مِنَ اللُّغَاتِ مَا يَلِي فَانْتَفِعَا

تُرَابٌ التُّرْبَةُ والتَّرْبَاءُ

جَا وَتَيْرَبٌ وَتُرَبَاءُ أُدْرِجَا

وَتَوْرَبٌ وَتَيْرَبٌ تَيْرَابُ

كَذَا تَرِيبٌ مَعَهُ تَوْرَابُ

ويُجْمَعُ التُّرَابُ بِالأَتْرِبَةِ

كَذَا بِتِرْبَانٍ بِغَيْرِ مِرْيَةِ

وَمِنْ لُغَاتِهِ الرَّغَامُ إِثْلِبُ

وَأَثْلَبٌ كَسْرًا وَفَتْحًا يَصْحَبُ

وَكِثْكِثٌ بِالْكَسْرِ وَافْتَحْ دِقْعِمُ

بِالْكَسْرِ وَالدَّقْعَاءُ فَتْحًا يُعْلَمُ

وَهْوَ الْبَرَا مِثْلُ الْعَصَا وَكِلْخِمُ

وَكِمْلِخٌ بِالْكَسْرِ أَيْضًا يُفْهَمُ

وَعِثْيَرٌ بِالْكَسْرِ قَدْ نَظَمْتُهَا

لِمَنْ أَرَادَ الضَّبْطَ قَدْ قَرَّبْتُهَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[27/ 659 و 660](280)، و (أبو

ص: 195

داود) في "الطهارة"(74)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 54 و 177)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(365)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 177)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 86 و 5/ 56)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 188)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1298)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 65)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 23)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 241 - 242)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2781)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(544 و 545)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(647) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده زيادة على ما سبق:

1 -

(منها): وجوب غسلة ثامنة، وبه قال الحسن البصريّ من المتقدّمين، وأحمد بن حنبل في رواية حرب عنه، ونُقل عن الشافعيّ أنه قال: هو حديث لم أقف على صحّته، ولكن هذا لا يُثبت العذر لمن وقَفَ على صحّته، وقد ثبتت صحّته، قال الحافظ ابن منده لَمَّا أَخرجه: إسناده مجمع على صحّته

(1)

.

وقد اعتذر بعض الشافعيّة عن العمل به بالإجماع على خلافه، وهو غير صحيح، فقد عرفت أنه مذهب الحسن، ونُقل عن أحمد بن حنبل، فأين الإجماع؟.

وأجاب البيهقيّ بترجيح رواية أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأنه أحفظ من روى الحديث في دهره، فروايته أولى.

وتُعُقّب بأن الترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ برواية عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه أولى؛ لأن فيها زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ولأن العمل بها يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه دون العكس، ولو سلكنا مسلك الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلًا؛ لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك فقلنا به أخذًا بزيادة الثقة.

وذكر النوويّ في "شرحه" أن المراد: اغسلوه سبعًا، واحدة منهنّ بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة، فسُمّيت ثامنةً.

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقّن 1/ 315.

ص: 196

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن تأويل النوويّ تكلّف وتعسّفٌ، وعدول عن صريح الحديث دون دليل، وقد أجاد ابن دقيق العيد حيث قال: ومن لم يقُل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه. انتهى

(1)

.

والحاصل أن القول بوجوب الغسلة الثامنة هو الحقّ؛ لوضوح دليله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): الأمر بقتل الكلاب، وكان ذلك في أول الأمر، ثم نُسِخ في غير الكلب الأسود والعقور، فقد أخرج مسلم أيضًا، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إِنّ المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:"عليكم بالأسود البهيم، ذي النُّقْطتين، فإنه شيطان".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح: الغُراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور"، رواه الجماعة، إلا الترمذيّ. وإذا جاز قتله للمحرم فغيره أولى.

3 -

(ومنها): تحريم اقتناء الكلب، قال النوويّ رحمه الله: قد اتّفق أصحابنا وغيرهم على أنه يحرُم اقتناء الكلب لغير حاجة، مثلُ أن يقتني كلبًا إعجابًا بصورته، أو للمفاخرة به، فهذا حرام بلا خلاف، وأما الحاجة التي يجوز الاقتناء لها، فقد ورد هذا الحديث بالترخيص لأحد ثلاثة أشياء، وهي الزرع، والماشية، والصيد وهذا جائز بلا خلاف.

قال: واختَلَف أصحابنا في اقتنائه لحراسة الدور والدُّروب، وفي اقتناء الْجِرْو لِيُعَلَّم، فمنهم من حَرَّمه؛ لأن الرخصة إنما وردت في الثلاثة المتقدمة، ومنهم من أباحه، وهو الأصحّ؛ لأنه في معناها.

واختلفوا أيضا فيمن اقتَنَى كلب صيد، وهو رجل لا يصيد، والله أعلم

(2)

.

(1)

"إحكام الأحكام" بنسخة الحاشية 1/ 155.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 186.

ص: 197

4 -

(ومنها): اهتمام الشرع بإبعاد كلّ ما يحصل منه أذى للمسلمين عنهم، حيث أمر بقتل الكلاب؛ لأنها تؤذي المسلمين بترويعها، وعضّها، وتولّد داء الكلَبِ منها.

قال النوويّ رحمه الله: وأما الأمر بقتل الكلاب، فقال أصحابنا: إن كان الكلب عقورًا قُتِل، وإن لم يكن عقورًا لم يجز قتله، سواء كان فيه منفعة من المنافع المذكورة، أو لم يكن، قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: والأمر بقتل الكلاب منسوخ، قال: وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بقتل الكلاب مرةً، ثم صح أنه نهى عن قتلها، قال: واستَقَرَّ الشرع عليه على التفصيل الذي ذكرناه، قال: وأمر بقتل الأسود البهيم، وكان هذا في الابتداء، وهو الآن منسوخ، هذا كلام إمام الحرمين، ولا مزيد على تحقيقه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه نسخ قتل الجميع الآن فيه نظر لا يخفى، فأين الدليل على ذلك؟ وسيأتي تمام البحث في "كتاب المساقاة" حيث يذكر المصنّف أحاديث قتل الكلاب هناك - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): سماحة الشرع في محلّ الحرج، كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، فقد رخّص للأمة اقتناء الكلاب لضرورة الصيد والحراسة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[660]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ

(2)

يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثِيُّ، حَدَّثنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - (ح)، وَحَدَّثَنِي

(3)

مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 186.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "وحدثنا".

ص: 198

الْإِسْنَادِ بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ:"وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَم، وَالصَّيْد، وَالزَّرْعِ"، وَلَيْسَ ذَكَرَ الزَّرْعَ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرُ يَحْيَى)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المذكور قبل باب.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان المذكور قبل باب أيضًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن عبد الحميد القرشيّ الْبُسْريّ - بضمّ الموحّدة، وسكون السين المهملة - أبو عبد الله البصريّ الملقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250)، أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3/ أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: رجال هذا الإسناد بصريّون، غير شيخه محمد بن حاتم، فإنه بغداديّ، مروزيّ الأصل.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لخالد بن الحارث، ويحيى القطان، ومحمد بن جعفر غُندر.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ) يعني إسناد شعبة السابق، وهو: عن أبي التّيّاح، عن مطرِّف بن عبد الله، عن عبد الله المغفَّل رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إلخ) بنصب "غيرَ" على الاستثناء، وهي مضافة لما بعدها، كما قال في "الخلاصة":

وَاسْتَثْنِ مَجْرُورًا بِـ "غَيْرٍ" مُعْرَبَا

بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" نُسِبَا

والمعنى أن يحيى بن سعيد القطّان زاد في روايته قوله: "وَرَخَّصَ فِي

(1)

وفي نسخة: "وَلَيْسَ ذِكْرُ الزَّرْعِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ يَحْيَى".

ص: 199

كَلْبِ الْغَنَم، وَالصَّيْد، وَالزَّرْعِ"، ولا يوجد ذكر "الزرع" في رواية خالد بن الحارث، ومحمد بن جعفر، وإنما هو في رواية يحيى القطّان فقط.

وقوله: (وَلَيْسَ ذَكَرَ الزَّرْعَ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرُ يَحْيَى)"ذَكَرَ" بفتح الذال، والكاف بصيغة الماضي، و"الزرعَ" منصوب على أنه مفعول مقدَّم، و"غيرُ" مرفوع على أنه فاعل مؤخّر، و"في الرواية" متعلّق بـ "ذَكَرَ".

ووقع في بعض النسخ بلفظ: "وَلَيْسَ ذِكْرُ الزَّرْعِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ يَحْيَى"، وعلى هذا فقوله:"ذِكْرُ" بكسر الذال، وسكون الكاف بصيغة المصدر، وهو اسم "ليس"، مضاف إلى "الزرع"، وقوله:"في رواية" متعلّق بخبر "ليس"، وهو مضاف إلى "غير يحيى"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية خالد التي أشار إليها المصنّف هنا أخرجها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(66)

أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، قال: حدثنا خالد، حدثنا شعبة، عن أبي التّيّاح، قال: سمعت مُطَرِّفًا، عن عبد الله بن المغفل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر بقتل الكلاب، ورَخَّص في كلب الصيد والغنم، وقال:"إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفِّروه الثامنة بالتراب". انتهى.

وأما رواية يحيى القطّان، بزيادة ذكر الزرع، التي أشار إليها المصنّف، فلم أجدها، وإنما أخرجها أبو داود في "سننه" بدونها، ونصّه:

(67)

حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثنا أبو التيّاح، عن مطرف، عن ابن مُغَفَّل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر بقتل الكلاب، ثم قال:"ما لهم ولها؟ "، فرَخَّص في كلب الصيد، وفي كلب الغنم، وقال:"إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرار، والثامنة عفّروه بالتراب". انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن جعفر، فأخرجه أبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم"(1/ 335)، فقال:

(647)

وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حماد،

(1)

وهو في: "مسند الإمام أحمد" برقم (16350).

ص: 200

ثنا محمد بن الوليد الْبُسْريّ، ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، ثنا أبو التيّاح، قال: سمعت مُطَرِّف بن عبد الله، يحدِّث عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال:"ما بالي وبال الكلاب؟ "، رَخَّصَ في كلب الصيد، وقال:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات، وعَفِّروه بالتراب الثامنة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(28) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[661]

(281) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح)، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان".

والباقون تقدّموا قريبًا، فأما "يَحْيَى بْنُ يَحْيَى"، وهو: التميميّ النيسابوريّ فتقدّم في الباب الماضي، وأما الباقون فتقدّموا قبل باب، و"الليث" هو: ابن سعد الإمام المصريّ، و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس، و"جابر" هو: ابن عبد الله الأنصاريّ الصحابيّ رضي الله عنهما.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف، وهو أعلى الأسانيد له، كما مرّ غير مرّة، وهو (29) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين اثنين منهما، وإنما أفرد الثالث؛ لبيان اختلاف صيغتي الأداء؛ لاختلاف كيفيّة

ص: 201

التحمّل، فيحيى، ومحمد بن رُمح سمعاه بقراءة غيرهما على شيخهما الليث ابن سعد، فلذا قالا: أخبرنا الليث، وأما قُتيبة، فسمعه من لفظه مع جماعة، فلذا قال: حدّثنا الليث، فتفطّن لهذه الدقائق الإسناديّة، وبالله تعالى التوفيق.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن رمح، فتفرّد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن هذا مما ثبت سماع أبي الزبير له من جابر رضي الله عنه؛ لأنه من رواية الليث عنه، وقد تقدّم أن الليث لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، فلا يضرّه كونه مدلّسًا رواه بالعنعنة، فتنبّه.

4 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، وقد تقدّم غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِر) بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ نَهَى) أي زجر، يقال: نهيته عن الشيء أَنهاه نَهْيًا، فانتهى عنه، ونَهَوْته نَهْوًا بالواو لغة، ونهى الله تعالى أي حرّم، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وفي "اللسان": النهي: خلاف الأمر، نهاه ينهاه نَهْيًا، فانتهى، وتناهى: كَفّ، أنشد سيبويه لزياد بن زيد الْعُذريّ [من الطويل]:

إِذَا مَا انْتَهَى عِلْمِي تَنَاهَيْتُ عِنْدَهُ

أَطَالَ فَأَمْلَى أَوْ تَنَاهَى فَأَقْصرَا

قال: نَهَوْته عن الأمر، بمعنى نهيته، قال: ويقال: إنه لأَمُورٌ بالمعروف، ونَهُوٌّ عن المنكر، على فَعُول. انتهى باختصار

(2)

.

(أَنْ) بالفتح مصدريّة (يُبَالَ) بالبناء للمفعول، وهو في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما قال في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كـ"عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

أي عن البول (فِي الْمَاءِ) أصله مَوَهٌ بدليل تصغيره على مُوَيه، وتكسيره

(1)

"المصباح المنير" 2/ 629.

(2)

"لسان العرب" 15/ 343 - 344.

ص: 202

على أَمْوَاه، فقلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، فاجتمع حرفان خفيّان: الألف، والهمزة، فقُلبت الهاء همزةً، ولم تُقلب الألف؛ لأنها أُعلّت مرّةً، والعرب لا تجمع على الحرف إعلالين، ولهذا يُردّ إلى أصله في الجمع والتصغير، فيقال: مِيَاهٌ، ومُوَيهٌ، وقالوا أيضًا: أمواه، مثلُ باب وأبواب، وربّما قالوا: أمواء بالهمز، على لفظ الواحد، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

(الرَّاكِدِ") أي الساكن والواقف، فهو بمعنى قوله الآتي:"في الماء الدائم الذي لا يجري"، يقال: رَكَدَ الماءُ رُكُودًا، من باب قَعَدَ: سَكَنَ، وأركدته: أسكنته، ورَكَدَت السفينة: وَقَفَت، فلا تَجري

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[28/ 661](281)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(343)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 141)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 341 و/ 350)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(574 و 575)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(648)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1250)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 97)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): النهي عن البول في الماء الراكد، والنهي هنا للتحريم؛ إذ هو الراجح عند جمهور المحقّقين من الأصوليين.

2 -

(ومنها): أنه يؤخذ من مفهومه عدم تحريم البول في الماء الجاري، وإن كان الأولى تركه.

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وهذا النهي في بعض المياه للتحريم،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 586.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 237.

ص: 203

وفي بعضها للكراهة، ويؤخذ ذلك من حكم المسألة، فإن كان الماء كثيرًا جاريًا لم يحرم البول فيه؛ لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه.

وإن كان قليلًا جاريًا، فقد قال جماعة من أصحابنا: يُكره، والمختار أنه يحرُم؛ لأنه يُقَذِّره، وينجِّسه على المشهور من مذهب الشافعيّ وغيره، وَيغُرّ غيره، فيستعمله مع أنه نجس، وإن كان الماء كثيرًا راكدًا، فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل: يَحرُم لم يكن بعيدًا، فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحقّقين، والأكثرين من أهل الأصول، وفيه من المعنى أنه يُقَذِّره، وربّما أدَّى إلى تنجيسه بالإجماع لتغيره، أو إلى تنجيسه عند أبي حنيفة ومن وافقه في أن الغَدِير الذي يتحرك بتحرك طرفه الآخر ينجس بوقوع نجس فيه.

وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه؛ لأنه ينجسه، ويُتْلِف ماليته، ويَغُرّ غيره باستعماله، والله تعالى أعلم.

قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: والتغوُّط في الماء كالبول فيه وأقبح، وكذلك إذا بال في إناء، ثم صَبَّه في الماء، وكذا إذا بال بقرب النهر بحيث يَجري إليه البول، فكله مذموم قبيح، منهيّ عنه على التفصيل المذكور، ولم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حُكِي عن داود بن علي الظاهريّ أن النهيَ مختصّ ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء، وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نُقِل عنه في الجمود على الظاهر، والله أعلم.

قال العلماء: ويكره البول والتغوّط بقرب الماء، وإن لم يَصِل إليه؛ لعموم نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارّين بالماء، ولما يُخاف من وصوله إلى الماء، والله أعلم.

وأما انغماسُ مَن لم يَستَنْجِ في الماء ليستنجي فيه: فإن كان قليلًا بحيث ينجس بوقوع النجاسة فيه فهو حرام؛ لما فيه من تلطيخه بالنجاسة، وتنجيسِ الماء. وإن كان كثيرًا لا ينجس بوقوع النجاسة فيه: فإن كان جاريًا فلا بأس

ص: 204

به، وإن كان راكدًا فليس بحرام، ولا تظهر كراهته؛ لأنه ليس في معنى البول، ولا يقاربه، ولو اجتنب الإنسان هذا كان أحسن. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على نجاسة البول.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على عدم جواز الغسل والوضوء بالماء النجس.

5 -

(ومنها): بيان وجوب التنزّه من البول؛ لنجاسته، فلا يجوز استعمال ما خالطه من الماء وغيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[662]

(282) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة".

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"هِشَام" هو: ابن حسّان الْقُردوسيّ، و"ابْنُ سِيرِينَ" هو: محمد، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا يَبُولَنَّ) بفتح اللام، وبنون التوكيد الثقيلة، وفي رواية همّام التالية:"لا تَبُل" بالخطاب (أَحَدُكُمْ) أيتها الأمّة، فيشمل الذكر والأنثى، وأَتَى بصيغة خطاب المذكّر؛ تغليبًا، ولا

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 185 - 187.

ص: 205

فرق في ذلك بين الذكر والأنثى

(1)

. (فِي الْمَاءِ الدَّائِم) أي الساكن، قال الفيّوميّ رحمه الله: دام الشيءُ يدوم دَوْمًا، ودَوَامًا، ودَيْمُومةٌ: ثَبَتَ، ودام غَلَيَانُ القِدْر: سَكَنَ، ودام الماء في الْغَدِير أيضًا، قال: ودام يَدَامُ، من باب خاف يَخَافُ لغةٌ. انتهى

(2)

.

وفي "اللسان": دام الشيءُ يَدُوم، ويَدَام، قال [من الرجز]:

يَا مَيَّ لَا غَرْوَ وَلَا مَلَامَا

فِي الْحُبِّ إِنَّ الْحُبَّ لَنْ يَدَامَا

وقولهم: دِمْتَ تدوم بالكسر في الماضي، والضمّ في المضارع من تداخل اللغتين، كمِتّ تَمُوت، وفَضَلَ يَفْضُلُ، وحَضرَ يَحْضُر، والأصل دُمْتَ تَدُوم، كقُلت تقول، ودِمْتَ تَدَام، كخِفْت تَخَاف، ثم تركبت اللغتان. انتهى با ختصار وتصرّف

(3)

.

وقال العينيّ رحمه الله: أصل الدوام الاستدارة، وذلك أن أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء الدائم إذا كان بمكان، فإنه يكون مستديرًا في الشكل، ويقال: الدائم الواقف الذي لا يجري. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قال ابن الأنباريّ: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن والدائر، ومنه أصاب الرأس دَوَامٌ: أي دوار، وعلى هذا فقوله:"الذي لا يجري" صفة مخصصة لأحد معنيي المشترك، وقيلِ: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم الذي له نَبْعٌ، والراكد الذي لا نبْعَ له. انتهى

(5)

.

(ثُمَّ يَغْتَسِلُ) بالرفع على المشهور، وقال ابن مالك رحمه الله: يجوز الجزم عطفًا على "يبولن"؛ لأنه مجزوم الموضع بـ "لا" الناهية، ولكنه بُنِي على الفتح؛ لتوكيده بالنون، ومَنَعَ ذلك القرطبيّ، فقال: لو أراد النهي لقال: ثم لا يغتسلنّ، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد، وهو الماء، قال: فعُدُوله عن ذلك يدُلّ على أنه لم يُرِد العطف، بل نَبّهَ على مآل الحال، والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يَحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله، ومَثَّلَه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَضْرِبَنّ أحدكم امرأته ضربَ الأمة، ثم

(1)

راجع: "المنهل العذب المورود" 1/ 244.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 204.

(3)

لسان العرب 12/ 213.

(4)

"عمدة القاري" 3/ 249 - 250.

(5)

"الفتح" 1/ 413.

ص: 206

يضاجعها"، فإنه لم يروه أحد بالجزم؛ لأن المراد النهي عن الضرب؛ لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب: ثم هو يغتسل منه.

وتُعُقِّب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يُعْطَف عليه نهيٌ آخر غير مؤكد؛ لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما مَعْنًى ليس للآخر.

قال القرطبيّ رحمه الله: ولا يجوز النصب؛ إذ لا تُضْمَر "أن" بعد "ثُمّ"، وأجازه ابن مالك رحمه الله بإعطاء "ثُمّ" حكم الواو.

وتعقبه النوويّ بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما، وضعّفه ابنُ دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدُلّ على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث، إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر.

أي وهو حديث جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه نَهَى عن البول في الماء الراكد" المذكور عند مسلم قبل هذا.

وما يأتي في الباب التالي من طريق أبي السائب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا يغتسلْ أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب".

ورَوَى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد، ولفظه:"لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلْ فيه من الجنابة"، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (مِنْهُ") أي من الماء الدائم، وهكذا هو في البخاريّ من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، ووقع في رواية بلفظ:"فيه" بدل "منه" وكلٌّ من اللفظين يفيد حكمًا بالنصّ، وحكمًا بالاستنباط، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.

قال في "الفتح": ووجهه أن الرواية بلفظ "فيه" تدلّ على منع الانغماس بالنصّ، وعلى منع التناول بالاستنباط، والرواية بلفظ:"منه" بعكس ذلك، وكلّه مبنيّ على أن الماء ينجُس بملاقاة النجاسة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 1/ 413 - 414.

(2)

"الفتح" 1/ 415.

ص: 207

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[28/ 662 و 663](282)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(238)، و (أبو داود) في "الطهارة"(69)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(68)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 49 و 197)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(605)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(299 و 300)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(141)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 259 و 265 و 362 و 492 و 532)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 186)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1251 و 1252)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 14 و 15)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(779 و 780 و 781 و 782)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(649 و 650 و 651)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(54)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 256)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(284)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[663]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا محَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: "لَا تَبُلْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ تَغْتَسِل مِنْهُ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد بعينه تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (هَذَا مَا حَدَّثَنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قد تقدّم إيضاح التزام المصنّف رحمه الله لهذه العبارة فيما يرويه من صحيفة همّام بن مُنبِّه، غير مرّة، فلا تغفل.

(1)

وفي نسخة: "وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 208

وقوله: (لَا تَبُلْ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، و"تبُل" بفتح أوله، مضارع بال، من باب قال.

وقوله: (الَّذِي لَا يَجْرِي) قيل: هو تفسير للدائم، وإيضاح لمعناه، وقيل: احتَرَزَ به عن راكد يَجري بعضه، كالْبِرَك، وقيل: احتَرَز به عن الماء الدائم؛ لأنه جارٍ من حيث الصورة، ساكن من حيث المعنى، ولهذا لم يذكر هذا القيد في حديث جابر رضي الله عنه الماضي، بلفظ:"الراكد" بدل "الدائم"، وقال ابن الأنباريّ: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن والدائر، ومنه أصاب الرأس دَوَامٌ، أي دوار، وعلى هذا فقوله:"الذي لا يَجرِي" صفةٌ مخصِّصةٌ لأحد معنيي المشترك، وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم الذي له نَبْعٌ، والراكد الذي لا نبع له

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(29) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الاغْتِسَالِ في الْمَاءِ الرَّاكِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[664]

(283) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَبُو الطَّاهِر، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجّ، أَنَّ أَبَا السَّائِب، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ حَدَّثَهُ، أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُم فِي الْمَاءِ الدَّائِم، وَهُوَ جُنُبٌ"، فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْإَيْلِيُّ) - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة - السَّعْديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنة (م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

(1)

"الفتح" 1/ 413.

ص: 209

2 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م دس ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التَّسْتُريّ، صدوق [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

4 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

5 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

6 -

(بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

7 -

(أَبُو السَّائِب، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) هو: أبو السائب الأنصاريّ المدنيّ، مولى هشام بن زُهْرَة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زُهْرة، ويقال: مولى بني زُهْرة، ويقال: اسمه عبد الله بن السائب، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، والمغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.

ورَوَى عنه العلاء بن عبد الرحمن، وصَيْفيّ مولى أفلح، وأسماء بن عبيد، وبكير بن عبد الله بن الأشجّ، وغيرهم.

قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقةٌ، مقبول النقل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووقع في "نوادر الأصول" في الأصل الثامن والستين أنه جُهَنِيّ، وأن اسمه عبد الله بن السائب. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (283) و (395) و (2236) وأعاده بعده.

8 -

(أَبَو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 526.

ص: 210

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه ثلاثةً من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى أبي السائب، وهو والصحابيّ مدنيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بُكير، عن أبي السائب.

4 -

(ومنها): أن أبا السائب هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما له فيه من الأحاديث.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ) تقدّم أنه ابن عبد الله، فهو منسوب إلى جدّه (أَنَّ أَبَا السَّائِب، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) بضمّ الزاي، وسكون الهاء (حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ)، أي الساكن (وَهُوَ جُنُبٌ")، جملة في محلّ نصب على الحال، قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: مادّة الجنابة دالّةٌ على البعد، وما يقاربه من المعنى، قال الشاعر [من الطويل]:

يَنَالُ نَدَاكَ الْمُعْتَفِي عَنْ جَنَابَةٍ

وَللْجَارِ حَظٌّ مِنْ نَدَاكَ سَمِينُ

أي يناله عن بُعد، وتجانب الرجلان: تباعد كلّ منهما عن صاحبه، والْجُنُبُ من الرجال: البعيد الغريب، قال الله تعالى:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، وقال الشاعر:

مَا ضرَّهَا لَوْ غَدَا لِحَاجَتِنَا

غَادٍ كَرِيمٌ أَوْ زَائِرٌ جُنُبُ

أي بعيد، وقد حُمِل عليه قوله تعالى:{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، فقيل: عن بُعُد، ويُثَنّى هذا ويُجمَعُ، فيقال: هما جنبان، وهم جنبون وأَجْناب، قالت الْخَنْسَاء:

ص: 211

فَابْكِي أَخَاكِ لأَيْتَامٍ وَأَرْمَلَةٍ

وَابْكِي أَخَاكِ إِذَا جَاوَرْتِ أَجْنَابًا

وقيل: معنى تجنّب الرجلُ الشيء: أي جعله جانبًا وتركه، فقيل: من هذا يقال: رجل جُنُبٌ: أي أصابته جنابة، كأنه في جانب عن الطهارة.

والجنابة في عرف حملة الشرع تُطلَق على إنزال الماء، أو التقاء الختانين، أو ما يترتّب على ذلك.

قال أبو القاسم الراغب في "المفردات": وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أي أصابتكم الجنابة، وذلك بإنزال الماء، أو بالتقاء الختانين، ثم قال: وسُمِّيت الجنابة بذلك؛ لكونها سببًا لتجنّب الصلاة في حكم الشرع. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) السائب (كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ) أبو هريرة: رضي الله عنه (يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا)، أي يغترف منه بالإناء اغترافًا، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن يتناول منه، فيغتسل خارجه، ولا ينغمس فيه، وهذا كما قال مالك حيث سُئل عن نحو هذا، فقال: يحتال، وهذا كلّه محمول على غير المستبحر

(2)

، وأما إذا كان كثيرًا مستبحرًا بحيث لا يتغيّر، فلا بأس به؛ إذ لم يتناوله الخبر، وللإجماع على أن الماء إذا كان بحيث لا تسري حركة المغتسل، أو المتوضّئ إلى جميع أطرافه، فإنه لا تضرّه النجاسة إذا لم تُغيّره، وهو أقصى ما فُرّق به بين القليل والكثير في المياه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: أقصى ما فرّق إلخ فيه نظر، بل الصواب أن أصحّ الفرق بين القلّة والكثرة هو ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث"، وفي لفظ:"لم ينجس"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الحاكم، وابن حبّان، وغيرهما، وقد استوفيت البحث فيه في "شرح النسائيّ"

(4)

، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "شرح الإلمام" 2/ 26 - 29.

(2)

"المستبحر" هو الذي يُعدّ كالبحر.

(3)

"المفهم" 1/ 543.

(4)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 2/ 10 - 20.

ص: 212

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[29/ 664](283)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 197)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(605)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(93)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1252)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 14)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(56)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 51 - 52)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(779)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(651)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم.

2 -

(ومنها): أن النهي للتحريم؛ لأنه الأصل فيه عند محقّقي الأصوليين حتى يصرفه صارف إلى غيره، ولا حاجة إلى تكلّف بعضهم كالقاضي عياض لصرفه إلى التنزيه بكون النهي على طريق التنزّه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق؛ لأن هذا لا ينافي التحريم، بل كلّ مناهي الشرع تعود إلى هذا، كما هو ظاهر لمن تأمّله بالإنصاف.

3 -

(ومنها): أن تقييد الحكم بصفة كون الماء دائمًا، يُفهم منه مخالفة هذا الحكم عند كونه جاريًا، فيباح الاغتسال فيه، قال القاضي عياض رحمه الله: وقوله: "الماء الذي لا يجري" دليلٌ على أن الجاري بخلافه. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): هذا النهي عامّ بالنسبة إلى المغتسلين، فيدخل فيه المغتسل، وعلى بدنه أذى، والمغتسل، وليس على بدنه شيء، ويشمل أيضًا نوعي الجنابة: إنزال الماء، والتقاء الختانين، وعامّ أيضًا بالنسبة إلى الأَغسال المختلفة باختلاف نيّاتها، من غسلٍ ينوي فيه رفع الحدث، أو أداء فرض

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 35 - 36.

ص: 213

الغسل، أو استباحة الصلاة، أو استباحة ما لا يُستباح إلا بالغسل، فكلّه غسل عن الجنابة، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.

5 -

(ومنها): أن تقييده بكونه عن الجنابة يُخرج عنه ما ليس بغسل جنابة، كالغسل تبرّدًا وتنظّفًا، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا قد يخدش في التعليل بالاستقذار والعِيَافة، فإن ذلك قد يحصل بمجرّد الاغتسال، وإن لم يكن عن جنابة، إلا أنها في الجنابة أقوى إن لم يتحقّق سلامة البدن من الأذى.

قال: ما ليس بغسل جنابة ينقسم قسمين:

أحدهما: ما لا يدخل في باب القرب، كما مثّلناه من التبرّد والتنظّف.

والثاني: ما هو داخل في باب القرب، كالأغسال المسنونة، مثلُ غسل العيدين، والكسوف، وغيرهما، فظاهر التقييد بغسل الجنابة يقتضي إباحة ذلك، ولكن فيه نظرٌ يختصّ به، وينفرد عن القسم الأول، وهو أداء العبادة. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): هل يتعدّى هذا الحكم إلى الوضوء حتى يكره أن يغمس المحدث أعضاءه في الماء الراكد للطهارة الصغرى؟.

أما من لا يقول بالقياس فلا شكّ أنه لا يُعَدّيه إليه، وأما من يقول به، فيُمكن أن يُعَدّيه بجامع الطهارة عن الحدث، إلا أن هذا ليس قياسًا في معنى الأصل، فيكون ملحقًا بفوائد الحديث، وليس أيضًا بقويّ؛ لأنه إن أخذ قياس شَبَه على ضعف قياس الشبه، فالاختلاف بين الحدث الأكبر والأصغر في الأحكام كثير يضعف ذلك القياس، وإن أخذ قياس علّة، فالعلّة المذكورة في هذا الحديث من الاستقذار والعِيَافة قد لا يساوي فيها الحدث الأصغر الحدثَ الأكبرَ، فيمتنع القياس؛ لفقدان شرطه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه ابن دقيق العيد في كلامه هذا أن قياس الوضوء على الاغتسال غير صحيح، فالأولى الاقتصار على الاغتسال، وهو تحقيق جيّد، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح الإلمام" 2/ 35 - 36.

ص: 214

7 -

(ومنها): أنه استَدَلَّ أبو يوسف بهذا الحديث على تنجيس الماء المستعمل؛ لأن البول يُنَجِّس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نُهِي عنهما معًا، وهو للتحريم، فيدُلّ على النجاسة فيهما.

ورُدّ بأنها دلالة اقتران، وهي ضعيفة، وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يَسلُبه الطهورية، ويزيد ذلك وضوحًا قوله في الرواية الآتية من طريق أبي السائب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"كيف يفعلُ يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا"، فدَلّ على أن المنع من الانغماس فيه؛ لئلا يَصِير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابيّ أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طَهُور، قاله في "الفتح".

وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد استُدِلّ بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه أهلًا للتطهير؛ لأن النهي ها هنا عن مجرد الغسل، فدَلّ على وقوع المفسدة بمجرده، وحكم الوضوء حكم الغسل في هذا الحكم؛ لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات، والوضوء يقذِّر الماء كما يقذره الغسل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح كون الماء المستعمل طَهُورًا؛ لقوّة أدلّته، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الماء المستعمل:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في الوضوء والاغتسال بالماء المستعمل، فقالت طائفة: لا يجوز الوضوء به. كان مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي لا يرون الوضوء بالماء الذي تُوُضِّئ به.

واختُلِف فيه عن الثوريّ، فحَكَى عنه الفاريابي أنه قال كقول هؤلاء، وحَكَى عنه الأشجعيُّ أنه قال: إذا نسيت أن تَمْسح برأسك، وقد توضأت، وفي لحيتك بَلَلٌ أجزأك أن تمسح مما في لحيتك أو يدك، وأن تأخذ ماءً لرأسك أحبّ إليّ.

ص: 215

وقال أحمد في جنبٍ اغتسل في بئر فيها من الماء أقل من قلتين، قال: لا يجزيه قد أنجس ذلك الماء.

وقالت طائفة: لا بأس بالوضوء بالماء المستعمل؛ لأنه ماء طاهر، وليس مع من أبطل الطهارة بهذا الماء حجة، وليس لأحد أن يتيمم وهو يجد الماء.

واحتَجَّ بعضُ مَن يقول بهذا القول بأَخْبَار رُويت عن عليّ، وابن عمر، وأبي أمامة، فيمن نسي مسح رأسه، أو وجد بللًا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل.

ثم أخرج ما نُقل عن هؤلاء بأسانيده، ثم قال: وكذلك قال عطاء بن أبي رباح، والحسن البصريّ، والنخعيّ، ومكحول، والزهريّ، وهذا من قولهم يدلّ على طهارة الماء المستعمل، وعلى استعمال الماء المستعمل، وكان أبو ثور يقول: إن توضأ بالماء المستعمل الذي تَوَضّأ به أجزأه إذا كان نظيفًا.

قال ابن المنذر رحمه الله: ومن حجة مَن يرى الوضوء بالماء المستعمل قوله جل ذكره: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال: فلا يجوز لأحد أن يتيمم، وماء طاهر موجود، وهذا يلزم من أوجب القول بظاهر الكتاب، وترك الخروج عن ظاهره.

واحتُجَّ في إثبات الطهارة للماء المستعمل بحديث جابر رضي الله عنه، قال: أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، وصَبّ عليّ من وَضُوئه، متّفق عليه.

قال: فهذا الحديث يدل على طهارة الماء المتوضأ به.

ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن الرُّبَيِّع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ رأسه من فضل ماء في يده، فبدأ بموخَّر رأسه إلى مقدمه، ثم جرّه إلى مؤخره.

قال ابن المنذر: فدَلّ هذا الحديث على مثل ما دل عليه الحديث الأول، فأجمع أهل العلم على أن الرجل المحدث الذي لا نجاسة على أعضائه لو صَبّ ماء على وجهه أو ذراعيه، فسال ذلك عليه، وعلى ثيابه، أنه طاهر، وذلك أن ماء طاهرًا لاقى بدنًا طاهرًا، وكذلك في باب الوضوء ماءٌ طاهرٌ لاقى بدنًا طاهرًا، وإذا ثبت أن الماء المتوضأ به طاهر، وَجَب أن يَتَطَهَّر به من لا

ص: 216

يجد السبيل إلى ماء غيره، ولا يتيمم، وماء طاهر موجود؛ لأن في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الصعيد الطيّب وَضُوء المسلم، ما لم يجد الماء، فإذا وجدت الماء، فأَمْسِسه بشرتك"

(1)

.

فأوجب الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الوضوء بالماء، والاغتسال به على كل مَن كان واجدًا له ليس بمريض، وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضئ والمغتسل، وما قَطَر منه على ثيابهما طاهرٌ دليلٌ على طهارة الماء المستعمل، وإذا كان طاهرًا فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة يَرْجِع إليها مَن خالف القول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله، وهو تحقيقٌ مفيدٌ.

وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل غير مطهر أحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعيّ، والشافعيّ، ومالك في إحدى الروايتين عنهما، وأبو حنيفة في رواية عنه.

واحتجُّوا بهذا الحديث، وبحديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة، واحتج لهم بما رُوي عن السلف من تكميل الطهارة بالتيمم عند قلة الماء، لا بما تساقط منه.

وأجيب عن الاستدلال بحديث الباب بأن علة النهي ليست كونه يصير مستعملًا، بل مصيره مستخبثًا بتوارد الاستعمال، فيبطل نفعه، ويوضِّح ذلك قولُ أبي هريرة:"يتناوله تناولًا"، وباضطراب متنه، وبأن الدليل أخصّ من الدعوى؛ لأن غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة، والمدَّعَى خروج كل مستعمل عن الطَّهُورية.

وأجيب عن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة بمنع كون الفضل مستعملًا، ولو سُلِّم فالدليل أخص من الدعوى؛ لأن المدَّعَى خروج كل مستعمل عن الطهورية، لا خصوص هذا المستعمل، وبالمعارضة بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة، وأخرجه أحمد أيضًا، وابن ماجه بنحوه من حديثه، وأخرجه أيضًا

(1)

حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود في:"سننه"(1/ 90).

ص: 217

أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، وصححه من حديثه بلفظ: اغتَسَلَ بعضُ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنَة، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبًا، فقال:"إن الماء لا يُجْنِب".

وأيضًا حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فيه مقال.

وأجيب عن الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم، لا بما تساقط، بأنه لا يكون حجةً إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم، ولا سبيل إلى ذلك؛ لأن القائلين بطهورية المستعمل منهم، كالحسن البصريّ، والزهريّ، والنخعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوريّ، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، وبأن المتساقط قد فَنِي؛ لأنهم لم يكونوا يتوضئون إلى إناء، والملتصق بالأعضاء حقير، لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء، وبأن سبب الترك بعد تسليم صحته عن السلف، وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار.

وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن الطَّهُورية، وتحتم البقاء على البراءة الأصلية، لاسيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من الأدلة، كحديث:"خُلِق الماء طهورًا"، وحديث مسحه صلى الله عليه وسلم رأسه بفضل ماء كان بيده، وغيرهما.

قال الجامع عفا الله عنه: ومن الأحاديث الدالّة على مذهب من قال بطهوريّة الماء المستعمل حديث صَبِّه صلى الله عليه وسلم لوَضُوئه على جابر رضي الله عنه، وتقريره للصحابة على التبرك بوَضُوئه، متّفقٌ عليه.

ومنها: حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوَضُوء، فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وَضوئه، فيتمسحون به، متّفقٌ عليه.

وحديثُ أبي موسى رضي الله عنه عنده أيضًا قال: دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بقَدَح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومَجّ فيه، ثم قال لهما - يعني أبا موسى وبلالًا -:"اشْرَبَا منه، وأَفْرِغَا على وجوهكما ونُحوركما"، متّفقٌ عليه.

وحديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبت بني خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِعٌ - أي مريض - فمسح رأسي، ودعا لي

ص: 218

بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وَضوئه، ثم قمت خلف ظهره. . . الحديث، متّفق عليه.

فإن قال الذاهب إلى نجاسة المستعمل للوضوء: إن هذه الأحاديث غاية

ما فيها الدلالة على طهارة ما توضأ به صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

قلنا: هذه دعوى غير نافقة، فإن الأصل أن حكمه صلى الله عليه وسلم، وحكم أمته واحد إلا أن يقوم دليل يَقْضِي بالاختصاص، ولا دليل هنا، وأيضًا الحكم بكون الشيء نجسًا حكمٌ شرعيّ يَحتاج إلى دليل يلتزمه الخصم فما هو؟، قاله الشوكانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال القولُ بطهارة الماء المستعمل، وأنه تجوز الطهارة به؛ للأدلّة الواضحة الكثيرة، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[خاتمة]: نختم بها هذا الباب:

(اعلم): أن مما يتعلّق بهذا الباب من المسائل المهمّة ما أصدره مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربيّة السعودية من القرار تجاه المياه المتلوّثة بالنجاسات إذا عُولجت بواسط الوسائل الفنّيّة، ثم زالت منها النجاسة، فقد قرّر ما يلي:

قرارٌ رقم 64 في 25/ 10/ 1398 هـ الآتي:

بعد البحث والمداولة والمناقشة قرّر المجلس ما يلي:

بناءً على ما ذَكَره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغيّر بنجاسة يطهر إذا زال تغيّره بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيّره بطول مكث، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزوال علّته.

وحيث إن المياه المتنجّسة يمكن التخلّص من نجاستها بعدّة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنّيّة الحديثة لأعمال التنقية يُعتبر من أحسن وسائل التطهير حيث يبذل الكثير من الأسباب المادّيّة لتخليص هذه المياه من النجاسات كما يشهد بذلك ويقرّره الخبراء المختصّون بذلك ممن لا يتطرّق الشكّ إليهم في عملهم وخِبْرتهم وتجاربهم.

ص: 219

لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خِلْقتها الأولى، لا يُرى فيها تغيّر بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحيّة تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك؛ محافظة على النفس، وتفاديًا للضرر لا لنجاستها.

والمجلس إذ يقرّر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وُجِد إلى ذلك سبيل؛ احتياطًا للصحّة، واتّقاءً للضرر، وتنزّهًا عما تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع.

والله الموفّق، وصلى الله على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.

انتهى قرار مجلس هيئة كبار العلماء، والله تعالى أعلم.

وأما مجلس مجمع الفقه الإسلاميّ لرابطة العالم الإسلاميّ في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرّمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ فقد نظر في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟.

وبعد مراجعة المختصّين بالتنقية بالطرق الكيماويّة، وما قرّروه من أن التنقية تتمّ بإزالة النجاسة منه على مراحل أربع، وهي الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجهاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون، عدولٌ، موثوق بصدقهم وأمانتهم.

قرّر المجمع ما يأتي: إن ماء المجاري إذا نُقّي بالطرق المذكورة وما يُماثلها، ولم يَبقَ للنجاسة أثر في طعمه، ولا في لونه، ولا في ريحه صار طَهُورًا، يجوز رفع الحدث، وإزالة النجاسة به؛ بناءً على القاعدة الفقهيّة التي تقرّر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثرٌ فيه، والله أعلم. انتهى قرار مجلس المجمع الفقه الإسلاميّ لرابطة العالم الإسلاميّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي أجمع عليه المجلسان من طهارة ماء المجاري بعد المعالجة بالطرق الحديثة، بحيث لم يبق للنجاسة أثرٌ من طعم،

ص: 220

أو لون، أو ريح تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، ينبغي الاعتماد عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ وُجُوبِ غَسْلِ الْبَوْل، وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِذَا حَصَلَتْ فِي الْمَسْجِد، وَأَن الأَرْضَ تُطَهَّرُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَفْرِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[665]

(284) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، أَن أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِد، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ، وَلَا تُزْرِمُوهُ

(1)

"، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](مات سنة بضع 120) عن (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أنس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93)، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (30) من رباعيّات الكتاب.

(1)

وفي نسخة: "دعوه، لا تزرموه" بغير عاطف.

ص: 221

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فبغلانيّ نسبة إلى بَغْلان، قرية من قُرى بَلْخَ، وهو ممن دخل البصرة أيضًا للأخذ عن أهلها.

4 -

(ومنها): أن ثابتًا ممن لازم أنسًا رضي الله عنه، لازمه أربعين سنةً.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو الخادم المشهور خَدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو من المعمّرين، كما ذكرته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا) بفتح الهمزة، أي رجلًا واحدًا من الأعراب، وهم: أهل البادية من العرب، أو من مواليهم، وهو مما يُفرّق بين واحده وبين اسم جنسه بالياء، كيهوديّ ويهود، ومجوسيّ ومجوس، وروميّ وروم.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأعراب بالفتح: أهل البدو من العرب، الواحد أعرابيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحبَ نُجْعَة

(1)

وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، قال: فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَنَ بظَعْنهم، فهم أعراب، ومن نزلى بلاد الرِّيف، واستوطن الْمُدُن والقُرَى العربيّة وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فُصَحاء. انتهى

(2)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: الأعرابيّ: الذي سكن البادية، وإن لم يكن من العرب، والعربيّ: منسوبٌ إلى العرب، وإن كان في الحضر، والعرب ولد إسماعيل عليه السلام، وإنما نُسب الأعراب إلى الجمع دون الواحد؛ لأنه جرى مجرى القبيلة، كأنمار، كما قال في "الخلاصة":

وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ

إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ

(1)

"النُّجْعة" كالْغُرْفة: اسم من نَجَعَ يَنْجَعُ، كنَفَعَ يَنفَعُ: إذا ذهب لطلب الكلإ في موضعه، أفاده في:"المصباح المنير" 2/ 594.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 400.

ص: 222

وقيل: لأنه لو نُسِب إلى العرب الواحد، وهو عرب لقيل عربيّ، فيشتبه المعنى، فإن العربيّ كلُّ من هو من ولد إسماعيل عليه السلام، كما تقدّم، سواء كان ساكنًا في البادية أَوْ لا، وهذا غير المعنى الأول. انتهى

(1)

.

وزاد في رواية الترمذي من طريق ابن عيينة في أوله: أنه صَلّى، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد تحجَّرت واسعًا"، فلم يلبث أن بال في المسجد. . .، وهي عند البخاريّ من طريق الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: اسم هذا الأعرابيّ حُرْقُوص بن زُهير، ذو الْخُوَيصرة التميميّ، وقيل: عيينة بن حِصْن الْفَزَاريّ.

وقد رَوَى ابنُ ماجهْ، وابنُ حتان الحديث تامًّا، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وكذا رواه ابنُ ماجهْ أيضًا، من حديث واثلة بن الأسقع، وأخرجه أبو موسى المديني في "الصحابة"، من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، قال: اطَّلَعَ ذو الْخُوَيْصِرة - اليمانيّ، وكان رجلًا جافيًا، فذكره تامًّا بمعناه، وزيادةٍ، وهو مرسلٌ، وفي إسناده أيضًا مبهم بين محمد بن إسحاق، وبين محمد بن عمرو بن عطاء، وهو عنده من طريق الأصمّ، عن أبي زرعة الدمشقيّ، عن أحمد بن خالد الوَهبيّ، عنه، وهو في جمع مسند ابن إسحاق لأبي زرعة الدمشقيّ، من طريق الشاميين عنه بهذا المسند، لكن قال في أوله: اظَلَع ذو الخويصرة التميميّ، وكان جافيًا، والتميميّ هو حُرْقُوص بن زُهَير الذي صار بعد ذلك من رؤوس الخوارج، وقد فرق بعضهم بينه وبين اليمانيّ، لكن له أصل أصيل، واستُفيد منه تسمية الأعرابيّ.

وحَكَى أبو بكر التاريخيّ، عن عبد الله بن نافع الْمُزنيّ أنه الأقرع بن حابس التميميّ، ونقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عيينة بن حصن، والعلم عند الله تعالى، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 693 بزيادة ما في: "الخلاصة".

(2)

"الفتح" 1/ 387.

ص: 223

(بَالَ فِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ، فـ "أل" فيه للعهد الذهنيّ، وفي رواية يحيى بن سعيد التالية:"أن أعرابيًّا قام إلى ناحية المسجد، فبال فيها".

و"المسجد" بكسر الجيم، كالمجلِس، ويجوز فتحها: اسم لموضع السجود، وقيل: بالفتح اسم لمكان السجود، وبالكسر: اسم للموضع المتَّخذ مسجدًا، وحَكَى ابن مكيّ في "تثقيفه" عن غير واحد من أهل اللغة أنه يقال للمسجد مسْيِد بفتح الميم، وبالياء المكسورة بدل الجيم، وهو في الأصل لموضع السجود، ويُطلق في العرف على كلّ مكان مبنيّ للصلاة التي فيها السجود، قاله ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

(فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ) أي ليزجروه عن إتمام بوله، وفي رواية يحيى المذكورة:"فصاح به الناس"، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة الثالثة:"فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ"، وفي رواية للبخاريّ:"فتناوله الناس"، وفي رواية له:"فثار إليه الناس"، وللإسماعيليّ:"فأراد أصحابه أن يمنعوه"، فظهر بهذا أن تناوله كان بالألسنة، لا بالأيدي، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ) أي اتركوه، أمر من وَدَعَ يَدَعُ وَدْعًا: إذا ترك، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمّ حُذفت الواو، ثم فُتِحَ لمكان حرف الحلق، وقد تقدّم تمام البحث فيه (وَلَا تُزْرِمُوهُ") وفي نسخة بحذف العاطف، وهو بفتح التاء، وضمّها، ثلاثيًّا ورباعيًّا، قال في "القاموس": زَرِمَ بولُهُ، ودمعُهُ، وكلامُهُ: انقَطَعَ، كازْرَأَمَّ، وزَرَمَهُ يَزْرِمُهُ - أي من باب ضرب - وأزرمه، وزَرَّمه: قَطَعَهُ، وأزرمه: قطع عليه بوله. انتهى

(3)

.

والمعنى هنا: لا تقطعوا عليه بوله، وإنما أمرهم بتركه؛ لأنه كان شرع في المفسدة، فلو مُنِعَ لزادت؛ إذ حَصَل تلويث جزء من المسجد، فلو مُنِعَ لدار بين أمرين: إما أن يَقطعه، فيتضررَ، وإما أن لا يقطعه، فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد، قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 694.

(2)

1/ 387.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1007.

(4)

1/ 386.

ص: 224

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَلَمَّا فَرَغَ) أي انتهى من بوله (دَعَا) أي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"دعا" يتعدّى إلى اثنين بنفسه، ويتعدّى إلى الثاني أيضًا بالباء، يقال: دعوت الولدَ زيدًا، وبزيد

(1)

، ولذلك قال:(بِدَلْوٍ) بفتح، فسكون، يذكّر، ويؤنّث، وهو الأكثر، قال الفيّوميّ رحمه الله: الدَّلْوُ تأنيثها أكثر، فيقال: هي الدلو، وفي التذكير يُصَغَّر على دُلَيّ، مثلُ فَلْسٍ وفُلَيس، وثلاثةُ أَدْلٍ، وفي التأنيث دُلَيّة بالهاء، وثلاثُ أَدْلٍ، وجمع الكثرة الدِّلاءُ، والدُّلِيُّ، والأصلُ فُعُولٌ، مثلُ فُلُوسٍ. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": الدّلو: معروفةٌ، واحدة الدلاء التي يُستقى بها، تذكّر وتؤنّث، والتأنيث أكثر. انتهى باختصار

(3)

.

وقوله: (مِنْ مَاءٍ) متعلّقٌ بصفة لـ "دلو"، أي مملوء من ماء.

(فَصَبَّهُ) أي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسكب ذلك الماء، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"دَعُوه، وهَرِيقوا على بوله سَجْلًا من ماء".

و"الصبّ": السكبُ، يقال: صَبَبتُ الماء، فانصبّ: أي سَكَبته، فانسكب، والماء ينصبّ من الجبل، أي ينحدر، قاله العينيّ

(4)

.

(عَلَيْهِ) أي على محلّ بوله، وفي رواية يحيى بن سعيد الآتية:"فلما فَرَغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب، فصُبّ على بوله"، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة الثالثة:"فأمر رجلًا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنّه عليه".

وزاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة الآتية: "ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا الْقَذَر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن".

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "وهَرِيقوا سَجْلًا من ماء، أو ذَنُوبًا من ماء، فإنما بُعثتم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين".

وقوله: "سَجْلًا" بفتح المهملة، وسكون الجيم، قال أبو حاتم السجستانيّ: هو الدلو مَلآى، ولا يقال لها ذلك، وهي فارغة، وقال ابن دُريد: السَّجْل دَلْوٌ واسعة، وفي "الصحاح": الدلو الضخمة.

(1)

راجع: "المصباح" 1/ 195.

(2)

"المصباح" 1/ 199.

(3)

"لسان العرب " 14/ 264.

(4)

"عمدة القاري" 3/ 186.

ص: 225

وقوله: "أو ذنوبًا" قال الخليل: الدلو ملآى ماءً، وقال ابن فارس: الدلو العظيمة، وقال ابن السِّكِّيت: فيها ماء قريب من الْمَلْء، ولا يقال لها، وهي فارغة ذنوب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنسل رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[30/ 665 و 666](284) و [30/ 667](285)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(219 و 221) وفي "الأدب"(6025)، و (أبو داود) في "الطهارة"(380)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(148)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 47 و 48)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(528)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 64)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 33)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1660)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 193)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1196)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 114 و 167 و 191 و 226)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(293 و 296)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1401)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 412 و 413 و 427)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(565 و 566 و 567 و 568 و 569 و 570 و 571)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(652 و 653 و 654)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نجاسة البول، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع عليه بإجماع من يُعتدّ به، ولا فرق بين الكبير والصغير، إلا أن بول الصغير يكفي فيه النضح، ولم يُخالف في بول الصبيّ إلا داود الظاهريّ

(1)

، وسيأتي تحقيق المسألة في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

(1)

" شرح النوويّ" 3/ 190.

ص: 226

2 -

(ومنها): بيان وجوب غسل البول.

3 -

(ومنها): بيان أن الاحتراز من النجاسة كان مُقَرَّرًا في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه، ولمَا تَقَرَّر عندهم أيضًا من طلب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك؛ لأن علماء الأمصار ما بَرِحُوا يُفتُون بما بلغهم من غير توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضًا؛ إذ لم يُنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقل لهم: لم نَهيتم الأعرابيّ، بل أمرهم بالكفّ عنه؛ للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفّهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "دَعُوه"، قال العلماء: كان قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعُوه" لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرّر، وأصل التنجيس قد حَصلَ، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقامه في أثناء بوله لتنجّست ثيابه، وبدنه، ومواضع كثيرة من المسجد. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء.

6 -

(ومنها): تَعَيُّن الماء لإزالة النجاسة؛ لأن الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي لَمَا حَصَل التكليف بطلب الدلو.

7 -

(ومنها): أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرةٌ، وَيلْتَحق به غير الواقعة؛ لأن البِلَّةَ الباقية على الأرض غُسَالة نجاسة، فإذا لم يثبت أن

(1)

1/ 388.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 191.

ص: 227

التراب نُقِلَ، وعَلِمنا أن المقصود التطهير تَعَيَّن الحكم بطهارة البِلَّة، وإذا كانت طاهرة، فالمنفصلة أيضًا مثلها؛ لعدم الفارق، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، ولأصحابنا فيها ثلاثة أوجه: أحدها أنها طاهرة، والثاني أنها نجسةٌ، والثالث إن انفصلت، وقد طهر المحلّ فهي طاهرة، وإن انفصلت، ولم يطهر المحلّ، فهي نجسةٌ، وهذا الثالث هو الصحيح، وهذا الخلاف إذا انفصلت غير متغيّرة، أما إذا انفصلت متغيّرةً، فهي نجسةٌ بإجماع المسلمين، سواء تغيّر طعمها، أو لونها، أو ريحها، وسواء كان التغيّر قليلًا أو كثيرًا. انتهى كلام النوويّ

(2)

، وهو تفصيل حسنٌ، والله تعالى أعلم.

8 -

(ومنها): أنه يُستَدَلُّ به أيضًا على عدم اشتراط نُضُوب الماء؛ لأنه لو اشتُرِط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يُشترط عصر الثوب؛ إذ لا فارق، قال الموفق رحمه الله في "المغني" - بعد أن حَكَى الخلاف -: الأولى الحكم بالطهارة مطلقًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَشترط في الصبّ على بول الأعرابي شيئًا. انتهى.

9 -

(ومنها): الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يَلزمه من غير تعنيف، ولا إيذاء، إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولا سيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه.

10 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرأفة، وحسن الخلق، ففي رواية إسحاق بن أبي طلحة الآتية:"ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول. . ." الحديث، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه، وابن حبّان:"فقال الأعرابيّ بعد أن فَقِهَ في الإسلام: فقام إليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأبي وأمي، فلم يُؤَنِّب، ولم يَسُبّ. . ." الحديث.

11 -

(ومنها): أن فيه تعظيمَ المسجد، وصيانته، وتنزيهه عن الأقذار، والقَذَى، والبصاق، ورفع الأصوات والخصومات، والبيع والشراء، وسائر العقود، وما في معنى ذلك، قاله النوويّ

(3)

.

(1)

1/ 388.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 191.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 191.

ص: 228

وقال في "الفتح": وظاهر الحصر في قوله: "إنما هي لذكر الله تعالى إلخ" أنه لا يجوز في المسجد شيء غيرُ ما ذُكِر من الصلاة، والقرآن، والذكر، لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلافُ الأولى، والله تعالى أعلم

(1)

.

12 -

(ومنها): أن الأرض تُطَهَّر بصب الماء عليها، ولا يشترط حفرها، وهذا مذهب الجمهور، وخالف في ذلك الحنفية، حيث قالوا: لا تطهر إلا بحفرها، كذا أطلق النوويّ وغيره، والمذكور في كتب الحنفية التفصيل بين ما إذا كانت رِخْوَةً بحيث يتخللها الماء حتى يَغْمُرها، فهذه لا تحتاج إلى حفر، وبين ما إذا كانت صَلْبةً، فلا بُدّ من حفرها، وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يَغْمُر أعلاها وأسفلها، واحتجوا فيه بحديث جاء من ثلاثة طرق، أحدها موصول عن ابن مسعود، أخرجه الطحاويّ، لكن إسناده ضعيف، قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن، والآخر أخرجه سعيد بن منصور، من طريق طاوس، ورواتهما ثقات.

قال الحافظ: وهو يَلزَم مَن يَحتَجُّ بالمرسل مطلقًا، وكذا من يحتج به إذا اعتَضَدَ مطلقًا، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سَمَّى لا يُسَمِّي إلا ثقةً، وذلك مفقود في المرسَلَين المذكورين، على ما هو ظاهر من سنديهما. انتهى

(2)

.

13 -

(ومنها): أن الماء إذا كان واردًا على النجاسة طهّرها، وقال القرطبيّ: فرّقت الشافعيّة بين وُرود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء؛ تمسّكًا بهذا الحديث، وقالوا: إذا كان الماء دون القلّتين، فحلّ به نجاسة تنجّس، وإن لم تُغيّره، وإن ورد ذلك القدر، فأقلّ على النجاسة، فأذهب عينها بقي الماء على طهارته، وأزال النجاسة، قال: وهذه مناقضة؛ إذ المخالطة حصلت في الصورتين، وتفريقهم بالورود فرقٌ صوريّ، ليس فيه من الفقه شيء، وليس الباب من باب التعبّدات، بل من باب عقليّة المعاني، فإنه

(1)

"الفتح" 1/ 388.

(2)

"الفتح" 1/ 388 - 389.

ص: 229

من أبواب إزالة النجاسة وأحكامها، قال: ثم هذا كلّه منهم يردّه قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهورٌ لا يُنجّسه شيء إلا ما غيّر طعمه، أو لونه، أو ريحه".

قال ابن الملقّن: هذا الاستثناء ضعيف، ويقوّي الفرق الذي ذكروه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قام أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يَغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، رواه مسلم، كما قرّرناه هناك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الشافعيّة من الفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فرقٌ صحيحٌ، واستنباطه من هذا الحديث واضحٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بصبّ دلو من ماء على البول؛ ليُطهّره، وقد صحّ عنه منع المستيقظ من غمس يده في الماء قبل غسلها، حتى لا تفسده، فتبيّن بهذا أن ورود النجاسة على الماء غير وروده عليها، فاختلف حكمهما، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

14 -

(ومنها): أن ابن الملقّن: استنبط من رواية أن هذا الأعرابيّ صلّى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا. . .، صحّة صلاة مدافع الأخبثين، قال: لأن الظاهر من حال من يبول عقب الصلاة أنه كان يدافعه، ويحتمل أنه سبقه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر النوويّ في "شرحه" بحثًا نفيسًا يتعلّق بقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل، وَلَا الْقَذَر، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَالصَّلَاة، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، في رواية إسحاق بن أبي طلحة الآتية.

قال رحمه الله: في هذا الفصل مسائل ينبغي أن أذكر أطرافًا منها مختصرةً:

(أحدها): أجمع المسلمون على جواز الجلوس في المسجد للمحدِث، فإن كان جلوسه لعبادة، من اعتكاف، أو قراءة علم، أو سماع موعظة، أو

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 698 - 699.

ص: 230

انتظار صلاة، أو نحو ذلك كان مستحبًّا، وإن لم يكن لشيء من ذلك كان مباحًا، وقال بعض أصحابنا: إنه مكروه، وهو ضعيف.

(الثانية): يجوز النوم عندنا في المسجد، نَصّ عليه الشافعيّ في "الأم"، قال ابن المنذر في "الإشراف": رَخَص في النوم في المسجد ابنُ المسيب، والحسن، وعطاء، والشافعيّ، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مَرْقَدًا، ورُوي عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس، وقال الأوزاعيّ: يكره النوم في المسجد، وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر، وقال أحمد: إن كان مسافرًا، أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلًا، أو مبيتًا فلا، وهذا قول إسحاق، هذا ما حكاه ابن المنذر.

واحتَجَّ مَن جَوَّزه بنوم عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وأهل الصُّفَّة، والمرأة صاحبة الْوِشَاح، والغريبين، وثُمَامة بن أُثَال، وصفوان بن أمية، وغيرهم، وأحاديثهم في "الصحيح" مشهورة، والله تعالى أعلم.

ويجوز أن يُمَكَّن الكافر من دخول المسجد بإذن المسلمين، ويُمنَع من دخوله بغير إذن.

(الثالثة): قال ابن المنذر أباح كلُّ من يُحفَظ عنه العلم الوضوء في المسجد، إلا أن يتوضأ في مكان يَبُلّه، أو يتأذى الناس به، فإنه مكروه، ونقل الإمام أبو الحسن بن بَطّال المالكيّ هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، وابن القاسم المالكيّ، وأكثر أهل العلم، وعن ابن سيرين، ومالك، وسحنون أنهم كرهوه تنزيهًا للمسجد، والله تعالى أعلم.

(الرابعة): قال جماعة من أصحابنا - الشافعيّة -: يكره إدخال البهائم، والمجانين، والصبيان الذين لا يميزون المسجد لغير حاجة مقصودة؛ لأنه لا يؤمن تنجيسهم المسجد، ولا يَحرُم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف على البعير، ولا ينفي هذا الكراهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك بيانًا للجواز، أو ليَظْهَر؛ ليُقتَدَى به صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بالكراهة فيه نظر؛ لأنه دليل عليه، ودعوى نجاسة بول البعير ونحوه غير صحيح، بل الراجح طهارته؛ لخبر قصّة العرنيين، وسيأتي تحقيق ذلك بعد ثلاثة أبواب - إن شاء الله تعالى -.

ص: 231

(الخامسة): يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد، وأما مَن على بدنه نجاسة، فإن خاف تنجيس المسجد لم يجز له الدخول، وإن أمن ذلك جاز، وأما إذا افتصد في المسجد، فإن كان في غير إناء فحرام، وإن قطر دمه في إناء فمكروه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التحريم مبنيّ على نجاسة الدم الخارج من البدن، وهو محلّ خلاف، والراجح أنه طاهر، سوى دم الحيض، كما سيأتي تحقيق ذلك بعد بابين - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

قال: وإن بال في المسجد في إناء ففيه وجهان، أصحهما أنه حرام، والثاني مكروه.

(السادسة): يجوز الاستلقاء في المسجد، ومدّ الرجل، وتشبيك الأصابع، للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك

(1)

، من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(السابعة): يستحبّ استحبابًا مَتأكدًا كَنْسُ المسجد، وتنظيفه؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة فيه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[666]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأنصَارِيِّ (ح)، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا عَنِ الدَّرَاوَرْدِيّ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ - الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أنسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ فِي الْمَسْجِد، فَبَالَ فِيهَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ"، فَلَمَّا فَرَغَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ، فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ).

(1)

والأحاديث الواردة في النهي عن التشبيك كلها ضعيفة، راجع:"فتح الباري" 1/ 675.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 192 - 193.

ص: 232

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ الزَّمِن [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) النيسابوريّ المذكور في الباب الماضي.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظ، إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِي) أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم، صدوقٌ، يُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأنصَارِيُّ) أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقيان تقدّما في المسند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (31) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (إِلَى نَاحِيَةٍ) أي جانب.

وقوله: (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ) بفتح الذال المعجمة، وزانُ رسولٌ: الدلو العظيمة، قالوا: ولا تُسمّى ذَنُوبًا حتى تكون مملوءة ماءً، وتذكّر وتؤنّث، فيقال: هو الذَّنُوب، وهي الذَّنُوب، وقال الزجّاج: مذكّر لا غير، وجمعه ذِنَابٌ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: الذّنُوب بفتح الذال المعجمة، وضمّ النون، قال الشافعيّ في "المختصر": هو الدلو العظيم، وكذا قال غيره، زاد الأزهريّ: وهو دون الْغَرْب الذي يكون للسانية، ولا يُسمّى ذَنُوبًا حتى يكون مُلئ ماءً، ونقله النوويّ في "شرح المهذّب" عن الأكثرين، وجزم به في "شرح مسلم"، وقال ابن السّكّيت: هي التي فيها قريبٌ من الشك، وقال ابن داود من أصحابنا: إنه لا يُسمّى ذَنُوبًا ما لم يكن الحبل مشدُودًا فيه، وهو مذكّر، وقد

(1)

"المصباح المنير" 1/ 210.

ص: 233

يؤنّث، قاله ابن سِيده، والجمع في أدنى العدد أَذْنِبَة، والكثير ذِنَاب، مثلُ قَلُوص وقِلَاص. انتهى

(1)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[667]

(285) - (حَدَّثَنَا

(2)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ عَمُّ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِد، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ، مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُو"، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ:"إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل، وَلَا الْقَذَر، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَالصَّلَاة، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْم، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور قبل باب.

2 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) هو: عمر بن يونس بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير؛ فضعيف، لاضطرابه [5] مات قبيل (160)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) هو: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل، نُسب لجدّه، الأنصاريُّ النَّجّاريُّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4].

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 694 - 695.

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 234

رَوَى عن أبيه، وأنس، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، والطفيل بن أبي بن كعب، وعلي بن يحيى بن خلاد الأنصاريّ، وأبي مُرّة مولى عَقِيل، وغيرهم.

ورَوى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأوزاعيّ، وابن جريج، ومالك، وهمام، وعبد العزيز الماجشون، وجماعة.

قال ابن معين: ثقة حجةٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وزاد أبو زرعة: وهو أشهر إخوته، وأكثرهم حديثًا، وقال محمد بن سعد عن الواقديّ: كان مالكٌ لا يُقَدِّم عليه في الحديث أحدًا، وتُوُفّي سنة (132)، وكان ثقةً كثير الحديث، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة (34)، وقيل: مات سنة ثلاثين، حكاه ابن الْحَذّاء في رجال "الموطأ"، وأفاد أن اسم أُمِّه أُمُّ سلمة بنت رفاعة بن رافع بن مالك بن الْعَجْلان، قال أبو داود: كان على الصُّوافِي باليمامة، وقال البخاري في "تاريخه الكبير": بَقِي باليمامة إلى زمن بني هاشم، وقال ابن حبان في "الثقات": كان ينزل في دار أبي طلحة، وكان مُقَدَّمًا في رواية الحديث، والإتقان فيه، وكناه اللالكائي أبا يحيى، وقيل: كنيته أبو نَجِيح.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.

وقوله: (وَهُوَ عَمُّ إِسْحَاقَ) الضمير لأنس رضي الله عنه، يعني أن أنسًا عمّ لإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أخو أبيه من أمّه.

وقوله: (مَهْ، مَهْ) قال القرطبيّ رحمه الله: هي: اسمٌ من أسماء الأفعال، بمعنى كُفَّ، وهي ساكنةُ الهاء، ويقال: بَهْ بَهَ بالباء بدل الميم، فإن وصلته نوَّنتَ مَهٍ مَهٍ، ويقال: مَهْمَهْتُ به: أي زجرته. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هي كلمة زجر، ويقال: بَهْ بَهْ بالباء أيضًا، قال العلماء: هو اسم مبنيّ على السكون، معناه: اسكت، قال صاحب "المطالع": هي كلمة زجر، قيل: أصلها "ما هذا؟ "، ثم حذف تخفيفًا، قال: وتقال مكرَّرةً: مَهْ مَهْ، وتقال فَرْدةً: مَهْ، ومثله بَهْ بَهْ، وقال يعقوب: هي لتعظيم الأمر، كبَخْ بَخْ، وقد تنوّن مع الكسر، وينوّن الأول، ويكسر الثاني بغير تنوين. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 543.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 193.

ص: 235

وقوله: (حَتَّى بَالَ) أي إلى أن انتهى من بوله.

وقوله: (لَا تَصْلُحُ) بفتح اللام، وضمّها، يقال: صَلَحَ الشيءُ صُلُوحًا، من باب قَعَدَ، وصَلاحًا أيضًا، وصَلحَ بالضمّ لغة، وهو خلاف فَسَدَ، وصَلَحَ يَصْلَحُ بفتحتين لغة ثالثةٌ، فهو صالحٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَلَا الْقَذَرِ) بفتحتين: الوَسخ، وهو مصدر قَذِرَ الشيءُ، فهو قَذِرٌ، من باب تَعِبَ إذا لم يكن نَظِيفًا، وقَذِرته، من باب تَعِبَ أيضًا، واستقذرته، وتقذّرته: كَرِهته لوسَخِه، وأقذرته بالألف وجدته كذلك

(2)

.

وقوله: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل، وَلَا الْقَذَرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجة لمالك في منع إدخال الميت المسجد، وتنزيهه عن الأقذار جملةً، فلا يُقصّ فيها شعرٌ، ولا ظفرٌ، ولا يتسوّك فيها؛ لأنه من باب إزالة القذر، ولا يُتوضّأ فيها، ولا يؤكل فيها طعامٌ منتن الرائحة إلى غير ذلك مما في هذا المعنى. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في منع إدخال الميت المسجد هذا فيه نظرٌ لا يخفى، فقد صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أدخله فيه، وصلّى عليه فيه، فقد أخرج المصنّف في "الجنائز" عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن عائشة أَمرت أن يُمَرّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، فتصلي عليه، فأَنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن البيضاء إلا في المسجد.

وقوله: "ولا يتسوّك فيه إلخ" هذا أيضًا خلاف الصواب، فقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كلّ صلاة، ومعلوم أن الصلاة لا تكون إلا في المسجد غالبًا، فالسواك مأمور به في المسجد.

ودعوى أنه من باب إزالة القذر غير صحيحة، بل هو من باب الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"السواك مطهرة للفم. . ." الحديث، وقد تقدّم الردّ على هذا القول في أبواب السواك، فارجع إليها تجد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 345.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 494.

(3)

"المفهم" 1/ 544.

ص: 236

وقوله: (إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَالصَّلَاة، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجة لمالك في أن المساجد لا يُفعل فيها شيء من أمور الدنيا، إلا أن تدعو ضرورة، أو حاجة إلى ذلك، فيتقدّر بقدر الحاجة فقط، كنوم الغريب فيه، وأكله. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، "أو" هنا للشكّ من الراوي، وهذا هو الذي ينبغي للراوي بالمعنى، أو لمن شكّ في اللفظ المرويّ أن يأتي به؛ احتياطًا في الرواية، وخشية أن يكون الحديث مرويًّا بالمعنى، دون اللفظ، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَالَ" وَمَا

أَشْبَهَهُ كَالشَّكِّ فِيمَا أَبْهَمَا

وقوله: (قَالَ: فَأَمَرَ إلخ) فاعل "قال" ضمير أنس رضي الله عنه.

وقوله: (فَشَنَّهُ عَلَيْهِ) يُرْوَى بالشين المعجمة، وبالمهملة، وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة، ومعناه: صَبّه، وفَرّق بعض العلماء بينهما، فقال: هو بالمهملة الصبّ في سهولة، وبالمعجمة التفريقُ في صبّه، قاله النوويّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(31) - (بَابُ حُكْمِ بَوْلِ الطِّفْلِ الرَّضِيع، وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[668]

(286) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَان، فَيُبَرِّكُ

(2)

عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُّهُمْ، فَأَتِيَ بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَيْه، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتبَعَهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ).

(1)

"المفهم" 1/ 545.

(2)

وفي نسخة: "فيبارك".

ص: 237

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(هِشَام) بن عروة الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنة (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من هشام، والباقون كلهم كوفيّون.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: هشام، عن أبيه، ورواية الراوي عن خالته: عروة عن عائشة رضي الله عنها.

6 -

(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.

ص: 238

7 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيها خلاف مشهور، وهي من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ بدلٌ مما قبله، واستعمال الزوج للمرأة بلا هاء لغة فصيحة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرجل زوج المرأة، وهي زوجه أيضًا، هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو قوله عز وجل:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، والجمع فيهما أزواج، قال أبو حاتم: وأهل نجد يقولون في المرأة: زوجةٌ بالهاء، وأهل الحرم يتكلّمون بها، وعَكَسَ ابن السّكّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زوج بغير هاء، وسائر العرب: زوجة بالهاء، وجمعها زوجات، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخوف لبس الذكر بالأنثى؛ إذ لو قيل: تَرِكةٌ فيها زوج وابن، لم يُعلَم أذكرٌ هو أم أنثى؟. انتهى

(1)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ) بكسر الصاد، ويجوز ضمّها، كما في "الفتح"

(2)

، جمع صبيّ، وهو: من لم يُفْطَم بَعْدُ، وفي "المحكم": من لدن يولد إلى الفطام، وجمعه أَصْبِيَةٌ، وأَصْبٍ، وصِبْوَةٌ - بالكسر، وصَبْيَةٌ - بالفتح - وصِبْيةٌ، وصِبْوانٌ، وصِبْيَانٌ، بكسر الثلاثة، وتُضمّ، أفاده في "القاموس"، و"شرحه"

(3)

.

(فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ)، وفي نسخة:"فيبارك عليهم": أي يدعو لهم بالبركة، قال في "القاموس": البركة محرَّكةً: النماءُ، والزيادة، والسعادة، والتبريك: الدعاء بها، وبَرِيكٌ: مبارَكٌ فيه، وبارك الله لك، وفيك، وعليك، وبارَكَكَ، وبارِكْ على محمد، وعلى آل محمد: أَدِم ما أعطيته من التشريف والكرامة،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 259.

(2)

واعتراض العينيّ في: "عمدته"(3/ 192) على الحافظ في قوله: ويجوز ضمّها، غير صحيح، فالصواب مع الحافظ، كما أثبته في:"القاموس"، فتنبّه.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1171، و"تاج العروس" 10/ 206.

ص: 239

وتبارك الله: تقدّس، وتَنَزّه، صفةٌ خاصّةٌ بالله تعالى، وتبارك بالشيء: تفاءل به. انتهى

(1)

.

وخَصَّ الصبيان بهذه الدعوة؛ لمناسبتها لأحوالهم، حيث إنهم في أول الأمر قابلون للزيادة، من حيث الجسم، والعقل، والحياة، وغير ذلك، والله تعالى أعلم.

(وَيُحَنِّكُهُمْ) بتشديد النون، من التحنيك، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: التحنيك: أن يَمْضَغَ التمر، أو نحوه، ثم يَدْلُك به حَنَكَ الصغير، وفيه لغتان مشهورتان: حَنَكَهُ، وحَنَّكَهُ بالتخفيف والتشديد، والرواية هنا "فَيُحَنِّكُهم" بالتشديد، وهي أشهر اللغتين. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الْحَنَك محرّكَةً: باطن أعلى الفم من داخل، أو الأسفل من طرف مُقَدَّم اللَّحْيَيْن، جمعه أَحْنَاك. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَنَك من الإنسان وغيره مذكّرٌ، وجمعه أَحْناك، مثلُ سَبَب وأَسباب، حنكتُ الصبيَّ تحنيكًا: إذا مَضَغْتَ تمرًا ونحوه، ودَلَكت به حَنَكَهُ، وحَنَكْتهُ حَنْكًا، من بأبي ضرب وقَتَلَ كذلك، فهو مُحَنَّكٌ من المشدّد، ومَحْنُوكٌ من المخفّف

(4)

.

(فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، أي جيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِصَبِيٍّ) قال الحافظ رحمه الله: يظهر لي أن المراد به ابنُ أم قيس المذكور بعده، ويحتمل أن يكون الحسن بن عليّ، أو الحسين رضي الله عنهم، فقد رَوَى الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أم سلمة رضي الله عنها بإسناد حسن، قالت:"بال الحسن، أو الحسين على بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه حتى قَضَى بوله، ثم دعا بماء، فصبَّه عليه"، ولأحمد عن أبي ليلى نحوه، ورواه الطحاويّ من طريقه، قال:"فجيء بالحسن"، ولم يتردد، وكذا للطبرانيّ عن أبي أُمامة.

قال: وإنما رجحت أنه غيره؛ لأن عند البخاريّ في "كتاب العقيقة" من

(1)

"القاموس المحيط" ص 839.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 194.

(3)

"القاموس المحيط" ص 843.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 154.

ص: 240

طريق يحيى القطان، عن هشام بن عروة، أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه، وفي قصته أنه بال على ثوبه، وأما في قصة الحسن، ففي حديث أبي ليلى، وأم سلمة أنه بال على بطنه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث زينب بنت جحش، عند الطبرانيّ أنه جاء، وهو يحبو، والنبيّ صلى الله عليه وسلم نائم، فصَعِدَ على بطنه، ووضع ذكره في سُرّته، فبال. . .، فذكر الحديث بتمامه، فظهرت التفرقة بينهما. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استظهره الحافظ حسن، إلا أن العينيّ اعترضه

(2)

، على عادته المستمرّة، واستظهر ما جاء عند الدارقطنيّ من رواية الحجاج بن أرطاة أنه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وهذا منه عجيب، كيف يعترض عليه برواية الحجاج المشهور بالضعف؟ وعلى تقدير صحّته فما وجه ترجيحه على ما ذكره الحافظ؟ إلا أن جملة الأمر أنه مغرم بالتعقّب البارد، والاعتراض الكاسد، والله تعالى المستعان.

(فَبَالَ) ذلك الصبيّ (عَلَيْهِ)، أي على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَدَعَا) صلى الله عليه وسلم (بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ) بقطع الهمزة، من الإتباع، أي أتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم (بَوْلَهُ) أي بول ذلك الصبيّ الذي على ثوبه، وفي رواية ابن المنذر من طريق الثوريّ، عن هشام:"فصَبّ عليه الماء"، وللطحاويّ، من طريق زائدة المقفيّ، عن هشام:"فنضحه عليه"(وَلَمْ يَغْسِلْهُ) فيه أن بول الصبيّ يكفي فيه النضح، ولا يجب غسله، وفيه خلاف سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[31/ 668 و 669 و 670](286)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(222)، و"العقيقة"(5468)، و"الأدب"(6002)،

(1)

"الفتح" 1/ 389.

(2)

راجع: "عمدته" 3/ 192 - 193.

ص: 241

و"الدعوات"(6355)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 157)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(523)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 64)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1489)، و (الحميديّ) في "مسنده"(164)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 120)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 52 و 210 و 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1372)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(140)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(515 و 516 و 517 و 518)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(655 و 656)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 29 و 93)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 414)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نجاسة بول الصبيّ، وأنه يجب إزالته كسائر النجاسات.

قال في "الفتح": قال الخطّابيّ رحمه الله: ليس تجويز مَن جَوّز النضح من أجل أن بول الصبيّ غير نجس، ولكنه لتخفيف نجاسته. انتهى.

وأثبت الطحاويّ الخلاف، فقال: قال قوم بطهارة بول الصبي قبل الطعام، وكذا جزم به ابن عبد البر، وابن بطال، ومن تبعهما عن الشافعيّ، وأحمد، وغيرهما، ولم يَعْرِف ذلك الشافعية، ولا الحنابلة، وقال النوويّ: هذه حكاية باطلة. انتهى.

قال الحافظ: وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان كيفيّة طهارة بوله، وهو صبّ الماء عليه، ولا يجب غسله.

3 -

(ومنها): بيان سهولة الشرع، وسماحته، حيث خفّف في تطهير بول الصبيّ بالنضح دون إيجاب غسله.

4 -

(ومنها): الندب إلى حسن المعاشرة واللين والتواضع، والرفق بالصغار وغيرهم.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة والرأفة، حيث

(1)

"الفتح" 1/ 391.

ص: 242

كان يحمل الطفل، ويجعله على جسده الشريف، ويتلطّف به، حتى إن منهم من يبول عليه، فلا يتأثّر، ولا يتأذّى بذلك، بل يصبر عليه، وهذا ما بيّنه الله تعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]صلى الله عليه وسلم.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من محبّتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يأتون بأطفالهم، رجاء بركته، ودعوته المباركة.

7 -

(ومنها): استحباب تحنيك الأطفال.

8 -

(ومنها): استحباب حمل الأطفال إلى أهل العلم والصلاح؛ ليدعوا لهم بالبركة والصلاح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة تطهير بول الغلام والجارية:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختَلَفَ أهل العلم في هذا الباب، فقالت طائفة: يُنضَح بولُ الغلام ما لم يأكل الطعام، ويُغسَل بول الجارية، رُوي هذا القول عن عليّ وأم سلمة، وعطاء، والحسن، وبه قال أحمد، وإسحاق.

وقالت طائفة: لا فرق بين بول الغلام والجارية في ذلك، هذا قول النخعيّ، وكان يرى أن يغسل ذلك، وبه قال سفيان في بول الغلام والجارية، قال: يُصَبّ عليه الماء، وكان أبو ثور يقول: يُغسَل بول الغلام والجارية، وإن ثبت حديث الرشّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان الرشّ جائزًا في بول الغلام.

وقد رَوَينا عن الحسن، والنخعيّ قولًا ثالثًا، وهو أن الغلام والجارية يُنضَحان جميعًا ما لم يَطْعَما.

قال ابن المنذر: يجب رَشّ بول الغلام بحديث أم قيس، وغَسلُ بول الجارية. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قد اختَلَف العلماء في كيفية طهارة بول الصبيّ والجارية على ثلاثة مذاهب، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا:

(1)

"الأوسط" 2/ 142 - 145.

ص: 243

الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبيّ، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بُدّ من غسله كسائر النجاسات.

والثاني: أنه يكفي النضح فيهما.

والثالث: لا يكفي النضح فيهما، وهذان الوجهان حكاهما صاحب "التَّتِمّة" من أصحابنا وغيره، وهما شاذّان ضعيفان.

وممن قال بالفرق عليّ بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رَبَاح، والحسن البصريّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وجماعة من السلف، وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك رضي الله عنهم، ورُوي عن أبي حنيفة.

وممن قال بوجوب غسلهما أبو حنيفة، ومالك في المشهور عنهما، وأهل الكوفة، قال ابن دقيق العيد: اتبعوا في ذلك القياس، وقالوا: المراد بقولها: "ولم يغسله " أي غسلًا مبالغًا فيه، وهو خلاف الظاهر، ويُبعِده ما ورد في الأحاديث الأُخَرِ - يعني التي قدمناها من التفرقة بين بول الصبي والصبية - فإنهم لا يفرقون بينهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من ذكر أقوال العلماء، وأدلّتهم أن أرجح الأقوال هو القول بالفرق بين بول الغلام والجارية، فيرشّ بوله، ويُغسل بولها، لقوّة أدلّته.

واحتجّوا بحديثي عائشة، وأم قيس رضي الله عنهما المذكورين في الباب.

وبما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذيّ بإسناد صحيح، عن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يُغسَلُ من بول الجارية، ويُرَشّ من بول الغلام".

ولفظه قال: كنت أخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال:"وَلِّني قفاك"، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتِي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال:"يُغْسَل من بول الجارية، ويُرَشّ من بول الغلام".

فهذا الحديث الصحيح قد فرّق بين الغلام والجارية، فحكم على أن بوله

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 195، و"الفتح" 1/ 391.

ص: 244

يُرشّ، وبولها يُغسل، فتبيّن به أن الفرق بين بوليهما هو الحقّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيهات]:

(الأول): قال النوويّ رحمه الله: هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبيّ، ولا خلاف في نجاسته، وقد نَقَل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبيّ، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهريّ، قال الخطابيّ وغيره: وليس تجويز مَن جَوّز النضح في الصبيّ من أجل أن بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، فهذا هو الصواب، وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال، ثم القاضي عياض، عن الشافعيّ وغيره أنهم قالوا: بول الصبيّ طاهر، فيُنضَح فحكاية باطلة قطعًا. انتهى

(1)

.

(التنبيه الثاني): قال النوويّ رحمه الله أيضًا: قد اختَلَف أصحابنا في حقيقة النّضح هنا:

فذهب الشيخ أبو محمد الجوينيّ، والقاضي حسين، والبغويّ إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يُغْمَر بالماء كسائر النجاسات، بحيث لو عُصِر لا يُعْصَر، قالوا: وإنما يخالف هذا غيره في أن غيره يُشتَرَط عصره على أحد الوجهين، وهذا لا يشترط بالاتفاق.

وذهب إمام الحرمين، والمحققون إلى أن النَّضْحَ أن يُغْمَر، ويُكاثَر بالماء مكاثرةً لا يَبلُغ جريان الماء وتردده وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يُشتَرط فيها أن يكون بحيث يَجري بعضُ الماء، ويتقاطر من المحلّ، وإن لم يُشتَرط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، ويدل عليه قولها:"فنضح، ولم يغسله"، وقوله:"فرَشَّه"، أي نَضَحه.

قال: ثم إن النضح إنما يُجزئ ما دام الصبيّ يَقتصر به على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية، فإنه يجب الغسل بلا خلاف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 195.

ص: 245

(التنبيه الثالث): قد تكلّم العلماء في الحكمة التي من أجلها حصل التفريق بين بول الغلام والجارية:

فقال بعضهم: إن بول الغلام يَخرُج من ثُقب ضيّق من قضيب ممتدّ، فيخرج بقوّة وشدّة دفع، فينتشر بوله، وتكثر الإصابة منه، فاقتضت الحكمة التخفيف من حكم نجاسته، وأما الجارية فيخرج بولها من ثقب فيه سعة، وبدون قضيب، فيستقرّ في مكان واحد، فيثبت على أصل نجاسة البول.

وقال بعضهم: إن الغلام فيه حرارة طبيعيّة زائدة على حرارة الجارية، وهو معلوم، وهذه الحرارة تخفّف فضلات الطعام، فإذا صادف أن الطعام خفيف أيضًا، وهو اللبن حصل من مجموع الأمرين خفّة النجاسة، بخلاف الجارية، فليس لديها هذه الحرارة الملطّفة، فتبقى على الأصل

(1)

.

وقال بعضهم: سبب الفرق كثرة حمل الرجال والنساء للذكر، فتعمّ البلوى ببوله، فيشقّ غسله، لذلك.

وقال ابن دقيق العيد: وقد ذُكر في الفرق بينهما أوجهٌ، منها ما هو ركيك، وأقوى ذلك ما قيل: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقّة، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ركاكة هذه الأوجه كلها مما لا يخفى على بصير، فالأولى أن نكل علم الحكمة إلى الشارع الحكيم، فإننا نعلم بيقين أنه ما فرّق بين النوعين في الحكم المذكور إلا لحكمة تقتضي التفريق بينهما، ولا يلزمنا أن نعرف تلك الحكمة بالتعيين، فأحكام الله تعالى لا تكون إلا وفق مصلحة العباد، ولكن ربما تظهر، وربّما لا تظهر، فتنبّه، ولا تتكلّف ما لم تُكلَّف مما لا يَعنيك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "توضيح الأحكام" للشيخ البسّام 1/ 184 - 185.

(2)

"الفتح" 1/ 391.

ص: 246

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[669]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُتيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بصَبِيٍّ يَرْضَعُ، فَبَالَ فِي حِجْرِه، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد المذكور قبل باب.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (يَرْضَعُ) بفتح أوله، قال المجد رحمه الله: رَضَعَ الصبيّ أمَّهُ، كسَمِعَ، وضَرَبَ، ومنَعَ

(1)

رَضْعًا، ويُحرَّك، ورَضَاعًا، ورَضَاعةً، ويُكسران، ورَضِعًا، ككَتِفٍ، فهو راضعٌ، جمعه كرُكَّعٍ، ورَضِعٌ، ككَتِفٍ، جمعه كعُنُقٍ: امْتَصَّ ثَدْيَهَا. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَضِعَ الصبيُّ رَضَعًا، من باب تَعِبَ في لغة نَجْد، ورَضَعَ رَضْعًا، من باب ضَرَبَ لغة لأهل تِهَامة، وأهلُ مكة يتكلّمون بها، وبعضهم يقول: أصل المصدر من هذه اللغة كسرُ الضاد، وإنما السكون تخفيف، مثلُ الْحَلِفِ والْحَلْف، ورَضَعَ يَرْضَعُ بفتحتين لغة ثالثة رَضَاعًا ورَضَاعةً بفتح الراء. انتهى

(3)

.

وقوله: (فِي حِجْرِهِ) حِجْرُ الإنسان: بفتح الحاء المهملة، وقد تُكسَر، حِضْنُهُ، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح، وهو في حِجْره: أي كَنَفه، وحِمَايته، والجمع حُجُورٌ، قاله الفيّوميّ

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هذه زيادة من "المصباح المنير" 1/ 229.

(2)

"القاموس المحيط" ص 650.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 229.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 122.

ص: 247

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[670]

(. . .) - (وَحَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، حَدَّثنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عِيسَى) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد هشام السابق، وهو عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) يعني أن لفظ حديث عيسى بن يونس مثل لفظ حديث عبد الله بن نُمير، عن هشام بن عروة.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس التي أحالها المصنّف هنا على رواية ابن نمير لم أجد من أخرجها إلا أبا نعيم، فقد أخرجها في "مستخرجه"(1/ 345) مقرونًا بوكيع، مختصرةً، فقال:

وحدثنا أبو أحمد، ثنا عبد الله، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عيسى بن يونس، ووكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بصبيّ رَضِيع، فبال في حَجْره، فدعا بماء، فصبَّه عليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[671]

(287) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَوَضَعَتْهُ في حِجْرِه، فَبَالَ - قَالَ -: فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ).

ص: 248

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التُّجيبيّ المصريّ المذكور قبل بابين.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المذكور قبل بابين أيضًا.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المذكور قريبًا.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) هو: عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ) الأسديةُ، أخت عكاشة، أسلمت بمكة قديمًا، وهاجرت إلى المدينة، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها مولاها عَدِيّ بن دينار، ومولاها آخر أبو الحسن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ووابصة بن مَعْبد الأسديّ، وأبو عبيدة بن عبد بن زَمْعَة، وعمرة أخت نافع مولى حَمْنة بنت شجاع، قال الليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الحسن، مولى أم قيس بنت مِحْصَن، عن أم قيس، أنها قالت: تُوُفّي ابني، فجَزِعتُ، فقلت للذي يغسله: لا تغسل ابني بالماء البارد فتقتله، فانطلق عكاشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقولها، فتبسم، ثم قال:"طال عمرها"، فلا نعلم امرأة عُمِّرت ما عُمِّرت

(1)

، وذكر أبو القاسم الجوهريّ في "مسند الموطأ" أن اسمها آمنة.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره أربع مرات.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وابن ماجه.

(1)

حديث ضعيف؛ لجهالة أبي الحسن مولى أم قيس، أخرجه النسائيّ في:"سننه"(4/ 28).

ص: 249

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، والليث فمصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله.

5 -

(ومنها): أن فيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّته ممن أقلّ من الرواية، فليس لها في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، مكرّرًا أربع مرّات، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ) بكسر الميم، وسكون الحاء، وفتح الصاد المهملتين، قال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: اسمها جُذَامة - يعني بالجيم والذال المعجمة - وقال السهيليّ: اسمها آمنة، وهي أخت عكاشة بن مِحْصن الأسديّ، وكانت من المهاجرات الأُوَل كما في الرواية الثالثة من طريق يونس، عن ابن شهاب، وليس لها في "الصحيحين" غيره، وغير حديث آخر في "كتاب الطب"

(1)

، وفي كل منهما قصةٌ لابنها. انتهى

(2)

.

قيل: اسمها آمنة (أنهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - بِابْنِ) لا يُطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد، فإنه يعم الذكر والأنثى، وقوله:(لَهَا) متعلّق بصفة لـ "ابن"، ومات ابنها هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، كما تقدّم قصة غسله بالماء البارد آنفًا، قال الحافظ: ولم أقف على تسميته. انتهى.

(لَمْ يَأكلِ الطَّعَامَ) جملة في محلّ جرّ صفة بعد صفة لـ "ابن"، أو في محلّ نصب على الحال منه.

قال في "الفتح": المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يَرتضعه، والتمر الذي يُحَنَّك به، والعسل الذي يُلْعَقه للمداواة وغيرها، فكأن المراد أنه لم يَحصل له الاغتذاء بغير اللبن علي الاستقلال.

هذا مقتضى كلام النوويّ في "شرح مسلم"، و"شرح المهذب"، وأَطلَق

(1)

وهو في: "صحيح مسلم" في: "كتاب السلام".

(2)

"الفتح" 1/ 390.

ص: 250

في "الروضة" تبعًا لأصلها أنه لم يَطْعَم ولم يَشْرَب غير اللبن، وقال في "نكت التنبيه": المراد أنه لم يأكل غير اللبن، وغير ما يُحَنَّك به، وما أشبهه، وحَمَل الموفق الحمويّ في "شرح التنبيه" قوله:"لم يأكل" على ظاهره، فقال: معناه لم يَستَقِلّ بجعل الطعام في فيه، والأول أظهر، وبه جزم الموفَّق ابن قُدَامة وغيره.

وقال ابن التين: يَحْتَمِل أنها أرادت أنه لم يَتَقَوَّت بالطعام، ولم يَستغن به عن الرضاع، ويَحْتَمل أنها إنما جاءت به عند ولادته ليحنكه صلى الله عليه وسلم، فيُحْمَل النفي على عمومه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الاحتمال الأول أرجح؛ ويؤيّده ما في قصّة الحسن رضي الله عنه، ففيه أنه "أتى إلى النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وهو يَحْبُو، وهو صلى الله عليه وسلم نائم، فصَعِدَ على بطنه، ووضع ذكره في سُرّته، فبال

" الحديث، فإنه في مثل هذا الوقت سبق له التحنيك بالتمر، ونحوه، مما جرت به العادة، فيدلّ على أن مثل ذلك من الطعام لا يضرّ، فيُنضح بوله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَوَضَعَتْهُ)، أي وضعت أم قيس ذلك الصبيّ (فِي حِجْرِهَ) أي حِضنه صلى الله عليه وسلم، وتقدّم في الحديث الماضي ضبطه، ومعناه (فَبَالَ) ذلك الصبيّ (قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عبيد الله الراوي عن أم قيس، كما يدلّ عليه قوله الآتي:"قال عبيد الله: أخبرتني أن ابنها ذاك بال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم "(فَلَمْ يَزِدْ) صلى الله عليه وسلم (عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بـ "على" أي على نضحه بالماء، أي رشّه عليه، قال الفيّوميّ: نَضَحتُ الثوب نَضْحًا، من باب ضربَ، ونَفَعَ، وهو الْبَل، والرّشّ، "ويُنْضَحُ من بول الغلام": أي يُرشُّ، ونَضحَ الفرسُ: عَرِقَ، ونَضَحَ الْعَرَقُ: خَرَجَ، وانتضح البول على الثوب: ترشّش. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قال ابن سِيدَهْ: نَضَحَ الماءَ عليه يَنضَحُهُ نَضْحًا: إذا ضربه بشيء، فأصابه منه رَشَاشٌ، ونَضحَ عليه الماء: رَشَّ، وقال ابن الأعرابيّ: النَّضْحُ ما كان على اعتماد، والنضخ - بالخاء المعجمة - ما كان

(1)

"الفتح" 1/ 390.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 609.

ص: 251

على غير اعتماد، وقيل: هما لغتان بمعنى، وكلُّهُ رَشّ، وفي "الواعي" لأبي محمد، و"الصحاح" لأبي نصر، و"الْمُجْمَل" لابن فارس، و"الْجَمْهرة" لابن دُريد، وابن القوطية، وابن القطاع، وابن طَرِيف في "الأفعال"، والفارابي في "ديوان الأدب"، وكُرَاع في "المنتخب"، وغيرهم: النّضْحُ: الرّشّ

(1)

.

والمعنى هنا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على بول ذلك الصبيّ على الرشّ، بمعنى أنه لم يغسله غسلًا مبالغًا فيه، كما يدلّ عليه قوله الآتي:"ولم يغسله غسلًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم قيس بنت مِحْصَنٍ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[31/ 671 و 672 و 673](287)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(223)، و"الطبّ"(5693)، و (أبو داود) في "الطهارة"(374)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(71)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(524)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 64)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 44)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1485 و 1486 و 20168)، و (الحميديّ) في "مسنده"(343)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 120)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 355 و 356)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 189)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(285 و 286)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1373 و 1374)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(139)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(25/ 435 و 436 و 438 و 445 و 441 و 442 و 443 و 444)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 92)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 414)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(294)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(519 و 520 و 521 و 522)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(657 و 658 و 659)، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 198.

ص: 252

وأما فوائد الحديث، وبيان مذاهب العلماء في حكم بول الصبيّ، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[672]

(

) - (وَحَدَّثنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ الإمام النيسابوريّ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو سفيان أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمامٌ، من رؤوس [8](ت 198) عن (90) سنة (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الزهريّ السابق، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أم قيس رضي الله عنها.

وقوله: (فَرَشَّهُ) قال في "القاموس": الرّشّ: نَفْضُ الماء، والدم، والدمع، كالتَّرْشَاش، والمطر القليل، جمعه رِشَاشٌ - أي بالكسر. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة التي أحالها المصنّف: على الليث، أخرجها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:

(1)

"القاموس المحيط" ص 534.

ص: 253

(66)

حدثنا قتيبة، وأحمد بن منيع، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت مِحْصَن، قالت: دخلت بابن لي على النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء، فرَشَّه عليه

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[673]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أمّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَن، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتي

(2)

بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -، وَهِيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، أَحَدِ بَني أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أنَّهَا أتتْ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - بِابْنٍ لَهَا، لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكلَ الطَّعَامَ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: أَخْبَرَتْنِي أَنَّ ابْنَهَا ذَاكَ بَالَ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِه، وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيىَ) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المذكور قبل باب.

3 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ الأمويّ مولاهم، أبو يزيد، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ) بضم، ففتح، جمع أُولى، أي

(1)

وأخرجه الإمام أحمد في: "مسنده" برقم (25756).

(2)

وفي نسخة: "اللائي".

ص: 254

النساء اللاتي سبقن غيرهنّ من النساء في الهجرة من مكة إلى المدينة فرَارًا بدينهنّ.

وقوله: (اللَّاتي)، وفي نسخة:"اللائي" بالهمزة بدل التاء، وهو لغة فيه، كما قال في "الخلاصة":

بِاللَّاتِ وَاللَّاءِ الَّتِي قَدْ جُمِعَا

وَاللَّاءِ كَالَّذِينَ نَزْرًا وَقَعَا

وقوله: (بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -) من المبايعة، قال ابن الأثير رحمه الله: المبايعة على الإسلام: عبارة عن المعاقدة، والمعاهدة عليه، كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخِيلةَ أمره. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَهِيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إلخ) هو بضمّ العين المهملة، وتشديد الكاف وتخفيفها، وهو الصحابيّ المشهور الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بالسبعين ألفًا من أمته الذين يدخلون الجنّة بغير حساب: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رحمه الله:"أنت منهم"، فقام آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"سبقك بها عكاشة"، وقد ضُرب بها المثل، فيقال للسابق في الأمر: سبقك بها عكاشة

(2)

، قيل: اسْتُشهِد في قتال أهل الرّدّة، وقد تقدّم تمام ترجمته في "كتاب الإيمان" عند شرح هذا الحديث، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ) ببناء الفعلين للفاعل، تقدّم أن المراد به أنه لم يحصل له الاغتذاء استقلالًا بطعام غير اللبن.

وقوله: (وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا) قال في "الفتح": ادَّعَى الأصيليّ أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب، راوي الحديث، وأن المرفوع انتهى عند قوله:"فنَضَحَهُ"، قال: وكذلك رَوَى معمر، عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال:"فَرَشَّه، لم يزد على ذلك". انتهى.

قال الحافظ: وليس في سياق معمر ما يدلّ على ما اذعاه من الإدراج، وقد أخرجه عبد الرزاق عنه بنحو سياق مالك، لكنه لم يقل:"ولم يغسله"،

(1)

"النهاية" 1/ 174.

(2)

راجع: "الإصابة" 4/ 439 - 440.

ص: 255

وقد قالها مع مالك الليث، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة، والإسماعيليّ، وغيرهما، من طريق ابن وهب، عنهم، وهو لمسلم عن يونس وحده.

نعم زاد معمر في روايته: قال: قال ابن شهاب: فمضت السنة أن يُرَشَّ بول الصبيّ، ويُغْسَل بولُ الجارية، فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك، ومن تبعه، لأمكن دعوى الإدراج، لكنها غيرها، فلا إدراج، وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك، فإن ذلك لفظ رواية ابن عيينة، عن ابن شهاب، وقد ذكرناها عن مسلم وغيره، وبَيّنّا أنها غير مخالفة لرواية مالك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ غَسْلِ الْمَنيِّ مِنَ الثَّوْب، وَفَرْكِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[674]

(288) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَد، أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَةَ، فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ، إِنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ، فَإنْ لَمْ تَرَ

(2)

نَضَحْتَ حَوْلَهُ، وَلَقَدْ

(3)

رَأَيْتُنِي أفرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

(1)

"الفتح" 1/ 390 - 391.

(2)

وفي نسخة: "فإن لم تره".

(3)

وفي نسخة: "لقد" بحذف الواو.

ص: 256

2 -

(خَالِد) بن مِهْرَان، أبو الْمَنَازِل

(1)

البصريّ الْحَذّاء، ثقةٌ يُرسل، وتغير حفظه آخرًا [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

3 -

(أَبُو مَعْشَرٍ) زياد بن كُلَيب التّمِيميّ الْحَنْظليّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن إبراهيم النخعيّ، والشعبيّ، وسعيد بن جبير، وفضيل بن عمرو الْفُقَيميّ.

ورَوَى عنه قتادة، وخالد الحذّاء، وسعيد بن أبي عروبة، ومنصور، ومغيرة، وهشام بن حسان، ويونس بن عبيد، وشعبة، وغيرهم من أقرانه، ومن دونه.

قال العجليّ: كان ثقةً في الحديث، قديمَ الموت، وقال أبو حاتم: صالح من قدماء أصحاب إبراهيم، ليس بالمتين في حفظه، وهو أحبّ إلي من حماد بن أبي سليمان، وقال النسائيّ: ثقة، وقال ابن المدينيّ، وأبو جعفر السّبتيّ: ثقة، نقله ابن خَلْفُون، وقال ابن حبّان: وكان من الحفاظ المتقنين، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

قال ابن أبي عاصم: مات سنة عشرين ومائة، وقال ابن حبان: مات سنة تسع عشرة ومائة، وقال ابن سعد: تُوُفّي في ولاية يوسف بن عمر على العراق، وهذا يرجح أنه مات سنة عشرين.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (288) وأعاده بعده، وحديث (432): "ليلني منكم أولو الأحلام

"، و (450): "لم أكن ليلة الجنّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

4 -

(إِبْرَاهِيم) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(عَلْقَمَة) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ [2] مات بعد الستّين، وقيل: بعد السبعين، تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

(1)

بضم الميم، وفتحها.

ص: 257

6 -

(الْأَسْوَد) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الرحمن، مخضرمٌ، ثقةٌ مكثرٌ، فقيهٌ [2](ت 4 أو 75).

رَوَى عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وبلال، وعائشة، وأبي محذورة، وأبي موسى، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وأخوه عبد الرحمن، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعيّ، وعمارة بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بردة بن أبي موسى، ومُحارب بن دِثَار، وأشعث بن أبي الشَّعْثاء، وجماعة.

قال أبو طالب، عن أحمد: ثقةٌ من أهل الخير، وقال إسحاق، عن يحيى: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وذكر ابن أبي خيثمة أنه حَجّ مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، وقال الحكم: كان الأسود يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم، وذكره جماعة ممن صنف في الصحابة لإدراكه، وقال ابن سعد: سمع من معاذ بن جبل باليمن قبل أن يهاجر، ولم يرو عن عثمان شيئًا، وقال العجليّ: كوفيّ جاهليّ ثقةٌ رجل صالح، وذكره إبراهيم النخعيّ فيمن كان يفتي من أصحاب ابن مسعود، وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا زاهدًا.

وقال أبو إسحاق: تُوُفي الأسود بن يزيد بالكوفة، سنة خمس وسبعين، وقال غيره: مات سنة (74)، كذا قال ابن أبي شيبة في "تاريخه".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (62) حديثًا.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، و"يحيى بن يحيى" هو: التميميّ النيسابوريّ، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، فهو من جملة الأسانيد النازلة له.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبو معشر، فما أخرج له البخاريّ، وابن ماجه.

ص: 258

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من أبي معشر، سوى عائشة، فمدنيّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين مخضرمين: إبراهيم، عن علقمة، والأسود، والأسود خاله، فإن أمه مُليكة بنت يزيد، أخت الأسود، وعلقمة عمّ أمه؛ لأنها بنت يزيد بن قيس أخي علقمة بن قيس، وتقدّم الكلام في عائشة رضي الله عنها قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس (وَالْأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس، وهو ابن أخي علقمة، كما أسلفته آنفًا (أَنَّ رَجُلًا) هو الأسود نفسه؛ كما في رواية أبي عوانة في "مسنده"، قال: رأتني عائشة أغسل أثر جنابة أصابت ثوبي، قالت: "لقد رأيتني

".

ويَحتمل أن يكون همّامَ بن الحارث؛ لما أخرجه أحمد في "مسنده" عن عفّان بن مسلم، وبهز بن أسد، عن شعبة بسنده، عن همام بن الحارث، أنه كان نازلًا على عائشة، قال بهز: إن رجلًا من النَّخَع كان نازلًا على عائشة، فاحتلم، فأبصرته جارية لعائشة، وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه

الحديث.

ويحتمل أن يكون عبدَ الله بن شهاب الْخَوْلانيّ، كما يأتي التصريح به عند المصنّف آخر الباب (نزَلَ بِعَائِشَةَ) أي حلّ عندها ضيفًا، قال المجد رحمه الله: النُّزول: الْحُلُول، نَزَلَهُم، وبهم، وعليهم يَنْزِل نُزُولًا ومَنْزِلًا: حَلَّ. انتهى

(1)

. (فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ) قال المجد رحمه الله: "أصبح": دخل في الصباح، وبمعنى صار. انتهى

(2)

. فجملة "يغسل" على الأول في محلّ نصب على الحال، وعلى الثاني خبر لـ"أصبح"؛ لأنها من أخوات "كان" ترفع الاسم، وتنصب الخبر (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ) أي يَكفيك، وهو بضمّ أوله وكسر ثالثه، من أجْزَأ الرباعيّ، ويجوز أن يكون بفتح أوله، من جَزَى ثلاثيًّا، لكن

(1)

"القاموس المحيط " ص 957.

(2)

"القاموس" ص 207.

ص: 259

النسخ على الضبط الأول، ونصّ عليه النوويّ في "شرحه"، فيتعيّن، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَنْ رَأَيْتَهُ) يَحْتَمِل أن تكون أن بفتح الهمزة، مصدريّة، وأن تكون بكسرها شرطيّة، وهذا هو الذيّ نصّ عليه القرطبيّ رحمه الله، بأنه الرواية، فيتعيّن، ودونك عبارته:"أن رأيته" بفتح الهمزة روايتنا، ووجهها أنها مفعولة بإسقاط حرف الجرّ، تقديره: لأن رأيته، أو من أجل، وهو مع الفعل بتأويل المصدر، وكذلك قوله:(أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ) مفتوحة أيضًا على تأويل المصدر، وهو الفاعل بـ "يُجزئك". انتهى

(1)

.

والضمير في "إن رأيته"، و"مكانه" يرجع إلى المنيّ الناشئ عن رؤيا النائم، كما بينته الروايات الأخرى.

(فَإنْ لَمْ تَرَ) بحذف المفعول؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

ووقع في نسخة: "فإن لِم تره"، أي إن لم تر المنيّ الذي أصاب ثوبك (نَضَحْتَ) من بابي ضرب، ونَفعَ، كما مضى قريبًا: أي رَشَشت الماء (حَوْلَهُ) أي في مكان الإصابة، وما في جوانبه، (وَلَقَدْ) وفي نسخة بحذف الواو (رَأَيْتُنِي)، أي رأيت نفسي (أفرُكُهُ) بضم الراء، يقال: فَرَكتُهُ عن الثوب فَرْكًا، من باب قَتَلَ، مثلُ حَتَتُّهُ، وهو أن تَحُكّه بيدك حتى يَتَفَتَّتَ، ويَتَقَشَّر، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وجملة "أفرُكه" حال من الفاعل.

(مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا) منصوب على أنه مصدر مؤكّد، وفائدته - كما قيل - رفع احتمال المجاز (فَيُصَلِّي فِيهِ) الضمير للثوب الذي أصابه المنيّ، ونُظّف بالفرك، أي يصلّي النبيّ - صلي الله عليه وسلم - في ذلك الثوب الذي فَرَكت منه المنيّ، وقد اختَلَف العلماء في طهارة المنيّ، ونجاسته، وسيأتي بيان ذلك في المسألة الرابعة، مع ترجيح القول بطهارته - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 1/ 548.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 471.

ص: 260

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا بلفظ الفرك

(1)

من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[32/ 674 و 675 و 676 و 677](288)، و (أبو داود) في "الطهارة"(372)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(116)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 156 و 157)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(537 و 538)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 84)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 35 و 97)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(288)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1379 و 1780)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(136 و 137)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 48 و 50 و 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 416)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(524 و 525 و 526 و 527)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(660 و 661 و 662 و 663 و 664 و 665)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): أنه استَدَلّ به من قال بطهارة المنيّ، وهو الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أن السنّة هي الاقتصار على فرك يابس المنيّ، وغسل رطبه، كما بيّنَتْهُ روايات حديث الباب.

قال الإمام ابن حبّان في "صحيحه" بعد إخراج الحديث ما انصّه: كانت عائشة رضي الله عنها تغسل المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رطبًا؛ لأن فيه استطابةً للنفس، وتفرُكُهُ إذا كان يابسًا، فيُصلّي صلى الله عليه وسلم فيه، فهكذا نقول، ونختار أن الرطب منه يُغسل لطيب النفس، لا أنه نجسٌ، وأن اليابس منه يُكتفى منه بالفرك اتّباعًا للسنّة. انتهى

(3)

.

(1)

وأما بلفظ الغسل فإنه متّفق عليه، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.

(2)

المراد فوائد حديث عائشة رضي الله عنها بجميع طرقه، وألفاظه المختلفة المذكورة عند المصنّف، وفي شرحي هذا، لا خصوص السياق الماضي، فتنبّه.

(3)

"تقريب الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 221.

ص: 261

3 -

(ومنها): أن فيه خدمة المرأة زوجها في غسل ثيابه وشبهه، خصوصًا إذا كان يتعلّق بها، وهو من حسن العِشْرة، وجميل الصحبة.

4 -

(ومنها): أن المرأة الصالحة المتحبّبة إلى زوجها لا تأنَف، ولا تترفّع عن مثل هذه الأعمال من إزالة الأوساخ والفضلات من ثوب، أو بدن زوجها لما تعلمه من عِظَم قدر حقّه عليها.

5 -

(ومنها): أنه ينبغي نقلُ أحوال الشخص المقتدى به، وإن كان يُستحيى من ذكره في العادة للناس؛ ليقتدوا به.

6 -

(ومنها): العناية بإزالة المنيّ من الثوب، ونحوه، وسيأتي الخلاف هل هو للوجوب، أو للاستحباب، وهو الراجح - إن شاء الله تعالى -.

7 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ - صلي الله عليه وسلم - من التقلّل من الحياة الدنيا ومتاعهما؛ إذ ثوب نومه هو ثوب صلاته، وخروجِه، وذلك كلُّه إرشاد منه صلى الله عليه وسلم لأمته بعدم الرفاهية فيها والرغبة فيما عند الله تعالى من نعيم الجنة.

8 -

(ومنها): أن الخروج على الناس مع وجود آثار الأمور العاديّة من الأكل والشرب والجماع لا يُعتبر إخلالًا بفضيلة خصلة الحياء.

9 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به جماعة على طهارة رطوبة فرج المرأة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة؛ لأن الاحتلام مستحيل في حقّه صلى الله عليه وسلم على الأشبه، فتعيّن أن يكون المنيّ من جماع.

وتُعُقّب بأنه قد يكون خرج بمقدّمات الجماع، فسقط منه شيء على الثوب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في طهارة المنيّ، ونجاسته:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في طهارة المنيّ، فأوجب طائفة غسله من الثوب، فممن غسله من ثوبه: عمر بن الخطاب، وأمر بغسله: جابر بن سمرة، وابن عمر، وعائشة، وابن المسيب.

وقال مالك: غَسْلُ الاحتلام من الثوب أمر واجب، مجمع عليه عندنا، وهذا على مذهب الأوزاعيّ، وهو قول الثوريّ، غير أنه يقول بمقدار الدرهم.

واحتجّ هؤلاء بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 262

وبما أخرجه أبو داود وغيره عن معاوية بن أبي سفيان قال: سألت أم حبيبة، زوج النبيّ - صلي الله عليه وسلم -: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم إذا لم يَرَ فيه أذى.

وقالت طائفة: المني طاهر: لا يجب غسل الثوب منه، وقال بعضهم: يُفْرَك من الثوب، فممن كان يَرَى أنه يَفْرُك المنيّ من ثوبه سعد، وابن عمر، وقال ابن عباس: امسحه بإذخرة، أو خرقة، ولا تغسله إن شئت، ورُوي عنه أنه قال: هو كهيئة النخام، أو البزاق، أو المخاط، فَحُتَّه، أو امسحه بخرقة، وقال عطاء: أَمِطه بإذخرة، وقال ابن المسيب: إذا صليت، وفي ثوبك جنابة، فلا إعادة عليك.

وكان الشافعيّ يقول: المنيّ ليس بنجس، وبه قال أبو ثور، وقال أحمد: يُجزيه أن يفرُكه، وقال أصحاب الرأي في المنيّ يكون في الثوب، فيجفّ، فحَتَّه الرجل يُجزيه ذلك، وفي العَذِرة والدم لا يجزيه الْحَتّ، وهما في القياس سواءٌ، غير أنه جاء في المني أثرٌ، فأخذنا به.

واحتج الذين قالوا بالفرك بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب.

قال ابن المنذر رحمه الله: المنيّ طاهرٌ، ولا أعلم دلالةً من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، يوجب غسله. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ليس بين حديث الغسل، وحديث الفرك تعارض؛ لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المنيّ بأن يُحْمَل الغسل على الاستحباب للتنظيف، لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعيّ، وأحمد، وأصحاب الحديث.

وكذا الجمع ممكنًا على القول بنجاسته، بأن يُحمَل الغسل على ما كان رَطْبًا، والفرك على ما كان يابسًا، وهذه طريقة الحنفية.

والطريقة الأولى أرجح؛ لأن فيها العمل بالخبر والقياس معًا؛ لأنه لو كان نجسًا لكان القياس وجوب غسله، دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يَكتفون فيما لا يُعْفَى عنه من الدم بالفرك.

(1)

راجع: "الأوسط" 2/ 157 - 161.

ص: 263

ويرد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة، من طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها:"كانت تَسْلُت المنيّ من ثوبه بعِرْق الإذخر، ثم يصلي فيه، وتَحُكّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه"، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين.

وأما مالك فلم يَعْرِف الفرك، وقال: إن العمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات، وحديث الفرك حجةٌ عليهم، وحمل بعض أصحابه الفرك على الدلك بالماء.

وهو مردود بما في إحدى روايات مسلم عن عائشة: "لقد رأيتني، وإني لأُحكّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري"، وبما صححه الترمذيّ من حديث هَمّام بن الحارث أن عائشة أنكرت على ضيفها غسله الثوب، فقالت: لِمَ أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه، فربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي.

وقال بعضهم: الثوب الذي اكتَفَت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة.

وهو مردود أيضًا بما في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضًا: "لقد رأيتني أفرُكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرْكًا، فيصلي فيه".

وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة، وأصرح منه رواية ابن خزيمة:"أنها كانت تحكه من ثوبه صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي".

وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك، فليس في حديث الباب ما يدلّ على نجاسة المنيّ؛ لأن غسلها فعلٌ، وهو لا يدل على الوجوب بمجرده.

قال: وطَعَن بعضهم في الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المنيّ بأن منيّ النبيّ - صلي الله عليه وسلم - طاهر دون غيره، كسائر فضلاته.

والجواب على تقدير صحة كونه من الخصائص أن منيّه كان عن جماع، فيخالط منيّ المرأة، فلو كان مَنِيُّهًا نجسًا، لم يكتف فيه بالفرك.

وبهذا احتَجَّ الشيخ الموفق وغيره على طهارة رطوبة فرجها، قال: ومن قال: إن المنيّ لا يَسْلَم من المذي، فيتنجس به لم يصب؛ لأن الشهوة إذا

ص: 264

اشتدّت خرج المني دون المذي والبول، كحالة الاحتلام. انتهى

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: الصحيح أن المنيّ طاهر، كما هو مذهب الشافعيّ، وأحمد في المشهور عنه، وأما كون عائشة رضي الله عنها تغسله تارةً من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفركه تارةً، فهذا لا يقتضي تنجيسه، فإن الثوب يُغسل من المخاط، والبصاق، والوسخ، وهذا قاله غير واحد من الصحابة، كسعد بن أبي وقّاص، وابن عبّاس، وغيرهما رضي الله عنهم: إنما هو بمنزلة البصاق، والمخاط، أَمِطه عنك ولو بإذخِرَة، وسواء كان الرجل مستنجيًا، أو مستجمرًا، فإن منيّه طاهرٌ، ومن قال: إن منيّ المستجمر نجسٌ؛ لملاقاته رأس الذكر، فقوله ضعيفٌ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كان عامّتهم يستجمرون، ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا القليل جدًّا، بل الكثير منهم لا يَعرِف الاستنجاء، بل أنكروه، والحقّ ما هو عليه، ومع هذا فلم يأمر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - أحدًا منهم بغسل المنيّ، ولا فركه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان المذاهب، وأدلّتها في حكم المنيّ أن الصحيح مذهب من قال بطهارته؛ لقوّة حججه.

ومن الأدلّة على طهارته عدم مبادرة النبيّ - صلي الله عليه وسلم - إلى إزالته، وتركه حتى ييبس، وما ذلك إلا لطهارته؛ لأن المعروف من هديه صلى الله عليه وسلم المبادرة في إزالة النجاسة، فقد أمر الصحابة رضي الله عنهم فور فراغ الأعرابيّ من بوله بصبّ الماء عليه، وبادر بنضح الماء على ثوبه فور بول الغلام الذي بال في حجره، وغير ذلك.

وقد أطلت البحث في تحقيقه في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيهان]:

(الأول): أخرج البزّار، وأبو يعلى الموصليّ في "مسنديهما"، وابن عديّ في "الكامل"، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، والعقيليّ في "الضعفاء"، وأبو نعيم في "الحلية" من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - مرّ بعمّار، فذكر قصّةً،

(1)

"الفتح" 1/ 397 - 398.

ص: 265

وفيها: "إنما تغسل ثوبك من الغائط، والبول، والمنيّ، والمذيّ، والدم، والقيء، يا عمّار ما نُخامتك، ودموع عينيك، والماء الذي في ركوتك إلا سواء"، وفيه ثابت بن حمّاد، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، وضعّفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد، واتّهمه بعضهم بالوضع، وقال اللالكائيّ: أجمعوا على ترك حديثه، وقال البزّار: لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث، وقال الطبرانيّ: تفرّد به ثابتُ بن حماد، ولا يُروَى عن عمار إلا بهذا السند، وقال البيهقيّ: هذا حديث باطلٌ، إنما رواه ثابت بن حماد، وهو متّهمٌ بالوضع.

قال الحافظ: رواه البزّار، والطبرانيّ من طريق إبراهيم بن زكريّا العجليّ، عن حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، لكن إبراهيم ضعيفٌ، وقد غَلِط فيه، إنما يرويه ثابت بن حماد.

قال الجامع عفا الله عنه: وعليّ بن زيد أيضًا ضعيف.

(التنبيه الثاني): رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها في المنيّ: "اغسليه رطبًا، وافرُكيه يابسًا"، قال ابن الجوزيّ في "التحقيق": هذا حديث لا يُعرَف بهذا السياق، وإنما نُقل أنها كانت تفعل ذلك، ورواه الدارقطنيّ، وأبو عوانة في "صحيحه"، وأبو بكر البزّار كلهم من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت:"كنت أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا"، وأعلّه البزّار بالإرسال عن عمرة

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن الأمر بغسل المنيّ لا أصل له، وكذا الأمر بحتّه، ضعيفٌ

(2)

؛ لأنه مما تفرّد به أبو حذيفة، موسى بن مسعود النَّهْديّ، عن الثوريّ مخالفًا لرواية الحفّاظ عنه، فإنهم رووه من فعل عائشة رضي الله عنها، وليس أمرًا من النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وأبو حذيفة ضعيفٌ، فقد قال عنه أحمد: هو شبه لا شيء، كأن سفيان الذي يحدّث عنه أبو حذيفة ليس سفيان

(1)

راجع: "التلخيص الحبير" 1/ 32 - 33.

(2)

فمحاولة الشيخ أحمد شاكر تصحيحه فيما علّقه على "المحلَّى" فيها نظر لا يخفى، فتبصّر.

ص: 266

الذي يحدّث عنه الناس، وقال في "التقريب": صدوقٌ سيئ الحفظ، وكان يصحّف. انتهى

(1)

.

ولا يقال: إنه من رجال البخاريّ؛ لأن البخاريّ ما أخرج له إلا أربعة أحاديث كلها متابعة

(2)

، فمثله إذا خالف الحفّاظ لا يُلتفت إليه.

والحاصل أنه في هذا الحديث تبيّن ضعفه، فلا يصحّ الاحتجاج به، فتبصّر، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[675]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا

(3)

أَبِي، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَد، وَهَمَّام، عَنْ عَائِشَةَ، فِي الْمَنيّ، قَالَتْ: كُنْتُ أفرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) النخعيّ، أبو حفص الكوفيّ، ثقة ربّما وَهِمَ [10].

رَوَى عن أبيه، وابن إدريس، وأبي بكر بن عياش، وعَثّام بن عليّ، ومسكين بن بكير.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، ثم رويا، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ له بواسطة محمد بن أبي الحسين السُّمْنانيّ، وأحمد بن يوسف السُّلَميّ، وهارون الحمال، ومحمد بن يحيى الذهليّ، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وسليمان بن عبد الجبار، وعبد الله الدارميّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والعجليّ، وأبو زرعة: ثقة، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وقال أبو داود: تبعته إلى منزله، ولم أسمع منه شيئًا.

(1)

"التقريب" ص 352.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 189.

(3)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 267

قال البخاريّ، وابن سعد: مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وزاد ابن سعد: في ربيع الأول.

أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

2 -

(أَبُوهُ) هو: حفص بن غياث بن طَلْق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة فقيهٌ تغيّر في الآخر قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الكوفيّ الإمام الحافظ الحجة المشهور، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(هَمَّام) بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [2](ت 65)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 298.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فِي الْمَنيِّ) أي بيان حكم المنيّ، وهو بفتح الميم، وكسر النون، وتشديد الياء: ماء خاثرٌ أبيض، يتولّد منه الولد، ويتكسّر الذكر بخروجه، ورائحته رائحة الطلع

(1)

.

وقال في "القاموس": الْمَنِيّ كغَنِيّ، ويُخَفّف، والْمَنْيَةُ، كرَمْيَةٍ: ماءُ الرجل والمرأة، جمعه: مُنْيٌ، كقُفْلٍ، ومَنَى، وأَمْنَى، ومَنَّى: بمعنًى، واستمنى: طلب خروجه. انتهى

(2)

.

وقال في "المصباح": المنيّ معروفٌ، ومَنَى يَمْنِي، من باب رَمَى، والْمَنِيّ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، والتخفيف لغةٌ، فيُعرَبُ إعراب المنقوص، وجمع المنيّ مُنْيٌ، مثلُ بَرِيد وبُرُد، لكنه أُلزِم الإسكان للتخفيف. انتهى

(3)

.

وقال بعضهم: سُمّي منيًّا؛ لأنه يُمنى، يقال: أمنى، ومَنَى بالتخفيف، ومنَّى بالتشديد، والأُولى أفصح، وبها جاء القرآن الكريم في قوله تعالى {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]، وقوله:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58].

وللمنيّ صفات يتميّز بها عن غيره، مما يخرج من القُبُل، قال

(1)

"عمدة القاري" 3/ 214.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1202

(3)

"المصباح المنير" 2/ 582.

ص: 268

النوويّ رحمه الله: فمنيّ الرجل في حال صحّته أبيض ثخين، يتدفّق في خروجه دفعة بعد دفعة، وَيَخرُج بشهوة، ويتلذّذ بخروجه، ثم إذا خرج يَعقُبه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل، قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض، هذه صفاته، وقد يُفقد بعضها مع أنه منيّ موجب للغسل، بأن يَرِقّ، ويَصفَرّ لمرض، أو يخرُج بغير شهوة، ولا لذّة لاسترخاء وعائه، أو يحمرّ لكثرة جماعه، ويصير كماء اللحم، وربما خرج دمًا عَبِيطًا، ويكون طاهرًا موجبًا للغسل.

وأما منيّ المرأة، فأصفر رقيقٌ، ولا خاصيّة له إلا التلذّذ، وفتور شهوتها عقب خروجه. انتهى

(1)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":

(24434)

حدثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، قال: حدثنا إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عائشة، قالت:"كنت أراه على ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنيّ، فأَحُكّه"، وقال يحيى مرة: فأفركه.

وقال أيضًا:

(23792)

حدثنا عفان، وبَهْز، قالا: حدثنا شعبة، قال: الحكم أخبرني عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أنه كان نازلًا على عائشة، قال بهز: إن رجلًا من النَّخَع كان نازلًا على عائشة، فاحتلم، فأبصرته جارية لعائشة، وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، أو يغسل ثوبه، قال بهز: هكذا قال شعبة، فقالت: لقد رأيتني، وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[676]

(

) - (حَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّاد - يَعْنِي ابْنَ زيدٍ - عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ (ح)، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ،

(1)

"فتح المنعم" 2/ 254.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا" بالواو.

ص: 269

حَدَّثَنَا

(1)

ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ (ح)، وَحَدَّثَنِي ابْنُ حَاتِمٍ

(2)

، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَمُغِيرَةَ، كُلُّ هَؤُلَاَءِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، فِي حَتِّ الْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ).

قال الجامع عفا الله عنه: جمع المصنّف رحمه الله بالتحويلات خمسة أسانيد، كلها تلتقي على إبراهيم النخعيّ رحمه الله.

فأما الإسناد الأول: ففيه ثلاثة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور قبل باب.

2 -

(حَمَّادُ بْنَ زَيْدٍ) المذكور قبل بابين.

3 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الْقُرْدوسيّ المذكور قريبًا.

[تنبيه]: رواية حسّان هذه أخرجها النسائيّ في "سننه" بسند المصنّف، فقال:

(298)

أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"لقد رأيتني أفرُك الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه"(4/ 219) فقال:

(1380)

أخبرنا محمد بن علان بأَذَنَةَ، قال: حدثنا لُوَين، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"لقد رأيتني أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرْكًا، وهو يصلي فيه". انتهى.

وأما الإسناد الثاني: ففيه أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المذكور في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني محمد بن حاتم".

ص: 270

2 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

3 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) هو: سعيد بن أبي عَرُوبة اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، مدلّس، واختلط [6](ت 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ) يعني أن كلًّا من هشام بن حسّان، وسعيد بن أبي عروبة رويا هذا الحديث عن أبي معشر زياد بن كُليب المذكور في السند الأول.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23544)

حدثنا محمد بن أبي عديّ، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النَّخَعيّ، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيتَهُ فاغسله، وإلا فَرُشَّهُ.

وقال أيضًا:

(24138)

حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعيّ، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، أنها قالت: كنت أفرُكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فإذا رأيتَهُ فاغسله، فإن خَفِيَ عليك فارْشُشْه.

وأما الإسناد الثالث: ففيه ثلاثة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(مُغِيرَة) بن مِقْسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، يدلّس [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

[تنبيه]: رواية مغيرة هذه أخرجها الإمام ابن ماجه في "سننه"، بسند المصنّف، فقال:

ص: 271

(532)

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"لقد رأيتني أجده في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَحُتُّه عنه".

وأخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 175) فقال:

(530)

حدّثنا ابن مسعود المقدسيّ، قال: حدّثنا الهيثم بن جميل (ح)، وحدّثنا أبو أميّة، قال: ثنا مُعَلَّى قالا: ثنا هُشيم، قال: أنبأ مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"لقد رأيتني أَحُكّ المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحتّه عنه". انتهى.

وأما الإسناد الرابع: ففيه أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبت حافظ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

4 -

(وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ) هو: واصل بن حيّان الأحدب الأسديّ الكوفيّ، بيّاع السابِريّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

[تنبيه]: رواية واصل هذه أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 173) فقال:

(524)

حدثنا هلال بن العلاء، قال: ثنا عارم (ح)، وحدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قالا: ثنا مهدي بن ميمون، عن واصل الأحدب، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: رأتني أم المؤمنين، قد غسلتُ أثر جنابة، أصابت ثوبي، فقالت:"لقد رأيتني، وإنه لفي ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أزيد على أن أفرُك به هكذا، فأدلُكَه".

(525)

حدثنا الزعفرانيّ، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا مهدي بن ميمون، قال: ثنا واصل الأحدب، عن إبراهيم النخعيّ، عن الأسود بن يزيد، قال: رأتني عائشة أغسل أثر جنابة أصابت ثوبي، قالت:"لقد رأيتني، وإنه ليصيب ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أزيد على أن أفرُك به هكذا".

ص: 272

وأما الإسناد الخامس: ففيه خمسة:

1 -

(ابْنُ حَاتِمٍ) هو محمد بن حاتم المذكور قبله.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلُوليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ تُكُلّم فيه للتشيّع [9](ت 204)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 638.

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الْهَمدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ تُكُلّم فيه بلا حجة [7](ت 160)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

4 -

(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد الله السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(وَمُغِيرَة) هو ابن مقسم المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية إسرائيل عن منصور وحده

(1)

أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 348) فقال:

(664)

وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا مِهْران بن هارون، ثنا عباس الدُّوريّ، ثنا الحسن بن عطية، ثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"كنت أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه".

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ إلخ) يعني أبا معشر، ومغيرة، وواصلًا الأحدب، ومنصورًا أربعتهم رووه عن إبراهيم النخعيّ إلخ.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ) يعني لفظ حديث هؤلاء الأربعة بمعنى حديث خالد الحذّاء، عن أبي معشر الذي ساقه في أول الباب، وقد عرفت أحاديثهم بما ذكرته في التنبيهات التي ذكرتها عقب كلّ سند، من الأسانيد المحوّلة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

أما روايته عن منصور، ومغيرة كليهما فلم أجد من أخرجها، والله تعالى أعلم.

ص: 273

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[677]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في الماضي، ومنصور هو ابن المعتمر، وهمّام: هو ابن الحارث المذكور في ثاني سند الباب.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة هذه أخرجها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(296)

أخبرنا الحسين بن حريث، أنبأنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كنت أفرُكه من ثوب النبيّ - صلي الله عليه وسلم -"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[678]

(289) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَألتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ ثَوْبَ الرَّجُل، أَيَغْسِلُهُ أَمْ يَغْسِلُ الثَّوْبَ؟

(1)

فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - كَانَ يَغْسِلُ المنيَّ، ثم يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْب، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ) بن مِهْرَان الْجَزَريّ، أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، الرَّقّيّ، أمه أم عبد الله بنت سعيد بن جبير، ثقةٌ فاضل [6].

(1)

وفي نسخة: "أو يغسل الثوب؟ " بـ "أو" بدل "أم".

ص: 274

رَوَى عن أبيه، وسليمان بن يسار، والشعبيّ، وأبي قلابة، ونافع مولى ابن عُمر، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والزهريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وابن أخيه بَزِيع الرَّقّيّ، وابن أخيه أيضًا عبد الحميد بن عبد الحميد بن ميمون، والد أبي الحسن عبد الملك الميمونيّ، ومحمد بن إسحاق، وهو من أقرانه، والثوريّ، وزهير بن معاوية، وابن المبارك، ويزيد بن زريع، وأبو معاوية، ويحيى بن أبي زائدة، ومحمد بن بشر، وبشر بن المفضَّل، ويزيد بن هارون، وآخرون.

قال الميموني: قال لي أحمد: جدك عمرو بن ميمون، ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن خِرَاش شيخ صدوق، وقال ابن سعد: كان ثقةً - إن شاء الله تعالى - وقال الميمونيّ: سمعت أبي يصف عمرو بن ميمون بالقرآن والنحو، قال: وحدّثنا أبي، قال: ما سمعت عمرًا يَغتاب أحدًا قط، قال: وسمعته يقول: لو علمت أنه بَقِي عليَّ حرفٌ من السنة باليمن لأتيتها.

حَكَى البخاريّ، عن موسى بن عُمَر بن عَمْرو بن ميمون أنّ جدّه مات سنة (47)، وقال أبو الحسن الميمونيّ: أظنه مات سنة (48). قال: وسمعت أبي يقول: وَجَّه ميمون بن مِهْران عمرًا إلى عمر بن عبد العزيز يَستعفيه من ولاية الجزيرة، فلم يُعفه وولَّى عمرًا البريد، قال: وقال أبي: مات بالكوفة، وقال هلال بن العلاء: مات بالرّقّة، وقال خليفة، والواقديّ، وغيرهما: مات سنة خمس وأربعين ومائة، وفيها أَرّخه ابن حبان لَمّا ذكره في "الثقات"، ووَثَّقه النسائيّ، وابن نمير، وغيرهما.

أخرج له الجماعة، وله عند البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ هذا الحديث فقط، وعند أبي داود حديثان، هذا وحديث في الحج، وعند ابن ماجه ثلاثة أحاديث، هذا وحديث في الطلاق، وحديث في الأضاحي.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقةٌ فاضلٌ، فقيهٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 489.

والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى اعلم.

ص: 275

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه سليمان بن يسار من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.

4 -

(ومنها): أن عمرو بن ميمون الجزريّ لا رواية له عند المصنّف إلا في هذا الموضع، من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة، إلا ما أسلفته آنفًا.

5 -

(ومنها): أن من يسمّى بعمرو بن ميمون في الكتب الستّة اثنان:

[أحدهما]: هذا المترجم هنا.

[والثاني]: عمرو بن ميمون الأوديّ، أبو عبد الله، أو أبو يحيى الكوفيّ، مخضرم ثقة فقيه عابد مكثر من الرواية، مات سنة (74) أو بعدها، وقد تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 11/ 152، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الْجَزريّ، أنه (قَالَ: سَألتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنِ الْمَنِيِّ) أي حكم المنيّ، وقد سبق قبل حديث بيان ضبطه، ومعناه، فلا تنس، وقوله:(يُصِيبُ ثَوْبَ الرَّجُلِ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ لوقوعها بعد معرفة، أو في محلّ جرّ صفة لـ "المنيّ" على تقدير "أل" جنسيّة؛ إذ المعرّف بها بمنزلة النكرة، وهذا مثل قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

فجملة "يسبّني" تحتمل الوجهين، وقد مرّ البحث في هذا فلا تنس نصيبك منه.

(أَيَغْسِلُهُ) أي المنيّ الذي أصاب الثوب (أَمْ) وفي نسخة: "أو"(يَغْسِلُ الثَّوْبَ؟) معنى كلامه أنه سأل: هل المشروع غسل المنيّ فقط؛ للنظافة، أم غسل الثوب الذي أصابه؛ لكونه نجسًا؟ (فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ) وفي رواية

ص: 276

للبخاريّ من طريق يزيد بن هارون

(1)

، عن عمرو بن ميمون: قال: "سمعت عائشة .... "، وفي رواية له من طريق عبد الواحد، عن عمرو: "سألت عائشة عن المنيّ

".

قال في "الفتح": فيه رَدٌّ على البزار حيث زَعَم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة، على أن البزار مسبوق بهذه الدعوى، فقد حكاه الشافعيّ في "الأم" عن غيره، وزاد أن الحفاظ قالوا: إن عمرو بن ميمون غَلِطَ في رفعه، وإنما هو في فتوى سليمان. انتهى.

قال: وقد تبَيَّن من تصحيح البخاري له، وموافقة مسلم له على تصحيحه، صحةُ سماع سليمان منها، وأن رفعه صحيح، وليس بين فتواه وروايته تنافٍ، وكذا لا تأثير للاختلاف في الروايتين، حيث وقع في إحداهما أن عمرو بن ميمون سأل سليمان، وفي الأخرى أن سليمان سأل عائشة؛ لأن كلًّا منهما سأل شيخه، فحَفِظَ بعض الرواة ما لم يَحفظ بعضٌ، وكلهم ثقات. انتهى ما في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(أَن رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنيَّ) هكذا في رواية محمد بن بشر بنسبة الغسل إلى النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، ووافقه عليه يحيى بن أبي زائدة، وخالفه عبد الله بن المبارك، وعبد الواحد بن زياد، فجعلا الغسل من عائشة، فقالا: قالت: "كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث، وقد بيّن المصنّف رحمه الله هذا الاختلاف في الحديث التالي.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية ابن المبارك، وعبد الواحد هي الراجحة؛ لمتابعة زهير بن معاوية لهما، ولذا أخرج روايتهما البخاريّ، كما أخرج رواية زهير أيضًا.

على أنه لا تنافي بين الروايتين؛ لإمكان حمل قولها: "كان يغسل المنيّ"

(1)

كون يزيد هنا هو ابن هارون هو الذي صرّح به ابن حبّان في: "صحيحه" 4/ 222 عن قتيبة شيخ البخاريّ، عنه، فما رجحه الحافظ في:"الفتح" 1/ 398 من كونه ابن زُريع فيه نظر لا يخفى، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(2)

1/ 398 - 399.

ص: 277

على أنه كان يرى غسلها له، فيسكت عليه، فنُزّل رضاه منزلة الفعل، أو أنه كان يفعل ذلك بنفسه في بعض الأحيان؛ تواضعًا، وتعليمًا للأمة، والله تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ يَخْرُجُ)، أي من الحجرة (إِلَى) المسجد؛ لأجل (الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ) الذي غسل عنه المنيّ (وَأنا أَنْظُرُ إِلَى أثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ)، أي في ذلك الثوب، وفي رواية البخاريّ:"وأثر الغسل في ثوبه بُقَع"، وفي لفظ:"وأثر الغسل فيه بُقَعُ الماء"، قال في "الفتح":"بُقَع" بضم الموحّدة، وفتح القاف، جمع بُقْعة، قال أهل اللغة: الْبُقَع اختلاف اللونين، وقوله:"بقع الماء" بدل من قول: "أثر الغسل"

(1)

، ويجوز النصب على الاختصاص. انتهى

(2)

.

وجملة "وأنا أنظر إلخ" حال من فاعل "يَخرُج" بتقدير رابط، أي يخرج في حالة نظري إلى أثر غسل ثوبه، أو حال من "الثوب"، أي يخرج بثوبه المبلول، حال كونه منظورًا إليه منّي، وأرادت رضي الله عنها بهذا: الكناية عن خروجه صلى الله عليه وسلم بذلك الثوب مبلولًا، وعدم انتظاره جفافه؛ لحاجته إلى الخروج للصلاة، وعدم وجود ثوب آخر غير ذلك المبلول.

وفيه بيان ما كان عليه النبيّ - صلي الله عليه وسلم - من الزهد في الدنيا، وتواضعه، ولين أخلاقه، وحسن عشرته.

وفي قول سليمان: "سألت عائشة إلخ " من الفوائد: جواز سؤال النساء عما يُستحيى منه؛ لمصلحة تعلّم الأحكام، وفيه خدمة الزوجات لأزواجهنّ.

والمسائل المتعلّقة بالحديث قد تقدّمت في شرح الحديث الأول في الباب، فلا حاجة إلى إعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[679]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ - (ح)، وَحَدَّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، كُلُّهُمْ

(1)

واعتراض العينيّ على هذا مما لا يُلتفت إليه، فتنبّه.

(2)

"الفتح" 1/ 398 - 399.

ص: 278

عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، أمَّا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، فَحَدِيثُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنيَّ، وَأَمَّا ابْنُ الْمُبَارَك، وَعَبْدُ الْوَاحِد، فَفِي حَدِيثِهِمَا: قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حُسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237) عن أكثر من (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو عبد الله المروزيّ الإمام الحجة الحافظ المشهور [8](ت 181)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 32.

5 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فَيْرُوز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

6 -

(عَمْرِو بْنُ مَيْمُونٍ) الجزريّ المذكور قبله.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني أن كلًّا من عبد الواحد بن زياد، وابن المبارك، ويحيى بن أبي زائدة رووا هذا الحديث عن عمرو بن ميمون الجزريّ، عن سليمان بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها.

ثم بيّن رحمه الله تعالى أن حديث يحيى بن أبي زائدة، ومحمد بن بشر متّفقان على كون الغسل من النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، لا من عائشة رضي الله عنها، وأما ابن المبارك، وعبد الواحد، فيخالفانهما في لفظ الحديث، حيث جعلا الغسل من فعل عائشة رضي الله عنها، كما ساقه بلفظه.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي زائدة التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية محمد بن بشر السابقة، قد أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

ص: 279

(24130)

حدثنا يحيى بن زكريا، أخبرنا عمرو بن ميمون بن مِهْران، عن سليمان بن يسار، عن عائشة:"أنها كانت تغسل المنيّ من ثوب النبيّ - صلي الله عليه وسلم -".

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أخرج الإمام أحمد رواية ابن أبي زائدة، وهي بمعنى رواية ابن المبارك، وعبد الواحد، لا بمعنى رواية محمد بن بشر، كما نصّ عليه المصنّف هنا، ولعله وقعت له روايته هكذا، ولم أجدها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وأما رواية ابن المبارك، فقد أخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(222)

حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الْجَزَريّ، عن سليمان بن يسار، عن عائشة، قالت:"كنت أغسل الجنابة من ثوب النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة، وإن بُقَعَ الماء في ثوبه".

وأما رواية عبد الواحد بن زياد، فقد أخرجها البخاريّ أيضًا، فقال:

(223)

وَحدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، قال: سألت عائشة عن المني يصيب الثوب؟ فقالت: "كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج إلى الصلاة، وأثر الغسل في ثوبه بُقَعُ الماءِ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[680]

(290) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلَانِي، قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمْتُ فِي ثَوْبَيَّ، فَغَمَسْتُهُمَا فِي المَاء، فَرَأتْنِي جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَيَ عَائِشَةُ، فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ بِثَوْبَيْكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: رَأَيْتُ مَا يَرَى النَّائِمُ فِي مَنَامِه، قَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئًا غَسَلْتَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُني، وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَابِسًا بِظُفُرِي).

ص: 280

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ

(1)

الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَاصِمٍ) الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ) - بفتح الغين المعجمة، والقاف، بينهما راء ساكنة - السّلَميّ، ويقال: البارقيّ الكوفيّ، ثقة [4].

رَوَى عن عُروة البارقيّ، وسليمان بن عمرو بن الأحوص، وعبد الله بن شهاب الْخَوْلانيّ، وجمرة بنت قُحَافة، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، ومنصور بن المعتمر، وزائدة، وقيس بن الربيع، والحسن بن عُمارة، وابن عيينة، وأبو الأحوص، وشريك.

قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، في عداد الشيوخ، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ، ونقل ابنُ خَلْفُون، عن ابن نُمَير توثيقه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (290)، وحديث (1873): "الخيرُ معقود بنواصي الخيل

".

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شِهَاب الْخَوْلَانِيُّ) أبو الْجَزْلِ - بفتح الجيم، وسكون الزاي - الكوفيّ، صدوقٌ

(2)

[3].

رَوَى عن عُمَر، وعائشة، وعنه شبيب بن غَرْقدة، والشعبيّ، وخيثمة بن عبد الرحمن، روى له مسلم حديث عائشة في حك المني من الثوب وما له عنده غيره.

قال الحافظ رحمه الله: جَرَى ذكره في أثر علّقه البخاريّ، عن عمر في

(1)

بفتح الجيم، وتشديد الواو، آخره سين مهملة. اهـ "ت" ص 12.

(2)

قال عنه في: "التقريب" ص 177: مقبول، والأولى ما قلته؛ لأنه روى عنه ثلاثة، ووثقه ابن خلفون، وأخرج له مسلم، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 281

"الخلع"، ووصله ابن أبي شيبة من طريق خيثمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شهاب الْخَوْلانيّ، قال: شهدت عمر أُتِي في خُلْع كان بين رجل وامرأة، فأجازه، وقال البخاريّ في "التاريخ": عبد الله بن شهاب، أبو الجزل، سَمِع عمر، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، ووثقه ابن خَلْفُون.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنه، تقدّمت في شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: شبيب، عن عبد الله بن شهاب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيِّ) - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو -: نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وبعض الخولان يقولون: خولان بن عمرو الحاف بن قُضاعة، وهي قبيلة نزلت الشام، قاله في "الأنساب"، و"اللباب"

(1)

.

(قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا) أي ضيفًا (عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَاحْتَلَمْتُ)، أي رأيت في نومي أني أُجامِع، يقال: حَلَمَ يَحْلُمُ، من باب قَتَلَ حُلُمًا بضمّتين، ويُسكّن الثاني تخفيفًا، واحتَلَمَ: إذا رأى في منامه رُؤيا، قاله الفيّوميّ

(2)

، وقال المجد: الْحُلْمُ بالضمّ، وبضمّتين: الرؤيا، "جمعه أحلام، وحلم في نومه،

(1)

"الأنساب" 2/ 419، و"اللباب" 1/ 472.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 148.

ص: 282

واحتَلَمَ، وتحلَّمَ، وانْحَلَمَ، وتَحَلَّم الْحُلْمَ: استعمله، والْحُلْم بالضمّ، والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم الْحُلُمُ كَعُنُقٍ. انتهى

(1)

.

(فِي ثَوْبَيَّ) متعلّق بـ"احتَلمت"، وهو بصيغة التثنية.

والمعنى: أنه رأى في نومه أنه يُجامع امرأةً، فأنزل في ثوبيه اللذين لبسهما في نومه.

(فَغَمَسْتُهُمَا) من باب ضرب: أي أدخلت الثوبين (فِي الْمَاءِ)، لغسلهما، والظاهر أنه غمس الثوبين بكمالهما، ولم يكتف بغمس مكان الإصابة منهما، (فَرَأتنِي جَارِيَةٌ)، أي أمة، سمّيت جاريةً؛ لأنها تجري مسخَّرةً في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابّة، لخفّتها، ثم توسّعوا حتى سمّوا كلّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزًا لا تقدِرُ على السعي؛ تسميةً بما كانت عليه، والجمع الجَوَاري

(2)

. (لِعَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَأَخْبَرَتْهَا)، أي بما صنعه في ثوبيه (فَبَعَثَتْ إِلَيَّ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ) "ما" استفهاميّة، و"حمل" من باب ضرب: بمعنى أغرى، يقال: حمله على الأمر يحمله، فانحَمَلَ: أغراه به

(3)

، أي: أيُّ شيء أغراك (عَلَى مَا صَنَعْتَ بِثَوْبَيْكَ؟)، أي من غمسهما في الماء (قَالَ) عبد الله بن شهاب:(قُلْتُ: رَأَيْتُ مَا يَرَى النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ) أراد به رؤيا الجماع، لا رؤيا مطلقًا، وهذا أدب رفيعٌ في التعبير عما يُستَهْجَن (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها:(هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا شَيْئًا؟) أرادت بالشيء المنيّ، والمعنى: هل رأيت في ثوبيك بلل المنيّ، أو جِرْمه، أو أثره؟ قال عبد الله:(قُلْتُ: لَا)، أي لم أر فيهما شيئًا (قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئًا غَسَلْتَهُ). قال النوويّ رحمه الله: هو استفهام إنكار، حُذفت منه الهمزة، تقديره: أكنت غاسله معتقدًا وجوب غسله؟ وكيف تفعل هذا، وقد كنت أحُكّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري؟ ولو كان نجسًا لم يتركه النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، ولم يَكتف بحكّه. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ من كون الكلام استفهامًا فيه نظر لا يخفى، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(1)

"القاموس المحيط" ص 988 - 989.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(3)

"القاموس المحيط" ص 888.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 198.

ص: 283

(لَقَدْ) اللام هي الموطّئة للقسم، أي والله لقد (رَأَيْتُنِي) أي رأيت نفسي، وقد سبق أن من خواصّ أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين لمسمّى واحد، كظننتني قائمًا، وكقوله تعالى:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأفعال، فلا تقول: ضربتني؛ لئلا يكون الفاعل مفعولًا، وإنما تقول: ضربت نفسي، وقوله:(وَإنِّي لَأَحُكُّهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي: والحال أني أفرُك المنيّ (مِنْ ثَوْب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَابِسًا) حال من الضمير المفعول، أي حال كونه جافًّا (بِظُفُرِي) تقدَّم أن فيه خمس لغات: بضمتين، وبسكون الثاني، والجمع أَظفار، وربما جُمع على أَظْفُر، كرُكْن، وأَرْكُن، وبكسر الظاء، وِزان حِمْلٍ، وبكسرتين؛ للإتباع، وأظفور، بهمزة مضمومة، والجمع أظافير، مثل أسبوع وأسابيع، وهو مذكّر

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[32/ 680](290)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(288)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 417)، وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح الحديث الأول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(33) - (بَابُ حُكْمِ دَمِ الْحَيْض، وَكَيْفِيَّةِ غَسْلِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[681]

(291) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 385.

ص: 284

هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ (ح)، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْني فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَة، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ:"تَحُتُهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاء، ثُمَّ تَنْضِحُهُ، ثُمَّ تُصَلَّي فِيهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين.

5 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم قبل باب.

6 -

(فَاطِمَةُ) بنت المنذر بن الزبير بن العوّام الأسديّة، زوج هشام بن عروة، ثقةٌ [3].

رَوَت عن جدتها أسماء بنت أبي بكر، وأم سلمة، زوج النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وعمرة بنت عبد الرحمن.

وعنها زوجها هشام بن عروة، ومحمد بن سُوقة، ومحمد بن إسماعيل بن يسار.

قال العجليّ: مدنيةٌ تابعيةٌ ثقةٌ، وقال هشام بن عروة: كانت أكبر مني بثلاث عشرة سنة، فيكون مولدها سنة ثمان وأربعين، وذكرها ابن حبان في "الثقات".

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم (291) و (905) و (1029) وأعاده بعده، و (1942) و (2122) و (2130) و (2146) و (2211).

7 -

(أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر الصدّيق عبد الله بن عثمان، زوج الزبير بن العوام رضي الله عنه التيميّة، وأمها قتلة، أو قُتيلة بنت عبد العزَّى، قرشية من بني عامر بن لؤي.

ص: 285

وكانت تُلَقَّب ذات النطاقين، قال أبو عمر: سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها هَيَّأَت له لَمّا أراد الهجرة سُفْرَةً، فاحتاجت إلى ما تَشُدُّها به، فشَقَّت خمارها نصفين، فشدت بنصفه السُّفْرة، واتخذت النصف الآخر مِنطَقًا، قال كذا ذكر ابن إسحاق وغيره، وأصل القصة في "صحيح مسلم" دون التصريح برفع ذلك إلى النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وقد أسند ذلك أبو عمر من طريق أبي نَوْفل بن أبي عَقْرب قال: قالت أسماء للحجاج: كيف تُعَيّره - تعني ابنها عبد الله - بذات النطاقين؟ أَجَلْ قد كان لي نطاق، لا بد للنساء منه، ونطاق أُغَطّي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن سعد: أخبرنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وفاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قال:"صَنَعْت سُفْرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر، حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، فلم نَجِد لسُفْرته ولا لسقائه ما نَرْبِطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال: شُقِّيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء، وبالآخر السفرة"، وسنده صحيح.

وبهذا السند عن عروة، عن أسماء، قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أَعْلِف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه وأَدُقّ النَّوَى لناضحه، وكنت أَنقُل النوى من أرض الزبير

" الحديث، وفيه: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك خادمًا، فكفتني سياسة الفرس، قال: وقال الزبير بن بكار في هذه القصة: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة"، فقيل لها: ذات النطاقين.

رَوَت أسماء عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - عِدّة أحاديث، وهي في "الصحيحين"، و"السنن"، رَوَى عنها ابناها: عبد الله، وعروة، وأحفادها: عباد بن عبد الله، وعبد الله بن عروة، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، ومولاها عبد الله بن كيسان، وابن عباس، وصفية بنت شيبة، وابن أبي مليكة، ووهب بن كيسان، وغيرهم.

وأخرج ابن السكن من طريق أبي المُحياة يحيى بن يعلى التيمي، عن أبيه، قال: دخلت مكة بعد أن قُتل ابن الزبير، فرأيته مصلوبًا، ورأيت أمه أسماء عجوزًا طوالة، مكفوفةً، فدخلتْ حتى وقفت على الحجاج، فقالت: أما

ص: 286

آن لهذا الراكب أن يَنْزِل، قال: المنافق؟ قالت: لا والله ما كان منافقًا، وقد كان صوّامًا قوّامًا، قال: اذهبي فإنك عجوز، قد خَرِفْت، فقالت: لا والله، ما خَرِفت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يخرج في ثقيف كذّاب ومُبِيرٌ، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو"، فقال الحجاج: منه المنافقون. وأخرج ابن سعد بسند حسن، عن ابن أبي مليكة: كانت تُصْدَع، فتضع يدها على رأسها، وتقول: بذنبي، وما يغفر الله أكثر، وقال هشام بن عروة، عن أبيه: بلغت أسماء مائة سنة، لم يسقط لها سِنٌّ، ولم يُنكَر لها عقلٌ

(1)

.

وقال ابن إسحاق: أَسلَمَت قديمًا بعد إسلام سبعة عشر إنسانًا، وهاجرت إلى المدينة، وهي حامل بابنها عبد الله، وماتت بمكة بعد قتله بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يومًا، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين

(2)

.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب (27) حديثًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من - خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما، ونكتة التفريق اختلاف كيفتة التحمّل، فإنه سمع الحديث من شيخه أبي بكر مع جماعة، ولهذا قال: حدّثنا أبو بكر، وسمعه من شيخه محمد بن حاتم وحده، ولهذا قال: حدّثني، وهذه من احتياطات المصنّف رحمه الله، وورعه، وشدّة محافظته على أداء ما تحمّله على الوجه الذي تحمّله به، فلله درّه ما أجود صنيعه، وأحسن أداءه رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، إلا شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من هشام.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة: هشام، عن فاطمة، وهي زوجه، وهي أكبر منه بعشر سنين، عن جدّتهما، وهي أسماء رضي الله عنها.

(1)

"الإصابة" 7/ 486 - 487.

(2)

"تهذيب التهذيب" 4/ 663.

ص: 287

5 -

(ومنها): أن أسماء وفاطمة هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكلٍّ منهما فيه من الحديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزبير، أنه (قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ) بنت المنذر، زوجته بنت عمّه المنذر بن الزبير (عَنْ) جدّتهما لأبيهما (أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأةٌ) قال في "الفتح": وقع في رواية الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن هشام، في هذا الحديث أن أسماء هي السائلة، وأغرب النوويّ، فضَعَّف هذه الرواية بلا دليل، وهي صحيحة الإسناد، لا علَّةَ لها، ولا بُعْدَ في أن يُبْهِم الراوي اسم نفسه، كما سيأتي في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في قصة الرُّقية بـ "فاتحة الكتاب"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد وقع مثل هذا السؤال أيضًا لأم قيس بنت محصن رضي الله عنها، فقد أخرج حديثها أصحاب السنن إلا الترمذيّ، بإسناد صحيح، من طريق ثابت الحداد، عن عديّ بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن تقول: سألت النبيّ - صلي الله عليه وسلم - عن دم الحيض، يكون في الثوب؟ قال:"حُكَيه بضِلَع، واغسليه بماء "وسدر"

(2)

.

ويَحْتَمِل أن تكون هي السائلة المبهمة في حديث أسماء هذا، لكن الاحتمال الأوّل أقرب؛ لأن تفسير المبهم بما وقع في بعض طرق نفس الحديث أولى.

والحاصل أنهما واقعتان متشابهتان، والله تعالى أعلم.

وفي رواية أبي داود، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تصنع إحدانا بثوبها، إذا رأت الطهر، أتصلي فيه؟ قال:"تنظر، فإن رأت فيه دمًا، فلتقرُصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر، ولتصلِّ فيه".

وعند الترمذي: "اقرُصيه بماء، ثم رُشِّيه"، وعند ابن خزيمة: كيف تصنع بثيابها التي كانت تَلْبَس؟ فقال: "إن رأت فيها شيئًا، فلتَحُكّه، ثم لتقرُصه بشيء من

(1)

"الفتح" 1/ 395.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (308)، والنسائيّ (290)، وابن ماجه (620).

ص: 288

ماء، وتَنضَحُ في سائر الثوب بماء، ولتصلِّ فيه"، وفي لفظ: "إن رأيت فيه دمًا، فحُكِّيه"، وفي لفظ: "رُشِّيه، وصلّي فيه"، وفي لفظ: "ثم تنضحه، وتصلّي فيه".

وعند أبي نعيم: "لتحتّه، ثم لتقرصه، ثم لتنضحه، ثم لتصلّ فيه".

وفي حديث مجاهد، عن عائشة عند البخاريّ:"ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد، تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها، فمَصَعَته بظفرها"، أي فركته

(1)

.

واختُلِف في سماع مجاهد، عن عائشة، فأنكره ابن حبان، ويحيى بن معين، ويحيى بن سعيد، وشعبة، وآخرون، وأثبته البخاريّ، وعلي ابن المدينيّ، ومسلم، وآخرون.

وعند البخاري من حديث القاسم عنها: "ثم تقرُص الدم من ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه".

وفي حديث أم قيس بنت محصن، عند ابن خزيمة، وابن حبان:"اغسليه بالماء والسدر، وحُكِّيه ولو بِضِلْع"، زاد ابن حبان: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "اغسليه بالماء" أمرُ فرض، وذِكرُ السدر، والحك بالضلع أمر ندب وإرشاد.

وقال ابن القطان: هو حديث في غاية الصحة، وعاب على أبي أحمد قولَهُ: الأحاديثُ الصحاحُ ليس فيها ذكر الضِّلْع والسِّدْر.

وعند أبي أحمد العسكريّ: "حُكِّيه بضِلَع، وأتبعيه بماء وسدر".

وعند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: إن خولة بنت يسار رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟، قال:"فإذا طَهُرت، فاغسلي موضع حيضك، ثم صلي فيه"، قالت: يا رسول الله أَرَى لم يخرج أثره؟ قال: "يكفيك الماء، ولا يضرُّك أثره"

(2)

، ولمّا ذكره ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" جعله من مسند خَوْلة، وكذلك الطبرانيّ.

(1)

أي: دلكته.

(2)

رواه أبو داود في: "سننه" 1/ 100 وضعّفه بعضهم لأن في سنده ابن لهيعة، وصححه الشيخ الألباني؛ لأن ابن وهب رواه عنه، وهو ممن روى قبل احتراق كتبه، راجع:"إرواء الغليل" 1/ 189 - 190.

ص: 289

وفي "سنن أبي داود" عن امرأة من غِفَار أن رسول الله لَمّا رأى ثيابها من الدم، قال:"أصلحي من نفسك، ثم خُذي إناءً من ماء، واطرحي فيه مِلْحًا، ثم اغسلي ما أصاب حقيبة الرّحل من الدم، ثم عُودي لمركبك"

(1)

.

وعند الدارميّ بسند فيه ضعف، عن أم سلمة رضي الله عنها: إن إحداهن تسبقها القطرة من الدم، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا أصاب إحداكنّ بذلك، فلتقْصَعْه بريقها".

وعند ابن خزيمة: وقيل لها: كيف كُنْتُنّ تَصنعْنَ بثيابكنّ، إذا طَمِثتُنّ على عهد النبيّ - صلي الله عليه وسلم -؟ قالت:"إن كنا لنَطْمِث في ثيابنا، أو في دُرُوعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم"

(2)

.

(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"جاءت"(فَقَالَتْ: إِحْدَانَا) مبتدأ خبره قوله: (يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ) بفتح الحاء: المرّة من الحيض، و"من" اسم بمعنى "بعض" فاعل "يُصيب"، والتقدير: يصيب بعض الحيضة ثوبها، وفي رواية البخاريّ:"أرأيت إحدانا تَحِيض في الثوب": أي يَصِلُ دم الحيض إلى الثوب، هكذا فسّره الكرمانيّ، وقال العينيّ: المعنى: تحيض حال كونها في الثوب، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب (كَيْفَ) اسم استفهام مفعول مقدّم و (تَصْنَعُ بِهِ؟)، أي: أيَّ شي تصنع بذلك الثوب المصاب بالحيضة؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَحُتُّهُ) - بفتح أوله، وضمّ الحاء المهملة، وتشديد المثناة الفوقانية -: أي تحكّه، وتفرُكه، وتقشره، وتَنْحَته، وقيل: الْحَتّ دون النّحت، وقال في "الفتح": قوله: "تحتّه": أي تحُكّه، وكذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. انتهى

(3)

.

وقال العينيّ رحمه الله: قوله: "تَحُتّه" مِن حَتّ الشيءَ عن الثوب وغيره يَحُتُّه حَتًّا: فَرَكَه، وقَشَرَه، فانحتّ وتَحَاتّ، وفي "المنتهى": الحتّ: حَتُّك الورقَ من الشجر، والمنيَّ، والدمَ، ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النَّحْت، وعند ابن طريف: حَتَّ الشيءَ: نَفَضه، وقيل: معناه تَحُكّه، وكذا وقع في رواية ابن خزيمة. انتهى

(4)

.

(1)

في سنده مجهول.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 208 - 209.

(3)

"الفتح" 1/ 395.

(4)

"عمدة القاري" 3/ 208.

ص: 290

(ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ) أي تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء؛ ليتحلّل، قال النوويّ رحمه الله: رُوي "تَقْرِصُهُ" بفتح التاء، وإسكان القاف، وضمّ الراء، ورُوي بضمّ التاء، وفتح القاف، وكسر الراء المشدّدة، قال القاضي عياضٌ: رويناه بهما جميعًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "تَقْرُصه" - بالفتح، وإسكان القاف، وضم الراء والصاد المهملتين - كذا في روايتنا، وحَكَى القاضي عياض وغيره فيه الضم، وفتح القاف، وتشديد الراء المكسورة: أي تَدْلُك موضع الدم بأطراف أصابعها؛ ليتحلل بذلك، وَيخرُج ما تَشَرَّبه الثوب منه. انتهى

(2)

.

وقال العينيّ رحمه الله: قال في "المغرب": الْحَتّ: القرص باليد، والقَرْصُ: بأطراف الأصابع، وفي "المحكم": القَرْصُ: التجميش

(3)

، والغمز بالأصبع، والْمِقَرَّصُ: الْمُقَطَّع المأخوذ بين شيئين، وقد قَرَصَهُ، وقَرَّصَه

(4)

، وفي "الجامع": كلُّ مُقَطَّع مُقَرَّضٌ، وفي "الصحاح": اقْرُصِيه بماء": أي اغسليه بأطراف أصابعك، ويُرْوَى: "قَرِّصيه" بالتشديد، قال أبو عبيد: أي قَطِّعيه

(5)

، وقال في "مجمع الغرائب": هو أبلغ في إذهاب الأثر عن الثوب، وقال عياض: رَوَيْناه بفتح التاء المثناة من فوق، وسكون القاف، وضم الراء، وبضم التاء، وفتح القاف، وكسر الراء المشددة، قال: وهو الدلك بأطراف الأصابع، مع صَبّ الماء عليه حتى يذهب أثره. انتهى

(6)

.

(ثُمَّ تَنْضَحُهُ) - بفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء -: أي تغسله، قاله الخطابيّ.

وقال القرطبيّ: المراد به الرّشّ؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: "تقرصه بالماء"، وأما النضح فهو لِمَا شَكّت فيه من الثوب.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 199.

(2)

"الفتح" 1/ 395.

(3)

"الجمش" بالجيم: الحلب بأطراف الأصابع. اهـ. "ق".

(4)

"المحكم" 6/ 123.

(5)

"الصحاح" 3/ 881.

(6)

"عمدة القاري" 3/ 208.

ص: 291

قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: "تنضحه" يعود على الثوب، بخلاف "تَحُتُّه" فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ثم إن الرّشّ على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنه إن كان طاهرًا فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابيّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تعقّب العينيّ هذا الكلام، فقال: الأحسن ما قاله القرطبيّ؛ لأنه يلزم التكرار من قول الخطّابيّ بلا فائدة؛ لأنا ذكرنا أن الحتّ هو الفرك، والقرص هو الدلك بأطراف الأصابع مع صبّ الماء عليه حتى يذهب أثره؛ لما نقلناه عن القاضي عياض، ففُهِم الغسل من لفظة القَرْص، فإذا قلنا: الرشّ بمعنى الغسل يلزم التكرار.

وقال أيضًا: الرشّ هنا لإزالة الشكّ المتردّد في الخاطر، كما جاء في رشّ المتوضّئ الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكرناه، فافهم. انتهى تعقّبه

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الخطّابي أولى - كما قال الحافظ -؛ لأن المراد بالقرص بالماء هو تحليل الدم حتى يخرج ما تشرّبه الثوب منه، ثم يغسل بعده، وهو معنى "تنضحه"، فيكون أبلغ في التنظيف.

والحاصل أن المراد بقوله: "تحتّه" الفرك يابسًا، وبقوله:"تقرصه بالماء" الدلكُ مع صبّ الماء ليتحلّل، وبقوله:"تنضحه" الغسلُ غسلًا تامًّا حتى يتحقّق زوال أثره بالكلّيّة.

وقد اختلفت الروايات في هذا، ففي بعضها:"الْحَتّ، ثم القرص، ثم الرشّ"، وفي بعضها:"الْقَرْصُ، ثم الغسل"، وفي بعضها:"الحكّ، ثم الغسل بماء وسِدْر".

ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأن القصود بذلك المبالغة في الإزالة، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 1/ 395.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 209.

ص: 292

(ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ") أي في ذلك الثوب الذي أصابه دم الحيضة، ثم غسلته على الوجه المذكور، وهذا أمر إباحة؛ لأنه لا يجب عليها أن تصلّي في ذلك الثوب إذا كان لها ثوب غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[33/ 681 و 682](291)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(227)، و"الحيض"(307)، و (أبو داود) في "الطهارة"(360 و 361 و 362)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(138)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 155)، و "الحيض"(1/ و 195)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(629)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 79)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 42 و 43)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1223)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 95)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 22)، و (الحميديّ) في "مسنده"(320)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 345 و 346 و 353)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(275 و 276)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1396 و 1397 و 1398)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 197)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 286)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 13 و 402 و 406)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(290)، و (أبو عوانة)، في "مسنده"(533 و 534 و 535)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(670 و 671 و 672 و 673)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): نجاسة دم الحيض، قال النوويّ رحمه الله: وفيه أن الدم نجسٌ، وهو بإجماع المسلمين

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 200.

ص: 293

2 -

(ومنها): أنه لا يُعفَى عن يسير الدم وكثيره؛ لإطلاق النصّ، حيث لم يفرّق النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:"فاغسلي عنك الدم"، بين القليل والكثير، ولم يسأل المرأة عن مقداره، وهذا مذهب الشافعيّ، ويؤيّده أيضًا قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]، ولم يرخّصوا إلا في دم البراغيث؛ لعدم الاحتراز عنه.

وأما المالكيّة، والحنفيّة، فقد حملوا الحديث على الدم الكثير، والأول هو الأرجح.

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: غسل دم الحيضة يجب لأمر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - بغسله، وحكم سائر الدماء كحكم دم الحيض، لا فرق بين قليل ذلك وكثيره، وليس لقول من قال:"إذا كان ما أدركه الطَّرْفُ منه لا تكون لمعة لا يُفسد الصلاة" معنًى؛ لأن الأخبار على العموم، ويدخل فيها قليل الدم وكثيره فيما أمر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - من غسل دم الحيضة، وليس لأحد أن يستثني من ذلك شيئًا بغير حجة. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن طهارته شرط لصحّة الصلاة.

4 -

(ومنها): أن هذه النجاسة، وأمثالها لا يُعتبَر في تطهيرها عدد، ولا تراب، وإنما الشرط فيها الإنقاء.

قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن الواجب في إزالة النجاسة الإنقاء، فإن كانت النجاسة حُكْمية، وهي التي لا تشاهَدُ بالعين، كالبول ونحوه، وجب غسلها مرةً، ولا تجب الزيادة، ولكن يستحب الغسل ثانية وثالثة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا"، وقد تقدم بيانه، وأما إذا كانت النجاسة عينية، كالدم وغيره، فلا بُدّ من إزالة عينها، ويستحب غسلها بعد زوال العين ثانية وثالثة، وهل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان، الأصح أنه لا يشترط، وإذا غسل النجاسة العينية، فبقي لونها لم يضرّه، بل قد حصلت الطهارة، وإن بقي طعمها، فالثوب نجس، فلا

(1)

"الأوسط" 2/ 147.

ص: 294

بد من إزالة الطعم، وإن بقيت الرائحة ففيه قولان للشافعيّ، أصحهما يطهر، والثاني لا يطهر. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن الماء متعيّن في إزالة النجاسة، قال النوويّ: في هذا الحديث وجوب غسل النجاسة بالماء، ويؤخذ منه أن من غسل بالخلّ أو غيره من المائعات لم يجزه؛ لأنه ترك المأمور به. انتهى.

وهذا الذي قاله النوويّ فيه خلاف سيأتي تحقيقه، وترجيح خلافه، في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): أن المرأة تصلّي في الثوب الذي تحيض فيه، وإن أصابه دم الحيض إذا غسلته، فلا يلزمها إعداد ثوب آخر للصلاة.

7 -

(ومنها): مشروعيّة سؤال المرأة عما يُستحيى من ذكره، والإفصاح بذكر ما يُستقذر للضرورة.

8 -

(ومنها): مشافهة المرأة للرجال الأجانب فيما يتعلّق بأمور الدين.

9 -

(ومنها): استحباب فرك النجاسة اليابسة ليهون غسلها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل يتعيّن الماء في إزالة النجاسة أم لا؟:

ذهب جمهور العلماء إلى أن النجاسات لا تزال إلا بالماء، فلا يقوم مقامه غيرُه من المائعات.

وذهب بعضهم إلى أنها تطهّر بكلّ مائع طاهر، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، واحتجّوا بقول عائشة رضي الله عنها: "ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته

(2)

بظفرها"، رواه البخاريّ في "صحيحه"

(3)

، ولأبي داود:"بَلَّتْهُ بريقها".

وأجيب بأنها ربما فَعَلت ذلك تحليلًا لأثره، ثم غسلته بعد ذلك.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 200.

(2)

أي: دلكته، وفركته.

(3)

أخرجه البخاريّ في: "صحيحه" برقم (312).

ص: 295

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: والحق أن الماء أصل في التطهير؛ لوصفه بذلك كتابًا وسنةً وصفًا مطلقًا غير مقيد، لكن القول بتعيّنه، وعدم إجزاء غيره يرُدّه حديث مسح النعل، وفرك المنيّ وحتّه، وإماطته بإذخرة، وأمثال ذلك كثيرٌ، ولم يأت دليل يقضي بحصر التطهير في الماء، ومجرد الأمر به في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر به مطلقًا، وغايته تعيّنه في ذلك المنصوص بخصوصه إن سُلم.

فالإنصاف أن يقال: إنه يُطَهَّر كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النصّ، إن كان فيه إحالة على فرد من أفراد المطهرات، لكنه إن كان ذلك الفرد المحال عليه هو الماء، فلا يجوز العدول إلى غيره؛ للمزية التي اختَصَّ بها، وعدم مساواة غيره له فيها، وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك، وإن وُجِد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات، بل مجرد الأمر بمطلق التطهير فالاقتصار على الماء هو اللازم؛ لحصول الامتثال به بالقطع، وغيرُه مشكوك فيه، وهذه طريقة متوسطة بين القولين، لا محيص عن سلوكها.

[فإن قلت]: مجرد وصف الماء بمطلق الطهورية لا يوجب له المزية، فإن التراب يشاركه في ذلك.

[قلت]: وصف التراب بالطهورية مُقَيَّد بعدم وجدان الماء بنص القرآن، فلا مشاركة بذلك الاعتبار. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ تحقيقٌ جيّد، لكن تمثيله بفرك المنّي، وحَتّه مبنيّ على ما رجّحه هو من أن المنيّ نجسٌ، وقد سبق ترجيح القول بطهارته، فلا تكن من الغافلين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: أصل التطهير بالماء، وأما تعيّنه، وعدم إجزاء غيره، فيَحتاج إلى دليل، ولم يَرِد دليلٌ يَقضي بحصر التطهير بالماء، ومجرّد الأمر به لا يستلزم الأمر به مطلقًا، فقد أذن الله بالإزالة بغير الماء في مواضع، منها الاستجمار، ومنها قوله في ذيل المرأة: "يطهّره ما

ص: 296

بعده"، وقوله في النعلين: "ثم ليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طَهُور". انتهى كلامه رحمه الله

(1)

.

وقال بعض المحقّقين المعاصرين: ومن الإنصاف القول بأن بعض المائعات، كالخلّ، والبنزين لا تنقص عن الماء في إزالة آثار النجاسة، بل تزيد عليه، وحيث كان القصد الإنقاء، وإزالة عين النجاسة - طعمها، وريحها، ولونها - وسال المائع وعُصِر، فإنه يُلحق بالماء. نعم، الماء أصل في التطهير؛ لوصفه بذلك في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الماء طهور"، فهو يُطهّر كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها، وقد يتعيّن غيره مطهّرًا، كالدباغ في جلود الميتة مثلًا، لكن كونه أصلًا لا يمنع قيام غيره مقامه إذا أدّى مؤدّاه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصّل مما سبق أن الماء هو الأصل في إزالة النجاسة مطلقًا، لكن ورد في طهارة بعض النجاسة استعمال غير الماء فيه، فإيجاب استعمال الماء في ذلك تنطّعٌ، وسلوك مسلك غير الإنصاف.

والحاصل أن استعمال الماء في إزالة جميع أنواع النجاسات هو الأصل، وما ورد فيه تعيين تطهيره بغير الماء مثل الدباغ يتعيّن فيه ذلك، ولا يجوز تطهيره بالماء، وما ورد التخفيف في إزالته بغير الماء، كمسح النعلين من الأذى، فجائز استعمال الماء فيه، كما يجوز الاكتفاء بما ورد فيه من المسح أو غيره، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[682]

(

) - (وَحَدثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (ح)، وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ

(3)

، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَالِمٍ، وَمَالِكُ بْنُ

(1)

راجع: "أحكام الطهارة" ص 35 - 36.

(2)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 261.

(3)

وفي نسخة: "أخبرني عبد الله بن وهب".

ص: 297

أَنَسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِث، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضى.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو عبد الله بن نُمير المذكور قبل باب.

3 -

(أَبُو الطَّاهرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقة [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(ابْنُ وَهْب) هو عبد الله بن وهب المصريّ، ثقة ثبت فقيه [9](ت 197) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

5 -

(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَالِم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القرشيّ المدنيّ، صدوقٌ، من كبار [8].

رَوَى عن موسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن الحارث بن عيّاش، وعمرو بن يحيى بن عُمارة، وأبي بكر بن نافع، وغيرهم.

ورَوَى عنه الليث، وابن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرئ، ومكي بن إبراهيم، وأبو صالح كاتب الليث، وغيرهم.

قال النسائيّ: مستقيم الحديث، وقال الساجيّ: قال ابن معين: صدوقٌ، ضعيف الحديث، وقال الدارقطنيّ: ثقة، حَدَّث بمصر، ولا أعلم لأبيه حديثًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب.

قال ابن يونس: يقال: توفي بمصر سنة ثلاث وخمسين ومائة.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (291) و (381) و (594).

6 -

(مَالِكُ بْنُ أنسٍ) أبو عبد الله إمام دار الهجرة الثقة الثبت الحجة المجتهد [7](179)(ع) تقدم في "المقدّمة" 1/ 382.

7 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، ثقة فقيه حافظ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

ص: 298

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني أن كلًّا من عبد الله بن نمير، ويحيى بن عبد الله، ومالك، وعمرو بن الحارث رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء رضي الله عنها.

[تنبيه]: مُلْتَقَى التحويل في هذا الإسناد هو هشام بن عروة، فعبد الله بن نمير مشارك ليحيى بن عبد الله، ومالك، وعمرو بن الحارث في روايتهم عن هشام، وليس مشاركًا لابن وهب في روايته عن هؤلاء الثلاثة، فإسناد أبي كريب أعلى من إسناد أبي الطاهر، فتنبّه.

[تنبيه آخر]: رواية عبد الله بن نمير التي أحالها المصنّف هنا أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 175)، فقال:

(533)

حدثنا أبو الأزهر، قال: ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: أتت النبيّ - صلي الله عليه وسلم - امرأة، فقالت: يا رسول الله، أرأيت ثوب إحدانا، يصيب من دم الحيضة، فكيف تصنع به؟. قال:"إذا أصاب ثوب إحداكنّ من دم الحيضة، فلتحُتَّه، ثم لتقرصه بالماء، ثم لتنضحه، ثم لتصلّ فيه". انتهى.

وأما رواية يحيى بن عبد الله، ومالك، وعمرو بن الحارث، فقد أخرجها أبو عوانة أيضًا (1/ 175 - 176) فقال:

(534)

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن عبد الله بن سالم، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيب الدم من الحيضة؟ فقال: "لِتَحُتَّه، ثم لتقرصه، ثم لتنضحه بالماء، ثم لتصلي فيه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(34) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْل، وَوُجُوبِ الاسْتِبْرَاءِ مِنْهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[683]

(292) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 299

الْعَلَاء، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْن، فَقَالَ:"أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَان، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ"، قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ، فَشَقَّهُ بِاثْنَيْن، ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ:"لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا، مَا لَمْ يَيْبَسَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) المذكور في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مَخلد الحنظليّ المعروف بابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبت حافظ إمام [10](ت 238) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(وَكيع) بن الجرّاح المذكور في الباب الماضي أيضًا.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان المذكور قبل بابين.

6 -

(مُجَاهِد) بن جَبْر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام [3](ت 101) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

7 -

(طَاوُس) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع)، تقدّم في "المقدّمة" 4/ 18.

8 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرَنَ بينهم.

ص: 300

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، وفيه الإخبار، والسماع، والعنعنة من صيغ الأداء.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.

4 -

(ومنها): أن شيخيه الأول والثاني من المشايخ التسعة الذين يروي عنهم الأئمة الستة أصحاب الأصول بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى الأعمش، غير إسحاق، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ.

6 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، ورواية الأخيرين من رواية الأقران، فإن كلًّا منهما من الطبقة الثالثة.

7 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(قَالَ) الأعمش: (سَمِعْتُ مُجَاهِدًا) أي ابن جبر، قال في "الفتح": هو صاحب ابن عباس، وقد سمع الكثير منه، واشتَهَرَ بالأخذ عنه، لكن رَوَى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاوسًا، كما هو عند المصنّف هنا، ورواه أيضًا عن مجاهد، عن ابن عبّاس بلا واسطة، أخرجه البخاريّ على الوجهين، وهو يقتضي صحتهما عنده، فيُحْمَل على أن مجاهدًا سمعه من طاوس، عن ابن عباس، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة، أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وقد صَرَّح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذيّ: رواية الأعمش أصح، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 379.

ص: 301

(يُحَدِّثُ) جملة حاليّة من الفاعل، أو مفعول ثان على رأي بعض النحاة من أن "سمع" من أخوات "ظنّ"، (عَنْ طَاوُس) بن كيسان، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مَرَّ) أي اجتاز، يقال: مررتُ بزيد، وعليه، فيتعدّى بالباء، وبـ"على" مَرًّا ومُرُورًا ومَمَرًّا: اجتزتُ، ومرّ الدهر مرًّا ومُرورًا أيضًا: ذَهَبَ

(1)

. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مرفوع على الفاعليّة (عَلَى قَبْرَيْنِ) تثنية قبر، وهو موضع دَفْن الموتى، وأقلّه حُفْرةٌ تُواري الميت، وأكمله اللحد

(2)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: القبر: معروف، والجمع قُبُور، والْمَقْبرة بضمّ الثالث وفتحه: موضع القبور، والجمع مقابر، وقَبَرتُ الميت قَبْرًا، من باب قتل، وضرب: دفنته، وأقبرته بالألف: أمرتُ أن يُقْبَرَ، أو جعلتُ له قبرًا. انتهى

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: القبر: مَدْفَنُ الإنسان، جمعه قُبُور، والْمَقْبرة مثلّثة الباء، وكمِكْنَسَة: موضعها. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: قال ابن الملقّن رحمه الله: للقبر أسماء:

أحدها: الرَّمْسُ بالراء، وثانيها: الْجَدَثُ، ثالثها: الْجَدَف، رابعها: البيت، خامسها: الضريح، سادسها: الرَّيْمُ، سابعها: الرجم، ثامنها: البلد، قال الشاعر:

كُلُّ امْرِئٍ تَارِكٌ أَحِبَّتَهُ

وَمُسْلِمٌ نَفْسَهُ إَلَى الْبَلَدِ

ذكرهنّ صاحب "المخصّص".

التاسع: الْخِتَانُ، ذكره ابن السّكِّيت والعسكريّ، والعاشر: الجامور، ذكره الهنائيّ في "المنتخب"، الحادي عشر: الدمس بالدال، الثاني عشر: المِنْهَال، ذكرهما ابن السكّيت والعسكريّ. انتهى

(5)

.

ونظمت ذلك بقولي:

لِلْقَبْرِ أَسْمَاءٌ ضَرِيحٌ جَدَفُ

وَالرَّجْمُ وَالرَّمْسُ وَبَيْتٌ يُعْرَفُ

وَالْجَدَثُ الْخِتَانُ وَالْمِنْهَالُ مَعْ

بَلَدٍ الدَّمْسِ وَجَامُورٌ تَبَعْ

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 568.

(2)

"المنهل العذب المورود" 1/ 79.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 487.

(4)

"القاموس المحيط" ص 413.

(5)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 510 - 511.

ص: 302

وفي رواية ابن ماجه: "بقبرين جديدين".

وفي رواية البخاريّ من طريق منصور، عن مجاهد:"مَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بحائط من حِيطان المدينة، أو مكة"، أي بستان، وله في "كتاب الأدب":"خَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من بعض حِيطان المدينة".

قال في "الفتح": فيحمل على أن الحائط الذي خَرَج منه غير الحائط الذي مَرَّ به، وفي الأفراد للدارقطنيّ من حديث جابر رضي الله عنه أن الحائط كان لأمّ مبشر الأنصارية، وهو يُقَوِّي رواية "الأدب"؛ لجزمها بالمدينة، من غير شك، والشك في قوله:"أو مكة" من جرير

(1)

. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ: "فسمع صوت إنسانين يُعَذَّبان في قبورهما"، قال ابن مالك في قوله:"صوت إنسانين" شاهد على جواز إفراد المضاف المثنى مَعْنًى، إذا كان جزء ما أضيف إليه من دليل اثنين، نحو: أكلتُ رأس شاتين، وجمعه أجود، نحو:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، والتثنية مع أصالتها قليلة الاستعمال، وقد اجتمع التثنية والجمع في قول الراجز:

وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن

ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ

(3)

فإن لم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، نحو سَلَّ الزيدان سيفيهما، فإن أُمِن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، وفي "يُعذّبان في قبورهما" شاهد على ذلك. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله

(4)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا سمع صوتًا من داخلهما ("أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ"أَلَا"(إِنَّهُمَا) أي من فيهما من المقبور (لَيُعَذَّبَانِ) أي يعاقبان، يقال: عَذّبته تعذيبًا: إذا عاقبته، والاسم العذاب، وأصله في كلام العرب: الضرب، ثم استُعمل في كلّ عقوبة مؤلمة، واستُعير للأمور الشاقّة، فقيل: السفرُ قطعةٌ من العذاب

(5)

.

(1)

هو جرير بن عبد الحميد الراوي عن منصور.

(2)

"الفتح" 1/ 379.

(3)

وصف فلاتين لا نبت فيهما، ولا شخص يُستدلّ به، فشبّههما بالترسين.

و"المهمه": القفر، و"الْقَذَف": البعيد، و"الْمَرْتُط: التي لا تُنبِت.

(4)

"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 199 - 200.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 398.

ص: 303

وأسند التعذيب إلى القبرين مجازًا، من إطلاق المحلّ على الحالّ؛ لأن المعذّب في الحقيقة مَن فيهما، كما قدّرته آنفًا.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: هو من الضمير الذي يُفسّره سياق الكلام؛ إذ ليس في اللفظ ما يعود إليه، فهو من باب قوله تعالى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وأشباه ذلك، وورد مصرّحًا به عند ابن أبي شيبة، لكن من حديث يعلى بن سيابة:"مرّ عليه السلام بقبر يُعذّب صاحبه في غير كبيرة".

قال: "وإنّ" يجوز أن تكون مبتدأ

(1)

، ويجوز أن تكون جوابًا لقسم محذوف: أي والله إنهما ليُعذّبان. انتهى

(2)

.

(وَمَا)(يُعَذَّبَانِ فِي كَبيرٍ) زاد في رواية البخاريّ من طريق منصور، عن مجاهد:"ثم قال: بلى"، أَي إنه لكبير، وصَرّح بذلك في "كتاب الأدب" من طريق عبد بن حُميد، عن منصور:"فقال: وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير"، قال في "الفتح": وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش، ولم يخرجها مسلم.

[تنبيه]: قد تبيّن بهذه الزيادة أن فعل هذين المقبورين من الكبائر، فلا بدّ من تأويل قوله:"وما يعذبان في كبير"، وقد ذكر العلماء فيه تأويلات كثيرة:

فقال أبو عبد الملك الْبُونيّ: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم ظَنّ أن ذلك غير كبير، فأُوحِي إليه في الحال بأنه كبير، فاستَدرَك.

وتُعُقّب بأنه يستلزم أن يكون نسخًا، والنسخ لا يدخل الخبر.

وأُجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه، فقوله:"وما يعذبان في كبير" إخبار بالحكم، فإذا أُوحي إليه أنه كبير، فأخبر به كان نسخًا لذلك الحكم.

وقيل: يَحْتَمِل أن الضمير في قوله: "وإنه" يعود على العذاب؛ لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يعذبان عذابًا شديدًا في ذنب هَيِّن".

(1)

أي: ابتداء كلام مستأنف.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 515 - 516.

ص: 304

وقيل: الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة؛ لأنها من الكبائر، بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم؛ لأن الاستتار المنفيّ ليس المراد به كشف العورة فقط، كما سيأتي.

وقال الداوديّ، وابن العربيّ:"كبير" المنفيّ بمعنى "أكبر"، والمثبت واحد الكبائر: أي ليس ذلك بأكبر الكبائر، كالقتل مثلًا، وإن كان كبيرًا في الجملة.

وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة؛ لأن تعاطي ذلك يدلّ على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب.

وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما، أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك، وهذا الأخير جزم به البغويّ، وغيره ورجحه ابن دقيق العيد، وجماعة.

وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق، فإنه وَصَفَ كلًّا منهما بما يدل على تجدد ذلك منه، واستمراره عليه؛ للإتيان بصيغة المضارعة بعد لفظة "كان"، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: جملة هذه الأقوال ثمانية، وأقواها عندي ما جزم به البغويّ وغيره، ورجحه ابن دقيق العيد وغيره، وحاصله أنه ليس بكبير عليهما في مشقّة الاحتراز، أي كان لا يشقّ الاحتراز منه، وهو عند الله كبير، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: قال ابن مالك رحمه الله: في قوله: "في كبير" شاهد على ورود "في" للتعليل، قال: وخفي ذلك على أكثر النحويين، مع وروده في القرآن، وفي الحديث، كما تقدم، وفي الشعر القديم، فمن الوارد في القرآن العظيم قوله:{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وقوله تعالى:{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، ومن الوارد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"وما يعذّبان في كبير"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"عُذِّبت امرأة في هرّة"، متّفق عليه، ومن الوارد في الشعر القديم قول جميل [من الطويل]:

ص: 305

فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي

وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لَقُونِي

ومنه قول أبي خِرَاش [من الطويل]:

لَوَى رَأْسَهُ عَنِّي وَمَالَ بِوُدِّهِ

أَغَانِيجُ خُودٍ كَانَ فِينَا يَزُورُهَا

ومنه قول الآخر [من الطويل]:

أَفِي قَمَلِيٍّ

(1)

مِنْ كُلَيْبٍ هَجَوْتَهُ

أَبُو جَهْضَمٍ تَغْلِي عَلَيَّ مَرَاجِلُهْ

انتهى كلام ابن مالك رحمه الله

(2)

.

(أَمَّا) حرف تفصيل، نائب عن حرف الشرط وفعله، تقول لمن قال: زيد عالمٌ كريمٌ مثلًا: أما زيد فعالم، أي مهما يكن من شيء، فزيد عالم، فنابت "أما" مناب حرف الشرط، وهو "مهما"، والمجزوم، وهو "يكن"، وما تضمّنه من الفاعل، فلذلك ظهر بعده الجواب دون الشرط؛ لقيامه مقامه، وأُجيب بالفاء كما يُجاب به الشرط، وجوابه هنا قوله:(أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)، أي يسعى بالإفساد بين القوم، بأن ينقل لكلّ واحد منهم ما يقوله الآخر من الشتم والأذى.

والنميمة: فَعِيلةٌ، من نمّ الرجلُ الحديث نَمًّا، من باب قَتَلَ وضَرَبَ: سَعَى به ليوقع فتنةً أو وَحْشةً، فالجل نَمٌّ، تسميةً بالمصدر، ونَمّامٌ مبالغةٌ، والاسم النَّمِيمة، والنَّمِيم أيضًا، أفاده الفيّوميّ

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: النميمة: نَقْلُ الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشرّ. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: النَّمُّ: التوريش، والإغراء، ورفع الحديث إِشَاعةً له وإفسادًا، وتزيين الكلام بالكذب، ونَمّ الحديثَ يَنِمُّهُ بالكسر، وَينُمّه بالضمّ نَمًّا، فهو نَمُومٌ، ونَمّامٌ، ومِنَمٌّ، كمِجَنّ، ونَمٌّ. انتهى

(5)

.

(1)

"الْقَمَلِيّ" من الرجال: الحقير الشأن". انتهى. "اللسان" 11/ 568.

(2)

"شواهد التوضيح" ص 67 - 68.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 626.

(4)

"النهاية" 5/ 120.

(5)

"القاموس المحيط" ص 1050.

ص: 306

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: هي نقل كلام الناس، والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فِعْلَ مصلحة، أو ترك مفسدة، فهو مطلوب. انتهى.

قال في "الفتح": وهو تفسير للنميمة بالمعنى الأعم، وكلام غيره يخالفه، وقال النوويّ: وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح.

وتعقبه الكرمانيّ، فقال: هذا لا يصحّ على قاعدة الفقهاء، فإنهم يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحدّ، ولا حدّ على المشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرارُ هو المستفاد منه جعلَهُ كبيرةً؛ لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة، أو أنّ المراد بالكبيرة معنى غير المعنى الاصطلاحيّ. انتهى.

قال الحافظ: وما نقله عن الفقهاء ليس هو قولَ جميعهم، لكن كلام الرافعيّ يُشعر بترجيحه، حيث حَكَى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما هذا، والثاني ما فيه وعيد شديدٌ، قال: وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى.

ولا بُدّ من حمل القول الأول على أن المراد به غير ما نُصّ عليه في الأحاديث الصحيحة، وإلا لَزِم أن لا يُعَدّ عقوق الوالدين، وشهادة الزور من الكبائر، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَدَّهما من أكبر الكبائر، وتمام البحث في هذا سيأتي في محلّه من كتاب الحدود - إن شاء الله تعالى -.

(وَأمَّا الْآخَرُ) أي الرجل المعذّب الآخر (فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ")، أي لا يجعل بينه وبين بوله سُتْرةً، حتى يتحفّظ منه، كما قال في رواية الأعمش الآتية:"لا يستنزه عن البول"، أي لا يتباعد منه، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لَا يَسْتَتِرُ" رُوي ثلاث روايات: "يَسْتَتِرُ" بتاءين مثناتين، و"يَسْتَنْزِهُ" بالزاي والهاء، و"يستبرئ" بالباء الموحدة والهمزة، وهذه الثالثة في البخاريّ وغيره، وكلها صحيحة، ومعناها: لا يتجنبه، ويتحرز منه. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 552.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 201.

ص: 307

وقال في "الفتح": قوله: "لا يستتر" كذا في أكثر الروايات بمثناتين من فوقُ، الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة، وفي رواية ابن عساكر:"يستبرئ" بموحدة ساكنة، من الاستبراء، ولمسلم، وأبي داود في حديث الأعمش:"لا يستنزه" بنون ساكنة، بعدها زايٌ، ثم هاء، فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار: أنه لا يجعل بينه وبين بوله سُتْرَةً، يعني أنه لا يتحفظ منه، فتوافق رواية "لا يستنزه"؛ لأنها من التنزه، وهو الإبعاد، وقد وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق وكيع، عن الأعمش:"كان لا يَتَوَقَّى"، وهي مفسرة للمراد.

وأجراه بعضهم على ظاهره، فقال: معناه: لا يستر عورته، وضُعِّفَ بأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقلّ الكشف بالسببية، واطُّرِح اعتبار البول، فيترتب العذاب على الكشف، سواء وُجِد البول أم لا، ولا يَخفَى ما فيه.

وأما رواية الاستبراء، فهي أبلغ في التوقي.

وقال ابن دقيق العيد: لو حُمِل الاستتار على حقيقته، للزم أن مُجَرَّد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدلّ على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، يُشير إلى ما صححه ابن خزيمة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"أكثرُ عذاب القبر من البول"، أي بسبب ترك التحرز منه، قال: ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث لَمّا أضيف إلى البول، اقتَضَى نسبة الاستتار الذي عدمُهُ سبب العذاب إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حُمِل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعيّن الحمل على المجاز؛ لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد؛ لأن مخرجه واحد، ويؤيده أن في حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد، وابن ماجه:"أما أحدهما، فيعذَّب في البول"، ومثله للطبرانيّ، عن أنس رضي الله عنه

(1)

.

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَدَعَا)، أي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: دعا الناس: إذا طلبهم، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

ولعلّ الباء في المفعول زائدة، أو على تضمين "دعا" معنى فعلٍ يتعدّى بالباء، أي أمر بعسيب، ونحوه.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 380 - 381.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 195.

ص: 308

وقال المجد رحمه الله: دَعَيتُ - بالياء - لغةٌ في دَعَوت بالواو

(1)

.

(بِعَسِيبٍ) - بفتح العين، وكسر السين المهملتين، بوزن كريم -: الْجَريدة التي لم يَنبُت فيها خُوص، وإن نبت فهي السَّعَفَةُ، كقَصبَة، وفي "القاموس":"الْعَسِيب": جريدة من النخل مستقيمة دقيقةٌ، يُكشَط خُوصُها، والذي لم يَنبُت عليه الْخُوص من السَّعَفِ. انتهى

(2)

.

وقال في "المصباح": السَّعَفُ" كقَصَب: جمعُ سَعَفَة، كقَصَبة: أغصان النخل ما دامت بالخُوص، فإن زال الْخُوص عنها قيل: جَرِيدة

(3)

.

وقال أيضًا: "الْخُوصُ" بالضمّ: وَرَقُ النخل، الواحدةُ خُوصة. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "العَسِيب": الجريد، والغصن من النخل، ويقال له: الْعِثْكَال

(5)

. انتهى

(6)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الجريدة: السّعَفَةُ التي جَرَّدتَّ عنها الْخُوصَ، أي قشرته، وكلُّ شي قشرته عن شيء فقد جَرَدته. انتهى

(7)

.

(رَطْبٍ) - بفتح، فسكون -: خلاف اليابس، قيل: خَصَّ الجريد بذلك؛ لأنه بطيء الجفاف، وسيأتي ذكر الخلاف فيمن أتى بالجريد في المسائل - إن شاء الله تعالى -.

(فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ) أي فأُتي به، فكسره، وجعله اثنين، فالباء زائدة للتوكيد، و"اثنين" مفعول مطلقٌ، أي شقّه شقّين اثنين، أي نصفين، أو منصوب على الحال، وزيادة الباء في الحال جائز في الكلام، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابٌ

حَكِيمُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا

وفي رواية للبخاريّ: "فكسرها كِسْرتين".

(1)

"القاموس المحيط" ص 1155.

(2)

"القاموس المحيط" ص 106.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 277.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 183.

(5)

الْعِثكال بالكسر، كقِرطاس: الْعِذق، أو الشِّمْراخ. "ق".

(6)

"شرح النوويّ" 3/ 201.

(7)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 769.

ص: 309

(ثُمَّ غَرَسَ) أي غَرَزَ بالزاي، كما في رواية للبخاريّ، وفي رواية له:"فَوَضَعَ"، والأول أخصّ (عَلَى هَذَا) القبر (وَاحِدًا) من الشقّين (وَعَلَى هَذَا) القبر الثاني (وَاحِدًا) منهما، وموضع الْغَرْس كان بإزاء الرأس؛ لما وقع في "مسند عبد بن حُميد" من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش:"ثم غرز عند رأس كلّ منهما قِطْعَةً"، قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم بعد غرسه لَمّا قيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ كما في رواية للبخاريّ ("لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ) بضم أوله، وفتح ثالثه، مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله ضمير العذاب (عَنْهُمَا) أي عن المقبورين.

قال ابن مالك رحمه الله

(2)

: يجوز كون الهاء من "لعلّه" ضمير الشأن، وجاز تفسير ضمير الشأن بـ"أَنْ وصِلَتها" مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنها في حكم جملةٍ؛ لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدّت مسدّ مطلوبي "حسب"، و"عسى" في نحو {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، وفي {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} [البقرة: 216].

ويجوز في قول الأخفش أن تكون "أن" زائدةً مع كونها ناصبةً، ونظيرها زيادة الباء، و"من" مع كونهما جارّتين، ومن تفسير ضمير الشأن بـ"أن وصلتها" قول عمر رضي الله عنه:"والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها، فَعُقِرتُ حتى ما تُقلّني رجلاي"، متّفقٌ عليه. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله

(3)

.

(1)

1/ 282.

(2)

نقل الطيبيّ، ثم منه العينيّ كلام ابن مالك هذا بما نصّه: الرواية "يُخفّف عنها" على التوحيد، والتأنيث، وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضمير في:"لعله" و"عنها" إلى الميت باعتبار كونه إنسانًا، وكونه نفسًا، ويجوز كون الهاء في:"لعله" ضمير الشأن، وفي:"عنها" للنفس، وجاز تفسير الشأن إلى آخر كلام ابن مالك الذي ذكرته، وفي هذا نظر من وجهين:

أحدهما: أن هذا النصّ لا وجود له في كتاب ابن مالك "شواهد التوضيح" وإنما الموجود فيه ما نقلته هنا.

الثاني: أن الرواية بإفراد ضمير "عنها" لا وجود له في نسخ "صحيح البخاري"، ولا أشار إليه أحد من شرّاحه، فالظاهر أنه لا صحّة له نقلًا، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(3)

"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 149 - 150.

ص: 310

وقال الكرمانيّ: شَبَّه "لعلّ" بـ"عَسَى"، فأتى بـ"أن" في خبره.

وقال الطيبيّ رحمه الله: لعلّ الظاهر أن يكون الضمير مبهمًا يفسّره ما بعده، كما في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] قال صاحب "الكشّاف": هذا ضمير لا يُعلم ما يُعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثم وُضع "هي" موضع "الحياة"؛ لأن الخبر يدلّ عليها، ويُبيّنها، ومنه: هي النفس تتحمّل ما حُمّلت، والرواية بتثنية الضمير في "عنهما" لا تستدعي إلا هذا التأويل. انتهى

(1)

.

(مَا لَمْ يَيْبَسَا")"ما" مصدريّة ظرفيّةٌ، و"ييبسا"، أي يجفّ الشِّقّان، قال النوويّ:"يَيْبَسَا" مفتوح الباء الموحدة، قبل السين، ويجوز كسرها لغتان، وقال الفيّوميّ: يَبِسَ يَيْبَسُ، من باب تَعِبَ، وفي لغة بالكسر فيهما: إذا جفّ بعد رُطوبة، فهو يابسٌ، وشيء يَبْسٌ ساكن الباء بمعنى يابسٍ أيضًا

(2)

.

والمعنى: يُخفّف عنهما مدّة عدم يبس الشقّين.

وفي رواية للبخاريّ: "ما لم تيبسا" قال في "الفتح": كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية: أي الكِسْرَتان، وللكشميهنيّ: إلا أن تيبسا" بحرف الاستثناء، وللمستملي: "إلى أن ييبسا" بـ"إلى" التي للغاية، والياء التحتانية: أي العودان. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الطهارة"[34/ 683 و 684](292)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(216 و 218 و 1361)، و"الجنائز"(1361 و 1378)، و"الأدب"(6055)، و (أبو داود) في "الطهارة"(20 و 21)،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 769 - 770.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 679.

(3)

"الفتح" 1/ 382.

ص: 311

و (الترمذيّ) في "الطهارة"(70)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 28 و 30)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(347)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2646)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 375 و 376 و 377)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 225)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 188 و 189)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3128 و 3129)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 361 و 362)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 412)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(183)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(495 و 496)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(674 و 675)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه يدلّ على نجاسة بول الإنسان؛ لقوله: "مِنْ بَوْلِهِ" بالإضافة، وروايةُ:"من البول""أل" فيها عِوَضٌ عن المضاف إليه، وقد استَدَلّ به البخاريّ على أن نجاسة البول مقصورة على بول الناس، ولا يَعُمّ بول سائر الحيوانات، فقال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر: "كان لا يستتر من بوله"، ولم يذكُر سوى بول الناس. انتهى. قال ابن بطّال: أراد البخاريّ أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "كان لا يستتر من البول" بول الناس، لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجةٌ لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الردّ على الخطّابيّ حيث قال: فيه دليلٌ على نجاسة الأبوال كلها، ومحصّل الردّ أن العموم في رواية "من البول" أريد به الخصوص؛ لقوله:"من بوله"، والألف واللام بدل من الضمير، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من الناس؛ لعدم الفارق، قال: وكذا غير المأكول، وأما المأكول فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بنجاسة بوله، ولمن قال بطهارته حُجج أخرى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من البول" اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّمَ فهو مخصوص بالأدلّة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل لحمه. انتهى

(2)

، وسيأتي في هذا قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"الفتح" 1/ 384.

(2)

"المفهم" 1/ 552.

ص: 312

2 -

(ومنها): وجوب التنزّه من البول، وعقوبة من تساهل في ذلك.

3 -

(ومنها): أن التساهل في أمر البول من الكبائر، كما صرّح به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): وجوب إزالة النجاسة، خلافًا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة.

5 -

(ومنها): كون النميمة من الكبائر أيضًا، وهي محرّمة بالنصوص، والإجماع، قال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقال تعالى:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنّة نمّام"، وفي لفظ:"قتّات"، وهو النمّام، متّفق عليه.

6 -

(ومنها): أنه استَدَلّ ابن بطال بهذه الرواية على أن التعذيب، لا يختص بالكبائر، بل قد يقع على الصغائر، قال: لأن الاحتراز من البول لم يَرِدْ فيه وعيد، يعني قبل هذه القصة.

وتُعُقِّب بالزيادة التي في "صحيح البخاريّ" وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم:"بل إنه كبير"، وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد، والطبرانيّ، ولفظه:"وما يعذبان في كبير، بلى"، أفاده في "الفتح"

(1)

، فهذا نصّ صريح في الوعيد، يردّ ما قاله ابن بطال، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنّة والجماعة، خلافًا لمن نفاه مطلقًا من الخوارج، وبعض المعتزلة، كضرار بن عمرو، وبشْر المريسيّ، ومن وافقهما، وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة، وجميع أهل السنّة، وغيرهم، وأكثروا من الاحتجاج له، وذهب بعض المعتزلة، كالجبّائيّ إلى أنه يقع على الكفّار دون المؤمنين، وتردّه الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك

(2)

.

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان أهلًا لذلك، وكذا سؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك، والإيمان به، ولا نتكلّم في كيفيّته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيّته؛ لكونه لا عهد له به في

(1)

"الفتح" 1/ 380.

(2)

راجع: "الفتح" 3/ 275 "كتاب الجنائز".

ص: 313

هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تُحيله العقول، ولكن قد يأتي بما تَحار فيه العقول، قاله شارح "العقيدة الطحاويّة"

(1)

.

وقد ذكرت بحثًا طويلًا في هذا في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

7 -

(ومنها): شدّة رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، فإنه لَمّا سمع صاحبي القبرين بادر إلى الشفاعة لهما.

8 -

(ومنها): إثبات الشفاعة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في "كتاب الإيمان"، فلا تنس نصيبك، وبالله تعالى التوفيق.

9 -

(ومنها): إثبات المعجزة له صلى الله عليه وسلم حيث أطلعه تعالى على تعذيب المقبورين، مع أن الذين كانوا معه لم يسمعوا، ولم يعلموا شيئًا من ذلك، قال الله تعالى:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجنّ: 26 - 27].

10 -

(ومنها): وجوب الاستنجاء؛ إذ هو المراد بعدم الاستتار من البول، فلا يجعل بينه وبين البول حجابًا من ماء، أو حجارة، ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الروايات فيمن أتى بالعسيب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم:

قال في "الفتح": رَوَى النسائي من حديث أبي رافع، بسند ضعيف، أن الذي أتاه بالجريدة بلال رضي الله عنه، ولفظه: كُنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة، إذ سمع شيئًا في قبر، فقال لبلال: "ائتني بجريدة خضراء

" الحديث.

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد، والطبرانيّ أنه الذي أتى بها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

ص 399.

ص: 314

وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قَطَع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه:

(منها): أن هذه كانت في المدينة، وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده.

(ومنها): أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غَرَس الجريدة بعد أن شَقّها نصفين، وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك؟ فقال:"إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يُرْفَع عنهما ما دام الغصنان رطبين"، ولم يذكر في قصة جابر أيضًا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الذي في قوله هنا:"لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر رضي الله عنهم، وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك.

وقد رَوَى ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مَرّ بقبر، فوقف عليه، فقال:"ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه"، فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع: فسمع شيئًا في قبر، وفيه: فكسرها باثنين، ترك نصفها عند رأسه، ونصفها عند رجليه، وفي قصة الواحد: جعل نصفها عند رأسه، ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدةً. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لعله أن يُخفّف عنهما":

قال المازريّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون أوحي إليه صلى الله عليه وسلم أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة. انتهى.

وعلى هذا فـ"لعلّ" هنا للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا.

وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي، كذا قال، ولا يَرِد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل.

ص: 315

قال القرطبيّ: وقيل: إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث جابر؛ لأن الظاهر أن القصة واحدةٌ، وكذا رجح النوويّ كون القصة واحدةً.

قال الحافظ: وفيه نظرٌ لما أوضحناه من المغايرة بينهما.

وقال الخطابيّ رحمه الله: هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبِّح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطّرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وكذلك فيما فيه بركة، كالذكر، وتلاوة القرآن، من باب أولى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وكذلك فيما فيه بركة إلخ، سيأتي الردّ عليه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب، يَحتَمِل أن تكون غير معلومة لنا، كعدد الزبانية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قد استنكر الخطابي، ومن تبعه وَضْعَ الناس الجريد ونحوه في القبر؛ عملًا بهذا الحديث، وقال الطرطوشيّ: لأن ذلك خاص ببركة يده صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي عياض: لأنه عَلّلَ غرزهما على القبر بأمر مغيب، وهو قوله:"لَيُعَذَّبان".

وتعقّب هذا صاحب "الفتح" بأنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا؟ أن لا نتسبب له في أمر يُخفف عنه العذاب أَنْ لو عُذِّب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أَرُحم أم لا؟ أن لا ندعو له بالرحمة، وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به، وقد تأسى بُريدة بن الحصيب الصحابي بذلك، فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما ذكره البخاريّ عنه في "صحيحه"، وهو أولى أن يُتَّبَعَ من غيره. انتهى

(1)

.

وقد تعقّب العينيّ في "عمدته" قوله: "وليس في السياق ما يقطع على أنه

(1)

"الفتح" 1/ 383.

ص: 316

باشر إلخ" بأنه قد صرّح في الحديث بأنه دعا بجريدة، فكسرها، فوضع على كلّ قبر منهما كِسرةً، فهذا صريحٌ في أنه صلى الله عليه وسلم وضعه بيديه الكريمتين، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهي كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يُعتدّ به. انتهى كلام العينيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي قاله الخطابيّ، ومن تبعه من استنكار وضع الجريدة ونحوها على القبر هو الذي يترجح عندي؛ لأنه أمر يختصّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم من حيث كونه مغيّبًا، لا يمكن الاطّلاع عليه إلا بالوحي، ومن حيث بركة يده صلى الله عليه وسلم كما علّله الخطابيّ، والقاضي عياض.

وأما قول الحافظ: لا يلزم من كوننا إلخ ففيه نظر لا يخفى؛ إذ الدعاء أمرنا به اطّلعنا على التعذيب أم لا، فليس معلّلًا بالتعذيب بخلاف وضع الجريدة، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا لكلّ ميت، وأمر به بخلاف وضعها، فإنه ما فعله إلا لأشخاص مُعَيَّنِينَ، معلِّلًا ذلك بما ذكر، ولأن الصحابة ومن بعدهم أجمعوا على الاقتداء به فيه بخلَاف الوضع، فلم يُنقل إلا عن بُريدة رضي الله عنه، فهو قياس مع الفارق.

والحاصل أن خصوصيّة وضع الجريد أوضح من كونه محلّ أسوة، فتأمل بالإنصاف.

قال صاحب "المرعاة" رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم -: والظاهر عندي أنه مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليس بأعمّ، وأما ما يفعله القبريّون من وضع الرياحين على القبور، وغرس الأشجار عليها، وسترها بالثياب، وإجمارها، وتبخيرها بالعود، واتّخاذ السرج عليها، فلا شكّ في كونه بدعة وضلالةً، ومن زعم أن هذا الحديث أصل لهذه الأمور المحدثة، فقد جهل، وافترى على الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله صاحب المرعاة رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، ومثل ذلك من استدلّ بهذا الحديث على مشروعيّة قراءة القرآن في القبر، فقد ابتدع في الدين، وأتى بما لم يشرعه الله تعالى، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع

(1)

"عمدة القاري" 2/ 437.

(2)

"المرعاة" 2/ 52.

ص: 317

كثرة من يموت في عهده، لم يأمر أحدًا أن يقرأ القرآن للميت، ولا فعله الخلفاء الراشدون بعده، ولا القرون المفضّلة.

وأما ما أورده العينيّ محتجًّا على مشروعيّة ذلك من الأحاديث

(1)

فمما يُتعجّب منه، فإنها كلها أحاديث واهية، لا يثبت منها شيء، فلا تغترّ بها، وكن من الْيَقِظِين الْحَذِرين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في ذكر ما جاء من الاختلاف في اسم المقبورَين:

(اعلم): أنه لم يُعرف اسم المقبورين، ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان عمدًا من الرواة قصدًا للستر، وأنه لا ينبغي الفحص عن مثل هذا.

قال الحافظ: وما حكاه القرطبيّ في "التذكرة" وضعّفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ، فهو قول باطلٌ لا ينبغي ذكره إلا مقرونًا ببيانه، ومما يدلّ على بطلانه الحكاية المذكورة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ، كما ثبت في الحديث الصحيح، وأما قصّة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم:"من دفنتم اليوم ها هنا؟ "، فدلّ على أنه لم يحضرهما.

قال: وإنما ذكرت هذا ذَبًّا عن هذا السيد الذي سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم سيّدًا، وقال لأصحابه:"قوموا إلى سيدكم"، وقال:"إن حكمه قد وافق حكم الله"، وقال:"إن عرش الرحمن اهتَزَّ لموته" إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة؛ خشيةَ أن يَغْتَرّ ناقص العلم بما ذكره القرطبيّ، فيعتقد صحة ذلك، وهو باطل.

وقد اختُلِفَ في المقبورَين، فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المدينيّ، واحتجّ بما رواه من حديث جابر، بسند فيه ابن لَهِيعة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ على قبرين من بني النجار، هَلَكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة"، قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقويّ، لكن معناه صحيح، لأنهما لو كانا مسلمين لَمَا كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنًى، ولكنه لَمّا رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع لهما إلى المدة المذكورة.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 176.

ص: 318

وجزم ابن العطار في "شرح العمدة" بأنهما كانا مسلمين، وقال: لا يجوز أن يقال: إنهما كانا كافرين؛ لأنهما لو كانا كافرين لم يَدْعُ لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجّاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبيّنه - يعني كما في قصة أبي طالب -.

قال الحافظ: وما قاله أخيرًا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حَصَلَ، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتجَّ به أبو موسى ضعيف، كما اعتَرَف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح، على شرط مسلم، وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي قدمنا أن مسلمًا أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهرٌ.

وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه:"مَرّ بقبرين جديدين"، فانتفى كونهما في الجاهلية، وفي حديث أبي أُمامة عند أحمد:"أنه صلى الله عليه وسلم مَرّ بالبقيع، فقال: من دفنتم اليوم ها هنا؟ "، فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين؛ لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم.

ويُقَوِّي كونهما كانا مسلمين روايةُ أبي بكرة، عند أحمد، والطبرانيّ، بإسناد صحيح:"يعذبان، وما يُعَذَّبان في كبير، بلى، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول".

فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين؛ لأن الكافر، وإن عُذِّب على ترك أحكام الإسلام، فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في ذكر اختلاف أهل العلم في الأبوال، والأرواث، الطاهر منها والنجس:

(1)

"الفتح" 1/ 384.

ص: 319

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: دلت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أبوال بني آدم نَجِسَة، يجب غسلها من البدن، ومن الثوب الذي يُصلي فيه، إلا ما روي عنه في بول الغلام الذي لم يَطْعَم الطعام.

واختلفوا في بول ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل، فقالت طائفة: بول ما يؤكل لحمه طاهرٌ، وليس كذلك عندها أبوال ما لا يؤكل لحمه، فممن قال: ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله: عطاء، والنخعيّ، والثوريّ، ورَخَّص في أبوال الإبل والغنم الزهريّ، وقال يحيى الأنصاريّ في الأبوال: لا يكره ذلك من الإبل والبقر والغنم، ورَخَّص الشعبيّ في بول التيس، وقال الحسن، وقتادة فيمن وَطِئ على الروث الرَّطْب: يمسح قدميه، ويُصلي، ورَخَّص الحكم في أبوال الشياه، قال: لا تغسله، وروي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه صَلّى على التراب والسرقين

(1)

.

ورخص في ذَرْقِ

(2)

الطير أبو جعفر، والحكم، وحماد، وقال حماد في خرء الدجاج: إذا يبس فافرُكه، وكان الحسن لا يَرَى على من صلى وفي ثوبه خرء الدجاج إعادةً.

وقالت طائفة: الأرواث، والأبوال كلها نَجِسة، ما أُكل لحمه، أو لم يؤكل، وكذلك ذَرْقُ الطير كلها نجس، هذا قول الشافعيّ، وقد حُكِي عنه أنه استثنى من ذلك بول الغلام الذي لم يَطعَم، وأَمَرَ بالرشّ عليه، وكان الشافعيّ يقول: لا يجوز بيع الْعَذِرة، ولا الروث، ولا البول، كان ذلك من الناس، أو من الدواب، وقال أبو ثور كقول الشافعيّ في الأبوال والأرواث: إنها كلها نجسة، رطبًا كان أو يابسًا، وقال الحسن: البول كله يُغْسَل، وكان يَكْرَه أبوال البهائم كلّها، يقول: اغسل ما أصابك منها، وقال حماد في بول الشاة: اغسله.

(1)

صحيح، علّقه البخاريّ في:"الصحيح"، ووصله أبو نعيم شيخ البخاريّ في:"كتاب الصلاة" له.

(2)

ذرق الطائر، من باب ضرب، وقتل، هو منه كالتغوّط من الإنسان. اهـ. "المصباح" 1/ 208.

ص: 320

وفيه قول ثالث، قاله مالك، قال: لا يَرَى أهلُ العلم أبوال ما أُكِل لحمه، وشُرِب لبنه من الأنعام نَجَسًا، وكذلك أبعارها، وهم يستحسنون مع ذلك غسلها، ولا يرون بالاستشفاء بشرب أبوالها بأسًا، ويكرهون أبوال ما لا يؤكل لحمه من الدواب، وأرواثها الرَّطْبة ويرون أن يعيد ما كان في الوقت، ويكرهون شرب أبوالها وألبانها، هذه حكاية ابن وهب عنه.

وحَكَى ابنُ القاسم أن مالكًا كان لا يَرَى بأسًا بأبوال ما أُكل لحمه، مما لا يأكل الْجِيَف، وأرواثها إن وقع في الثوب، وقال في الطير التي تأكل الجيف والأذى: يعيد من كان في ثوبه منه شيء صلاته في الوقت، قال: فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه.

ووَقَفَ أحمد عن الجواب في أبوال ما يؤكل لحمه مرةً، وقال مرة: يُنَزَّه عن بول الدواب كلها أحبّ إليّ، ولكن البغل والحمار أشدّ، وقال إسحاق كذلك، وقد اختلف قول أحمد في هذا الباب.

وقالت طائفة: الأبوال كلها سوى بول بني آدم طاهرٌ لا يجب غسله، ولا نضحه إلا أن يوجَب ذلك مما يجب التسليم له، قال: وليس بين بول ما أُكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه فرق؛ لأن الفرائض لا تجب إلا بحجة.

وقدْ ذَكَر مغيرة بن أبي معشر أنه قال: بال بَغْلٌ قريبٌ مني، فتنحيت، فقال لي إبراهيم: ما عليك لو أصابك، وقد رَوَينا عن عطاء، والزهريّ أنهما أمرا بالرشّ على بول الإبل، وقال النعمان في روث الفرس، وروث الحمار، والروثِ كلِّهِ: سواءٌ إذا أصاب الثوبَ منه أكثر من الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وكذلك إذا أصاب الخفّ والنعل.

وقال يعقوب ومحمد: يجزيه إلا أن يكون كثيرًا فاحشًا، وقال النعمان في بول الفرس: لا يُفسِد إلا أن يكون كثيرًا فاحشًا، وبول الحمار يُفسد إذا كان أكثر من الدرهم، وهو قول النعمان ويعقوب، وقال محمد: لا يُفسد بول الفرس، وإن كان كثيرًا فاحشًا؛ لأنه بول ما يؤكل لحمه.

وقال النعمان في أَخْثاء البقر، وخُرء الدجاج، مثلُ السِّرْقين: يُفسد منه أكثر من قدر الدرهم، وكذلك قال يعقوب ومحمد في خُرء الدجاج خاصةً، وقال محمد: الكثير الفاحش الربعُ فصاعدًا.

ص: 321

قال ابن المنذر: احتَجّ مَن جَعَلَ الأبوال كلها نجسة بأن أبوال بني آدم لَمّا كانت نجسةً، فأبوال البهائم أولى بذلك؛ لأن مأكول الآدميين، ومشروبهم يدخل حلالًا، ثم يتغير في الجوف، حتى يخرج نجسًا، فكان ما كان تَعْتَلِف البهائم، وتأكل السباع أولى بهذا؛ لأنها لا تتوقأ

(1)

ما تأكل.

قال ابن المنذر: ويلزم مَن جعل أبوال البهائم قياسًا على أبوال بني آدم، أن يجعل شعر بني آدم قياسًا على أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار الأنعام، هذا إذا جاز أن يجعل أحد الصنفين قياسًا على الآخر، فإذا فَرَّقَ مُفَرِّق في غير هذا الباب بين بني آدم، والأنعام بفروق كثيرة، ومَنَعَ أن يُجعَل أحدهما قياسًا على الآخر، وَجَبَ كذلك في هذا الباب، أن لا يُجعَل أحد الصنفين قياسًا على الآخر، والأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالةٌ على طهارة أبوال الإبل، ولا فرق بين أبوال الإبل، وبين أبوال البقر والغنم.

ثم أخرح بسنده عن أنس رضي الله عنه أن أُناسًا من عُرَينة، قَدِموا المدينة، فأرسلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وقال لهم:"اشرَبُوا من ألبانها وأبوالها"، متفقٌ عليه.

قال ابن المنذر: وهذا يدل على طهارة أبوال الإبل، ولا فرق بين أبوالها وأبوال سائر الأنعام، مع أن الأشياء على الطهارة حتى تَثْبُت نجاسة شيء منها بكتاب، أو سنة، أو إجماع.

فإن قال قائل بأن ذلك للعرنيين خاصّةً، قيل له: لو جاز أن يقال في شيء من الأشياء خاصّةٌ بغير حجة لجاز لكل من أراد فيما لا يوافق من السنن مذاهب أصحابه، أن يقول: ذلك خاصّ، وظاهر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، مُسْتَغْنًى به عن كل قول.

واستعمالُ الخاصة والعامة أبوال الإبل في الأدوية، وبيعُ الناس ذلك في أسواقهم، وكذلك الأَبْعَار تُباع في الأسواق، ومَرابضُ الغنم يُصَلَّى فيها، والسنن الثابتة دليل على طهارة ذلك، ولو كان بيع ذلك مُحَرَّمًا لأنكَرَ ذلك أهل

(1)

هكذا نسخة "الأوسط"، ولعل الصواب:"لا تتوقّى"، فليُحرّر.

ص: 322

العلم، وفي ترك أهل العلم إنكار بيع ذلك في القديم والحديث، واستعمال ذلك، معتمدين فيها على السنة الثابتة بيان لما ذكرناه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّق الإمام ابن المنذر رحمه الله بحث نفيسٌ، خلاصته أن الأرجح كون الأبوال والأبعار، والأخثاء طاهرة مطلقًا، من جميع الحيوانات، مأكولة اللحم، وغير مأكولته، إلا بول الآدميّ؛ لقوّة حجته، والله تعالى أعلم.

وسئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: عن بول ما يؤكل لحمه، هل هو نَجَسٌ؟.

فأجاب: أما بول ما يؤكل لحمه وروثه، فإن أكثر السلف على أن ذلك ليس بنجس، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما، ويقال: إنه لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجيس ذلك، بل القول بنجاسة ذلك قول مُحْدَثٌ، لا سلف له من الصحابة، والقائل بتنجيس ذلك ليس معه دليلٌ شرعيّ على نجاسته أصلًا، فإن غاية ما اعتَمَدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"تنزّهوا من البول"، وظنّوا أن هذا عامّ في جميع الأحوال، وليس كذلك، فإن اللام لتعريف العهد، والبول المعهود هو بول الآدميّ، ودليله قوله:"تنزّهوا من البول، فإن عامّة عذاب القبر منه"، ومعلوم أن عامّة عذاب القبر إنما هو من بول الآدميّ نفسِهِ الذي يصيبه كثيرًا، لا من بول البهائم الذي لا يُصيبه إلا نادرًا.

وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر العُرَنيين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أن يَلْحَقُوا بإبل الصدقة، وأمر أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يأمرهم مع ذلك بغسل ما يُصيب أفواههم وأيديهم، ولا بغسل الأوعية التي فيها الأبوال، مع حِدْثان عهدهم بالإسلام، ولو كان بول الأنعام كبول الإنسان لكان بيان ذلك واجبًا، ولم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لا سيّما مع أنه قرنها بالألبان التي هي حلالٌ ظاهرة، مع أن التداوي بالخبائث قد ثبت فيه النهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة.

(1)

"الأوسط" 2/ 195 - 199.

ص: 323

وأيضًا فقد ثبت في "الصحيح" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي في مَرابض الغنم، وأنه أَذِن في الصلاة في مرابض الغنم من غير اشتراط حائل، ولو كانت أبعارها نَجِسةً لكانت مرابضها كحُشُوش بني آدم، وكان ينهى عن الصلاة فيها مطلقًا، أو لا يصلى فيها إلا مع الحائل المانع، فلما جاءت السنّة بالرخصة في ذلك، كان مَن سَوَّى بين أبوال الآدميين، وأبوال الغنم مخالفًا للسنّة.

وأيضًا فقد طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيره مع إمكان أن يبول البعير.

وأيضًا فما زال المسلمون يدُوسون حُبوبهم بالبقر مع كثرة ما يقع في الحبّ من البول وأخباث البقر.

وأيضًا فإن الأصل في الأعيان الطهارة، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل، ولا دليل على النجاسة؛ إذ ليس في ذلك نصّ، ولا إجماع، ولا قياس صحيح. انتهى كلام شيخ الإسلام

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وقد ذكر في رسالة أخرى لترجيح هذا المذهب بضعة عشر دليلًا

(2)

، فأجاد، وأفاد.

وقال العلامة الشوكانيّ بعد ذكر الأقوال المتقدّمة: والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان، يؤكل لحمه؛ تمسكًا بالأصل، واستصحابًا للبراءة الأصلية، والنجاسة حكم شرعيّ، ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يُقْبَل قول مُدَّعِيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلًا كذلك، وغاية ما جاؤوا به حديث صاحب القبر، وهو مع كونه مُرادًا به الخصوص كما سلف عمومٌ ظنيُّ الدلالة، لا ينتهض على معارضة تلك الأدلة المعتضدة بما سلف.

[فإن قلت]: إذا كان الحكم بطهارة بول ما يؤكل لحمه وزبله لما تقدم حتى يَرِدَ دليلٌ، فما الدليل على نجاسة بول غير المأكول، وزِبْله على العموم؟.

[قلت]: قد تمسكوا بحديث: "إنها رِكْسٌ"، قاله صلى الله عليه وسلم في الروثة، أخرجه

(1)

"مجموع الفتاوى" 21/ 613 - 614.

(2)

راجع: "مجموع الفتاوى" 21/ 542 - 587.

ص: 324

البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ، وبما تقدم في بول الآدميّ، وألحقوا سائر الحيوانات التي لا تؤكل به بجامع عدم الأكل، وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن علة النجاسة عدم الأكل، وهو منتَقِضٌ بالقول بنجاسة زِبْل الجلالة، والدفعُ بأن العلة في زِبل

(1)

الجلالة هو الاستقذار، منقوض باستلزامه لنجاسة كل مستقذر، كالطاهر إذا صار منتنًا، إلا أن يقال: إن زبل الجلّالة هو محكوم بنجاسته، لا للاستقذار، بل لكونه عين النجاسة الأصلية التي جلتها الدابة؛ لعدم الاستحالة التامة.

وأما الاستدلال بمفهوم حديث: "لا بأس ببول ما يؤكل لحمه"، فغير صالح لضعفه الذي لا يصلح معه للاستدلال به، حتى قال ابن حزم: إنه خبر باطل موضوع، قال: لأن في رجاله سَوّار بن مُصْعب، وهو متروك عند جميع أهل النقل، مُتَّفَقٌ على ترك الرواية عنه، يَرْوِي الموضوعات.

قال: فالذي يتحتم القول به في الأبوال والأزبال هو الاقتصار على نجاسة بول الآدمي، وزِبْله، والروثة.

وقد نقل التيميّ أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير، ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته:"إنها رِكْسٌ، إنها روثة حمار".

وأما سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، فإن وَجَدتَّ في بول بعضها أو زِبله ما يقتضي إلحاقه بالمنصوص عليه طهارةً أو نجاسةً ألحقته، وإن لم تَجِد فالمتوجه البقاء على الأصل والبراءة، كما عرفت. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما أسلفته من بيان هذه الأقوال، والنظر في أدلّتها، أن أرجح المذاهب هو القول بأن الأبوال والأزبال طاهرةٌ مطلقًا، من مأكول اللحم وغيره، إلا الآدميّ، وكذلك الروثة؛ لحديث:"إنها ركسٌ"، وذلك للأدلة التي سبقت، وتمسّكًا بالبراءة الأصليّة؛ إذ لم يَرْدْ نصّ قاطعٌ يَنْقُل عنها، فالبقاء عليها هو الحقّ، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الزِّبْل" بالكسر، والزبيل كأمير: السِّرْقين. اهـ. "ق" ص 908.

(2)

راجع: "نيل الأوطار" 1/ 83 - 86.

ص: 325

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[684]

(

) - (حَدَّثَنِيهِ

(1)

أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِد، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"وَكَانَ الْآخَرُ لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ - أَوْ - مِنَ الْبَوْلِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنة (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(مُعَلَّى

(2)

بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ

(3)

، أبو الهيثم البصري، أخو بهز، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10].

رَوَى عن وهيب بن خالد، وعبد الواحد بن زياد، وعبد العزيز بن المختار، ويزيد بن زُريع، وعبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس، ومحمد بن حُمْران، وجماعة.

ورَوَى عنه البخاريّ، وروى الباقون له بواسطة أحمد بن يوسف السلميّ، وحجاج بن الشاعر، وأحمد بن عبد الله بن عليّ بن مَنْجُوف، وأبو داود سليمان بن مَعْبد السِّنْجيّ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وعمرو بن منصور النسائيّ، ومحمد بن داود المصيصيّ، وهلال بن العلاء، ومحمد بن يحيى الذهليّ، وأبو حاتم الرازيّ، وغيرهم.

قال العجليّ: شيخ بصريّ ثقةٌ كَيِّس، وكان مُعَلّمًا، وأخوه بهز أسنّ منه، وهو ثبتٌ في الحديث، رجلٌ صالحٌ، وقال أبو حاتم: ثقة ما أعلم أني عثرت له على خطأ غير حديث واحد، وقال مسلمة بن قاسم: ثقةٌ، وقال مسعود بن الحكم: ثقةٌ مأمونٌ.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها أَرَّخَه ابن قانع، والقرّاب، وقال خليفة: مات سنة تسع عشرة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنيه".

(2)

بضم الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد اللام مقصورًا.

(3)

بفتح المهملة، وتشديد الميم: نسبة إلى بطن.

ص: 326

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجَهْ، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (292) و (336) و (721) و (1248)(1435) و (2223) و (2341).

3 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ مولاهم، البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ إلخ) الضمير لعبد الواحد، يعني أن عبد الواحد قال في روايته:"وكان الآخر لا يستنزه من البول"، بنون ساكنة، بعدها زاي، ثم هاء، من الاستنزاه، قال ابن الأثير رحمه الله: أي لا يستبرئ، ولا يتطهّر، ولا يستبعد من البول

(1)

، وقال في "الفتح":"لا يستنزه" من التنزّه، وهو الإبعاد. انتهى

(2)

.

وفي "المصباح": التنزّه: التباعد عن المياه والأَرْياف، ومنه فلانٌ يَتَنَزّه عن الأقذار: أي يتباعد عنها. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَوْ مِنَ الْبَوْلِ)"أو" للشكّ من الراوي.

[تنبيه]: رواية عبد الواحد هذه أخرجها الإمام الدارميّ في "سننه"(1/ 205) فقال:

(739)

أخبرنا الْمُعَلَّى بن أسد، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال:"إنهما ليعذبان في قبورهما، وما يعذبان في كبير، كان أحدهما يمشي بالنميمة، وكان الآخر لا يستنزه عن البول - أو - من البول"، قال: ثم أخذ جريدة رطبةً، فكسرها، فغرَزَ عند رأس كل قبر منهما قطعةً، ثم قال:"عسى أن يُخَفَّفَ عنهما حتى يَيْبَسَا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"النهاية" 2/ 431.

(2)

"الفتح" 1/ 381.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 601.

ص: 327

(3) - (كِتَابُ الْحَيْضِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على بيان أحكام الحيض، وفيه مسائل:

(المسألة الأولى): في تعريفه لغةً، وشرعًا:

قال أهل اللغة: يقال: حاضت المرأة تحيض حَيْضًا ومَحِيضًا، فهي حائض بغير هاء؛ لأن هذه صفة لا تكون للمذكر، فلم يُحتج إلى إلحاق الهاء فيه للفرق، بخلاف مسلمة، وقائمة، وحَكَى الجوهريّ عن الفرّاء أنه يقال أيضًا: حائضةٌ بالهاء، وأنشد:

كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْرَ طَاهِرِ

(1)

وقال أهل اللغة: عَرَكَت - بفتح العين والراء - تَعْرُك عُرُوكًا، كقَعَدَتْ تقعُد قُعُودًا: أي حاضت، قال الهرويّ في "الغريبين": يقال: حاضت المرأةُ وتحيَّضَت، ودَرَسَت، وعَرَكَت، وطَمَثَت تَحِيض حيضًا ومَحِيضًا ومَحَاضًا: إذا سال دمها في أوانه، فإذا سال في غير أوقاته المعلومة، فهي مستحاضة.

وقال أهل اللغة: يقال: نساءٌ حُيَّضٌ، وحوائض، والْحَيْضَةُ - بفتح الحاء - المرّة الواحدة من الحيض، والْحِيضة - بكسر الحاء - اسم للحالة والهيئة.

وقال أبو منصور الأزهريّ في "شرح ألفاظ مختصر المزنيّ": الحيض دمٌ يُرخيه رَحِم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة، وأصله من حاض السيل، وفاض: إذا سال، سُمّي حيضًا لسيلان الدم في الأوقات المعتادة، قال: والاستحاضة أن يسيل الدم في غير أوقاته المعتادة، قال: ودم الحيض يخرج من قعر الرحم، ويكون أسود مُحتدِمًا، أي حارًّا كأنه محترق، وأما دم

(1)

عجز بيت، صدره - كما في:"لسان العرب":

رَأَيْتُ حُيُونَ الْعَامِ وَالْعَام قَبْلَهُ

......................

ص: 328

الاستحاضة، فيسيل من العاذل، وهو عرقٌ فمُهُ الذي يسيل منه في أدنى الرحم دون قعره، قال: وذُكر ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. انتهى ملخّصًا من "تهذيب الأسماء واللغات" للنوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "شرح مسلم": وأما الحيض فأصله في اللغة السيلان، وحاض الوادي: إذا سال، قال الأزهريّ، والهرويّ، وغيرهما من الأئمة: الحيض جَرَيَان دم المرأة في أوقات معلومة، يُرْخيه رَحِمُ المرأة بعد بلوغها، والاستحاضةُ: جريان الدم في غير أوانه، قالوا: ودم الحيض يَخرُج من قَعْر الرحم، ودم الاستحاضة يسيل من العاذل - بالعين المهملة، وكسر الذال المعجمة - وهو عِرْقٌ فَمُهُ الذي يَسيل منه في أدنى الرحم دون قعره، قال أهل اللغة: يقال: حاضت المرأة تحيض حَيْضًا، ومَحِيضًا ومَحَاضًا، فهي حائض بلا هاء، هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وحَكَى الجوهريّ عن الفراء حائضةٌ بالهاء، ويقال: حاضت، وتَحَيَّضت، ودَرَسَت، وطَمَثت

(2)

، وعَرَكَت

(3)

، وضَحِكَت، ونُفِسَت، كله بمعنى واحد، وزاد بعضهم: أكبرت، وأعصرت بمعنى حاضت. انتهى

(4)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الحيض: دمٌ يُرخيه الرحم إذا بلغت المرأة، ثم يعتادها في أوقات معلومة؛ لحكمة تربية الولد، فإذا حَمَلت انصرف ذلك الدم بإذن الله إلى تغذيته، ولذلك لا تحيض الحامل، فإذا وضَعت الولدَ قلبه الله تعالى بحكمته لبنًا يتغذى به الطفل، ولذلك قلما تحيض المرضع، فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع، بقي ذلك الدم لا مَصْرِف له، فيستقرّ في مكان، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقلّ، ويطول شهر المرأة ويقصر على حسب ما ركبه الله تعالى في الطباع.

وسُمِّي حيضًا من قولهم: حاض السيل: إذا فاض، قال عمارة بن عقيل:

أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ

عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ

(1)

"تهذيب الأسماء واللغات" للنوويّ 3/ 76 - 77.

(2)

من بابي ضَرَب وسَمِعَ.

(3)

من باب قعد.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 204.

ص: 329

وقوله: حَيَّضَت: أي سَيَّلَت، والذَّوَارِي، والذاريات: الرياح. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فيما جاء في ابتداء الحيض:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب كيف كان بدءُ الحيض"، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذا شيءٌ كتبه الله علي بنات آدم"

(2)

، وقال بعضهم: كان أوّلُ ما أُرسل الحيض على بني إسرائيل، وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر. انتهى.

قوله: وقال بعضهم: "كان أول إلخ" قال في "الفتح: وكأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، قال: "كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة تتشرف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض، ومنعهن المساجد".

وقوله: وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر، قيل: معناه: أشمل؛ لأنه عامّ في جميع بنات آدم، فيتناول الإسرائيليات، ومَن قبلهنّ، أو المراد: أكثر شواهد، أو أكثر قوّةً، وقال الداوديّ: ليس بينهما مخالفةٌ، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا فقوله:"بنات آدم" عامّ أُريد به الخصوص.

قال الحافظ: ويمكن أن يُجمَع بينهما مع القول بالتعميم، بأن الذي أُرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبةً لهنّ، لا ابتداء وجوده.

وقد رَوَى الطبريّ وغيره عن ابن عباس وغيره، أن قوله تعالى في قصة إبراهيم:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب.

(1)

راجع: "المغني" لابن قُدامة 1/ 313 - 319، و"لسان العرب" 7/ 142 - 143.

(2)

أشار به إلى حديث عائشة رضي الله عنها الآتي للمصنّف في: "كتاب الحجّ"، وللبخاريّ في:"كتاب الحيض" وغيره: "قالت: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا الحج، حتى إذا كنا بِسَرِف، أو قريبًا منها، حِضْتُ، فدخل علي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي، فقال: "أَنُفِستِ؟ " يعني الحيضة، قالت: قلت: نعم، قال: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاجّ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي". قالت: وضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر.

ص: 330

ورَوَى الحاكم، وابن المنذر بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ابتداء الحيض كان على حواء، بعد أَن أُهبطت من الجنة، وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها. انتهى

(1)

.

وقال ابن المنذر رحمه الله في "الأوسط"(2/ 201):

(779)

حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا أبو الربيع، ثنا عباد بن العوام، ثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"لَمّا أكل آدم من الشجرة التي نُهِي عنها، قال آدم: رَبِّ زينته لي حواء، قال: فإني قد أَعْقبتها أن لا تَحْمِل إلا كرهًا، ولا تضع إلا كرهًا، ودَمَّيتها في الشهر مرتين، فَرَنَّت حواء عند ذلك، فقيل لها: الرنة عليك، وعلى بناتك". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في أقلّ الحيض، وأكثره:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في أقل الحيض وأكثره، فقالت طائفة: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر، هذا قول عطاء بن أبي رَبَاح، والشافعيّ، وأحمد، وأبي ثور.

وقالت طائفة: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، كذلك قال سفيان الثوريّ، والنعمان، ويعقوب، ومحمد.

ورَوَينا عن سعيد بن جبير قولًا ثالثًا، أنه قال: الحيض إلى ثلاثة عشر يومًا، فما سوى ذلك فهي مستحاضة.

وقد بلغني من نساء آل الماجشون أنهن كنّ يحضن سبعة عشر، قيل لأحمد: الحيض عشرين

(3)

يومًا؟ قال: لا، فإن أكثر ما سمعناه سبعة عشر يومًا.

وحَكَى عبد الرحمن بن مهديّ عن رجل يثق به، ويثني عليه خيرًا أنه

(1)

"الفتح" 1/ 476 - 477.

(2)

هذا إسناد صحيح، إلا أنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليّات.

(3)

هكذا النسخة "عشرين"، والظاهر أنه خبر لـ"يكون" محذوفة، أي: أيكون الحيض عشرين يومًا؟، والله أعلم.

ص: 331

يَعْرِف أن امرأة تحيض سبعة عشر، قال الأوزاعيّ: عندنا امرأة تحيض وتطهر عشيةً، قال الأوزاعيّ: يرون أنه حيضٌ تَدَعُ له الصلاة.

وحَكَى محمد بن كثير، عن الأوزاعيّ أنه قال: كانت امرأة تحيض يومًا، وتنفس ثلاثًا، وحَكَى الحسن الحلوانيّ، عن يزيد بن هارون أنه قال: كانت عندي امرأة تحيض يومين يومين.

وقالت فرقة: ليس لأقل الحيض بالأيام حدّ، ولا لأكثره وقتٌ، والحيض إقبال الدم المنفصل من دم الاستحاضة، والطهر إدباره.

قال ابن المنذر: أما أصحاب الرأي فإن حجتهم فيما وَقّتوه، وقالوا به حديث رواه الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قُرّة، عن أنس

(1)

، وقد دَفَعَ هذا الحديث جماعة من أهل العلم، ذَكَر الميمونيّ أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في أقل الحيض وأكثره؟ قال: لا، قلت: أفيصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: فحديث أنس؟ قال: ليس بشيء، أو قال: ليس يصحّ، قلت: فأعلى شيء في هذا الباب؟ فذكر حديث مَعْقِل، عن عطاء: الحيض يومٌ وليلةٌ.

وكان ابن عيينة يقول: حديث محدث لا أصل له، وقال ابن المبارك: الجلد لا يُعْرَف بالحديث، ووَهَّنَ حديثه، وقال حماد بن زيد: ما كان الجلد بن أيوب يَسْوَى في الحديث شيئًا

(2)

.

واحتج آخر بالحديث الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: "دَعِي الصلاة أيام أَقْرائكِ"

(3)

، وإن أقل الأيام ثلاثة.

(1)

هو ما أخرجه الدارقطنيّ في: "سننه"، (1/ 209) قال:

(22)

حدثنا محمد بن مخلد، نا الحسانيّ، ثنا وكيع، ثنا سفيان (ح) وحدثنا الحسين بن إسماعيل، نا عباس بن محمد، نا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس، قال:"أدنى الحيض ثلاثة، وأقصاه عشرة"، وقال وكيع:"الحيض ثلاث إلى عشر، فما زاد فهي مستحاضة". انتهى.

(2)

جلد بن أيوب ضعفه ابن المبارك، وابن راهويه، وأحمد، وقال الدارقطنيّ: متروك. راجع: "ميزان الاعتدال" 1/ 420 - 421.

(3)

أخرجه أحمد في: "مسنده"، فقال: =

ص: 332

قال ابن المنذر: وهو حديث لا تقوم به الحجة، ولو ثبت لم يكن لقائل هذا القول فيه حجة، وذلك أنه قال:"أيام أقرائك"، فأضاف الأيام إلى الأقراء، والأقراء جمع قُرْء، وقد يقع اسم أيام على يومين، فإذا جمعت أيام من عدة أقراء، فهي أكثر من ثلاثة، وقد يقال لرجلين: رجال، وليومين: أيام، قال الله عز وجل:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} الآية [النساء: 11]، وأكثر أهل العلم يحجبون الأم عن الثلث بأخوين. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: عما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحيض للجارية البكر ثلاثة أيام ولياليهنّ، وأكثره خمسة عشر يومًا"، هل هو صحيح؟، وما تأويله على مذهب الشافعيّ، وأحمد؟.

فأجاب: أما نقلُ هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو باطلٌ، بل هو مكذوب موضوع باتّفاق علماء الحديث، ولكن هو مشهور عن أبي الخلد

(2)

، عن أنس، وقد تُكُلّم في أبي الخلد، وأما الذين يقولون: أكثر الحيض خمسة عشر كما يقوله الشافعي وأحمد، ويقولون: أقلّه يوم، كما يقوله الشافعيّ وأحمد، أو لا حدّ له، كما يقوله مالك، فهم يقولون: لم يثبُت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه في هذا شيء، والمرجع في ذلك إلى العادة كما قلنا، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلامه رحمه الله

(3)

.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "المحلى"(2/ 191):

أقل الحيض دَفْعَة، فإذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن

= (23016) حدثنا عليّ بن هاشم، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة، قالت: أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني استحضت، فقال:"دعي الصلاة أيام حيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي عند كل صلاة، وإن قَطَرَ على الحصير"، وهو حديث ضعيف بزيادة:"وإن قطر على الحصير"؛ لأن فيه حبيب بن أبي ثابت مدلّسٌ، وقد عنعنه، وخالف فيه غيره بهذه الزيادة.

(1)

"الأوسط" 2/ 227 - 230.

(2)

هكذا النسخة، ولعله مصحّف من الجلد بن أيوب، فليُحرّر، والله أعلم.

(3)

"الفتاوى الكبرى" 1/ 67.

ص: 333

الصلاة والصوم، وحَرُم وطؤها على بعلها وسيدها، فإن رأت أثر الدم الأحمر، أو كغُسالة اللحم، أو الصفرة، أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التامّ، فقد طهرت، وتغتسل، أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم، وتصلي وتصوم، ويأتيها بعلها أو سيدها، وهكذا أبدًا متى رأت الدم الأسود فهو حيض، ومتى رأت غيره فهو طهر، وتعتد بذلك من الطلاق، فإن تمادى الأسود فهو حيض إلى تمام سبعة عشر يومًا، فإن زاد ما قل أو كثر فليس حيضًا.

قال: برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصّ بأن دم الحيض أسود يُعرَف، وما عداه ليس حيضًا، ولم يخُصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك عدد أوقات من عدد، بل أوجب برؤيته أن لا تصلي ولا تصوم، وحَرَّم الله تعالى نكاحهن فيه، وأمر عليه السلام بالصلاة عند إدباره والصوم، وأباح تعالى الوطء عند الطهر منه، فلا يجوز تخصيص وقت دون وقت بذلك، وما دام يوجد الحيض فله حكمه الذي جعله الله تعالى له، حتى يأتي نصّ أو إجماع على أنه ليس حيضًا، ولا نص ولا إجماع في أقل من سبعة عشر يومًا، فما صحّ الإجماع فيه أنه ليس حيضًا وُقِف عنده، وانتقلت عن حكم الحائض، وما اختُلِف فيه فمردود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عليه السلام جعل للدم الأسود حكم الحيض، فهو حيض مانع مما ذكرنا، ولم يأت نصّ ولا إجماع على أن بعض الطهر المبيح للصلاة والصوم، لا يكون قرءًا في العدّة، فالمفرق بين ذلك مخطئ، متيقن الخطأ، قائلٌ ما لا قرآنٌ جاء به، ولا سنةٌ لا صحيحة ولا سقيمةٌ، ولا قياسٌ، ولا إجماع، بل القرآن والسنة كلاهما يوجب ما قلنا من امتناع الصلاة والصوم بالحيض، ووجودهما بعدم الحيض، ووجود الطهر، وكون الطهر بين الحيضتين قرءًا يحتسب به في العدّة، قال الله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. فمن حدّ في أيام القرء حدًّا فهو مبطل، وقافٍ ما لا علم له به، وما لم يأت به نصّ، ولا إجماع. ثم ذكر ابن حزم اختلاف العلماء في ذلك، وأدلّتها، وناقشها بما لا تراه في كتابه، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأقوال، وأدلتها أنّ مرجع

(1)

"المحلّى" 2/ 191 - 192.

ص: 334

أقل الحيض، وأكثره هو العرف، فلا حدّ لأقلّه، ولا لأكثره؛ لعدم ورود نصّ قاطع، ولا إجماع على ذلك، فما حصل من المرأة بصفة الحيض في أوقاته المعلومة، فهو حيض قلّ أو كثُر إلى أن تطهر، فإن تمادى بها فلا يتجاوز سبعة عشر يومًا؛ لأن ذلك أقصى ما نُقل عن أهل العلم، ووقع عليه الإجماع، كما أشار إليه ابن حزم رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الرابعة): (اعلم): أنه قد علّق الشرع على الحيض أحكامًا:

(فمنها): أنه يَحرُم وطء الحائض في الفرج؛ لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].

(ومنها): أنه يمنع فعل الصلاة والصوم، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أليست إحداكُنّ إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي؟ "، رواه البخاريّ، وقالت حمنة رضي الله عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني أُستحاض حيضةً شديدةً منكرةً، وقد منعتني الصوم والصلاة

" الحديث، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة

"، الحديث.

(ومنها): أنه يُسقِط وجوب الصلاة دون الصيام؛ لِمَا رُوي أن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنتِ؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت:"كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، متفق عليه، إنما قالت لها عائشة ذلك؛ لأن الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة.

(ومنها): أنه يمنع قراءة القرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقرأ الحائض، ولا الجنب شيئًا من القرآن".

قال الجامع عفا الله عنه: لكن هذا الحديث ضعيف، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، وترجيح القول بجواز قراءتها القرآن - إن شاء الله تعالى -.

(ومنها): أنه يمنع اللبث في المسجد، والطواف بالبيت، لأنه في معنى الجنابة.

(ومنها): أنه يُحَرِّم الطلاق؛ لقول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

ص: 335

لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]، ولَمّا طَلَّق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته، وهي حائض، أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم برجعتها، وإمساكها حتى تطهر، متفقٌ عليه.

(ومنها): أنه يمنع صحة الطهارة؛ لأن حدثها مقيم.

(ومنها): أنه يوجب الغسل عند انقطاعه؛ لقوله عليه السلام: "امكُثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، وصلّي"، متفق عليه.

(ومنها): أنه عَلَمٌ على البلوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَقْبَل الله صلاة حائض إلا بخمار".

(ومنها): أنه لا تنقضي العدة في حقّ المطلقة وأشباهها إلا به؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة: 228]، وأكثر هذه الأحكام مجمع عليها بين علماء الأمة، وإذا ثبت هذا فالحاجة داعية إلى معرفة الحيض لِيُعْلَم ما يتعلق به من الأحكام.

قال أحمد رحمه الله: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة، وأم حبيبة، وحمنة رضي الله عنهن، وفي رواية: حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

[فائدتان]:

(الأولى): ذكر الجاحظ في "كتاب الحيوان" أن الذي يحيض من الحيوانات أربعة: الآدميات، والأرنب، والضبع، والخفّاش، وزاد غيره أربعة أخرى، وهي الناقة، والكلبة، والوزغة، والْحِجْرُ، أي الأنثى من الخيل، وجعلها بعضهم عشرةً، ونظمها، بقوله [من الكامل]:

الْحَيْضُ يَأْتِي للنِّسَاءِ وَتِسْعَةٍ

وَهِيَ النِّيَاقُ وَضَبْعُهَا وَالأَرْنَبُ

وَالْوَزْغُ وَالْخُفَّاشُ حِجْرٌ

(2)

كَلْبَةٌ

وَالْعِرْسُ وَالْحَيَّاتُ مِنْهَا تُحْسَبُ

وَالْبَعْضُ زَادَ سُمَيْكَةً رَعَّاشَةً

فَاحْفَظْ فَفِي حِفْظِ النَّظَائِرِ يُرْغَبُ

وزاد بعضهم على ذلك بنات وردان، والقردة، وزاد المناويّ الحدأة.

(1)

راجع لهذه الفوائد: "المغني" لابن قُدامة 1/ 313 - 319.

(2)

بكسر الحاء، وسكون الجيم وراء، ولا تلحقها التاء: الأنثى من الخيل. انتهى. "تحفة الحبيب" 1/ 340.

ص: 336

والحيض المنسوب إلى هذه الحيوانات بمعنى السيلان

(1)

.

(الثانية): قيل: للحيض عشرة أسماء: حيضٌ، وطَمْثٌ - بالمثلّثة - وضَحِك، وإكبارٌ، وإعصارٌ، ودِرَاس، وعِرَاك - بالعين المهملة - وفِرَاك - بالفاء - وطَمْس - بالسين المهملة - ونفاس، وأوصلها بعضهم إلى خمسة عشر اسمًا، ونظمها بقوله [من البسيط]:

لِلْحَيْضِ عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ وَخَمْسَتُهَا

حَيْضٌ مَحِيضٌ مَحَاضٌ طَمْثُ إِكْبَارُ

طَمْسٌ عِرَاكٌ فِرَاكٌ مَعْ أَذًى ضَحِكٌ

دَرْسٌ دِرَاسٌ نِفَاسٌ قُرْءٌ اعْصَارُ

(2)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) - (بَابُ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فَوْقَ الإِزَارِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[685]

(293) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ

(3)

إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الحافظ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) الْحَرَشيّ أبو معاوية النسائيّ، ثم البغداديّ الحافظ تقدّم قبل بابين.

(1)

راجع: "حاشية الطحطاويّ على مراقي الفلاح" ص 139، مع "تحفة الحبيب" 1/ 340.

(2)

راجع: "تحفة الحبيب حاشية إقناع الخطيب" 1/ 340 - 341.

(3)

وفي نسخة: "كانت".

ص: 337

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويهْ الإمام الحافظ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، ثم الرازيّ، تقدّم قبل بابين.

5 -

(مَنْصُور) بن المعتمر الكوفي الحافظ، تقدّم قبل باب.

6 -

(إِبْرَاهِيم) بن يزيد النخعيّ الكوفي الفقيه، تقدّم قبل باب.

7 -

(الْأَسْوَدُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ تقدّم قبل باب أيضًا.

8 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): فيه قوله: "قال إسحاق أخبرنا إلخ"، ومعنى ذلك أن شيوخه اختلفوا في كيفيّة التحمّل، فأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير رويا الحديث عن جرير سماعًا من لفظه، ولذا قالا: حدّثنا جرير، وأما إسحاق فسمع قراءة قارئ يقرأ على جرير، ولذا قال: أخبرنا جرير، فقوله:"جرير" مرفوع على الفاعليّة، تنازعه كلّ من "أخبرنا"، و"حدّثنا"، كما مرّ نظيره غير مرّة، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيوخه الثلاثة، فأبو بكر، وزهير ما أخرج لهما الترمذيّ، وإسحاق ما أخرج له ابن ماجه.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير زهير، فنسائيّ، نزيل بغداد، وإسحاق مروزيّ، وعائشة رضي الله عنها مدنيّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، على قول من عدّ منصورًا من صغار التابعين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ إِحْدَانَا)، أي إحدى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في الأصول في الرواية في الكتاب: "عن عائشة:

ص: 338

كان إحدانا" من غير تاء في "كان"، وهو صحيحٌ، فقد حَكَى سيبويه في كتابه في "باب ما جَرَى من الأسماء التي هي من الأفعال، وما أشبهها من الصفات مَجْرَى الفعل"، قال: وقال بعض العرب: قال امرأةٌ، فقد نَقَلَ إمام هذه الصنعة أنه يجوز حذف التاء من فِعْلِ ما له فرج من غير فصل، وقد نَقَلَه أيضًا الإمام أبو الحسين بن خَرُوف في "شرح الْجُمَل"، وذكره آخرون، ويجوز أن تكون "كان" هنا التي للشأن والقصة، أي كان الأمر، أو الحال، ثم ابتَدَأَت، فقالت: إحدانا إذا كانت حائضًا أَمَرَها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وإلى هذه اللغة أشار ابن مالك: في "الخلاصة" حيث قال:

وَالْحَذْفُ قَدْ يَأْتِي بِلَا فَصْلٍ وَمَعْ

ضَمِيرِ ذِي الْمَجَازِ فِي شِعْرٍ وَقَعْ

(إِذَا كَانَتْ حَائِضًا) تقدّم أن "حائضًا" بلا تاء هو اللغة الفصحى؛ وذلك لكونه وصفًا خاصًّا بالنساء، فلا حاجة إلى إدخال التاء، وجاء أيضًا "حائضة" بتاء بناءً له على حاضت، وجمع الحائض: حُيَّض، مثل راكع ورُكَّع، وجمع الحائضة: حائضات، مثلُ قائمة وقائمات

(2)

. (أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حذف مفعوله، أي بالائتزار، ولفظ البخاريّ:"أمرها أن تتّزر"(فَتَأْتَزِرُ) بهمزة ساكنة، مضارع ائتزر، قال القرطبيّ رحمه الله: الائتزار: شدّ الإزار على الوسط إلى الركبة، وقال ابن القصّار: من السرّة إلى الركبة، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مبالغة في التحرّز من النجاسة، وإلا فالحماية تحصُل بخرقة تحتشي بها. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قوله: "فتَأْتَزر" بالهمزة هكذا رواية المصنف، وهي اللغة الفصحى، وفي رواية البخاريّ:"فتتّزر"، بتشديد التاء الثانية، وأصله تأتزر، بوزن تفتعل، وأنكر أكثر النحاة الإدغام فيه، حتى قال صاحب "المفصّل": إنه خطأٌ، لكن نقل غيره أنه مذهب الكوفيين

(4)

، وحكاه الصغانيّ في "مجمع البحرين"، وقال ابن مالك

(5)

: إنه مقصور على السماع، ومنه قراءة ابن

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 203.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 159.

(3)

"المفهم" 1/ 555.

(4)

وعزاه الخضريّ في: "حاشيته" إلى النحاة البغداديين، راجعه 2/ 321.

(5)

راجع: "شواهد التوضيح" ص 182 - 183.

ص: 339

محيصن: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} الآية [البقرة: 283] بالتشديد، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال العينيّ رحمه الله عند شرح قولها "فأتَّزِر" ما نصّه: بفتح الهمزة، وتشديد التاء المثناة من فوقُ وأصله ائتزر بالهمزتين، أولاهما مفتوحة، والثانية ساكنة؛ لأن أصله من أَزَرَ، فنُقل إلى باب افتعل، فصار ائتزر يَأْتَزِرُ، وكذا استُعمِل من غير إدغام في حديث آخر، وهو:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يباشر بعض نسائه، وهي مؤتزرة في حالة الحيض"، وقال ابن الأثير: وقد جاء في بعض الروايات: وهي مُتَّزِرة، وهو خطأ؛ لأن الهمزة لا تُدْغَم في التاء.

قال العينيّ: فعلى هذا ينبغي أن يقرأ فآتَزِر بالمد؛ لأن الهمزتين إذا اجتمعتا، وكانت الأولى متحركة، والثانية ساكنة، أُبدلت الثانية حرف علة من جنس حركة الأولى، فتبدل ألفًا بعد الفتحة، فكذلك ها هنا؛ لأن أصله أَأْتَزِر، بهمزتين الأولى متحركة، والثانية ساكنة، فأُبدلت الثانية ألفًا، فصار آتزر بالمد.

وقال ابن هشام: وعوامّ المحدثين يُحَرِّفونه، فيقرؤونه بألف وتاء مشددة، ولا وجه له؛ لأنه افتَعَل من الإزار، ففاؤه همزة ساكنة، بعد همزة المضارعة المفتوحة، وكذا الزمخشري أنكر الإدغام.

وقال الكرمانيّ: فإن قلت: لا يجوز الإدغام فيه عند التصريف، قال صاحب "المفصل": قول من قال: "اتَّزر" خطأ.

قلت: قول عائشة، وهي من فصحاء العرب حجة في جوازه، فالْمُخَطِّئ مخطئٌ.

قال العينيّ: إنما يصح ما ادعاه إذا ثبت عن عائشة أنها قالت بالإدغام، فلم لا يجوز أن يكون هذا خطأً مثل ما قال معظم أئمة هذا الشأن، ويكون الخطأ من بعض الرواة، أو من عوامّ المحدثين، لا من عائشة رضي الله تعالى عنها؟. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار ابن مالك رحمه الله إلى أن الإدغام المذكور شاذّ في "الخلاصة" بقوله:

ذُو اللِّينِ فَاتَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا

وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ "ائْتَكَلَا"

(1)

"الفتح" 1/ 481.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 394.

ص: 340

(بِإِزَارٍ) بكسر الهمزة، هو ثوب يُحيط بالنصف الأسفل من البدن، يُذكّر، ويؤنّث

(1)

.

وقال في "المصباح": الإزار معروفٌ، والجمع في القلّة آزرة، وفي الكثرة أُزُرٌ بضمّتين، مثل حِمَار وحُمُر، ويُذكّر ويؤنّث، فيقال: هو الإزار، وهي الإزار، وربّما أُنّث بالهاء، فقيل: إزارة. انتهى باختصار

(2)

.

(ثُمَّ يُبَاشِرُهَا) من المباشرة التي هي أن يمسّ الجلد الجلدَ، أي يمسّ بشرته بشرتها، وليس المراد به الجماع؛ لأن جماع الحائض حرام

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم يباشرها": أي تلتقي بشرتاهما، والبَشَرة: ظاهر الجلد، والأدمة باطنه، ويعني بذلك الاستمتاع بما فوق الإزار، والمضاجعة، كما قال صلى الله عليه وسلم للذي سأله عما يحلّ من امرأته الحائض، فقال:"لتشدّ عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها"

(4)

، وهذا مبالغة في الحماية، وأما المحرَّم لنفسه فهو الفرج، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، من السلف وغيرهم. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[1/ 685 و 686](293)، و (البخاريّ) في "الحيض"(300 و 302)، و (أبو داود) في "الطهارة"(268)،

(1)

راجع: "المعجم الأوسط" 1/ 16.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 13.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 397.

(4)

هذا مرسل أخرجه في: "الموطّأ"، فقال:

(114)

حدثني يحيى، عن مالك، عن زيد بن أسلم، أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يَحِلّ لي من امرأتي، وهي حائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لتشُدّ عليها إزارها، ثم شأنك باعلاها".

(5)

"المفهم" 1/ 555 - 556.

ص: 341

و (الترمذيّ) فيه (132)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 151 و 189)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(635 و 636)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1375)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1237)(1/ 62)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 254)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 55 و 134 و 170 و 174 و 182 و 187 و 189 و 206 و 209)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 242 و 244)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(106)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1364)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 172)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 310 و 312 و 314)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(317)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(891 و 892 و 893 و 894)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(676 و 677)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان جواز مباشرة الحائض، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أمر الرجل زوجته الحائض أن تتّزر، فإذا اتّزرت جاز له مباشرتها.

3 -

(ومنها): الأخذ بالأحوط خشية الوقوع في الحرام.

4 -

(ومنها): بيان أن المباشرة تكون فوق الإزار، لا تحته، وفيه خلاف سيأتي ترجيح الجواز في المسألة التالية أيضًا - إن شاء الله تعالى -.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ضبط النفس، وقوّة الإرادة، حيث لا تغلبه شهوته.

6 -

(ومنها): جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد، إذا ائتزرت.

7 -

(ومنها): أنه أبدى في "الفتح" وجهًا مفرّقًا بين ابتداء الحيض وما بعده؛ لظاهر التقييد بقولها: "فور حيضتها"، قال: ويؤيّده ما رواه ابن ماجه

(1)

المراد فوائد حديث عائشة رضي الله عنها بطرقه وألفاظه المختلفة، لا خصوص السياق المشروح الآن، فتنبّه.

ص: 342

بإسناد حسن، عن أم سلمة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتّقي سَوْرة الدم ثلاثًا، ثم يباشر بعد ذلك"

(1)

، ويُجمع بينه وبين الأحاديث الدالّة على المبادرة إلى المباشرة على اختلاف هاتين الحالتين. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): أن عرق الحائض طاهر؛ لأن الاضطجاع معها في لحاف واحد لا يخلو غالبًا من إصابة العرق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم مباشرة الحائض:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر المرأة من نسائه، وهي حائض، قال: ورَوَينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال فيما يحل للرجل من امرأته حائضًا: ما فوق الإزار، لا يَطَّلعَنّ إلى ما تحته حتى تطهر، وقالت عائشة رضي الله عنها: تَشُدّ إزارها على أسفلها، ثم يباشرها، وبمثل هذا المعنى قال سعيد بن المسيِّب، وشُريح، وعطاء، وطاوس، وسليمان بن يسار، وقتادة، وكان مالك بن أنس يقول: تشدّ إزارها، ثم شأنه بأعلاها، وكان الشافعيّ يقول: دَلَّت السنة على اعتزال ما تحت الإزار، وإباحة ما فوقه.

ورَخَّصَ أحمد، وإسحاق، وأبو ثور في مباشرتها، ورَوَينا عن عليّ، وابن عباس رضي الله عنهم قالا: ما فوق الإزار، وعن أم سلمة، أنها أباحت مضاجعة الحائض، إذا كان على فرجها خِرْقة.

ورَخَّصت طائفة لزوج الحائض إتيانها دون الفرج، ورَوَينا هذا القول عن عكرمة، والشعبيّ، وعطاء، وقال الحكم: لا بأس أن يَضَعَه على الفرج، ولا يُدْخِله، وقال الحسن: له أن يَلْعَب على بطنها، وبين فخذيها، وقال سفيان الثوريّ: لا بأس أن يباشرها زوجها إذا أنقَى

(3)

موضع الدم، وقال أحمد: ما

(1)

هذا الحديث عزاه في: "الفتح" إلى ابن ماجه، لكني لم أجده فيه، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 1/ 482.

(3)

هكذا نسخة "الأوسط"، ولعل الصواب:"إذا اتّقى"، والله أعلم.

ص: 343

دون الجماع، وقال إسحاق: لو جامعها دون الفرج، فأنزل لم يكن به بأس، وقال النخعيّ: إن أم عمران لتعلم أني أطعن بين أَلْيتها

(1)

، وهي حائض.

قال ابن المنذر رحمه الله: الأعلى، والأفضل اتباع السنة، واستعمالها، ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَر عائشة رضي الله عنها أن تتزر، ثم يباشرها، وهي حائض، ولا يَحرُم عندي أن يأتيها دون الفرج، إذا اتّقى موضع الأذى، والفرجُ بالكتاب، وبإتفاق أهل العلم مُحَرَّم في حال الحيض، وسائرُ البدن إذا اختلفوا فيه على الإباحة التي كانت قبل أن تحيض، وغير جائز تحريم غير الفرج، إلا بحجة، ولا حجة مع مَن مَنَعَ ذلك، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} إلى قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فقال غير واحد من العلماء: من حيث أمركم الله: أن يعتزلوهن في حال الحيض، والمباح منها بعد أن تطهر هو الممنوع منها قبل الطهارة، والفرج مُحَرَّم في حال الحيض بالكتاب، والإجماع، وسائرُ البدن على الإباحة التي كانت قبل الحيض. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وقال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن مباشرة الحائض أقسام:

[أحدها]: أن يباشرها بالجماع في الفرج، فهذا حرام بإجماع المسلمين، بنصّ القرآن العزيز، والسنة الصحيحة، قال أصحابنا: ولو اعتَقَد مسلم حِلَّ جماع الحائض في فرجها، صار كافرًا مرتدًّا، ولو فعله إنسان غير معتقد حِلَّه، فإن كان ناسيًا، أو جاهلًا بوجود الحيض، أو جاهلًا بتحريمه، أو مُكْرَهًا، فلا إثم عليه، ولا كفارة، وإن وَطِئها عامدًا عالِمًا بالحيض والتحريم مختارًا، فقد ارتَكَب معصية كبيرةً، نَصّ الشافعي على أنها كبيرة، وتجب عليه التوبة، وفي وجوب الكفارة قولان للشافعيّ، أصحهما وهو الجديد، وقول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين، وجماهير السلف أنه لا كفارة عليه، وممن ذهب إليه من السلف: عطاءٌ، وابن أبي مليكة، والشعبيّ، والنخعيّ،

(1)

هكذا نسخة "الأوسط"، ولعله "بين أَلْيتيها" بالتثنية، وهي بفتح الهمزة، ولا تُكسر، كما قاله في:"القاموس" وغيره، والله تعالى أعلم.

(2)

"الأوسط" 2/ 205 - 208.

ص: 344

ومكحول، والزهريّ، وأبو الزناد، وربيعة، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختيانيّ، وسفيان الثوريّ، والليث بن سعد - رحمهم الله تعالى أجمعين -.

والقول الثاني، وهو القديم الضعيف أنه تجب عليه الكفارة، وهو مرويّ عن ابن عباس، والحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، وقتادة، والأوزاعيّ، وإسحاق، وأحمد في الرواية الثانية عنه.

واختَلَف هؤلاء في الكفارة، فقال الحسن، وسعيد: عِتْقُ رقبة، وقال الباقون: دينار، أو نصف دينار، على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار، ونصف الدينار، هل الدينار في أول الدم، ونصفه في آخره، أو الدينار في زمن الدم، ونصفه بعد انقطاعه؟ وتعلقوا بحديث ابن عباس المرفوع:"مَن أتى امرأته، وهي حائض، فليتصدق بدينار، أو نصف دينار"، وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، فالصواب ألّا كفّارة، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "حديث ضعيف باتّفاق الحفّاظ" غير صحيح، فقد صححه جمع من الأئمة، وهو الذي يظهر لي، فممن صحّحه الحاكم، والذهبيّ، وابن القطّان الفاسيّ، وابن دقيق العيد، وابن حجر، ومن المتأخرين الشوكاني، وأحمد شاكر، والألبانيّ، قال الحافظ رحمه الله ما حاصله: الصواب تصحيحه، فكم من حديث قد احتجّوا به، فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا الحديث، كحديث بئر بضاعة، وحديث القلّتين، ونحوهما، وفي ذلك ما يَرُدّ على النوويّ دعواه أنه ضعيف باتفاق الأئمة، وتبعه في ذلك ابن الصلاح. انتهى

(1)

.

وقد حقق الكلام فيه العلامة أحمد شاكر: فيما كتبه على الترمذيّ تحقيقًا بالغًا، فارجع إليه، تجد علمًا جمًّا

(2)

.

والحاصل أن الحديث صحيح، وهو حجة لمن أوجب التصدّق بدينار، أو نصف دينار، وأن الراجح أن "أو" للتخيير، فيكون من الواجب المخيّر بين أن يعطي دينارًا، أو نصف دينار، وقد حقّقت البحث في هذا في شرح

(1)

راجع: "التلخيص الحبير" 1/ 166.

(2)

راجع: تعليقه على الترمذيّ 1/ 245 - 254.

ص: 345

النسائيّ، فراجعه تستفد علمًا

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

[القسم الثاني]: المباشرة فيما فوق السرة، وتحت الركبة بالذَّكَر، أو بالقبلة، أو المعانقة، أو اللمس، أو غير ذلك، وهو حلال، باتفاق العلماء، وقد نَقَل الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وجماعة كثيرة الإجماع على هذا، وأما ما حُكِي عن عَبِيدة السلمانيّ وغيره، من أنه لا يباشر شيئًا منها بشي منه، فشاذٌّ منكر، غير معروف، ولا مقبول، ولو صَحّ عنه لكان مردودًا بالأحاديث الصحيحة المشهورة المذكورة في "الصحيحين" وغيرهما في مباشرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فوَق الإزار، وإذنه في ذلك، بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده.

ثم إنه لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به شيء من الدم، أو لا يكون، هذا هو الصواب المشهور الذي قطع به جماهير أصحابنا وغيرهم من العلماء؛ للأحاديث المطلقة، وحَكَى المحاملي من أصحابنا وجهًا لبعض أصحابنا أنه يَحرُم مباشرة ما فوق السرة وتحت الركبة، إذا كان عليه شيء من دم الحيض، وهذا الوجه باطلٌ لا شكّ في بطلانه، والله تعالى أعلم.

[القسم الثالث]: المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر، وفيها ثلاثة أوجه لأصحابنا:

أصحها عند جماهيرهم وأشهرها في المذهب أنها حرام.

والثاني أنها ليست بحرام، ولكنها مكروهة كراهة تنزيه، وهذا الوجه أقوى من حيث الدليل، وهو المختار.

والوجه الثالث إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، ويَثِقُ من نفسه باجتنابه، إما لضعف شهوته، وإما لشدة ورعه جاز، وإلا فلا، وهذا الوجه حسن، قاله أبو العباس البصريّ من أصحابنا.

وممن ذهب إلى الوجه الأول، وهو التحريم مطلقًا: مالك، وأبو حنيفة، وهو قول أكثر العلماء، منهم سعيد بن المسيب، وشريحٌ، وطاوس، وعطاء، وسليمان بن يسار، وقتادة.

وممن ذهب إلى الجواز عكرمة، ومجاهد، والشعبيّ، والنخعيّ،

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 5/ 30 - 34.

ص: 346

والحكم، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن الحسن، وأصبغ، وإسحاق ابن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود، وقد قدمنا أن هذا المذهب أقوى دليلًا، واحتجوا بحديث أنس الآتي:"اصنَعُوا كل شيء إلا النكاح"، قالوا: وأما اقتصار النبيّ صلى الله عليه وسلم في مباشرته على ما فوق الإزار، فمحمول على الاستحباب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان أقوال أهل العلم، وأدلّتهم، أن الأرجح هو مذهب القائلين بجواز مباشرة الحائض مطلقًا فوق الإزار وتحته إلا الفرج؛ لقوّة حجته، كما أشار إليه ابن المنذر رحمه الله في كلامه السابق، وصرّح به النوويّ رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، ولكن الأولى أن يكون فوق الإزار اتّباعًا للسنة.

والحاصل أن الاستمتاع بالحائض جائز غير الجماع في الفرج، كما نصّ عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"اصنَعُوا كلّ شيء إلا النكاح"، أي الجماع في الفرج، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في ذكر اختلاف أهل العلم في وطء الرجل زوجته بعد أن تطهر قبل الاغتسال:

قال ابن المنذر رحمه الله: اختَلَفُوا في وطء الرجل زوجته بعد انقطاع دمها قبل أن تغتسل، فمنعت من ذلك طائفة، وممن منع منه، أو كَرِه سالمُ بن عبد الله، وسليمان بن يسار، والزهريّ، وربيعة، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وقالت فرقة: إذا أدرك الزوج الشَّبَقُ

(2)

أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها إن شاء، رُوي هذا القولُ عن عطاء، وطاوس، ومجاهد.

واحتج بعض من نَهَى عن ذلك بظاهر الكتاب، وهو قول الله:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية [البقرة: 222]، وبمنع الجميع الزوج وطأها في حال

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 205.

(2)

"الشَّبَقُ - بفتحتين -: شدّة الغُلْمة، وطلب النكاح". اهـ. "لسان العرب" 12/ 37.

و"الغُلْمة" بضم الغين، وضبطها بعضهم بكسرها: شدّة شهوة الضراب.

ص: 347

الحيض، فلما اختلفوا بعد إجماعهم من منع وطئها في حال الحيض، وجب أن يكون التحريم قائمًا حتى يتفقوا على الإباحة، ولم يتفقوا قط إلا بعد أن تطهر بالماء، في حال وجود الماء.

قال ابن المنذر: فأما ما رُوي عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، فقد رَوَينا عن عطاء، ومجاهد خلافَ هذا القول، ثبت عن عطاء أنه سئل عن الحائض أنها تَرَى الطهر، ولم تغتسل أتحل لزوجها؟ فقال: لا حتى تغتسل، ثم أخرج عن ابن جريج، عن عطاء، وعن مجاهد، أنهما قالا: لا يأتيها حتى تحلّ لها الصلاة.

قال: فهذا ثابت عنهما، والذي رَوَى عن طاوس، وعطاء، ومجاهد الرخصةَ ليثُ بن أبي سليم، وليث ممن لا يجوز أن يقابل به ابن جريج، ولو لم يخالفه ابن جريج لم تثبت رواية ليث بن أبي سليم، وإذا بطلت الروايات التي رُوِيت عن عطاء، وطاوس، ومجاهد كان المنع من وطء مَن قد طَهُرت من المحيض، ولم تتطهّر بالماء كالإجماع من أهل العلم، إلا ما قد ذكرناه من منع ذلك، ولا نجد أحدًا ممن يُعَدّ قوله خلافًا قابلهم إلا بعض من أدركنا من أهل زماننا، ممن لا

(1)

أن يقابَلُ عوام أهل العلم به

(2)

.

واحتجّ بعض من أدركنا ممن يخالف ما عليه عوام أهل العلم، فقال: نَهَى الله تبارك وتعالى عن وطء الحائض، وأباح وطأ الطاهر بقوله:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية [البقرة: 222]، وأجمعوا أن للزوج وطأ زوجته الطاهر، ولو كانت إذا انقطع دمها إنما تطهر باغتسالها وجب ما لم يكن الغسل منها أنها حائض، وليس على الحائض عند الجميع غسل، والحيض معنًى، والطهر

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه سقط منه شيء، والأصل:"ممن لا يصلح" إلخ، أو نحو ذلك، والله أعلم.

(2)

هذا الذي عزاه ابن المنذر إلى بعض من أدركه هو مذهب الحنفيّة، فإنهم يقولون: إذا انقطع الدم لأكثر الحيض يجوز أن يطأها الزوج قبل أن تغتسل، وأما إن انقطع لأقله، فلا إلا أن تغتسل، أو تتيمّم وتصلي، أو تكون الصلاة دينًا في ذمتها، بأن فاتتها، راجع:"حاشية الطحطاوي" ص 146 - 147.

ص: 348

ضدّه، ولما حظر الله تبارك اسمه وطأ الحائض، وأباح وطأ الطاهر، ولزم الحائض الاسم لطهور

(1)

الدم، وجب أنها طاهر؛ لانقطاعه وطهور النقاء.

وقال آخر: حَرَّم الله عز وجل وطأ الحائض حتى تطهر بقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية، قال: وكان وطؤها إذا طهرت من الحيض قبل أن تطهر بالماء مباحًا؛ لأن النهي لما لم يقع في هذه الحال كان داخلًا في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: "وما سكت عنه فهو معفو عنه".

وقال آخر: وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فإذا يَطْهُرن يَحْتَمِل غسلهنّ فروجهنّ، ويَحْتَمِل اغتسلن.

قال ابن المنذر رحمه الله: والذي أقول به ما عليه جُلُّ أهل العلم، أن لا يطأ الرجل زوجته إذا طهرت من المحيض، حتى تطهر بالماء. انتهى كلامه رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[686]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ (ح)، وحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا

(3)

عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا

(4)

أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْأَسْوَد، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كَانَ إِحْدَانَا، إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا - قَالَتْ -: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

(1)

هكذا النسخة بالطاء في الموضعين، ولعله بالظاء، فليُحرّر.

(2)

"الأوسط" 2/ 213 - 215.

(3)

وفي نسخة: "قال: أخبرنا".

(4)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 349

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعد ما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ الْأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو حفص، ويقال: أبو بكر الفقيه الكوفيّ، ثقةٌ [3].

أدرك عمر، وروى عن أبيه، وعم أبيه علقمة بن قيس، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعيّ، وأبو إسحاق الشيبانيّ، ومالك بن مِغْوَل، والأعمش، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ، والعجليّ، وابن خِرَاش: ثقة، وزاد ابن خِرَاش: من خيار الناس، وقال محمد بن إسحاق: قَدِمَ علينا عبد الرحمن بن الأسود حاجًّا، فاعتَلَّت إحدى قدميه، فقام يصلي حتى أصبح على قدم، فصلى الفجر بوضوء العشاء

(1)

، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال خليفة: مات قبل المائة، وقال في موضع آخر: مات في آخر خلافة سليمان، وقال ابن حبّان: مات سنة تسع وتسعين ومائة، وكذا جزم به ابن قانع، وقال أبو حاتم: أُدْخِل على عائشة، وهو صغير، ولم يسمع منها، وقال ابن حبان: كان سنه سنّ إبراهيم النخعيّ.

قال الحافظ: فعلى هذا كيف يدرك عمر؟.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (293) و (572) و (835) و (1190)، وأعاده بعده، و (2193).

(1)

يكثر مثل هذا في تراجم كثير من العبّاد، فيقال: فلان صلّى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنةً، أو نحوها، والحقّ أن مثل هذا ليس مما يُمدَح به الإنسان؛ لأنه خلاف هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الصبح بوضوء العشاء، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، فتأمل بعين الإنصاف، فإن اتّباع السنة خير لا يعدله شيء مما يظنّه الظانّ أنه خير، وقد تقدّم بيان هذا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 350

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

[تنبيه]: هذا الحديث رواه أبو إسحاق الشيبانيّ من حديث عائشة، ومن حديث ميمونة رضي الله عنهما.

فأما حديث عائشة رضي الله عنهما، فأخرجه الشيخان من رواية عليّ بن مسهر، عن الشيبانيّ بسند المصنّف، وقال البخاريّ بعده: تابعه خالد، وجرير، عن الشيبانيّ.

قال في "الفتح": قوله: "تابعه خالد" هو ابن عبد الله الطحّان الواسطيّ، وجرير، هو ابن عبد الحميد، أي تابعا عليّ بن مسهر في رواية هذا الحديث، عن أبي إسحاق الشيبانيّ بهذا الإسناد، وللشيباني فيه إسناد آخر كما سيأتي عقبه.

ومتابعة خالد وصلها أبو القاسم التنوخيّ في "فوائده" من طريق وهب بن بقية عنه.

ومتابعة جرير وصلها أبو داود، والإسماعيليّ، والحاكم في "المستدرك"، وهذا مما وَهِمَ في استدراكه؛ لكونه مُخَرَّجًا في "الصحيحين" من طريق الشيبانيّ.

ورواه أيضًا عن الشيبانيّ، عن عبد الرحمن بن الأسود، بسنده هذا منصور بن أبي الأسود، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"

(1)

.

وأما حديث ميمونة رضي الله عنها، فأخرجه الشيخان أيضًا، أخرجه البخاريّ من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ، والمصنّف من طريق خالد بن عبد الله الطحّان، عن الشيبانيّ، عن عبد الله بن شدّاد، عنها.

ثم قال البخاريّ رحمه الله: ورواه سفيان، عن الشيبانيّ.

قال في "الفتح": قوله: "رواه سفيان"، يعني الثوريّ "عن الشيبانيّ"، يعني بسند عبد الواحد، وهو عند الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، نحوه، وقد رواه عن الشيبانيّ أيضًا بهذا الإسناد خالد بن عبد الله، عند مسلم - يعني الحديث التالي - وجرير بن عبد الحميد، عند الإسماعيلي،

(1)

"الفتح" 1/ 482.

ص: 351

وذلك مما يَدْفَع عنه توهّم الاضطراب، وكأن الشيبانيّ كان يُحَدّث به تارةً من مسند عائشة، وتارة من مسند ميمونة، فسمعه منه جرير، وخالد بالإسنادين، وسمعه غيرهما بأحدهما.

ورواه عنه أيضًا بإسناد ميمونة حفص بن غياث، عند أبي داود، وأبو معاوية، عند الإسماعيليّ، وأسباط بن محمد، عند أبي عوانة في "صحيحه".

انتهى ملخّص ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثُ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقولها: (أَنْ تَأتَزِرَ) معناه: أن تَشُدَّ إزارًا تستر سرتها وما تحتها إلى الركبة فما تحتها.

وقولها: (فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا) هو بفتح الفاء، وإسكان الواو، معناه: مُعْظَمها، ووقتُ كثرتها. و"الحيضة" بفتح الحاء: أي الحيض.

وقال القاضي عياض رحمه الله: "في فَوْر حيضها" فَوْرُ الشيء جَأشُه، واندفاعه، وانتشاره، وفورُ الحيض معظم صبّه، ومنه فَوْرُ العين، وفورُ القِدْر: إذا جاشا، قال الله تعالى:{وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، ومنه في الحديث:"فإن شدّة الحرّ من فَوْر جهنّم"، رواه البخاريّ، وفي كتاب أبي داود:"في فَوْح حيضتنا"، وكذلك في البخاريّ:"من فوح جهنم"، و"فيح جهنّم"، والكلّ بمعنى واحد. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: فار الماءُ يفورُ فَوْرًا: نَبَعَ، وجَرَى، وفارت القِدْرُ فورًا وفَوَرَانًا: غَلَتْ، وقولهم في الشُّفْعة: على الْفَوْر من هذا، أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه، ثم استُعْمِل في الحالة التي لا بُطْءَ فيها، يقال: جاء فلانٌ في حاجته، ثم رجع من فَوْره، أي من حركته التي وصل فيها، ولم يسكن بعدها، وحقيقته أن يَصِلَ ما بعد المجيء بما قبله من غير لُبْث. انتهى

(3)

.

وقال أبو نعيم رحمه الله في "المستخرج": فَوْرُ الحيض: شِدّته، وأوّله. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 1/ 483.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 121.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 482 - 483،

(4)

"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 352.

ص: 352

وقولها: (وَأيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ إلخ) قال النوويّ (2) رحمه الله: أكثر الروايات فيه بكسر الهمزة، مع إسكان الراء، ومعناه: عُضْوُه الذي يستمتع به، أي الفرج، ورواه جماعة بفتح الهمزة والراء، ومعناه: حاجته، وهي شهوة الجماع، والمقصود: أملككم لنفسه، فيَأمَن مع هذه المباشرة الوقوعَ في المحرَّم، وهو مباشرة فرج الحائض، واختار الخطابيّ هذه الرواية، وأنكر الأولى، وعابها على المحدثين. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "وأيّكم يملك إربه" قيّدناه بكسر الهمزة، وإسكان الراء، وبفتح الهمزة وفتح الراء، وكلاهما له معنى صحيح، وإن كان الخطّابيّ أنكر الأول على المحدّثين، ووَجْهُ الأول أن الإِرْب: العضو، والآراب: الأعضاءُ، فكَنَت به عن شهوة الفرج؛ إذ هو عضوٌ من الأعضاء، وهذا تكلّفٌ، بل في "الصحاح" أن الإرب العضو، والدَّهاء، والحاجة أيضًا، وفيه لغات: إِرْبٌ، وإِرْبةٌ، وأَرَبٌ، ومَأرَبةٌ، ويقال: هو ذو أَرَبٍ، أي ذو عقل، فقولها:"يملك إربه" بالروايتين، تعني حاجته للنساء. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأَرَبُ بفتحتين، والإِرْبةُ بالكسر، والْمَأرُبَةُ بفتح الراء وضمّها: الحاجة، والجمع المآرب، والأَرَبُ في الأصل: مصدرٌ، من باب تَعِبَ، يقال: أَرِبَ الرجلُ إلى الشيء: إذا احتاج إليه، فهو آربٌ على فاعلٍ، والإِرْبُ بالكسر يُستَعْمَلُ في الحاجة، وفي العُضْو، والجمع آراب، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمَال، وفي الحديث:"وكان أملككم لإربه"، أي لنفسه عن الوقوع في الشهوات. انتهى

(3)

.

وقال أبو نعيم رحمه الله في "المستخرج": الإرب: الحاجة، وقال النضر: الإرب العقلُ، يعني: أيكم يصبر كما صبر عليه السلام؟. انتهى

(4)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النووي" 3/ 204.

(2)

"المفهم" 1/ 556.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 11.

(4)

"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 352.

ص: 353

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[687]

(294) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الإزَار، وَهُنَّ حُيَّضٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان المذكور في السند الماضي.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّاد) بن الهاد الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، كان يأتي الكوفة، وأمه سَلْمى بنت عُميس الخثعمية، أخت أسماء، ثقة فقيه [2].

رَوَى عن أبيه، وعمر، ويعلى، وطلحة، ومعاذ، والعباس، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وخالته أسماء بنت عميس، وغيرهم.

وروى عنه سعد بن إبراهيم، وأبو إسحاق الشيباني، ومعبد بن خالد، والحكم بن عتيبة، وذَرّ بن عبد الله الْمُرْهبي، ورِبْعِيّ بن حِرَاش، وغيرهم.

قال الميموني: سئل أحمد: أسمع عبد الله بن شداد من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا؟ قال: لا. وقال ابن المديني: شَهِد مع علي يوم النَّهْرَوان. وقال العجلي والخطيب: هو من كبار التابعين وثقاتهم. وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عثمانيًّا

(1)

ثقة في الحديث، تُوُفّي في ولاية الحجاج على العراق. وقال الواقدي: خرج مع القراء أيام ابن الأشعث على الحجاج، فقُتل يوم دُجَيل، وكان ثقة، فقيهًا، كثير الحديث، متشيعًا.

(1)

هكذا قال في: "تهذيب التهذيب"، وتعقّبه الحافظ في:"تهذيب التهذيب" بأن فيه نظرًا فإن يعقوب بن شيبة قال: وكان يتشيّع. انتهى.

ص: 354

قال ابن نُمير: قُتل بدُجيل سنة (81). وقال يحيى بن بُكير وغير واحد: فُقِد ليلة دُجيل سنة (82). وقال الثوري: فُقد ابن شدّاد، وابنُ أبي ليلى بالجماجم، وكذا قال العجلي، وزاد: اقتَحَمَ بهما فرساهما الماء فذهبا، وقال ابن حبان في "الثقات": غَرِقَ بدُجَيل، وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": وُلد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال يعقوب بن شيبة في "مسند عمر": كان يتشيع.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (294) و (513) وأعاده بعده، و (2195) وأعاده بعده، و (2411).

5 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث العامرية الهلالية، زوجُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، تزوجها سنة سبع، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن أختها عبد الله بن عباس، وابن أختها الأخرى عبد الله بن شداد بن الهاد، وابن أختها عبد الرحمن بن السائب الهلاليّ، وابن أختها الأخرى يزيد بن الأصم، وربيبها عبيد الله الخولانيّ، ومولاتها نَدَبَة، ومولاها عطاء بن يسار، ومولاها سليمان بن يسار، وإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، وكُريب مولى ابن عباس، وعُبيد بن السَّبّاق، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والعالية بنت سبيع، وغيرهم.

وقيل: كان اسمها بَرّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، وتُوُفِّيت بِسَرِف حيث بَنَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بين مكة والمدينة، وذلك سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وصَلَّى عليها عبد الله بن عباس.

قال الحافظ: والقول الأول هو الصحيح، وأما الأخيران فغَلَطٌ بلا ريب، فقد صَحَّ من حديث يزيد بن الأصم، قال: دخلت على عائشة بعد وفاة ميمونة، فقالت: كانت من أتقانا، وقال يعقوب بن سفيان: تُوُفِّيت سنة تسع وأربعين.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب (20) حديثًا.

وشرح الحديث يُعلم مما سبق.

وقولها: ("كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ إلخ)، ولفظ البخاريّ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأةً من نسائه، أمرها، فاتّزَرَت، وهي حائض".

ص: 355

وقولها: (وَهُنَّ حُيَّضٌ") بضمّ الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة: جمع حائض، كما قال في "الخلاصة":

وَفُعَّلٌ لَفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[1/ 687](294)، و (البخاريّ) فيه (303)، و (أبو داود) في "النكاح"(2167)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 254)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(895 و 896)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(678 و 679)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 311)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 244)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ الاضْطِجَاعِ مَعَ الْحَائِضِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[688]

(295) - (حَدَّثَني أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْطَجِعُ

(1)

مَعِي، وَأنا حَائِضٌ، وَبَيْني وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل بابين.

(1)

وفي نسخة: "ينضجع".

ص: 356

أيضًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ الفقيه المصريّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

4 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ، المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ، تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

5 -

(مَخْرَمَةُ) بن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوقٌ، روايته من أبيه وجادةٌ من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المدينيّ: سَمِع من أبيه قليلًا [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

6 -

(أَبُوهُ) هو: بكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

7 -

(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: كُريب بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع).

أدرك عثمان، وروى عن مولاه ابن عباس، وأمه أم الفضل، وأختها ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وأم سلمة، وأم هانئ بنت أبي طالب، وغيرهم، وأرسل عن الفضل بن عباس.

ورَوَى عنه ابناه: محمدٌ ورِشْدين، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهما من أقرانه، وشريك بن أبي نَمِر، ومحمد، وموسى، وإبراهيم، بنو عقبة، وحبيب بن أبي ثابت، وسالم بن أبي الجعد، ومكحول الشاميّ، وبكير، ويعقوب ابنا عبد الله بن الأشج، وسلمة بن كهيل، ومخرمة بن سليمان، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً، حسن الحديث، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: كريب أحبّ إليك عن ابن عباس، أو عكرمة؟ فقال: كلاهما ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة: وَضَعَ عندنا كريب حِمْلَ بعير من كتب ابن عباس، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 357

قال الواقديّ، وآخرون: مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.

8 -

(ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم) تقدّمت في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بين اثنين منهما، وسبب ذلك أن أبا الطاهر سمع الحديث عن ابن وهب بقراءة غيره عليه، ولذا قال: أخبرنا ابن وهب، وأما هارون، وأحمد، فسمعاه من لفظه، ولذا قالا: حدّثنا ابن وهب، وهذا هو إفراد المصنّف لشيخه الأول، وجمعه بين الأخيرين.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مخرمة، والباقون مصريّون.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: مخرمة، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بكير، عن كريب.

5 -

(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستّة من يُسمّى بكُريب غير مولى ابن عبّاس المذكور هنا، وهذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدّة ما له فيه من الأحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

- (عَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بكير بن عبد الله بن الأشجّ (عَنْ كُرَيْبٍ) بضم أوله مصغّرًا (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث رضي الله عنها (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو عطف بيان لـ "ميمونة"، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير "هو"، أو النصب بتقدير "أعني" (قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْطَجِعُ

(1)

مَعِي) هكذا النسخ "يَضطجع"، وذكر في هامش نسخة محمد ذهني التي اعتمدتّ عليها في هذا الشرح؛ لكونها أصحّ النسخ التي بين يديّ، ما نصّه: وفي نسخة معتمَدة "ينضجع" - أي بالنون بدل الطاء - قال ابن الأثير:

(1)

وفي نسخة: "ينضجع".

ص: 358

"انضجع" مطاوع أضجعه، نحو أزعجته فانزعج، وأطلقته فانطلق، وانفعل بابه الثلاثيّ، وإنما جاء في الرباعيّ قليلًا على إنابة أفعل مناب فَعَلَ. انتهى

(1)

.

(وَأنا حَائِضٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من ياء المتكلّم، وتقدّم أن حائض" بدون هاء؛ هو اللغة الفصحى، ويجوز بقلّة حائضة بالهاء، (وَبَيْني وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ) جملة في محلّ نصب على الحال أيضًا، إما على التداخل، أو الترادف.

قال القاضي عياض رحمه الله: قولها:، "وبيني وبينه ثوب"، هذا الثوب يرجع إلى الإزار في الحديث الآخر، وتكون المباشرة حقيقة لما فوق الإزار، ويجتنب ما تحت الإزار، وقال ابن الجهم، وابن القصّار: حدّه من السرّة إلى الركبة؛ لأنه موضع الإزار، ولأنه مفسّر في حديث آخر، وهذا مذهب عامّة أهل العلم في جواز الاستمتاع من الحائض بما فوق الإزار، ومضاجعتها ومباشرتها في مِئْزَر بمفهوم هذه الأحاديث، وبقوله في غير هذا الكتاب:"ثم لك ما فوق الإزار"

(2)

، وقوله:"ثم شأنك بأعلاها"

(3)

، وتعلّق بعض من شذّ بظاهر القرآن إلى اعتزال النساء في المحيض جملةً، وقد بيّنت السنّة هذا الاعتزال، وفسّرته بما تقدّم، وبقوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا:"اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح"، وقد يتعلّقون بظاهر حديث ميمونة رضي الله عنها، وقولها:"وبيني وبينه ثوبٌ"، ولكن قولها في الرواية الأخرى:"فوق الإزار" يفسّر أنه الثوب الذي عَنَته، وفي البخاريّ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأةً من نسائه أمرها، فاتّزرت، وهي حائض".

وذهب بعض السلف، وبعض أصحابنا - يعني المالكيّة - إلى أن الممنوع منها الفرج وحده، وأن غيره مما تحت الإزار حماية منه، مخافةَ ما يُصيبه، ورُوي عن عائشة معناه، وحَكَى ابن المرابط في "شرحه" إجماع السلف على

(1)

راجع: نسخة محمد ذهني 1/ 167، و"النهاية" لابن الأثير 3/ 74.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في:"سننه" 1/ 55.

(3)

مرسل صحيح، أخرجه في:"الموطّأ"، والدارميّ في:"سننه".

ص: 359

جواز ذلك، وقد يحتجّ باختصاصه الشّدّ بفور حيضها في الحديث المتقدّم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز النوم مع الحائض، والاضطجاع معها في لِحَاف واحد، إذا كان هناك حائل يمنع من ملاقاة البشرة فيما بين السرة والركبة، أو يمنع الفرج وحده عند من لا يُحَرِّم إلا الفرج

(2)

.

قال: قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها، وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها، وعَرَقها طاهران، وكل هذا متفقٌ عليه.

وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد بن جرير في كتابه في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله، ودلائلُهُ من السنة ظاهرة مشهورة.

واما قول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ فالمراد: اعتزلوا وطأهنّ، ولا تقربوا وطأهنّ. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[2/ 688](295)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(896)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(679)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(311)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 124 - 125.

(2)

قد تقدّم أن هذا القول الراجح.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 207.

ص: 360

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[689]

(296) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ زينَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ

(1)

حَدَثَتْهُ، أَن أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا، قَالَتْ: بَيْنَمَا أنا مُضْطَجِعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمِيلَة، إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أنَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَة، قَالَتْ: وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلَانِ فِي الإنَاءِ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَنَابَةِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَام) الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هو: هشام بن أبي عبد الله، واسمه سَنْبَر، بوزن جعفر، أبو بكر البصريّ الدّستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلس، ويرسل [5](ت 132)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر فقيهٌ [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" أيضًا جـ 2 ص 423.

6 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) هي: زينب بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمها أم

(1)

وفي نسخة: "بنت أبي سلمة".

ص: 361

سلمة، يقال: إنها وُلدت بأرض الحبشة

(1)

.

وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.

رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمها، وعائشة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، أمهات المؤمنين، وعن حبيبة.

ورَوَى عنها ابنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زَمْعة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وحميد بن نافع المدنيّ، وعِرَاك بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وكُليب بن وائل، وعلي بن الحسين بن عليّ، وأبو قِلابة الْجَرْميّ، وآخرون.

وذكرها العجليّ في ثقات التابعين، قال الحافظ: كأنه كان يشترط للصحبة البلوغ، وأظن أنها لم تحفظ، وذكرها ابن سعد فيمن لم يرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، ورَوَى عن أزواجه.

وقال ابن سعد: كانت أسماء بنت أبي بكر أرضعتها، فهي أخت أولادها من الرضاعة، وقال بكر بن عبد الله الْمُزَنيّ: أخبرني أبو رافع، قال: كنت إذا ذَكَرت امرأة بالمدينة فقيهةً ذكرت زينب بنت أبي سلمة، وقال سليمان التيميّ، عن أبي رافع: غَضِبت علي امرأتي، فذكر قِصَّةً فيها: فقالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة.

ماتت في ولاية طارق على المدينة سنة ثلاث وسبعين، وحضر ابن عمر جنازتها

(2)

.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب (25) حديثًا.

7 -

(أمُّ سَلَمَةَ) هي: هند بنت أبي أمية حُذيفة، ويقال: سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم المخزومية، أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت سنة (62) وقيل غير ذلك، تقدمت ترجمتها في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

(1)

قال الحافظ: قوله: "وُلدت بأرض الحبشة" هذا قاله الواقديّ، وفيه نظر، ففي:"مستدرك الحاكم" بإسناد صحيح ما يَرُدّه، ويدُلّ على أن أمها لَمّا تزوجت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي سلمة كانت زينب ما فَطَمَت بعدُ. انتهى. "تهذيب التهذيب" 4/ 674.

(2)

راجع: "الإصابة" 8/ 157 - 158، و"تهذيب التهذيب" 4/ 674 - 675.

ص: 362

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته كلهم رُواة الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالمدنيين.

6 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: يحيى، عن أبي سلمة، عن زينب، أو رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّة، عن صحابيّة، على قول من يقول: إن زينب لها رؤية، وإن لم يكن لها رواية.

7 -

(ومنها): أن فيه رواية البنت، عن أمها. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (أَنَّ زينَبَ بِنْتَ أُمَّ سَلَمَةَ)، وفي نسخة:

"بنت أبي سلمة"، وكلاهما صحيح؛ لأن أم سلمة أمها، وأبو سلمة أبوها، وليس هو أبا سلمة الراوي عنها؛ لأنه ابن عبد الرحمن بن عوف، تابعيّ، وأبو سلمة والد زينب هو عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّ الصحابيّ رضي الله عنه (حَدَّثَتْهُ)، أي حدّثت أبا سلمة (أَن أُمّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها (حَدَّثَتْهَا)، أي حدّثت زينب، وقوله:(قَالَتْ) بيان وتوضيح لمعنى التحديث (بَيْنَمَا) أصله "بَيْنَ" زيد عليها "ما"، ويقال:"بينا" كما هو رواية البخاريّ رحمه الله، أُشبعت فتحة النون بالألف، و"بينما" و"بينا" ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ومضافان إلى جملةٍ، مِن فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يَتِمّ به المعنى، ويُقرن جوابهما بـ "إذ"، كقولها هنا:"إذ حضت"، و"إذا"، كقولك: بينما زيد جالسٌ إذا دخل عمرو، وإن كان الأكثر عدم الاقتران بهما.

(أَنَا مُضْطَجِعَةٌ) جملة من مبتدأ وخبره في محل جرّ بإضافة "بينما" إليها، وأصل "مضطجعة" مُضْتجِعة؛ لأنه من باب الافتعال، فقلبت التاء طاءً، كما قال في "الخلاصة":

ص: 363

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ

فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي

ويجوز في "مضطجعة" الرفع والنصب، أما الرفع فعلى الخبرية لـ "أنا"، كما أسلفته آنفًا، وأما النصب فعلى الحال، فعلى الأول يكون قوله:(مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّقًا بحال مقدّر، أو بـ "مضطجعة"، وعلى الثاني يكون هو الخبرَ (فِي الْخَمِيلَةِ) هذه رواية الأكثرين من أصحاب يحيى، ثم أصحاب هشام، فكلّهم قالوا:"الْخَمِيلة"، ووقع عند البخاريّ، من رواية المكيّ بن إبراهيم، عن هشام الدستوائيّ:"الخميصة" بدل "الخميلة". قال الحافظ رحمه الله: لم أر - يعني الخميصة - في شيء من طرقه إلا في هذه الرواية. انتهى.

و"الْخَمِيلة" - بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم - قال أهل اللغة: الخميلة، والخميل بحذف الهاء: هي القَطِيفة، وكلُّ ثوب له خَمْلٌ من أيّ شيء كان، وقيل: هي الأسود من الثياب، قاله النوويّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ: الْخَمْلُ، مثلُ فَلْس: الْهُدْبُ، والْخَمْلُ: الْقَطِيفة، والْخَمِيلةُ: الطِّنْفِسة، والجمع خَمِيل بحذف الهاء. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير: الْخَمِيلُ، والْخَمِيلة: القَطِيفة، وهي كلّ ثوب له خَمْل، من أيّ شيء كان، وقيل: الْخَمِيلُ الأسود من الثياب. انتهى

(3)

.

وأما "الْخَمِيصة" - بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم - فهي كساءٌ مُرَبَّعٌ، له عَلَمان، وقيل: الخمائص ثياب من خَزّ ثِخَانٌ سُودٌ وحُمْرٌ، ولها أعلام ثِخَان أيضًا، قاله ابن سِيدَهْ، وفي "الصحاح": كساء أسود مربع، وإن لم يكن مُعْلَمًا فليس بخميصة

(4)

.

وقال ابن الأثير: الخميصة: ثوبُ خَزّ، أو صُوف مُعْلَمٌ، وقيل: لا تُسمّى خَمِيصةً إلا أن تكون سوداء مُعْلَمَةً، وكانت لباس الناس قديمًا، وجمعها الخمائص. انتهى

(5)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم: لا منافاة بين الخميصة

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 206.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 182.

(3)

"النهاية" 2/ 81.

(4)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 163.

(5)

"النهاية" 2/ 80 - 81.

ص: 364

والخميلة، فكأنها كانت كساءً أسود لها أهداب. انتهى

(1)

.

(إِذْ حِضْتُ) أي أصابني الحيض (فَانْسَلَلْتُ) بلامين الأولى مفتوحةٌ، والثانية ساكنةٌ، أي ذهبت في خُفية، وإنما فَعَلت ذلك؛ لاحتمال وصول شيء من الدم إليه صلى الله عليه وسلم، أو لأنها تقذَّرت نفسها، ولم ترتضها لمضاجعته صلى الله عليه وسلم، أو خافت أن يَنْزِل الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فانسلت لئلا تَشْغَله حركتها عما هو فيه من الوحي أو غيره، أو خافت أن يطلُب منها النبيّ صلى الله عليه وسلم منها الاستمتاع بها، وهي على هذه الحالة التي لا يُمكن فيها الاستمتاع.

(فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي) قال في "الفتح": وقع في روايتنا بفتح الحاء وكسرها معًا، ومعنى الفتح: أخذت ثيابي التي ألبسها زمن الحيض؛ لأن الحيضةَ بالفتح، هي الحيض، ومعنى الكسر: أخذت ثيابي التي أَعْددتها لألبسها حالة الحيض، وجزم الخطابيّ برواية الكسر، ورجحها النوويّ، ورَجّح القرطبيّ رواية الفتح؛ لوروده في بعض طرقه بلفظ "حيضي" بغير تاء. انتهى

(2)

.

وعبارة النوويّ: وقولها: "فأخذت ثياب حيضتي" هي بكسر الحاء، وهي حالة الحيض، أي أخذت الثياب الْمُعَدَّة لزمن الحيض، هذا هو الصحيح المشهور المعروف في ضبط "حِيضتي" في هذا الموضع، قال القاضي عياض: ويَحْتَمِل فتح الحاء هنا أيضًا، أي: الثياب التي ألبسها في حال حَيْضَتي، فإن الحيضة بالفتح هي الحيض. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": قولها: "ثياب حِيضتي" بكسر الحاء، وهي حال الحيض، هذا هو الصحيح المشهور، وقال الكرمانيّ: وقيل: يحتمل فتح الحاء هنا أيضًا، فإن الحيضة بالفتح هي الحيض.

قال العينيّ: لا يقال هنا بالاحتمال، فإن كلًّا منهما لغةٌ ثبتت عن العرب، وهي أن الْحِيضة بالكسر الاسم من الْحَيض، والحال التي تَلزمُها الحائض من التجنب، والتحيُّض، كالجِلْسة والقِعْدة من الجلوس والقعود، فأما

(1)

"الفتح" 1/ 480.

(2)

"الفتح" 1/ 480.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 207.

ص: 365

الحيضة بالفتح، فالمرة الواحدة من دُفَعِ

(1)

الحيض ونُوَبه

(2)

، وأنت تُفَرِّق بينهما بما تقتضيه قرينة الحال من مَسَاق الحديث

(3)

، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها:"ليتني كنت حِيضَةً مُلْقاةً"، هي بالكسر خِرْقةُ الحيض. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَفِسْتِ؟ "). قال الخطابيّ رحمه الله: أصل هذه الكلمة من النَّفْس، وهو الدم، إلا أنهم فرَّقوا بين بناء الفعل من الحيض والنفاس، فقالوا في الحيض: نفِست بفتح النون، وفي الولادة بضمها. انتهى.

قال في "الفتح": وهذا قول كثير من أهل اللغة، لكن حَكَى أبو حاتم، عن الأصمعيّ، قال: يقال: نُفِسَت المرأة في الحيض والولادة، بضم النون فيهما، وقد ثبت في روايتنا بالوجهين، فتح النون وضمها. انتهى

(5)

.

وعبارة النوويّ: قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَفِست" هو بفتح النون، وكسر الفاء، وهذا هو المعروف في الرواية، وهو الصحيح المشهور في اللغة، أن "نَفِسَتْ" بفتح النون، وكسر الفاء: معناه حاضت، وأما في الولادة فيقال: نُفِست، بضم النون، وكسر الفاء أيضًا، وقال الهرويّ: في الولادة نَفِست بضم النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير، وقال القاضي عياض: روايتنا فيه في مسلم بضم النون هنا، قال: وهي رواية أهل الحديث، وذلك صحيح، وقد نقل أبو حاتم، عن الأصمعي الوجهين في الحيض والولادة، وذكر ذلك غير واحد، وأصل ذلك كلّه خروج الدم، والدم يسمى نَفْسًا. انتهى

(6)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قيّدناه بضمّ النون وفتحها، قال الهرويّ وغيره: نُفِست المرأة، ونَفِسَت: إذا ولدت، وإذا حاضت، قيل: نَفِسَت بفتح النون لا غير، فعلى هذا يكون ضمّ النون هنا خطأً، فإن المراد به هنا الحيض قطعًا، لكن حَكَى أبو حاتم، عن الأصمعيّ الوجهين في الحيض والولادة، وذكر ذلك

(1)

بضم، ففتح: جمع دُفْعة، بضم فسكون.

(2)

بضم، ففتح: جمع نَوْبة، بفتح، فسكون أفاده في:"ق".

(3)

راجع: "النهاية" 1/ 469.

(4)

"عمدة القاري" 3/ 391 - 392.

(5)

"الفتح" 1/ 481.

(6)

"شرح النوويّ" 3/ 207.

ص: 366

غيرُ واحد، فعلى هذا تصحّ الروايتان، وأصل ذلك كلّه من خروج الدم، وهو المسمّى نَفْسًا، كما قال الشاعر [من الطويل]:

تَسِيلُ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنَا

وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نُفِسَت المرأةُ بالبناء للمفعول، فهي نُفَساءُ، والجمع نِفَاسٌ بالكسر، ومثلُهُ عُشَرَاءُ وعِشَار، وبعض العرب يقول: نَفِسَت تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ، فهي نافسٌ، مثلُ حائض، والولد منفوسٌ، والنِّفَاسُ بالكسر أيضًا اسم من ذلك، ونَفِسَت تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ: حاضت، ونُقِل عن الأصمعيّ: نُفِست بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، ولا يقال في الحيض نُفِست بالبناء للمفعول، وهو من النفس، وهو الدم، ومنه قولهم: لا نفسَ له سائلةٌ، أي لا دم له يَجري، وسُمّي الدم نفسًا؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قِوَامها بالدم، والنُّفساء من هذا. انتهى

(2)

.

(قُلْتُ: نَعَمْ) أي حِضتُ، لأن "نعم" - بفتحتين - معناها التصديق، إن وقعت بعد الماضي، كهذا الحديث، وكنحو هل قام زيد؟، وإن وقعت بعد المستقبل، نحو تقوم، فمعناها الوعدُ، وقد تقدّم تمام البحث فيها في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَدَعَانِي) أي طلبني، وناداني صلى الله عليه وسلم لأنام معه؛ لأن الحيض ليس مانعًا من ذلك (فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ) أي نِمْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: ضَجَعَ ضَجْعًا، من باب نَفَعَ، وضُجُوعًا، وضَجَعْتُ جنبي بالأرض، وأضجعتُ بالألف لغةٌ، فأنا ضاجعٌ، ومُضْجِعٌ، وأضجعت فلانًا بالألف لا غير: ألقيته على جنبه، واضطجعتُ افتعالٌ منه، أُبدلت تاؤه طاءً على القاعدة التي مرّت في "مُضْطجعة"، ومن العرب من يقول: اضَّجَعَ، فيقلب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يقال: اطَّجَعَ بطاء مشدّدة؛ لأن الضاد لا تُدغم في الطاء؛ لكونها أقوى منها، والحرف لا يُدغم في

(1)

"المفهم" 1/ 557.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 617.

ص: 367

أضعف منه، وما ورد شاذٌّ لا يقاس عليه، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(فِي الْخَمِيلَةِ) أي القطيفة المتقدّم ذكرها؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة تكون عينها غالبًا، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "عقود الجمان":

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ

إذَ أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ

تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ

تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ

شَاهِدُهَا الَّذِي رَوينَا مُسْنَدَا

"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدَا

(2)

(قَالَتْ) زينب، وفي رواية البخاريّ: "وكنت أغتسل أنا والنبيّ صلى الله عليه وسلم

" (وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وأتى بالضمير المنفصل؛ لعطف الاسم الظاهر على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة" بقوله:

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وفي رواية البخاريّ: "قالت: وحدّثتني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبّلها، وهو صائم، وكنت أغتسل أنا والنبيّ صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة"، وفي رواية أبي عوانة:"قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبّلها، وهو صائم، وكانا يغتسلان من إناء واحد".

(يَغْتَسِلَانِ فِي الانَاءِ الْوَاحِدِ)"في" بمعنى "من"، أي من الإناء الواحد (مِنَ الْجَنَابَةِ)"من" تعليليّة، أي لأجل الجنابة، قال في "القاموس": الجنابة: المنيّ. انتهى

(3)

. فيكون المعنى هنا: من أجل خروج المنيّ، وفي "المعجم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 358.

(2)

ثم ذكر بعد هذا اعتراض ابن السبكيّ على هذه القاعدة بأنها منتقضة بأمثلة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وقوله:{صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وغير ذلك، فقال:

وَنَقَضَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ

وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ

فقلت جوابًا عن هذا الاستشكال:

يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ ذَا اسْتَشْكَلَهْ

بِأَنَّ ذَا الْغَالِبُ عِنْدَ النَّقَلَهْ

(3)

"القاموس المحيط" ص 66، و"لسان العرب" 1/ 279.

ص: 368

الوسيط": الجنابة: حالُ من ينزل منه منيّ، أو يكون منه جماع. انتهى

(1)

، وعليه فيكون المعنى: من أجل حدوث الجنابة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[2/ 689](296)، و (البخاريّ) فيه (298 و 322 و 323)، و"الصوم"(1929)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 149 و 188)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(637)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2052)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1235 و 1236)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 254)، و (أحمد) في "مسنده"(6294 و/ 300)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 243)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1363)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 311)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(316)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(898 و 899)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(680)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد.

2 -

(ومنها): استحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة.

3 -

(ومنها): أن عَرَق الحائض طاهر، وأما أمر الله تعالى بقوله:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الآية [البقرة: 222]، فمعناه: اعتزلوا وَطْأَهُنَ.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، وحسن العشرة، ومن الزهادة في الدنيا، حيث كان ينام مع أزواجه في الثياب التي يحضن فيها، ويغتسل معهنّ في إناء واحد.

(1)

"المعجم الوسيط" 1/ 138.

ص: 369

5 -

(ومنها): بيان أن الحيض يُسمّى بالنفاس.

6 -

(ومنها): التنبيه على أن حكم الحيض والنفاس واحد في منع وجوب الصلاة، وعدم جواز الصوم، وغير ذلك من الأحكام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ جَوَازِ غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا، وَتَرْجِيلِه، وَطَهَارَةِ سُؤْرِهَا، وَالاتِّكَاءِ فِي حِجْرِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[690]

(297) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ، يُدْني إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الانْسَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام الحافظ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الإمام الفقيه المجتهد [7](ت 179)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الفقيه الحافظ، رأس [4](ت 125)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

4 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3](ت 93) على الصحيح (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارة الأنصارية المدنية، كانت في حِجْر عائشة، ثقة [3]، ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها، تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

ص: 370

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك رحمه الله.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن تابعيّة، كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.

5 -

(ومنها): أن عائشة من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

6 -

(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستّة من يُسمّى بعمرة، إلا هذه عندهم، وعمرة بنت مقاتل بن حيّان، روت عن عائشة رضي الله عنها أيضًا، ولا يُعرف حالها، من الطبقة الرابعة، روى لها أبو داود حديثًا واحدَّا فَي الانتباذ

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ) هكذا رواه مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، وخالفه الليث وغيره، فقالوا: عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة معًا، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخراجه من رواية أبي مُصْعب، عن مالك، عن

(1)

قال أبو داود في: "سننه":

(3225)

حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر، قال: سمعت شبيب بن عبد الملك، يحدث عن مقاتل بن حيان، قال: حدثتني عمتي عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت، تَنْبِذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم غدوةً، فإذا كان من العشيّ، فتعشى شَرِب على عشائه، وإن فَضَل شيء صببته، أو فرغته، ثم تَنْبِذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى، فشَرِب على غدائه، قالت: يُغْسَل السِّقَاءُ غدوةً وعشيةً، فقال لها أبي: مرتين في يوم؟ قالت: نعم.

ص: 371

ابن شهاب، عن عروة وعمرة معًا ما نصّه: هكذا رواه غير واحد، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة، عن عائشة، ورواه بعضهم عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، والصحيح: عن عروة وعمرة، عن عائشة. انتهى

(1)

، وسيأتي تمام البحث في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ) الاعتكاف في اللغة: الحبسُ، وفي الشرع: حبس النفس في المسجد خاصةً مع النية

(2)

. (يُدْنِي) بضمّ أوله من الإدناء رباعيًّا، وهو التقريب (إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَتجَلُهُ) بضمّ حرف المضارعة، وتشديد الجيم، من الترجيل، وترجيلُ الشعر تسريحه، وهو نحو قولها:"فأغسله"، وقال أبو نعيم: الترجيل: تدهين الشعر. انتهى

(3)

. (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةِ الإنْسَانِ") فسّره الزهريّ بالبول والغائط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها من هذا الطريق من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 690](297)، و (أبو داود) في "الصوم"(2467)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(804)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 312)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 104 و 262 و 281)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(681)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2231)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3672)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 315)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1836).

(1)

راجع: "الجامع" للترمذي في: "كتاب الصوم" برقم (804).

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 208.

(3)

راجع: "المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 354.

ص: 372

وفوائد الحديث تأتي في شرح الحديث التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[691]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدثَنَا لَيْثٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمن، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَة، وَالْمَرِيضُ فِيه، فَمَا أَسْأل عَنْهُ، إِلّا وَأنَا مَارَّةٌ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأسَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا، وقَالَ ابْنُ رُمْحٍ: إِذَا كَانُوا مُعْتَكِفِينَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

والباقون تقدّموا في الحديث الماضي، وكذا لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ). قال في "الفتح": كذا في رواية الليث جَمَعَ بينهما، ورواه يونس، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن عروة وحده، ورواه مالك عنه، عن عروة، عن عمرة، - يعني الرواية الماضية - قال أبو داود وغيره: لم يُتَابَعْ عليه، وذكر البخاري أن عُبيد الله بن عمر تابع مالكًا، وذكر الدارقطنيّ أن أبا أويس رواه كذلك، عن الزهريّ، واتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختَصَرُوا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في

ص: 373

رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد، وقد رواه بعضهم عن مالك، فوافق الليث، أخرجه النسائي أيضًا

(1)

.

(أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ). "إن" بكسر الهمزة هي المخفّفة من الثقيلة، ولذا دخلت اللام في خبرها، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ الَّلامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

ثم الغالب أنه لا يليها إلا الأفعال الناسخة للابتداء، كقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} الآية [البقرة: 143]، وقوله:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [القلم: 51]، وقوله:{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} الآية [الأعراف: 102]، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة"، فقال:

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا

تُلْفِيهِ غَالِبًا بِـ "إِنْ" ذِي مُوصَلَا

(لِلْحَاجَةِ)، وفي رواية مالك الماضية:"إلا لحاجة الإنسان"، قال في "الفتح": وفسّرها الزهريّ بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات، كالأكل والشرب، ولو خرج لهما، فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء، والفصد لمن احتاج إليه.

ووقع عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة: قالت: السنةُ على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازةً، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بُدّ منه، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه البتة.

وجزم الدارقطنيّ بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: "لا يخرج إلا لحاجة"، وما عداه ممن دونها.

قال: ورَوَينا عن عليّ، والنخعيّ، والحسن البصريّ: إن شَهِد المعتكف جنازةً، أو عاد مريضًا، أو خرج للجمعة بَطَلَ اعتكافه، وبه قال الكوفيون، وابن المنذر في الجمعة، وقال الثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق: إن شَرَطَ شيئًا من ذلك في ابتداء اعتكافه، لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 4/ 321.

(2)

"الفتح" 4/ 321.

ص: 374

(وَالْمَرِيضُ فِيهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، (فَمَا أَسْأل عَنْهُ)، أي عن حال ذلك المريض (إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ)، تعني أنها لا تجلس في ذلك البيت للسؤال عن ذلك المريض، ومؤانسته، وإنما تسأل عنه حال مرورها، وذلك لأنها ترى بطلان الاعتكاف بذلك، (وَإِنْ) تقدّم آنفًا أنها مخفّفة من الثقيلة (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ) بضمّ أوله من الإدخال رباعيًّا (عَلَيَّ رَأسَهُ)، أي في بيتها (وَهُوَ فِي الْمَسْجدِ) جملة حاليّة من الفاعل، و"أل" فيه للعهد، أي المسجد النبويّ (فَأُرَجِّلُهُ)، أيَ أُسَرّحه، وفسّر أبو نعيم الترجيل بالتدهين، وقال ابن الأثير: الترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه، وتحسينه. انتهى

(1)

. (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ) بفتح أوله من الدخول ثلاثيًّا (الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا) الاعتكاف: حبس النفس عن التصرّفات العاديّة لأجل التفرّغ للعبادة، وقوله:(وقَالَ ابْنُ رُمْحٍ)، أي شيخه الثاني (إِذَا كَانُوا مُعْتَكِفِينَ) يعني أن محمد بن رُمْح قال في روايته:"إذا كانوا معتكفين" بصيغة الجمع، بدل قول قتيبة:"إذا كان معتكفًا" بالإفراد، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إذا اعتكف هو وأصحابه وأهل بيته معه إلا لحاجة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 691 و 692 و 693 و 694](297)، و (البخاريّ) في "الحيض"(295 و 296 و 301)، و"الاعتكاف"(2028 و 2029 و 2031 و 2046)، و"الجهاد"(2925)، و (أبو داود) في "الصوم"(2468)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 193)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(633)، "الصيام"(1776 و 1778)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 88 و 94)، و (أحمد) في "مسنده" (6/ 32 و 51 و 81 و 100 و 170 و 204

(1)

"النهاية" 2/ 203.

ص: 375

و 231 و 247 و 264 و 272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2230 و 2231 و 2232)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3669)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 308 و 315 و 316 و 320)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(317 و 1837)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(682)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، قال في "الفتح": وألحق عروة الجنابة بالحيض قياسًا، وهو جليّ؛ لأن الاستقذار بالحائض أكثر من الجنب، وألحق الخدمة بالترجيل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وألحق عروة إلخ" أراد بذلك ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن عروة أنه سُئل: أتخدمني الحائض؟ أوَ تدنو مني المرأة، وهي جنب؟ فقال عروة: كلُّ ذلك عليّ هَيِّنٌ، وكلُّ ذلك تخدمني، وليس على أحد في ذلك بأس، أخبرتني عائشة أنها كانت تُرَجّل - تعني رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد، يُدني لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجِّله، وهي حائض. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): طهارة بدن الحائض، وعَرَقها.

3 -

(ومنها): منع الحائض من الجلوس في المسجد؛ خشية تلويثها له بما يخرج منها من الدم، واختُلف في دخولها عابرة سبيل كالجنب، والأرجح إن خافت التلويث لا تدخل، وإلا جاز دخولها.

4 -

(ومنها): مشروعيّة الاعتكاف للرجال والنساء.

5 -

(ومنها): بيان أن المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع، ومقدَّماته.

6 -

(ومنها): بيان أن الحائض لا تدخل المسجد، وقال ابن بطّال: فيه حجة على الشافعيّ في قوله: إن المباشرة مطلقًا تنقض الوضوء.

وتعقّبه في "الفتح" بأنه لا حجة له فيه؛ لأن الاعتكاف لا يُشترط فيه

(1)

أخرجه البخاريّ برقم (296).

ص: 376

الوضوء، وليس في الحديث أنه عَقَّبَ ذلك الفعل بالصلاة، وعلى تقدير ذلك، فمسّ الشعر لا ينقض الوضوء. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة نقض الوضوء بمسّ المرأة، قد استوفيت البحث فيها في "شرح النسائيّ"، وبيّنت أن الراجح عدم النقض؛ لقوة أدلّته، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

7 -

(ومنها): جواز استخدام الرجل زوجته في الغسل والطبخ والْخَبْز وغيرها، وعلى هذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228]، وهذا من المعروف الذي جرى به عمل السلف، وإجماع الأمة، وأما الأحاديث في هذا فكثيرة، كالأحاديث التي وردت في هذا الباب، وغيرها.

[تنبيه]: قيّد النوويّ في "شرحه" جواز استخدام المرأة برضاها، قال: وأما بغير رضاها فلا يجوز؛ لأن الواجب عليها تمكين الزوج من نفسها، وملازمة بيته فقط. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله نظر لا يخفى؛ لأنه مخالف للأدلّة الصريحة، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب عليها ذلك، فإن الآية السابقة نصّ في وجوب ما تعارفه الناس، من خدمة الزوج، والقيام بشؤون بيته، وأولاده، وغير ذلك، وليس مقصود النكاح الاستفراج فقط.

ومما يوضّح المراد من الآية ما كان عليه أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأزواج أصحابه، فإنهنّ كنّ يخدمن أزواجهنّ، كما بُيّن في أحاديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، وكما في قصّة فاطمة رضي الله عنه في الطحن حتى أثّر ذلك في يدها، وهو في "الصحيح"، وكما في قصّة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، فإنها كانت تحمل النوى من أرض الزبير لعلف فرسه، وهو أيضًا في "الصحيح"، وغير ذلك مما لا يخفى على من له إلمام بكتب السنّة، ومعرفة بسير أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأزواج أصحابه رضي الله عنه.

والحاصل أن القول بأن المرأة لا يجب عليها خدمة الزوج، وإنما

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 208 - 209.

ص: 377

الواجب عليها تمكين نفسها فقط غير صحيح؛ لمنابذته الكتاب والسنة، وعمل السلف، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

8 -

(ومنها): أن المعتكف إذا خرج بعضه من المسجد، كيده، ورجله، ورأسه لم يبطل اعتكافه.

9 -

(ومنها): أن مَن حَلَف أن لا يدخل دارًا، أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعضه، لا يَحْنَث.

10 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": في إخراجه رأسه دلالةٌ على اشتراط المسجد للاعتكاف، وعلى أن من أخرج بعض بدنه من مكانٍ حَلَف أن لا يخرُج منه لم يَحنث حتى يُخرج رجليه، ويعتمد عليهما. انتهى

(1)

.

11 -

(ومنها): الترجُّلُ للمعتكف، ومثله التنظّف، والتطيُّب، والغسل، والحلق، والتّزَيُّن؛ إلحاقًا بالترجل، والجمهور على أنه لا يُكره فيه إلا ما يُكرَه في المسجد، وعن مالك تكره فيه الصنائع والْحِرَف، حتى طلب العلم، ولا وجه له؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يطلبون العلم إلا في المسجد غالبًا، وأغلب ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُلقي عليهم المسائل العلميّة فيه، فكيف يقال بكراهته؟ إن هذا لمن الغرائب.

12 -

(ومنها): أن المعتكف لا يخرُج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، وقد تقدّم أن الزهريّ فسّرها بالبول والغائط.

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخراجه الحديث -: والعمل على هذا عند أهل العلم، إذا اعتَكَف الرجل أن لا يخرُج من اعتكافه إلا لحاجة الإنسان، وأجمَعُوا على أنه يخرج لقضاء حاجته للغائط والبول.

ثم اختَلَفَ أهل العلم في عيادة المريض، وشهود الجمعة، والجنازة للمعتكف، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن يعود المريضَ، ويُشَيّع الجنازة، ويَشْهَد الجمعة، إذا اشترط ذلك، وهو قول سفيان الثوريّ، وابن المبارك، وقال بعضهمْ ليس له أن يفعل شيئًا من هذا، ورأوا

(1)

"الفتح" 4/ 320.

ص: 378

للمعتكف إذا كان في مصر يُجَمَّع فيه أن لا يَعتكف إلا في مسجد الجامع؛ لأنهم كَرِهوا الخروج له من مُعْتَكَفه إلى الجمعة، ولم يَرَوا له أن يترك الجمعة، فقالوا: لا يعتكف إلا في مسجد الجامع حتى لا يَحتاج أن يخرج من معتكفه لغير قضاء حاجة الإنسان؛ لأن خروجه لغير حاجة الإنسان قَطْعٌ عندهم للاعتكاف، وهو قول مالك، والشافعيّ، وقال أحمد: لا يعود المريض، ولا يتبع الجنازة، على حديث عائشة، وقال إسحاق: إن اشترط ذلك فله أن يتبع الجنازة، ويعود المريض. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الإمام أحمد رحمه الله من العمل بحديث عائشة رضي الله عنها هو الأرجح؛ لقوّة حجته، وسيأتي تمام البحث في ذلك في "كتاب الاعتكاف" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[692]

(

) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِد، وَهُوَ مُجَاوِرٌ، فَأَغْسِلُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7](مات قبل سنة (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ نَوْفَلٍ) الأسديّ، أبو الأسود المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6](ت سنة بضع و 130)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.

والباقون تقدّموا، فهارون وابن وهب تقدّما في الباب الماضي، والباقيان في السند الماضي.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 379

وقوله: (وَهُوَ مُجَاوِرٌ) أي معتكفُ، وفي رواية أحمد، والنسائيّ:"كان يأتيني، وهو معتكف في المسجد، فيتّكئ على باب حُجْرتي، فأغسل رأسه، وسائرُهُ في المسجد"، قال في "الفتح": يؤخذ منه أن المجاورة والاعتكاف واحد، وفَرَّق بينهما مالك. انتهى

(1)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[693]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا قَالَتْ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، وَأنَّا فِي حُجْرَتي، فَأُرَجِّلُ رَأْسَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور أول الباب.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الْجَزِيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 3 أو 174)(ع)، تقدّم في "المقدّمة" 6/ 62.

3 -

(هِشَام) بن عروة، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

وقولها: (فِي حُجْرَتِي) بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم: البيتُ، وجمعه حُجَرٌ بضمّ، ففتح، وحُجُرَات، بضمتين، أو بضم، ففتح، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وغُرُفات في وجوهها، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وكانت حجرة عائشة رضي الله عنها لاصقةً بالمسجد، قاله في "الفتح"

(3)

.

وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 4/ 320

(2)

"المصباح المنير" 1/ 122.

(3)

1/ 478.

ص: 380

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[496]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ رَأْسَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا حَائِضٌ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيُّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

2 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثّقَفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب حديث [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون تقدّموا قبل باب، و"منصور" هو ابن المعتمر، و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ، و"الأسود": هو ابن يزيد النخعيّ، خال إبراهيم.

وقولها: (كُنْتُ أَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا لا ينافي ما تقدّم من قولها: "فأرجّله"؛ لإمكان الجمع بينهما بأنها جمعت بينهما في وقت واحد، بأن غسلت رأسه، ورَجّلته، أو بكونها فعلت هذا في وقت، وهذا في وقت، وتمام شرح الحديث ومسائله تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[695]

(298) - (وَحَدّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَاوِليني الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: "إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ").

ص: 381

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.

4 -

(ثَابِتُ بْنُ عُبَيْدٍ) الأنصاريّ، مولى زيد بن ثابت الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن مولاه، وابن عمر، وأنس، والبراء، وعبد الله بن مُغَفّل، وكعب بن عُجْرة، والمغيرة بن شعبة، وعبيد بن البراء، والقاسم بن محمد، وأبي جعفر الأنصاريّ.

ورَوَى عنه الأعمش، وحجاج بن أرطاة، والثوريّ، ومِسْعَر، وعبد الملك بن أبي غَنِيّة، ومحمد بن شيبة بن نَعَامة الضّبّيّ، وابن أبي ليلى، وغيرهم.

قال أحمد، ويحيى، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال الحربيّ: هو من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (298) وأعاده بعده، و (709) و (1938).

[تنبيه]: قال في "تهذيب التهذيب": فَرَّق أبو حاتم بين ثابت بن عبيد الأنصاريّ، وبين ثابت بن عُبيد مولى زيد بن ثابت، رَوَى عن اثني عشر رجلًا من الصحابة في الإبل، وعنه عبد ربه بن سعيد، وقال فيه: صالح.

قال الحافظ: رأيت لفظة "الإبل" ها هنا بخط المؤلف - يعني الحافظ المزّيّ، صاحب "تهذيب الكمال - وهو تصحيف، وصوابه "الإيلاء"، قال البخاريّ في "تاريخه الكبير": حدثني الأويسيّ، قال: حدثني سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت بن عبيد، مولى زيد بن ثابت، عن اثني عشر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيلاءُ لا يكون طلاقًا حتى يوقف". انتهى.

ص: 382

وكذا فرّق بينهما ابن حبّان في "الثقات" كما فرّق أبو حاتم الرازيّ، ثم ذكر الذي رَوَى عن القاسم، وعنه الأعمش. انتهى

(1)

.

5 -

(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت فاضلٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، وعمته، عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وعبد الله بن خباب، ومعاوية، ورافع بن خَدِيج، وصالح بن خَوّات بن جبير، وغيرهم، وأرسل عن ابن مسعود.

ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وهما من أقرانه، ويحيى وسعد ابنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعبيد الله بن عمر، وسعد بن إبراهيم، وعبيد الله بن مقسم، وأيوب، وابن عون، وربيعة، وأبو الزناد، وأيمن بن نابل، وأفلح بن حميد، وثابت بن عبيد، وآخرون.

قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وذكر عن الواقديّ أنه قال: كان ثقة، رفيعًا عالمًا فقيهًا إمامًا ورعًا كثير الحديث. وقال البخاري: قُتل أبوه، وبقي القاسم يتيمًا في حجر عائشة رضي الله عنها. وقال الزبير: ما رأيت أبا بكر وَلَد ولدًا أشبه من هذا الفتى. وقال عبد الله بن شَوْذَب عن يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم. وقال وهيب، عن أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال البخاري في "الصحيح": حدثنا علي، حدثنا ابن عيينة، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه، ولا أَحَدَّ ذهنًا. وقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، عن ابن معين: عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، ترجمة مُشَبَّكَةٌ بالذهب. وقال ابن عون: كان القاسم، وابن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة يحدثون بالحديث على حروفه. وقال خالد بن نزار، عن ابن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم، وعروة، وعمرة. وقال مالك: كان قليل الحديث والفتيا. وقال يونس بن بكير، عن ابن

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 265 - 266.

ص: 383

إسحاق: رأيت القاسم يصلي، فجاء إليه أعرابي، فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله، قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكيَ نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذبَ، قال: وكان القاسم أعلمهما. وقال ابن وهب عن مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة، قال: وكان ابن سيرين يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم، فيقتدي به. وقال مصعب الزبيري، والعجلي: كان من خيار التابعين. وقال العجلي أيضا: مدني تابعي ثقة، نَزِهٌ، رجل صالح. وقال ابن وهب: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول له: لو كان لي من هذا الأمر شيء ما عَصَّبْتُهُ إلا بالقاسم.

وقال يعقوب بن سفيان: كان قليل الحديث والفتيا. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من سادات التابعين، من أفضل أهل زمانه علمًا وأدبًا وفقهًا، وكان صَمُوتًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء أرادوا القاسم.

قال ضمرة عن رجاء بن جميل: مات بعد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. وقال عبد الله بن عمر: مات القاسم وسالم أحدهما سنة خمس، والآخر سنة ست. وقال خليفة: مات سنة ست، أو أول سنة سبع. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، وابن المديني: مات سنة ست ومائة. وكذا قال غير واحد، زاد بعضهم: وهو ابن سبعين سنة. وقال ابن سعد: مات سنة اثنتي عشرة ومائة. وقيل غير ذلك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (63) حديثًا.

والباقون تقدّموا فيما قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا

إلخ"، ومعناه أن شيوخه اختلفوا في كيفيّة التحمل وصيغة الأداء،

ص: 384

فيحيى سمع قراءة من يقرأ على أبي معاوية، ولهذا قال:"أخبرنا"، وأبو بكر، وأبو كريب سمعاه من لفظ أبي معاوية، ولهذا قالا:"حدّثنا".

فقوله: "أبو معاوية" مرفوع على الفاعليّة، تنازعه كلّ من "أخبرنا"، و"حدّثنا".

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير يحيى، وأبي بكر، وثابت.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى القاسم، وهو وعائشة مدنيّان، ويحيى نيسابوريّ، إلا أنه دخل الكوفة.

5 -

(ومنها): أن شيخه أبو كريب أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة.

6 -

(ومنها): أن القاسم أحد الفقهاء السبعة، كما تقدّم غير مرّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَاوِلينِي)، أي أعطيني (الْخُمْرَةَ) بضم الخاء المعجمة، على وزن غُرْفة: هي حَصِير صغيرٌ قدر ما يُسْجَد عليه، قاله الفيّوميّ، وقال الخطّابيّ: هي السّجّادة التي يَسجُد عليها المصلّي، ويقال: سُمّيت بها لأنها تخمر وجه المصلّي عن الأرض، أي تستره. انتهى.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْخُمْرة: هي مقدار ما يَضَعُ الرجل عليه وجهه في سجوده، من حَصِير، أو نَسِيجةِ خُوصٍ، ونحوه من النبات، ولا تكون خُمْرة إلا في هذا المقدار، وسُمّيت خُمْرةً؛ لأن خيوطها مستورةٌ بِسَعَفها، وقد تكررت في الحديث، وهكذا فُسِّرَت، وقد جاء في "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاءت فأرةٌ، فأخذت تَجُرّ الْفَتِيلة، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْخُمْرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل مَوْضِع درهم

" الحديث، قال: وهذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. انتهى

(1)

.

(1)

"النهاية" 2/ 77 - 78.

ص: 385

وقال ابن منظور رحمه الله: والْخُمْرة: حَصِيرة، أو سَجّادةٌ صغيرةٌ تُنْسَج من سَعَفِ النخل، وتُرَمَّل بالخيوط، وقيل: حَصِيرة أصغر من المصلِّي، وقيل: الْخُمْرة: الحصير الصغير، الذي يُسْجَد عليه.

وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يَسْجُد على الْخُمْرة"، متّفقٌ عليه، وهو حَصِيرٌ صغيرٌ قَدْرَ ما يُسْجَد عليه، يُنْسَج من السَّعَف، قال الزجاج: سُمِّيت خُمْرَةً؛ لأنها تَستُر الوجه من الأرض

(1)

.

وقولها: (مِنَ الْمَسْجِدِ) اختُلِف في متعلّقه، فذهب بعضهم إلى أنه متعلّق بـ "قال"، أي قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم قولًا مبتدأ من المسجد، وإليه ذهب القاضي عياض، وقال: معناه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها من المسجد، أي وهو في المسجد لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُخْرِج الخمرة من المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا في المسجد، وكانت عائشة في حُجرتها، وهي حائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن حيضتك ليست في يدك"، فإنها خافت من إدخال يدها المسجد، ولو كان أمَرَها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنًى.

وذهب بعضهم إلى أنه متعلّق بـ "ناوليني"، وبه قال الخطّابيّ والأكثرون، وهو الذي ترجم عليه الأئمّة: أبو داود، حيث قال:"باب الحائض تتَنَاول من المسجد"، والترمذيّ، حيث قال:"باب ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد"، وابن ماجه، حيث قال:"باب الحائض تتناول الشيء من المسجد"، ثم أوردوا حديث عائشة رضي الله عنها هذا دليلًا على الحكم، فدلّ على أن المعنى عندهم أنها ناولته الخمرةَ التي داخل المسجد؛ لكونها قريبةً من الباب تَصِل إليها يدها، وهي في الحجرة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد اختُلِفَ في هذا المجرور الذي هو "من المسجد" بماذا يتعلّق؟ فعلّقَته طائفةٌ بـ "ناوليني"، واستدلّوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تَعْرِضُ لها؛ إذ لم يكن على جسدها نجاسةٌ، ولأنها لا تُمنَعُ من المسجد إلا مخافة ما يكون منها، وإلى هذا نحا محمد بن مسلمة من أصحابنا

(2)

، وبعض المتأخّرين إذا استثفرت، ومتى خرج منها شيء

(1)

"لسان العرب" 4/ 258.

(2)

يعني المالكيّة.

ص: 386

في الثَّفْر

(1)

لم تدخله؛ تنزيهًا للمسجد عن النجاسة.

وعلّقته طائفة أخرى بقولها: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي قال من المسجد: ناوليني الخمرة، أي فهو على التقديم والتأخير، وعليه المشهور من مذاهب العلماء أنها لا تدخل المسجد، لا مُقيمةً، ولا عابرةً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا أُحل المسجد لحائض، ولا جُنُب"

(2)

، وبأن حدَثَها أفحش من حدث الجنابة، وقد اتُّفِق على أن الجنُب لا يَلْبث فيه، وإنما اختلفوا في جواز عُبُوره فيه، والمشهور من مذاهب العلماء مَنْعُهُ، والحائض أولى بالمنع.

قال القرطبيّ: وَيَحتمل أن يريد بالمسجد هنا مسجد بيته الذي كان يتنفّل فيه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تعليق قوله: "من المسجد" بـ "ناوليني" هو الذي يظهر لي، كما فهمه الأئمة: أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، فترجموا عليه بـ "بابُ ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد"، ولأن تعليقه على "قال" يؤدّي إلى دعوى التقديم، والتأخير، كما تقدّم في كلام القرطبيّ، وهو خلاف الأصل، ولا ينافيه ما يأتي بعد حديث من قولها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: يا عائشة ناوليني الثوب

" الحديث؛ لأنّ هذه واقعة أخرى، فتأمل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ)، أي لست ممن يَحِلّ له دخول المسجد، ولو بجزء منه، وذلك لظنّها أن جميع أجزائها لا يدخل فيه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ردًّا عليها هذا الظنّ ("إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ") "الحَيْضة" بفتح الحاء المهملة: المرّة الواحدة من دُفَعِ الحيض، وبالكسر الهيئة من الحيض، وهي الحالة التي تلزمها الحائض، من التجنّب، والبعد عما لا يحلّ للحائض، كالْجِلْسة، والقِعْدة، من الجلوس، والقعود، والأول هو الصحيح المشهور في الرواية، كما قاله النوويّ، وهو المناسب من جهة المعنى، فإن سيلان الدم،

(1)

"الثَّفْر" بفتح، فسكون: هو ما تشُدّه المرأة على فرجها لتمنع به سيلان الدم.

(2)

حديث ضعيف، أخرجه أبو داود برقم (232) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

"المفهم" 1/ 558 - 559.

ص: 387

والدُّفعة منه ليس في اليد، بخلاف الهيئة، فإنها قائمة بجميع ذاتها، بدليل أنه لا يجوز لها مسّ المصحف.

وقال الخطابيّ رحمه الله: المحدّثون يقولون بفتح الحاء، وهو خطأٌ، وصوابها بالكسر، أي الحالة والهيئة. انتهى.

وأنكر القاضي عياض هذا على الخطابيّ، وقال: الصواب هنا ما قاله المحدّثون من الفتح؛ لأن المراد الدم، وهو الحيض بالفتح بلا شكّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليست في يدك"، ومعناه أن النجاسة التي يُصان المسجد عنها، وهي دم الحيض، ليست في يدك، وهذا بخلاف حديث أم سلمة رضي الله عنها، "فأخذت ثياب حِيضتي"، فإن الصواب فيه الكسر. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.

قال صاحب "المنهل": والوجه الذي أشار إليه النوويّ، هو أن عائشة رضي الله عنها كانت تعلم أنه ليس في يدها نجاسة الحيض التي يُصان عنها المسجد، وما امتنعت عن إدخال يدها في المسجد إلا لعلمها أن الحالة العارضة لها من الحيض قد حلّت في يدها، ولذا أجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن هذه الحالة التي هي كونها حائضًا إنما عَرَضَت لها باعتبار مجموعها لا باعتبار أجزائها، فلا يقال: اليد حائضة حتى يصان عنها المسجد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن كلا الوجهين، أعني الحيضة بالفتح، والْحِيضة بالكسر جائز على التقرير الذي سبق، فلكلّ منهما وجه صحيح، أما الفتح فواضح، وأما الكسر فبالتوجيه الذي قرره صاحب "المنهل"، وهو أنها ظنّت أن الهيئة، وهي الحالة العارضة لها حلّت بيدها، وأنها تمنعها من إدخال يدها، فردّ عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنها تمنع من دخول جملتها، لا دخول بعض أجزائها.

والحاصل أن كلًّا من الفتح والكسر وجه صحيح، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 3/ 41.

ص: 388

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 695 و 696](298)، و (أبو داود) في (261)، و (الترمذيّ) في (134)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 192)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1258)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 45 و 101 و 114 و 173 و 229)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1357 و 1358)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(102)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 409)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(320)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(909 و 910 و 911)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(686 و 687).

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت فيما مضى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[696]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، وَابْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِد، فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: "تَنَاوَليهَا

(1)

، فَإنَّ الْحَيْضَةَ لَيْسَتْ في يَدِكِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

2 -

(حَجَّاج) بن أرطاة - بفتح الهمزة - ابن ثور بن هُبَيرة بن شَرَاحيل النخعيّ، أبو أرطاة الكوفيّ القاضي، أحد الفقهاء، صدوقٌ، كثير الخطإ والتدليس [7].

(1)

وفي نسخة: "فقال: فناولينيها".

ص: 389

رَوَى عن الشعبي حديثًا واحدًا، وعن عطاء بن أبي رَبَاح، وجَبَلَة بن سُحَيم، وزيد بن جبير الطائي، وعمرو بن شعيب، وسماك بن حرب، ونافع مولى ابن عمر، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير، والزهري، ومكحول، وقيل: لم يسمع منهما، ويحيى بن أبي كثير، ولم يسمع منه، وجماعة.

ورَوَى عنه شعبة، وهُشيم، وابن نمير، والحمادان، والثوري، وحفص بن غياث، وغندر، وأبو معاوية، ويزيد بن هارون، وعدة، ورَوَى عنه منصور بن المعتمر، وهو من شيوخه، ومحمد بن إسحاق، وقيس بن سعد المكي، وهما من أقرانه، وغيرهم.

قال ابن عيينة: سمعت ابن أبي نَجِيح يقول: ما جاءنا منكم مثله - يعني الحجاج بن أرطاة -. وقال الثوري: عليكم به، فإنه ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وقال العجلي: كان فقيهًا، وكان أحد مفتي الكوفة، وكان فيه تِيهٌ، وكان يقول: أهلكني حب الشرف، وولي قضاء البصرة، وكان جائز الحديث، إلا أنه صاحب إرسال، وكان يرسل عن يحيى بن أبي كثير، ومكحول، ولم يسمع منهما، وإنما يعيب الناس منه التدليس، قال: وكان حجاج راويًا عن عطاء، سمع منه. وقال أبو طالب عن أحمد: كان من الحفاظ، قيل: فلم ليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ليس يكاد له حديث إلا فيه زيادة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس بالقوي، يدلس عن محمد بن عُبيد الله الْعَرْزَميّ، عن عمرو بن شعيب. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وتركت الحجاج عمدًا، ولم أكتب عنه حديثًا قط. وقال أبو زرعة: صدوق يدلس. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وأما إذا قال: حدثنا فهو صالح، لا يرتاب في صدقه وحفظه، إذا بَيَّنَ السماع، ولا يحتج بحديثه، لم يسمع من الزهري، ولا من هشام بن عروة، ولا من عكرمة، وقال هشيم: قال لي الحجاج بن أرطاة: صِفْ لي الزهريّ، فإني لم أره. وقال ابن المبارك: كان الحجاج يُدَلّس، فكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب، مما يحدثه العرزمي متروك. وقال حماد بن زيد: قَدِم علينا جرير بن حازم من المدينة، فكان يقول: حدثنا

ص: 390

قيس بن سعد، عن الحجاج بن أرطاة، فلبثنا ما شاء الله، ثم قَدِم علينا الحجاج ابن ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على حماد بن أبي سليمان، رأيت عنده داود بن أبي هند، ويونس بن عبيد، ومطرًا الوراق جُثَاةً على أرجلهم، يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟ وقال هشيم: سمعته يقول: استفتيتُ وأنا ابن ست عشرة سنة. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: إنما عاب الناس عليه تدليسه عن الزهري وغيره، ربما أخطأ في بعض الروايات، فأما أن يتعمد الكذب فلا، وهو ممن يكتب حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: واهي الحديث، في حديثه اضطراب كثير. وقال: صدوق، وكان أحد الفقهاء. وقال ابن حبان: سمعت محمد بن نصر، سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن عيسى بن يونس قال: كان الحجاج بن أرطاة لا يحضر الجماعة، فقيل له في ذلك، فقال: أحضر مسجدكم حتى يزاحمني فيه الْحَمّالون والْبَقّالون؟ وقال الساجي: كان مدلسًا صدوقًا، سيئ الحفظ، ليس بحجة في الفروع والأحكام. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به إلا فيما قال أخبرنا، وسمعت. وقال ابن سعد: كان شريفًا، وكان ضعيفًا في الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال البزار: كان حافظًا مدلسًا، وكان مُعْجَبًا بنفسه، وكان شعبة يُثني عليه، ولا أعلم أحدًا لم يرو عنه - يعني ممن لقيه - إلا عبد الله بن إدريس. وقال مسعود السِّجْزي عن الحاكم: لا يحتج به. وكذا قال الدارقطني. وقال ابن عيينة: كنا عند منصور بن المعتمر، فذكروا حديثًا، فقال: من حدثكم؟ قالوا: الحجاج بن أرطاة، قال: والحجاج يُكتب عنه؟ قالوا: نعم، قال: لو سكتم لكان خيرًا لكم. وقال ابن حبان: تركه ابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: هذا القول فيه مجازفة، وأكثر ما نُقِم عليه التدليس، وكان فيه تِيهٌ لا يَلِيق بأهل العلم. انتهى.

وقال إسماعيل القاضي: مضطرب الحديث؛ لكثرة تدليسه. وقال محمد بن نصر: الغالب على حديثه الإرسال، والتدليس، وتغيير الألفاظ.

قال الهيثم: مات بخراسان مع المهدي. وقال خليفة: مات بالريّ، وأرّخه ابن حبان في "الثقات" سنة (145).

ص: 391

قال الحافظ: وقد رأيت له في البخاري رواية واحدة متابعةً تعليقًا في "كتاب العتق". أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف هذا الحديث فقط، مقرونًا بابن أبي غنيّة، والأربعة.

3 -

(ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ) هو: عبد الملك بن حُميد بن أبي غَنيّة - بفتح الغين المعجمة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة - الْخُزَاعيّ الكوفيّ، أصله من أصبهان، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وأبي إسحاق الشيباني، وثابت بن عبيد الأنصاريّ، والحكم بن عُتيبة، وعاصم بن أبي النَّجُود، وأبي الخطاب الهجريّ، والحسن بن قيس، والأعمش، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه، والثوريّ، وهو من أقرانه، ومحمد بن مهاجر الأنصاريّ، وهو من شيوخه، والوليد بن مسلم، ومبشر بن إسماعيل، وأبو أحمد الترمذيّ، ووكيع، ويحيى بن أبي زائدة، وعمارة بن بشر، وأبو المغيرة الْخَوْلانيّ، وأبو نعيم، وآخرون.

قال أحمد، عن يحيى: عبد الملك ثقةٌ، هو وأبوه، متقاربان في الحديث، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: ("تنَاوَليهَا) أي خذيها، وفي نسخة:"فناولينيها"، أي أعطينيها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[697]

(299) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كَامِلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، كلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ نَاوِلينيَ الثَّوْبَ" فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: "إِن حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ" فَنَاوَلَتهُ).

ص: 392

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) هو: فُضيل بن حسين الْجَحْدَريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، صدوقٌ ربما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ، إمامٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

5 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) الْيَشْكُريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

6 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وقوله: (نَاوِلينِي الثَّوْبَ) هذا لا ينافي ما تقدّم من قوله: "ناوليني الْخُمْرة"؛ لإمكان الحمل على واقعة أخرى، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 697](299)، و (النسائيّ)(1/ 192)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(912)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(688)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 393

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[698]

(300) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَام بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ، وَأنا حَائِضٌ، ثُمَّ أُناوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأتعَرَّقُ الْعَرْقَ، وَأَنا حَائِضٌ، ثُمَّ أُناوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ. وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ: فَيَشْرَبُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(وَكيع) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(مِسْعَر) بن كِدام بن ظُهَير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحِ) بن هانئ بن يزيد الحارثيّ الكوفيّ، ثقة [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.

5 -

(أَبُوهُ) هو: شُريح بن هانئ بن يزيد الحارثيّ، أبو الْمِقْدام الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] قُتِل مع أبي بكرة بسِجِسْتان سنة (78)(بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.

والباقون تقدّموا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

(1)

وفي نسحْة: "وحدّثنا".

ص: 394

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين غير شيخه زُهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ، وَأنا حَائِضٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (ثُمَّ أُناوِلُهُ)، أي أُعطي ذلك الشراب (النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) منصوب على أنه المفعول الأول و "أُناول"، والثاني ضمير النصب المتّصل به (فَيَضَعُ فَاهُ) منصوب على المفعوليّة، وهو من الأسماء الستة التي رفعها بالواو، ونصبها بالألف، وجرّها بالياء، كما بيّن ذلك في "الخلاصة" حيث قال:

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ وَ"هَنُ"

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

(عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ) بتشديد الياء، وأصله "فِي" بالتخفيف لغة في "الفم"، كما أسلفته آنفًا، فأُضيفت إلى ياء المتكلّم، فأُدغمت فيها، كما قال في "الخلاصة":

وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ

مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يضع فمه على الموضع الذي وضعت فيه فمي؛ إظهارًا لموَدّتها، واستجلابًا وإمالةً لقلبها، وبيانًا للجواز.

(فَيَشْرَبُ) بحذف المفعول؛ للعلم به، وكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

أي يشرب ذلك الشراب، (وَأتعَرَّقُ) بتشديد الراء، يقال: عَرَقَ الْعَظْمَ يَعْرُقُهُ عَرْقًا، من باب نصر، وتَعَرّقه، واعترقه: إذا أكل ما عليه، أفاده في "اللسان"، وقال ابن الأثير: عَرَقتُ العظمَ، واعترقته، وتعرّقته: إذا أخذت عنه

ص: 395

اللحم بأسنانك. انتهى

(1)

.

وقوله: (الْعَرْقَ) منصوب على المفعوليّة، وهو بفتح العين المهملة، وسكون الراء: العظمُ إذا أُخِذ عنه مُعظم اللحم، وجمعه عُرَاق بالضمّ، وهو جمع نادر، قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال في "القاموس": الْعَرْق - يعني بفتح، فسكون، كغُرَاب -: العظم أُكِل لحمه، جمعه ككِتاب، وغُرَابٍ، نادرٌ، أو الْعَرْقُ: العظم بلحمه، فإذا أُكل لحمه: فعُرَاقٌ بالضمّ، أو كلاهما لكليهما. انتهى

(3)

.

والمعنى هنا: أي آكل من العظم الذي أُخذ عنه معظم لحمه، وبقي عليه بقيّة.

وقال أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه": "أتعرّق: أنزع اللحم من العظم. انتهى

(4)

.

(وَأئا حَائِضٌ) جملة حاليّة أيضًا (ثُمَّ أُنَاوِلُهُ)، أي ذلك العرق (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ)، أي على الموضع الذي وضعت فيه فمي؛ إظهارًا لمودّتها، وبيانًا للجواز، كما أسلفته آنفًا.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ فَيَشْرَبُ)، يعني أن شيخه زهير بن حرب لم يذكر في روايته قولها:"فيشرب"، وإنما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية زهير هذه لم أجد من رواها عنه غير المصنّف، إلا أن الإمام أحمد رحمه الله رواها في "مسنده"، عن وكيع، فقال:

(24416)

حدثنا وكيع، حدثنا سفيان ومِسْعَر، عن المقدام بن شُرَيح، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كنت أشرب، وأنا حائض، فأناوله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَع فاه على موضع فِيَّ، وأتَعَرَّق العَرْق، وأنا حائض، فأناوله، فيضع فاه على موضع فِيَّ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"النهاية" 3/ 220.

(2)

"النهاية" 3/ 220.

(3)

"القاموس المحيط" ص 817.

(4)

"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 356.

ص: 396

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 698](300)، و (أبو داود) في "الطهارة"(259)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 149)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(643)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(388 و 1253)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1514)، و (الحميديّ) في "مسنده"(166)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 64 و 192 و 210)، و (الدارميّ) في "مسنده"(1/ 246)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(110)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1293 و 1360)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(900 و 901)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(689)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(321)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان طهارة فم الحائض، وريقها، وسائر بدنها، غير محلّ الدم.

2 -

(ومنها): طهارة سؤرها، وجواز مؤاكلتها، ومشاربتها.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، وحسن عشرته لأزواجه.

4 -

(ومنها): جواز مداعبة الرجل لزوجته، وإدخال السرور عليها بمثل هذا.

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً عظيمةً لعائشة رضي الله عنها، وبيان مقدار حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم لها.

6 -

(ومنها): جواز إقسام الرجل على زوجته، ففي رواية النسائيّ من طريق يزيد بن المقدام، عن أبيه: "ويدعو بالشراب، فيُقْسِم عليّ قبل أن يشرب منه، فآخذه، فأشرب منه

" الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

ص: 397

[699]

(301) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْمَكِّيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أُمِّه، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، وَأنا حَائِضٌ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ) أبو سليمان العطّار العبديّ، ثقةٌ [8]، (ت 4 أو 175)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 413.

2 -

(مَنْصُور) بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الْعُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَيّ القرشيّ العبديّ الْحَجَبيّ المكيّ، وهو ابن صفيّة بنت شيبة، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أمه صفية بنت شيبة، ومُسافِع بن شيبة الحجبيّ، وسعيد بن جبير، ومحمد بن عَبّاد بن جعفر، وأبي سعيد مولى ابن عباس.

ورَوَى عنه أخوه محمد، وزائدة، وابن جريج، ووهيب، وزهير بن معاوية، وزهير بن محمد، وداود بن عبد الرحمن العَطّار، وفضيل بن سليمان، والسفيانان، وآخرون.

قال الأثرم: سئل عنه أحمد؟ فأحسن الثناء عليه، وقال: ابنُ عيينة يثني عليه، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ثبتًا ثقةً، وقال الْحُمَيديّ، عن ابن عيينة: كان يبكي في وقت كل صلاة، وقال هشام بن الكلبي: رأيته في زمن خالد بن عبد الله يَحْجُب البيت، وهو شيخ كبير، وقال ابن حزم: ليس بالقويّ.

قال الجامع عفا الله عنه: تضعيفُ ابن حزم المتأخر بعد توثيق الأئمة المتقدّمين الخبيرين به، مما لا يُلتفت إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قيل: مات سنة سبع، أو ثمان وثلاثين ومائة.

أخرج لي البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط، برقم (301) و (332) و (906) وأعاده بعده، و (1236) و (2122) و (2975) وأعاده بعده.

ص: 398

3 -

(أُمُّهُ) هي: صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد الْعُزّى بن عثمان بن عبد الدار العبدرية، لها رؤية، وقال الدارقطني: لا تصح لها رؤية.

رَوَت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أم ولد لشيبة بن عثمان، وأم عثمان بن أبي سفيان بن حرب، وعائشة، وأم حبيبة، وأم سلمة، أمهات المؤمنين، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وحبيبة بنت أبي تجْراةَ، وغيرهم.

ورَوى عنها ابنها منصور بن عبد الرحمن الْحَجَبِيّ، وابنُ أخيها عبد الحميد بن جُبير بن شيبه، وابنُ أخيها الآخر، مُسافع بن عبد الله بن شبيب، وابن ابن أخيها الآخر، مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة، وسبطها محمد بن عمران الحجبي، وإبراهيم بن مهاجر، والحسن بن مسلم، وقتادة، والمغيرة بن حكيم، وعبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، وأم صالح بنت صالح، وغيرهم.

قال ابن معين: لم يسمع ابن جريج منها، وقد أدركها، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين. وقال العجليّ: مكيّةٌ تابعيّة ثقة.

وقال الحافظ: ذكر الْمِزّيُّ في "الأطراف" أن البخاري قال في "صحيحه": قال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذا رَدٌّ على ابن حبان، وقد أوضحت حال هذا الحديث فيما كتبته على "الأطراف". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لم أجد ما كتبه الحافظ على "الأطراف" في هذا الحديث، ونصّ المكتوب في "الأطراف" بعد ذكره الحديث المذكور من تعليق البخاري، ثم من رواية ابن ماجه موصولًا: قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال بهذا. لو صحّ هذا الحديث لكان صريحًا في سماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده أبان بن صالح، وهو ضعيف. انتهى.

ثم أورد حديثًا من رواية أبي داود، وابن ماجه، ثم قال: هذا الحديث يضعّف قولَ من أنكر أن تكون لها رؤية، فإنه حسن الإسناد. انتهى

(1)

.

(1)

"تحفة الأشراف" 11/ 343.

ص: 399

وقال في "الإصابة": مختلفٌ في صحبتها، وأبعد مَن قال: لا رؤية لها، فقد ثبت حديثها في "صحيح البخاريّ" تعليقًا، ثم ذكر حديث أبان بن صالح المذكور، ثم قال: وأخرج ابن منده من طريق محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَوْر، عن صفيّة بنت شيبة، قالت: "والله لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة

" الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحديث المذكور أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 69 من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقد صرّح بالتحديث، فالإسناد صحيح. والحاصل أن ثبوت صحبتها هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، والله تعالى أعلم بالصواب.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب (14) حديثًا.

والباقيان تقدّما في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وعائشة، فمدنيّة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أمه، وتابعيّ، عن تابعيّة، على القول بأنه لا رؤية لصفيّة، ورواية صحابيّة، عن صحابيّة، على القول بثبوت صحبتها، وهو الحقّ، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ)، أي يعتمد، قال الفيّوميّ رحمه الله: اتّكأ وزنه افْتَعَلَ، ويُستَعْمَل بمعنيين: أحدهما: الجلوس مع التمكّن، والثاني: القعود مع تمايل، معتمِدًا على أحد الجانبين، وقال

(1)

"الإصابة" 8/ 213.

ص: 400

أيضًا: توكّأ على عصاه: ابعتمد عليها، واتّكأ: جلس متمكّنًا، وفي التنزيل:{وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]، أي يجلسون، وقال:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، أي مجلسًا يَجلسن عليه، قال ابن الأثير: والعامّة لا تعرف الاتّكاء إلا الميل في القعود معتمدًا على أحد الشِّقّين، وهو يُستعمل في المعنيين جميعًا، يقال: اتّكأ: إذا أسند ظهره، أو جنبه إلى شيء يَعتمد عليه، وكلُّ من اعتمد على شيء، فقد اتّكأ عليه، وقال السَّرَقُسْطِيُّ أيضًا: اتّكاتُهُ: أعطيته ما يتّكئ عليه، أي ما يجلس عليه، والتاء مبدلة من واو، والاسمُ التُّكَأَةُ، مثالُ رُطَبَة. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ في "التوحيد": كان يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض"، فعلى هذا يكون المراد بالاتّكاء وضع رأسه في حجرها

(2)

.

(فِي حِجْرِي) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا لعامّة شيوخنا، وكافّة الرواة، وكذا عند البخاريّ، ووقع للعذريّ:"في حُجْرتي" - أي بضمّ الجيم، وبالتاء المثنّاة من فوقُ - وهو وَهَمٌ، والمعروف الأول. انتهى

(3)

.

و"الْحِجْر": بفتح الحاء المهملة، وقد تُكْسَر، وسكون الجيم: الْحِضْنُ، وهو ما بين الإبط إلى الْكَشْح، وفسّره في "النهاية" بأنه طرَفُ الثوب المقدّم، وقد تقدم تمام البحث فيه قريبًا. (وَأَنَا حَائِضٌ) قال القاضي عياض رحمه الله: وقع في هذا الحديث عند بعض الرواة: "وأنا حائضة"، وكذا كان عند شيخنا الصدفيّ، والْخُشنيّ، والوجهان جائزان، قال الله تعال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81]، وقال تعالى:{جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22]. وقال الأعشى [من الطويل]:

أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ

وَمَوْمُوقَةٌ مَا دُمْتِ فِينَا وَوَامِقَهْ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 76 و 2/ 671.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 389.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 132.

ص: 401

فأما إثبات الهاء فيها على إجرائها على فغل المؤنّث، حاضت فهي حائضة، وأما قولهم: حائضٌ، فللنحاة فيها وجهان:

أحدهما: أن حائض، وطالق، ومُرضِع مما لا يشترك فيه المذكَّر، فاستُغني فيه عن علامة التأنيث.

والثاني: - وهو الصحيح - أن ذلك على طريق النسب، أي ذات حيض، ورضاع، وطلاق، كما قال تعالى:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزّمل: 18]. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: جملة "وأنا حائض" في محلّ نصب حال، قال الكرمانيّ: إما من فاعل "يتّكئ"، وإما من المضاف إليه، وهي ياء المتكلّم في قوله:"في حجري".

قال الجامع عفا الله عنه: تعقّبه العينيّ في قوله: من فاعل "يتكئ". وعندي أن ما قاله الكرمانيّ صحيح، كما لا يخفى، فهو كقولك: جاء زيد، وأنا جالسٌ، وجواز مثل هذا لا خفاء فيه.

وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، أعني ياء المتكلّم في "حجري"؛ لكون المضاف جزءًا، أو كجزء

(2)

من المضاف إليه، كما في قوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:

وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ

إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ

أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا

أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا

قال في "العمدة": وكلمة "في" في قولها: "في حجري" بمعنى "على"، كما في قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي على جذوع النخل، قال: وفائدة العدول عنه بيان التمكّن فيه، كتمكّن المظروف في الظرف. انتهى

(3)

.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 134 - 135، بزيادة من "المفهم" 1/ 560.

(2)

أي: على اختلاف معنى الحجر، هل هو الحِضن، أو الثوب المقدّم أمامه؟ كما سبق.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 389.

ص: 402

(فَيَقْرَأُ) بالبناء للفاعل، أي يقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم (الْقُرْآنَ) قيل: فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قولها: فيقرأ القرآن إنما يَحسُنُ التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه، ولو كانت القراءة لها جائزةً لكان هذا التوهّم منتفيًا، كذا قال ابن دقيق العيد.

وعكس القاضي عياض رحمه الله، فقال: وقد استدلّ به بعض مشايخنا على قراءة الحائض القرآن، وإليه نحا البخاريّ في "كتابه"، وكذلك في حملها المصحف. انتهى

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: وجه استدلاله أنها لو كانت ممتنعةً من القراءة لامتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من قراءته في محلّ حامل للحيض؛ تشريفًا للقرآن؛ لأن قراءتها له في تلك الحالة حالة استقذار، وقراءته في حجرها قراءة في مكان حامل لمستقذر، ولا فرق بين حالة الاستقذار، ومكان الاستقذار في تنزيه القرآن، كما مُنِعت قراءته في الحمام والسوق، ونحوهما

(2)

. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي في المسألة الرابعة تحرير الخلاف في هذه المسألة، وترجيح القول بجواز قراءة الحائض والجنب القرآن - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 699](301)، و (البخاريّ) في "الحيض"(297)، و"التوحيد"(7549)، و (أبو داود) في "الطهارة"(260)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 147)، و"الحيض"(1/ 191)، و (ابن ماجه) في

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 132.

(2)

القول بكراهة قراءة القرآن في السوق ونحوه فيه نظرٌ لا يخفى، فتنبّه.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 201 - 202.

ص: 403

"الطهارة"(634)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1252)، و (الحميديّ) في "مسنده"(169)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 68 و 69 و 72 و 117 و 135 و 148 و 158 و 190 و 204 و 258)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(798)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 312)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(319)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(908)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(690)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها، وثيابها على الطهارة ما لم يَلحَق شيئًا منها نجاسةُ الحيض.

2 -

(ومنها): جواز القراءة مضطجعًا، ومتّكئًا على الحائض، وبقرب محلّ النجاسة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت أثوابها طاهرةً، وهو أحد القولين عند المالكيّة، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذه الأحاديث متّفقةٌ على الدلالة على أن الحائض لا يَنجُسُ منها شيء، ولا يُجتَنَب منها إلا موضع الأذى فحسبُ. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): استحباب تبليغ العلم للناس، والإخبارِ بأحواله صلى الله عليه وسلم ليُتأسَّى به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في قراءة القرآن للحائض، والجنب:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في قراءة الجنب والحائض القرآن، فكَرِهت طائفة أن يقرأ الجنب شيئًا من القرآن، وممن رُوِيَ عنه أنه كره ذلك عمر، وعليّ، والحسن، وإبراهيم، والزهريّ، وقتادة.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 211.

(2)

"المفهم" 1/ 560.

(3)

"المفهم" 1/ 559.

ص: 404

ورُوي عن جابر بن عبد الله بأنه سئل عن المرأة الحائض والنفساء: هل تقرأ شيئًا من القرآن؟ قال: لا.

وقال عَبِيدة: الجنب مثل الحائض، وقال عطاء: الحائض لا تقرأ شيئًا، والجنب الآية يُنفِذها، وقال أبو العالية، وإبراهيم، والزهريّ، وابن جبير: الحائض لا تقرأ من القرآن، وقال جابر بن زيد: الحائض لا تُتِمّ الآية.

واختُلِف في قراءة الحائض عن الشافعيّ، فحَكَى أبو ثور عنه أنه قال: لا بأس أن تقرأ، وحَكَى الربيع عنه أنه قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض، ولا يَحمِلان المصحف.

وحَكَى إسحاق بن منصور عن أحمد أنه قال: يقرأ الجنب طرف الآية والشيءَ، وكذلك قال إسحاق.

وحَكَى أبو ثور عن الكوفي أنه قال: لا تقرأ الحائض، وقال أبو ثور: لا تقرأ الحائض، ولا الجنب القرآن.

ورَخَّصت طائفة للجنب في القرآن، رَوَينا عن ابن عباس أنه كان يقرأ وِرْده، وهو جنب، فقيل له؟ فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك، وعنه قال: لا بأس أن يقرأ الجنب الآية ونحوها، وعن أبي مِجْلَز قال: دخلت على ابن عباس، فقلت له: أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: دخلتَ عليَّ، وقد قرأت سُبُع القرآن وأنا جنب.

وكان عكرمة لا يرى بأسًا للجنب أن يقرأ القرآن، وقيل لسعيد بن المسيب: أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، أليس في جوفه؟.

وقال مالك: لا يقرأ الجنب القرآن إلا أن يتعوذ بالآية والآيتين عند منامه، ولا يدخل المسجد إلا عابر سبيل، وكذلك الحائض؟.

وقال الأوزاعيّ: لا يقرأ الجنب شيئًا من القرآن إلا آية الركوب، إذا ركب قال:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} إلى قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، وآية النزول:{رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29].

ص: 405

وفيه قول ثالثٌ، قاله محمد بن مسلمة، كَرِه للجنب أن يقرأ القرآن حتى يغتسل، قال: وقد أُرخِص في الشيء الخفيف مثل الآية والآيتين يتعوذ بهما، وأما الحائض ومن سواها فلا يُكرَه لها أن تقرأ القرآن؛ لأن أمرها يطول، فلا تَدَع القرآن، والجنب ليس كحالها.

قال ابن المنذر: احتج الذين كَرِهوا للجنب قراءة القرآن بحديث عبد الله بن سَلِمة، قال: دخلت على عليّ، فقال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة، ثم يقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يَحْجُبُه عن القرآن شيء، ما خلا الجنابة

(1)

.

واحتَجَّ مَن سَهَّل للجنب أن يقرأ القرآن بحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه

(2)

.

قال ابن المنذر: فقال بعضهم: الذكر قد يكون بقراءة القرآن وغيره، فكلُّ ما وقع عليه اسم ذكر الله فغير جائز أن يُمْنَع منه أحدٌ، إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من ذكر الله على كل أحيانه، وحديث عليّ رضي الله عنه لا يثبت إسناده؛ لأن عبد الله بن سَلِمَة تفرد به، وقد تَكَلَّم فيه عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سَلِمة وإنا لنعرف وننكر، فإذا كان هو الناقل بخبره، فجرحه بطل الاحتجاج به، ولو ثَبَتَ خبر عليّ رضي الله عنه لم يجب الامتناع من القراءة من أجله؛ لأنه لم يَنْهَهُ عن القراءة، فيكونَ الجنب ممنوعًا منه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه ابن المنذر رحمه الله هو الحقّ الذي لا مَحِيد عنه.

والحاصل أنه لم يثبت في منع الجنب عن القرآن شيء يُعتدّ به، كما أوضحه العلماء، ومنهم البيهقيّ، والنوويّ في "المجموع"، فإنه ضعّف الأحاديث التي احتجّ بها المانعون.

(1)

حديث ضعيفٌ، أخرجه أبو داود في:"سننه" 1/ 59.

(2)

سيأتي للمصنف برقم (373).

(3)

"الأوسط" 2/ 96 - 100.

ص: 406

وخلاصة القول أن الراجح قول من قال بجواز قراءة القرآن للحائض والجنب، وهو - كما قال في "الفتح" - مذهب البخاريّ، والطبريّ، وابن المنذر، واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور.

لكنه مع ذلك يُكره؛ لحديث: "إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهر"، قاله في ردّ السلام، فالقرآن أولى من السلام، لكنه لا يُنافي الجواز، وقد أشبعت البحث في "شرح النسائيّ"

(1)

، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئًا من القرآن"، رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، ضعيفٌ؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عيّاش، وروايته عن غير أهل بلده ضعيفة، وهذا رواه عن موسى بن عقبة، وهو حجازيّ.

وكذا حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تقرأ الحائض، ولا النفساء من القرآن شيئًا"، رواه الدارقطنيّ، ففيه محمد بن الفضل، وهو متروك، أو منسوب إلى الوضع، وقد رُوي موقوفًا، وفيه يحيى بن أبي أُنيسة، كذّاب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مسّ الجنب والحائض المصحف:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في مَسّ الحائض والجنب المصحف، فكَرِه كثير منهم ذلك، منهم ابن عمر، قال: لا يمس المصحف إلا متوضئ، وكره الحسن للجنب مس المصحف، إلا أن يكون له عِلاقة، ورُوِي ذلك عن الشعبيّ، وطاوس، والقاسم، وعطاء، وقال الحكم، وحماد في الرجل يَمَسّ المصحف، وليس بطاهر قالا: إذا كان في عِلاقة فلا بأس، وكره عطاء، والزهريّ، والقاسم، والنخعيّ، مس الدراهم التي فيها ذكر الله تعالى على غير وضوء.

وكره مالك أن يَحْمِل المصحف بعِلاقته، أو على وسادة أحد إلا وهو طاهر، قال: ولا بأس أن يَحمله في الْخُرْج، والتابوت، والغِرَارة، ونحو ذلك

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 4/ 391 - 393.

ص: 407

مَن على غير وضوء، ويَحْمِل النصرانيّ، واليهوديّ المصحف في الغِرَارة والتابوت، في مذهبه.

وقال الأوزاعيّ، والشافعيّ: لا يَحمل المصحف الجنب والحائض، وقال أحمد، وإسحاق: لا يقرأ في المصحف إلا متوضئٌ، قال إسحاق: لِمَا صَحّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر"، وكذلك كان فعل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكره أحمد أن يمس المصحف أحد على غير طهارة، إلا أن يتصفحه بعُود أو بشيء.

وقال أبو ثور: لا يمس المصحفَ جنبٌ، ولا حائض، ولا غير متوضئ، قال: وذلك أن الله تعالى يقول: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، قال: وهذا قول مالك، وأبي عبد الله.

وحَكَى يعقوب عن النعمان أنه قال في الرجل الجنب: يأخذ الصُّرّة فيها دراهم، فيها السورة من القرآن، أو المصحف بعِلاقته قال: لا بأس، وقال: لا يأخذ الدراهم إذا كان جنبًا، وفيها السورة من القرآن في غير صُرّة، وكذلك المصحف في غير عِلاقته.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يأخذ ذلك، وهو على غير وضوء إلا في صُرّة، أو في عِلاقة.

قال ابن المنذر: أعلى ما احتَجّ به مَن كَرِه أن يمس المصحف غير طاهر قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وحديث عمرو بن حزم، قال: في كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو: "لا تَمَسّ القرآن إلا على طُهُور".

ورَخَّص بعض مَن كان في عصرنا للجنب والحائض في مس المصحف، ولبس التعويذ، وممس الدراهم والدنانير التي فيها ذكر الله تعالى على غير طهارة، وقال: معنى قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الملائكة، كذلك قال أنس، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وقال: وقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} خبر بضم السين، ولو كان نهيًا لقال: لا يَمَسَّنّه.

واحتَجّ بحديث أبي هريرة، وحذيفة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المؤمن لا يَنْجُس"، متّفقٌ عليه.

ص: 408

والأكثر من أهل العلم على القول الأول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي قول أكثر أهل العلم من أنه لا يجوز للمحدث أن يمسّ القرآن؛ لصحّة حديث عمرو بن حزم المذكور: "لا يمسّ القرآن إلا طاهر"، وقد أشبعت الكلام في صحته، وفي بيان أدلّة المانعين، والمجوّزين في "شرح النسائيّ"، فارجع إليه

(2)

تجد ما يشفيك - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في المرأة تُجنب، ثم تحيض قبل الاغتسال:

قال ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في المرأة تُجنب، فلا تغتسل حتى تَحيض، فقالت طائفة: تغتسل، فإن لم تفعل فغسلان عند طهرها، هذا قول الحسن، والنخعيّ، وعطاء، وجابر بن زيد.

وقال أبو ثور في الجنب: عليه أن ينوي بغسله الطهارة والجنابة، فإن اغتسل للجنابة ولم يتوضأ، ولم ينو به الوضوء أجزأه للجنابة، وتوضأ وضوءه للصلاة، وليس له أن يصلي إلا بوضوء.

وقالت طائفة: يجزيها غسل واحد إذا طهرت من الحيض، وروي هذا القول عن عطاء، وبه قال ربيعة، وأبو الزناد، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقد اختلف فيه عن الأوزاعي: فحكى الوليد بن مسلم عنه أنه قال: تغتسل من الجنابة وتقيم على الحيضة، وحكى الوليد بن يزيد عنه أنه قال: إن تركت الغسل فلا حرج، وإن اغتسلت فحسن وأستحب الاغتسال.

وقد احتجّ بعض من أوجب عليها للجنابة غسلًا، وللحيض غسلًا بأن الله تعالى أوجب الاغتسال من الجنابة، وأوجب الاغتسال من الحيض، وكل واحد منهما غير الآخر، فلا يجوز إسقاط أحد الغسلين عنها إلا بحجة من كتاب، أو سنة، أو اتفاق، ومعنى كل واحد منهما غير الآخر.

(1)

راجع: "الأوسط" 2/ 101 - 104.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 4/ 393 - 399.

ص: 409

واحتَجّ بعض من خالف هذا القول بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد، فدَلّ فعله هذا على أن المرأةَ إذا حاضت بعد جنابتها يجزئها غسل واحد، نظير ما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن المجامع عليه الاغتسال إذا جامع، فإذا عاوده أجزأه الاغتسال بالأول والآخر، وكذلك المرأة إذا أجنبت وجب عليها الغسل، فلما حاضت قبل أن تغتسل للجنابة أجزأها غسل واحد، كما أجزأ من جامع ثم عاد، فجامع غسل واحد.

ومن ذلك أن لا خلاف بينهم نعلم أن من بال فلم يُحدث وضوءًا حتى أتى الغائط، أو خرج منه ريح، أو كان ذلك كله منه في مقام واحد أن وضوءًا واحدًا يجزي عنه لذلك كله، وكذلك المرأة الجنب التي لم تغتسل حتى حاضت يجزيها غسل واحد. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول بإجزاء الغسل الواحد للجنابة والحيض، هو الأرجح؛ لظهور حجته، ومن أقوى الحجج إجماعهم على أن من تعددت منه أسباب الحدث، من البول والغائط وغيرهما يجزيه وضوء واحد، فهذا مثله من دون فرق، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[700]

(302) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِثٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ، لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ

(2)

فِي الْبُيُوت، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [البقرة: 222]، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَّاحَ"، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيه، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: يَا

(1)

"الأوسط" 2/ 104 - 106.

(2)

وفي نسخة: "ولم يجامعوها".

ص: 410

رَسُولَ الله، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟

(1)

فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا، فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا

(2)

، فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا).

رجال هذا الإسناد:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور قبل حديثين.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ ناقدٌ بصير [9](ت 198)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الْخَزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وأما حماد بن سلمة فقد أخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا في "كتاب الأدب" من "صحيحه".

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وقد دخل البصرة.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه قد تشرّف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين،

(1)

وفي نسخة: "أفلا نجامعهنّ" بهِمزة الاستفهام.

(2)

وفي نسخة: "في أثَرِهما".

ص: 411

وهو من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أنس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ الْيَهُودَ) بالدال المهملة: اسم للقبيلة، وقيل: إنما اسم هذه القبيلة يهوذا بالذال المعجمة، فعُرّب بقلب الذال دالًا، قال ابن سيده: وليس هذا بقويّ، قاله في "اللسان"

(1)

.

وقال في "المصباح": ويقال: هم يهودُ غير منصرف للعلميّة ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التنوين؛ لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنسبة إليه يهوديّ، وقيل: اليهوديّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أورده الصغاني "يهودا" في باب المهملة. انتهى

(2)

.

(كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ)، وللنسائيّ:"منهم"(لَمْ يُؤَاكِلُوهَا) بالهمز، ويُبدل واوًا، وقيل: إنه لغة

(3)

، أي لم يأكلوا معها؛ استقذارًا لها (وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ)، أي لم يساكنوهنّ، ولم يُخالطوهنّ، وفي نسخة:"ولم يجامعوها"، وفي رواية أبي داود:"لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها" بضمير المفردة في المواضع الثلاثة، وفي رواية النسائيّ بضمير جماعة الإناث في المواضع الثلاثة، وكلّه صحيح.

وقال في "المرقاة": وإنما جمع الضمير - أي في "يجامعوهنّ" -؛ لأن المراد بالمرأة الجنس، فعبّر أوّلًا بالمفرد، ثم بالجمع؛ رعايةً للّفظ والمعنى على طريق التفنّن. انتهى

(4)

.

(فِي الْبُيُوتِ) متعلّق بـ "يجامعوهنّ"، ومعناه: لم يُخالطوهنّ، ولم يُساكنوهنّ في المحلّ الواحد، وليس المراد مجامعتهنّ في الفرج.

(فَسَأَل أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ظاهر هذه الرواية أن السائلين جماعة

(1)

"لسان العرب" 3/ 439.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 642.

(3)

"المرقاة" 2/ 243.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 2/ 243 - 244.

ص: 412

من الصحابة رضي الله عنهم، وذكر الطبريّ رحمه الله أن السائل هو ثابت بن الدَّحْدَاح، وقيل: السائل عبّاد بن بشر، وأُسيد بن حُضير، وعزاه القرطبيّ للأكثرين، ولا تعارض؛ لاحتمال أن يكونوا كلهم سألوا، كما يقتضيه ظاهر رواية المصنّف رحمه الله.

و"متعلّق "سأل" محذوف، أي عن ذلك، والمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن حكم ما تفعله اليهود من إبعاد النساء عنهم كلَّ الإبعاد (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى) جوابًا عن هذا السؤال:({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}) أي الحيض، فالمحيض مصدر ميميّ، أي عن حكم الاستمتاع بالنساء زمنَ الحيض.

وقال النوويّ رحمه الله: المحيض الأول المراد به الدم، والثاني اختُلِف فيه، فمذهبنا أنه الحيض، ونفس الدم، وقال بعض العلماء: هو الفرج، وقال آخرون: هو زمن الحيض. انتهى

(1)

.

(قُلْ هُوَ)، أي المحيض بمعنى الدم السائل، لا بمعنى السيلان، ففيه الاستخدام (أَذًى)، أي قَذَرٌ، وأصل الأذى ما يتأذّى به الإنسان، وكان دم الحيض أذًى؛ لقبح لونه، ورائحته، ونجاسته، وإضراره، والتنكير فيه للقلّة، كما قال البغويّ، أي أذًى يسيرٌ لا يتجاوز الفرج، وما قاربه، فلا يتأذّى به إلا من جامعها، زوج، أو سيّد، دون من آكلها، أو ساكنها

(2)

.

وقال القرطبيّ المفسّر رحمه الله: {قُلْ هُوَ أَذًى} ، أي هو شيء تتأذّى به المرأة وغيرها، أي برائحة دم الحيض، والأذى كناية عن القذر على الجملة، ويُطلق على القول المكروه، كقوله تعالى:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، أي بما تسمعه من المكروه. انتهى

(3)

.

(فَاعْتَزِلُوا النَّسَاءَ) أي ابتعدوا عنهن (فِي الْمَحِيضِ) أي في زمن الحيض، إن حُمل المحيض على المصدر، أو في محلّ الحيض، إن حُمل على الاسم، ومقصود هذا النهي ترك المجامعة لهنّ، قاله القرطبيّ

(4)

.

وقال القاري: يعني أن الحيض أذى يَتأذّى معه الزوج من مجامعتها فقط،

(1)

"شرح النووي" 3/ 211.

(2)

"المنهل العذب المورود" 3/ 36.

(3)

"الجامع لأحكَام القرآن" 3/ 85.

(4)

المصدر السابق 3/ 86.

ص: 413

دون المؤاكلة، والمجالسة، والافتراش، أي فابعُدوا عنهنّ في المحيض، أي في مكان الحيض، وهو الفرج، أو حوله مما بين السرّة والركبة احتياطًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) متعلّق بـ "أنزل الله".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبيّنًا للاعتزال المذكور في الآية بكونه مقصورًا على بعض أفراده ("اصْنَعُوا)، أي افعلوا (كُل شَيْءٍ) من أنواع الاستمتاع، كالمباشرة، والقُبْلة، والمعانقة، واللمس، وغير ذلك، وفي رواية النسائيّ:"فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهنّ، ويشاربوهنّ، ويجامعوهنّ في البيوت"(إِلَّا النِّكَاحَ")، أي الجماع في الفرج، وفي رواية النسائيّ:"ما خلا الجماع"، و"النكاح" في اللغة يُطلق على الوطء، وعلى العقد، يقال: نكحتها: إذا وطئتها، أو تزوّجتها

(2)

، فرواية النسائيّ مبيّنة للمراد من رواية المصنّف.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "إلا النكاح" أي الجماع، وهو حقيقةٌ في الوطء، وقيل: في العقد، فيكون إطلاقًا لاسم السبب على المسبّب. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" تفسير للآية، وبيان لقوله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، فإن الاعتزال شاملٌ للمجانبة عن المؤاكلة، والمضاجعة، والمجامعة، لكنّه قُيّدَ بقوله تعالى:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فعُلم أن المراد منه المجامعة، فقال صلى الله عليه وسلم:"اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح"، أي الجماع؛ إطلاقًا لاسم السبب على المسبّب؛ لأن عقد النكاح سبب للجماع. انتهى

(4)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ)، أي وصل إليهم خبر ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر الصحابة رضي الله عنهم بأن يصنعوا في النساء كلّ شيء إلا الجماع في الفرج، (فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ) يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ: "ما يدَعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم

"، وهو من الرواية بالمعنى؛ لأن اليهود لا تعترف

(1)

"المرقاة" 2/ 244.

(2)

"المصباح" 2/ 624.

(3)

"المرقاة" 2/ 244.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 855.

ص: 414

برسالته صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا) من الأشياء في حال من الأحوال (إِلَّا خَالَفَنَا) بفتح الفاء، والفاعل ضمير "هذا الرجل"(فِيهِ) أي إلا في حال مخالفته إيانا في ذلك الشيء، يعنون بذلك أن ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم مخالف لدينهم.

[تنبيه]: هذا الذي قاله اليهود من مخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم لدينهم صحيحٌ فيما بدّلوا وغيّروا، واختلفوا فيه، كما قال الله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [النحل: 64]، وأما ما لم يُبدّل من شرع موسى عليه السلام، فإنه عليه السلام ما أتى مخالفًا لأصوله، بل جاء موافقًا له، ومحييًا لما درس منه؛ لأن أصل دين الأنبياء واحد، وإن اختلفت الفروع، كما قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13]، وأما الفروع فمنها ما يوافق، ومنها ما يخالف؛ لكونه منسوخًا بشرعنا، كما قال الله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية ما ملخّصه: هي إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بَعَث الله به رسلَهُ الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحن معاشرَ الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" - يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضَمّنه كلَّ كتاب أنزله، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: 36].

وأما الشرائع فمختلفة، في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا، ثم يَحِل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدّة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلًا وسنةً، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يُحِلّ الله فيها ما يشاء، ويُحَرِّم ما يشاء؛ لِيَعْلَم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد،

ص: 415

والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام. انتهى

(1)

.

والحاصل أن زعم اليهود في مخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما بدّلوا وغيّروا، وأما ما عدا ذلك فإنه ما جاء إلا مبيّنًا وموضّحًا لأصوله، وكاشفًا ما كتموه، وأخفوه من الحقّ، كما قال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 15]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} الآية [المائدة: 48]، والله تعالى أعلم.

(فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) - بتصغير الاسمين - ابن سِمَاك بن عَتِيك الأنصاريّ الأشهليّ، أبو يحيى، وقيل في كنيته غير ذلك، كان أحد النقباء ليلة العقبة، واختُلِف في شهوده بدرًا، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو سعيد الخدريّ، وأنس، وأبو ليلى الأنصاريّ، وكعب بن مالك، وعائشة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وحُصين بن عبد الرحمن، ولم يدركاه.

قال ابن إسحاق: لا عَقِب له، وقال ابن سعد: كان شريفًا في قومه كاملًا، وذكره موسى بن عقبة فيمن شَهِد العقبة الثانية، وقالت عائشة: كان من أفاضل الناس.

وقال عروة: مات أُسيد بن حُضير، وعليه دين أربعة آلاف درهم، فبيعت أرضه، فقال عمر: لا أترك بني أخي عالَةً، فَرَدَّ الأرض، وباع ثمرها من الغرماء أربع سنين بأربعة آلاف، كلَّ سنة ألف درهم.

وذكره ابن إسحاق في البدريين، ورَوَى الواقديّ ما يخالفه، أنه تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر، واعتَذَر عن تخلفه، وأرَّخ البغويّ، وابن السكن، وغيرهما وفاته سنة (20)، وعن المدائنيّ أنه توفي سنة (21)، وقال البخاريّ: مات أُسيد بن حُضير في عهد عمر، قاله عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه

(2)

.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير"(2/ 67).

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 176.

ص: 416

أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف حديث واحد برقم (1845) في "كتاب الإمارة" حديث:"إنكم ستلقون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".

(وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) بن وَقْش، ويقال: زُغْبة بن زَعُوراء بن عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ، أبو بشر، وأبو الربيع الأشهليّ، قال ابن عبد البر: لا يختلفون أنه أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير، وذلك قبل إسلام سعد بن معاذ، وشَهِد بدرًا، والمشاهد كلها، وكان ممن قَتَل كعبَ بن الأشرف، وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: وممن شهد بدرًا عبادُ بن بشر، وقُتِل يوم اليمامة شهيدًا وكان له بَلاءٌ وغَنَاءٌ، وهو ابن (45) سنة.

وقال أبو نعيم في "المعرفة": رَوَى عنه أنس بن مالك، وقال ابن سعد: آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه، وبين أبي حُذيفة بن عُتبة رضي الله عنهما.

ليست له رواية في الكتب الستّة، وإنما رَوَى له أبو داود في كتابه "مناقب الأنصار" حديثًا واحدًا، من رواية حُصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن ثابت، عنه، بقوله للأنصار:"أنتم الشعار، والناس الدثار".

(فَقَالَا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا)، أي ما تقدّم من كلامهم البذئ (أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟)، وفي بعض النسخ بحذف همزة الاستفهام، وفي رواية النسائيّ:"أنجامعهنّ في المحيض"، والمعنى: أتأمرنا بمخالفة اليهود فيهنّ المخالفة التامّة، فنجامعهنّ في حالة الحيض، وإنما حملهما على ما قالا؛ شدّةُ بغضهما لليهود، فأرادا إدخال الغيظ عليهم بذلك، (فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية النسائيّ:"فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تمعّرًا شديدًا"، وهو بمعنى تغيّر، وأصل التمعّر قلّة النَّضَارة، وعدم إشراق اللون، ومنه المكان الأمعر، وهو الْجَدْبُ الذي ليس فيه خِصْبٌ.

وإنما تغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهما هذا؛ لمخالفته نصّ كتاب الله، حيث قال:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].

(حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ)، أي أنّه صلى الله عليه وسلم (قَدْ وَجَدَ)، أي غَضِب، يقال: وَجَد عليه يَجِد وَجْدًا، من باب وَعَد، ومَوْجِدَةً: غَضِبَ عليه، وفي رواية النسائيّ:"حتى ظنّنا أنه قد غَضِب"(عَلَيْهِمَا) أي على أُسيد، وعبّاد رضي الله عنهما.

ص: 417

[تنبيه]: "أَنْ" في قوله: "أن قد وجد" بفتح الهمزة، وسكون النون، هي المخفّفة من الثقيلة، واختُلف في اسمها، فقيل: ضمير شأن محذوف، وقيل: ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخبرها الجملة بعدها، وإلى هذا أشار ابن مالك: في "الخلاصة" حيث قال:

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ اوْ

تَنْفِيسٍ اوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"

و"أن" وما دخلت عليه في تأويل المصدر سدّت مسدّ مفعولي "ظنّ".

(فَخَرَجَا)، وفي رواية النسائيّ:"فقاما"، أي خرج أُسيدٌ وعبّادٌ رضي الله عنهما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلقا إلى حاجتهما، ويحتمل أن يكون خروجهما؛ خوفًا من زيادة تغيّره صلى الله عليه وسلم عليهما (فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ) ذكّر الفعل؛ لكون الفاعل، وهو "هديّة" مجازيَّ التأنيث، أي فاستقبل الرجلين شخص معه هديّة يُهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسناد مجازيّ، قاله الطيبيّ

(1)

. (مِنْ لَبَنِ)"من" بيانيّة، والجارّ والمجرور صفة لـ "هديّة"، وقوله:(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّقَ بصفة لـ "هديّة" أيضًا، أي "يُهديها" إليه صلى الله عليه وسلم (فَأَرْسَلَ) بالبناء للفاعل، أي أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم من يردّهما إليه (فِي آثَارِهِمَا) بالمدّ جمع أَثَر، كسبب وأسباب، وفي نسخة: أثرهما" بالإفراد، وهو بفتحتين، وقيل: بكسر، ففتح، والمراد آثار أقدامهما، وهو كناية عن سرعة الإرسال وراءهما؛ لأن أثر المشي لا يبقى طويلًا، وفي رواية النسائيّ: "فبعث في آثارهما، فردّهما" (فَسَقَاهُمَا) معطوف على محذوف، أي فحضرا، فسقاهما ذلك اللبن، وإنما خصّهما به؛ تطييبًا لخاطرهما، حيث ظنّا أنه غضب عليهما (فَعَرَفَا) بالبناء للفاعل، والألف ضمير أسيد، وعبّاد رضي الله عنهما، وفي رواية النسائيّ: "فعُرف" بالبناء للمفعول، أي عرف الناس (أَنْ) تقدّم أنها مخفّفة من الثقيلة، أي أنه صلى الله عليه وسلم (لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا)، وفي رواية النسائيّ: "أنه لم يغضب عليهما"، أي لم يغضب على الرجلين، أو لم يستمرّ على الغضب، بل زال عنه، وذهب، وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"الكاشف" 3/ 856.

ص: 418

وقال القرطبيّ رحمه الله: وتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أُسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر رضي الله عنهما إنما كان ليُبيّن أن الحامل على مشروعيّة الأحكام إنما هو أمر الله تعالى، ونهيه، لا مخالفة أحد، ولا موافقته كما ظَنّا، ثم لَمّا خرجا من عنده، وتركاه على تلك الحالة خاف عليهما أن يَحزنا، وأن يتكدّر حالهما، فاستدرك ذلك، واستمالهما، وأزال عنهما ما أصابهما، بأن أرسل إليهما اللبن، فسقاهما؛ رأفةً ورحمةً منه صلى الله عليه وسلم لهما، على مقتضى خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال الله {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[3/ 700](302)، و (أبو داود) في "الطهارة"(258)، وفي "النكاح"(2165)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2977)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 152 و 187)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(644)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2052)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 246)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 245)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(903)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(691)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1362)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 313)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(314)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم وطء الحائض، وهو مجمع عليه، فمن فعله عالِمًا عصى، ومن استحلّه كفر؛ لأنه محرّم بنصّ كتاب الله، ولا يرتفع التحريم إلا بانقطاع الدم والاغتسال عند أكثر أهل العلم، كما تقدّم بيانه.

(1)

"المفهم" 1/ 561.

ص: 419

2 -

(ومنها): بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة.

3 -

(ومنها): جواز الاستمتاع بالحائض بكلّ أنواع الاستمتاع ما عدا الوطء في الفرج.

4 -

(ومنها): سماحة دين الإسلام، حيث أحلّ الاستمتاع المذكور.

5 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياضٌ رحمه الله: فعلُهُ صلى الله عليه وسلم مع الصحابيين في تطييب نفوسهما، وزوال الوحشة من قلوبهما بسقيهما اللبن إِثْرَ ما أظهر من الإنكار لسؤالهما في وطء الحائض مخالفةً لليهود، وتغيّر وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك حتى ظُنّ أن قد وجَدَ عليهما فيه من حسن العشرة، والرفق، والرأفة بالمؤمنين، والرحمة التي جعلها الله من صفات نبيّه صلى الله عليه وسلم، لا سيّما ما كان يَلحقهما من ظنهما غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهما، ولا سيّما فيما هو من باب الدين والشريعة. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): عدم مقابلة المسلم بما يسوؤه وإن أساء، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كلّمهما، بل سكت عنهما.

7 -

(ومنها): مشروعيّة الغضب على من ارتكب ما لا يليق به.

8 -

(ومنها): أنه لا يجوز إغاظة العدوّ بما فيه مخالفة الشريعة.

9 -

(ومنها): مشروعيّة قبول الهديّة، وتفريقها على غير الْمُهْدَى إليه.

10 -

(ومنها): أنه لا ينبغي استمرار الغضب على المسلم إذا لم يوجد ما يقتضي ذلك.

11 -

(ومنها): استحباب سكوت التابع عند غضب المتبوع تأدّبًا معه.

12 -

(ومنها): استحباب الملاطفة، والمؤانسة بعد الغضب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 135.

ص: 420

(4) - (بَابُ الْمَذْيِ)

قال الجامع عفا الله عنه: "الْمَذي" فيه لغاتٌ، أفصحها فتح الميم، وسكون الذال المعجمة، وتخفيف الياء، ثم كسر الذال، وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيقٌ، لَزِجٌ، يخرُج عند الملاعبة، أو تذكّر الجماع، أو إرادته، وقد لا يُحَسُّ بخروجه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في "المذي" لغات: مَذْيٌ بفتح الميم، وإسكان الذال، ومَذِيّ بكسر الذال، وتشديد الياء، ومَذِي بكسر الذال، وتخفيف الياء، فالأوليان مشهورتان، أولاهما أفصحهما وأشهرهما، والثالثة حكاها أبو عمرو الزاهد، عن ابن الأعرابيّ، ويقال: مَذَى، وأمذى، ومَذّى الثالثة بالتشديد، والمذي: ماءٌ أبيض، رقيق لَزِج يخرج عند شهوة، لا بشهوة، ولا دِفْقٍ، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، ويكون ذلك للرجل والمرأة، وهو في النساء أكثر منه في الرجال. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْمَذْيُ: ماء رقيقٌ يَخرُج عند الملاعبة، ويَضرِب إلى البياض، وفيه ثلاث لغات: الأولى: سكون الذال، والثانية: كسرها مع التثقيل، والثالثة: الكسر مع التخفيف، ويعرب في الثالثة إعراب المنقوص، ومَذَى الرجلُ يَمْذي، من باب ضَرَبَ، فهو مَذّاءٌ، ويقال: الرجل يَمْذِي، والمرأة تَقْذي، وأمذى بالألف، ومذَّى بالتثقيل كذلك. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": المذي بفتح الميم، وسكون الذال المعجمة، وبكسر الذال، وتشديد الياء، وبكسر الذال المعجمة، وتخفيف الياء، حُكِي ذلك عن ابن الأعرابيّ، وهو الماء الرقيق الذي يَخرُج عند الملاعبة والتقبيل، وقال ابن الأثير: هو البلل اللَّزِج الذي يَخرُج من الذكر عند ملاعبة النساء، ولا يَعْقُبُه فُتُور، وربما لا يُحَسُّ بخروجه، وهو في النساء أكثر منه في الرجال.

(1)

"الفتح" 1/ 451 - 452.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 213.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 567.

ص: 421

وقال الأمويّ: المذيّ، والوديّ، مشددتان، كالمنيّ، قلت

(1)

: المشهور أن الودي بفتح الواو، وسكون الدال، هو البلل اللَّزِج، يخرُج من الذكر بعد البول، يقال: وَدَى، ولا يقال: أودى، قاله الجوهريّ، وقال غيره: يقال: أودى أيضًا، وقيل: التشديد أصحّ وأفصح من السكون.

والمنيّ بتشديد الياء: ماء خاثر، أبيض يتولد منه الولد، ويَنكَسِر به الذكر، يقال: مَنَى الرجل، وأمنى، ومَنَّى مشددًا الكل بمعنًى. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[701]

(303) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُشَيْمٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ مُنْذِرِ بْنِ يَعْلَى، وَيُكْنَى أَبَا يَعْلَى، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّة، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِه، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَد، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هُشَيْم) بن بَشِير بن القاسم السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مُنْذِرُ بْنُ يَعْلَى) الثوريّ - بالمثلّثة - أبو يعلى الكوفيّ، ثقة [7].

رَوَى عن محمد بن علي بن أبي طالب، والربيع بن خُثيم، وسعيد بن جبير، وعاصم بن ضمرة، والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه الربيع، والأعمش، وفِطْر بن خليفة، وسالم بن أبي حفصة، وسعيد بن مسروق الثوريّ، والحسن بن عمرو الْفُقَيميّ، ومحمد بن سُوقة.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة، وقال: كان ثقةً، قليل

(1)

القائل هو العينيّ، صاحب "العمدة".

(2)

"عمدة القاري" 2/ 324.

ص: 422

الحديث، وقال ابن معين، والعجليّ، وابن خِرَاش: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: رَوَى عن أم سلمة إن كان سَمِعَ منها.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ) هو: محمد بن علي بن أبي طالب الهاشميّ، أبو القاسم المدني المعروف بابن الحنفية، وهي خولة بنت جعفر بن قيس، من بني حَنِيفة، ويقال: من مواليهم، سُبِيَت في الرِّدّة من اليمامة، ثقة، عالمٌ [2].

رَوَى عن أبيه، وعثمان، وعمار، ومعاوية، وأبي هريرة، وابن عباس، ودخل على عمر.

ورَوَى عنه أولاده: إبراهيم، والحسن، وعبد الله، وعمر، وعون، وابن أخيه، محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وحفيد أخيه، محمد بن علي بن الحسين، وابن أخته، عبد الله بن محمد بن عَقِيل، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم.

قال العجليّ: تابعي ثقة، كان رجلًا صالِحًا يُكنى أبا القاسم. قال إبراهيم بن الجنيد: لا نَعلَم أحدًا أسند عن عليّ، ولا أصحّ مما أسند محمد. وقال الزبير بن بكار: وتسميه الشيعة المهديّ، قال: وكانت شيعة محمد بن علي تَزْعُم أنه لم يمت، وأورد لِكُثّيِّر عَزَّة، وللسيّد الْحِمْيَريّ في ذلك أشعارًا.

قيل: إنه وُلد في خلافط أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر، ومات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة ثمانين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنتين وثمانين، وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقيل غير ذلك.

قال البخاري في "تاريخه": ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي حَمْزَة، قال: قضينا نُسُكنا حين قُتِل ابن الزبير، ثم رجعنا إلى المدينة مع محمد، فمكث ثلاثة أيام، ثم تُوُفّي، وقد دخل على عمر، وهو غلام.

وقال ابن سعد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي حَمَزة، قال: كانوا يُسَلِّمون على محمد بن عليّ: السلام عليك يا مهديُّ، فيقول: أَجَلْ أنا مَهْدِيّ أَهْدِي إلى الخير، ولكن إذا سَلَّمَ أحدكم، فليقل: السلام عليك يا محمد. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل بيته.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 423

4 -

(عَلِيّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب الهاشميّ الخليفة الراشد رضي الله عنه (ت 40) عن (63) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير هُشيم، فواسطيّ، وابن الحنفيّة، فمدنيّ، وعليّ رضي الله عنه مدنيّ، نزل الكوفة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، وهو الأعمش، وهو من الطبقة الخامسة، عن غير تابعيّ، وهو منذر؛ لأنه من الطبقة السابعة، فيكون من رواية الأكابر عن الأصاغر.

5 -

(ومنها): ما قيل: لا يُعلَم أحدٌ أسند عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر، ولا أصحّ مما أسنده محمد ابن الحنفيّة رحمه الله، قاله العينيّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: محمد بن عليّ، عن عليّ رضي الله عنه.

7 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمة، ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج بنته فاطمة رضي الله عنها، وأبو الحسنين، وأول من آمن من الصبيان، وصلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة على الأصحّ، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأول خليفة أبواه هاشميّان، ولم يَلِ بعده ممن أبوأه هاشميّان غير محمد الأمين ابن زُبيدة، وهو من النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى في الأخوّة، وشدّ الأزر، لا في النبوّة

(2)

، وغير ذلك من الفضائل رضي الله عنه لا يشاركه في معظمها غيره، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 323.

(2)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 633 - 640.

ص: 424

شرح الحديث:

(عَنْ مُنْذِرِ) بضمّ الميم، وسكون النون، وكسر الذال المعجمة (ابْنِ يَعْلَى) بفتح الياء التحتانيّة، وسكون العين المهملة، وفتح اللام (وَيُكْنَى) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله ضمير منذر، قال المجد رحمه الله: كَنَى زيدًا أبا عمرو، وبه، كُنْيَةً بالكسر والضمّ: سمّاه به، كأكناه، وكَنّاه، وأبو فلانٍ كُنْيَتُهُ، وكُنْوَته، ويُكسران. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: كنيته أبا محمد، وبأبي محمد، قال ابن فارس: وفي كتاب الخليل: الصواب الإتيان بالياء، قال: والكُنية اسم يُطلق على الشخص للتعظيم، نحو أبي حفص، وأبي الحسن، أو علامةً عليه، والجمع كُنًى بالضمّ في المفرد والجمع، والكسر فيهما لغةٌ، مثلُ بُرْمة وبُرَمٍ، وسِدْرة وسِدَرٍ. انتهى

(2)

.

(أَبَا يَعْلَى) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "يُكنَى"؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى اثنين، ويتعدّى إلى الثاني أيضًا بالباء، كما أسلفناه آنفًا، (عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ) هو محمد بن عليّ المترجم آنفًا، والحنفيّة أمه، وهي خولة بنت جعفر الحنفيّ اليماميّ، وكانت من سبي بني حَنِيفة، (عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا) قال ابن الملقّن رحمه الله: فيه احتمالان: أحدهما: أن ذلك حكاية عما مضى، وانقطع عنه حين إخباره به، وهو بعيد، وأظهرهما أن هذه حالة مستدامة له، ويكون من باب قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 111]، أي أنه لَمّا علم الناس أنه تعالى عليم حكيم، قيل لهم، ولذلك كان في الأول على ما هو عليه الآن من العلم والحكمة

(3)

.

وقوله: (مَذَّاءً) بالنصب صفة لـ "رجلًا"، أي كثير المذي، وهو بفتح الميم، وتشديد الذال المعجمة على الأفصح، وبالمدّ، على وزن فَعّال بالتشديد، كضرّاب من الضرب، يقال: مَذَى الرجل يَمْذِي، من باب ضرب يضرب، ثلاثيًّا، وأمذى يُمْذي، كأعطى يُعطي رباعيًّا، وقد استوفيتُ بيان لغات المذي والمنيّ، والودي، ومعانيها أول الباب.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1196.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 542.

(3)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 643.

ص: 425

وفي رواية لأبي داود، والنسائيّ، بإسناد صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان بعدَ "مذّاء":"فجعلتُ أغتسل في الشتاء، حتى تشقّق ظهري، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذُكر له - فقال: لا تفعل، إذا رأيت المذي، فاغسل ذكرك، وتوضّأ وضوءك للصلاة، فإذا فَضَخْت الماء، فاغتسل".

ومعنى "فَضَختَ" بالفاء، والخاء المعجمة: دَفَقتَ.

وفي "سنن البيهقيّ" من حديث ابن جريج، عن عطاء أن عليًّا كان يُدخل في إحليله الفتيلة من كثرة المذي

(1)

.

(وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي) مضارع استحيى، والاستحياء، وهو انقباض النفس؛ خشيةَ ارتكاب ما يُكرَه، وقال الفيّوميّ: الاستحياء: هو الانقباض، والانزواء، قال الأخفش: يتعدّى بنفسه، وبالحرف، فيقال: استحييتُ منه، واستحييته، وفيه لغتان: إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لغة تميم بياء واحدة. انتهى

(2)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: المراد بالحياء هنا: تغيّر وانكسارٌ يَعْرِض للإنسان من تخوّف ما يُعاتب به، أو يُذمّ عليه، وأما الحياء الشرعيّ الممدوح عليه الذي لا يأتي إلا بخير، فهو: رؤية النعم، ورؤية التقصير، فيتولّد بينهما حالة تُسمّى حياءً، وتلك حالة حاملة على مزيد الشكر، واستقصار الأعمال، والحياء المذموم، كالحياء المانع من التعلّم، وحياءُ عليّ رضي الله عنه لم يقض عليه، ولهذا أرسل، وسأل. انتهى

(3)

.

(أَنْ أَسْأَل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "أستحيي"، أي أستحيي سؤالَهُ، أو من سؤاله، عن حكم المذي، هل هو موجب للغسل كالمنيّ، أم لا؟.

قال ابن الملقّن رحمه الله: قوله: "أن أسأل" تقديره من أن أسأل، وحرف الجرّ يُحذف من "أنّ"، و"أَنْ" قياسًا، ثم اختَلف النحاة، هل يكون "أنّ"،

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 644.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 160.

(3)

"الإعلام" 1/ 644 - 645.

ص: 426

و"أنْ" في موضع نصب، أو جرّ؟. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه القاعدة التي ذكرها ابن الملقّن رحمه الله أشار في "الخلاصة"، حيث قال:

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ يَطَّرِدُ"

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

وقوله: (لِمَكَانِ ابْنَتِهِ) متعلّقٌ بـ "أستحيي"، فهو علّة الاستحياء من السؤال، وفي الرواية التالية:"من أجل فاطمة"، وفي رواية النسائيّ:"وكانت فاطمة ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم تحتي، فاستحييت أن أسأله".

والمعنى: أنه استحيى من سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حكم المذي؛ لكون ابنته فاطمة رضي الله عنها تحته، والمذي إنما يخرج كثيرًا بسبب ملاعبة الزوجة، وكان في السؤال عن كثرته تعريض بشيء من أحوال ابنته التي يستحيي من إظهارها؛ لأن مثل هذا لا يكاد يُفصح به، ولا سيّما بحضرة الأكابر، وإنما عَلَّل الحياء بذلك؛ رفعًا للّوم عنه بأن الاستحياء من السؤال في الحقّ، وتعلّم الأحكام الدينيّة؛ مذموم

(2)

.

(فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) أي التمست منه أن يسأل عن ذلك.

والمِقداد - بكسر الميم، وسكون القاف، وبالمهملتين - ابن الأسود: هو المقداد بن عَمْرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرانيّ، ثم الْكِنْديّ، ثم الزهريّ، كان أبوه حليفًا لبني كِنْدة، وكان هو حليفًا للأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فتبنّاه الأسود، فنُسب إليه، صحابيّ مشهور، من السابقين إلى الإسلام، مات رضي الله عنه سنة (33)، وهو ابن (70) سنة، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 281.

قال الجامع عفا الله عنه: اختلفت الروايات في السائل، ففي هذه الرواية، "فأمرت المقداد إلخ"، وفي رواية للبخاريّ:"فأمرت رجلًا"، وفي رواية أحمد، والنسائيّ:"فأمرت عمّارَ بن ياسر"، وفي "صحيح ابن خزيمة"، وغيره: رواية: "أن عليًّا سأل" من غير شكّ، وقد جمع ابن حبّان رحمه الله بأنه يحتمل أن يكون عليّ أمر عمّارًا أن يسأل، ثم أمر المقداد أيضًا، ثم سأل

(1)

"الإعلام" 1/ 645.

(2)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 2/ 32.

ص: 427

بنفسه

(1)

، وهو جمع حسنٌ، وسيأتي نقل عبارته بطولها قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وجمع النوويّ في "شرح المهذّب" بأن قال: رواية: "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" المراد: أمرت من ذكر، كما جاء في معظم الروايات، قال: وتُحْمَل رواية: "فأمرت المقداد"، ورواية:"فأمرت عمّارًا" على أنه أمر أحدهما، ثم أمر الآخر قبل أن يُخبر الأول. انتهى

(2)

.

(فَسَأَلَهُ) يقال: سأله كذا، وعن كذا، وبكذا، يتعدّى بنفسه إلى المفعول الثاني، وبـ "عن"، وبالباء، والأمر: سَلْ، واسأل، ويقال: سال يسال، كخاف يخاف، أفاده في "القاموس"

(3)

.

والمعنى: أن المقداد رضي الله عنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سؤالًا مبهمًا بأن قال: رجل خرج من ذكره مذي، فما الحكم فيه؟، وفي الرواية الثالثة:"فسأله عن المذي الذي يَخرُج من الإنسان، كيف يفعل به؟ ".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا عن سؤاله (يَغْسِلُ) الرواية بالرفع، وهو خبر بمعنى الأمر، بدليل الرواية الآتية بلفظ:"توضّأ، وانضح فرجك"، أي ليغسل الرجل المسئول له.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: المشهور في الرواية "يَغْسِلُ" بالرفع، على صيغة الإخبار، وهو استعمال لصيغة الإخبار بمعنى الأمر، واستعمال صيغة الإخبار بمعنى الأمر جائزٌ؛ لما يشتركان فيه من معنى الإثبات للشيء، ولو رُوي يَغْسِل ذكره بالجزم على حذف اللام الجازمة، وإبقاء عملها لجاز عند بعضهم على ضعف، ومنهم من منعه إلا للضرورة، كقوله [من الوافر]:

مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ

إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ أَمْرٍ تَبَالَا

(4)

أي لتفد، وأجازه الفرّاء بلا ضعف، وجعل منه قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، وارتكابه لذلك في الآية؛ لأنه استبعد

(1)

راجع: "الإحسان بتقريب صحيح ابن حبّان" 3/ 390.

(2)

راجع: "المجموع" 2/ 143 - 144.

(3)

"القاموس المحيط" ص 911.

(4)

راجع: "إحكام الأحكام" مع حاشيته "العدّة" 1/ 310 - 311.

ص: 428

أن يكون القول سببًا للإقامة، قال الرضيّ: والأولى أن يقال: هو مجزوم لأنه جواب الأمر، ولا يلزم أن يكون الشرط علّة تامّةً لحصول الجزاء، بل يكفي في كونه شرطًا توقّف الجزاء عليه، وإن كان متوقّفًا أيضًا على أشياء أخرى، وقال بعضهم: جَزَمه لكونه شبه الجواب، وفي "الكشّاف" القول محذوف؛ لأن جواب {قُلْ} يدلّ عليه، والتقدير: قل للذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال ابن الملقّن رحمه الله: جاء في القرآن الأمر بلفظ الخبر، كقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، وجاء أيضًا الخبر بلفظ الأمر، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، والسرّ في العدول عن الأصل فيهما ما أبداه الفاكهيّ:

أما سرّ الأول، فلأن الخبر يستلزم ثبوت مخبَره، ووقوعَهُ إذا كان مبيّنًا، بخلاف الأمر، فإذا عُبّر عن الأمر بلفظ الخبر كان ذلك آكد؛ لاقتضائه الوقوع حتى كأنه واقع، ولذلك اختير الدعاء بلفظ الخبر تفاؤلًا بالوقوع.

وأما سرّ الثاني، فلأن الأمر شأنه أن يكون بما فيه داعيةٌ للأمر، وليس الخبر كذلك، فإذا عُبِّر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالداعية، فيكون ثبوته، وصدقه أقرب. انتهى

(2)

.

(ذَكَرَهُ) لخروج النجس عنه؛ لأن المذي نجس، واختُلف في المراد بغسل الذكر، هل هو جميعه، أو ما تلوّث بالمذي، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة الرابعة مع ترجيح القول بوجوب غسل جميعه - إن شاء الله تعالى -، (وَيَتَوَضَّأُ) أي لانتقاض وضوئه بسبب خروج المذي منه، وفي رواية النسائيّ:"ويتوضّأ وضوءه للصلاة"، أي كما يتوضّأ إذا قام لها، لا أنه يجب الوضوء بمجرّد خروجه، كما ادّعاه قوم، قال في "الفتح": واستُدِلّ به على أن الغسل لا يجب بخروج المذي، وصَرّح بذلك في رواية لأبي داود وغيره، وهو إجماع، وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول، وحَكَى الطحاويّ عن قوم

(1)

راجع: "العدّة حاشية العمدة" 1/ 311.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 649 - 650.

ص: 429

أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه، ثم رَدّ عليهم بما رواه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ رضي الله عنه، قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: "فيه الوضوء، وفي المنيّ الغسل"، فعُرِف بهذا أن حكم المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء، لا يوجب الوضوء بمجرّده. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يغسل ذكره" ظاهر هذا أنه يغسل جميع ذكره؛ لأن الاسم للجملة، وهو رأيُ المغاربة من أصحابنا - يعني المالكيّة - وهل ذلك للعبادة، فيفتقر إلى نيّة، أو لقطع أصل المذي فلا يحتاج؟ قولان لأبي العبّاس الإتيانيّ، وأبي محمد بن أبي زيد، وذهب بعض العراقيين من أصحابنا إلى أنه يغسل موضع النجاسة فقط، ولم يختلف العلماء أن المذي إذا خرج على الوجه المعتاد أنه ينقض الوضوء. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: هكذا وقع في رواية المصنّف: تقديم غسل الذكر على الوضوء، وهو الأولى، ووقع في رواية للبخاريّ تقديم الأمر بالوضوء على غسله، ولفظه:"توضّأ، واغسل ذكرك"، فقال في "الفتح": هكذا وقع في البخاريّ تقديم الأمر بالوضوء على غسله، ووقع في "العمدة" نسبة ذلك إلى البخاريّ بالعكس، لكن الواو لا تُرَتِّب، فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيليّ، فيجوز تقديم غسله على الوضوء، وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن مَن يقول بنقض الوضوء بمسّه، يَشترِط أن يكون ذلك بحائل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عته: هكذا عزا صاحب "الفتح" رواية تقديم غسل الذكر على الوضوء للإسماعيليّ، مع كون مسلم رواها، فكان الأولى له عزوها له؛ لأن هذا هو المتعارف لدى المحقّقين، كما لا يخفى، قال بعض الحذّاق:

قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا الأَعْلَامُ

وَمَنْ حَذَا خِلَافَهَا يُلَامُ

إِذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يَرِدْ

أَوْ كَانَ فِي أَحَدِ ذَيْنِ قَدْ وُجِدْ

فَعَزْوُهُ لِمَا سِوَاهُمَا غَلَطْ

إِلَّا إِذَا بِعَزْوِ ذَيْنِ يُرْتَبَطْ

(3)

[تنبيه آخر]: قال ابن الملقّن رحمه الله: احتجّ بعض متأخري المالكيّة بقوله:

(1)

"الفتح" 1/ 453.

(2)

"المفهم" 1/ 563.

(3)

"رفع الأستار" ص 33.

ص: 430

"اغسل ذكرك، وتوضأ" أنه إنما يغسل ذكره عند إرادة الوضوء، ولا يجزيه قبل ذلك؛ لأن الواو ظاهرة في المعيّة، ومشهور مذهبهم خلافه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أبعد هذا الاستنباط، وإنما أذكر مثل هذا؛ ليُعلَم، لا ليؤخذ به، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [4/ 701 و 702 و 703](303)، و (البخاريّ) في "العلم"(136)، و"الوضوء"(178) و"الغسل"(269)، و (أبو داود) في "الطهارة"(207)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(115)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(435)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(505)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 40)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 44)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(600)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 90)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 80 و 82 و 124 و 140 و 145)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(21)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1101 و 1102 و 1104 و 1105 و 1106 و 1107)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(5)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(762 و 763 و 764)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(692 و 693 و 694)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 115)، وفي "المعرفة"(1/ 291)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 46)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(159)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان اختلاف الروايات في هذا الحديث، والجمع بينها:

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 658.

ص: 431

(اعلم): أنه اختلفت الروايات في هذا الحديث، هل هو من مسند عليّ نفسه، أو من مسند المقداد، أو من مسند عمار رضي الله عنهم؟.

قال الإمام ابن حبّان في "صحيحه"(3/ 386): قال أبو حاتم: يشبه أن يكون علي بن أبي طالب أمر المقداد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحكم، فسأله، وأخبره، ثم أخبر المقداد عليًّا بذلك، ثم سأل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أخبره به المقداد، حتى يكونا سؤالين في موضعين مختلفين، والدليل على أنهما كانا في موضعين، أن عند سؤال عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالاغتسال عند المنيّ، وليس هذا في خبر المقداد، يدلك هذا على أنهما غير متضادين. وقال أيضًا: قال أبو حاتم رحمه الله: قد يَتَوَهّم بعضُ المستمعين لهذه الأخبار، ممن لم يطلب العلم من مظانّه، ولا دار في الحقيقة على أطرافه، أن بينها تضادًّا، أو تهاترًا؛ لأن في خبر أبي عبد الرحمن السُّلميّ

(1)

: "سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وفي خبر إياس بن خليفة:"أنه أمر عمارًا أن يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وفي خبر سليمان بن يسار:"أنه أمر المقداد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وليس بينها تهاترٌ؛ لأنه يَحتمل أن يكون عليّ بن أبي طالب أمر عمارًا أن يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، ثم أمر المقداد أن يسأله فسأله، ثم سأل بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والدليل على صحة ما ذكرتُ أن متن كل خبر يخالف متن الخبر الآخر؛ لأن في خبر أبي عبد الرحمن: "كنت رجلًا مذّاء، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا رأيت الماء فاغتسل"، وفي خبر إياس بن خليفة:"أنه أمر عمارًا أن يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يغسل مذاكيره، ويتوضأ"، وليس فيه ذكر المني الذي في خبر أبي عبد الرحمن، وخبرُ المقداد بن الأسود سؤال مستأنف، فيسأل أنه ليس بالسؤالين الأولين اللذين ذكرناهما؛ لأن في خبر المقداد:"أن عليّ بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله عن الرجل إذا دنا من أهله، فخرج منه المذي، ماذا عليه؟ فإن عندي ابنته"، فذلك ما وصفنا على أن هذه أسئلة متباينة، في مواضع مختلفة، لعلل موجودة من غير أن يكون بينها تضادّ أو تهاترٌ. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(2)

.

(1)

هي في: "صحيح البخاريّ"، وليس في مسلم.

(2)

راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 3/ 390 - 391.

ص: 432

وقال في "الفتح" عند شرح قوله: "توضأ" ما نصّه: هذا الأمر بلفظ الإفراد يُشعِر بأن المقداد سأل لنفسه، ويَحتمل أن يكون سأل لمبهم، أو لعليّ، فوجَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم الخطاب إليه، والظاهر أن عليًّا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب "المسانيد"، و"الأطراف" على إيراد هذا الحديث في مسند عليّ رضي الله عنه، ولو حملوه على أنه لم يَحضُر لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيِّده ما في رواية النسائيّ، من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن أبي حَصِين في هذا الحديث، عن عليّ رضي الله عنه قال:"فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله، فسأله".

ووقع في رواية مسلم: "فقال: يغسل ذكره، ويتوضأ"، بلفظ الغائب فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام، وهو الأظهر، ففي مسلم أيضًا:"فسأله عن المذي يَخرُج من الإنسان"، وفي "الموطأ" نحوه.

ووقع في رواية لأبي داود، والنسائيّ، وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حُصين بن قَبيصة، عن عليّ رضي الله عنه:"قال: كنت رجلًا مذّاءً، فجعلت أغتَسِل منه في الشتاء، حتى تشَقَّق ظهري، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تفعل".

ولأبي داود وابن خزيمة، من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه أنه وقع له نحو ذلك، وأنه سأل عن ذلك بنفسه.

ووقع في رواية للنسائيّ أن عليّا قال: "أمرت عمارًا أن يسأل"، وفي رواية لابن حبان، والإسماعيليّ:"أن عليًّا قال: سألت".

وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليًّا أمر عمارًا أن يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه، وهو جمع جيِّد إلا بالنسبة إلى آخره؛ لكونه مغايرًا لقوله: إنه استحيى عن السؤال بنفسه؛ لأجل فاطمة، فيتعين حمله على المجاز، بأن بعض الرواة أَطلَق أنه سأل، لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيليّ، ثم النوويّ.

ويؤيد أنه أمر كلًّا من المقداد وعمار بالسؤال عن ذلك، ما رواه عبد الرزاق، من طريق عطاء، عن عائش بن أنس، قال:"تذاكر عليّ والمقداد وعمار المذي، فقال عليّ: إنني رجلٌ مذّاءٌ، فاسألا عن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أحد الرجلين، قال عطاء: وسمّاه عائش، ونسيته". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عائش بن أنس مجهول العين؛ لأنه لم يرو عنه

ص: 433

غير عطاء، وقال ابن خِرَاش: مجهول، انظر "ميزان الاعتدال" 2/ 364.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: حديث المذي صحيحٌ، ثابتٌ عند أهل العلم، له طرقٌ شتّى، عن عليّ، والمقداد، وعمّار، وكلّها صحاح، وأحسنها رواية عبد الرزّاق هذه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: في تحسين هذه الرواية نظر لا يخفى؛ لما ذكرته آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وصحح ابن بَشْكوال أن الذي تولى السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضًا؛ لكونه قَصَدَه، لكن تولى المقداد الخطاب دونه، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن بشكوال هذا فيه نظرٌ لا يخفى، فعندي أن الأولى ما جمع به ابن حبّان رحمه الله، وهو أن عليًّا رضي الله عنه أمر كلًّا من المقداد، وعمّار رضي الله عنهما، فسأل كلّ منهما عنه، ثم تولّى بنفسه السؤال ليتثبّت، ولا ينافيه قوله:"أستحيي"؛ لأنه استحيى في أول الأمر، ثم فكّر بأن هذا الأمر دينيّ، لا ينبغي الاستحياء منه، فتولّى بنفسه، كما قالت أم سليم رضي الله عنهما: "يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحقّ، فهل على المرأة من غسل؟

" الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن خروج المذيّ لا يوجب الغسل كالمنيّ، وقد أجمع العلماء على ذلك.

2 -

(ومنها): بيان إيجاب الوضوء بخروج المذيّ، وهو أيضًا مجمع عليه.

3 -

(ومنها): بيان كون المذي نجسًا، ولهذا أوجب النبيّ صلى الله عليه وسلم غسل الذكر منه، قال في "الفتح: واستُدِلّ به على نجاسة المذي، وهو ظاهر، وخَرَّج ابن عَقِيل الحنبليّ من قول بعضهم: إن المذي من أجزاء المنيّ روايةً بطهارته.

وتُعُقِّب بأنه لو كان منيًّا لوجب الغسل منه. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 453.

ص: 434

4 -

(ومنها): جواز الاستنابة في الاستفتاء.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون، مع القدرة على المقطوع.

قال الحافظ: وفيهما نظر؛ لما قدمناه من أن السؤال كان بحضرة عليّ، ثم لو صحّ أن السؤال كان في غيبته، لم يكن دليلًا على المدَّعَى؛ لاحتمال وجود القرائن التي تَحُفّ الخبر، فترقيه عن الظن إلى القطع، قاله القاضي عياض.

وقال ابن دقيق العيد: المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد، مع كونه خبر واحد، أنه صورة من الصور التي تدلّ، وهي كثيرة تقوم الحجة بجملتها، لا بفرد معيّن منها

(1)

.

وعبارة القاضي عياض: قال المازريّ: فيه أن عليًّا كلّف من يسأل له مع القدرة على المشافهة، فإن كان أراد أن يكون سؤال الرسول بحضرته، فيسمع منه، وإنما احتشم من مشافهته؛ لكون ابنته عنده، فلا اعتراض في ذلك، وإن لم يُرد ذلك، فإنه يقال: كيف يُجزئ خبر الواحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع القدرة على القطع، وسماع قوله؟ وهل يكون هذا كالاجتهاد مع القدرة على النصّ، وفي ظاهر الرواية المذكورة أنه قال: أرسلنا المقداد، إشارةً إلى أنه لم يحضر مجلس السؤال.

قال القاضي عياض: قد تفترق عندي هذه المسألة عن مسألة الاجتهاد مع وجود النصّ، فإن الاجتهاد مع القدرة على النصّ خطأ محضٌ، حتى لو كان النصّ خبر واحد لكان الاجتهاد معه خطأ إلا إذا خالف الخبر الأصول، وعارض القياس

(2)

، فبين الأصوليين والفقهاء فيه اختلاف، والأصحّ تقديم خبر

(1)

"الفتح" 1/ 453.

(2)

لا يوجد خبر صحيح يخالف الأصول والقياس أصلًا، بل ذلك لا يخلو عن أحد أمرين، إما لا يصحّ ذلك الخبر من جهة إسناده، أو نكارة متنه، وإن ظُنّ أنه صحيح ظاهرًا، وإما أن ذلك القياس فاسد، وإن ظُنّ أنه قياس صحيح، وقد أشبعت الكلام في هذا في:"التحفة المرضيّة" في الأصول، وفي شرحها، فراجعه تجد ما يشفيك، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 435

الواحد، بدليل عود الصحابة رضي الله عنهم لامتثاله، والمبادرة للعمل به، وقطع التشاجر، ومنازعات الاجتهاد عند حصوله، وها هنا إنما طلب النصّ، لوثوقه بالطريق إليه، وبُعْدِ الناقل عن الكذب، لا سيّما على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولتزكيته للناقل، وثنائه صلى الله عليه وسلم عليه، وثناء الله في كتابه عليه، وبعد الوهم والخطأ؛ لقرب النازلة، وسماع الجواب، وفهم السائل الناقل، فارتفع الأمر إلى أعلى درجات غلبة الظنّ، ولم يبق إلا تجويزٌ بعيدٌ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتناوبون لسماع العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجزي بعضهم عن بعض، وما علمنا أحدًا، ولا بلغنا أن أحدًا استَثْبَتَ فيما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا مبتدئ الإسلام، كحديث ضمام وغيره، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ

} الآية [التوبة: 122]، والأكثر قادرٌ على النفير والسماع بغير واسطة، وقد قال ضمام: أنا رسول مَن ورائي، وقال صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:"وأخبروا بهنّ من ورائكم"، ونفذت كتبه صلى الله عليه وسلم ورسلُهُ إلى عُمّاله، وأمراء المسلمين، فوقفوا عندها، ولم يتزحزح أحد في قبولها، ولا أعمل الراحلة إلى تحقيقها. انتهى كلام القاضي ببعض تصرّف

(1)

.

6 -

(ومنها): استحباب استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستحيَى منه عرفًا، واستحباب حسن العشرة مع الأصهار، وأن الزوج يُسْتَحبّ له أن لا يَذكُر ما يتعلّق بجماع الزوجة، والاستمتاع بها بحضرة أبيها وأخيها وابنها وغيرهم من أقاربها، ولهذا قال عليّ رضي الله عنه: فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته.

7 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": استَدَلّ به بعضهم على وجوب الوضوء على مَن به سَلَسُ المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة.

وتعقّبه ابنُ دقيق العيد بأن الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة، مع صحة الجسد، بخلاف صاحب السلس، فإنه ينشأ عن علّة في الجسد، ويمكن أن يقال: أمر الشارع بالوضوء منه، ولم يَستفصل، فدلّ على عموم الحكم. انتهى.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 137 - 138.

ص: 436

8 -

(ومنها): أن فيه جواز الاستنابة في الاستفتاء للعذر، سواء كان المستفتي حاضرًا أو غائبًا، قال ابن الملقّن: وأغرب ابن القطّان المالكيّ المتأخّر، فمنع الاستنابة في ذلك معلّلًا بتطرّق الوهم إلى النائب، بخلاف الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم ثقاتٌ فصحاء، وهذا القول ضعيف

(1)

.

9 -

(ومنها): أنه قد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكله، قاله في "الفتح".

10 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة احترامهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوقيره.

11 -

(ومنها): أن المازريّ قال: لم يبيّن في هذه الروايات، هل أمره أن يسأل سؤالًا عامًّا أو خاصًّا؟، فإن كان لا يلتفت إلى كيفيّة السؤال، ففيه دلالة على أن قضايا الأعيان تتعدّى، وهي مسألة أصوليّةٌ، مختلف فيها؛ لأنه لو كان يرى أنها لا تتعدّى لأمره أن يسأله سؤلًا يخصه، ويسمّي له السائل، فإنه قد يُفتح له ما لا يُفتح لغيره.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية المصنّف الأخيرة بلفظ: "فسأله عن المذي يخرج عن الإنسان"، ظاهرة في كون السؤال عامًّا، وكذا رواية "الموطأ" بلفظ:"أن يسأل عن الرجل إذا دنا من أهله، يخرُج منه المذي"، نبّه عليه ابن الملقّن رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم.

12 -

(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله ترجم لهذا الحديث في "كتاب العلم" من "صحيحه" بقوله: "باب من استحيى، فأمر غيره بالسؤال". انتهى، أي ففيه الجمع بين المصلحتين: استعمال الحياء، وعدم التفريط في معرفة الحكم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال النوويّ رحمه الله: فيه أن الاستنجاء بالحجر إنما يجوز الاقتصار عليه في النجاسة المعتادة، وهي البول، والغائط، أما النادر، كالدم، والمذي، وغيرهما، فلا بُدّ فيه من الماء، وهذا أصح القولين في مذهبنا، وللقائل الآخر بجواز الاقتصار فيه على الحجر قياسًا على المعتاد أن

(1)

راجع: "الإعلام" 1/ 655.

(2)

راجع: "الإعلام" 1/ 658 - 659.

ص: 437

يجيب عن هذا الحديث، بأنه خَرَجَ على الغالب فيمن هو في بلد أن يستنجي بالماء، أو يحمله على الاستحباب. انتهى.

وقال في "الفتح": واستَدَلَّ به ابن دقيق العيد على تَعَيُّن الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأن ظاهر الحديث يُعَيِّن الغسل، والْمُعَيَّن لا يقع الامتثال إلا به، وهذا ما صححه النووي في "شرح مسلم"، وصَحَّح في باقي كتبه جواز الاقتصار على الحجر؛ إلحاقًا له بالبول، وحملًا للأمر بغسله على الاستحباب، أو على أنه خَرَج مخرج الغالب، وهذا المعروف في المذهب. انتهى

(1)

.

وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فيما علّقه على "الفتح" ما نصّه: الصواب ما قاله ابن دقيق العيد من تعيّن الماء في غسل المذي؛ عملًا بظاهر الحديث، ويؤيّده ما ثبت في "مسند أحمد"، و"سنن أبي داود" عن عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يغسل ذكره، وأنثييه

(2)

، وهذا حكم يخصّ المذي دون البول، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

والحاصل أن غسل الذكر من المذي بالماء واجب؛ لظاهر هذا الحديث، فلا يقوم الاستنجاء بالأحجار مقامه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان اختلاف أهل العلم في غسل الذكر كلّه:

ذهب بعض المالكية والحنابلة إلى إيجاب استيعاب الذكر بالغسل؛ عملًا بالحقيقة.

وذهب الجمهور إلى أن الواجب غسل محلّه فقط؛ نظرًا إلى المعنى، فإن

(1)

"الفتح" 1/ 453.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في:"مسنده" برقم (960)، وأبو داود في:"سننه"(179) وأعلّه بعضهم بالانقطاع، فإن عروة لم يسمع عن عليّ رضي الله عنه، لكن أخرجه أبو عوانة في:"صحيحه" من حديث هشام بن حسّان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلمانيّ، عن عليّ، قال ابن الملقّن رحمه الله: وفي هذا ردّ لما نقله أبو داود عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما قال غسل الأنثيين إلا هشام بن عروة في حديثه، فأما الأحاديث كلها، فليس فيها هذا. انتهى. "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 653.

ص: 438

الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، قال في "الفتح": ويؤيده ما عند الإسماعيليّ في رواية: "فقال: توضأ، واغسله"، فأعاد الضمير على المذي، ونظير هذا قوله:"مَن مَسّ ذكره، فليتوضأ"، فإن النقض لا يتوقف على مَسّ جميعه.

قال: واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه، هل هو معقول المعنى، أو للتعبد؟، فعلى الثاني تجب النية فيه، قال الطحاويّ: لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كله، بل لِيَتَقَلَّص، فيبطل خروجه، كما في الضرع إذا غُسِل بالماء البارد، يتفرق لبنه إلى داخل الضرع، فينقطع بخروجه. انتهى.

(المسألة السادسة): أوجب الإمام أحمد رحمه الله غسل الأنثيين أيضًا؛ لرواية أبي داود بالأمر بغسلهما مع الذكر.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي القول بغسل جميعه، ويؤيّده ما أخرجه أحمد، وأبو داود، بإسناد صحيح، بلفظ:"ليغسل ذكره، وأنثييه"، عن عليّ رضي الله عنه كنت رجلًا مذاءً، وكنت أستحي أن أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال:"يغسل ذكره، وأنثييه، ويتوضأ"، ولفظ أبي داود:"ليغسل ذكره، وأنثييه".

وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن حرام بن حكيم، عن عمه، عبد الله بن سعد الأنصاريّ، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، فقال:"ذاك المذي، وكلُّ فَحْل يَمْذِي، فتغسل من ذلك فرجك، وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة".

فهذا النصّ ظاهر في كون الغسل لجميعه، بل مع أنثييه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[702]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُنْذِرًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَذْي، مِنْ أَجْلِ فَاطِمَةَ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "مِنْهُ الْوُضُوءُ").

ص: 439

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير [7](160)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"سليمان" هو الأعمش.

وقوله: (مِنْهُ الْوُضُوءُ)، وفي رواية البخاريّ:"فيه الوضوء"، وهو جملة اسمية؛ لأن "الوضوءُ" مبتدأ مؤخّر، و"منه" متعلّق بمحذوف، خبر مقدمٌ، تقديره: الوضوء واجبٌ منه، ويجوز أن يكون ارتفاع "الوضوءُ" على الفاعلية بالجارّ والمجرور، وإن لم يعتمد، على مذهب بعض النحاة.

وقوله: (فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ) جملة من الفعل والفاعل والمفعول.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[703]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَرْسَلْنَا الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَان، كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّأْ، وَانْضِحْ فَرْجَكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا أيضًا.

والباقون تقدّموا قبل باب، وهارون تقدّم في الباب الماضي.

ص: 440

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد مما استدركه الدارقطنيّ، وقال: قال حماد بن خالد: سألت مخرمة: هل سمعت من أبيك؟ فقال: لا، وقد خالفه الليث، عن بكير، فلم يذكر فيه ابن عباس، وتابعه مالك، عن أبي النضر، هذا كلام الدارقطنيّ.

وقد قال النسائيّ أيضًا في "سننه": مخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا، وروى النسائيّ هذا الحديث من طُرُق، وبعضها طريق مسلم هذه المذكورة، وفي بعضها عن الليث بن سعد، عن بكير، عن سليمان بن يسار، قال: أرسل عليّ المقداد، هكذا أتى به مرسلًا.

وقد اختَلَف العلماء في سماع مخرمة من أبيه، فقال مالك رحمه الله: قلت لمخرمة: ما حَدَّثت به عن أبيك سمعته منه؟ فحَلَف بالله لقد سمعته، قال مالك: وكان مخرمة رجلًا صالحًا، وكذا قال معن بن عيسى: إن مخرمة سمع من أبيه.

وذَهَب جماعات إلى أنه لم يسمعه، قال أحمد بن حنبل: لم يسمع مخرمة من أبيه شيئًا، إنما يَروي من كتاب أبيه، وقال يحيى بن معين، وابن أبي خيثمة: يقال: وَقَع إليه كتاب أبيه، ولم يسمع منه، وقال موسى بن سلمة: قلت لمخرمة: حدَّثك أبوك؟ فقال: لم أُدرِك أبي، ولكن هذه كتبه، وقال أبو حاتم: مخرمة صالح الحديث، إن كان سمع من أبيه، وقال عليّ بن المدينيّ: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتابَ سليمان بن يسار، ولعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبر عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه: سمعت أبي.

قال النوويّ: فهذا كلام أئمة هذا الفن، وكيف كان فمتن الحديث صحيحٌ من الطريق التي ذكرها مسلم قبل هذه الطريق، ومن الطرُقِ التي ذكرها غيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَانْضِحْ فَرْجَكَ) بفتح الضاد، وكسرها، أمر من نَضَحَ الثوب

ص: 441

يَنْضِحُهُ نَضْحًا، من بابي ضَرَب، ونَفَع: إذا بلّه بالماء، ورشّه، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: النضح يراد به الغسل هنا؛ لأنه المأمور به مبيّنًا في الرواية الأخرى، ولأن غسل النجاسة المغلّظة لا بدّ منه، ولا يُكتفى فيه بالرشّ الذي هو دون الغسل، والرواية "وانضح" بالحاء المهملة، لا نَعرِف غيره، ولو رُوي "انضخ" بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل، فإن النضخ بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: ضبط نَضَحَ يَنْضِحُ من بابي ضرب، ونَفَعَ - كما أسلفته آنفًا - هو الصواب الذي أثبته المحقّقون، فما ادعاه ابن الملقّن تبعًا للجوهريّ وغيره من أنه بكسر الضاد فقط، وأن من فتحها، فقد أخطأ

(3)

، غير صحيح، وقد أجاد المرتضى رحمه الله في "شرح القاموس"، ودونك نصّه:

قال رحمه الله بعد نقل عبارة "القاموس": قال شيخنا: قضيّة كلام المصنّف - يعني صاحب القاموس - كالجوهريّ أن نَضَحَ ينضِح بمعنى رَشّ كضرب، والأمر منه كاضرِب، وفيه لغة أخرى مشهورة، كَمَنَعَ، والأمر انضَحْ، كامنَعْ، حكاه أرباب الأفعال، والشهاب الفيّوميّ في "المصباح"، وغير واحد، ووقع في الحديث:"انضح فرجك"، فضبطه النوويّ وغيره بكسر الضاد المعجمة، كاضرِبْ، وقال: كذلك قيّده عن جمع من الشيوخ.

واتَّفَقَ في بعض المجالس الحديثيّة أن أبا حيّان: أملى هذا الحديث، فقرأ "انضَحْ" بالفتح، فرَدَّ عليه السراج الدمنهوريّ بقول النوويّ، فقال أبو حيّان: حقّ النوويّ أن يستفيد هذا منّي، وما قلته هو القياس.

وحُكي عن صاحب "الجامع" أن الكسر لغة، وأن الفتح أفصح، ونقله الزركشيّ، وسلّمه، واعتمد بعضهم كلام الجوهريّ، وأيّد به كلام النوويّ، وتَعَقَّب كلام أبي حيّان، وهو غير صحيح؛ لما سمعت من نقله عن جماعة

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 609.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 311 بنسخة الحاشية.

(3)

راجع: "الإعلام" 1/ 647.

ص: 442

غيرهم، واقتصار المصنّف تبعًا للجوهريّ قصورٌ، والحافظ مقدَّمٌ على غيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

هذا أصل معناه، لكن المراد هنا هو الغسل، بدليل الرواية الماضية:"يغسل ذكره"، قال النوويّ: معناه اغسله، فإن النضح يكون غسلًا، ويكون رَشًّا، وقد جاء في الرواية الأخرى:"يغسل ذكره"، فيتعيّن حمل النضح عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بهذا أن الصواب هنا جواز ضبط "وانضِحْ" بفتح الضاد، وكسرها؛ لثبوته عن المحققين من أهل اللغة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: النضح هنا: هو الغسل المذكور في الرواية المتقدّمة، والواو غير مرتّبة، ويحتمل أن يريد به أن يَرُشّ ذكره بعد غسله، أو وضوئه؛ لينقطع أصل المذي، أو يقلّ. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني بعيد، فالأول هو المعتمد، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[704]

(304) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنَ اللَّيْل، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، ثُمَّ نَامَ").

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 239.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 214.

(3)

"المفهم" 1/ 563 - 564.

ص: 443

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلِ) بن حُصين الْحَضْرميّ التنعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ [4].

دَخَل على ابن عمر، وزيد بن أرقم، ورَوَى عن أبي جُحيفة، وجندب بن عبد الله، وابن أبي أوفى، وأبي الطفيل، وزيد بن وهب، وسويد بن غفلة، وإبراهيم التيميّ، وكُريب مولى ابن عباس، ومجاهد، ومسلم البطين، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ورَوَى عنه سعيد بن مسروق الثوريّ، وابنه سفيان بن سعيد، والأعمش، وشعبة، والحسن وعلي وصالح بنو صالح بن حَيّ، وزيد بن أبي أُنيسة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومنصور، ومسعر، وحماد بن سلمة، وجماعة.

قال أبو طالب، عن أحمد: سلمة بن كهيل مُتْقِن للحديث، وقيس بن مسلم متقن للحديث، ما نُبالي إذا أخذت عنهما حديثهما، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، وكان فيه تشيع قليلٌ، وهو من ثقات الكوفيين، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال أبو زرعة: ثقة مأمونٌ ذَكِيّ، وقال أبو حاتم: ثقة متقنٌ، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ ثبتٌ على تشيعه، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن المبارك، عن سفيان: ثنا سلمة بن كهيل، وكان ركنًا من الأركان، وشدّ قبضته، وقال ابن مهديّ: لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة: منصور، وسلمة، وعمرو بن مرة، وأبي حصين، وقال أيضًا: أربعة في الكوفة لا يُختَلَف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو خاطئ، فذكره منهم، وقال جرير: لَمّا قَدِم شعبة البصرة، قالوا له: حدِّثنا عن ثقات أصحابك، فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي، فإنما أحدثكم عن نفر يسير، من هذه الشيعة: الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور.

وقال ابن المدينيّ في "العلل": لم يَلْقَ سلمة أحدًا من الصحابة، إلا جُندُبًا وأبا جُحيفة، وقال الوليد بن حرب، عن سلمة: سمعت جندبًا، ولم أسمع أحدًا غيره يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم، وهو في البخاريّ من طريق الثوريّ، عن سلمة نحوه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الآجريّ:

ص: 444

قلت لأبي داود: أيما أحبّ إليك، حبيب بن أبي ثابت، أو سلمة؟ فقال: سلمة، قال أبو داود: كان سلمة يتشيع، وقال عُبيد بن جناد، عن عطاء الخفّاف: أتى سلمة بن كهيل زيد بن علي بن الحسين لَمّا خَرَج، فنهاه عن الخروج، وحَذَّره من غدر أهل الكوفة، فأبى، فقال له: فتأذن لي أن أخرج من البلد؟ فقال: لِمَ؟ قال: لا آمن أن يحدُثَ لك حَدَثٌ، فلا آمن على نفسي، قال: فأذن له، فخرج إلى اليمامة، وقال النسائيّ: هو أثبت من الشيبانيّ، والأجلح.

قال يحيى بن سلمة بن كُهيل: وُلِد أبي سنة سبع وأربعين، ومات يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين ومائة، وكذا قال غير واحد، وقال ابن سعد وغيره: مات سنة (122)، وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ، وهارون بن حاتم: مات سنة (123).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، إلا "سفيان" وهو الثوريّ، وأبا كريب، وهو محمد بن العلاء، فتقدّما قبل باب، وكريب، وهو: مولى ابن عبّاس تقدّم قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفية التحمّل، وصيغة الأداء، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال جماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وشيخه أبو كريب أحد المشايخ التسعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سلمة، عن كُريب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنَ اللَّيْلِ)، أي في بعض ساعات الليل، فـ "من" بمعنى "في"، (فَقَضَى حَاجَتَهُ)، قال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالحاجة هنا: الْحَدَثُ؛ لأنه الذي يمكن أن يَطَّلع عليه ابن عبّاس رضي الله عنهما -

ص: 445

وأيضًا فهو الذي يُقام له، ويَحْتَمِل أن تكون حاجته إلى أهله، ويُخبر بذلك ابنُ عبّاس عمن أخبره به من زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَقصد بذلك بيانَ أن الجنب لا يَجِب عليه أن يتوضّأ للنوم الوضوءَ الشرعيَّ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب أن المراد بالحاجة هنا البول، فسيأتي مفسّرًا في "الصلاة" رقم (763) من طريق شعبة، عن سلمة، عن كريب، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "بتّ في بيت خالتي ميمونة، فبَقَيتُ

(2)

كيف يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبال، ثم غسل وجهه، وكفّيه، ثم نام

" الحديث.

فتبيّن بهذا أن احتمال كون الحاجة حاجته إلى أهله غير صحيح، بل باطلٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يُتصوّر أن يفعل ذلك، وابن عبّاس نائم في عرض الوسادة.

وكذا احتمال أن يكون أخبره به إحدى زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال القرطبيّ أيضًا - يُبطله ما صرّح به من كونه راقب بنفسه فعله صلى الله عليه وسلم حتى رأى ما فعله في تلك الليلة.

والحاصل أن الحاجة في هذا الحديث ليست الجنابة، وإنما هي البول، فليس فيه دلالة على جواز نوم الجنب من دون أن يغتسل، أو يتوضّأ وضوء الصلاة، فمن فهم منه ذلك، فقد أبعد النُّجْعة، بل الذي يُفهم منه أنه يدلّ على أن طهارة من أراد أن ينام بعد البول ونحوه أن يغسل وجهه ويديه، ثم ينام، وإن كان الأكمل أن يتوضّأ وضوءه للصلاة، كما ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجِع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك .... " الحديث، متّفق عليه

(3)

.

قال النوويّ رحمه الله: والحكمة في غسل الوجه إذهاب النعاس، وآثار النوم، وأما غسل اليد، فقال القاضي: لعله كان لشيء نالهما. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 1/ 566.

(2)

بفتح القاف، يقال: بقاه بَقْيًا من باب رمى: رَصَده، أو نظر إليه، أفاده في:"القاموس".

(3)

صحيح البخاري 1/ 97.

(4)

"شرح النوويّ" 3/ 215.

ص: 446

(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، ثُمَّ نَامَ") فيه أن النوم بعد الاستيقاظ في الليل ليس بمكروه، وقد جاء عن بعض زهاد السلف كراهة ذلك، ولعلهم أرادوا مَن لم يَأْمَن استغراق النوم بحيث يفوته وظيفته، ولا يكون مخالفًا لما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمن من فوات أوراده ووظيفته، قاله النووي رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث هنا مختصر، وسيأتي مطولًا في "الصلاة" برقم (763)

(2)

، ويأتي شرحه مستوفًى هناك - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[5/ 704](304)، وفي "الصلاة"(763)، و (البخاريّ) في (6316)، و (أبو داود) في (5043)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(255)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(508)، و (أبو عوانة)(792 و 793)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(695)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1445)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ جَوَازِ نَوْمِ الْجُنُبِ، وَاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لَهُ، وَغَسْلِ الْفَرْجِ إَذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ، أَو يَنَامَ، أَوْ يُجَامِعَ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

[705]

(305) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح)، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 215.

(2)

أعني ترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، لا ترقيمي، فتنبّه.

ص: 447

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ عَائِشَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ جُنُبٌ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ ينام").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن مهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجَاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الحافظ من رؤوس [4](ت 125)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه مكثٌ [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

7 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنهما ماتت سنة (57) عدى الصحيح (ع)، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بين اثنين منهم، وذلك لاختلافهم في كيفيّة التحمل، فإن يحيى، وابن رمح أخذا من الليث بقراء غيرهما عليه، ولهذا قالا: أخبرنا، وقتيبة سمعه من لفظه، ولهذا قال: حدّثنا، وأيضًا "الليث" فيه "أل" للّمح عندهما، بخلافه.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير يحيى، وابن رُمح، كما أسلفته آنفًا.

ص: 448

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريون، غير يحيى، فنيسابوريّ، ودخل مصر، وقتيبة بغلانيّ، ودخل مصر أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن أبي سلمة.

5 -

(ومنها): أن أبا سلمة ممن اشتهر بالكنية، واختُلف في اسمه، فقيل: عبد الله، وقيل: اسماعيل، والصحيح أن اسمه كنيته، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها ("أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ جُنُبٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (تَوَضَّأَ) جواب "إذا"(وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ ينام")، أي توضّأ وضوءًا مثل وضوئه لا صلاة، قيّدته به لئلا يُظنّ أن المراد الوضوء اللغويّ، كأن يغسل يديه، وفرجه، وما أصابه من الأذى.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على بطلان قول من قال: إنه الوضوء اللغويّ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: حاصل هذه الأحاديث كلِّها أنه يجوز للجنب أن ينام، ويأكل، ويشرب، ويجامع، قبل الاغتسال، وهذا مُجْمَعٌ عليه، وأجمعوا على أن بَدَن الجنب، وعَرَقه طاهران، وفيها أنه يُسْتَحَبّ أن يَتوضأ، ويغسل فرجه لهذه الأمور كلِّها، ولا سيما إذا أراد جماع مَن لم يجامعها، فإنه يتأكد استحباب غسل ذكره.

قال الجامع عفا الله عنه: الفرق بين التي جامعها والتي لم يُجامعها فيه

(1)

"المفهم" 1/ 564.

ص: 449

نظر، فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه طاف على نسائه، وهنّ تسع بغسل واحد، ولم يُنقَل أنه توضّأ لكلّ أيضًا، فتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: وقد نَصّ أصحابنا أنه يُكره النوم والأكل والشرب والجماع قبل الوضوء، وهذه الأحاديث تدل عليه، ولا خلاف عندنا أن هذا الوضوء ليس بواجب، وبهذا قال مالك، والجمهور.

وذهب ابن حبيب من أصحاب مالك إلى وجوبه، وهو مذهب داود الظاهريّ، والمراد بالوضوء وضوء الصلاة الكامل.

وأما حديث ابن عباس المتقدم في الباب قبله في الاقتصار على الوجه واليدين، فقد قدّمنا أن ذلك لم يكن في الجنابة، بل في الحدث الأصغر.

وأما حديث أبي إسحاق السبيعيّ عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينام، وهو جنب، ولا يمس ماءً"، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وغيرهم، فقال أبو داود، عن يزيد بن هارون: وَهِمَ أبو إسحاق في هذا - يعني في قوله: "لا يمس ماءً" -، وقال الترمذيّ: يَرَون أن هذا غلطٌ من أبي إسحاق، وقال البيهقيّ: طَعَن الحفاظ في هذه اللفظة، فبان بما ذكرناه ضعف الحديث.

وإذا ثبت ضعفه لم يبق فيه ما يُعْتَرَض به على ما قدمناه، ولو صحّ لم يكن أيضًا مخالفًا، بل كان له جوابان:

[أحدهما]: جواب الإمامين الجليلين، أبي العباس بن سُرَيج، وأبي بكر البيهقيّ أن المراد لا يَمَسّ ماءً للغسل.

[والثاني]: وهو عندي حسنٌ أن المراد أنه كان في بعض الأوقات لا يَمَسّ ماءً أصلًا؛ لبيان الجواز؛ إذ لو واظب عليه لتُوُهِّم وجوبه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيق حسن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 450

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[6/ 705 و 706 و 707](305)، و (البخاريّ) في "الغسل"(286 و 288)، و (أبو داود) في "الطهارة"(222)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 139)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(584)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(1073)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 61 و 62)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 60 و 61)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(213 و 215)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1217 و 1218)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 125)، و (البيهقي) في "الكبرى"(1/ 202 و 203)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(265)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(783)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(696)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الوضوء للجنب عند إرادة النوم والأكل تخفيفًا.

2 -

(ومنها): بيان أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يُضيّق عند القيام إلى الصلاة، وهذا أمر مُجمع عليه، قال النوويّ رحمه الله: وقد اختلف أصحابنا في الموجب لغسل الجنابة، هل هو حصول الجنابة بالتقاء الختانين، أو إنزال المنيّ، أم هو القيام إلى الصلاة، أم هو حصول الجنابة مع القيام إلى الصلاة؟ فيه ثلاثة أوجه لأصحابنا، ومن قال: يجب بالجنابة، قال: هو وجوب مُوسَّع، وكذا اختلفوا في موجب الوضوء، هل هو الحدث، أم القيام إلى الصلاة، أم المجموع؟ وكذا اختلفوا في الموجب لغسل الحيض، هل هو خروج الدم، أم انقطاعه؟، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): استحباب التنظّف عند النوم، قال ابن الجوزيّ رحمه الله: والحكمة فيه أن الملائكة تبعُد عن الوسخ، والريح الكريهة بخلاف الشياطين، فإنها تقرُب من ذلك، أفاده في "الفتح".

4 -

(ومنها): أن في قولها: "وضوءه للصلاة" دلالةً على أن المراد بالوضوء هنا هو الوضوء الشرعيّ، لا اللغويّ، وبه قال جمهور العلماء، فيُردّ

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 219.

ص: 451

به على الطحاويّ حيث جنح إلى أن المراد به التنظيف، واحتجّ بأن ابن عمر رضي الله عنهما روى هذا الحديث، وكان يتوضّأ، وهو جنبٌ، ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في "الموطّأ" عن نافع، عنه، ويردّ أيضًا بأن مخالفة الراوي لما روى لا تقدح في مرويّه، ولا تصلح لمعارضته، وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

5 -

(ومنها): ما قيل: إن الحكمة في هذا الوضوء تخفيف الحدث، ولا سيّما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات، عن شدّاد بن أوس الصحابيّ رضي الله عنه، قال:"إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام، فليتوضّأ، فإنه نصف غسل الجنابة"

(1)

.

وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد رَوَى البيهقيّ بإسناد حسن، عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب، فأراد أن ينام توضأ، أو تيمم، وَيحْتَمِل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: واختَلَفَ العلماءُ في حكمة هذا الوضوء، فقال أصحابنا: لأنه يُخَفِّف الحدث، فإنه يرفع الحدث عن أعضاء الوضوء، وقال أبو عبد الله المازريّ رحمه الله: اختُلِف في تعليله، فقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين؛ خشيةَ أن يموت في منامه، وقيل: بل لعله أن يَنشَط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه، قال المازريّ: ويجري هذا الخلاف في وضوء الحائض قبل أن تنام، فمن عَلَّل بالمبيت على طهارة استحبّه لها. انتهى.

قال النوويّ: وأما أصحابنا فإنهم متفقون على أنه لا يستحب الوضوء للحائض والنفساء؛ لأن الوضوء لا يؤثر في حدثهما، فإن كانت الحائض قد انقطعت حيضتها صارت كالجنب. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الشافعيّة من عدم استحباب الوضوء

(1)

"الفتح" 1/ 669.

(2)

"الفتح" 1/ 469.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 218.

ص: 452

للحائض هو الحقّ؛ لأنه لا دليل عليه، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الجنب إذا أراد النوم:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا فيما يفعله الذي يريد النوم، وهو جنب، فقالت طائفة بظاهر هذه الأخبار التي رُويت في هذا الباب، وممن رُوي عنه أنه قال ذلك: عليّ، وشداد بن أوس، وأبو سعيد، وابن عباس، وعائشة، والنخعيّ، والحسن، وعطاء، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقد رَوَينا عن ابن عمر أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة، إلا غسل قدميه، وذلك إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام.

وفيه قول ثالث، قاله ابن المسيِّب، قال: إن شاء الجنب نام قبل أن يتوضأ.

وقال أصحاب الرأي في الجنب إذا أراد أن ينام، أو يعاود أهله قبل أن يتوضأ، فلا بأس بذلك، إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ، فإذا أراد أن يأكل غسل يديه، وتمضمض، ثم يأكل.

قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول، وذلك للأخبار الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك، قال: وفي قوله: "يتوضأ وضوءه للصلاة"، دليل على أن الوضوء الذي يتوضأه من أراد النوم، وهو جنب وضوءٌ كاملٌ تامّ، لو لم يكن جنبًا كان له أن يصلي به. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اختاره ابن المنذر: من أن من أراد أن ينام يتوضّأ وضوء الصلاة هو الذي أختاره؛ للأدلّة الواضحة الكثيرة، وقد ذُكر بعضها في الباب، وسيأتي بيان الخلاف هل هذا الوضوء واجب أم مستحبّ؛ في هذا الباب عند شرح حديث عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الجنب إذا أراد الأكل والشرب:

(اعلم): أنهم اختَلَفوا في هذه المسألة على أقوال:

ص: 453

[الأول]: القول بظاهر أحاديث الباب، وممن رُوي عنه أنه قال ذلك عليّ، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو.

[والثاني]: أنه ذهب بعضهم إلى أنه يتوضأ وضوءه للصلاة، إلا غسل القدمين، هذا قول ابن عمر رضي الله عنهما.

[والثالث]: أنه لا يزيد على غسل كفيه، وروي هذا القول عن عبد الله بن عمرو، ومجاهد، والزهري.

[والرابع]: قال ابن المسيِّب: يَغسل كفيه، ويمضمض، ثم يأكل، وقال النخعيّ: لا بأس أن يشرب الجنب قبل أن يتوضأ، وقال مالك: يغسل يديه إذا كان الأذى قد أصابهما، وقال أحمد، وإسحاق: يغسل يده وفاه، وقال أصحاب الرأي: إذا أراد أن يأكل يغسل يده، ويمضمض، ثم يأكل، ولا يضرّه إن كانت يداه نظيفتين أن يأكل، ولم يغسلهما.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: أُحِبّ إذا أراد أن يطعم أن يتوضأ، فإن اقتصر على غسل فرجه، وتمضمض طَعِمَ، وأحبّ إليّ أن يغسل كفيه إن كان بهما أذى. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اختاره ابن المنذر رحمه الله هو الذي أختاره؛ لوضوح أدلّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[706]

(

) حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ووَكِيعٌ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَآةَ، عَنِ الحَكَم، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ جُنُبًا، فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ").

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 454

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(غُنْدَر) هو: محمد بن جعفر الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكنديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع)، تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

[707]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا

(1)

: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

(1)

وفي نسخة: "قالا جميعًا".

ص: 455

و"محمد بن جعفر" هو غندر المذكور في السند الماضي، وكذا شعبة.

وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بإسناد شعبة السابق، وهو عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ) معنى كلامه هذا، وتوضيحه أن محمد بن المثنى قال في روايته، عن محمد بن جعفر، عن شعبة: قال شعبة: حدثنا الحكم، قال: سمعت إبراهيم يُحَدّث، وكان شعبة قال في الرواية المتقدمة: عن الحكم، عن إبراهيم.

والغرض من هذا بيان أن الرواية الثانية أقوى من الأولى، فإن الأولى بـ "عن"، والثانية بـ "حدّثنا"، و"سمعت"، وقد عُلِم أن "حدّثنا"، و"سمعت" أقوى من "عن"، وقد قال جماعة من العلماء: إن "عن" لا تقتضي الاتصال، ولو كانت من غير مدلس

(1)

، وإن كان الأصح خلافه، وقد تقدَّم إيضاح هذا في "شرح المقدّمة"، وفي مواضع من هذا الشرح، فلتستفد منه، والله تعالى وليّ التوفيق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[708]

(306) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثنا

(2)

أَبِي، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ:"نَعَم، إِذَا تَوَضَّأَ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ)

(3)

هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الْمُقَدَّميّ الثَّقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 219.

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

(3)

بفتح الدال المشددة: منسوب إلى جده مُقَدَّم.

ص: 456

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمريّ العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت فقيهٌ [5](ت سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

7 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات سنة (73)، تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"يحيى بن سعيد" هو القطّان.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، وفيه قوله:"وهو ابن سعيد"، وقوله:"واللفظ لهما"، وقد سبق الكلام فيه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه: أبا بكر، وزهيرًا، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وبالفقهاء من عبيد الله.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبيد الله، عن نافع.

5 -

(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) ظاهر هذا

ص: 457

أن الحديث من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، لا من مسند عمر رضي الله عنه نفسه، وسيأتي ما ذكره صاحب "الفتح" بعد حديث - إن شاء الله تعالى -.

(أَيَرْقُدُ) بضم القاف، أي أينام، يقال: رَقَدَ يَرْقُدُ رَقْدًا، من باب نصر، ورُقُودًا ورُقَادًا بالضمّ فيهما؛ إذا نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصّه بنوم الليل، والأول هو الحقّ، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، قال المفسّرون: إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظًا؛ لأن أعينهم مفتَّحةٌ، وهم نيامٌ، ويقال: رَقَدَ عن الأمر: بمعنى قَعَد وتأخَّر

(1)

. (أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ؟) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وقد تقدّم أن جنب بضمّتين يستوي فيه المذكر، والمؤنّث، والمفرد، وغيره، وربّما طابق على قلّة، فيقال: أَجناب، وجنُبُون، ونساء جُنُبات، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا لسوله ("نَعَمْ) بفتحتين، هذه اللفظة يُعبّر عنها النحاة أنها عِدَةٌ وتصديقٌ، زاد الجوهريّ: وجواب الاستفهام، وربّما ناقض "بَلَى"، إذا قال: ليس لي عندك وديعةٌ، فقولك:"نَعَم" تصديق له، و"بَلَى" تكذيب، ونَعِمَ بكسر العين لغة فيه، حكاه الكسائيّ

(2)

. (إِذَا تَوَضَّأَ")، أي يرقد إذا كان متوضّئًا.

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر، وجاء بصيغة الشرط، وهو مُتَمَسَّك من قال بوجوبه.

وقال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وهو شذوذ.

وقال ابن العربيّ: قال مالك، والشافعيّ: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل، وقال: لم يقل الشافعي بوجوبه، ولا يَعْرِف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكن كلام ابن العربيّ محمول على أنه أراد نفي الإباحة المستوية الطرفين، لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه واجب وجوب سنة، أي متأكد الاستحباب، ويدل عليه أنه قابله بقول ابن حبيب: هو واجب وجوب الفرائض، وهذا موجود في عبارة المالكية

(1)

راجع: "القاموس" ص 257، و"المصباح المنير" 1/ 234.

(2)

"الصحاح" 5/ 1653.

ص: 458

كثيرًا، وأشار ابن العربي إلى تقوية قول ابن حبيب، وبَوَّب عليه أبو عوانة في "صحيحه":"إيجابُ الوضوء على الجنب إذا أراد النوم"، ثم استَدَلَّ بعد ذلك هو، وابن خزيمة على عدم الوجوب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"إنما أُمِرتُ بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".

وقد قَدَحَ في هذا الاستدلال ابنُ رشد المالكيّ، وهو واضح.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي ما ذهب إليه الجمهور من الاستحباب هو الأرجح؛ جمعًا بين الأدلّة، فقد أخرج ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" من حديث ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا، وهو جنبٌ؛ فقال:"نعم، ويتوضّأ إن شاء"

(1)

، وحديث عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام، وهو جنبٌ، ولا يمسّ ماءً"، والحديث وإن تكلّم فيه الأكثرون، إلا أن الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهما صححوه، وقد استوفيت البحث فيه في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد.

والحاصل أن الجمع بحمل الأمر بالوضوء على الاستحباب هو الأحسن، كما لا يخفى على الفطن، والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح" أيضًا: ونَقَلَ الطحاويّ، عن أبي يوسف أنه ذَهَب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجنِب، ثم ينام ولا يمس ماء"، رواه أبو داود وغيره.

وتُعُقِّب بأن الحفاظ قالوا: إن أبا إسحاق غَلِطَ فيه، وبأنه لو صَحَّ حُمِل على أنه ترك الوضوء لبيان الجواز؛ لئلا يُعْتَقد وجوبه، أو أن معنى قوله:"لا يَمَسّ ماء"، أي للغسل، وأورد الطحاويّ من الطريق المذكورة، عن أبي إسحاق ما يَدُلّ على ذلك، ثم جَنَح الطحاوي إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث، وهو صاحب القصة، كان يتوضأ، وهو جنب، ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في "الموطأ"، عن نافع.

وأُجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصلاة من روايته، ومن رواية عائشة،

(1)

أخرجه أحمد في: "مسنده"(1/ 24 - 25)، وابن خزيمة في:"صحيحه" رقم (212)، و (ابن حبان)(127).

ص: 459

فيُعتَمَد، ويُحْمَل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أن ذلك كان لعذر

(1)

.

(فائدة): تتعلّق بقوله: "إذا توضّأ":

قال ابن الملقّن رحمه الله: التعليق شرعًا على أربعة أقسام:

[أحدها]: تعليق واجب على واجب، كقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6].

[الثاني]: تعليق مستحبّ على مستحبّ، كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98].

[الثالث]: تعليق واجب على غير واجب، كقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].

[الرابع]: تعليق غير واجب على واجب، كقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الثاني، والرابع، إنما هما على رأي الجمهور، وقد خالف بعضهم، فأوجبهما، وسيأتي تمام البحث فيه في المحلّ المناسب له - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"(6/ 708 و 709 و 710] و 306)، و (البخاريّ) في "الغسل"(287 و 289 و 290)، و (أبو داود) في "الطهارة"(221)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(120)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 139 و 140)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(585)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 47)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1074)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(1/ 61)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 24 و 25) و (2/ 64)، و (الحميديّ) في "مسنده"

(1)

"الفتح" 1/ 469 - 470.

ص: 460

(657)

، و (ابن خزيمة)(211 و 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1212 و 1213 و 1214 و 1215 و 1216)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(794)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(698 و 699 و 700 و 795)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 127)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 199)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(263 و 264)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[709]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن عُمَرَ اسْتَفتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ

(1)

: هَلْ يَنَامُ أَحَدُنا، وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ:"نَعَمْ، لِيَتَوَضأ، ثُمَّ لِيَنَمْ حَتى يَغْتَسِلَ إِذَا شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ زاهدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام بن نافع الْحِميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، مصنّف، عمي في آخره، فتغير، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، مدلّس، يُرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

وقوله: (أَن عُمَرَ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) السين والتاء للطلب، أي طلب الفتوى، قال في "القاموس":"الْفُتْيَا"، و"الْفُتْوَى"، بضمّ الفاء، وتُفتح: ما أفتَى به الفقيه

(2)

، والفاء في "فقال" تفسيريّة

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "قال".

(2)

"القاموس المحيط" ص 1188.

(3)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 294.

ص: 461

وقوله: (لِيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَنَمْ) اللام لام الأمر، وحركتها الكسر، وسُليم تفتحها، وإسكانها بعد الفاء، والواو أكثر من تحريكها، وقد تُسكّن بعد "ثُمّ"

(1)

.

وقوله: (حَتَّى يَغْتَسِلَ إِذَا شَاءَ")"حتى" غاية للنوم المسبوق بالوضوء

(2)

.

وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[710]

(

) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ تُصِيبُهُ جَنَابَةٌ مِنَ اللَّيْل، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّأْ، وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، إمام دار الهجرة، الحافظ الحجة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة ثبتٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (32) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) هكذا رواه مالك في "الموطأ" باتفاق مِن رُواة "الموطأ"، ورواه خارج "الموطأ"، عن نافع بدل عبد الله بن دينار.

قال أبو عليّ الغسّانيّ الجيانيّ رحمه الله: هكذا روى أبو زيد المروزيّ بإسناد هذا الحديث، ورواه ابن السكن، عن الْفِرَبريّ، عن البخاريّ، عن عبد الله بن

(1)

"فتح المنعم" 2/ 294.

(2)

المصدر السابق.

ص: 462

يوسف، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، جعل نافعًا بدل عبد الله بن دينار، وكذلك كان عند أبي محمد الأصيليّ، عن أبي أحمد، غير أنه ضرب على نافع، وكتب فوقه: عبد الله بن دينار، ورواية أبي ذرّ عن شيوخه مثلُ رواية أبي زيد، قال أبو عليّ: وكلا القولين صواب - إن شاء الله - والحديث محفوظ لمالك عن نافع وعبد الله بن دينار جميعًا.

وممن رواه عن مالك، عن نافع إسحاق بن الطبّاع، وخالد بن مَخلَد، وابن بُكير، وسعيد بن عُفير، إلا أنه أشهر برواية عبد الله بن دينار. انتهى كلام أبي عليّ الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعًا، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع غريب. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، فقال: قد رواه عنه كذلك عن نافع خمسةٌ، أو ستةٌ، فلا غرابة، وإن ساقه الدارقطني في "غرائب مالك"، فمراده ما رواه خارج "الموطأ"، فهي غرابة خاصة بالنسبة و "الموطأ"، نعم رواية "الموطأ" أشهر. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) قال في "الفتح": مقتضاه أنه من مسند ابن عمر، كما هو عند أكثر الرواة، ورواه أبو نوح، عن مالك، فزاد فيه:"عن عمر"، وقد بَيَّن النسائيّ سبب ذلك في روايته، من طريق ابن عون، عن نافع، قال: أصاب ابنَ عمرَ جنابةٌ، فأتى عُمَرَ، فذَكَر ذلك له، فأَتَى عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستأمره، فقال:"ليتوضأ، وَيرْقُد"، وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب:"أنه تصيبه" يعود على ابن عمر، لا على عمر، وقوله في الجواب:"تَوَضَّأْ" يَحْتَمِلُ أن يكون ابن عمر كان حاضرًا، فوَجَّه الخطاب إليه. انتهى

(3)

.

وقوله: ("تَوَضَّأْ، وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ") في رواية أبي نوح: "اغسل

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 580.

(2)

"الفتح" 1/ 468، و"عمدة القاري" 3/ 364.

(3)

"الفتح" 1/ 468.

ص: 463

ذكرك، ثم توضأ، ثم نَمْ"، وهو يَرُدّ على مَن حمله على ظاهره، فقال: يجوز تقديم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنه ليس بوضوء يرفع الحدث، وإنما هو للتعبد؛ إذ الجنابة أشدّ من مسّ الذكر، فتبين من رواية أبي نوح أن غسله مُقَدَّم على الوضوء، ويُمكِن أن يؤخر عنه بشرط أن لا يمسه على القول بأن مسه ينقض

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ نَمْ") بفتح النون

(2)

؛ لأنه أمر من نام ينام، كخاف يخاف، وأصله انْوَمْ، كاعْلَمْ، نُقلت فتحة الواو إلى النون الساكنة قبلها عملًا بقول بعضهم:

حَرَكَةٌ لِيَا كَوَاوٍ إِنْ عَقِبْ

مَا صَحَّ سَاكِنًا فَنَقْلُهَا يَجِبْ

وبقول ابن مالك في "الخلاصة":

لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ

مِنْ ذِي لِينٍ اتٍ عَيْنَ فِعْلٍ كَـ "أَبنْ"

مَا لَمْ يَكُنْ فِعْلَ تَعَجُّبٍ وَلَا

كَـ "ابْيَضَّ" أَوْ "أَهْوَى" بِلَامٍ عُلِّلَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[711]

(307) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ، وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ، قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الْحَضْرميّ، أبو عمرو، أو أبو

(1)

"الفتح" 1/ 468.

(2)

فما اشتهر على ألسنة الناس من قولهم: "نُمْ" من لحن الجهال، فتفطّن.

ص: 464

عبد الرحمن الْحِمْصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهام [7](ت 158)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ) ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي موسى، والأول أصحّ، أبو الأسود النصريّ - بالنون - الحمصيّ - مولى عطية بن عازب، ويقال: ابن عفيف، وقيل: كان اسمه عازبًا، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَفيفًا - ثقةٌ مخضرم [2].

رَوَى عن مولاه، وابن عمر، وابن الزبير، وغُضَيف بن الحارث، وأبي ذرّ، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم.

ورَوَى عنه محمد بن زياد الألهانيّ، وعتبة بن ضمرة بن حبيب، وأبو ضَمْرة، محمد بن سليمان الحمصيّ، وزيد بن عمير الرَّحَبِيّ، ومعاوية بن صالح، وغيرهم.

قال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: من قال عبد الله بن قيس فقد وَهِمَ، وقال سيف بن عمر: كان عبد الله بن قيس على كُردُوس يوم اليرموك.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، فقط.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ) النَّصْريّ الْحِمْصيّ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي عن وقت صلاة الوتر (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) الظاهر أن الضمير لعبد الله بن أبي قيس، وَيحْتَمِل أن يكون من دونه.

[تنبيه]: أشار المصنّف رحمه الله بقوله: "فذكر الحديث" إلى أن هذا الحديث مطوّل، وهذا المذكور هنا مختصره، وقد ساقه الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف رحمه الله، فقال:

(2848)

حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الله بن

ص: 465

أبي قيس، هو رجل بصريّ

(1)

، قال: سألت عائشة عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان يوتر، من أول الليل، أو من آخره؛ فقالت: كل ذلك قد كان يصنع، ربما أوتر من أول الليل، وربما أوتر من آخره، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً، فقلت: كيف كانت قراءته، أكان يُسِرّ بالقراءة، أم يجهر؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسرّ، وربما جهر، قال: فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً، قلت: فكيف كان يصنع في الجنابة، أكان يغتسل قبل أن ينام، أو ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، فربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.

قال أبو عيسى رحمه الله: هذا حديث حسن غريب، من هذا الوجه. انتهى.

قال عبد الله بن أبي قيس (قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ؟)، أي في اغتساله من الجنابة، و"كيف" مفعول مقدّم لـ "يصنع"، و"في" سببيّة، أو بمعنى "من"، والتقدير: أيَّ شيء يَصنع بسبب الجنابة، أو من إصابة الجنابة له، والله أعلم.

(أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ؟ قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (كُلُّ ذَلِكَ) برفع "كلُّ" على الابتداء، أي كلٌّ من الاغتسال أولَ الليل، والاغتسال آخره، وخبره قوله:(قَدْ كَانَ يَفْعَلُ) والرابط مقدّر، أي يفعله، ويَحْتَمل أن يكون بنصب "كلّ" مفعولًا مقدّمًا لـ "يفعل"(رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ)"ربّما" كافّة ومكفوفة، فـ "ما" كفّت "ربّ" عن عمل الجرّ، وهيّئتها للدخول على الجملة الفعليّة، وهي تفيد التقليل، والتكثير، والظاهر أنها للتكثير للمقابلة في قولها: "ربما

" و"ربما

"، أي كثيرًا ما كان يفعل هذا، وكثيرًا ما كان يفعل هذا (وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ، قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ)، أي في أمر الشريعة، أو أمر الجنابة (سَعَةً)، أي سهولةً ويُسرًا، و"السَّعَةُ" بفتح السين والعين المهملتين، ويجوز كسر السين، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَسِعَ الإناءُ المتاعَ يَسَعُهُ

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف عن "نَصْريّ" بالنون؛ لأنه نصريّ، حمصيّ، لا بصريّ، كما سبق في ترجمته، فتأمّل.

ص: 466

سَعَةً بفتح السين، وقرأ به السبعة في قوله تعالى:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، وكَسْرُها لغةٌ، وقرأ بها بعض التابعين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[6/ 711 و 712](307)، و (أبو داود) في "الطهارة"(1437 و 226)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 125)، و"الغسل"(1/ 199)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 47 و 73 - 74)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1081)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2447)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(790 و 791)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(701)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز تأخير الغسل عن الجنابة.

2 -

(منها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على السؤال في أمور دينهم.

3 -

(ومنها): بيان ما كانوا عليه من تتبّع أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأحواله حتى يقتدوا به فيها، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على ذلك، قال الله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

4 -

(ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث لم تضيّق على أهلها بإيجاب الغسل كلّما أجنب الإنسان؛ إذ فيه حرج شديد، والحرج مرفوع بالنصّ، قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذه نعمة عظمى ينبغي أن تقابل بالشكر، كما فعل عبد الله بن قيس هنا، حيث

(1)

"المصباح المنير" 2/ 659.

ص: 467

قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أي حيث أباح لنا الأمرين: تقديم الغسل على النوم وتأخيره، وبيّن ذلك لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): جواز استفتاء النساء إذا كنّ من أهل العلم، ولا خلاف في ذلك، فان السلف مجمعون على استفتاء أمهات المؤمنين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[712]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا اَبْنُ وَهْبٍ، جَمِيعًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا، فعبد الرحمن تقدّم قبل بابين، وهارون وابن وهب قبل باب، والباقيان في هذا الباب.

وقوله: (بِهَذَا الإسْنَاد، مِثْلَهُ) أي بإسناد معاوية السابق، عن عبد الله بن قيس، عن عائشة رضي الله عنها.

[تنبيه]: أما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح، فقد ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(401)

أخبرنا شعيب بن يوسف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة، كيف كان نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنابة، أيغتسل قبل أن ينام، أو ينام قبل أن يغتسل؟، قالت: كلُّ ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. انتهى.

وأما رواية ابن وهب، عن معاوية، فقد ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 278) فقال:

(790)

حدثنا بحر بن نصر الخولانيّ، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، أن عبد الله بن أبي قيس حدثه، أنه سأل عائشة: هل كان

ص: 468

رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب، أم يغتسل قبل أن ينام؟ قالت: كلُّ ذلك قد كان يفعل، رُبّمَا اغتسل قبل أن ينام، وربما توضأ ثم نام قبل أن يغتسل، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[713]

(308) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ (ح)، وَحَدَّثَني عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ الْفَزَارِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ"، زَادَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِيثِهِ:"بَيْنَهُمَا وُضُوءًا"، وَقَالَ:"ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النّخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة فقيه، تغيّر في الآخر قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ أَبِي زائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة المذكور قبل بابين.

5 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

6 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير المذكور في الباب.

7 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دِمَشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

ص: 469

8 -

(عَاصِم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4](ت بعد سنة 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

9 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ) عليّ بن داود، ويقال: دُؤَاد - بضمّ الدال، بعدها واوٌ بهمزة - الناجيّ

(1)

- بنون، وجيم - البصريّ مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 108)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

10 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) هو: سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65)، وقيل: سنة (74)(ع)، تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ فرّق بينهم بالتحويل، وإنما فرّق بينهم؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل، فقد سمعه من لفظ شيخيه: أبي بكر، وأبي كريب مع غيره، ولهذا قال:"حدّثنا"، وسمعه من لفظ شيخيه: عمرو، وابن نمير وحده، ولهذا قال:"حدّثني"، وكذلك شيوخه، فأبو بكر سمعه من حفص مع غيره، ولهذا قال:"حدّثنا"، وأبو كريب سمع قارئًا يقرأ على يحيى بن أبي زائدة، ولهذا قال:"أخبرنا".

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ" الضمير يرجع إلى كلّ من حفص، وابن أبي زائدة، ومعاوية الفزاريّ، فكلّهم رووه عن عاصم، فهو مُلتقى التحويل.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه: أبي بكر، وعمرو الناقد، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.

4 -

(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد المشايخ التسعة الذي يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.

5 -

(ومنها): فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عاصم، عن أبي المتوكّل.

(1)

منسوب إلى بني ناجية قبيلة معروفة. انتهى. "شرح النوويّ" 3/ 219.

ص: 470

6 -

(ومنها): أنّ صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أتَى)، أي جامع (أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ)، أي زوجته، أو جاريته التي يحلّ له وطؤها (ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ)، أي يرجع إلى جماعها مرّةً أخرى (فَلْيَتَوَضَّأْ") بلام الأمر، والفعل مجزوم بها، والجملة جواب "إذا"، وفي رواية ابن خزيمة، وأبي عوانة:"فليتوضّأ وضوءه للصلاة"(زَادَ أَبُو بَكْرٍ) يعني ابن أبي شيبة، شيخه الأول (فِي حَدِيثِهِ:"بَيْنَهُمَا)، أي بين الجماعينَ (وُضُوءًا")، أي شرعيّا، وهو الكامل، كما بيّنته رواية ابن خزيمة وأبي عوانة، واحترز به عن الوضوء اللغويّ، وهو غسل ذكره، وما أصابه من الأذى، (وَقَالَ)، أي أبو بكر في روايته أيضًا ("ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ") مضارع عاود، من باب فاعل، وهو بمعنى الأول، وزاد ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ:"فإنه أنشط للعود".

والمعنى: أنه إذا جامع أهله، ثم أراد أن يُجامعها مرّة أخرى فليتوضّأ وضوءًا شرعيًّا، وهو وضوء الصلاة؛ لأنه المراد عند الإطلاق في كلام الشارع، ومما يؤيّد هذا أنه أكّده بالمصدر، فقال:"وضوءًا"، لأن التأكيد بالمصدر يرفع احتمال المجاز، ولهذا استدلّ أهل السنّة بقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] بالتأكيد بالمصدر في هذه الآية على أن تكليم الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام على حقيقته، وليس متجوّزًا به، كما ادّعاه أهل الضلال.

وأصرح من هذا كلّه رواية ابن خزيمة، وأبي عوانة المذكورة، فقد صرّحت بأنه وضوء الصلاة، وسيأتي تمام البحث في هذا الوضوء في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة التي أشار إليها المصنّف رحمه الله هنا، ساقها أبو نعيم، في "مستخرجه" (1/ 362) فقال:

ص: 471

(702)

حدثنا الطَّلْحِيّ

(1)

، ثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعاود، فليتوضأ بينهما وضوءًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[6/ 713](308)، و (أبو داود) في "الطهارة"(220)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(141)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 142)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(587)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 61)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 79)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 28)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(219 و 220 و 221)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1210 و 1211)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 204)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(271)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(797)، و (أبي نعيم) في "مستخرجه"(702)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هو الصحيح، وقد رُوي من حديث عمر رضي الله عنه، رواه ليث بن أبي سُليم، عن عاصم، عن أبي المستهل، عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا أتى أحدكم أهله، وأراد أن يعود، فليَغسِل فرجه"، قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 34): قال أبي: يرون أنه عاصم، عن أبي المتوكّل، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه. انتهى.

(1)

هو أبو بكر بن عبد الله بن يحيى الطلحيّ.

ص: 472

[تنبيه آخر]: قال البيهقيّ رحمه الله في حديث: إن الشافعيّ قال: لا يثبُتُ مثله، قال البيهقيّ: لعله لم يقف على إسناد حديث أبي سعيد، ووقف على إسناد غيره، فقد رُوي عن عمر، وابن عمر بإسنادين ضعيفين. انتهى.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز وطء الزوجة مرّة ثانيةً من إحداث اغتسال للأول.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الوضوء بين الجماعين، سواء كان الجماع لنفس المرأة، أو لغيرها؛ لكونه أنشط للعود، كما علّله في رواية ابني خزيمة، وحبّان.

3 -

(ومنها): بيان أن الاغتسال من الجنابة ليس على الفور، بل إنما يُضيّق عند إرادة الصلاة ونحوها، مما لا يجوز إلا بالغسل.

4 -

(ومنها): بيان جواز كثرة الجماع، بل هو مستحبّ، لأنه سبب لكثرة النسل، وقد رغّب النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد أخرج أحمد بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نَهْيًا شديدًا، ويقول:"تزوجوا الودود الولود، إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الوضوء لمعادوة الجماع:

(اعلم): أنهم اختلفوا في المراد بهذا الوضوء، فقيل: هو غسل الفرج فقط مما به من أذى، قال عياض: وهو قول جماعة من الفقهاء، وقال القرطبيّ: ذهب بعض أهل الظاهر إلى أن هذا الوضوءَ هنا هو الوضوء العرفيّ، وأنه واجبٌ، واستحبّه أحمد وغيره، وذهب الفقهاء، وأكثر أهل العلم إلى أنه غسل الفرج فقط، مبالغةً في النظافة، واجتنابًا لاستدخال النجاسة، ويُستدلّ على ذلك بأمرين:

[أحدهما]: أنه قد روى هذا الحديث ليث بن أبي سُليم من حديث عمر، وقال فيه:"فليغسل فرجه" مكان: "فليَتوضّأ بينهما وضوءًا".

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في:"مسنده" برقم (12152 و 13080).

ص: 473

[وثانيهما]: أن الوطء ليس من قبيل ما شُرع له الوضوء، فإن أصل مشروعيّته للقُرَب والعبادات، والوطء ينافيه، فإنه للملاذّ والشهوات، وهو من جنس المباحات، ولو كان ذلك مشروعًا لأجل الوطء لشرع في الوطء المبتدأ، فإنه من نوع الْمُعَاد، وإنما ذلك لِمَا يتلطّخ به الذكر من نجاسة الفرج والمنيّ، فإنه مما يُكره، ويُستثقل عادةً وشرعًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قزر المسألة القرطبيّ على وجه يُتعجّب، ويُستغرب من مثله، فإن هذا التقرير اشتمل على عجائب:

(الأول): أن الحديث الذي أورده "فليغسل فرجه" رواه ليث بن أبي سُليم كما قال، وهو متروك الحديث؛ فكيف ساغ له معارضة ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه مسلم:"فليتوضّأ وضوءًا"، مؤكدًا بالمصدر؛ ليفيد كونه وضوءًا شرعيًّا، بل جاء التصريح به فيما صححه ابن خزيمة، بلفظ:"فليتوضّأ وضوءه للصلاة"، فهل معارضة هذا الصحيح برواية ليث بن أبي سُليم من مناهج المحقّقين، أو من بضائع أهل الجدل الذين انقطعت بهم سبل الأدلة الصحيحة، فاحتاجوا للمغالطة بالواهيات؟ إن هذا لهو العجب العُجاب.

(الثاني): أن قوله: إن الوطء ليس من قبيل ما شُرع له الوضوء إلخ، من العجائب أيضًا، فَمِمَّن يريد التشريع؟، أليس الذي قال:"فليتوضّأ وضوءه للصلاة" هو الذي شرع العبادة؟، فهل هناك للتشريع معنى غير هذا؟.

(الثالث): قوله: "إن الوطء ينافي العبادة" من أين أخذه؟، أما قال الصحابة رضي الله عنهم لما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وفي بضع أحدكم أجرٌ": "أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ .... " الحديث، أخرجه مسلم.

فهلا يكون هذا من قسم العبادة التي يُحبّها الله، ويُثيب عليها؟.

(الرابع): قوله: "لما يتلطخ به الذكر من نجاسة ماء الفرج والمني" هذا مما اختلف فيه العلماء، والراجح طهارتهما، فكيف يَستدلّ بما اختُلف فيه على معارضة مقتضى الصحيح؟، هذا شيء غريب.

فتبيّن بهذا أن الصواب في معنى الوضوء هنا هو الوضوء الشرعيّ الذي

(1)

"المفهم" 1/ 566 - 567.

ص: 474

هو وضوء الصلاة، لا مطلق النظافة من غسل الفرج ونحوه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم هذا الوضوء:

ذهب ابن حبيب المالكيّ، والظاهريّة إلى وجوبه؛ أخذًا بظاهر الحديث.

وذهب الجمهور إلى استحبابه، وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنه ليس بواجب، ولا مندوب، ورُدّ عليه بحديث الباب وغيره.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي القول باستحبابه هو الأرجح؛ لما سبق من رواية ابن خزيمة، حيث علّله بكونه أنشط للعود، فإنه يدلّ هذا التعليل على الندبيّة والإرشاد، يؤيّد ذلك ما رواه الطحاوقي بسنده عن عائشة قالت:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود، ولا يتوضّأ"، وحديث:"إنما أُمرتُ بالوضوء إذا قُمتُ إلى الصلاة".

والحاصل أن الأمر بالوضوء للندب، لا للوجوب، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[714]

(309) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ - يَعْنِي ابْنَ بُكَيْرٍ الْحَذَّاءَ - عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أنسٍ

(1)

: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ) هو: الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأمويّ مولاهم، أبو مسلم الحزانيّ، سَكَن بغداد، ثقةٌ يُغْرِبُ [11].

وحَدّث عن أبيه، وجدّه، ومحمد بن سَلَمة، ومسكين بن بُكير.

ورَوَى عنه مسلم، وابنه أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحرّانيّ،

(1)

وفي نسخة: "عن أنس بن مالك".

ص: 475

وأحمد بن شبابان، وعبد الله بن جعفر بن خُشَيش، وابن أبي الدنيا، ويزيد بن محمد بن عبد الصمد، والدارميّ، وابن أبي داود، وابن صاعد، والسراج، والمحامليّ.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب، وقال عليّ بن الحسن بن عَلّان الحرّانيّ: ثقةٌ مأمونٌ، وقال الخطيب: كان ثقة، ووثَّقه البزار، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال موسى بن هارون: مات سنة (250) بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وقال السرّاج: مات بالعسكر سنة (252) أو نحوه.

روى عنه المصنّف رحمه الله، وأبو داود في "المراسيل"، و"الزهدُ"، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (309)، وحديث رقم (1671): "ألا تخرُجون مع راعينا في إبله

" الحديث.

2 -

(مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ الْحَذاءُ) أبو عبد الرحمن الْحَرَّانيّ، صدوقٌ، يُخطئ، صاحب حديث [9].

رَوَى عن سعيد بن عبد العزيز، وجعفر بن بُرْقان، والأوزاعيّ، ومالك، ومحمد بن مهاجر، وثابت بن عَجْلان، والمسعوديّ، وشعبة، وشعيب بن أبي حمزة، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، والنُّفَيليّ، والمغيرة بن عبد الرحمن الحرّانيّ، وعمرو بن خالد، وأحمد بن أبي شعيب، وابنه الحسن بن أحمد، ومحمد بن وهب بن أبي كريمة الْحَرّانيّون، ومحمد بن عبيد بن ميمون المدنيّ، وأحمد بن سليمان الرُّهَاويّ، وآخرون.

قال الأثرم: سمعت أحمد يُحَسِّن أمره، وقال مرةً: قدّمه أبو عبد الله على مَخْلد بن يزيد، وقال: حدَّث عن شعبة بأحاديث لم يروها أحدٌ، وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لا بأس به، ولكن في حديثه خطأ، وقال ابن معين: لا بأس به، وكذا قال أبو حاتم، وزاد: كان صالح الحديث، يَحْفَظ الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثمان وتسعين ومائة.

وقال أبو أحمد الحاكم في كتابه "الكنى": كان كثير الوهم والخطأ، وقال في موضع آخر: ومن أين كان مسكين يَضْبِط عن سعيد؟، وقال ابن

ص: 476

شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: يقولون: إنه ثقةٌ، لم أسمع منه شيئًا.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في الترجمة التي قبله.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم في هذا الباب.

4 -

(هِشَامُ بْنُ زيدِ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن جدِّه، وعنه ابن عون، وشعبة، وعروة بن ثابت، وحماد بن سلمة.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

5 -

(أَنس) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) رضي الله عنه، وفي نسخة:"عن أنس بن مالك" رضي الله عنه (: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ)، أي يدور عليهنّ، وهو كناية عن الجماع، بدليل قوله:(بِغُسْلٍ وَاحِدٍ") هو على حذف مضاف، أي بنيّة غسل واحد، أي يجامعهنّ ملتبسا، ومصاحبًا لنيّة غسل واحد آخر الأمر، وإنما احتجنا إلى هذا التقدير؛ لأن الغسل الواحد لا يكون إلا بعد الفراغ من جماعهنّ، لا قبله، فتأمل.

ولفظ النسائيّ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد"، وعند أبي داود:"طاف ذات يوم"، ولفظ البخاريّ، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك حدَّثهم:"أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة"، وفي رواية عن أنس:"كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنّ إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أوَ كان يطيقه؟ قال: كنّا نتحدّث أنه أُعطي قوّة ثلاثين رجلًا"، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنسًا حدّثهم تسع نسوة، وجُمع بينهما بأن ذلك كان في حالتين، فمرّةً طاف عليهنّ، وهنّ إحدى عشرة، وأخرى، وهنّ تسع، أو بأنه كان تحته من الزوجات تسع، وسُرّيّتان:

ص: 477

مارية، ورَيحانة، على أنها أمة، وقيل: هي زوجة

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله رحمه الله: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بينهما، أو يكون المراد بيان جواز ترك الوضوء، وقد جاء في "سنن أبي داود" أنه صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه ذات يوم، يغتسل عند هذه، وعند هذه، فقيل: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ فقال:"هذا أزكى، وأطيب، وأطهر"

(2)

، قال أبو داود: والحديث الأول أصحّ، قلت: وعلى تقدير صحته يكون هذا في وقت، وذاك في وقت. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: احتمال الوضوء بعيد، بل الأقرب أنه فعله لبيان الجواز، ولهذا قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب الجنُب يخرُج، ويمشي في السوق، وغيره، وقال عطاء: يحتجم الجنب، ويُقلّم أظفاره، ويَحلق رأسه، وإن لم يتوضّأ". انتهى، ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه هذا محتجًّا به لما قاله عطاء من جواز الأشياء المذكورة، وإن لم يتوضّأ، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا "في الحيض"[6/ 714](309)، و (البخاريّ) في "الغسل"(268 و 284 و 5068 و 5215)، و (أبو داود) في "الطهارة"(218)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(14)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 143 و 144)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(588)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 225 و 229)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 192)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(229)، و (ابن

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 449 - 450.

(2)

أخرجه أبو داود في: "سننه" 1/ 56 وفي سنده سلمى عمة عبد الرحمن بن أبي رافع، قال ابن القطان: لا تُعرف، وذكرها ابن حبان في:"الثقات"، وحسّن الحديث الشيخ الألباني، انظر:"آداب الزفاف" ص 35.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 218 - 219.

ص: 478

حبّان) في "صحيحه"(1208 و 1209)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 204)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(269)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(798 و 800)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(703)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عدم وجوب الاغتسال بين الجماعين، سواء كان الجماع الثاني للأولى، أو لغيرها، وهذا لا ينافي استحباب الاغتسال بينهما؛ لما تقدّم من حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه، واغتسل عند كلّ واحدة، وقال:"هذا أزكى، وأطيب، وأطهر"، أخرجه أبو داود.

2 -

(ومنها): بيان ما اختصّ الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم من القوّة في النكاح، وذلك يدلّ على كمال البنية، وصحّة الذكوريّة.

والحكمة في كثرة أزواجه صلى الله عليه وسلم أن الأحكام التي ليست ظاهرة يَطَّلِعن عليها، فينقلنها، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها من ذلك الكثير الطيِّب، ومن ثَمَّ فضّلها بعضهم على بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.

3 -

(ومنها): بيان عدم وجوب الوضوء بين الجماعين أيضًا، لأنه لم يُذكَر في الحديث، والأصل عدمه.

4 -

(ومنها): جواز طواف الرجل على نسائه في الليلة الواحدة، لكن بإذن صاحبة النوبة، وهذا في غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما في حقّه فالصحيح أنه يجوز له ذلك دون استئذان؛ لأنه لا يجب عليه الْقَسْمُ بين الزوجات؛ لقوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، لكنه من كريم أخلاقه وحسن عِشرته كان يَقسم بينهنّ، فعلى هذا لا إشكال في الحديث أصلًا.

قال في "الفتح": عدم وجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم قولُ طوائف من أهل العلم، وبه جزم الإصطخريّ من الشافعية، والمشهور عندهم، وعند الأكثرين الوجوب، ويَحتاج من قال به إلى الجواب عن هذا الحديث، فقيل: كان ذلك برضا صاحبة النوبة، كما استأذنهنّ أن يُمَرَّض في بيت عائشة، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك كان يَحصُل عند استيفاء القسمة، ثم يستأنف القسمة، وقيل: كان ذلك عند إقباله من سفر؛ لأنه كان إذا سافر أقرع بينهنّ، فيسافر بمن يخرج

ص: 479

سهمها، فإذا انصرف استأنف، وهو أخص من الاحتمال الثاني، والأول أليق بحديث عائشة، وكذا الثاني، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك كان يقع قبل وجوب القسمة، ثم تَرَك بعدها.

وأغرب ابن العربيّ، فقال: إن الله خَصّ نبيه صلى الله عليه وسلم بأشياء، منها أنه أعطاه ساعةً في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حقّ، يدخل فيها على جميعهنّ فيفعل ما يريد، ثم يستقرّ عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتَغَل عنها كانت بعد المغرب، وهذا التفصيل الذي ذكره يَحتاج إلى ثبوت نقلًا، والظاهر عدمه، فلا ينبغي الالتفات إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): بيان أن الاغتسال لا يجب على الفور، بل عند إرادة الصلاة، وقد تقدّم تمام البحث فيه.

6 -

(ومنها): استحباب الاستكثار من النساء، وقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: هل تزوجتَ؟ قلت: لا، قال: تَزَوَّجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء. انتهى.

وفي رواية الطبراني من طريق أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"تزوَّجُوا، فإن خيرنا كان أكثرنا نساء".

قال في "الفتح: قيل: المعنى خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَن كان أكثر نساءً من غيره، ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل، والذي يظهر أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما بالخير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزولج مرجوح؛ إذ لو كان راجحًا ما آثر النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره، وكان مع كونه أخشى الناس لله، وأعلمهم به، يُكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يَطَّلِع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة؛ لكونه كان لا يَجِد ما يَشبَع به من القوت غالبًا، وإن وجد كان يؤثر بأكثره، ويصوم كثيرًا، ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلا مع قوة البدن، وقوةُ البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقوِّيات من مأكول ومشروب، وهي عنده نادرة، أو معدومة.

ووقع في "الشفاء": أن العرب كانت تَمْدَحُ بكثرة النكاح؛ لدلالته على الرجولية، إلى أن قال: ولم تَشْغَله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادةً

ص: 480

لتحصينهنّ، وقيامه بحقوقهنّ، واكتسابه لهنّ، وهدايته إياهنّ، وكأنه أراد بالتحصين قَصْر طَرْفهنّ عليه، فلا يَتَطَلَّعن إلى غيره، بخلاف العُزْبة، فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهنّ.

والذي تَحَصَّل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره صلى الله عليه وسلم من النساء عشرةُ أوجه:

[أحدها]: أن يَكثُر مَن يُشاهِد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يَظُنّ به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.

[ثانيها]: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.

[ثالثها]: للزيادة في تألفهم لذلك.

[رابعها]: للزيادة في التكليف، حيث كُلِّف أن لا يَشْغَله ما حُبِّب إليه منهنّ عن المبالغة في التبليغ.

[خامسها]: لتكثر عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يُحاربه.

[سادسها]: نقل الأحكام الشرعية التي لا يَطَّلِع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يُخْفَى مثله.

[سابعها]: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة، وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خُلُقه لنَفَرْنَ منه، بل الذي وَقَع أنه كان أحب إليهنّ من جميع أهلهنّ.

[ثامنها]: ما تقدم مبسوطًا من خرق العادة له في كثرة الجماع، مع التقلُّل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال، وقد أَمَرَ مَن لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم.

[تاسعها، وعاشرها]: ما تقدم نقله عن صاحب الشفاء من تحصينهنّ، والقيام بحقوقهنّ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" - "كتاب النكاح" 9/ 17 رقم الحديث (5069).

ص: 481

(المسألة الرابعة): لم يقع في رواية المصنّف رحمه الله ذكر عدد نسائه صلى الله عليه وسلم اللاتي جمعهنّ في ذلك الوقت، وقد وقع عند البخاريّ: من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنّ إحدى عشرة"، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه حدّثهم:"تسع نسوة". انتهى.

قال في "الفتح": وقد جمع ابنُ حبان: في "صحيحه" بين الروايتين بأَنْ حَمَل ذلك على حالتين، لكنه وَهِمَ في قوله: إن الأولى كانت في أول قدومه المدينة، حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر، حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة، وموضع الْوَهَمِ منه، أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا قَدِمَ المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة، أو الرابعة، ثم تزوج زينب بنت جَحْش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميعُ من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور.

واختُلِف في رَيحانة، وكانت من سبي بني قريظة، فجزم ابن إسحاق بأنه عَرَض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة، فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة، كما سيأتي في مكانه، فرَجَحت رواية سعيد بن أبي عروبة، لكن تُحْمَل رواية هشام الدستوائيّ على أنه ضَمّ مارية وريحانة إليهنّ، وأطلق عليهن لفظ نسائه تغليبًا.

وقد سَرَد الدمياطي في السيرة التي جمعها مَن اطَّلَع عليه من أزواجه، ممن دخل بها، أو عَقَد عليها فقط، أو طلَّقها قبل الدخول، أو خطبها ولم يعقد عليها، فبلغت ثلاثين، وفي "المختارة" من وجه آخر، عن أنس:"تزوج خمس عشرة، دخل منهن بإحدى عشرة، ومات عن تسع"، وسرد أسماءهنّ أيضًا أبو الفتح اليعمريّ، ثم مغلطاي، فزدن على العدد الذي ذكره الدمياطي، وأنكر ابن القيم ذلك، والحقّ أن الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في

ص: 482

بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة. انتهى

(1)

.

وقد ذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله أسماءهنّ بالترتيب، فقال:

زَوْجَاتُهُ اللَّاتِي بِهِنَّ قَدْ دَخَلْ

ثِنْتَا أَوِ احْدَى عَشْرَةٍ خُلْفٌ نُقِلْ

خَدِيجَةُ الأُولَى تَلِيهَا سَوْدَةُ

ثُمَّ تَلِي عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ

وَقِيلَ قَبْلَ سَوْدَةٍ فَحَفْصَةُ

فَزَيْنَبٌ وَالِدُهَا خُزَيْمَةُ

فَبَعْدَهَا هِنْدٌ أَي أُمُّ سَلَمَهْ

فَابْنَةُ جَحْشٍ زَيْنَبُ الْمُكَرَّمَهْ

تَلِي ابْنَةُ الْحَارِثِ أَيْ جُوَيْرِيَهْ

فَبَعْدَهَا رَيْحَانَةُ الْمَسْبِيَّهْ

وَقِيلَ بَلْ مِلْكُ يَمِينٍ فَقَطُ

لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَهَذَا أَضْبَطُ

بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَهْيَ رَمْلَةُ

أَمُّ حَبِيبَةَ تَلِي صَفِيَّةُ

مِنْ بَعْدِهَا فَبَعْدَهَا مَيْمُونَهْ

حِلًّا وَكَانَتْ كَاسْمِهَا مَيْمُونَهْ

وَابْنُ الْمُثَنَّى مَعْمَرٌ قَدْ أَدْخَلَا

فِي جُمْلَةِ اللَّاتِي بِهِنَّ دَخَلَا

بِنْتَ شُرَيْحٍ وَاسمُهَا فَاطِمَةُ

عَرَّفَهَا بِأَنَّهَا الْوَاهِبَةُ

وَلَمْ أَجِدْ منْ جَمَعَ الصَّحَابَهْ

ذَكَرَهَا وَلَا بِأُسْدِ الْغَابَهْ

وَعَلَّهَا الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ

وَهْيَ ابْنَةُ الضَّحَّاكِ بَانَتْ عَنْهُ

وَغَيْرُ مَنْ بَنَى بِهَا أَوْ وَهَبَتْ

إِلَى النَّبيِّ نَفْسَهَا أَوْ خُطِبَتْ

وَلَمْ يَقَعْ تَزْوِيجُهَا فَالْعِدَّةُ

نَحْوُ الثَّلَاثِينَ بِخُلْفٍ أَثْبَتُوا

انتهى نظم الحافظ العراقيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ وُجُوبِ الْغَسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِخُرُوجِ الْمَنيِّ مِنْهَا، وَبَيَانِ صِفَةِ مَنيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَة، وَأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِمَا)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أول الكتاب:

[715]

(310) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 449 - 450.

ص: 483

الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَهِيَ جَدَّةُ إِسْحَاقَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ، وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ: يَا رَسُولَ الله، الْمَرْأَةُ تَرَى مَا يَرَى الرَّجُلُ فِي الْمَنَام، فَتَرَى مِنْ نَفْسِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ مِنْ نَفْسِهِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أُمَّ سُلَيْم، فَضَحْتِ النِّسَاءَ، تَربَتْ يَمِينُك، فَقَالَ لِعَائِشَةَ: "بَلْ أَنْت، فَتَربَتْ يَمِينُك، نَعَمْ، فَلْتَغْتَسِلْ يَا أُمَّ سُليْمٍ إِذَا رَأتْ ذَاكِ

(1)

").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) أبو حفص الْجُرَشيّ اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجْليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فضعيفٌ؛ لاضطرابه فيه [5](ت قبيل 160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(إِسْحَاق بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) هو: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، نُسب لجدّه الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ حجّةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ رضي الله عنه تقدّم في الحديث الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث بصيغة الإفراد في الأول والأخير، والجمع في الباقيين، وفيه القولُ أيضًا.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عكرمة، عن إسحاق، ورواية الراوي عن عمّه، فإن أنسًا رضي الله عنه عم لإسحاق، وفيه أنس من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "ذلك".

ص: 484

شرح الحديث:

عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وقوله:(قَالَ إلخ) تفسير وتوضيح لمعنى "حدّثني"(جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) سهلة، وقيل: غيرها، والدة أنس رضي الله عنهما، وستأتي ترجمتها في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية يدلّ على أن أنسًا رضي الله عنه كان حاضرًا لهذه الواقعة، لكن الرواية التالية تدلّ على خلافه، حيث إن فيها قوله:"أن أم سُليم حدّثت أنها سألت إلخ"، فإنها ظاهرة في كون أنس أخذه عن أم سُليم، وأظهر منه رواية النسائيّ في "عشرة النساء" بسند صحيح، عن أنس، عن أمه أم سليم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث، فهذا أظهر في كون أنس رواه عن أمه، فالظاهر أن كونه من مسندها أقوى، وسيأتي قريبًا أن أبا حاتم: أعلّ الحديث بالإرسال - إن شاء الله تعالى -.

(وَهِيَ جَدَّةُ إِسْحَاقَ) الراوي عن أنس؛ لأنها أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ، وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال (يَا رَسُولَ الله، الْمَرْأَةُ تَرَى مَا) موصولة بمعنى الذي (يَرَى الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ)، أي في حال نومه أي من مجامعته لزوجته (فَتَرَى مِنْ نَفْسِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ مِنْ نَفْسِهِ؟)، تعني أنها رأت في نومها أن زوجها جامعها، ونحو ذلك، مثل ما يرى الرجل في نومه من جماع زوجته ونحوه، وعائد الصلة محذوف، أي يراه، وهذا الحذف كثير في كلامهم، كما قال في "الخلاصة":

..........................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ" مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

ويحتمل أن تكون "ما" موصولًا حرفيًّا، أي مثل رؤيا الرجل، فلا تحتاج إلى عائد، وجملة "يرى" إما حالٌ من المرأة، أو وصف له على ما تقدّم من التوجيه.

وقد جاء التصريح بالمكنيّ عنه هنا في رواية أحمد في "مسنده": "أنها قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يُجامعها في المنام، أتغتسل؟

؟ " الحديث، وفي الروايات الآتية ذكره بلفظ الاحتلام، وإنما

ص: 485

شبّهت ذلك بما يراه الرجل؛ لاشتهاره عندهم حتى لا يُستحيا من ذكره فيما بينهم بخلاف النساء، فيستحيين من ذكره.

(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) هذا صريح في أن المنكرة على أم سُليم هي عائشة رضي الله عنها، وسيأتي قريبًا أن المنكرة هي أم سلمة رضي الله عنها وهو الراجح، كما سيأتي تحقيقه، والله تعالى أعلم.

(يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، فَضَحْتِ النِّسَاءَ)، أي كشفت عيوبهنّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفَضِيحة: العيبُ، والجمع فضائح، وفَضَحتُهُ فَضْحًا، من باب نَفَعَ: كشفتُهُ، وفي الدعاء:"لا تفضحنا بين خلقك"، أي استُر عيوبنا، ولا تكشفها، ويجوز أن يكون المعنى: اعصِمْنا حتى لا نَعْصِيَ، فنستحِقّ الكشفَ. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "فضحت النساء"، أي كشفت من أسرارهنّ، وما يكتُمن من الحاجة إلى الرجال، ورؤية الأحلام؛ إذ هو فيهنّ قليل، ولذلك قالت:"أوَ تجد المرأة"، لا سيّما عائشة؛ لصغر سنّها، وكونها مع بعلها، وقد يكون ذلك لما صَرَّحت به من ذلك، ولم تستحِ في الحقّ فيه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى "فضَحتِ النساء": حَكَيتِ عنهنّ أمرًا يُستحيا من وصفهنّ به، ويكتمنه، وذلك أن نزول المنيّ منهنّ يدل على شدة شهوتهن للرجال. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وهذا يدلّ على أن كتمان مثل ذلك من عادتهن؛ لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال، وقال ابن بطّال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن، وعكسه غيره، فقال: فيه دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن، والظاهر أن مراد ابن بطال الجواز، لا الوقوع، أي فيهنّ قابلية ذلك. انتهى

(4)

.

(تَرِبَتْ يَمِينُكِ) أي افتقرت، يقال: تَرِب الرجل بكسر الراء، من باب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 475.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 147.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 221.

(4)

"الفتح" 1/ 463.

ص: 486

تَعِبَ: إذا افتقر، كأنه لَصِقَ بالتراب، فهو تَرِبٌ، وأترب بالألف لغة فيهما، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: تَرِبَ الرجلُ: إذا افتقر، أي لَصِقَ بالتراب، وأترب: إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون: قاتله الله. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "تربت يمينك" فيه خلاف كثير منتشر جدًّا للسلف والخلف من الطوائف كلها، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعمالها غيرَ قاصدة حقيقة معناها الأصليّ، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله ما أشجعه، ولا أم له، ولا أب لك، وثكلته أمه، وويلُ أمه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء، أو الزجر عنه، أو الذمّ عليه، أو استعظامه، أو الحثّ عليه، أو الإعجاب به. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "تَرِبت يمينك": أي افتقرت، قال الهرويّ: تَرِب الرجل: إذا افتقر، وأترب: إذا استغنى، وفي "الصحاح": تَرِب الشيءُ بالكسر: أصابه التراب، ومنه تَرِب الرجل: افتقر، كأنه لَصقَ بالتراب، قال: وأترب الرجلُ: استغنى، كأنه صار ماله من الكثرة بقدر التراب، وتأوّل مالك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة:"تربت يمينك" بمعنى الاستغناء، وكذلك عيسى بن دينار، وقال ابن نافع: معناه: ضعُف عقلُك، وقال الأصمعيّ: معناه الْحَضُّ على تعلّم مثل هذا، كما يقال: انْجُ ثَكِلتك أمُّك، وقيل:"تَرِبت" أصابها التراب، ولم يُرد الفقر.

والصحيح أن هذا اللفظ، وشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء به، وهذا مذهب أبي عُبيد في هذه الكلمات، وما شابهها، وقد أحسن البديع في رسائله، وأوضح هذا المعنى، فقال:

وقد يوحش اللفظ، وكلُّه وُدّ، ويُكره الشيء، وما من فعله بُدّ، هذه

(1)

"المصباح المنير" 1/ 73.

(2)

"النهاية" 1/ 184.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 221.

ص: 487

العرب تقول: لا أبا لك للشيء إذا أهمّ، وقاتله الله، ولا يريدون به الذمّ، وويلُ أمه للأمر إذا تمّ، وللألباب في هذا الباب أن تنظر إلى القول وقائله، فإن كان وليًّا فهو الولاء، وإن خَشُن، وإن كان عدوًّا فهو البلاء، وإن حسُن.

قال القرطبيّ: وعلى تقدير كونه دعاء على أصله، مقصودًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم على بُعده، فقد أخرج الشيخان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم فأيما مؤمن سببته، فاجعل ذلك له قربةً إليك يوم القيامة"، لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته، أو لعنته، أو جلدته، فاجعلها له زكاةً ورحمةً"

(1)

.

وإنكار عائشة وأم سلمة على أم سُليم قضيّة احتلام النساء تدلّ على قلّة وقوعه منهنّ.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِعَائِشَةَ: "بَلْ أَنْتِ)"بل" للإضراب الإبطاليّ، فهو صلى الله عليه وسلم أبطل قول عائشة لأم سُليم: تربت يمينك، ثم قال لها ما أبطله عن أم سليم، و"أنت" مبتدأ محذوف الخبر، أي أنت أحقّ أن يقال لك ذلك.

(فَتَرِبَتْ يَمِينُكِ) الفاء فصيحيّة أفصحت عن جواب شرط مقدّر، أي إذا لم تستحقّ هي الإنكار، وكنت أنت أحقّ به، فتربت يمينك، ويحتمل أن يكون "أنت" مبتدأ، وجملة "فتربت يمينك" خبره، والفاء زائدة.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه أنتِ أحقّ أن يقال لك هذا، فإنها فَعَلت ما يجب عليها من السؤال عن دينها، فلم تستحقّ الإنكار، واستحقَقْتِ أنتِ الإنكار؛ لإنكارك ما لا إنكار فيه. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا يَحْتَمِل وجهين، إن كانت عائشة رضي الله عنها قالت ذلك لأم سُليم على الذمّ والدعاء لَمّا فَضَحَت النساء، فقابلها النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، أي أنتِ أحقّ أن يقال لك هذا، إذ فَعَلَتْ هي ما يَجِبُ عليها من السؤال عن دينها، فلم تستوجب الإنكار، واستوجبتِهِ أنتِ بإنكارك ما لا يجوز إنكاره.

(1)

"صحيح البخاري" في: "الدعوات" رقم (6361)، و"صحيح مسلم" في:"البرّ والصلة" رقم (2601).

ص: 488

قال: وقد وقع في كتاب مسلم من رواية السمرقنديّ، والطبريّ قولها:"تربت يمينك خير"، كذا هو بالياء المثنّاة من تحتُ، ضدّ الشرّ، كأنه فسّر معناه، وأنه لم يُرد سبّها، وعند بعض رواة ابن ماهان:"خبر" بفتح الباء الموحّدة، وليس بشيء. انتهى كلام القاضي

(1)

.

وتعقّب النوويّ رحمه الله قوله: وليس بشيء، فقال: بل كلاهما صحيح، فالأول معناه: لم تُرِد بهذا شَتْمًا، ولكنها كلمة تَجرِي على اللسان، ومعنى الثاني: أن هذا ليس بدعاء، بل هو خبر لا يراد حقيقته. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لفظ "خير" سواء ضبطناها بالياء، أو بالباء لا تزال غامضة، والله تعالى أعلم.

(نَعَمْ) جوابٌ منه صلى الله عليه وسلم لأمّ سُليم رضي الله عنها وقد تقدّم معناها، والفرق بينهما، وبين "بلى"، قريبًا، فلا تنس نصيبك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَلْتَغْتَسِلْ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ إِذَا رَأَتْ ذَاكِ") وفي نسخة: "ذلك"، أي الماء، يعني أنه يجب عليها أن تغتسل إذا رأت بعد استيقاظها ما يراه الرجل، وخرج منها ما يخرج منه، وهو المنيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 715](310)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(195)، وفي "الكبرى"(202) و (831)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(704)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قد أعلّ الإمام الناقد أبو حاتم الرازيّ هذا الإسناد، فقال ابنه في "علل الحديث" (1/ 162 - 163): سمعت أبي، وذكر حديثًا، رواه عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 149.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 221.

ص: 489

طلحة، عن أنس، قال: جاءت أم سليم، وهي جدّة إسحاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، المرأة تَرَى ما يرى الرجل في المنام بأنّ زوجها جامعها، أتغتسل؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا وجدت الماء فلتغتسل".

ورَوَى الأوزاعيّ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن جدّته أم سليم، قالت: دَخَلَتْ أمُّ سليم على أم سلمة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له أم سليم: أرأيت إذا رأت المرأة؟ قال أبي: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم سليم مرسلٌ، وعكرمةُ بن عمار رواه عن إسحاق، عن أنس، أن أم سليم، وحديث الأوزاعيّ مرسلًا أشبهُ من الموصول. انتهى بتصرّف يسير.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه أبو حاتم: أن هذا الإسناد رُوي متّصلًا بذكر أنسٍ رضي الله عنه من طريق عكرمة بن عمّار، كما عند المصنّف رحمه الله هنا، ورُوي مرسلًا بإسقاط أنس من طريق الأوزاعيّ، كما عند أحمد في "مسنده"(6/ 377)، وروايته المرسلة أشبه بالصواب من رواية عكرمة المتّصلة؛ لأن الأوزاعيّ إمام، وعكرمة متكلّم في حفظه، هذا خلاصة ما أشار إليه.

لكن الحديث صحيح من الطرق الآتية وغيرها، فلا يضرّ إرسال هذا الإسناد، فتبصّر.

وفوائد الحديث ستأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[716]

(311) - (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ، أَنها سَأَلَتْ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا

(1)

مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَتْ ذَلِكِ الْمَرْأَةُ، فَلْتَغْتَسِلْ"، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ:

(1)

وفي نسخة: "ترى في المنام".

ص: 490

وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا، أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَبَّاسُ بْنُ الْوَليدِ) بن نصر النَّرْسِيّ

(1)

- بفتح النون، وسكون الراء، بعدها مهملة - أبو الفضل البصريّ، مولى باهلة، ثقةٌ [10].

رَوَى عن عبد الواحد بن زياد، ويزيد بن زُريع، ومعتمر بن سليمان، وأبي عوانة، والحمادين، ويحيى القطان، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وروى له النسائيّ بواسطة أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي عاصم، وعبد الله بن أحمد، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم.

قال ابن معين: رجلٌ صدوقٌ، وقال في روايةٍ: النَّرْسيّان ثقتان، وما يصلُح عبد الأعلى - يعني ابن حماد - إلا خادمًا لعباس، وهو كَيِّسٌ، وكان من وَلَد نَرْسِيّ بعضِ كُتّاب المعجم، فقالوا: ما نُحِبّ أن نُنْسَب إليه، وقال أبو حاتم: شيخٌ يُكتب حديثه، وكان علي بن المدينيّ يتكلَّم فيه، وقال ابن قانع، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال محمد بن عبد الله الحضرميّ: مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقال غيره: سنة (37).

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وله عند البخاريّ ثلاثة أحاديث فقط.

[تنبيه]: ضبط عبّاس بن الوليد هذا بالباء الموحدة، والسين المهملة، هو الصواب، وصَحّفه بعض الرواة لكتاب مسلم، فقال: عَيّاش، بالياء المثناة

(1)

"النِّرْسِيُّ" - بفتح النون، وسكون الراء، وكسر السين المهملة -: نسبة إلى نَرْس نهر من أنهار الكوفة، عليه عدّة من القرى. انتهى. "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 394.

ص: 491

تحتُ، والشين المعجمة، وهو غلط صريحٌ؛ لأن عيّاشًا بالمعجمة، هو عياش بن الوليد الرَّقّام البصريّ، ولم يرو عنه مسلم شيئًا، ورَوَى عنه البخاريّ، وأما عباس فهو ابن الوليد البصريّ النَّرْسيّ، وروى عنه البخاريّ ومسلم جميعًا، وهذا مما لا خلاف فيه، وكان غلط هذا القائل وقع له من حيث إنهما مشتركان في الأب والنسب والعصر، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: "عبّاس بن الوليد" كذا للعذريّ، والشنتجاليّ

(2)

بباء واحدة، ومهملة، وعند السمرقنديّ:"عيّاش بن الوليد"، والأول الصواب، وكلاهما بصريّان، فأما الأول، فهو النرسيّ، خرّج عنه البخاريّ ومسلم، والثاني هو الرّقّام، تفرّد به البخاريّ. انتهى

(3)

.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْع) الْعَيْشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(سَعِيد) بن أبي عروبة مِهْرَان الْيَشكُريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدم في السند الماضي.

6 -

(أُمَّ سُلَيْمٍ) - بنت مِلْحان، أخت أم حَرَام الأنصارية، لها صحبة، واسمها سَهْلَة، ويقَال: رُمَيلة، ويقال: رُمَيثة، ويقال: أُنيثة، ويقال: مُلَيكة، وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاريّ، يقال: إنها هي الْغُمَيصاء، أو الرُّميصاء، ثَبَت ذلك في "صحيح البخاريّ"، في حديث ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنةَ، فإذا أنا بالرُّميصاء، امرأة أبي طلحة

"، وفي "صحيح مسلم"، من حديث ثابت، عن

(1)

"شرح مسلم" 3/ 221 - 222.

(2)

كذا في نسخة، وفي نسخة: والسجستاني.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 149.

ص: 492

أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة، فسمعت خَشَفَةً

(1)

، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: هذه الرُّميصاء"، وفي رواية: "الرُّميصاء بنت مِلْحان، أم أنس بن مالك".

رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها ابنها أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وعمرو بن عاصم الأنصاريّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فوَلَدت له أنسًا، فلما جاء الله تعالى بالإسلام أسلمت، وعَرَضَتْ على زوجها الإسلام، فغَضِب عليها، وخَرَج إلى الشام، فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشركٌ، فأبت عليه إلا أن يُسلم، فأسلم، فوَلدت له غلامًا، كان قد أُعْجِب به، فمات صغيرًا، وأَسِفَ عليه، وقيل: إنه أبو عُمير، صاحب النُّغَير، ثم وَلَدت له عبد الله بن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته وكانوا عشرةً، كلُّهم حُمِل عنه العلم.

ورُوي عن أم سليم، قالت: لقد دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما أريد زيادةً، ومناقبها كثيرةٌ شهيرةٌ.

أخرج لها البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، ولها في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط

(2)

، هذا برقم (311)، و (2332) حديث: "يا أم سُليم ما هذا؟ قالت عَرَقُك، أَدُوف به

(3)

طيبي"، و (2480) حديث: "اللهم أكثر ماله وولده

" الحديث.

لطائف الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.

(1)

أي: حركة المشي وصوته.

(2)

وفي: "الخلاصة" للخزرجيّ 3/ 400: لها أربعة عشر حديثًا، اتّفق الشيخان على حديث منها، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين. انتهى.

(3)

أي: أخلط به.

ص: 493

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، فكلهم بصريون غير أم سليم رضي الله عنها فمدنيّة، وأنسٌ رضي الله عنه مدنيّ، ثم بصريّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، وقد صرّح كلّ من سعيد بن أبي عروبة، وقتادة به، فزال عنهم تهمة التدليس.

5 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وأن أم سُليم هذا أول محلّ ذكرها في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عِدّة ما لها فيه من الأحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ) هي أمه، وقد تقدّم الخلاف في اسمها (حَدَّثَتْ) هكذا بحذف المفعول، وهو جائز؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

أي حدّثته، وهذا ظاهر أن أنسًا أخذه عنها، ولم يحضر القصّة. (أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ)، أي عن حكمها من وجوب الاغتسال وعدمه، ففي الرواية التالية:"فهل على المرأة من غُسل إذا احتَلَمت؟ "(تَرَى فِي مَنَامِهَا)، وفي نسخة:"ترى في المنام"، أي في حال نومها (مَا يَرَى الرَّجُلُ؟)، أي في منامه، ففيه الحذف للاكتفاء، وقد صُرّح به في الرواية التالية، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَتْ ذَلِكِ)، أي المنيّ، وفي رواية النسائيّ: "إذا رأت الماء" (الْمَرْأَةُ، فَلْتَغْتَسِلْ"، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) هكذا هو في الأصول، والصواب أم سلمة، قال الحافظ أبو عليّ الغسانيّ الجيّاني رحمه الله في "كتابه تقييد المهمل": هكذا في أكثر النسخ عن الْجُلُوديّ والكسائيّ: "فقالت أم سُليم"، وكذلك عند ابن ماهان، إلا أنه غُيِّر في بعض النسخ:"فقالت أم سلمة"، جُعِل مكان أم سليم أم سلمة، والمحفوظ من طرُق شَتَّى:"فقالت أم سلمة". انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض بعد نقل كلام الجيّاني: وهذا هو الصواب؛ لأن

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 793.

ص: 494

السائلة هي أمُّ سليم، والرادّة عليها أمّ سلمة في هذا الحديث، وعائشة في الحديث المتقدم، ويحتمل أن عائشة وأم سلمة كلتاهما أنكرتا عليها، وإن كان أهل الحديث يقولون: الصحيح هنا أم سلمة، لا عائشة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه أهل الحديث من تصحيح كون الرادّ لأم سلمة رضي الله عنها هو الظاهر، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(وَاسْتَحْيَيْتُ) بضمّ التاء للمتكلّم (مِنْ ذَلِكَ)، أي من هذا الكلام الذي سألته أم سليم رضي الله عنها؛ لكونه مما يُستحيى منه عادةً.

[تنبيه]: جملة "واستحييت من ذلك" مقول "قالت"، ويحتمل أن يكون مقول القول جملة:"وهل يكون هذا؟ "، وجملة "واستحييت" حاليّة معترضة بين القول ومقوله، ويكون "قالت" الثاني مؤكّدًا لوقوع الفصل بالجملة المعترضة، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} الآية [البقرة: 89].

(قَالَتْ) أي أم سلمة، كما هو المحفوظ (وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟)، أي رؤية المرأة في النوم الاحتلام، (فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(نَعَمْ)، أي ترى المرأة ذلك، ثم أوضح ثبوت ذلك لها بالدليل الواضح الذي يعترف به كلّ من سمعه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟) الفاء فصيحيّةٌ: أي إذا لم يكن لها منيّ، فمن أين يُشبهها ولدها، و"الشبه" بفتحتين، أو بفتح، فسكون: المشابهة، أي المماثلة بين الولد والمرأة التي ولدته تكون من المنيّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يُروى بكسر الشين، وسكون الباء، وفتح الشين والباء، لغتان، كما يقال مِثْلٌ، ومَثَلٌ، ومعنى ذلك مفسّرٌ في عائشة، وثوبان رضي الله عنهما. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد بحديث عائشة الحديث الآتي بعد حديث، وبحديث ثوبان الحديث الآتي في الباب التالي.

والمعنى: أنه إذا لم يكن للمرأة ماء فبأيّ شيء يُشبهها ولدها؟ يعني أن شبهه بها إنما يكون؛ لكونه مخلوقًا من مائها، والله تعالى أعلم.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 149 - 150.

(2)

"المفهم" 1/ 570.

ص: 495

ثم بيّن صفة منيّ الرجل والمرأة، فقال:(إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ)، أي منيّه (غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيق أَصْفَرُ)، أي إذا كان مزاجهما معتدلًا، وإلا فقد يتغيّر الوصفان، قال القرطبيّ رحمه الله: ما ذكره من صفة الماءين إنما هو في غالب الأمر، واعتدال الحال، وإلا فقد تختلف أحوالهما للعوارض. انتهى

(1)

.

(فَمِنْ أَيِّهِمَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "فَمِن أَيِّهما" بكسر الميم، وبعدها نون ساكنةٌ، وهي الحرف المعروف، وإنما ضبطته، لئلا يُصَحَّفَ بِمَنِيٍّ. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: "من" فيه زائدة. انتهى

(3)

. (عَلَا)، أي فأيّ المنيين غلب فيما إذا وقعا في الرحم معًا (أَوْ سَبَقَ)، أي تقدّم وقوعه في الرحم قبل وقوع المنيّ الآخر، فـ "أو" هنا للتقسيم، لا للشكّ (يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ) ويحتمل أن "من" أصليّة، ويكون التقدير: فمن أي الشخصين: الرجلِ والمرأةِ علا، أي غلب المنيّ، أو سبق يكون منه الشبه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فمن أيهما علا إلخ"، أي فمن أجل علوّ، أو سبق أحدهما يكون الشبه، وَيَحْتَمِل أن يقال: إن "مِنْ" زائدة على قول بعض الكوفيين: إنها تُزاد في الواجب، بتقدير:"أيُّهما"، ويحتمل أن يكون "أو" شكًّا من أحد الرواة، ويحتمل أن يكون تنويعًا، أي: أيّ نوع كان منهما كان منه الشبه، كما قال الشاعر [من الطويل]:

فَقَالُوا لَنَا ثِنْتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا

صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ

أي أحد النوعين لا بُدّ منه.

وقوله: "سَبَقَ" أي بادر في الخروج، وقد جاء في غير كتاب مسلم:"سَبَقَ إلى الرحم"، وَيَحْتَمِل أن يكون بمعنى غَلَبَ، من قولهم: سابقني، فسبقته: أي غلبته، ومنه قوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60]، أي مغلوبين، فيكون معناه: كَثُرَ. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 1/ 570.

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 223.

(3)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 808.

(4)

"المفهم" 1/ 570 - 571.

ص: 496

وقال القرطبيّ رحمه الله: مقتضى هذا أن العلوّ يقتضي الشبه، وقد جعل العلوّ في حديث ثوبان رضي الله عنه الآتي يقتضي الذكورة والأنوثة، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام، والذكورة إن علا منيّ الرجل، وكذلك يلزم إذا علا منيّ المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة؛ لأنهما معلولا علّة واحدةٍ، وليس الأمر كذلك، بل الوجود بخلاف ذلك؛ لأنا نجد الشَّبَه للأخوال والذكورة، والشَّبَهَ للأعمام والأنوثة، فتعيّن تأويل أحد الحديثين، والذي يتعيّن تأويله العلوّ الذي في حديث ثوبان رضي الله عنه، فيقال: إن ذلك العلوّ معناه: سبق الماء إلى الرحم والذكورة، ووجهه أن العلوّ لَمَّا كان معناه الغلبةَ، كما فسّرناه، وكان السابق غالبًا في ابتدائه بالخروج قيل عليه: علا، ويؤيّد هذا التأويل ما يأتي في حديث ثوبان رضي الله عنه أنه قد روي في غير كتاب مسلم:"إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا".

وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربيّ على اختلاف هذه الأحاديث بناءً، فقال: إن للماءين أربعة أحوال:

(الأول): أن يخرج ماء الرجل أوّلًا.

(والثاني): أن يخرج ماء المرأة أوّلًا.

(والثالث): أن يخرج ماء الرجل أولًا ويكون أكثر.

(والرابع): أن يخرج ماء المرأة أوّلًا، ويكون أكثر.

ويتمّ التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أوّلًا، ثم يخرج ماء المرأة بعده، فيكون أكثر، أو بالعكس، وبالعكس، فإن خرج ماء الرجل أوّلًا، وكان أكثر جاء الولد ذكرًا بحكم السبق، وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة، وإن خرج ماء المرأة أوَّلًا، وكان أكثر جاء الولد أنثى، بحكم السبق، وأشبه أخواله بحكم الغلبة، وإن خرج ماء الرجل أوّلًا، لكن لَمّا خرج ماء المرأة بعده كان أكثر، كان الولد ذكرًا بحكم السبق، وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة، وإن سبق ماء المرأة، لكن لَمّا خرج ماء الرجل، وكان أعلى من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة، وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل، قال: وبانتظام

ص: 497

هذه الأقسام يستتبّ الكلام، ويرتفع التعارض عن هذه الأحاديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه ابن العربيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، إلا أنه يشكل عليه قوله في هذه الرواية:"فمن أيهما علا، أو سبَقَ يكون الشبه"، فقد جعل الشبه بالعلوّ، أو بالسبق.

ويمكن الجواب عنه بأن يقال: إن الذكورة والأنوثة شبهٌ أيضًا باعتبار الجنسيّة، فتكون كثرته مُقتضيةً للشبه في الصورة، وسبقُهُ مقتضيةً للشبه في الجنسيّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سُلَيم رضي الله عنها عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[7/ 716](311)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 112)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(601)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 80)، و (أحمد) في "مسنده"(121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 199) و (7/ 192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1164)(1/ 169)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(829 و 830)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(705)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الغسل على المرأة بالاحتلام، إذا خرج منها المنيّ.

2 -

(منها): إثبات أن المرأة يخرج منها المنيّ، كما يخرج من الرجل، وفيه ردّ على من أنكر بروز الماء من المرأة، وقال: إنما يُعرف إنزالها بانقضاء شهوتها.

(1)

"المفهم" 1/ 571 - 572.

ص: 498

3 -

(ومنها): سؤال المرأة الرجل الأجنبيّ بنفسها في أمر دينها، وإن كان مما يُستحيى منه.

4 -

(ومنها): ترك الاستحياء من عَرَضت له مسألة دينيّة.

5 -

(منها): أن فيه الردّ على من زعم أن الولد يكون من ماء المرأة فقط، وأما ماء الرجل فهو عاقد له، كالإِنْفَحَّة

(1)

للّبن، فقد أثبت هذا النصّ أنه مخلوقٌ من الماءين، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} الآية [الإنسان: 2]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون، وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس

(2)

.

6 -

(ومنها): استعمال القياس؛ لأن معناه: من كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام، فأثبت الإنزال عند الجماع بدليل الشبه، وقاس عليه الإنزال بالاحتلام.

7 -

(ومنها): جواز الضحك في التعجّب.

8 -

(ومنها): زجر من يلوم على من يسأل عما جَهِله، وإن كان مما يُستحيى منه.

9 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في بيان صفة المنيّ، وهذه صفته في حال السلامة، وفي الغالب، قال العلماء: منيّ الرجل في حال الصحة أبيض ثَخِينٌ، يتدفَّق في خروجه دفقة بعد دفقة، ويَخرُج بشهوة، ويتلذذ بخروجه، وإذا خرج استعقب خروجُهُ فُتورًا، ورائحته كرائحة طَلْع النخل، ورائحة الطلع قريبة من رائحة العَجِين، وقيل: تشبه رائحته رائحة الفَصِيل، وقيل: إذا يبس كان رائحته كرائحة البول، فهذه صفاته، وقد يُفارقه بعضها مع بقاء ما يَستقلّ بكونه منيًّا، وذلك بأن يَمْرَض، فيصير منيّه رقيقًا

(1)

بكسر الهمزة، وفتح الفاء، وتثقيل الحاء أكثر من تخفيفها: شيء يُستخرج من بطن ذي الكَرِش أصفر يُعصَر في صُوفة مُبتلّة في اللبن، فيغلظ كالجبن، قاله في:"المصباح" 2/ 616.

(2)

"تفسير ابن كثير" في: "سورة الإنسان" 14/ 206.

ص: 499

أصفر، أو يَسترخِي وعاء المنيّ، فيسيل من غير التذاذ وشهوة، أو يَستكثر من الجماع، فيَحْمَرَّ ويصير كماء اللحم، وربما خرج دمًا عَبِيطًا

(1)

، وإذا خرج المنيّ أحمر، فهو طاهر موجب للغسل، كما لو كان أبيض.

ثم إن خواص المني التي عليها الاعتماد في كونه منيًّا ثلاث:

[أحدها]: الخروج بشهوة مع الفتور عقبه.

[والثانية]: الرائحة التي تشبه رائحة الطلع كما سبق.

[والثالث]: الخروج بدِفْق، ودَفَعَات، وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في إثبات كونه منيًّا، ولا يشترط اجتماعها فيه، وإذا لم يوجد شيء منها لم يُحكَم بكونه منيًّا، وغَلَب على الظن كونه ليس منيًّا، هذا كله في منيّ الرجل.

وأما منيّ المرأة: فهو أصفر رقيق وقد يبيضّ لفضل قوتها، وله خاصيتان، يُعرَف بواحدة منهما:

[إحداهما]: أن رائحته كرائحة منيّ الرجل.

[والثانية]: التلذذ بخروجه، وفتور شهوتها عقب خروجه، قالوا: ويجب الغسل بخروج المنيّ بأيّ صفة، وحال كان. انتهى كلام النوويّ، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

1 -

(ومنها): أن فيه إثبات الوراثة، وشبه الولد لأبيه أو أمه، قال بعضهم: وما زال العلم - رغم تقدّمه - عاجزًا عن التحكّم في علوّ ماء الرجل، أو سبقه، وعلوّ ماء المرأة، أو سبقه، بل عاجزًا عن إدراك كيفيّة هذا العلوّ وأسبابه.

يقول علماء الطبّ الحديث: إن ثلاثة سنتميترات مكعّبة من منيّ الرجل تحوي مائتين وخمسين مليونًا من الحيوان المنويّ، كلّ حيوان منها يمكن أن يكون جنينًا، ويحمل ثلاثة وعشرين من العوامل الوراثيّة، ولكلّ عامل من هذه العوامل مكونات داخليّة، تبلغ المائة، وتسمّى بالمورثات.

أما الأنثى، فإن مبيضها يقذف ببويضة واحدة كلّ شهر، تحمل هذه البويضة ثلاثة وعشرين من العوامل الوراثيّة للمرأة أيضًا.

(1)

أي: طريًّا خالصًا.

ص: 500

ويتكوّن الجنين باختراق حيوان منويّ واحد جدار البويضة، واستقراره فيها، وهنا تلتقي العوامل الوراثية للذكر بالعوامل الوراثيّة للأنثى، فتعلو وتغلب إحداهما الأخرى.

ولا يتنافى هذا التشريع الطبيّ مع أحاديثنا التي تُثبت للمرأة ماءً، ولا مع تفسير المفسّرين لقوله تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] حيث قالوا: من بين صلب الرجل، ومن بين ترائب المرأة، فإن منيّ الرجل الذي يتم تكوينه في الخصية مرّ بالصلب كمرحلة من مراحله، وإن بويضة المرأة التي تتكون في المهبل هي في أصلها ماء يخرج من بين ترائب المرأة، كمرحلة من مراحله.

إن الطب لا ينكر أن المرأة تحتلم كما يحتلم الرجل، ولا يُنكر أن المرأة تفرز عند شهوتها ماء رقيقًا أصفر، وإن قال: إن اللقاح يتم عن طريق البويضة.

لقد كان الهنود قبل المسيحيّة يعتقدون أن الأب هو عامل التكوين في إيجاد الطفل؛ إذ يضع البذرة في بطن المرأة، وأن المرأة ليست أكثر من حقل لإنماء هذه البذرة، وأخذ عنهم المصريون القدامى هذه الفكرة، وتأثر بهم كذلك اليونان والرومان، وكان هذا هو الشائع حين سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:"لا يعلمه إلا نبيّ، أو رجلٌ أو رجلان"، وكان جوابه صلى الله عليه وسلم دليلًا على صدقه، بل إن أوربا لم تكتشف مشاركة ماء المرأة ماء الرجل في تكوين الجنين إلا عام (1667 م) حين اكتشف عالم التشريح الفلورنسي "ستينو" البويضة عند المرأة، ثم تابع العلم اكتشافات وراثة الطفل لأبويه في الصفات، ولكنه كعادته حين يعجز عن إدراك الطريقة والسبب يعزو الأمر إلى الصدفة.

يقول الدكتور فاخر عاقل رئيس قسم علم النفس بجامعة دمشق: أما الثلاثة والعشرون صبغيًا - أي عاملًا وراثيًّا - الموجودة في النطفة، والتي ستلتقي بالثلاثة والعشرين صبغيًا الأخرى الموجودة في البويضة، والتي ستكون المخلوق الجديد، فأمرها متروك للصدفة مرّة أخرى، وهكذا تكون قوانين الوراثة قوانين متصلة بالصدفة في تجمع الصبغيات في كل بويضة أو نطفة. اهـ.

ولكن الإسلام يقول: إن علوّ عوامل الوراثة في ماء الرجل وغلبتها لمثيلاتها عند المرأة مرتبط بعلم الله تعالى، ومشيئته جلّت قدرته: {يَخْلُقُ مَا

ص: 501

يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] و {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في مذاهب أهل العلم في حكم الاحتلام:

قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله: دلَّت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإيجاب الاغتسال على من احتلم.

وممن رُوي عنه أنه قال: "على المرأة الغسل بالاحتلام" عليّ، وذرّ الهمدانيّ، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأصحابه، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا أعلم أني حفظت في ذلك اختلافًا إلا شيئًا، رُوي عن النخعيّ، رَوَينا عنه أنه قال - وقد سئل عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل، أتغتسل؟ - فقال: إنما الحيض على النساء، والحلُمُ على الرجال، قال ابن المنذر: وبالخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقول.

وقال أيضًا: أجمع كلُّ من أَحفَظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا رأى في نومه أنه احتلم، أو جامع، ولم يجد بَلَلًا أنه لا غسل عليه.

واختَلَفوا فيمن رأى بِلّةً، ولم يذكر احتلامًا، فقالت طائفة: يغتسل، رُوي هذا القول عن ابن عباس، وعطاء، والشعبيّ، وابن جبير، والنخعيّ، وقال أحمد: أَعْجَب إليّ أن يغتسل إلا رجل به أَبْرِدةٌ، وقال إسحاق: يغتسل إذا كانت بِلّةَ نُطفَة.

ورَوَينا عن الحسن أنه قال: إن كان انتشر إلى أهله من أول الليل، فوجد بِلّةً فهو من ذلك، فلا يغتسل، وإن لم يكن انتشر إلى أهله، فوجد بِلّةً، فليغتسل، وقول الحسن هذا قول ثان.

وقالت طائفة: لا يغتسل حتى يُوقِن بالماء الدافق، هكذا قال مجاهد، وقال الحكم: لا يغتسل، وقال قتادة: إذا كان ماء دافقًا اغتسل، فقلت لقتادة: كيف يَعلَم ذلك؟ قال: يشمه.

(1)

انظر: "فتح المنعم" 2/ 308 - 309.

ص: 502

وقال مالك: إذا وجد بِلّةً لا يغتسل، إلا أن يجد الماء الدافق، وقال الشافعيّ: إذا شك أنزل أو لم ينزل، لم يجب عليه غسل، حتى يستيقن الإنزال، وهذا قول أبي يوسف.

قال ابن المنذر: وقد روينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديثًا، وقد تُكُلِّم في إسناده، ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن عُمر، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل، فقال: إن أحدنا يَرَى أنه قد أصاب امرأته في النوم، ولا يجد بللًا، قال:"لا يغتسل، وقال: إن وجد ماءً، ولم ير شيئًا فليغتسل".

قال ابن المنذر: عبد الله بن عمر كان يحيى القطان يضعفه، يعني أن الحديث ضعيف؛ لضعف عبد الله بن عمر العمريّ، لأنه سيئ الحفظ.

قال ابن المنذر: فمن رأى بللًا فإن أيقن أنه بِلَّة نطفة اغتسل، وإن عَلِم أنه مذي، أو غيره، بعد أن يعلم أن البلة ليست ببلة نطفة، لم يجب عليه الاغتسال، والأحوط له إذا شك، فلم يدر بِلّة نطفة أو مذي، أن يغتسل، فإن أمكنه التمييز بينها بشَمٍّ، كما قال قتادة فَعَل، فإن رائحة نطفة الرجل يشبه رائحة الطلع. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل الذي ذكره ابن المنذر: هو الذي يترجّح عندي

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: في الرجل يأتي المرأة دون الفرج، فيَدخُل من مائه في فرجها، قالت طائفة: عليها الغسل، قال عطاء، وعمرو بن شعيب، والزهريّ كذلك.

قال ابن المنذر: ولا أجد دلالةً أوجب عليها الغسل لدخول ماء الرجل في فرجها.

(1)

"الأوسط" 2/ 82 - 87.

(2)

قد سبق أن رجحت في: "شرح النسائيّ" القول بوجوب الغسل مطلقًا؛ لحديث: "فإذا رأيت الماء فاغتسل"، ثم تبيّن لي أن المراد بالماء هو ماء المني الذي أيقن أنه منيّ بصفته؛ لرواية:"فإذا فضخت الماء" والفضخ لا يكون إلا بالدفق، والقذف، فيكون المراد بالماء هو ماء المني المعروف، وذلك إذا تيقّنه بصفته، وأما ما عدا ذلك، فلا، والله تعالى أعلم.

ص: 503

قال: واختلفوا في المرأة يَخرُج من فرجها ماء الرجل بعد الاغتسال، فكان الأوزاعيّ يقول: تتوضأ، وكذلك قال قتادة، وأحمد، وإسحاق، وقال الحسن: تغتسل.

قال ابن المنذر: تتوضأ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما رجحه ابن المنذر في المسألتين هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[717]

(312) - (حَدَّثنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدثنَا صَالِحُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فِي مَنَامِهِ؟ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) - بالتصغير - الهاشميّ مولاهم الْخُوَارزميّ، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(صَالِحُ بْنُ عُمَرَ) الواسطيّ، نزيل حُلْوَان، ثقةٌ [10].

رَوَى عن أبي خَلْدَة، خالد بن دينار، وداود بن أبي هند، وأبي مالك الأشجعيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وعبيد الله بن عمر، وغيرهم.

وروى عنه يونس بن محمد المؤدِّب، وداود بن رُشيد، وأبو معمر القَطِيعيّ، وعلي بن حجر، وأحمد بن إبراهيم الموصليّ، ومحمد بن سليمان لُوَين، وغيرهم.

قال أبو زرعة: ثقة، وقال أسلم في "تاريخ واسط": ثنا أسد بن الحكم، سمعت يزيد بن هارون، أنا صالح بن عمر، وكان ثقةً، وأحسن الثناء عليه،

(1)

"الأوسط" 2/ 86 - 87.

ص: 504

وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات"، وقال ابن معين: هو ثقةٌ، وقال ابن خلفون: وَثّقَه ابن نمير وغيره، وقال ابن الأعرابي في "معجمه": صالح بن عمر ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاريّ في "تاريخه": مات سنة (6) أو (187)، وكذا قال ابن حبّان، وقال أسلم في "تاريخ واسط": قال زحمويه: تُوُفّي سنة (5).

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ) سَعْد بن طارق الكوفيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود سنة (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (32) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هي أمه أمّ سُليم، كما بيّنتها الروايات الأخرى، وقال صاحب "التنبيه": هذا السؤال صدر عن جماعة من الصحابيّات، منهنّ أمّ سُليم كما في مسلم قبل هذا، وخولة بنت حكيم، أخرجه ابن ماجه، وفي سنده عليّ بن زيد بن جُدعان، كذا قاله ابن الملقّن، وهذا الحديث في أصلنا بابن ماجه، وهو أصلٌ مُعتمدٌ، وقد عزاه ابن القيّم في: إعلام الموقّعين" إلى "مسند أحمد"، وعزاه المزيّ أيضًا إلى (ق س) كلاهما في "الطهارة"، ولعلّه سقط من أصلنا.

وبُسْرة بنت صفوان، وحُجته في "مسند ابن أبي شيبة"، وسَهلة بنت سُهيل، رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفي سنده ابن لَهِيعة. انتهى كلام صاحب "التنبيه"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه المرأة المبهمة في هذه الرواية الظاهر أنها أم سُليم، كما أسلفته، لأنها من رواية أنس رضي الله عنه، والسائلات الأخر لم يرو عنهم أنس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

("إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ") معناه: إذا خرج منها المنيّ

(1)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 106 - 107.

ص: 505

فلتغتسل، كما أن الرجل إذا خرج منه المنيّ اغتسل، وهذا من حسن العِشْرة، ولُطْف الخطاب، واستعمال اللفظ الجميل موضع اللفظ الذي يُستحيا منه في العادة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، وتمام شرح الحديث تقدّم فيما قبله.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[7/ 717](312)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(833)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(706)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 260)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[718]

(313) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَىَ الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللْهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ"، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: "تَرِبَتْ يَدَاك، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الحافظ الإمام المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 223.

ص: 506

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه الحجة، تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، تقدّمت قريبًا أيضًا.

6 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، وأبو معاوية كوفيّ، ويحيى نيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ على القول بأن زينب تابعيّة، وصحابيّة عن صحابيّة هي أمها على القول الآخر، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) وهكذا في رواية البخاريّ في "كتاب الغسل"، نُسبت إلى أبيها، وفي رواية له في "كتاب العلم":"عن زينب بنت أم سلمة"، نُسِبت إلى أمها، واسم أبيها عبد الله بن عبد الأسد الصحابيّ الجليل رضي الله عنه.

قال في "الفتح": وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث من طُرُق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، ورواه مسلم أيضًا من رواية الزهريّ، عن عروة، لكن قال: عن عائشة، وفيه أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة، ونَقَل القاضي عياض عن أهل الحديث أن الصحيح أن القصة وقعت لأم سلمة، لا لعائشة، وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام، وهو ظاهر صنيع البخاريّ، لكن نَقَل ابن عبد البرّ، عن الذُّهْليّ أنه صحح الروايتين، وأشار أبو داود إلى تقوية

ص: 507

رواية الزهريّ؛ لأن مسافع

(1)

بن عبد الله تابعه عن عروة، عن عائشة.

وأخرج مسلم أيضًا رواية مسافع، وأخرج أيضًا من حديث أنس قال: "جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له، وعائشة عنده

فذكر نحوه.

ورَوَى أحمد من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن جدّته أم سليم، وكانت مُجاوِرةً لأم سلمة، فقالت أم سليم: يا رسول الله

فذكر الحديث، وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها، وهذا يُقَوِّي رواية هشام.

قال النوويّ في "شرح مسلم": يَحْتَمِلُ أن تكون عائشة وأم سلمة جميعًا أنكرتا على أم سليم، وهو جمع حسن؛ لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة، وعائشة، عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد.

وقال في "شرح المهذب": يُجمع بين الروايات بأن أنسًا، وعائشة، وأم سلمة، حضروا القصّة. انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر أن أنسًا لم يحضر القصّة، وإنما تَلَقَّى ذلك من أمه أم سليم، وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس ما يشير إلى ذلك، يعني الحديث المذكور قبل حديث، ففيه قوله:"أن أم سُليم حَدَّثت".

ورَوَى أحمد من حديث ابن عمر نحو هذه القصة، وإنما تَلَقَّى ذلك ابن عمر من أم سليم، أو غيرها.

وقد سألت عن هذه المسألة أيضًا خولة بنت حكيمٍ، عند أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، وفي آخره:"كما ليس على الرجل غُسل إذا رأى ذلك، فلم يُنْزِل"، وسهلة بنت سهيل عند الطبرانيّ، وبُسْرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة. انتهى ما في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا.

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها أنها:(قَالَتْ: جَاءَتْ أَمُّ سُلَيْم) واسمها سهلة، وقيل: غيرها رضي الله عنها (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) تقدّم أن فيه لغتين:

(1)

وقع في نسخة "الفتح" نافع في الموضعين، وهو تصحيف، والصواب مسافع، فتنبّه.

(2)

1/ 462 - 463.

ص: 508

استحييت منه، بياءين، وهي لغة الحجاز، وبها جاء القرآن، واستحيتُ بياء واحدة، وهي لغة تميم، والاستحياء: هو الانقباض، والانزواء.

وإنما قَدَّمت هذا القول تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يُستَحيَى منه، والمراد بالحياء هنا معناه اللغويّ؛ إذ الحياء الشرعى خير كلُّهُ، وقد تقدم في كتاب الإيمان: أن الحياء لغةً تغيُّرٌ، وانكسار، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فيُحْمَل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحقّ، أو لا يَمنَع من ذكر الحق، وقد يقال: إنما يُحتاج إلى التأويل في الإثبات، ولا يشترط في النفي أن يكون ممكنًا، لكن لَمّا كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحقّ عاد إلى جانب الإثبات، فاحتيج إلى تأويله، قاله ابن دقيق العيد

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم غير مرّة أنه لا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن الحياء صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، ثابتة له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة الصريحة، ولا يلزم من إثباتها له أن تفسّر بمعنى الحياء الذي يُفسّر به الحياء المنسوب إلى الخلق، وإنما هي صفة لائقة بجلاله سبحانه وتعالى، لا تعلم كيفيّتها، وإنما احتاج ابن دقيق العيد وغيره إلى نفيها عن الله تعالى؛ لأنهم حملوها على الحياء المضاف إلى الخلق.

وبالجملة فالحياء صفة ثابتة لله تعالى، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقال النوويّ رحمه الله: وإنما قالت هذا اعتذارًا بين يدي سؤالها عما دعت الحاجة إليه، مما تَستَحِي النساء في العادة من السؤال عنه، وذكرِهِ بحضرة الرجال، ففيه أنه ينبغي من عَرَضت له مسألة أن يسأل عنها، ولا يَمتنع من السؤال حياءً من ذكرها، فإن ذلك ليس بحياء حقيقيّ؛ لأن الحياء خيرٌ كلُّه، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن السؤال في هذه الحال ليس بخير، بل هو شَرّ، فكيف يكون حياءً؟ وقد تقدم إيضاح هذه المسألة في أوائل "كتاب الإيمان"، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "نِعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياءُ

(1)

"الفتح" 1/ 463.

ص: 509

أن يتفقهن في الدين". انتهى

(1)

.

(فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ)"من" زائدة، وقد سقطت في رواية البخاريّ في "كتاب الأدب" (إِذَا احْتَلَمَتْ؟) الاحتلام: افتعالٌ من الْحُلُم - بضم المهملة، وسكون اللام - وهو ما يراه النائم في نومه، يقال منه: حَلَمَ - بالفتح - واحتلم، والمراد به هنا أمر خاصّ منه، وهو الجماع، وفي رواية أحمد من حديث أم سليم، أنها قالت: يا رسول الله، إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مجيبًا لها ("نَعَمْ) تغتسل (إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ")، أي المنيّ بعد الاستيقاظ، وفي رواية الحميديّ، عن سفيان، عن هشام:"إذا رأت إحداكنّ الماء، فلتغتسل".

(فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (يَا رَسُولَ الله، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟) بحذف همزة الاستفهام، وفي رواية للبخاريّ: فقالت أم سلمة: وهل تحتلم المرأة؟، قال في "الفتح": وكذلك رَوَى هذه الزيادة أصحاب هشام عنه، غير مالك، فلم يذكرها، وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي معاوية، عن هشام:"أوَ تحتلم المرأة"؟، وهو معطوف على مُقَدَّر يظهر من السياق: أي أترى المرأة الماء، وتحتلم؟، وفيه:"فغَطّت أم سلمة وجهها"، وفي رواية من طريق يحيى القطان، عن هشام:"فَضَحِكت أم سلمة".

ويُجمَع بينهما - قال الحافظ رحمه الله بأنها تبسمت تعجبًا، وغَطَّت وجهها حياءً، ويأتي للمصنّف في الرواية التالية من طريق وكيع، عن هشام:"قالت: قلت: فَضحْتِ النساء"، وكذا لأحمد من حديث أم سليم.

وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال ونَفَى ابن بطال الخلاف فيه، لكن قدّمناه عن النخعيّ

(2)

.

وكأن أم سليم رضي الله عنها لم تسمع حديث: "الماءُ من الماء"، أو سمعته، وقام عندها ما يوهم خروج المرأة عن ذلك، وهو ندور بروز الماء منها.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 224.

(2)

واستَبعَد النوويّ في: "شرح المهذَّب" صحته عن إبراهيم النخعيّ، لكن رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد جيّد، قاله في:"الفتح" 1/ 463.

ص: 510

وقد رَوَى أحمد من حديث أم سليم في هذه القصة: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، وهل للمرأة ماء؟ فقال:"هنّ شقائق الرجال".

وروى عبد الرزاق في هذه القصة: "إذا رأت إحداكنّ الماء كما يراه الرجل".

وروى أحمد من حديث خولة بنت حكيم في نحو هذه القصة: "ليس عليها غسل حتى تُنزل كما ينزل الرجل".

وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما يُعرَف إنزالها بشهوتها، وحَمَل قوله:"إذا رأت الماء"، أي عَلِمت به؛ لأن وجود العلم هنا متعذّرٌ؛ لأنه إذا أراد به علمها بذلك، وهي نائمة، فلا يَثْبُت به حكم؛ لأن الرجل لو رأى أنه جامع، وعَلِم أنه أنزل في النوم، ثم استيقظ فلم ير بللًا، لم يجب عليه الغسل اتفاقًا، فكذلك المرأة، وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت، فلا يصحّ؛ لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إن كان مشاهدًا، فحمل الرؤية على ظاهرها هو الصواب. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("تَرِبَتْ يَدَاكِ)، أي افتَقَرَتْ، وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تُطلق عند الزجر، ونحوه، ولا يُراد بها ظاهرها، وقد تقدّم تمام البحث فيها قريبًا، (فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ ") الباء سببيّة، أي فبأيّ سبب يُشبهها ولدها؟، و"ما" استفهاميّة، ولذا حُذفت ألفها؛ عملًا بقاعدتها إذا جُرّت، كما قال في "الخلاصة":

وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 463.

ص: 511

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[7/ 718 و 719](383) و [7/ 720 و 721](314)، و (البخاريّ) في "العلم"(130)، و"الغسل"(282)، و"أحاديث الأنبياء"(3328)، و"الأدب"(6091 و 6121)، و (أبو داود) في "الطهارة"(237)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(122)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 112 و 114)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(600)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1049)، و (الحميديّ) في "مسنده"(298)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 80)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 292 و 6/ 302 و 306)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 195)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1165 و 1166 و 1167)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 168)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(88)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(245)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(835 و 836 و 837 و 838 و 839 و 840 و 841 و 842)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(707 و 708 و 709)، وأما بقيّة المسائل، فقد تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[719]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، مِثْلَ مَعْنَاهُ، وَزَادَ: قَالَتْ: قُلْتُ: فَضَحْتِ النِّسَاءَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، نزيل مكة، ثقة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم

ص: 512

المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [9](ت 189) عن (91) سنة (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها.

وقوله: (مِثْلَ مَعْنَاهُ) بنصب "مثلَ" على الحال، يعني أن وكيعًا وسفيان رويا هذا الحديث عن هشام، حال كونه مثل معنى حديث أبي معاوية، أي لا يوافقه في لفظه.

وقوله: (وَزَادَ: قَالَتْ: قُلْتُ: فَضَحْتِ النِّسَاءَ)، أي كشفتِ عيوبهنّ، قال في "المصباح": الْفَضِيحة: العيب، والجمع فَضَائح، وفَضَحْتُهُ فَضْحًا، من باب نَفَعَ: كَشَفْتُهُ، وفي الدعاء:"لا تَفْضَحنا بين خلقك": أي استُر عُيُوبنا، ولا تكشفها، ويجوز أن يكون المعنى: اعْصِمنا حتى لا نَعْصي، فنستحقّ الكشف. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية وكيع التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية أبي معاوية، أخرجها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(592)

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها أم سلمة، قالت: جاءت أم سليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألته عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ قال:"نعم، إذا رأت الماء فلتغتسل"، فقلت: فَضَحْتِ النساءَ، وهل تحتلم المرأة؟. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تَرِبَت يمينك، فبم يشبهها ولدها إذًا". انتهى.

وأما رواية سفيان بن عيينة، فقد أخرجها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(113)

حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: جاءت أم سليم بنت

(1)

"المصباح المنير" 2/ 475.

ص: 513

ملحان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة - تعني غسلًا - إذا هي رأت في المنام مثل ما يرى الرجل؟. قال:"نعم، إذا هي رأت الماء، فلتغتسل"، قالت أم سلمة: قلت لها: فَضَحْتِ النساءَ يا أم سليم.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وهو قول عامة الفقهاء أن المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل، فأَنزَلت أن عليها الغسل، وبه يقول سفيان الثوريّ، والشافعيّ. قال: وفي الباب عن أم سليم، وخَوْلة، وعائشة، وأنس رضي الله عنهم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[720]

(314) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْب بْنِ اللَّيْث، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، أنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، أُمَّ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ، دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ هِشَام، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: أُفٍّ لَك، أتَرَى الْمَرْأَةُ ذَلِكِ؟).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقة [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

2 -

(أَبُوهُ) هو شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيه، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأَيْليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

ص: 514

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في هذا الباب.

وقوله: (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، أُمَّ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ) بنصب "أمّ" بدلًا عن الأول، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب، بتقدير مبتدأ، أو فعل، أي هي، أو أعني، يعني أنها التي ولدت لأبي طلحة أبناءه، والظاهر أن المراد ما فوق الواحد؛ لأنها إنما ولدت له ابنين:

أحدهما: أبو عُمير، صاحب النُّغير، وهو الذي مات صغيرًا، وقصته مشهورة

(1)

.

[والثاني]: عبد الله بن أبي طلحة، والد إسحاق، وغيره.

ووقع في بعض النسخ: "امرأة أبي طلحة" بدل "أم بني أبي طلحة"، فقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "امرأة أبي طلحة" كذا لابن الحدّاد، ولغيره:"أمّ بني أبي طلحة"، وكلاهما صحيح، كان أبو طلحة تزوّجها بعد مالك بن النضر، والد أنس بن مالك، وهي أم أنس، فولدت لأبي طلحة أبا عمير، مات صغيرًا، وعبد الله الذي دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحنكه، وهو والد إسحاق بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته العشرة كلهم حُمِل عنهم العلم، واستُجيبت فيهم الدعوة. انتهى

(2)

.

(1)

أخرج القصّة محمد بن سعد في: "الطبقات الكبرى" بسند صحيح، (8/ 434)، فقال: أخبرنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة، فولدت منه غلامًا، ومَرِضَ، فانطلق أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات الغلام، فسَجّته أمه، فلما جاء أبو طلحة، قال لها: ما فعل ابني؟ قالت: صالح، فأتته بتحفتها التي كانت تتحفه، فأصاب منها، ثم طَلَبت منه ما تطلب المرأة من زوجها، فأصاب منها، ثم قالت: ما رأيت ما صنع ناس من جيرتنا؟ كانت عندهم عارية، فطلبوها، فأَبَوا أن يردوها، فقال: بئس ما صنعوا، فقالت: هذا أنت، كان ابنك عارية من الله، وإن الله قد قبضه إليه، فقال لها: والله لا تغلبيني الليلة على الصبر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك لهما في ليلتهما"، قال: فولدت له غلامًا، قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبعة بنين كلهم قد ختم القرآن.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 151.

ص: 515

و"أبو طلحة" هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حَرَام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النّجّار الأنصاريّ، المدنيّ، شَهِدَ العقبةَ

(1)

، وبدرًا، والمشاهد كلها، وهو أحدُ النقباء.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عبد الله، وربيبه أنس بن مالك، وحفيده إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يدركه، وزيد بن خالد الجهنيّ، وابن عباس، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ، وغيرهم.

وقال ابن نمير، وابن بُكير، وأبو حاتم: مات سنة أربع وثلاثين، وصَلَّى عليه عثمان، وقيل: إنه مات سنة اثنتين وثلاثين، وقال ثابت، عن أنس: إن أبا طلحة غزا البحر، فمات فيه، فما وَجَدُوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، أخرجه الفَسَويّ في "تاريخه"، وأبو يعلى، وإسناده صحيح.

وقال شعبة، عن ثابت، وحميد، عن أنس: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فصام بعده أربعين سنةً، لا يفطر إلا يوم أضحى أو فطر، وقال أبو زرعة الدّمشقيّ: توفي بالشام، وعاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.

قال الحافظ: كأنه أخذه من حديث شعبة، وكذا رَوَى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فعلى هذا يكون وفاته سنة إحدى وخمسين، وقد قاله أبو الحسن المدائنيّ، وزعم أبو نعيم أنه وَهَمٌ، والظاهر أنه الصواب، ويؤيد كون ذلك صوابًا رواية مالك في "الموطأ" عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دَخَل على أبي طلحة، فذكر الحديث في التصاوير، وقد صححه الترمذيّ، وعبيد الله بن عبد الله لم يدرك عثمان، ولا يصح له سماع من عليّ، فهذا يدل على تأخر وفاة أبي طلحة رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

(1)

هذا فيه نظرٌ، والصحيح أنه إنما شهد بدرًا؛ لأن قصّة زواجه لأم سُليم يردّ هذا، فتأمل.

(2)

"تهذيب التهذيب" 1/ 666.

ص: 516

أخرج له الجماعة

(1)

، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (2106) حديث: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ

"، وكرره خمس مرّات، و (2161) حديث: "ما لكم ولمجالس الصعدات

"، و (2875) حديث: "أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا

" الحديث.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ هِشَامٍ) يعني أن حديث ابن شهاب، عن عروة، بمعنى حديث هشام بن عروة، عن أبيه.

وقوله: (غَيْرَ أَن فِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقُلْتُ لَهَا) بنصب "غيرَ" على الاستثناء، فهي بمعنى "إلا"، أي إلا أن ابن شهاب قال في روايته:"قالت عائشة إلخ"، فخالف هشامًا، حيث إن في روايته أم سلمة، بدل عائشة، وقد تقدّم أن الصحيح، ترجيح رواية هشام، كما هو صنيع البخاريّ، فالمنكِرة هي أم سلمة، لا عائشة، وقَوّى أبو داود رواية ابن شهاب، وقد نقل ابن عبد البرّ عن الذهليّ أنه صحّح الروايتين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقولها: (أُفٍّ لَكِ إلخ) كلمةٌ تُستَعْمَل في الاحتقار، والاستقذار، والإنكار، وهو المناسب هنا، قال الباجيّ رحمه الله: والمراد بها هنا الإنكار.

و"أُفّ": اسم صوت إذا صوّت به الإنسان يُعلم أنه متضجّر، وقيل: أصل الأُفّ وَسَخُ الأظفار إذا فُتِل، ويقال: أَفَّفْتُ بفلان تأفيفًا: إذا قلتَ له: أُفّ لك، وفيها لغات، أفصحها، وأكثرها استعمالًا ضمّ الهمزة، وتشديد الفاء مكسورةً منوّنةً

(2)

.

وقال النوويّ: في "أُفّ" عشر لغات: "أُفِ" و"أُفَ" و"أُفُ" بضم الهمزة مع كسر الفاء وفتحها وضمها، بغير تنوين، وبالتنوين، فهذه ستة، والسابعة "إِفَ" بكسر الهمزة، وفتح الفاء، والثامنة:"أُفْ" بضم الهمزة، وإسكان الفاء، والتاسعة:"أُفِي" بضم الهمزة، وبالياء، والعاشرة:"أُفّه" بالهاء، وهذه اللغات مشهورات ذَكَرهنّ كلهن ابن الأنباريّ، وجماعات من العلماء، ودلائلها

(1)

وفي: "قرّة العين في تلخيص تراجم الصحيحين"(ص 144): له (92) اتفقا على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بآخر. انتهى.

(2)

راجع: "المنهل العذب المورود" 2/ 328.

ص: 517

مشهورة، ومن أخصرها ما ذكره الزجاج، وابن الأنباريّ، واختصره أبو البقاء، فقال: مَن كَسَر بناه على الأصل، ومَن فَتَح طلب التخفيف، ومن ضم أتبع، ومن نَوَّن أراد التنكير، ومن لم ينوّن أراد التعريف، ومن خَفَّف الفاء حذف أحد المثلين تخفيفًا، وقال الأخفش، وابن الأنباريّ في اللغة التاسعة بالياء: كأنه أضافه إلى نفسه. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله في "القاموس": أَفّ يَؤُفُّ ويَئِفّ: تأفّفَ من كرب، أو ضجر، وأُفّ كلمة تكرُّه، وأَفَّفَ تأفيفًا، وتأفّف: قالها.

ولغاتها أربعون

(2)

: "أُفّ" بالضمّ، وتُثلّث الفاء وتُنوّن، وتُخّفف فيهما، "أُفْ". كطُفْ، "أُف" مشدّد الفاء

(3)

، "أُفَّى" بغير إمالة، وبالإمالة المحضة، وبالإمالة بينَ بينَ، والألف في الثلاثة للتأنيث، "أُفي" بكسر الفاء، "أُفُّوهْ"، "أُفُّهْ" بالضمّ، مثلّثة الفاء، مشدّدة، وتُكسر الهمزة، "إِفْ" كـ "مِنْ"، "إِفِّ" مشدّدةً، "إِفِ" بكسرتين مخفّفةً، "إِفٍ" منونةً مخفّفةً ومشدّدةً، وتُثلّثُ، "إِفُّ" بضم الفاء، مشدّدةً، "إفَّا" كـ "إنّا"، "إفّى" بالإمالة، "إِفي" بالكسر، وتُفتح الهمزة، "أَفْ" كـ "عَنْ"، "أَفّ" مشدّدة الفاء مكسورة، "آفْ" ممدودةً، "أفٍ""آفٍ" منوّنتين. انتهى

(4)

.

وقد أوصلها الشارح المرتضى إلى خمسين لغةً، فلتُراجع شرحه

(5)

.

[تنبيه]: رواية ابن شهاب التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية هشام، أخرجها النسائيّ: في "سننه"، فقال:

(196)

أخبرنا كثير بن عُبيد، عن محمد بن حَرْب، عن الزُّبَيديّ، عن الزهريّ، عن عروة، أن عائشة أخبرته، أن أم سليم كَلَّمَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشةُ جالسة، فقالت له: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحقّ، أرأيت المرأةَ ترى في النوم ما يرى الرجل، أفتغتسل من ذلك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 224 - 225.

(2)

اعترضه الشارح في قوله: "أربعون"، فانظره في 6/ 41 - 42.

(3)

أي: مع ضمّ الهمزة قبلها.

(4)

"القاموس المحيط" ص 713.

(5)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 41 - 42.

ص: 518

"نعم"، قالت عائشة: فقلت لها: أُفّ لك، أوَ ترى المرأة ذلك؟ فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"تَرِبت يمينك، فمن أين يكون الشبه؟ ". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[721]

(

) - (حَدَّثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ، قَالَ سَهْلٌ: حَدَّثَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ مُسَافِعِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ، إِذَا احْتَلَمَتْ، وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ؟

(2)

فَقَالَ: "نَعَمْ"، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاك، وَأُلَّتْ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعِيهَا، وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكِ؟، إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ) هو: إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زاذان التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ، المعروف بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10].

رَوَى عن هشام بن يوسف الصنعانيّ، والوليد بن مسلم، ويحيى بن أبي زائدة، وعيسى بن يونس، وعَبْدة بن سليمان، وأبي الأحوص، ويزيد بن زُريع، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى الباقون عنه بواسطة، ويحيى بن موسى خَتّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعمرو بن منصور النسائيّ، وابن وَارَة، والذُّهْليّ، وأبو إسماعيل الترمذيّ، وغيرهم.

قال أبو زرعة: هو أتقن من أبي بكر بن أبي شيبة، وأصح حديثًا منه، لا

(1)

وأخرجها أيضًا أبو عوانة في: "مسنده" 1/ 345 رقم (839).

(2)

وفي نسخة: "فأبصرت الماء" بالفاء.

ص: 519

يحدث إلا من كتابه، وهو أتقن وأحفظ من صفوان بن صالح، وقال أبو حاتم: من الثقات، وهو أتقن من أبي جعفر الجَمّال، وقال صالح جَزَرة: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة: مائة ألف حديث، وقال النسائيّ: ثقة، وكان أحمد يُنكر على من يقول له: الصغير، ويقول: هو كبير في العلم والجلالة، وفي سؤالات الآجريّ، عن أبي داود السجستانيّ، قال أبو داود: كان عند إبراهيم حديثٌ بخط إدريس، فحَدَّث به، فأنكروه عليه، فتركه، وهذا - كما قال الحافظ - يدلّ على شدة توقّيه، وقال الخليلي في "الإرشاد": ومن الحفاظ الكبار العلماء الذين كانوا بالريّ يُقْرَنون بأحمد ويحيى إبراهيم بمن موسى الصغير، ثقةٌ، إمامٌ إلى أن قال: مات بعد العشرين ومائتين، وقال ابن قانع: مات سنة بضع وعشرين ومائتين.

روى عنه الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

2 -

(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الْكِنْديّ، أبو مسعود الْعَسْكريّ، نزيل الريّ، أحد الْحُفّاظ، صدوقٌ، لة غرائب [10](ت 235) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ أَبِيَ زَائِدَةَ) يحيى بن زكريّا، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

5 -

(أَبُوهُ) هو: زكريّا بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يُدلّس [6](ت 147) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

6 -

(مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ) بن جُبير بن شيبة بن عثمان الْعَبدريّ الحجبيّ المكيّ، ليّن الحديث [5](م 4) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.

7 -

(مُسَافِعُ

(1)

بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الْعَبْدريّ، أبو سليمان الْحَجَبيّ المكيّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وجدِّه، وعمته صفية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسين بن عليّ، وعروة بن الزبير، والزهريّ.

(1)

بضم الميم، وبالسين المهملة، وبكسر الفاء، "شرح النوويّ" 3/ 225.

ص: 520

ورَوَى عنه ابن عمته منصور ابن صفية، وابن ابن عمه مصعب بن شيبة، والزهريّ، وهو من أقرانه، وأبو يحيى رجاء بن صُبيح، والمثنى بن الصباح، وجويرية بن أسماء، وغيرهم.

قال العجليّ: مكيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأفاد أنه قُتِل يوم الجمَل.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يصحّ ذلك، فلعل المقتول يوم الجمل أبوه، أو عمه. انتهى.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقيان تقدّما قبله.

[تنبيه]: للحافظ أبي الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله هنا اعتراضٌ حاصله: أن هذا الحديث رواه عن ابن أبي زائدة غير واحد، فقالوا: عبد الله بن مسافع الْحَجَبيّ، وهو الصحيح، وقد روى عنه ابن جُريج حديثًا واحدًا غير هذا، وحديث أبي كريب خطأ حيث قال:"مسافع بن عبد الله". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله أبو الفضل غير صحيح؛ لأن عبد الله بن مسافع راو آخر ولدٌ لمسافع الراوي هنا، ولم يذكروا له راويًا إلا منصور بن عبد الرحمن الْحَجَبيّ، وابنَ جريج، وليس له إلا حديث واحد في سجود السهو، عند أبي داود والنسائيّ

(2)

، ولا رواية له في "صحيح مسلم" أصلًا، وهو مترجم في "التقريب"، و"التهذيبين"، وغيرها من كتب التراجم، وجعله في "التقريب" من الطبقة الرابعة

(3)

.

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 145.

(2)

هو ما أخرجه أبو داود في: "سننه" برقم (1033)، و"النسائيّ" في:"المجتبى"(1248) من طريق ابن جريج، قال: قال عبد الله بن مسافع، عن عقبة بن محمد بن الحارث، عن عبد الله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعدما يسلّم".

(3)

راجع: "تهذيب الكمال" 16/ 119، و"تهذيب التهذيب" 6/ 26 - 27، و"التقريب" ص 189.

ص: 521

وأما مسافع بن عبد الله فقد رَوَى عنه جماعة، كما أسلفناهم آنفًا في ترجمته، وحديثه عند مسلم، وأبي داود، والترمذيّ، وجعله في "التقريب" من الطبقة الثالثة.

والحاصل أن ما وقع في سند المصنّف من قوله: "مسافع بن عبد الله"، هو الصواب، فتفطّن، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقولها: (أَنَّ امْرَأَةً) تقدّم أنها أم سُليم، والدة أنس رضي الله عنها، ويحتمل أن تكون غيرها.

وقولها: (وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ؟) وفي نسخة: "فأبصرت" بالفاء، وهذه الرواية تبيّن أن المراد بقولها في الروايات السابقة:"إذا رأت الماء" الرؤية البصريّة، لا العلميّة، كما ظنّه بعضهم.

وقولها: (وَأُلَّتْ) - بضم الهمزة، وفتح اللام المشدّدة، وإسكان التاء - هكذا الرواية فيه، ومعناه: أصابتها الأَلَّةُ - بفتح الهمزة، وتشديد اللام - وهي الْحَرْبة، وأنكر بعض الأئمة هذا اللفظ، وزَعَم أن صوابه أَلِلْتِ بلامين: الأولى مكسورة، والثانية ساكنة، وبكسر التاء، وهذا الإنكار فاسد، بل ما صَحّت به الرواية صحيح، وأصله أُلِلَتْ، بكسر اللام الأولى، وفتح الثانية، وإسكان التاء، كرُدَّت، أصله رُدِدَت، ولا يجوز فكّ هذا الإدغام إلا مع المخاطب، وإنما وَحَّد أُلَّت مع تثنية "يداك"؛ لوجهين: أحدهما أنه أراد الجنس، والثاني صاحبة اليدين، أي وأصابتكِ الأَلَّةُ، فيكون جمعًا بين دعاءين، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الأثير: "أُلّت"، أي صاحت

(2)

لِمَا أصابها من شدّة هذا الكلام، ورُوي بضمّ الهمزة مع التشديد، أي طُعِنت بالأَلَّة، وهي الحربة العريضة النَّصْل، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يلائم لفظ الحديث. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استبعده ابن الأثير ليس كما زَعَم، بل

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 225 - 226.

(2)

الضمير لعائشة رضي الله عنها، أي: صاحت عائشة.

(3)

"النهاية" 1/ 61 - 62.

ص: 522

هو صحيح المعنى، ملائم للفظ الحديث، كما سبق بيانه في كلام النوويّ رحمه الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (دَعِيهَا)، أي اتركيها تسأل عما أشكل عليها من حكم الاحتلام، لأنه مهمّ دينيّ، لا بد للمكلّف أن يعلمه.

وقوله: (وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ) بفتحتين، أو بفتح، فسكون: أي المشابهة، وتمام شرح الحديث، وكذا مسائله تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[722]

(315) - (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، وَهُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّام، عَنْ زيدٍ، يَعْنِي أَخَاهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّام، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ، أَنَّ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، قَالَ: كنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُود، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً، كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا

(1)

تَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَشْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ "، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ

(2)

، فَنَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعُودٍ مَعِهُ، فَقَالَ:"سَلْ"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُمْ فِي الظُّلْمَة، دُونَ الْجِسْرِ"، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ"، قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "زِيادَةُ كَبِدِ النُّونِ"، قَالَ: فَمَا غَدَاؤُهُمْ

(3)

عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّة، الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا"، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى

(1)

وفي نسخة: "ألّا" بتشديد اللام.

(2)

وفي نسخة: "بأذني" بالإفراد.

(3)

وفي بعض النسخ: "فما غِذَاؤهم" بالذال المعجمة.

ص: 523

سَلْسَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ، لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْض، إِلَّا نَبِيُّ، أَوْ رَجُلٌ، أَوْ رَجُلَان، قَالَ: "يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ "، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ؟، قَالَ: "مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِي الْمَرْأَة، أَذْكَرَا بِإِذْنِ الله، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُل، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ"، قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافط، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ) الْحَلَبيّ، نزيل طَرَسُوس، ثقةٌ حجةٌ عابدٌ [10].

رَوَى عن أبي إسحاق الفزاريّ، وأبي المليح الحسن بن عُمر الرقيّ، ومعاوية بن سلام، والهيثم بن حميد، ويزيد بن المقدام بن شُريح بن هاني، وعبيد الله بن عَمْرو الرقيّ، وسعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ، وعيسى بن يونس، وابن عيينة، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو داود فأكثر، وروى له البخاري بواسطة الحسن بن الصباح البزار، وروى له أبو داود في "المراسيل" بواسطة إسماعيل بن مسعدة، ومسلم بواسطة الحسن بن علي الحلوانيّ، والنسائي بواسطة إبراهيم بن يعقوب، ومحمد بن يحيى بن كثير الحرانيّ، وأبو حاتم، وابن ماجه بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وأبو الأحوص العكبريّ، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر الأثرم، وعبد الله الدارميّ، ويعقوب بن سفيان، وموسى بن سعيد الدندانيّ، وعبد الكريم بن الهيثم الدير عاقوليّ، وغيرهم.

قال النسائيّ: أخبرنا سليمان بن الأشعث، سمعت أحمد يقول: أبو توبة لم يكن به بأس، كان يجيئني، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، وذكر أبا توبة، فأثنى عليه، وقال: لا أعلم إلا خيرًا، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، صدوقٌ، حجةٌ، وقال

ص: 524

يعقوب بن شيبة: ثقةٌ، صدوقٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: أبو توبة، كان يحفظ الطِّوَال، يجيء بها، ورأيته يمشي حافيًا، وعلى رأسه طويلةٌ، وكان يقال: إنه من الأبدال، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وذكر أبو الوليد الباجيّ في "رجال البخاري" أنه ليس له عند البخاري سوى حديث واحد موقوف، وغَفَل عن حديثٍ أخرجه له في "المزارعة" مرفوعًا، لكن قال فيه: قال الربيع بن نافع، فذكره.

مات سنة (241).

روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (315) و (804) و (865) و (1007) و (1544) و (1536) و (1879).

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنَ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقة [7](ت في حدود 170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(زَيْدُ) بن سلّام بن أبي سلّام الحبشيّ - بالمهملة، ثم الموحّدة، ثم المعجمة - الدمشقيّ، ثقة [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

5 -

(أَبُو سَلَّام) ممطور الأسود الْحَبَشيّ، ثقةٌ يُرسل [3](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

6 -

(أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ) عمرو بن مَرْثَد الدمشقيّ، ويقال: ابنُ سميع: اسم أبيه أسماء، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ثوبان، وأبي ذر، وشداد بن أوس، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني.

ورَوَى عنه أبو الأشعث الصنعاني، وأبو قلابة الجرمي، وشداد أبو عَمّار، ومكحول الشامي، وراشد بن داود الصنعانى، ويحيى بن الحارث الذماري، وربيعة بن يزيد القصير، والصالح بن جبير.

قال العجلي: شامي تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن زبر:"الرَّحَبيّ": نسبة إلى رَحَبة دمشق، قرية من قُراها، بينها وبين دمشق ميل، رأيتها عامرة". وذكر أبو سعد ابن السمعاني أنه من رَحَبَة حِمْيَر، وقال: مات

ص: 525

في خلافة عبد الملك بن مروان. ويُروَى عن أبي داود أن اسم أبي أسماء الرَّحَبيّ عبدُ الله.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

7 -

(ثوبان) بن بُجْدُد، ويقال: ابن جَحْدَر، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن الهاشمي، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: أصله من اليمن، أصابه سِبَاء، فاشتراه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وقال:"إن شئت أن تَلْحَق بمن أنت منهم فعلتَ، وإن شئت أن تثبت، فأنت منا أهلَ البيت"، فثبت، ولم يزل معه في سفره وحضره، ثم خرج إلى الشام، فنزل الرَّمْلة، ثم حِمْص، وابتنى بها دارًا، ومات بها في إمارة عبد الله بن قُرْط، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو أسماء الرَّحَبيّ، ومعدان بن أبي طلحة اليعمريّ، وأبو حيّ المؤذن، وراشد بن سعد، وجُبير بن نُفير، وعبد الرحمن بن غَنْم، وأبو عامر الألهاني، وأبو إدريس الخولاني، وجماعة.

قال صاحب "تاريخ حِمْص": بلغنا أن وفاته كانت سنة (54)، وكذا قال ابن سعد، وغير واحد.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فحُلْوانيّ، ثم مكيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو سلّام، عن أبي أسماء، وهو من رواية الأقران؛ لأن كلًّا من أبي سلّام وأبي أسماء من الطبقة الثالثة.

4 -

(ومنها): أن ثوبان صحابي مشهور، اشتهر بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْد) بن سلّام (أَنَّهُ سَمِعَ) جدّه (أَبَا سَلَّامٍ) ممطورًا الحبشيّ، أنه

ص: 526

(قَالَ: حَدَّثَني أَبُو أَسْمَاءَ) عمرو بن مَرْثَد (الرَّحَبِيُّ) بفتحتين، تقدّم بيان نسبته في ترجمته آنفًا (أَنَّ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه (مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ)، أي حدّث أبا أسماء، وقوله:(قَالَ) بيان وتوضيح و "حدّث"(كُنْتُ قَائِمًا) ولفظ أبي عوانة، وأبي نُعيم في "مستخرجيهما" من طريق الربيع بن نافع، عن معاوية:"كنت قاعدًا"(عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ)"الْحِبْر" بفتح الحاء، وكسرها لغتان مشهورتان: هو العالم، قاله النوويّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْحِبْرُ" بالكسر: المِداد الذي يُكتب به، وإليه نُسِب كعبٌ، فقيل: كعبُ الْحِبْر؛ لكثرة كتابته بالحِبر، حكاه الأزهريّ عن الفرّاء، والْحِبْرُ: العالم، والجمع أحبار، مثلُ حِمْلٍ وأحمال، والْحَبْرُ بالفتح لغةٌ فيه، وجمعه حُبُورٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، واقتَصَرَ ثَعْلبٌ على الفتح، وبعضهم أنكر الكسر. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الْحِبْرُ: العالم، يقال: بفتح الحاء وكسرها، وأما الْحِبْر: المداد فبالكسر لا غير. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: هذا الحبر قال صاحب "التنبيه": لا أعرف اسمه. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي لا يبعد أن يكون عبد الله بن سلام رحمه الله؛ لأن قصّته مشابهة لهذه القصّة، ويحتمل أن يكون غيره.

وقصّة عبد الله بن سلام رضي الله عنه أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله: في "صحيحه" من طريق حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عبد الله بن سلام بَلَغَه مَقْدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه، أو إلى أمه؟ قال:"أخبرني به جبريل آنفًا"، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: "أما أول أشراط الساعة، فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماءَ المرأة نَزَع

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 226.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 117.

(3)

"المفهم" 1/ 573.

(4)

"تنبيه المعلم" ص 107.

ص: 527

الولدَ، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل، نَزَعَت الولد"، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ، فاسألهم عني قبل أن يَعْلَموا بإسلامي، فجاءت اليهود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: خيرنا، وابن خيرنا، وأفضلنا، وابن أفضلنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ "، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قالوا: شرُّنا، وابن شرنا، وتنقّصوه، قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) ذلك الحبر (السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ) قال ثوبان رضي الله عنه (فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً)، أي نحّيته تَنْحيةً، وأبعدته إبعادًا (كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا) بالبناء للمفعول: أي يُطرح على الأرض، قال المجد رحمه الله: الصَّرْعُ - أي بالفتح - ويُكسَر: الطرحُ على الأرض، كالمَصْرَع، كمَقْعَد، وهو موضعه أيضًا، وقد صَرَعه، كمَنَعَهُ. انتهى

(2)

.

وفي رواية النسائيّ الآتية من طريق مروان بن معاوية، عن معاوية بن سلّام:"فدفعته، حتى صرعته".

(فَقَالَ) ذلك الحبر (لِمَ تَدْفَعُنِي؟)، أي لأيّ سبب دفعتني؟، (فَقُلْتُ: أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام، وفي نسخة: بتشديدها، وهي أداة تحضيض مختصّةٌ بالجملة الفعليّة الخبريّة (تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ؟)، أي ألا تناديه بما فيه تعظيمه، واحترامه، وهو الوصف بالرسالة؟، (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ) أي نناديه (بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ)، أي وهو محمد صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِن اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي")، وفي رواية النسائيّ المذكورة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ، أهلي سَمَّوني محمدًا".

والمراد بأهله هنا جدّه عبد المطّلب؛ لأنه الذي سمّاه به بإلهام من الله تعالى، وهو اسم مفعول من حُمّد مضعّفًا، منقول من صفة الحمد، وهو بمعنى

(1)

أخرجه البخاريّ في: "صحيحه" رقم (3938).

(2)

"القاموس" ص 663.

ص: 528

محمود، وفيه معنى المبالغة، وقد أخرج البخاريّ في "التاريخ الصغير" من طريق عليّ بن زيد قال: كان أبو طالب يقول [من الطويل]:

وشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

والمحمَّد هو الذي حُمِد مرةً بعد مرة، كالممَدَّح، قال الأعشى [من الطويل]:

إِلَيْكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كَانَ وَجِيفُهَا

إِلَى الْمَاِجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

أي الذي حُمِد مرة بعد مرة، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة.

قال القاضي عياض رحمه الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد قبل أن يكون محمدًا، كما وقع في الوجود؛ لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدًا وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حَمِدَ ربه قبل أن يَحمَده الناس، وكذلك في الآخرة يَحمد ربه، فيُشَفِّعه، فيحمده الناس، وقد خُصّ بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود، وشُرع له الحمد بعد الأكل، وبعد الشرب، وبعد الدعاء، وبعد القدوم من السفر، وسُمِّيت أمته الحمادين، فجُمعت له صلى الله عليه وسلم معاني الحمد، وأنواعه.

وقال عياضٌ أيضًا: حَمَى الله هذا الاسم أن يُسَمَّى به أحد قبله، وإنما تَسَمَّى بعض العرب محمدًا قرب ميلاده لَمّا سَمِعوا من الكهان والأحبار أن نبيًّا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدًا، فرَجَوْا أن يكونوا هم، فسَمَّوا أبناءهم بذلك، قال: وهم ستة لا سابع لهم، وتعقّبه الحافظ بما يأتي.

وقال السهيليُّ في "الرَّوْض الأُنُف": لا يُعْرَف في العرب مَن تسمى محمدًا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: محمد بن سفيان بن مُجاشع، ومحمد بن أُحيحة بن الْجُلاح، ومحمد بن حُمران بن ربيعة، وسَبَقَ السهيليّ إلى هذا القول أبو عبد الله بن خالويه في "كتاب ليس".

وتعقَّب كلّ هذا الحافظ رحمه الله، فقال: هو حصرٌ مردودٌ، وقد جمعتُ أسماء من تَسَمَّى بذلك في جزء مفرد، فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم، ووَهَمٍ في بعض، فيتلخّص منهم خمسة عشر نفسًا، ثم ذكرهم

(1)

،

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 641 - 643 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3532).

ص: 529

وسنذكرهم في "كتاب الفضائل" حيث يذكر المصنّف رحمه الله حديث: "لي خمسة أسماء

" الحديث، - إن شاء الله تعالى -.

(فَقَالَ الْيَهُودِيُّ) بالياء، وهي الياء الفارقة بين اسم الجنس وواحده، كروم وروميّ، ومجوس ومجوسيّ، وقد تقدّم أن اليهود اسم للقبيلة المنسوبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، وهو غير منصرف للعلميّة ووزن الفعل (جِئْتُ أَسْأَلُكَ)، أي عن شيء مما يتبيّن به صدق نبوّتك، وجملة "أسألك" في محلّ نصب على الحال المقدّرة، أي حال كوني مقدّرًا وقاصدًا سؤالك، وهو كقوله تعالى:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73](فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ ")، أي هل أنت قاصد بسؤالك الانتفاع بما أحدّثك به، وليس قصدك التحدّي والمعاكسة. (قَالَ) اليهوديّ:(أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ) بصيغة التثنية، ووقع في نسخة بالإفراد، والمراد به المثنّى؛ لأن المفرد المضاف يعمّ، وليس المراد أنه يسمع بأذنيه، ولا يعقل، ويتأثّر، بل مراده أنه يسمع، ثم ينظر فيما سمعه، هل هو محلّ للاتّباع أم لا؟ يدلّ على ذلك قوله في الأخير:"صدقت، وإنك لنبيّ"(فَنَكَتَ) بفتح النون والكاف، وبالمثنّاة من فوقُ، من باب نصر، ومعناه يضرب بالعود في الأرض، ويؤثّر به، وهذا يفعله من يُفكّر في أمر ما

(1)

.

وقال القرطبيّ عليه السلام: ونَكْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الأرض بعود معه: هو ضربُهُ فيها، وهذا العُود هو المسمّى بالمِخْصرة، وهو الذي جرت عوائد رؤساء العرب وكبرائهم باستعمالها، بحيث تَصِلُ إلى خَصْره، ويَشْغَل بها يديه من العبث، وإنما يَفعَل ذلك النَّكْتَ المتفكّر. انتهى

(2)

.

(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعُودٍ) متعلّق بـ "نكت"، والْعُود بالضمّ: أي الخشب، جمعه عِيدان بالكسر، وأعواد بالفتح، وقوله:(مَعَهُ) متعلّق بصفة لـ "عُود"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("سَلْ") بفتح السين، أمر من سال يسأل، من باب خاف يخاف، ويقال في المثنى سَلا، وفي الجمع: سلوا، على غير قياس؛ إذ القياس أن يقال: سالا، كخافا، وسالوا، كخافوا، وَيَحْتَمل أن يكون سَلْ مخفّفَ اسأل بهمزة الوصل، أمرًا من سأل يسأل، كقرأ يقرأ، (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 226.

(2)

"المفهم" 1/ 573.

ص: 530

النَّاسُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ؟)، وفي رواية النسائيّ:"أرأيت إذا بُدِّلت السماوات غير السماوات، والأرض غير الأرض؟ ".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن معنى هذا التبديل إزالة هذه الأرض، والإتيان بأرض أخرى، لا كما قاله كثير من الناس: إنها تُبدَّل صفاتها، فتُسَوَّى آكامها، وتغيّر صفاتها، وتُمَدّ مَدَّ الأديم، ولو كان هذا لَمَا أشكل كون الناس فيها عند تبديلها، ولَمَا جُمِعوا على الصراط، وقد دلّ على صحّة الظاهر المتقدّم حديث عائشة رضي الله عنها إذ سألت عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مجيبًا لها:"على الصراط"، رواه مسلم

(1)

.

والأرض المبدّلة هي الأرض التي ذُكرت في حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عَفْراء، كقُرْصة النَّقِيّ، ليس فيها عَلَمٌ لأحد"، متّفقٌ عليه

(2)

. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما نفاه القرطبي من تبدّل صفات الأرض قد دلّ عليه بعض النصوص، فلا ينبغي نفيه، بل يُطْلَب الجمع فيه، ولا يستغرب أن يُحمل على اختلاف الأوقات، ففي بعضها تُبدّل صفاتها، وفي بعضها، وهو الموقف تُبدّل ذاتها، والعلم عند الله تعالى، وسيأتي تحقيق البحث فيه في "كتاب صفة القيامة، والجنة والنار" حيث يسوق المصنّف الأحاديث المتعلّقة بهذا - إن شاء الله تعالى -.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هُمْ فِي الظُّلْمَة، دُونَ الْجِسْرِ") بفتح الجيم وكسرها: ما يُعْبَر عليه، والمراد به هنا الصراط، و"دون" بمعنى فوق، كما بيّنه حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم:"على الصراط"

(4)

.

(1)

سيأتي للمصنّف في: "كتاب صفة القيامة" رقم (2791)، ونصّه: عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، فأين يكون الناس يومئذ، يا رسول الله؟ فقال:"على الصراط".

(2)

أخرجه البخاريّ في: "الرقاق"(6521)، ومسلم في:"صفة القيامة"(2790).

(3)

"المفهم" 1/ 573 - 574.

(4)

انظر: "المفهم" 1/ 574.

ص: 531

[فائدة]: "دُونَ" بالضمّ: تأتي لمعانٍ، تكون نقيض "فوقَ"، ويكون ظرفًا، وبمعنى "أَمَامَ"، و"وراءَ"، و"فوقَ"، فهو ضدّ، وبمعنى " غَيْرِ"، قيل: ومنه "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقةٌ"، أي من غير خمس أواق، قيل: ومنه الحديث: "أجاز الْخُلْعَ دون عِقَاص رأسها"، أي بما سوى عِقَاص رأسها، أو معناه: بكلّ شيء حتى بعِقاص رأسها، وتأتي بمعنى الشريف، والخسيس، ضدٌّ، وبمعنى الأمر، والوعيد، قاله المجد في "القاموس"

(1)

.

وقد نظمت هذه المعاني بقولي:

لِـ"دُونَ "تِسْعَةٌ مِنَ الْمَعَانِي

قَبْلُ وَفَوْقُ تَحْتُ خُذْ بَيَانِي

أَمَامُ وَالسَّاقِطُ وَالإِغْرَاءُ

وَالأَمْرُ وَالْوَعِيدُ زِدْ وَرَاءُ

وَعَلَّ عِنْدَ وَبِمَعْنَى بَعْدُ

فَاحْفَظْ فَحِفْظُ الْعِلْمِ نِعْمَ السَّعْدُ

(قَالَ) اليهوديّ: (فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟) بكسر الهمزة، وبالزاي، ومعناه جوازًا ومرورًا على الصراط، وفي رواية النسائيّ:"فمن أول الناس أجازه الله؟ ".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ") الإضافة بمعنى "من"، أو هو من إضافة الصفة للموصوف، يعني الصحابة الذين هاجروا من مكة فرارًا بدينهم، ونصرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا أهلهم، وأموالهم؛ طلبًا لرضا الله تعالى، كما قال عز وجل:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. (قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ)، وفي رواية النسائيّ:"فأَيْشٍ يُتْحَفُ أهل الجنّة؟ ".

و"التُّحْفَةُ" - بضمّ التاء الفوقيّة، وفتح الحاء المهملة، وتُسَكَّن -: ما يُهدى إلى الشخص، ويُخصّ، ويُلاطَف به، قال الفيّوميّ رحمه الله:"التُّحَفَةُ" وزانُ رُطَبة: ما أتحفت به غيرك، وحَكَى الصغانيّ، سكون الحاء أيضًا، قال الأزهريّ: والتاء أصلها واوٌ. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "التُّحفة": طُرْفة الفاكهة، وقد تُفْتَح الحاء

(3)

،

(1)

"القاموس المحيط" ص 1079.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 73.

(3)

تقدّم عن المصباح ما يقتضي أن فتحها هو الأصل، فتأمّل.

ص: 532

والجمع التُّحَف، ثم تُستَعمَل في غير الفاكهة من الألطاف والنَّعَص، قال الأزهريّ: أصل تُحفة وُحفة، فأُبدلت الواو تاءً، فيكون على هذا من حرف الواو. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: التُّحفة: ما يُتحف به الإنسان من الفواكه، والطُّرَف؛ محاسنةً، ومُلاطفَةً. انتهى

(2)

.

(حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟) ظرف و "تُحْفَتهم". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ") بنونين الأولى مضمومة، وهو الحوت، وجمعه نِينَان، أي قطعة من كبد الحوت، قال القاضي عياض رحمه الله: زيادة الكبد، وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلّقة بها، وهي أطيبه، وقال أيضًا: وجاء في بعض روايات مسلم: "كبد الثور"، وهو تصحيف. انتهى.

وقال بعضهم: تعريف النون يُشعر بأنه حوتٌ مخصوص، وهذا من الأمور السمعيّة التي ينبغي الإيمان بها تعبّدًا. انتهى

(3)

.

وقد جاء نحو هذا في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خُبْزَةً واحدةً، يتكَفّؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السَّفَر

(4)

؛ نزلًا لأهل الجنة"، فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: "بلى"، قال: تكون الأرض خُبزة واحدةً، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا. متفقٌ عليه

(5)

.

فقال في "الفتح": قوله: "يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا"، قال

(1)

"النهاية" 1/ 182.

(2)

"المفهم" 1/ 574.

(3)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 305.

(4)

بفتحتين السفر المعروف خلاف الحضر، ورواه بعضهم بضم أوله، جمع سُفْرة.

(5)

رواه البخاريّ في: "الرقاق" برقم (6520)، ومسلم في:"صفة القيامة" برقم (2792).

ص: 533

عياض: زيادة الكبد وزائدتها: هي القطعة المنفردة المتعلقة بها، وهي أطيبه، ولهذا خُصّ بأكلها السبعون ألفًا، ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فُضِّلوا بأطيب النزل، ويحتمل أن يكون عَبّر بالسبعين عن العدد الكثير، ولم يُرِد الحصر فيها، قال: وفي مسائل عبد الله بن سلام: "أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت"، وأن عند مسلم في حديث ثوبان:"تحفة أهل الجنة زيادة كبد النون"، وفيه:"غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها"، وفيه:"وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا"، وأخرج ابن المبارك في الزهد بسند حسن، عن كعب الأحبار:"إن الله تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جَزُورًا، وإني أَجْزُركم اليوم حوتًا وثورًا، فيُجْزَر لأهل الجنة". انتهى

(1)

.

(قَالَ) اليهوديّ: (فَمَا غَدَاؤُهُمْ) روي بالوجهين: أحدهما بكسر الغين، وبالذال المعجمتين، من الغذاء، وهو الطعام الذي يغذّى به الجسم في أيّ وقت من الأوقات، والثاني: بفتح الغين المعجمة، وبالدال المهملة، من الغداء، وهو الأكل أول النهار، قال القاضي عياض: هذا الثاني هو الصحيح، وهو رواية الأكثرين، قال: والأول ليس بشيء.

وتعقّبه النووي: فقال: له وجه، وتقديره: ما غذاؤهم في ذلك الوقت؟ وليس المراد السؤالَ عن غذائهم دائمًا. انتهى

(2)

.

(عَلَى إِثْرِهَا؟) بكسر الهمزة، مع إسكان الثاء المثلّثة، وبفتحهما جميعًا لغتان مشهورتان، أي بعد تناولهم تحفتهم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُنْحَرُ) بالبناء للمفعول (لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ) الإضافة بمعنى "في"، أي الثور الذي كان في الجنة، و"الثور" بفتح فسكون: الذكر من البقر، والأنثى ثورةٌ، والجمع ثِيرَان، وأَثْوار، وثِيَرَة، وزانُ عِنَبَة

(3)

. (الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا") بفتح الهمزة، جمع طَرَف بفتحتين، أي أطراف الجنة، وهذا يُشعر بأن ذلك الثور معهود ومعروفٌ، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) اليهوديّ (فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟) أي على ما أكلوه من الغداء، أو من

(1)

"الفتح" 11/ 382 "كتاب الرقاق" رقم (6520).

(2)

"شرح النوويّ" 3/ 227.

(3)

"المصباح" 1/ 87.

ص: 534

لحم ذلك الثور. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مِنْ عَيْنٍ)، أي من ماء عين، فهو على حذف مضاف فلا وجه لاعتراض بعضهم بأن الجواب لم يُطابق السؤال، إذ السؤال عن الشراب، والجواب عن مكان الشراب، فعلى ما قلناه، يذهب الإشكال، ويضمحلّ، والله تعالى أعلم.

والجارّ والمجرور متعلّقٌ بمحذوف دلّ عليه السؤال، أي يشربون من عين، وقوله:(فِيهَا) متعلّق بصفة لـ "عين"، وقوله:(تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا") ببناء الفعل للمفعول صفة لـ "عين" بعد صفة، أو حال منها؛ لوصفها بالجارّ والمجرور، أي سَلِسَة السبيل، سَهْلةَ الْمَشْرَع.

قال النوويّ رحمه الله: قال جماعة من أهل اللغة والمفسّرين: السلسبيل اسم للعين، وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الْجَرْي، وقيل: هي السَّلِسَةُ اللَّيِّنة. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان" السلسبيل: الليّن الذي لا خشونة فيه، وربما وُصف به الماء، وقال أيضًا: ويقال: شراب سَلْسلٌ، وسلسالٌ، وسلسبيلٌ، وقال الزجّاج: سلسبيلٌ اسم العين، وهو في اللغة في غاية السلاسة، فكأن العين سُمّيت لصفتها، وقال غيره: السلسبيل: اسم عين في الجنّة، ويقال: عين سَلْسَلٌ، وسلْسَالٌ، وسلسبيلٌ معناه: عذبٌ سهل الدخول في الحلق، قيل: جمع السلسبيل سلاسبُ، وسلاسيبُ، وجمع السلسبيلة سلسبيلات، وقال عبد الله بن رواحة [من الخفيف]:

إِنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي جِنَانٍ

يَشْرَبُونَ الرَّحِيقَ والسَّلْسَبِيلَا

الرحيق: الخمر، والسلسبيل: السهل المدخلِ في الحلق. انتهى بتصرّف

(2)

.

(قَالَ) اليهوديّ (صَدَقْتَ، قَالَ) اليهوديّ (وَجِئْتُ أَسألكَ عَنْ شَيْءٍ، لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْض، إِلا نَبِيٌّ، أَوْ رَجُلٌ، أَوْ رَجُلَانِ) كناية عن قلّة من يعرفه، بحيث لا يعرفه، إلا من أوحى الله إليه بعلمه، أو من أخبره ذلك النبيّ، وهم قليلون، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ ") بتقدير همزة الاستفهام، (قَالَ)

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 227.

(2)

راجع: "لسان العرب" 11/ 344.

ص: 535

اليهوديّ (أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ؟)، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ في قصّة عبد الله بن سلام:"ومن أيِّ شيء يَنْزع الولد إلى أبيه، ومن أيِّ شيء يَنْزع إلى أخواله؟ "، وفي رواية: وما بالُ الولد يَنْزع إلى أبيه، أو إلى أمه؟ ".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا)، أي في الرحم (فَعَلَا)، أي غلب (مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَة، أَذْكَرَا)، أي وُلد لهما ولدٌ ذكرٌ، وقال ابن الأثير رحمه الله:"أذكرا"، أي وَلَدا ذَكَرًا، وفي رواية:"أذكرت"، أي ولدت ذكرًا، يقال: أذكرت المرأة، فهي مُذْكِرٌ: إذا ولدت ذَكَرًا، فإذا صار ذلك عادتها قيل: مِذْكَارٌ. انتهى

(1)

. (بِإِذْنِ الله، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُل، آنثَا)، أي وُلد لهما ولدٌ أُنثى، وقال المجد رحمه الله: آنثت المرأة إيناثًا: وَلَدَت أُنثى، فهي مؤنثٌ، ومُعتادتها مِئْنَاثٌ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى الأول: كان الولد ذكرًا، ومعنى الثاني: كان الولد أُنثى، وقوله: آنثا بالمدّ في أوله، وتخفيف النون، وقد رُوي بالقصر، وتشديد النون. انتهى

(3)

.

(بِإِذْنِ اللهِ") سبحانه وتعالى. (قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ)، أي في كلّ ما أخبرت به؛ لأنه موافق لما كان أخذه من التوراة، (وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ). قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن مجرّد التصديق من غير التزام الشريعة، والدخول فيها لا ينفع؛ إذ لم يُحكَم له بالإسلام. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ صحيح، لكن استدلاله بهذا الحديث غير صحيح، بل الذي يظهر أن هذا السائل عبد الله بن سلام؛ لتشابه القصتين، وأن قوله في هذه الرواية:"وإنك لنبيّ"، كقوله: في حديث أنس: "أشهد أنك رسول الله"؛ إذ لا فرق بين مفهوميهما، فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ انْصَرَفَ) اليهوديّ عن مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو مواصلة الأسئلة، وعلى

(1)

"النهاية" 2/ 163.

(2)

"القاموس المحيط" ص 151.

(3)

"شرح النوويّ" 3/ 227 - 228.

ص: 536

كونه عبد الله بن سلام، فيكون المراد بالانصراف انصرافه عن غرائب المسائل، فإنه ثبت في حديث أنس زيادة:"ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ إن عَلِمُوا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتوني عندك، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ رجل فيكم عبد الله بن سلام؟، قالوا: أعلمنا، وابنُ أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شَرُّنا، وابن شَرِّنا، ووَقَعُوا فيه".

(فَذَهَبَ) إلى مكان حاجته، وقال بعضهم: قد يكون العطف في قوله: "فذهب" عطف تفسير لرفع توهّم أنه انصرف عن قبول الحقّ مع بقائه في المجلس، وقد يكون عطف مغاير، بأن يراد من الانصراف تولية ظهره، ومن الذهاب البعد عن المجلس بحيث لا يسمع، وهذا هو الظاهر. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا)، أي اليهوديّ (عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ)، أي من هذه المسائل المتقدّمة، (وَمَا) نافية (لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ) أي من الذي سأله عنه (حَتَّى أتانِيَ اللهُ بِهِ")، أي أوحى الله إليّ بعلمه، وحديث أنس في قصّة عبد الله بن سلام:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَبَّرني بهنّ آنفًا جبريل، قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[7/ 722 و 723](315)، و (النسائيّ) في "عشرة النساء"(188)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1414)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7422)، و (الحاكم) في "المستدرك" (3/ 481 -

(1)

"فتح المنعم" 2/ 306.

ص: 537

482) و (أبو عوانة) في "مسنده"(843 و 844)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(710)، وفي "صفة الجنة"(337)، و (البيهقيّ) في "البعث"(315)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صفة منيّ الرجل، ومنيّ المرأة، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا.

2 -

(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بالمغيّبات، واطّلع على أسرار علوم الناس، وعرف ما سيكون في الآخرة من أحوال الناس، ومآل أهل الجنّة، وما يُكرمون به من أصناف الضياف، ما قد خفي على غيره من الناس، وإنما اعترف له اليهوديّ، حيث قال له: صدقتَ، وإنك لنبيّ؛ لما لديه من العلم بالتوراة مما أوحى الله تعالى على موسى عليه السلام كما أوحاه إلى نبيّنا صلى الله عليه وسلم في وقت السؤال.

3 -

(ومنها): ما أكرم الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث سئل عن أشياء لا علم له بها، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، أو من أعلمه بالوحي، فجاءه جبريل عليه السلام في الحال، وأعلمه بها، ففي حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:"أخبرني بهنّ جبريل آنفًا"، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

4 -

(ومنها): بيان جواز اتخاذ الْمِخْصَرة، ونحوها للحاجة، ونَكتِ الأرض بها عند التفكّر في الأمر، وليس مُخِلًّا بالمروءة كما يظنّه بعضهم.

5 -

(ومنها): ما قاله عياض رحمه الله: فيه أن من قال مثل هذا - يعني قوله: "صدقت، وإنك لنبيّ" - من أهل الكتاب عن غير التزام للشريعة، فلا يُحسب قوله إيمانًا حتى يعتقده، ويلتزمه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد قدّمنا احتمال أن يكون اليهوديّ عبد الله بن سلام، وعليه فلا يصحّ هذا الاستنباط، فتأمّله، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه على كون الحبر عبد الله بن سلام يؤخذ من صنيعه هذا فضل العلم الذي اتّصف به عبد الله، حيث بدأ بالسلام، وسأل الدافع سبب

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 154.

ص: 538

دفعه، ولم يُعنّفه، وقال:"إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله"، ولم يقل ما قالته قريش في الحديبية:"لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك"، فهذا من جراءتهم، ومعاندتهم، فإنهم يعلمون رسالته، ولكنهم يكابرون، فقد قال الله تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقد أخرج الحاكم، في "المستدرك" من طريق أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن عليّ رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذّبك، ولكن نكذّب بما جئت به، فأنزل الله تعالى هذه الآية

(1)

.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، واستئلاف الخلق إلى الإيمان، حيث قال:"إن اسمي الذي سمّاني به أهلي محمد".

7 -

(ومنها): بيان فضل فقراء المهاجرين، حيث أكرمهم الله تعالى بسبق غيرهم في الجواز على الصراط.

قال الأبيّ رحمه الله: ولا يدلّ هذا على أن فقراء المهاجرين أفضل من أغنيائهم، للإجماع على أن عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف، أفضل من أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهم، وقد يختصّ المفضول بخاصيّة ليست في الفاضل، ولا يكون بسببها أفضل، ولهذا المعنى لا يُحتجّ به لترجيح الفقراء، ولا يشترط في فقر المهاجرين دوامه، بل فقر زمنه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): ما قاله أبو محمد بن أبي جمرة فيما يتعلّق بتبدّل الأرض: فيه دليلٌ على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة، ليكون السامع على بصيرة، فيُخَلِّص نفسه من ذلك الهول، لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضةَ النفس، وحملَها على ما فيه خلاصها، بخلاف مجيء الأمر بغتةً. انتهى.

9 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: فيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدًّا، والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل، وظهور حقٍّ، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرًا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين على أرض

(1)

رواه الحاكم 3/ 315.

(2)

"شرح الأبيّ" 2/ 91.

ص: 539

تليق بعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصًا له وحده. انتهى ملخصًا، ذكره في "الفتح"

(1)

.

10 -

(ومنها): أن فيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمَحَلَّت، وأُعدِمت، وأن أرض الموقف تجددت

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[723]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، فِي هَذَا الإِسْنَاد، بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"زَائِدَةُ كَبِدِ النُّونِ"، وَقَالَ: "أَذْكَرَ، وَأَنَّثَ

(3)

"، وَلَمْ يَقُلْ: "أَذْكَرَا، وَآنَثَا").

رجال هذا الإسناد: ثلاثةٌ:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنْديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ متقنٌ، إمام [11](ت 255) عن (74)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) بن حيّان التّنِّيسيّ - بكسر المثنّاة، والنون الثقيلة، وسكون التحتانيّة، ثم مهملة - البكريّ، أبو زكريّا البصريّ، سكن تِنِّيس، ثقةٌ [9].

رَوَى عن وهيب بن خالد، ومعاوية بن سلام، وابن أبي الزناد، وسليمان بن بلال، والحمادين، وقريش بن حيان، ومحمد بن راشد المكحوليّ، وجماعة.

ورَوى عنه الشافعيّ، ومات قبله، وابنه محمد بن يحيى، ودُحَيم، وأحمد بن صالح المصريّ، والربيع بن سليمان المراديّ، ومحمد بن سهل بن

(1)

"الفتح" 11/ 383.

(2)

المصدر السابق.

(3)

وفي نسخة: وآنث بالمدّ.

ص: 540

عسكر، ومحمد بن مسكين، ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن الْبَرْقيّ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، رجلٌ صالحٌ، وقال الأثرم، عن أحمد: ثقةٌ، صاحب حديث، وقال العجليّ: كان ثقةً مأمونًا عالِمًا بالحديث، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو بكر البزار: يحيى بن حسان ثقةٌ، صاحب حديث، وقال مُطَيَّن: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مروان بن محمد: لم نكن نطلب الحديث حتى قَدِم يحيى بن حسان، وقال ابن يونس: كان ثقةً، حسن الحديث، وصنَّفَ كتبًا، وحَدَّث بها، وتُوُفِّي بمصر سنة ثمان ومائتين، وقال البخاريّ، عن الحسن بن عبد العزيز الجزريّ: مات سنة ثمان ومائتين، وفيها ذكره جماعةٌ، وقيل: مات سنة سبع، وقال دُحَيم: وُلد سنة أربع وأربعين

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.

وقوله: (فِي هَذَا الإسْنَاد، بمِثْلِهِ) يعني إسناد معاوية بن سلّام الماضي، وهو عن زيد بن سلّام، عن أَبي سلّام، عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثوبان رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا

إلخ) الضمير ليحيى بن حسّان، يعني أنه قال في روايته:"كنت قاعدًا إلخ" بدل قول الربيع بن نافع: "كنت قائمًا

" إلخ.

وقوله: (وَقَالَ: "زَائِدَةُ كَبِدِ النُّونِ") يعني أن يحيى أيضًا قال في روايته: "زائدة كبد النون" بدل قول الربيع: "زيادة كبد النون"، وهو بمعناه، كما تقدّم بيانه.

وقوله: (وَقَالَ: "أَذْكَرَ، وَأَنَّثَ

إلخ) يعني أن يحيى أيضًا قال في روايته: "أذكر، وأنث" بضمير الواحد المذكّر، بدل قول الربيع:"أذكرا، وآنثا" بضمير التثنية، ولا يختلف المعنى؛ لأن معنى أذكر، وآنث: وُلد له ولدٌ ذكر، وولد

(1)

أي: بعد المائة.

ص: 541

أنثى، فهو بمعنى "أذكرا، وآنثا"؛ لأنه إذا ثبت للرجل ولد ذكرٌ، أو أنثى، فقد ثبت لامرأته، كما لا يخفى.

وقوله: (وَأنَّثَ) بفتح الهمزة بلا مدّ، وتشديد النون، هكذا في النسخة التي شرحها الأبيّ رحمه الله، ووقع في النسخة التي شرحها النووي رحمه الله:"وآنث" بالمدّ، والأول هو الموافق لما في رواية النسائيّ الآتية، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية يحيى التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية الربيع بن نافع، لم أجد نصها، إلا أن الإمام النسائيّ أخرج نَحْوَها في "كتاب عشرة النساء"، من "السنن الكبرى"(5/ 337)، من رواية مروان بن محمد، عن معاوية بن سلام، فقال رحمه الله:

(9073)

أخبرني محمود بن خالد، عن مروان بن محمد، قال: نا معاوية بن سلام، قال: أخبرني أخي، أنه سمع جدَّه أبا سلام، يقول: حدثني أبو أسماء الرَّحَبِيّ، عن ثوبان، قال: كنت قاعدًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتَى حِبْرٌ من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فدفعته حتى صَرَعته، فقال: لم دفعتني؟ قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهوديّ: أنا أُسَمِّيه بالاسم الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَجَلْ أهلي سَمَّوني محمدًا"، قال: جئت لأسأل، قال:"فينفعك إن أخبرتك؟ "، فقال: أسمع بأذنيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سل عما بدا لك"، فقال اليهوديّ: أرأيتَ إذا بُدِّلت السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض، أين يكون الناس؟ قال:"في الظلمة، دون الْجِسر"، قال: فمَنْ أَوَّلُ الناس أجازه الله؟ قال: "فقراء المهاجرين"، قال: فأَيْشٍ يُتْحَفُ بها أهل الجنة؟ قال: "زائدة كبد نون"، قال: فما غذاؤهم على إثر ذلك؟ قال: "يُنْحَر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها"، قال: فما شرابهم؟ قال: "من عين تسمى سلسبيل"، قال: صدقت، قال اليهوديّ: أسألك عن واحدة لا يعلمها إلا نبيّ، أو رجل، أو رجلان، قال:"هل ينفعك إن أخبرتك؟ "، قال: أسمع بأذني، قال:"سل عما بدا لك"، قال: من أين يكون شبه الولد؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ماء الرجل غليظٌ أبيض، وماء المرأة أصفر رقيقٌ، فإن علا ماء الرجل ماء المرأة أَذْكَرَ بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل أَنَّثَ بإذن الله"، قال: صدقت، وأنت نبيّ، ثم

ص: 542

ذهب، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:"لقد سألني حين سألني، وما عندي علمٌ، حتى أنبأني الله به". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ صِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[724]

(316) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ، فَيَغْسِلُ يَدَيْه، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِه، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاة، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْر، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأ

(3)

، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِه، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد:

خمسة كلهم تقدّموا في الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لفظة "كان" تدلّ على الملازمة والتكرار، كقول ابن عبّاس رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير"، متّفقٌ عليه، ويقال: كان فلانٌ يَقْري الضيف، وقد تُستَعمل "كان" لإفادة مجرّد الفعل ووقوعه، دون الدلالة على التكرار، والأول أكثر في الاستعمال، قاله ابن الملقّن رحمه الله

(4)

.

(إِذَا اغْتَسَلَ) أي أراد الاغتسال، أو شرع في الاغتسال، قال ابن

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 337.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

وفي نسخة: "أنه قد استبرأ".

(4)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 21 - 22.

ص: 543

الملقّن رحمه الله: قولها: "إذا اغتسل" يَحْتَمل أن يكون من باب قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، أي إذا أراد الاغتسال، ويَحْتَمِل أن يكون اغتسل بمعنى شَرَعَ فيه، فإنه يقال: فَعَلَ كذا: إذا فرغ منها، وفعل: إذا شرع فيه، فإذا حملنا "اغتسل" على معنى شرع صحّ؛ لأنه يُمكن أن يكون الشروع وقت الابتداء بغسل اليدين، وهذا بخلاف الآية، فإنه لا يمكن أن يكون وقتُ الشروع في القراءة وقتَ الاستعاذة، فلهذا تعيّن حمله على الإرادة فقط. انتهى

(1)

.

(مِنَ الْجَنَابَةِ)، أي بسبب حدوث الجنابة له، فـ "من" سببيّة مجازًا عن ابتداء الغاية، من حيث إن السبب مصدر المسبّب، ومنشأ له، فتكون الجنابة هنا بمعنى الأمر الحكميّ الذي يتسبّب عن التقاء الختانين، أو الإنزال

(2)

.

(يَبْدَأُ، فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ) هذا الغسل يَحْتَمِل أن يكون للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويَحْتَمِل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، قال الحافظ رحمه الله: ويدلّ عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام: "قبل أن يُدخلهما الإناء"، رواه الشافعيّ، والترمذيّ.

(ثُمَّ يُفْرغُ) بضم أوله، من الإفراغ، بمعنى الصبّ، يقال: أفرغت الشيءَ: إذا صببته، إذا كان يسيل، أو من جوهر ذائب، قاله الفيّوميّ

(3)

. (بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ)، أي يصبّ بيده اليمنى على يده اليسرى (فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ) هكذا في رواية أبي معاوية عن هشام ذكر غسل الفرج، وليست هذه الزيادة في رواية مالك، قال الحافظ رحمه الله: وهي زيادة جليلة؛ لأن بتقديم غسله يَحصُل الأمن من مس فرجه في أثناء الغسل.

(ثمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ) احترز به عن الوضوء اللغويّ، وَيحْتَمِل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنةً مستقلةً، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل. وَيحْتَمل أن يُكتَفَى بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قُدِّم غسل

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 22.

(2)

المصدر السابق.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 470.

ص: 544

أعضاء الوضوء تشريفًا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وإلى هذا جَنَح الداوديّ، شارح "المختصر" من الشافعية، فقال: يُقَدِّم غسل أعضاء وضوئه على ترتيب الوضوء، لكن بنية غسل الجنابة.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الداوديّ هو الظاهر، والله تعالى أعلم.

ونقل ابنُ بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تحقيق هذا الخلاف في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

(ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ)، وفي رواية البخاريّ:"ثم يُدخل أصابعه في الماء"(فَيُدْخِلُ) بضم حرف المضارعة، من الإدخال (أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ)، ولفظ البخاريّ:"ثم يُدخل أصابعه في الماء، فيُخلّل بها أصول شعره"، وفي رواية الترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن هشام:"ثم يُشَرِّبُ شعره الماء".

والمراد بأصول الشعر شعر الرأس، بدليل رواية النسائيّ من طريق يحيى القطّان، عن هشام:"ويخلّل رأسه حتى يَصِلَ إلى شعره"، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة، عن هشام عند البيهقيّ:"يُخَلِّل بها شِقَّ رأسه الأيمن، فَيَتَّبعُ بها أصول الشعر، ثم يفعل بشِقّ رأسه الأيسر كذلك".

وقال القاضي عياض: احتَجَّ به بعضهم على تخليل شعر الجسد في الغسل، إما لعموم قوله:"أصول الشعر"، وإما بالقياس على شعر الرأس.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بعموم أصول الشعر فيه نظر لا يَخفى؛ لأن الرواية الأخرى تردّه، حيث بيّنت أنه شعر الرأس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد؛ ليحصل تعميمه بالماء، وتأنيس البشرة؛ لئلا يصيبها بالصبّ ما تتأذى به.

(1)

"الفتح" 1/ 433.

ص: 545

وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: إنما فعل ذلك - أي إدخال الأصابع في أصول الشعر - ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر، وقيل: ليستأنس بذلك حتى لا يَجِد بعده من صبّ الماء الكثير نفرة. انتهى

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: للتخليل ثلاث فوائد:

[الأولى]: تسهيل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة.

[ثانيها]: مباشرة الشعر باليد؛ ليحصل تعميمه.

[ثالثها]: تأنيس البشرة؛ خشيةَ أن يُصيب صبّه دَفْعَةً آفة في رأسه. انتهى

(2)

.

ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر مُلَبَّدًا بشيء، يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، قاله في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الاتّفاق غير صحيحة، إلا إذا أراد الاتّفاق في مذهبه خاصّةً، وإلا فقد قال العينيّ: إن مذهب الحنفيّة وجوبه في غسل الجنابة، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

ثم إن هذا التخليل يكون بأصابع اليدين العشر؛ لظاهر قولها: "أصابعه"، وفي رواية:"ثم يُخلّل بيديه شعره".

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: التخليل هنا إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، قال: ورأيت في كلام بعضهم إشارة إلى أن التخليل هل يكون بنقل الماء، أو بإدخال الأصابع مبلولةً بغير نقل الماء؟، وأشار إلى ترجيح نقل الماء؛ لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في مسلم:"ثم يأخذ الماء، فيُدخل أصابعه في أصول الشعر"، فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر هو ردٌّ على من يقول: يُخلِّل بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء، قال: وذكر النسائيّ في "السنن" ما يُبيّن هذا، فقال:"باب تخليل الجنب رأسه"، وأدخل حديث عائشة هذا فيه، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشرِّب رأسه، ثم يَحثي عليه

(1)

"المفهم" 1/ 576.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 28.

(3)

"الفتح" 1/ 430.

ص: 546

ثلاثًا"، قال: فهذا بَيِّنٌ في التخليل بالماء. انتهى كلامه

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(حَتَّى إِذَا رَأَى)، أي علم، فـ "رأى" هنا علميّة، لا بصريّة، وفي رواية البخاريّ:"حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته"(أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأ)"أن" بفتح الهمزة، مخفّفة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي أنه، وخبرها الجملة الفعليّة بعدها، وقد فُصِلت بـ "قد"، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ أَوْ

تَنْفِيسٍ أَوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"

ووقع في بعض النسخ: "أَنَّهُ قَدِ اسْتَبْرَأ"، يقال: استبرأت الشيءَ: إذا طلبتَ آخره؛ لقطع الشبهة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

، فالمعنى هنا: أنه بالغ في إيصال البلل إلى جميع أصول شعره، حتى تأكّد لديه أنه أرواه بالماء، وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "استبرأ": أي استقصى، وبالغ، من قولهم: استبرأ الخبر. انتهى

(3)

.

(حَفَنَ)، أي أخذ الماء بيديه جميعًا، ثم صبّه (عَلَى رَأْسِهِ) قال المجد رحمه الله:"الْحَفْنُ": أخذك الشيءَ براحتيك، والأصابع مضمومة، أو الْجَرْفُ بكلتا اليدين. انتهى

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَفَنْتُ له حَفْنًا، من باب ضَرَبَ، وحَفْنَةً، وهي مِلْءُ الكفّين، والجمع حَفَنَات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات. انتهى

(5)

.

وقوله: (ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) منصوب على أنه مفعول مطلق لـ "حَفَنَ".

قال في "الفتح": وفيه استحباب التثليث في الغسل، قال النوويّ: ولا نعلم فيه خلافًا إلا ما انفرد به الماورديّ، فإنه قال: لا يُستحبّ التكرار في الغسل، قال الحافظ: وكذا قال الشيخ أبو عليّ السنجيّ في "شرح الفروع"،

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 375.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 47.

(3)

"المفهم" 1/ 576.

(4)

"القاموس المحيط" ص 1073.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 142.

ص: 547

وكذا قال القرطبيّ، وحَمَل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم، عن عائشة الآتية قريبًا - يعني قولها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، دعا بشيء نحو الْحِلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه" - فإن مقتضاها أن كل غَرْفة كانت في جهة من جهات الرأس. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح القول باستحباب التثليث، ويُحمل حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها على بعض الأحيان، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَفَاضَ) أي أسال الماء، وإفاضة الماء على الشيء: إفراغه عليه، يقال: فاض الماء: إذا جرى، وفاض الدمع: إذا سال، قاله ابن دقيق العيد

(1)

، وقال الصنعانيّ: في "القاموس": أفاض الماء على نفسه: أفرغه، والإفراغ الصبّ، وفيه دليل على أنه يُكتَفى بذلك، ولا يشترط الدلك. انتهى

(2)

. (عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ)، أي بقيّة جسمه، فـ "السائر" بمعنى الباقي، على ما عليه الجمهور، كما قال الشنفري [من الطويل]:

إِذَا احْتَمَلُوا رَأْسِي وَفِي الرَّأْسِ أَكْثَرِي

وَغُودِرَ عِنْدَ الْمُلْتَقَى ثُمَّ سَائِرِي

أي بقيّتي، "والجسد" بفتحتين: الجسم، قال في "القاموس":"الْجَسَدُ" محرَّكةً: جسم الإنسان، والجنّ، والملائكة، والزعفرانُ، كالْجِسَاد، ككِتَاب. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: سَئِرَ الشيءُ سُؤْرًا بالهمزة، من باب شَرِبَ: بَقِيَ، فهو سائرٌ، قاله الأزهريّ، واتَّفَقَ أهل اللغة

(4)

أن سائرَ الشيءِ باقيه قليلًا كان أو كثيرًا، قال الصغانيّ: سائر الناس باقيهم، وليس معناه جميعهم، كما زَعَمَ من قَصُرَ في اللغة باعه، وجَعْلُهُ بمعنى الجميع من لَحْن العوامّ، ولا يجوز أن يكون مشتقًّا من سُورِ البلد؛ لاختلاف المادّتين. انتهى

(5)

.

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 377.

(2)

"العدّة حاشية العمدة" 1/ 377.

(3)

"القاموس المحيط" ص 247.

(4)

أي: معظمهم؛ لأنه سيأتي أن بعضهم خالف فيه.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 299.

ص: 548

وقال المجد: السائر: الباقي، لا الجميع، كما توهّم جماعاتٌ، أو قد يُستعمل له، ومنه قول الأحوص [من الخفيف]:

فَجَلَتْهَا لَنَا لُبَابَةُ لَمَّا

وَقَذَ النَّوْمُ سَائِرَ الْحُرَّاسِ

قال الشارح المرتضى رحمه الله: في قوله: "أو يُستعمل له" إشارة إلى أن في السائر قولين: [الأول]: وهو قول الجمهور من أئمة اللغة، وأرباب الاشتقاق أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع فيه بينهم، واشتقاقه من السؤر، وهو البقيّة.

[والثاني]: أنه بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوّبوه، وإليه ذهب الجوهريّ، والجواليقيّ، وحقّقه ابن برّيّ في "حواشي الدرّة"، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلّةً ظاهرةً، وانتصر لهم الشيخ النوويّ في مواضع من مصنّفاته، وسبقهم إمام العربيّة أبو عليّ الفارسيّ، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جنّي، واختلفوا في الاشتقاق، فقيل: من السير، وهو مذهب الجوهريّ، والفارسيّ، ومن وافقهما، أو من السُّور المحيط بالبلد، كما قاله آخرون. انتهى كلام المرتضى رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن إطلاق "سائر" بمعنى الجميع، صحيح، وإن كان الغالب إطلاقه بمعنى الباقي، وذلك لوروده في أشعار العرب، وغيرها، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فدعوى بعضهم كما سبق آنفًا أنه من لحن العوامّ، فيه نظر لا يخفى، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) هكذا رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة بزيادة غسل الرجلين بعد الاغتسال، قال في "الفتح": وهذه الزيادة تفرَّد بها أبو معاوية، دون أصحاب هشام، قال البيهقيّ: هي غريبة صحيحة، قال الحافظ: لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقالٌ، نعم له شاهدٌ من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أخرجه أبو داود الطيالسيّ، فذكر حديث الغسل، وزاد في آخره:"فإذا فَرَغَ غَسَلَ رجليه"، فإما أن تُحْمَل الروايات عن عائشة على أن المراد بقولها:"وضوءه للصلاة"، أي أكثرَه، وهو ما سوى الرجلين، أو يُحْمَل على ظاهره، ويستَدَلُّ برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويَحْتَمِل أن يكون قوله في

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 351.

ص: 549

رواية أبي معاوية: "ثم غَسَل رجليه"، أي أعاد غسلهما؛ لاستيعاب الغسل بعد أن كان غَسَلَهما في الوضوء، فيوافق قوله في حديث الباب - يعني رواية البخاريّ -:"ثم يُفيض على جلده كله". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أولى هذه الاحتمالات، وأقربها هو الاحتمال الأول؛ لأن غيره فيه نوع تكلّف، فيكون المراد أكثر وضوء الصلاة، فتكون روايات عائشة رضي الله عنها موافقةً لروايات ميمونة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[8/ 724 و 725 و 726 و 727](316)، و (البخاريّ) في "الغسل"(248 و 262 و 272)، (وأبو داود) في "الطهارة"(242)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(104)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 134 و 135 و 200)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 44)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 36 و 37)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(999)، و (الحميديّ) في "مسنده"(163)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 63)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 101)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 191)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(242)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1191 و 1196 و 1197) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 172 و 173 و 174 و 175 و 176 و 193)، وفي "المعرفة"(1/ 427)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(859 و 860 و 861 و 862 و 863)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(711)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): تكلّم الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في هذا الحديث، فقال: هذا الحديث رواه جماعة من الأئمة عن هشام، منهم زائدة، وحماد بن زيد، وجرير، ووكيع، وعليّ بن مسهر، وغيرهم، فلم يذكر أحد

(1)

"الفتح" 1/ 311.

ص: 550

منهم غسل الرجلين، إلا أبو معاوية، ولم يذكر غسل اليدين في ابتداء الوضوء غير وكيع، وليست زيادتهما عندنا بالمحفوظة، وسمعت أبا جعفر الحضرميّ يقول: سمعت ابن نُمير يقول: كان أبو معاوية يضطرب فيما كان من غير الأعمش، وسمعت الحسين بن إدريس يقول: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: أبو معاوية في حديث الأعمش حجّةٌ، وفي غيره لا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في هذا الإعلال نظر؛ لأن لرواية أبي معاوية شاهدًا من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها عند أبي داود الطيالسيّ، فقد ذكر حديث الغسل، وزاد في آخره:"فإذا فرغ غَسَل رجليه"، كحديث أبي معاوية، ويؤيّد هذا حديث ميمونة رضي الله عنها الآتي، ففيه أنه أخّر غسل رجليه، ولذا قال البيهقيّ رحمه الله: قوله في آخر هذا الحديث: "ثم غسل رجليه" غريبٌ صحيحٌ حَفِظه أبو معاوية، دون غيره من أصحاب هشام من الثقات، وذلك للتنظيف - إن شاء الله تعالى -. انتهى

(2)

.

والحاصل أن زيادة غسل الرجلين في رواية أبي معاوية صحيحة، فيكون حديث عائشة رضي الله عنها بمعنى حديث ميمونة رضي الله عنها، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء والغسل، وقد تقدّم تمام البحث فيه.

2 -

(منها): أن قولها: "غسل يديه" هذا الغسل قبل إدخال اليدين الإناء، وقد تبيّن ذلك مصرّحًا به في رواية زائدة الآتية، بلفظ:"كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه قبل أن يُدخل يده في الإناء".

3 -

(ومنها): استحباب تقديم الوضوء على الغسل، وقد اختُلف فيه، فذهب الجمهور إلى استحبابه، وذهب بعضهم إلى وجوبه، وأن الغسل لا ينوب

(1)

راجع: رسالته في مقدّمة "قرّة عين المحتاج" 1/ 145.

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقي 1/ 174.

ص: 551

عنه، والراجح قول الجمهور، وقد حقّقت المسألة بأدلتها في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(1)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): ما قال ابن دقيق العيد رحمه الله: لا شكّ في استحباب تقديم الوضوء على الغسل، نعم يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء، هل هو وضوء حقيقةً، فيُكتفى به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة، فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد، أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء إنما هو عن الجنابة، وإنما قُدّمت على بقيّة الجسد تكريمًا لها وتشريفًا، ويَسقُط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى، فقد يقول قائلٌ: قولها: "وضوءَ الصلاة" مصدرٌ مشبّهٌ به، وتقديره: وُضوءًا مثل وضوئه للصلاة، فيلزم أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة، لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقةً، لكان قد توضّأ عين الوضوء للصلاة، فلا يصحّ التشبيه؛ لأنه يقتضي تغاير المشبّه والمشبّه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صحّ التغاير، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة.

وجوابه بعد تسليم كونه مصدرًا مشبّهًا به من وجهين:

[أحدهما]: أن يكون شُبّه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة، والوضوءْ بقيد كونه في غسل الجنابة مغايرٌ للوضوء بقيد كونه خارجًا عن غسل الجنابة، فيحصُلُ التغاير الذي يقتضي صحّة التشبيه، ولا يلزم منه عدم كونه وضوءًا للصلاة حقيقةً.

[الثاني]: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنويّة ذهنيّة، شُبّه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن، كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يُطابق الصورة الذهنيّة لوضوء الصلاة. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): استحباب تخليل الشعر، ويكون ذلك بمجموع الأصابع العشر؛ لظاهر قولها:"فيُدخل أصابعه في أصول الشعر"، وفي رواية:"ثم يُخلّل شعره بيديه".

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 4/ 313.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 372 - 374.

ص: 552

6 -

(ومنها): استحباب صبّ الماء على الرأس.

7 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": واستَدَلّ بقوله: "ثمّ أفاض

إلخ " مَن لم يشترط الدَّلْك، وهو ظاهرٌ، وقال المازريّ: لا حجة فيه؛ لأن أفاض بمعنى غَسَلَ، والخلاف في الغسل قائمٌ، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، والله أعلم.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: فرّق في الحديث بين إفاضة الماء، وبين الغسل، فذكرت إفاضة الماء مجرّدةً بعد حصول التخليل، ثم الغسل

(1)

، فاستدل به المالكيّة على أن الغسل لا يكون إلا مع الدلك، وإلا فلا فائدة للتفرقة، وأنصف المازريّ المالكيّ، فقال: الحديث حخة للشافعيّة على عدم وجوب الدلك؛ لأن إفاضة الماء تكون مع الدلك ودونه، بخلاف الغسل، فيُحمل المطلق على المقيّد. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): أن القاضي عياضًا قال: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذِكْرُ التكرار.

فتعقّبه الحافظ، وأجاد فيه، فقال: بل ورد ذلك من طريق صحيحة، أخرجها النسائيّ، والبيهقيّ، من رواية أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها وَصَفَت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وفيه:"ثم يتمضمض ثلاثًا، وششنشق ثلاثًا، ويغسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا، ثم يُفيض على رأسه ثلاثًا". انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا استحباب التثليث في وضوء الغسل؛ لهذا النصّ الصريح، ولظاهر قولها:"توضّأ وضوءه للصلاة"، فإنكار القاضي عياض، والقرطبيّ، وغيرهما لاستحباب التثليث في الوضوء المذكور

(1)

هذا في رواية البخاريّ (273) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظَنّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده

".

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 29 - 30.

(3)

"الفتح" 1/ 430.

ص: 553

لا ينبغي أن يُلتفت إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

9 -

(ومنها): بيان أن أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّها حجةٌ كأقواله، إلا ما كان خصوصيّةً له، وهي لا تثبت إلا بدليل خاصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

10 -

(ومنها): أن النوويّ رحمه الله لخّص في "شرحه" كيفيّة غسل الجنابة، فأجاد، وأفاد، فقال رحمه الله: قال أصحابنا: كمال غسل الجنابة أن يبدأ المغتسل، فيغسل كفيه ثلاثًا قبل إدخالهما في الإناء، ثم يغسل ما على فرجه، وسائر بدنه من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة بكماله، ثم يُدخل أصابعه كلها في الماء، فيغرف غرفة يُخَلِّل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يَحْثِي على رأسه ثلاث حثيات، ويتعاهد معاطف بدنه، كالإبطين، وداخل الأذنين، والسُّرَّة، وما بين الأليتين، وأصابع الرجلين، وعُكَن البطن، وغير ذلك، فيوصل الماء إلى جميع ذلك، ثم يُفِيض على رأسه ثلاث حثيات، ثم يُفيض الماء على سائر جسده ثلاث مرات، يَدلُك في كل مرّة ما تصل إليه يداه من بدنه، وإن كان يغتسل في نهر أو بِرْكةٍ انغمس فيها ثلاث مرّات، ويوصل الماء إلى جميع بشرته، والشعورِ الكثيفة والخفيفة، وَيعُمّ بالغسل ظاهر الشعر وباطنه، وأصول منابته.

والمستحب أن يبدأ بميامنه، وأعالي بدنه، وأن يكون مستقبل القبلة.

قال الجامع عفا الله عنه: يدلّ على استحباب استقبال القبلة في حالة الوضوء، ما أخرجه الطبرانيّ بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سيِّدًا، وإن سيد المجالس قُبَالةُ القبلة"

(1)

، والله تعالى أعلم.

قال: وأن يقول بعد الفراغ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وينوي الغسل من أول شروعه فيما ذكرناه، ويَستصحب النية إلى أن يفرغ من غسله، فهذا كمال الغسل.

(1)

صححه الشيخ الألبانيّ في: "السلسلة الصحيحة" 6/ 300.

ص: 554

والواجب من هذا كله النية في أول ملاقاة أول جزء من البدن للماء، وتعميم البدن شعره وبشره بالماء، ومن شرطه أن يكون البدن طاهرًا من النجاسة، وما زاد على هذا مما ذكرناه سنة.

وينبغي من اغتسل من إناء كالإبريق ونحوه، أن يتفطن لدقيقة قد يَغفُل عنها، وهي أنه إذا استنجى، وطَهَّر محل الاستنجاء بالماء، فينبغي أن يغسل محل الاستنجاء بعد ذلك بنية غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسله الآن رُبَّما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصحّ غسله لترك ذلك، وإن ذكره احتاج إلى مسّ فرجه، فينتقض وضوؤه، أو يحتاج إلى كُلْفة في لَفّ خِرْقة على يده، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: غسل محلّ الاستنجاء مرّة ثانيةً محلّ نظر، بل الذي يظهر لي أنه حينما يسنتجي أوّلًا ينوي به إزالة الجنابة أيضًا، فلا يحتاج لغسله مرّةً ثانيةً، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

قال: هذا مذهبنا، ومذهب كثيرين من الأئمة، ولم يوجب أحد من العلماء الدلك في الغسل، ولا في الوضوء إلا مالك، والمزنيّ، ومن سواهما يقول: هو سنة، لو تركه صحت طهارته في الوضوء والغسل، ولم يوجب أيضًا الوضوء في غسل الجنابة إلا داود الظاهريّ، ومن سواه يقولون: هو سنة، فلو أفاض الماء على جميع بدنه من غير وضوء، صَحّ غسله، واستباح به الصلاة وغيرها، ولكن الأفضل أن يتوضأ كما ذكرنا، وتحصل الفضيلة بالوضوء قبل الغسل أو بعده.

قال الجامع عفا الله عنه: حصول الفضيلة بالوضوء بعد الغسل فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه خلاف السنّة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: وإذا توضأ أوّلًا لا يأتي به ثانيًا، فقد اتَّفَقَ العلماء على أنه لا يُستحب وضوءان، فهذا مختصر ما يتعلق بصفة الغسل، وأحاديث الباب تدل على معظم ما ذكرناه، وما بقي فله دلائل مشهورة، والله تعالى أعلم.

(واعلم): أنه جاء في روايات عائشة رضي الله عنها، في صحيح البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة قبل إفاضة الماء عليه، فظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم أكمل الوضوء بغسل الرجلين، وقد جاء في أكثر روايات ميمونة رضي الله عنها: توضأ، ثم أفاض الماء عليه، ثم تنحى فغسل رجليه، وفي رواية من حديثها، رواها

ص: 555

البخاريّ: توضأ وضوءه للصلاة غير قدميه، ثم أفاض الماء عليه، ثم نَحَّى قدميه، فغسلهما، وهذا تصريح بتأخير القدمين.

وللشافعي رحمه الله قولان، أصحهما وأشهرهما، والمختار منهما أنه يُكَمّل وضوءه بغسل القدمين، والثاني أنه يؤخر غسل القدمين، فعلى القول الضعيف، يتأول روايات عائشة، وأكثر روايات ميمونة على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره، وهو ما سوى الرجلين، كما بيّنته ميمونة في رواية البخاريّ، فهذه الرواية صريحة، وتلك الرواية محتملة للتأويل، فيُجْمَع بينهما بما ذكرناه.

وأما على المشهور الصحيح، فيُعْمَل بظاهر الروايات المشهورة المستفيضة عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما جميعًا في تقديم وضوء الصلاة، فإن ظاهره كمال الوضوء، فهذا كان الغالب والعادة المعروفة له صلى الله عليه وسلم، وكان يعيد غسل القدمين بعد الفراغ؛ لإزالة الطين، لا لأجل الجنابة، فتكون الرجل مغسولة مرتين، وهذا هو الأكمل الأفضل، فكان صلى الله عليه وسلم يواظب عليه، وأما رواية البخاريّ، عن ميمونة رضي الله عنها، فجرى ذلك مرةً، أو نحوها؛ بيانًا للجواز، وهذا كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ومرةً مرةً، فكان الثلاث في معظم الأوقات؛ لكونه الأفضل، والمرة في نادر من الأوقات؛ لبيان الجواز، ونظائر هذا كثيرةٌ.

وأما نية هذا الوضوء، فينوى به رفع الحدث الأصغر إلا أن يكون جنبًا، غير محدث، فإنه ينوي به سنة الغسل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[725]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح)، وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ،

(1)

"شرح مسلم" 3/ 228 - 230.

ص: 556

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْر، كلُهُمْ عَن هِشَامٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) عن (74) سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) عن (71) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

5 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرِ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

6 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

7 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 184)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

8 -

(هِشَام) بن عروة المذكور في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ)، يعني أن كلَّ هؤلاء الثلاثة: جرير، وعليّ بن مسهر، وعبد الله بن نُمير رووه عن هشام بن عروة بسنده الماضي، وهو عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ)، يعني أن هؤلاء الثلاثة لم يذكروا غسل الرجلين في آخر الحديث، كما ذكره أبو معاوية، في روايته السابقة، وقد تقدّم البحث عنه في الحديث الماضي، فلا تنس، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مُسهِر التي أحالها المصنّف على رواية أبي معاوية، أخرجها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

ص: 557

(420)

أخبرنا عليّ بن حجر، قال: حدثنا عليّ بن مُسهِر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل رأسه بأصابعه، حتى إذا خُيّل إليه أنه قد استبرأ البشرة، غَرَفَ على رأسه ثلاثًا، ثم غسل سائر جسده". انتهى.

وأما رواية عبد الله بن نمير، فأخرجها الإمام الدارقطنيّ رحمه الله في "سننه"(1/ 113)، فقال:

(11)

حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، نا عبد الله بن نمير، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يُدخل يده في الإناء، فيخلل بها أصول شعره، حتى إذا خُيِّل إليه أنه قد استبرأ البشرة، غَرَف بيديه ملء كفيه ثلاثًا، فصَبَّها على رأسه، ثم اغتسل، فأفاض الماء على جسده". انتهى.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد، فلم أجد من أخرجها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[726]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَة، فَبَدَأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوَيةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مليح الحافظ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا، وكذلك الباقون تقدّموا في الحديث الماضي.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير

ص: 558

وكيع، يعني رواية وكيع عن هشام، نحو رواية أبي معاوية عنه، إلا أنه لم يذكر غسل الرجلين في الأخير.

[تنبيه]: رواية وكيع هذه التي أحالها المصنّف على رواية أبي معاوية، أخرجها الإمام أبو بكر بن أبي شيبة: في "مصنّفه"(1/ 46) فقال:

(685)

حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اغتَسَلَ من الجنابة، فبدأ فغسل كفيه ثلاثًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أدخل يده، فخَلَّل بها أعول الشعر، حتى يُخَيَّل إليّ أنه استبرأ البشرة، ثم صَبَّ الماء على رأسه ثلاثًا:، ثم أفاض على سائر جسده الماء". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[727]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَة، بَدَأَ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي الإِنَاء، ثُمَّ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِهِ لِلصَّلَاةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، ثقة حافظ [10](ت 232)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(مُعَاوِيَة بْنُ عَمْرِو) بن الْمُهَلَّب بن عمرو الأزديّ الْمَعْنيّ، أبو عمرو البغداديّ، المعروف بابن الْكِرْمانيّ، ثقة، من صغار [9](ت 214) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 95/ 511.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 559

وقوله: (قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإدخال رباعيًّا، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[728]

(317) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ كُرَيْب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ، قَالَتْ: أَدْنَيْتُ لِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَة، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاء، ثُمَّ أَفْرَغَ بِهَا

(1)

عَلَى فَرْجِه، وَغَسَلَهُ بِشِمَالِه، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الْأَرْضَ، فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاة، ثُمَّ أفرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، مِلْءَ كَفِّهِ

(2)

، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِه، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَغَسَلَ رِجْلَيْه، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيل، فَرَدَّهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المذكور قبل حديثين.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)، وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ورعٌ، يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة، وكان يرسل كثيرًا [3].

(1)

ووقع في معظم النسخ: "به" بضمير المذكّر، والظاهر أنه غلط؛ لأن اليد مؤنّثة، والله تعالى أعلم.

(2)

وفي نسخة: "ملء كفّيه".

ص: 560

رَوَى عن عمر، ولم يدركه، وكعب بن مرة، وقيل: لم يسمع منه، وعائشة، والصحيح أن بينهما أبا المليح، وأبا كبشة. وقيل: عن ابن أبي كبشة، عن أبيه، وجابان، وقيل: بينهما نُبيط، وعن ثوبان، وزياد بن لبيد، وعلي بن أبي طالب، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنه الحسن، والحكم بن عتيبة، وعمرو بن دينار، وعمرو بن مرة، وقتادة، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش، وعمار الدُّهني، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال الذهلي عن أحمد: لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يَلْقَه، بينهما مَعْدان بن أبي طلحة، وليست هذه الأحاديث بصحاح. وقال العجليّ: ثقة تابعي. وقال إبراهيم الحربي: مُجْمَع على ثقته. وقال أبو حاتم، عن أبي زرعة: سالم بن أبي الجعد عن عمر وعثمان وعلي مرسل. وقال علي: لم يَلْقَ ابن مسعود، ولا عائشة. وقال أبو حاتم: أدرك أبا أمامة، ولم يدرك عمرو بن عبسة، ولا أبا الدرداء، ولا ثوبان. وقال البخاريّ: لا يُعرف لسالم من جابان سماع. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا أرى سالمًا سمع زيادًا - يعني ابن لبيد -.

قال مطين: مات سنة مائة. وقيل: سنة إحدى ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة سبع وتسعين، أو ثمان وتسعين. وكذا قال ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، مات سنة مائة. وقيل: إحدى ومائة. وقيل: قبل ذلك. وقال ابن زَبْر: توفي سنة تسع وتسعين، وله من العمر مائة وخمس عشرة سنة.

قال الحافظ: كذا قال، ولا يصح ذلك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.

5 -

(كُرَيْب) بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ مولى ابن عبّاس، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

ص: 561

7 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث، أم المؤمنين رضي الله عنها الهلاليّة، قيل: اسمها برّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، تزوّجها بسرف سنة سبع، وماتت بها، ودُفنت في الظلّة التي بنى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى سالم، سوى شيخه، فمروزيّ، والباقي مسلسلٌ بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن سالم، عن كُريب.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، هي خالته: ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم.

6 -

(ومنها): أن ابن عبّاس أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.

7 -

(ومنها): أن ميمونة رضي الله عنها قد اتّفق لها أمر غريبٌ، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّجها بسَرِف، مكان قريبٌ من مكة

(1)

، وبنى بها فيها، وتُوفّيت، ودُفنت في الموضع الذي بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أكثر من أربعين سنة، كما أسلفته آنفًا، وهذا من غريب الاتّفاق، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي)، أي أخت أمه لبابة

(1)

قيل: بينه وبين مكة عشرة أميال، وقيل: ستّة، وقيل: سبعة، وقيل: اثني عشر، وقيل: تسعة.

ص: 562

الكبرى رضي الله عنها (مَيْمُونَةُ) بالرفع على البدليّة من "خالتي"، وقوله:(قَالَتْ) تفسيرٌ وتوضيحٌ لـ "حدّثتني"(أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي قرّبت إليه، وهكذا في رواية النسائيّ، وعند الترمذيّ، وابن ماجه، وروايةٍ للبخاريّ:"وَضَعتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي أخرى للبخاريّ:"صَبَبتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا"(غُسْلَهُ) بضمّ، فسكون: اسم من الاغتسال، فهو على حذف مضاف، أي ماءَ غُسله، وقيل: الغسل بالضمّ: الماء الذي يُتطهّر به، وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير مضاف.

قال ابن الأثير رحمه الله: الْغُسْلُ بالضمّ: الماء الذي يُغتسل به، كالأُكْل لما يؤكل، وهو الاسم أيضًا، من غَسَلْتُهُ، والْغَسْلُ بالفتح: المصدر، وبالكسر: ما يُغْسَل به من خِطْميّ وغيره. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: غَسَلْتُهُ غَسْلًا، من باب ضَرَبَ، والاسم الْغُسْلُ بالضمّ، وجمعه أَغْسالٌ، مثلُ قُفْل وأَقْفال، وبعضهم يَجعل المضموم والمفتوح بمعنى، وعزاه إلى سيبويه، وقيل: الْغُسل بالضمّ: هو الماء الذي يُتطهّر به، قال ابن الْقُوطيّة: الْغُسل تمام الطهارة، وهو اسم من الاغتسال. انتهى

(2)

.

(مِنَ الْجَنَابَةِ) متعلّق بـ "غسل"، أما على كونه اسم مصدر فواضحٌ، وأما على كونه اسمًا للماء، فيتعلّق على مضاف مقدّر بعد "غُسل" أي غُسل اغتساله، أي ماء اغتساله، وعند أبي داود:"غُسلًا يَغتسل به من الجنابة"(فَغَسَلَ كفَّيْهِ)، وعند أبي داود:"فأكفأ الإناء على يده اليمنى، فغسلها" بالإفراد، لكن أكثر الروايات تدلّ على أنه غسل الكفّين (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) منصوبان على الظرفيّة لـ "غَسَلَ"، و"أو" فيه للشكّ، وهو من الأعمش، كما صرّح به البخاريّ من طريق أبي عوانة، عنه، وفيه:"فصَبّ على يده، فغسلها مرّةً، أو مرّتين"، قال سليمان - يعني الأعمش -: لا أدري أَذَكَرَ الثالثة أم لا؟، وفي رواية له من طريق عبد الواحد، عن الأعمش:"فأفرغ على يديه، وغسلهما مرّتين، أو ثلاثًا"، ولابن فُضيل، عن الأعمش:"فصَبّ على يديه ثلاثًا"، ولم يشكّ،

(1)

"النهاية" 3/ 367 - 368.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 447.

ص: 563

أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، قال الحافظ رحمه الله: فكأنّ الأعمش كان يشكّ فيه، ثم تذكّر، فجزم؛ لأن سماع ابن فُضيل منه متأخّر. انتهى

(1)

.

(ثمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ)، أي اليُمنى، ففي رواية النسائيّ:"ثم أدخل يمينه"(فِي الإِنَاءِ)، أي الوعاء الذي أدنته إليه ميمونة رضي الله عنها للاغتسال منه (ثُمَّ أَفْرَغَ بِهَا)، أي صبّ الماء بيده، هكذا وقع في نسخة "شرح الأبيّ" بتأنيث الضمير، وهو الصواب، ووقع في معظم النسخ بلفظ "به" بضمير المذكّر، والظاهر أنه غلطٌ؛ لأن اليد مؤنّثة بلا خلاف، فتأمّل.

(عَلَى فَرْجِهِ) قال ابن الملقّن رحمه الله: الفرج: العورة، قاله الجوهريّ، واعتَرَضَ عليه بعضُ المالكيّة بأنه يلزم منه أن يقع الفرج على الدبر أيضًا؛ إذ هو عورةٌ، ثم ادّعى أن المعروف أن الفرج مختصّ بالقُبُل، والاست بالدُّبُر، ولا يُسلَّمُ له؛ فإن الفرج أصله لغةً: الخلل بين شيئين، وذلك يعمّهما، نعم المراد به هنا القُبُلُ فيما يظهر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الفرج يعمّ القبل والدبر، وإن كان أكثر استعماله في القبل، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفرج من الإنسان يُطلق على القبل والدُّبُر؛ لأن كلّ واحد منفرِجٌ، أي مُنفتِحٌ، وأكثر استعماله في العُرْف في القبل، انتهى

(3)

.

(وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ) بكسر الشين المعجمة: خلاف اليمين، وهى مؤنّثة، كاليمين، وجمعها أَشْمُل، وشمائل، قاله الفيّوميّ

(4)

.

والمعنى: أنه غَسَلَ فرجه بيده اليسرى، وفيه استحباب صبّ الماء باليمين، وغسل الفرج بالشمال.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه البداءة بغسل الفرج؛ لإزالة ما عَلِقَ به من أذى، وينبغي أن يُغسَل في الابتداء عن الجنابة؛ لئلا يَحتاج إلى غسله مرّةً

(1)

"الفتح" 1/ 448.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 38.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 466.

(4)

"المصباح" 1/ 323.

ص: 564

أخرى، وقد يقع ذلك بعد غسل أعضاء الوضوء، فيحتاج إلى إعادة غسلها، فلو اقتصر على غسلة واحدة لإزالة النجاسة، وللغسل عن الجنابة، فهل يُكتفى بذلك، أم لا بدّ من غسلتين: مرّةً للنجاسة، ومرّةً للطهارة عن الحدث؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعيّ، ولم يَرِد في الحديث إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار، فقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة من حيثُ إن الأصل عدم غسله ثانيًا. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاكتفاء هو الحقّ؛ عملًا بظاهر النصّ؛ إذ هو مطلق، لا يقتضي التكرار، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ ضرَبَ بِشِمَالِهِ) التي غسل بها فرجه (الْأَرْضَ). قال ابن الملقّن رحمه الله: الظاهر أنه من المقلوب، والأصل ضرب الأرض بيده؛ لأن اليد هي الآلة، والباء لا تدخل إلا على الآلة، كضربت بالعصا، وكتبت بالقلم، وشبه ذلك، وقد جاء القلب كثيرًا في كلامهم، قالوا: عَرَضتُ الناقة على الحوض، وأدخلت القَلَنْسُوة في رأسي، ومنه قوله تعالى:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]، أي العُصبة تنوء بالمفاتيح؛ لثقلها على ما قيل.

(فَدَلَكَهَا)، أي دلك شماله (دَلْكًا شَدِيدًا) مفعول مطلق مبيّن للنوع، والدلك: مصدر دَلَكَ الشيءَ، من باب نَصَرَ: إذا مَرَسَهُ، وعَرَكَهُ، قال الشاعر [من الرجز]:

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

شَعْرَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي

والمعنى: حَكّ شماله على الأرض بقوّة؛ مبالغةً في التنظيف.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض، أو الحائط؛ لإزالة ما لعلّه عَلِقَ باليد من الرائحة؛ زيادة في التنظيف، ثم قال:

إذا بقيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء في الإزالة لم يضرّ على مذهب بعض الفقهاء، وفي مذهب الشافعيّ خلاف، وقد يؤخذ العفو عنه من هذا الحديث، ووجهه أن ضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض، أو الحائط لا بدّ وأن يكون لفائدة،

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 380 - 381.

ص: 565

ولا جائز أن يكون لإزالة العين؛ لأنه لا تحصل الطهارة مع بقاء العين اتّفاقًا، وإذا كانت اليد نجسةً ببقاء العين فيها، فعند انفصالها ينجس المحلّ بها، وكذلك لا يكون للطعم؛ لأن بقاء الطعم دليل على بقاء العين، ولا يكون لإزالة اللون، لأن الجنابة بالإنزال، أو بالمجامعة لا تقتضي لولًا يلصق باليد، وإن اتّفق فنادرٌ جدًّا، فبقي أن يكون لإزالة الرائحة، ولا يجوز أن يكون لإزالة رائحة تجب إزالتها؛ لأن اليد قد انفصلت عن المحلّ على أنه قد طهُر، ولو بقي ما تتعيّن إزالته من الرائحة لم يكن المحلّ طاهرًا، لأنه عند الانفصال تكون اليد نجسةً، وقد لابست المحلّ مبتلًّا، فيلزم من ذلك أن يكون بعض الرائحة معفوًّا عنه، ويكون الضرب على الأرض لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته.

وَيَحْتَمِل أن يقال: فصلُ اليد عن المحلّ بناء على ظنّ طهارته بزوال رائحته، والضرب على الأرض لإزالة احتمال في بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظنّ في زوالها.

والذي يقوّي الاحتمال الأول ما ورد في الحديث الصحيح من كونه صلى الله عليه وسلم دَلَكَها دَلْكًا شديدًا، والدلك الشديد لا يناسبه هذا الاحتمال الضعيف. انتهى كلامه رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام ابن دقيق العيد: كلّه مبنيّ على القول بنجاسة المنيّ، ورطوبة الفرج، وقد تقدّم ترجيح القول بطهارتهما، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ) أي مثل وضوئه لها، وهكذا رواية المصنّف مجملة، وقد وقعت مفصّلة عند البخاريّ وغيره، حيث قالت: "ثم مضمض، واستنشق، وغسل وجهه، ويديه

" الحديث، وقد تقدم البحث في تشبيه هذا الوضوء بوضوء الصلاة مستوفى في حديث عائشة رضي الله عنها الماضي (ثُمَّ أفرَغَ)، أي صبّ (عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) بفتحات، جمع حَفْنة بفتح، فسكون، وهي

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 381 - 383 بنسخة الحاشية.

ص: 566

ملء الكفّين جميعًا، فيكون قوله:(مِلْءَ كَفِّهِ) مؤكّدًا، ووقع في بعض النسخ "ملء كفّيه" بالتثنية، ولا تخالف بينهما؛ لأن المفرد المضاف يعمّ، كما سبق بيانه.

وقال النوويّ في "شرحه": قولها: "ملء كفه" هكذا هو في الأصول التي ببلادنا "كفّه" بلفظ الإفراد، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وفي رواية الطبريّ "كفيه" بالتثنية، وهي مفسرة لرواية الأكثرين. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) أي باقيه، وقد سبق تمام البحث في لفظ "سائر" قريبًا.

[تنبيه]: ظاهر قولها: ثم أفرغ على رأسه" يقتضي أنه لم يمسح رأسه، كما يفعل في الوضوء، قاله ابن دقيق العيد

(2)

، وقال الحافظ رحمه الله: لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ تَنَحَّى) أي ابتعد (عَنْ مَقَامِهِ) بفتح الميم: اسم موضع من قام ثلاثيًّا، أو بضمّها من أقام رباعيًّا، أي من محلّه، وقوله:(ذَلِكَ) عطف بيان، أو بدل عن "مقامه"(فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ) فيه تأخير غسل الرجلين عن إكمال وضوء الغسل، وهو مخالف لظاهر حديث عائشة رضي الله عنها، كما سبق بيانه، ويمكن الجمع بينهما بحمل رواية عائشة على المجاز، أو على اختلاف الأوقات، والأول أقرب، كما أوضحته فيما سبق، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ) بكسر الميم، وفتحها، وكَمِنبَرٍ: هو الذي يُتمسّح به، وتَنَدّل به، وتمندل: تمسّح، قاله في "القاموس"

(4)

.

وجعل في "اللسان" فتح الميم نادرًا، قال: قيل: هو من الندل الذي هو الوسخ، وقيل: إنما اشتقاقه من النَّدْل الذي هو التناوُلُ، وتندّلتُ بالمنديل، وتمندلتُ: أي تمسّحتُ به من أثر الوضوء، أو الطُّهُور. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 231.

(2)

"إحكام الأحكام" 1/ 384.

(3)

"الفتح" 1/ 432.

(4)

"القاموس المحيط" ص 957

(5)

راجع: "لسان العرب" 653 - 654.

ص: 567

وقال النوويّ رحمه الله: وأما المنديل فبكسر الميم، وهو معروف، وقال ابن فارس: لعله مأخوذ من النَّدْل، وهو النقل، وقال غيره: هو مأخوذ من النَّدْل، وهو الوسخ؛ لأنه يُنْدَلُ به، ويقال: تندلت بالمنديل، قال الجوهريّ: ويقال أيضًا: تمندلت به، وأنكرها الكسائيّ. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": "الْمِنْدِيلُ" مذكرٌ، قاله ابن الأنباريّ وجماعة، ولا يجوز تأنيثه؛ لعدم العلامة في التصغير والجمع، فإنه لا يقال: مُنَيدِلةٌ، ولا مُنَيدلاتٌ، ولا يوصف بالمؤنّث، فلا يقال: مِنْديل حسنةٌ، فإن ذلك كلّه يدلّ على تأنيث الاسم، فإذا فقدت علامة التأنيث مع كونها طارئةً على الاسم، تعيّن التذكير الذي هو الأصل، ويقال: هو مشتقّ من نَدَلْتُ الشيءَ نَدْلًا، من باب قَتَلَ: إذا جذبته، أو أخرجته ونقلته. انتهى

(2)

.

(فَرَدَّهُ) أي المنديل، وفي رواية عبد الله بن إدريس الآتية:"أُتي بمنديل، فلم يسمّه، وجَعَلَ يقول بالماء هكذا" يعني ينفضه، كذا في رواية للنسائيّ:"ثم أتيته بخرقة، فلم يُرِدها"، بضم الياء، من الإرادة، ولأبي داود:"فلم يأخذه"، وفي رواية للبخاريّ:"فناولته الخرقة، فقال بيده هكذا، ولم يُرِدها"، وفيه عدم استعمال المنديل في التنشيف، وفيه أقوال للعلماء سيأتي تحقيقها في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[8/ 728 و 729 و 730](317)، و (البخاريّ) في "الغسل"(249 و 257 و 259 و 260 و 265 و 266 و 274 و 276 و 281)، و (أبو داود) في "الطهارة"(245)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 232.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 598.

ص: 568

(103)

، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 137 و 200 و 204)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(998)، و (الحميديّ) في "مسنده"(316)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 61)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 62 - 63)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 329 و 330 و 335 و 336)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1190)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 180)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(97 و 105)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 174 و 177 و 184 و 185 و 197)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1023 و 1024 و 1025 و 1026 و 1027)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(248)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(864 و 865 و 866)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(712 و 713 و 714 و 715)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة خدمة الزوجة لزوجها؛ لأن هذا من المعروف الذي أثبته الله على النساء، كما أثبت لهنّ، بقوله عز وجل:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

2 -

(ومنها): استحباب تجهيز المغتسل الإناء الذي فيه ماء الاغتسال ليغتسل منه.

3 -

(ومنها): استحباب تقديم غسل الكفّين على غسل الفرج، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في أبواب الوضوء.

4 -

(ومنها): استحباب الصبّ باليمين على الشمال لغسل الفرج بها.

5 -

(ومنها): استحباب ضرب الأرض باليد بعد الفراغ من غسل الفرج، ودلكها دلكًا شديدًا؛ ليذهب ما تبقّى من الرائحة الكريهة، قال النوويّ رحمه الله: يستحبّ للمتنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بتراب، أو أشنان، أو يدلكها بالتراب، أو بالحائط؛ ليذهب الاستقذار منها. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): استحباب تقديم الوضوء للصلاة على الغسل، وهو مستحبّ

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 231.

ص: 569

عند الجمهور، وأوجبه أبو ثور، وداود الظاهريّ، والأرجح مذهب الجمهور؛ لأنه لا دليل على إيجابه؛ إلا مجرّد فعله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل الاستحباب، لا الإيجاب.

7 -

(ومنها): استحباب البدء بغسل الرأس قبل سائر الجسد، ولعلّ الحكمة فيه كونها أكثر شعثًا من بقيّة البدن.

8 -

(ومنها): إفراغ ثلاث حَفَنات على الرأس قبل تعميم الجسد بالغسل.

9 -

(ومنها): استيعاب جميع الجسد بالغسل، بحيث لا يبقى منه شيء.

10 -

(ومنها): تأخير غسل الرجلين عن الوضوء والغسل، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

11 -

(ومنها): أن الواجب في غسل الجنابة مرّةً واحدةً، وأن من توضّأ بنية الغسل، وأكمل باقي أعضاء بدنه لا يُشرع له تجديد الوضوء من غير حدث.

12 -

(ومنها): القيام من محل الاغتسال إلى محلّ آخر لغسل الرجلين، وهذا محمول على ما إذا كان المغتسل في محلّ تجتمع فيه الغسالات، فيصيب قدميه منها الأوساخ، فيحتاج إلى إزالة ذلك في محل آخر.

13 -

(ومنها): جواز تأخير غسل الرجلين عن غسل الجسد، وقد اختُلف فيه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

14 -

(ومنها): عدم استعمال المنديل في التنشيف من الغسل والوضوء، وقد اختُلف فيه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

15 -

(ومنها): أن فيه جواز نفض اليد بعد الوضوء والغسل، وأنه لا بأس به، قال النوويّ رحمه الله: وقد اختلف أصحابنا فيه على أوجه: أشهرها أن المستحب تركه، ولا يقال: إنه مكروه، والثاني: أنه مكروه، والثالث: أنه مباحٌ، يستوي فعله وتركه، وهذا هو الأظهر المختار، فقد جاء هذا الحديث الصحيح في الإباحة، ولم يثبت في النهي شيء أصلًا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 570

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تأخير غسل الرجلين عن غسل الجسد:

(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى استحباب التأخير، وذهبت الحنفيّة إلى أن الأفضل إكمال الوضوء أوّلًا، إن كان يغتسل في محل لا يجتمع فيه الماء، وتأخير غسل القدمين إن كان يغتسل في نحو طست، وعن مالك إن كان المكان غير نظيف، فالمستحبّ تأخير غسلهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعيّ في الأفضل قولان: أصحّهما، وأشهرهما أنه يكمل وضوءه لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال الحافظ رحمه الله: وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية:"توضّأ وضوءه للصلاة"، أو ظاهرة في تأخيرهما، كرواية أبي معاوية، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو صريحة في تأخيرهما، كحديث الباب - يعني حديث البخاريّ - وراويه مقدّمٌ في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش - يعني سفيان الثوريّ -.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن قول النوويّ: لأن أكثر الروايات كذلك محلّ نظر، فتأمله، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: وقول من قال: إنما فعل ذلك لبيان الجواز معقّبٌ، فإن في رواية أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش ما يدلّ على المواظبة، ولفظه:"كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ، فيغسل يديه"، فذكر الحديث، وفي آخره:"ثم يتنحّى، فيغسل رجليه"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصّل مما سبق أن أرجح الأقوال قول من قال بتأخير غسل الرجلين مطلقًا؛ لوضوح أدلّته، وقد قيل في حكمة ذلك أن يحصُل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب

(1)

"الفتح" 1/ 431.

(2)

"المفهم" 1/ 577.

ص: 571

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في التنشيف بعد الوضوء والغسل:

قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في التمسح بالمنديل بعد الوضوء والاغتسال، فممن رَوَينا عنه أخذ المنديل بعد الوضوء: عثمان بن عفان، والحسين بن عليّ، وأنس بن مالك، وبشير بن أبي مسعود، ورَخَّص فيه الحسن، ومحمد بن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك بن مُزاحِم، وكان مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، وأحمد، وأصحاب الرأي لا يرون به بأسًا.

وفيه قول ثان، رَوَينا عن جابر بن عبد الله، أنه قال: إذا توضأت فلا تَمَنْدَل، وكَرِهَ ذلك عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم النخعيّ، ومجاهد، وابن المسيِّب، وأبو العالية.

واختُلِف فيه عن سعيد بن جبير، ورَوَينا عن ابن عباس أنه كَرِهَ أن يُمسَح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه إذا اغتَسَل من الجنابة، وكان سفيان يُرَخِّص فيهما جميعًا، الوضوءِ والاغتسالِ.

قال ابن المنذر رحمه الله: أعلى شيء رُوِي في هذا الباب خبران: خبر يدُلّ على إباحة أخذ الثوب يُنَشَّف به، والخبر الآخر يدُلّ على ترك ذلك، ثم أخرج بسنده عن قيس بن سعد رضي الله عنه، قال: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضعنا له غُسلًا، فاغتسل، ثم أتيناه بِمِلْحَفةٍ وَرْسِيّةٍ، فالتَحَفَ بها، فكأنّي أنظر إلى أثر الْوَرْس على عُكَنِهِ

(1)

.

ثم أخرج الخبر الثاني، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها المذكور هنا، ثم قال: وهذا الخبر لا يوجب حَظْرَ ذلك، ولا المنع منه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه، مع أنه قد كان يَدَعُ الشيء المباح؛ لئلا يَشُقّ على أمته، من ذلك قوله لبني عبد المطلب:"لولا أن تُغْلَبُوا على سقايتكم لنزعت معكم"، رواه مسلم،

(1)

"العُكَن بضم، ففتح: جمع عُكْنة، وهي الأطواء في بطن المرأة من السِّمَن، وتَعَكّن الشيءُ: إذا تراكم بعضه على بعض. انتهى. "المجموع شرح المهذّب" 1/ 460.

ص: 572

ودخل الكعبة، وقال بعد دخوله:"لوددت أني لم أكن دخلتها، أخشى أن أكون أتعبت أمتي"

(1)

.

وحديثُ قيس بن سعد يدُلّ على إباحة ذلك، فأخذ المنديل مباح بعد الوضوء والاغتسال.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث قيس المذكور أخرجه أبو داود، بسند رجاله رجال الصحيح، وإنما اختلفوا في وصله هارساله، كما قال أبو داود، فقد أرسله عمر بن عبد الواحد، وابن سماعة، عن الأوزاعيّ، ووصله الوليد بن مسلم، وهو ثقة حافظ، وقد صرّح فيه بالتحديث، فزال عنه تهمة التدليس، فالظاهر أن وصله زيادة ثقة مقبولة.

وقال النوويّ في "شرحه": وقد اختلف علماء أصحابنا في تنشيف الأعضاء في الوضوء والغسل، على خمسة أوجه:

أشهرها أن المستحب تركه، ولا يقال: فعله مكروه.

والثاني أنه مكروه.

والثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه، وهذا هو الذي نختاره، فإن المنع والاستحباب يحتاج إلى دليل ظاهر.

والرابع: أنه مستحب؛ لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ.

والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء، هذا ما ذكره أصحابنا.

وقد اختلف الصحابة وغيرهم في التنشيف على ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه لا بأس به في الوضوء والغسل، وهو قول أنس بن مالك، والثوريّ.

والثاني: مكروه فيهما، وهو قول ابن عمر، وابن أبي ليلى.

والثالث: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.

(1)

حديث صحيح، رواه الترمذيّ (2/ 96)، وابن ماجه (2/ 1018).

ص: 573

وقد جاء في ترك التنشيف هذا الحديث، والحديث الآخر في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم اغتَسَل، وخرج ورأسه يقطر ماء.

وأما فعل التنشيف فقد رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم من أوجه، لكن أسانيدها ضعيفة، قال الترمذيّ: لا يصح في هذا الباب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء.

وقد احتَجّ بعض العلماء على إباحة التنشيف بقول ميمونة رضي الله عنها في هذا الحديث: "وجَعَل يقول بالماء هكذا" يعني ينفضه، قال: فإذا كان النفض مباحًا، كان التنشيف مثله، أو أولى لاشتراكهما في إزالة الماء، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح الأقوال جواز استعمال المنديل؛ لقوّة حجته؛ فقد دلّ حديث الباب على أنه صلى الله عليه وسلم نفض الماء، وكذلك حديث قيس بن سعد المذكور.

ومن أوضح الأدلّة أيضًا ما أخرجه ابن ماجه من حديث سلمان رضي الله عنه بإسناد حسن: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضّأ، فقلب جُبّة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه"

(1)

.

وأما أحاديث النهي، فلا يثبُت منها شيء، كما سبق في قول الترمذيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم تفريق غسل الأعضاء في الوضوء والغسل:

(اعلم): أن البخاريّ رحمه الله احتجّ في "صحيحه" بهذا الحديث على جواز تفريق الغسل والوضوء، فقال:"باب تفريق الغسل، والوضوء"، ثم قال: ويُذكَرُ عن ابن عمر أنه غَسَلَ قدميه بعدما جفّ وضوءه. انتهى.

قال في "الفتح" ما حاصله: أراد به جواز ذلك، وهو قول الشافعي في الجديد، واحتَجَّ له بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أَتَى

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه ابن ماجه برقم (468).

(2)

راجع أيضًا: "التلخيص الحبير" 1/ 171 - 172.

ص: 574

بما وجب عليه فَرَّقها، أو نَسّقَها، ثم أَيَّد ذلك بفعل ابن عمر، وبذلك قال ابن المسيِّب، وعطاء، وجماعة، وقال ربيعة، ومالك: مَن تَعَمَّد ذلك، فعليه الإعادة، ومَن نَسِي فلا، وعن مالك: إن قَرُب التفريق بَنَى، وإن طال أعاد، وقال قتادة، والأوزاعيّ: لا يعيد إلا إن جَفّ، وأجازه النخعيّ، مطلقًا في الغسل دون الوضوء، ذَكَر جميع ذلك ابن المنذر، وقال: ليس مع مَن جَعَل الجفاف حدًّا لذلك حجة، وقال الطحاويّ: الجفاف ليس بحدث، فينقضَ، كما لو جَفَّ جميع أعضاء الوضوء لم تبطل الطهارة. انتهى.

وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في تفريق الوضوء والغسل، فقالت طائفة: لا يجوز ذلك حتى يَتْبَع بعضه بعضًا، روينا عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلًا يصلي، وقد ترك مثل موضع الظفر، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، وكان قتادة، والأوزاعيّ يقولان: إذا ترك غسل عضو من الأعضاء حتى جَفّ الوضوء أعاد الوضوء، وكان ربيعة يقول: تفريق الغسل مما يكره، وإنه لا يكون غسلًا حتى يتبع بعضه بعضًا.

وقال مالك: من تعمَّد ذلك، فإني أرى عليه أن يعيد الغسل، وقال الليث بن سعد كذلك، مع أن قول مالك مختلف في هذا الباب.

وقد حَكَى ابن القاسم عنه أنه قال: إن قام لأخذ الماء، وكان قريبًا بنى على وضوئه، وإن تطاول ذلك وتباعد، فأرى أن يعيد الوضوء من أوله.

وقال أحمد: إذا جَفّ وضوؤه يعيد، وذكر حديث عمر.

وأجازت طائفة تفريق الوضوء والغسل، ثَبَت أن ابن عمر توضأ بالسوق، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه، ثم دُعِي لجنازة، فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها.

وكان عطاء لا يرى بتفريق الوضوء بأسًا، وأباح ذلك النخعيّ في الغسل، وكان الحسن، والنخعيّ لا يريان بأسًا للجنب أن يغسل رأسه، ثم يؤخّر غسل جسده بعد ذلك، ورُوي معنى ذلك عن سعيد بن المسيِّب، وطاوس، وهذا على مذهب الثوريّ، وممن رأى ذلك جائزًا الشافعيّ، وأصحاب الرأي.

ص: 575

قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الله جل ذكره أوجب في كتابه غسل الأعضاء، فمن أتى بغسلها، فقد أتى بالذي عليه، فَرَّقها أو أتى بها نَسقًا متتابعًا، وليس لِمَن جَعَل حدَّ ذلك الجفوفَ حجةٌ، وذلك يختلف في الشتاء والصيف. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن تفريق الغسل والوضوء جائزٌ؛ لما ذُكِرَ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[729]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَبَّاح، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَالْأَشَجُّ، وَإسْحَاقُ، كُلُّهُمْ عَنْ وَكِيعٍ (ح)، وَحَدَّثنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدثنا

(2)

أَبُو مُعَاوِيةَ، كِلَاهُمَاَ عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَيْسَ فِي حَدِيثَهِمَا إِفْرَاغُ ثَلَاثِ حَفَنَاتٍ عَلَى الرَّأْس، وَفي حَدِيثِ وَكِيعٍ وَصْفُ الْوُضُوءِ كُلِّه، فَذَكَرَ الْمَضْمَضَةَ

(3)

، وَالاسْتِنْشَاقَ فِيه، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ ذِكْرُ الْمِنْدِيلِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 27.

2 -

(الْأَشَجُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17، من مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، كأبي كريب، وجملتهم تسعة، كما مرّ غير مرة.

3 -

(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم بن مَخْلَد الحنظليّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبتٌ حجة إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

(1)

الأوسط 1/ 419 - 420

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

هكذا في بعض النسخ، ووقع في بعضها:"يذكُرُ المضمضة إلخ".

ص: 576

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ وَكِيعٍ)، أي كلّ هؤلاء الأربعة: محمد بن الصبّاح، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، والأشجّ، وإسحاق، رووا عن وكيع بن الجرّاح.

[تنبيه]: قوله: (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى إلخ). قال الحافظ أبو عليّ الغسانيّ الجيّانيّ رحمه الله في "تقييده" بعد سوق هذه الأسانيد ما نصّه: هكذا رويتْ هذه الأسانيد على الصواب، وفي نسخة أبي عبد الله بن الحذّاء:"نا يحيى بن أيوب، وأبو كريب، قالا: نا أبو معاوية"، هكذا عنده:"نا يحيى بن أيوب"، والصواب ما تقدّم:"نا يحيى بن يحيى، وأبو كريب"، وكذلك في نسخة أبي زكريّا، عن ابن ماهان. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ) ضمير التثنية ليحيى، وأبي كريب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) الضمير لوكيع، وأبي معاوية، يعني أن وكيعًا، وأبا معاوية رويا هذا الحديث عن الأعمش، بإسناده السابق، وهو: عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عبّاس، عن ميمونة رضي الله عنهم.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا إلخ) يعني أنه ليس في حديث وكيع، وأبي معاوية ذكر إفراغ ثلاث حَفَنات على رأسه، كما ذكره عيسى بن يوننس في روايته السابقة.

وقوله: (فَذْكَرَ الْمَضْمَضَةَ إلخ)، وفي بعض النسخ:"يَذكُرُ المضمضة إلخ" بصيغة المضارع.

[تنبيه]: رواية وكيع التي أحالها هنا أخرجها أبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم"(1/ 368) فقال:

(714)

حدثنا أبو عليّ، محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، ثنا محمد بن الصباح (ح)، وحدثنا عبد الله بن يحيى الطَّلْحيّ، ثنا

(1)

"تقييد المهمل، وتمييز المشكل" 3/ 793 - 794.

ص: 577

عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، ثنا ابن عباس، عن خالته ميمونة، قالت: وَضَعت للنبيّ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا، فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بشماله على يمنيه، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم أفاض على فرجه فغسله، ثم مال بيده على الحائط، أو على الأرض، فدَلَكها، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تَنَحَّى، فغسل رجليه، قال: فأتيته بثوب، فرمى به، وجعل يقول بالماء هكذا، يعني ينفضه، وقال محمد بن الصباح: ثم أتيته بثوب، فقال بيده هكذا، ونفض وكيع بيده، وكأنه يقول: لا، لفظ الحلوانيّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر قوله: "وكأنه يقول: لا" يقتضي أن النفض للثوب، لا للماء، يعني أنه قال: لا أريد الثوب، لكن الرواية السابقة بلفظ:"وجعل يقول بالماء هكذا، يعني ينفضه"، ظاهرة في أن النفض للماء، لكن لا يبعد أن يراد المعنيان، فكأنه نفض الماء بيده، مع إشارته إلى ردّ الثوب، والله تعالى أعلم.

وأما رواية أبي معاوية، فأخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 299)، فقال:

(865)

- وحدثنا علي بن حرب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث، قالت: وَضَعتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسْلًا، فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بيمينه على يساره، فغَسَل كفيه، ثم أدخل يده في الإناء، فأفاض على فرجه، ثم دَلَك يده على الأرض، أو بالحائط، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض الماء على رأسه ثلاثًا، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحى، فغسل رجليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

ص: 578

[730]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَمَسَّهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ بِالْمَاءِ هَكَذَا

(1)

، يَعْني يَنْفُضُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ) بالبناء للمفعول، والآتي به هي ميمونة نفسها رضي الله عنها.

وقوله: (فَلَمْ يَمَسَّهُ) - بفتح الميم، وفي لغة بضمها - قال الفيّوميّ رحمه الله: مَسِسْتُهُ، من باب تَعِبَ، وفي لغة مَسَسْتُهُ مَسًّا، من باب قَتَلَ: أفضيتُ إليه بيدي من غير حائل، هكذا قيّدوه، والاسم الْمَسِيسُ، مثلُ كريم، وماسّها مُمَاسّةً كذلك، ومَسّت الحاجة إلى كذا ألجأت إليه، وماسّه مُماسّةً، ومِسَاسًا، من باب قاتل، بمعنى مَسّه، وتماسّا: مَسَّ كلُّ واحد منهما الآخَرَ، ومَسَّ الماءُ الجسدَ مَسًّا: أصابه، ويتعدّى إلى ثانٍ بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مَسِسْتُ الجسدَ بماءٍ، وأمسستُ الجسدَ ماءً. انتهى.

وقوله: (وَجَعَلَ)، أي شَرَع، وأَخَذَ، وهي من أفعال الشروع التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، من أخوات كاد، ويكون خبرها فعلًا مضارعًا غير مقرون بـ "أن"، كما قال في "الخلاصة":

......................

وَتَرْكُ "أَنْ" مَعْ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ

كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

وقوله: (يَقُولُ بِالْمَاءِ) فيه إطلاق القول على النفض، كما فسّره هنا، وقد كثر إطلاق القول على معان كثيرة، جمعتها بقولي:

تَجِيءُ "قَالَ" لِمَعَانٍ تُجْتَلَى

تَكَلَّمَ اسْتَرَاحَ مَاتَ أَقْبَلَا

(1)

وفي نسخة: "هكذا وهكذا" مكرّرًا.

ص: 579

وَمَالَ مَعْ ضَرَبَ ثُمَّ غَلَبَا

وَللتَّهَيُّؤِ لِفِعْلٍ يُجْتَبَى

فَجُمْلَةُ الْمَعَانِ قُلْ ثَمَانِيَهْ

فَاحْفَظْ فَإنَّهَا مَعَانٍ سَامِيَهْ

(1)

وقوله: (هَكَذَا) وفي نسخة: "هكذا هكذا" مكرّرًا.

(يَعْني يَنْفُضُهُ) تفسير لقولها: "هكذا"، من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي.

وقال في "الفتح": واستَدَلّ بعضهم بقولها: "فناولته ثوبًا، فلم يأخذه" على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حالٍ يَتَطَرّق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلًا، أو غير ذلك، قال المهلَّب: يَحْتَمِل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب، من حرير، أو وسخ.

وقد وقع عند أحمد، والإسماعيليّ من رواية أبي عوانة في هذا الحديث، عن الأعمش، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعيّ، فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما ردَّه مخافةَ أن يصير عادةً.

وقال التيميّ في "شرحه": في هذا الحديث دليل على أنه كان يَتَنَشَّف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل.

وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشيف؛ لأن كلًّا منهما إزالة. انتهى

(2)

، وقد تقدّم تمام هذا البحث قريبًا، فارجع إليه، تستفد علمًا جَمّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء السابع من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله

(1)

راجع: "إسعاف ذوي الوطر" شرحي على "ألفية الحديث" للسيوطيّ: 2/ 88.

(2)

"الفتح" 1/ 432 - 433.

ص: 580

تعالى بعد صلاة المغرب ليلة الخميس المبارك 16/ 12/ 1425 هـ الموافق 27/ يناير/2005 م.

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثامن مفتتحًا بـ (9) - (بَابُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الْمُسْتَحَبِّ فِي غُسْلِ الْجَنَابَة، وَجَوَازِ غَسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَغَسْلِ أَحَدِهِمَا بِفَضْلِ الآخَرِ) رقم الحديث [731](318).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 581