المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الخميس 16/ 12/ 1425 هـ أول - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٨

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الخميس 16/ 12/ 1425 هـ أول الجزء الثامن من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(9) - (بَابُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الْمُسْتَحَبِّ فِي غُسْلِ الْجَنَابَة، وَجَوَازِ غَسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَغَسْلِ أَحَدِهِمَا بِفَضْلِ الآخَرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[731]

(318) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنِ الْقَاسِم، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَة، دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوِ الْحِلَابٍ، فَأَخَذَ بِكَفِّه، بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَن، ثُمَّ الْأَيْسَر، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْه، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ)

(2)

أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد الشيبانيّ النبيل

(3)

البصريّ،

(1)

هذا الحديث جعله الشرّاح في الباب الماضي، ورأيت جعله هنا أولى، كما لا يخفى على اللبيب، وقد ذكره الحميديّ كذلك في الكلام على غريب "الصحيحين"، كما نقله عنه في:"الفتح"، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم.

(2)

"العَنَزيّ" بفتح العين والنون، وبالزاي: نسبة إلى قبيلة.

(3)

قال في: "عمدة القاري"(3/ 304): لُقِّب بالنبيل؛ لأن شعبة حَلَف أنه لا يحدث شهرًا، فبلغ ذلك أبا عاصم، فقصده، فدخل مجلسه، فقال: حَدِّث وغلامي العطار =

ص: 5

ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 129.

3 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) واسمه الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

4 -

(الْقَاسِمُ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

5 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت سنة (57) على الأصحّ، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أن القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة النبويّة، وقد تقدّم غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ)، أي أراد أن يغتسل، كما بيّنته رواية الإسماعيليّ (مِنَ الْجَنَابَةِ)، أي بسببها، فـ "من" سببيّة، كما تقدّم (دَعَا)، أي طلب (بِشَيْءٍ نَحْوِ الْحِلَاب) بجرّ "نحوِ" على أنه صفة لـ "شيء"، و"الْحِلاب" - بكسر الحاء، وتخفيف اللام، وآخره باء موحّدة - وهو: إناء يُحلَب فيه، ويقال له: الْمِحْلَب أيضًا بكسر الميم، قال الخطّابيّ: هو إناء يسع قدر حَلْبة ناقة، وهذا هو المشهور الصحيح المعروف في الرواية،

= حرٌّ عن كفارة يمينك، فأعجبه ذلك، وقال: أبو عاصم النبيل، فلُقِّب به، وقيل لغير ذلك. انتهى.

ص: 6

وذَكَر الهرويّ، عن الأزهريّ أنه الْجُلَّابُ - بضمّ الجيم، وتشديد اللام - قال الأزهريّ: وأراد به ماء الورد، وهو فارسيّ مُعَرَّبٌ، وأنكر الهرويّ هذا، وقال: أراه الْحِلَابَ، وذكر نحو ما قدّمناه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "نحوِ الْحِلاب": أي إناء قريب من الإناء الذي يُسَمَّى الْحِلاب، وقد وصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عنه، وفي رواية لابن حبان: وأشار أبو عاصم بكفيه فكأنه حلّق بشبريه، يصف به دوره الأعلى، وفي رواية للبيهقيّ:"كقدر كُوز يسع ثمانية أرطال". انتهى.

(فَأَخَذَ بكَفِّهِ) بالإفراد (بَدَأَ بِشِقِّ) بكسر الشين المعجمة: أي جانب (رَأْسِهِ الأيَمَن، ثُمَّ) ثَنَّى بشقّه (الْأَيْسَر، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ) بالتثنية، (فَقَالَ بِهِمَا)، أي قلب الماء الذي في الكفّين، ففيه اطلاق القول على الفعل، قال في "العمدة": والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتُطلقه أيضًا على غير الكلام، فتقول: قال بيده: أي أخذ، وقال برجله: أي مَشَى، قال الشاعر [من الطويل]:

وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً

أي أومأت، وجاء في حديث آخر:"فقال بثوبه": أي دفعه، وكلُّ ذلك على المجاز والاتساع. انتهى، وقد تقدّم نظم معاني "قال" قريبًا، فلا تغفل.

(عَلَى رَأْسِهِ)، وفي رواية البخاريّ:"فقال بهما على وسط رأسه" - بفتح السين -.

[تنبيه]: قال الجوهريّ رحمه الله: "الْوَسْطُ" بالسكون: ظرفٌ، وبالحركة اسمٌ، وكل موضع صلح فيه "بَيْن" فهو بالسكون، وإن لم يصلح فيه، فهو بالتحريك، وقال الْمُطَرّزيّ: سمعت ثعلبًا يقول: استنبطنا من هذا الباب أن كل ما كان أجزاء ينفصل قلت فيه وَسْطٌ بالتسكين، وما كان لا ينفصل، ولا يتفرق، قلت بالتحريك، تقول من الأول: اجعل هذه الْخَرَزة وَسْط السُّبْحة، وانظم هذه الياقوتة وَسْط القِلادة، وتقول أيضا منه: لا تقعد وَسْط الحلقة، ووَسْط القوم، هذا كله يتجزأ، ويتفرق، وينفصل، فيقال فيه بالتسكين، وتقول في القسم

(1)

"شرح النوويّ" 3/ 233.

ص: 7

الثاني: احتَجَم وَسَط رأسه، وقَعَد وَسَطَ الدار، وقس على هذا، وفي "الواعي" لأبي محمد: قال الفراء: سمعت يونس يقول: وَسَطٌ، وَوَسْطٌ بمعنًى، وفي "المخصص" عن الفارسيّ: سَوَّى بعضُ الكوفيين بين وَسْطٍ ووَسَطٍ، فقال: هما ظرفان، واسمان، ذكره العينيّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه آخر]: ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" لهذا الحديث بقوله: "باب من بدأ بالحِلاب، أو الطيب عند الغسل"، ثم أورده عن شيخ المصنّف بسنده، فاختلف الشرّاح في شرح كلامه اختلافًا كثيرًا، فإن أردت أن ترى العجب، فراجع "فتح الباري"(1/ 440 - 442)، و"عمدة القاري"(3/ 302 - 305)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 731](318)، و (البخاريّ) في "الغسل"(258)، و (أبو داود) في "الطهارة"(240)، و (النسائيّ) في "الغسل"(1/ 206)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(245)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1191 و 1196 و 1197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 184)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(854)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(716) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قدر الماء الذي يُستحبّ الاغتسال به، وهو ما كان بمقدار الحلاب، أي الإناء الذي يسع حَلَب الناقة، وقد بيّنه في رواية البيهقيّ (1/ 184)، ولفظه:"كان يغتسل في حِلاب قدرِ هذا، وأرانا أبو عاصم قدر الْحِلاب، فإذا هو كقدر كُوز يسع ثمانية أرطال". انتهى.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 305.

ص: 8

2 -

(ومنها): بيان أن المغتسل يُستَحَبّ له أن يُجَهِّز الإناء الذي فيه الماء؛ ليغتسل منه.

3 -

(ومنها): استحباب البدء بغسل الرأس أوّلًا؛ ولعله لكونه أكثر شَعَثًا من سائر البدن.

4 -

(ومنها): بيان استحباب البدء بشقه الأيمن، ثم بالشق الأيسر، ثم الصبّ على وسط رأسه.

5 -

(ومنها): أن المالكيّة استدلّوا به على أن وضوء الغسل لا يُمسح فيه الرأس، بل يُكتفى عنه بغسله، وهو الظاهر، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): بيان طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهّر.

7 -

(ومنها): أنه يُستَنبَط من قولها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مداومته على ذلك؛ لأن لفظة "كان" تدلّ على الاستمرار والدوام غالبًا.

8 -

(ومنها): بيان ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من شدّة العناية في حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغها للناس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[732]

(319) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ، هُوَ الْفَرَقُ، مِنَ الْجَنَابَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ إمام [7](ت 179)(ع)، تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

2 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

ص: 9

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما روى عنه أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء، فكلّ رواته مشهور بالفقه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عروة.

6 -

(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، روى عن خالته عائشة رضي الله عنها، وهي من المكثرين السبعة.

وقولها: (مِنْ إِنَاءٍ)"من" للابتداء، وفي الكلام مضاف محذوفٌ، أي كان يغتسل من ماء إناء.

وقوله: (هُوَ الْفَرَقُ) بفتح الفاء والراء، وإسكانها لغة، كما يأتي وهو ثلاثة آصع، كما يأتي بيانه.

وقوله: (مِنَ الْجَنَابَةِ) الجار والمجرور متعلّقٌ بـ "يغتسل"، بيّنت به أن ذلك الغسل كان من الجنابة، لا أنه من الأغسال المسنونة، وتمام شرح الحديث يأتي في الذي يليه، وإنما أخرته إليه لكون ذاك مطوّلًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[733]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح)، وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ فِي الْقَدْح، وَهُوَ الْفَرَقُ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ"، وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:"مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ"، قَالَ قُتَيْبَةُ: قَالَ سُفْيَانُ: وَالْفَرَقُ، ثَلَاَثَةُ آصُعٍ).

ص: 10

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر المصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم قبل باب.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وفي السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ستة من الشيوخ جمع بين أربعة منهم لاتّفاق كيفيّة تحمّلهم وهي السماع من لفظ شيخهم سفيان بن عيينة، ولذا قالوا: حدّثنا سفيان، وفرّق بين اثنين بالتحويل، لاختلاف كيفيّة تحمّلهما، بالقراءة والسماع، فقتيبة سمع مع غيره، من لفظ شيخ الليث، ولذا قال: حدّثنا، ومحمد بن رمح، مع قراءة من يقرأ عليه، ولذا قال: أخبرنا، وبقيّة اللطائف ذُكرت في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ) بن الزبير، قال في "الفتح": كذا رواه أكثر أصحاب الزهريّ، وخالفهم إبراهيم بن سعد، فرواه عنه، عن القاسم بن محمد، أخرجه النسائيّ، ورجّح أبو زرعة الأول، وَيَحْتَمِل أن يكون للزهريّ شيخان، فإن الحديث محفوظ عن عروة، والقاسم، من طُرُق أخرى. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ فِي الْقَدَحِ). قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول، وهو صحيحٌ، ومعناه: من القَدَح. انتهى

(2)

. أشار به إلى أن "في" فيه بمعنى "من"، أي الماء الذي في القَدَح، وفي رواية البخاريّ:"من إناء واحد، من قَدَحٍ"، فـ "من" الأولى ابتدائيّة، والثانية بيانيّة، وقال الكرمانيّ: الأولى أن يكون "قَدَح" بدلًا من "إناء" بتكرار حرف الجرّ في البدل.

(1)

"الفتح" 1/ 433.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 3.

ص: 11

و"الْقَدَحُ" بفتحتين: واحد الأَقْدَاح، مثلُ سَبَب وأسباب، وهو إناء يُرْوي الرجلين، وليس له حدّ، وقيل: هو اسم يجمع صغارها وكبارها، ومُتّخذها قَدّاح، وصِناعته قِدَاحة

(1)

، وفسّرته عائشة رضي الله عنها هنا بقولها:(وَهُوَ الْفَرَقُ)، وعند البخاريّ من رواية ابن أبي ذئب:"يقال له: الفرق"، ولأبي داود الطيالسيّ من روايته:"وذلك الْقَدَحُ، يُدْعَى الْفَرَقَ".

قال ابن التين رحمه الله: "الْفَرْقُ" بتسكين الراء، ورَوَيناه بفتحها، وجَوَّز بعضهم الأمرين، وقال الْقُتيبيّ وغيره: هو بالفتح، وقال النوويّ: الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجيّ أنه الصواب، قال: وليس كما قال، بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مُستَنَد الباجيّ ما حكاه الأزهريّ، عن ثعلب وغيره:"الْفَرَقُ" بالفتح، والمحدثون يُسَكّنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى.

وقد حَكَى الإسكان أبو زيد، وابن دُريد، وغيرهما، من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو الفتح، والله أعلم.

وحَكَى ابن الأثير رحمه الله: "الْفَرَقُ" بالتحريك: مكيالٌ يَسَعُ ستة عشر رِطْلًا، وهو اثنا عشر مُدًّا، أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الْفَرَق خمسة أَقْساط، والْقِسْطُ: نصف صاع، فأما الْفَرْقُ بالسكون، فمائة وعشرون رطلًا. انتهى

(2)

، قال في "الفتح": وهو غريب

(3)

.

(وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَهُوَ)، أي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أبرز الضمير لأجل عطف المظهر على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وفي رواية البخاريّ: "كنت أغتسل أنا والنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الطيبيّ رحمه الله: أبرز الضمير؛ ليعطف عليه المظهر.

(1)

راجع: "القاموس" ص 214، و" المصباح" 2/ 491.

(2)

"النهاية" 3/ 437.

(3)

"الفتح" 1/ 433.

ص: 12

[فإن قلت]: كيف يستقيم العطف؛ إذ لا يقال: أغتسل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

[قلت]: هو على تغليب المتكلّم على الغائب، كما غُلِّب المخاطب على الغائب في قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، عطف {زَوْجُكَ} على {أَنْتَ} .

[فإن قلت]: الفائدة في تغليب {اسْكُنْ} هي أن آدم عليه السلام كان أصلًا في سُكنى الجنّة، وحوّاءُ عليها السلام تابعةٌ له، فما الفائدة فيما نحن فيه؟.

[قلت]: الإيذان بأن النساء محلّ الشهوات، وحاملات للاغتسال، فكُنّ أصلًا فيه. انتهى

(1)

.

(فِي الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ")، أي من الإناء الواحد، فـ "في" بمعنى "من"، كما بيّنته رواية سفيان، قال ابن التين: كان هذا الإناء من شَبَهٍ، وهو بفتح المعجمة والموحدة، وهو نوع من النحاس، قاله في "العمدة"

(2)

، وقال في "الفتح": وكأن مُستند ابن التين ما رواه الحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ولفظه:"تَوْر مِن شَبَهٍ". انتهى

(3)

.

(وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ) بن عيينة (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ)، أي بدل قول الليث:"في الإناء الواحد". (قَالَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد: (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة: (وَالْفَرَقُ) تقدّم ضبطه بفتح الفاء، وفتح الراء، وإسكانها، وهما لغتان، والفتح أفصح وأشهر، وهو مبتدأ خبره قوله:(ثَلَاثَةُ آصُعٍ) بمدّ الهمزة، وضمّ الصاد المهملة، قال النوويّ رحمه الله: هو صحيح فصيح، وقد جَهِلَ مَن أنكر هذا، وزَعَم أنه لا يجوز إلا أَصْوُع، وهذه منه غفلة بيِّنةٌ، أو جهالة ظاهرةٌ، فإنه يجوز أَصْوُعٌ، وآصُعٌ، فالأول هو الأصل، والثاني على القلب، فتقدم الواو على الصاد، وتُقْلَب ألفًا، وهذا كما قالوا: آدر وشبهه، وفي الصاع لغتان: التذكير والتأنيث، ويقال: صَاعٌ، وصَوَعٌ، بفتح الصاد والواو، وصُوَاعٌ، ثلاث لغات. انتهى

(4)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 812.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 291.

(3)

"الفتح" 1/ 433.

(4)

"شرح النوويّ" 4/ 3.

ص: 13

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "آصُع" يُروى هكذا، ويُروى "أَصْوُع"، وكلاهما صحيح الرواية، وهو جمع صاع، ويقال: صُوَاع، وصُوَّعٌ، وهو جمع قلّة، وأصله أَصْوُعٌ، بواو مضمومة، كدار وأَدْؤُر، غير أن من العرب من يستثقل الضمّة هنا على الواو، فيُبْدلها همزةً، فيقول: أصؤُعٌ، كما يقول: أَدْؤُرٌ، وهو مكيال أهل المدينة المعروف فيهم، وهو يسع أربعة أمداد بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الصاع يُذكّر، ويؤنّث، قال الفرّاء: أهل الحجاز يؤنّثون الصاع، ويَجمعونها في القلّة على أَصْوُعٍ، وفي الكثرة على صِيعانٍ، وبنو أسد، وأهل نَجْد يُذكّرون، ويجمعون على أَصْوَاع، وربّما أنّثها بعض بني أسد، وقال الزجّاج: التذكير أفصح عند العلماء، ونَقَلَ الْمُطَرِّزِيّ، عن الفارسيّ أنه يُجمع أيضًا على آصُعٍ بالقلب، كما قيل: دارٌ وآدُرٌ بالقلب، وهذا الذي نقله جعله أبو حاتم من خطأ العوامّ، وقال ابن الأنباريّ: وليس عندي بخطأ في القياس؛ لأنه وإن كان غير مسموع من العرب، لكنه قياسُ ما نُقِل عنهم، وهو أنهم ينقلون الهمزة من موضع العين إلى موضع الفاء، فيقولون: أَبْآرٌ، وآبارٌ. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الصّاع، والصُوَاع بالكسر، وبالضمّ، والصَّوْعُ، ويُضمّ: الذي يُكال به، وتدور عليه أحكام المسلمين، وقُرئ بهنّ، أو الصّاع غير الصِّوَاع، ويؤنّث، وهو أربعة أمداد، كلُّ مدّ رطلٌ وثُلُثٌ، قال الداوديّ: مِعْيارُه الذي لا يَختَلف، أربع حَفَنَات بكفَّي الرجل الذي ليس بعظيم الكفَّين، ولا صغيرهما؛ إذ ليس كلُّ مكان يوجد فيه صاع النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى. قال المجد: وجرّبتُ ذلك، فوجدته صحيحًا، جمعه أَصْوُعٌ، وأَصْؤُعٌ، وأَصْوَاعٌ، وصُوعٌ بالضمّ، وصِيعان، أو هذا جمع صُوَاع، وهو الجامُ الذي يُشرَب فيه. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 1/ 580 - 581.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 352.

(3)

"القاموس المحيط" ص 666.

ص: 14

وقال في "الفتح" ما حاصله: وأما مقدار الْفَرَق، فقد تبيّن في رواية ابن عيينة حيث قال: الفَرَقُ ثلاثة آصع، قال النوويّ: وكذا قال الجماهير، وقيل: الفَرَق صاعان، لكن نقل أبو عُبيد الاتفاق على أن الفَرَق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلًا، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة، وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بما رُويَ عن مجاهد في حديث عائشة أنه حَزَرَ الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول، فإن الْحَزْر لا يعارض به التحديد، وأيضًا فلم يُصَرِّح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع، فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها.

ويؤيد كون الفرَق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان، من طريق عطاء، عن عائشة، بلفظ:"قدر ستة أَقْسَاط"، والقِسْط بكسر القاف، وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع، والاختلاف بينهم أن الفرَق ستة عشر رطلًا، فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث.

وتوسط بعض الشافعية، فقال: الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيفٌ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 732 و 733](319) و [9/ 734](320) و [9/ 735 و 736 و 737 و 738](321)، و (البخاريّ) في "الغسل"(250 و 261 و 263) و"الحيض"(299)، و (أبو داود) في "الطهارة"(238)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(104)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 127 - 128)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(376)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 44)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 42)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"

(1)

"الفتح" 1/ 433 - 434.

ص: 15

(1027)

، و (الحميديّ) في "مسنده"(159)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 65)(1/ 44)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 127 و 199 و 230)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 191)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(57)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(236)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1108 و 1192 و 1193 و 1194 و 1195 و 1201)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 187 - 188) وفي "المعرفة"(1/ 442)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 52)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(845 و 846 و 847 و 848 و 849 و 850 و 851 و 852 و 853)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(718 و 719 و 720 و 721 و 722 و 723 و 724)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مقدار الماء الذي يستحبّ استعماله في الغسل.

2 -

(ومنها): بيان أن الماء لا تؤثّر فيه الجنابة، لأنها لو كانت تؤثّر فيه لامتنع الاغتسال من الإناء الذي تتقاطر فيه ما لاقى بدن الجنب من ماء اغتساله.

3 -

(ومنها): جواز اشتراك الرجل مع امرأته في الغسل من إناء واحد، ومثله الوضوء، بلا فرق، وأن اغترافهما من الإناء يكون على التعاقب؛ لغلبة صغر أوانيهم، وتعذّر تساويهما في الاغتراف من غير تعاقب.

4 -

(ومنها): جواز تطهّر الرجل بفضل المرأة، وعكسه؛ لتأخّر اغتراف أحدهما عن الآخر في بعض الاغترافات، وفيه خلاف، والأصحّ الجواز، وسيأتي بيانه.

5 -

(ومنها): طهارة فضل الجنب.

6 -

(ومنها): جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته، وعكسه، قاله الداوديّ، قال الحافظ: ويؤيّده ما رواه ابن حبّان من طريق سليمان بن موسى، أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عطاءً، فقال: سألت عائشة، فذكر هذا الحديث بمعناه، وهو نصّ في المسألة. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 434.

ص: 16

7 -

(ومنها): ما نقله ابن الملقّن في "شرح العمدة" عن ابن القطّان الفاسيّ في "أحكام النظر"، قال: سئل مالك، أيجامع الرجل زوجته، وليس بينهما سترٌ؟ قال: نعم، فقيل له: إنهم يرون كراهة ذلك، فقال: قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة يغتسلان عريانين، والجماع أولى بالتجرّد، وقال: لا بأس أن ينظر إلى فرجها في الجماع.

قال ابن الملقّن: وهو المرجّح عندنا. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّها حجةٌ كأقواله، إلا ما كان خُصوصيّة له، ولا تثبت الخصوصيّة إلا بدليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في مقدار الماء الذي يُغتسل به:

(اعلم): أنه قد اختلفت الروايات في هذا الباب، ففي رواية المصنّف، من حديث عائشة رضي الله عنها "كانت تغتسل هي والنبيّ صلى الله عليه وسلم في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد"، وفي رواية:"من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه"، وفي رواية:"فدَعَت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت فيه"، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمسة مكاكيك، ويتوضأ بمكّوك"، وفي حديثه الآخر:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد"، وفي حديث سفينة رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء، ويوضئه المدّ".

وفي رواية البخاريّ: "بنحو من صاع"، وفي لفظ:"من قَدَح، يقال له الفرق".

وفي رواية أبي داود، من حديث عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد"

(2)

، ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ، فأُتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المدّ"

(3)

، وفي روايته عن أنس رضي الله عنه: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين، ويغتسل

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 33.

(2)

حديث صحيح.

(3)

حديث صحيح.

ص: 17

بالصاع"، وفي رواية ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم في "مستدركه"، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي بثلثي مدّ من ماء، فتوضأ، فجَعَل يدلُك ذراعيه"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

قال الجامع عفا الله عنه: الجمع بين هذه الروايات - كما قاله المحقّقون - أنها كانت اغتسالات في أوقات مختلفة، نُقل فيها أكثر ما استعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقلّه، فدلّ على أنه لا حدّ في قدر ماء الطهارة، يجب الوقوف عنده، والله تعالى أعلم.

قال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الروايات: (اعلم): أن اختلاف هذه المقادير، وهذه الأواني يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُراعي مقدارًا مؤقّتًا، ولا إناءً مخصوصًا، لا في الوضوء، ولا في الغسل، وأن كلّ ذلك بحسب الإمكان والحاجة، ألا ترى أنه تارةً اغتسل بالْفَرَق، وأخرى بالصاع، وأخرى بثلاثة أمداد.

والحاصل أن المطلوب إسباغ الوضوء والغسل من غير إسراف في الماء، وأن ذلك بحسب أحوال المغتسلين، وقد ذهب ابنُ شعبان إلى أنه لا يُجزئ في ذلك أقلّ من مدّ في الوضوء، وصاعٍ في الغسل، وحديث الثلاثة أمداد يردّ عليه، والصحيح الأول. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على أن الماء الذي يُجزئ في الوضوء والغسل غير مُقَدَّر، بل يكفي فيه القليل والكثير، إذا وُجد شرط الغسل، وهو جَرَيان الماء على الأعضاء، قال الشافعيّ رحمه الله: وقد يَرْفُق بالقليل، فيكفي، وَيَخْرَقُ

(2)

بالكثير فلا يكفي.

قال العلماء: والمستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مُدّ، والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغداديّ، والمدّ رطل وثلث، وذلك معتبر على التقريب، لا على التحديد، وهذا هو الصواب المشهور،

(1)

"المفهم" 1/ 581.

(2)

من باب تعب.

ص: 18

وذكر جماعة من أصحابنا

(1)

وجهًا لبعض أصحابنا أن الصاع هنا ثمانية أرطال، والمدّ رطلان.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في المسألة أن الماء الذي يتوضّأ به، أو يُغتسل به، لا حدّ له يُلتزم، ما لم يبلغ في الزيادة حدّ الإسراف، فيُمنَعَ، أو في النقص حدًّا لا يُسمّى غسلًا، بل مسحًا، وذلك بأن لا يتقاطر أصلًا، فيكون باطلًا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: جعل الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله للمتوضئ والمغتسل ثلاث حالات:

(أحدها): أن يكون معتدل الخلق، كاعتدال خَلْقه صلى الله عليه وسلم، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المدّ والصاع.

(الثاني): أن يكون ضَئِيلًا، نَحِيف الخَلْق، بحيث لا يُعادل جسدُه جسدَهُ صلى الله عليه وسلم، فيُستحبّ له أن يستعمل من الماء ما تكون نسبته إلى جسده، كنسبة المدّ والصاع إلى جسده صلى الله عليه وسلم.

(الثالث): أن يكون متفاحش الْخَلْق طولًا وعرضًا، وعِظَمَ البطن، وثَخَانة الأعضاء، فيُستحبّ له أن لا ينقص عن مقدار، تكون النسبة إلى بدنه كنسبة المدّ والصاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، وهو تحقيقٌ جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال في "الفتح": الصاع: تقدَّم أنه خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله الرافعيّ وغيره مائةٌ وثلاثون درهمًا، ورَجَّحَ النوويّ أنه مائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وقد بَيَّنَ الشيخ الموفَّق سبب الخلاف في ذلك، فقال: إنه كان في الأصل مائة وثمانية وعشرين وأربعة أسباع، ثم زادوا فيه مثقالًا لإرادة جبر الكسر، فصار مائة وثلاثين، قال: والعمل على الأول؛ لأنه هو الذي كان موجودًا وقت تقدير العلماء به. انتهى

(2)

.

(1)

يعني الشافعيّة.

(2)

"الفتح" 1/ 434.

ص: 19

وقال الشيخ عبد الله البسّام رحمه الله في "شرح بلوغ المرام": الصاع مكيالٌ معروفٌ، والمراد به الصاع النبويّ، ويبلغ وزنه (480) مثقالًا من البرّ الجيّد، وبالغرامات يبلغ (2500) غرامًا، فيكون بالكيلو اثنين من الأكيال، وخمسمائة غرام.

والمدّ بضمّ الميم: مكيالٌ معروفٌ، وهو ربع الصاع النبويّ، ويُجمع على أمداد، ومُدَدٍ، ومقداره بالغرامات (625) غرامًا بحَبّ البرّ الجيّد الرزين. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ البحر، والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال بعض أصحابنا: الإسراف حرام. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بتحريم الإسراف، هو الأرجح عندي؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقوله عز وجل:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الآية [الإسراء: 26 - 27]، فإن التحريم ظاهر في الآيتين، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم اغتسال الرجل بفضل المرأة:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في هذا الباب، فنهت طائفة أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، رُوي هذا القول عن أبي هريرة.

وفيه قول ثان: وهو الرخصة أن تتوضأ المرأة، وتغتسل بفضل طهور الرجل، وكراهية أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، رَوَينا عن عبد الله بن

(1)

"توضيح الأحكام " 1/ 237.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 2.

ص: 20

سَرْجِس رضي الله عنه، قال: تتوضأ المرأة وتغتسل بفضل طهور الرجل، ولا يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة وغسلها.

وكَرِه الحسن، وابن المسيّب أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وذكر أبو العالية ذلك عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفيه قول ثالث: وهو أن لا بأس بفضل طهور المرأة ما لم تخلُ به، رُوي هذا القول عن الحسن، وغُنيم بن قيس، ورُوي أن جويرية بنت الحارث توضأت، فأراد كلثوم بن عامر أن يتوضأ بفضلها، فنهته عن ذلك، وكان ابن عمر يقول: لا بأس بالوضوء من فضل شراب المرأة، وفضل وضوئها ما لم تكن جنبًا، أو حائضًا، فإذا خَلَت به فلا يقربه.

وبهذا قال أحمد بن حنبل، قال: إذا خلت به، فلا يتوضأ به، وحُكِي ذلك عن إسحاق.

وفيه قول رابع: وهو أن لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه شرعَا فيها جميعًا، أو خلا كلُّ واحد منهما بالماء، ما لم يكن الرجل جنبًا، أو المرأة جنبًا، أو حائضًا، رَوَينا عن ابن عمر، أنه كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة، إلا أن تكون جنبًا أو حائضًا.

ورُوي عن الشعبيّ أنه كان يكره فضل طهور الجنب والحائض، وهذا قول الأوزاعيّ، وقال مالك، والأوزاعيّ: يتوضأ به إذا لم يجد غيره، ولا يتيمم.

وفيه قول خامس: وهو إباحة اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، ثبتٌ عن ابن عمر قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد، ورُوي عن أم الحجاج أنها قالت: ربما نازعت عبد الله الوضوء.

ورَوَينا عن أم سعد، امرأة زيد بن ثابت، أنها قالت: كنت أغتسل أنا وزيد بن ثابت من إناء واحد من الجنابة، وقال أبو هريرة، وابن عمر: لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وهذا قول مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.

قال ابن المنذر رحمه الله: والذي نقول به الرخصة في أن يغتسل كل واحد

ص: 21

منهما، ويتوضأ بفضل طهور صاحبه، وإن كانا جنبين، أو أحدهما، أو كانت المرأة حائضًا، وسواء ذلك خَلَت به، أو لم تخل به؛ لثبوت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على صحة ذلك. انتهى كلامه رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": ونقل الطحاويّ، ثم القرطبيّ، والنوويّْ الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر؛ لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث

(2)

حجة عليهم، ونقل النوويّ أيضًا الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضًا، فقد أثبت الخلافَ فيه الطحاويّ، وثَبَت عن ابن عمر، والشعبيّ، والأوزاعيّ المنع، لكن مقيدًا بما إذا كانت حائضًا، وأما عكسه فصح عن عبد الله بن سَرْجِس الصحابيّ، وسعيد بن المسيِّب، والحسن البصريّ، أنهم منعوا التطهر بفضل المرأة، وبه قال أحمد، وإسحاق، لكن قيَّداه بما إذا خَلَت به؛ لأن أحاديث الباب ظاهرة في الجواز إذا اجتمعا، ونَقَل الميمونيّ عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، قال: لكن صَحّ عن عدّة من الصحابة المنع فيما إذا خَلَت به، وعورض بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، والله تعالى أعلم.

وأشهر الأحاديث في ذلك من الجهتين حديثُ الْحَكَم بن عمرو الغفاريّ في المنع

(3)

، وحديث ميمونة في الجواز.

أما حديث الحكم بن عمرو، فأخرجه أصحاب السنن، وحسّنه الترمذيّ، وصححه ابن حبان، وأغرب النوويّ، فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه.

(1)

"الأوسط" 1/ 291 - 296.

(2)

يعني حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا"، رواه البخاريّ.

(3)

هو ما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، عن الحكم بن عمرو:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة".

ص: 22

وأما حديث ميمونة، فأخرجه مسلم

(1)

، لكن أعله قوم؛ لترددٍ وَقَع في رواية عمرو بن دينار، حيث قال: علمي، والذي يَخطُر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، فذكر الحديث، وقد ورد من طريق أخرى بلا تردُّد، لكن راويها غير ضابط، وقد خولف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد".

وفي المنع أيضًا ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، من طريق حُميد بن عبد الرحمن الْحِمْيَريّ، قال: لقيت رجلًا صَحِبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أربع سنين، فقال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعًا"، رجاله ثقات.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف لمن أعلّه على حجة قويّة، ودعوى البيهقيّ أنه في معنى المرسل مردودةٌ؛ لأن إبهام الصحابيّ لا يضرّ، وقد صَرّح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حُميد بن عبد الرحمن، هو ابن يزيد الأوديّ، وهو ضعيفٌ مردودةٌ، فإنه ابن عبد الله الأوديّ، وهو ثقةٌ، وقد صرَّح باسم أبيه أبو داود وغيره.

ومن أحاديث الجواز ما أخرجه أصحاب السنن، والدارقطنيّ، وصححه الترمذيّ، وابن خزيمة، وغيرهما، من حديث ابن عباس، عن ميمونة، قالت: أجنبت، فاغتسلت من جَفْنة، ففَضَلت فيها فضلة، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم غتسل منه، فقلت له، فقال رحمه الله:"الماء ليس عليه جنابة، واغتسل منه"، لفظ الدارقطنيّ، وقد أعلّه قوم بسماك بن حرب، راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يَقْبَل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يَحْمِل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم.

وقول أحمد: إن الأحاديث من الطريقين مضطربة، إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تُحْمَل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابيّ، أو يُحْمَل

(1)

هو الحديث الآتي في الباب بعد ستّة أحاديث، بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة".

ص: 23

النهي على التنزيه؛ جمعًا بين الأدلة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الجمع الثاني هو الأولى؛ وأما الأول، ففيه نظرٌ، لأنا قد سبق لنا أن الأرجح أن الماء المستعمل طاهرٌ مطهّر، فتنبّه.

والحاصل أن الأرجح في مسألة تطهر الرجل بفضل المرأة، وعكسه الجواز، كما هو مذهب الجمهور؛ لوضوح أدلّته، وأن أحاديث النهي تُحْمل على التنزيه؛ جمعًا بينها وبين أحاديث الجواز التي هي أقوى وأكثر منها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[734]

(320) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمن، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَة، فَسَأَلهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ

(2)

صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ، قَدْرِ الصَّاع، فَاغْتَسَلَتْ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْز، وَأفرَغَتْ

(3)

عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ، حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ) هو: عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أبيه، وجدته، وابن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأنس،

(1)

"الفتح" 1/ 300.

(2)

وفي نسخة: "عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "فأفرغت".

ص: 24

وعبد الله بن حُنَين، وعبد الله بن مُحَيريز، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن

عبد الرحمن، وسلمان الأَغَرّ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وحسن بن حسن بن

عليّ، والزهري، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن جريج، وزيد بن أبي أُنيسة، وأبان بن عبد الله الْبَجَليّ، وبلال بن يحيى الْعَبْسيّ، وسعيد بن أبي بردة، وشعبة، ومحمد بن سُوقة، ومِسْعَر، وجما عة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن عبد البرّ: قيل: كان اسمه كنيته، وكان من أهل العلم والثقة، أجمعوا على ذلك، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان راويًا لعروة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (320) و (481) و (512) و (2068).

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

وعائشة رضي الله عنها تقدّمت في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو بكر، عن أبي سلمة، وأبو بكر شارك شيخه أبا سلمة في كونه زُهْريًّا مدنيًّا مشهورًا بالكنية، وقد قيل: إن اسم كل منهما عبد الله، قاله في "الفتح"

(1)

.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن خالته من الرضاعة، فأبو سلمة بن

(1)

"الفتح" 1/ 434.

ص: 25

عبد الرحمن ابن أخت عائشة رضي الله عنها، أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فعائشة خالته.

[تنبيه]: كون أبي سلمة ابنَ أخت عائشة رضي الله عنها رضاعًا هو الصواب، وأما ما ذكره القرطبيّ في "المفهم"

(1)

من أنه ابن أخيها نسبًا، فغلط صريح؛ لأن أباه هو عبد الرحمن بن عوف، وليس عبد الرحمن بن أبي بكر، فتفطّن لهذا الغلط، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة، على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أنَا وَأَخُوهَا) أتى بـ "أنا" ليحسُن عطف "أخوها" على الضمير المرفوع المتّصل، كما في قوله تعالى:{لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأنبياء: 54]، وفي رواية النسائيّ:"دخلت على عائشة رضي الله عنها وأخوها" بدون لفظة "أنا"؛ لوجود الفصل بالجارّ والمجرور، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصلٍ يَرِدْ فِي

النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وعند البخاريّ: "دخلتُ أنا وأخو عائشة"(مِنَ الرَّضَاعَةِ) بفتح الواو، وكسرها، والفتح أجود، حال من "أخوها"، وكذا وقع عند النسائيّ التصريح بأنه أخوها من الرضاعة، وهو يردّ قول الداوديّ: إنه أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، وقولَ غيره: إنه أخوها لأمها الطُّفَيل بن عبد الله.

قال الحافظ رحمه الله: زَعَم الداوديّ أنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، وقال غيره: هو أخوها لأمها، وهو الطفيل بن عبد الله، ولا يصح واحد منهما؛ لما رَوَى مسلم من طريق معاذ، والنسائيّ من طريق خالد بن الحارث، وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون، كلهم عن شعبة، في هذا الحديث أنه

(1)

1/ 582.

ص: 26

في الحفظ ما لا يَثبُت بالقول. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: ولَمّا كان السؤال محتملًا للكيفية والكمية، فأتت لهما بما يَدُلُّ على الأمرين معًا، أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. انتهى

(2)

.

واعترضه العينيّ بما فيه نظرٌ، ولذا تركت ذكره

(3)

.

(قَالَ) أبو سلمة: (وَكانَ أَزْوَاجُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ)"من" تبعيضيّة، أي بعض شعور رءوسهنّ (حَتَّى تَكونَ كَالْوَفْرَةِ) بفتح الواو، وسكون الفاء: شعرُ الرأس إذا وصل الأذنين، قاله ابن الأثير رحمه الله

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الوَفْرةُ": الشعرُ إلى الأذنين؛ لأنه وَفَرَ على الأذن: أي تَمّ عليها، واجتَمَعَ. انتهى

(5)

.

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: في هذا دليلٌ على ما قلناه من رؤيتهما ذلك منها، ولا بأس لذي المحرَم أن يرى شعر ذات المحرَمِ منه، وما فوقَ جبينها عند العلماء، إلا ما وقع لابن عبّاس رضي الله عنها من كراهة ذلك، قال: وفيه دليلٌ على جواز تحذيف النساء لشعورهنّ، وجواز اتّخاذهنّ الْجُمَمَ، وقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم جُمّةٌ.

و"الْوَفْرَةُ": أشبع من الْجُمَّة، و"اللِّمَّةُ": ما أَلَمَّ بالمنكبين من شعر الرأس دون ذلك، قاله الأصمعيّ، وقال غيره: الوَفْرة: أقلّها، وهي التي لا تُجاوز الأذنين، والْجُمّة: أكبر منها، واللِّمَّةُ: ما طال من الشعر، وقال أبو حاتم: الوَفْرة: ما غَطَّى الأذنين من الشعر، والمعروف أن نساء العرب إنما كُنّ يتّخذن القرون والذوائب، ولعلّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فَعَلْنَ هذا بعد موته؛ لتركهنّ التزيّن، واستغنائهنّ عن تطويل الشعور لذلك، وتخفيفًا لمؤونة رؤوسهنّ. انتهى

(6)

.

وقال النوويّ بعد نقل كلام عياض رحمه الله هذا ما نصّه: وهذا الذي قاله القاضي عياض من كونهنّ فعلنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لا في حياته، كذا قاله أيضًا

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 4.

(2)

"الفتح" 1/ 434.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 294.

(4)

5/ 210.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 667.

(6)

"إكمال المعلم" 2/ 163 - 164.

ص: 27

غيره، وهو متعيّنٌ، ولا يُظَنّ بهنّ فعلُهُ في حياته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليلٌ على جواز تخفيف الشعور للنساء. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبقيّة المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[735]

(321) - (حَدَّثَنَا هَارُون بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمن، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَغْتَسَلَ بَدَأَ بِيَمِينِه، فَصَبَّ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاء، فَغَسَلَهَا، ثُمَّ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْأذَى الَّذِي بِهِ بِيَمِينِه، وَغَسَلَ عَنْهُ بِشِمَالِه، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: كلنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ جُنبَانِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِيُّ) - بالفتح - السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنة (م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرِ) بن عبد الله، أبو الْمِسْور المدنيّ، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م دس) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(أَبُوه) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: تقدّم انتقاد الحفّاظ لهذا السند بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادةٌ

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 4 - 5.

ص: 28

أخوها من الرضاعة، وقال النوويّ، وجماعة: إنه عبد الله بن يزيد، معتمدين على ما وقع في "صحيح مسلم" في "الجنائز" عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، رَضِيع عائشة عنها، فذكر حديثًا غير هذا، ولم يتعين عندي أنه المراد هنا؛ لأن لها أخًا آخر من الرضاعة، وهو كثير بن عُبيد، رَضِيع عائشة، رَوَى عنها أيضًا، وحديثه في "الأدب المفرد" للبخاري، و"سنن أبي داود" من طريق ابنه سعيد بن كثير، عنه، وعبد الله بن يزيد بصريّ، وكثير بن عبيد كوفيّ، فيَحْتَمِل أن يكون المبهم هنا أحدَهُما، وَيحْتَمِل أن يكون غيرهما، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر أن أخا عائشة هنا لم يتعيّن؛ إذ لم تأت رواية تعيّنه، ولكن مثل هذه الحالة لا تضرّ؛ لأنه ليس من رجال الإسناد، وإنما وقع ذكره في المتن، والجهالة الواقعة فيه لا تضرّ، فتنبه، والله تعالى أعلم.

(فَسَأَلهَا) أي أخوها المذكور (عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، وفي نسخة:"عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، و"الغُسْل" بضمّ الغين المعجمة: اسم مصدر من اغتسل، وبفتحها: مصدر "غَسَلَ"، ويجوز فيه الضمّ أيضًا، قاله أهل اللغة، والمشهور في استعماله عند الفقهاء فتح الغين إذا أُضيف إلى المغسول، كغَسْل الثوب، وضمّ الغين إذا أُضيف إلى غيره، كغُسل الجنابة.

والمراد به هنا معناه المصدريّ، أي عن كيفيّة اغتساله صلى الله عليه وسلم، وعن قدر الماء الذي يغتسل منه.

(مِنَ الْجَنَابَةِ؟)، أي بسبب حصول الجنابة له، فـ "من" سببيّة.

و"الغسل" لغةً: الإسالة، وشرعًا: إيصال الماء إلى جميع ظاهر الجسد بنيّة رفع الجنابة.

و"الجنابة" في الأصل: البعد، وسُمّي من اتّصف بها جُنُبًا؛ لأنه منهيّ عن قربان مواضع الصلاة حتى يتطهّر، وشرعًا: أمرٌ معنويّ يقوم بالبدن، فيمنع من صحّة الصلاة ونحوها، حيث لا مرخّص

(1)

.

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 311 - 312.

ص: 29

(فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ) أي طلبت ماءً في إناءٍ (قَدْرِ الصَّاعِ) بالجرّ بدلًا من "إناء"، وفي رواية البخاريّ:"فدعت بإناء، نحوًا من صاع".

وأشار بقوله: "قدر صاع" إلى أنها دعت ماءً في إناءٍ مقدار الصاع تقريبًا لا تحديدًا، والله تعالى أعلم.

(فَاغْتَسَلَتْ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "اغتسلت"، وفي رواية النسائيّ:"فسَتَرَت سِتْرًا"، أي جعَلَت بيننا وبينها ساترًا، و"السّتْرُ" بالكسر: ما يُستَرُ به، جمعه سُتُور، و"السَّتْرُ" بالفتح: مصدر سَتَرَ، يقال: سَتَرتُ الشيءَ سَتْرًا، من باب نصر، ويقال لما يَنصِبه المصلّي قُدّامه علامةً لمصلّاه، من عصًا، وتسنيم تُرَاب وغيره: سُتْرَةٌ بالضمّ؛ لأنه يستُر المارّ من المرور، أي يَحجُبُه، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

والمناسب هنا الكسر، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب"(وَأفرَغَتْ) وفي نسخة: "فأفرغت" بالفاء، أي صبّت الماء، وهو تفسير لقوله:"فاغتسلت"، وفي رواية البخاريّ:"وأفاضت"(عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا) قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها، وأعالي جسدها، مما يَحِلّ نظره للمَحْرَم إلى ذات محرمه؛ لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع، أرضعته أختها أمُّ كلثوم، وإنما سَتَرت أسافل بدنها مما لا يَحِلّ للمَحْرَم النظر إليه، ولولا أنهما شاهدا ذلك، ورأياه لم يكن لاستدعائها الماء، وطهارتها بحضرتهما معنًى؛ إذ لو فعلت ذلك كلّه في ستر عنهما، لكان عَنَاءً، ورجع الحال إلى وصفها له، ويكون الستر الذي بينها وبينهما عن سائر جسدها، وما لا يحلّ لهما رؤيته، كما شُوهد غسل النبيّ صلى الله عليه وسلم من وراء الثوب، وطأطأ عن رأسه حتى ظهر لمن أراد رؤيته. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "وفي هذا الذي فعلته عائشة رضي الله عنها دلالةٌ على استحباب التعليم بالوصف بالفعل؛ فإنه أوقع في النفس من القول، وَيثبُت به

(1)

"المصباح المنير" 1/ 266.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 163.

ص: 30

من كتابه، كما قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، لكن الجواب عن المصنّف أنه إنما أورده متابعةً، لا استقلالًا، فإنه قد ساق حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب بأسانيد متعدّدة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف: أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها ("كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ)، أي أراد الاغتسال، قيل: هذا الأسلوب يدلّ على العادة والغالب والشأن الكثير

(1)

. (بَدَأَ بِيَمِينِهِ)، أي بغسل يده اليُمنَى، واليمين مؤنّثة، وجمعها أَيْمُنٌ، وأَيمانٌ (فَصَبَّ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ)"من" تبعيضيّة، ويحتمل أن تكون ابتدائيّة (فَغَسَلَهَا)، أي يده اليمين (ثُمَّ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الأذَي)، أي على موضع الأذى، والأذى أعمّ من النجاسة، كالبول ونحوه، وغيرها، كالمنيّ، وما أصابه من رطوبة الفرج، وقد تقدّم طهارتهما على الأصحّ (الَّذِي بِهِ)، أي بجسده الشريف صلى الله عليه وسلم (بِيَمِينِهِ) متعلّق بـ "صبّ "(وَغَسَلَ عَنْهُ) كان الظاهر "وغسله"، لكنه ضُمّنَ "غَسَلَ " معنى "أزال"، وحذف مفعوله: أي أزال عنه الأذى (بِشِمَالِهِ) بكسر الشين: خلاف اليمين، وهي أيضًا مؤنّثةٌ، وجمعها أَشْمُل، مثلُ ذِراعٍ وأَذْرُع، وشَمَائلُ

(2)

، أي غسل الأذى بيده اليسرى (حَتَّى إِذَا فَرَغَ) غاية للغسل (مِنْ ذَلِكَ)، أي من غسل الأذى (صَبَّ عَلَى رَأسِهِ)، قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (كُنْتُ أَغْتَسِلُ أنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ)، وقد تقدّم أنه يسمّى الْفَرَق، وهو ثلاثة آصُع (وَنَحْنُ جُنُبَانِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، قال النوويّ رحمه الله: هذا جارٍ على إحدى اللغتين في الْجُنُب أنه يُثنَّى ويُجمَعُ، فيقال: جُنُبٌ، وجُنُبان، وجُنُبُون، وأَجْنَابٌ، واللغة الأخرى: رجلٌ جُنُبٌ، ورجلان جُنُبٌ، ورجالٌ جُنُبٌ، ونساءٌ جُنُبٌ بلفظ واحد، قال الله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} الآية [النساء: 43]، وهذه اللغة أفصح وأشهر.

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 311 - 312.

(2)

"المصباح" 1/ 323.

ص: 31

ويقال في الفعل: أجنب الرجلُ، وجُنِبَ - بضمّ الجيم، وكسر النون، والأولى أفصح وأشهر، وأصل الجنابة في اللغة البعد، وتُطلق على الذي وجب عليه غسلٌ بجماع، أو خروج منيّ؛ لأنه يجتنب الصلاة والقراءة والمسجد، ويتباعد عنها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تخريج الحديث، وسائر مسائله قريبًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[736]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْر، أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهَا، أنهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاَثةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ) بن أبي زيد القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الثقة العابد الزاهد [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خُرَاسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(لَيْث) بن سعد الإمام المصريّ المذكور قبل حديثين.

4 -

(يَزِيدُ) بن أبي حبيب - واسمه سُويد - أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيه، يُرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

5 -

(عِرَاك) - بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء - ابن مالك الغِفَاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت بعد 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 4 - 5.

ص: 32

6 -

(حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، زوجة المنذر بن الزبير، ثقةٌ [3].

رَوَت عن أبيها، وعمتها عائشة، وأم سلمة، وعنها عِرَاك بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، ويوسف بن ماهك، وعون بن عباس.

قال العجليّ: تابعية ثقةٌ، وذكرها ابن حبان في "الثقات".

أخرج لها المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

وقولها: (فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاَثةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ) قد ذكر القاضي عياض رحمه الله في تفسير هذه الجملة وجهين:

[أحدهما]: أن كل واحد منهما ينفرد في اغتساله بثلاثة أمداد.

[والثاني]: أن يكون المراد بالمدّ هنا الصاع، ويكون موافقًا لحديث الْفَرَق، ويكون ذلك مفسّرًا له، إن لم تكن لفظة "أمداد" هنا وَهَمًا، على ما ذهب إليه بعضهم، وعلى الوجه الأول لا تأويل، ولا إشكال فيه

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: ويجوز أن يكون هذا وقع في بعض الأحوال، واغتسلا من إناء يسع ثلاثة أمداد، وزاداه لَمّا فرغ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "يسع ثلاثة أمداد" تعني مفترقِينَ، أو سَمَّت الصاعَ مُدًّا، كما قالت في الْفَرَق الذي كان يسع ثلاثة آصُع، وكأنها قصدت بذلك التقريب، ولذلك قالت فيه:"أو قريبًا من ذلك"، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل؛ لأنه لا يتأتّى أن يغتسل اثنان من ثلاثة أمداد؛ لقلّتها، والله تعالى أعلم.

وهذا يدلّ على استحباب التقليل مع الإسباغ، وهو مذهب كافّة أهل العلم والسنّة؛ خلافًا للإباضيّة والخوارج، واتّفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته، ووضوئهما معًا من إناء واحد، إلا شيئًا رُوي في كراهية ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحديثُ ابن عمر، وعائشة، وغيرهما يردّه.

وإنما الاختلاف في وضوئه، أو غسله من فضلها، فجمهور السلف،

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 164.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 6.

ص: 33

وأئمة الفتوى على جوازه، ورُوي عن ابن المسيّب، والحسن كراهة فضل وضوئها، وكَرِهَ أحمد فضل وضوئها وغسلها، وشَرَطَ ابنُ عمر إذا كانت حائضًا أو جُنُبًا.

وذهب الأوزاعيّ إلى جواز تطهّر كلّ واحد منهما بفضل صاحبه ما لم يكن أحدهما جنبًا، أو المرأة خاصّةً حائضًا.

وسبب هذا الاختلاف اختلافُهُم في تصحيح أحاديث النهي الواردة في ذلك، ومن صخحها اختلفوا أيضًا في الأرجح منها، ومما يعارضها، كحديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم:"كان يغتسل بفضلها"، رواه مسلم، وكحديث ابن عبّاس الذي أخرجه الترمذيّ، وصحّحه، قال فيه: اغتسل بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضّأ منه، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الماء لا يُجْنِبُ".

ولا شكّ في أن هذه الأحاديث أصحّ وأشهر عند المحدّثين، فيكون العمل بها أولى، وأيضًا فقد اتّفقوا على جواز غسلهما معًا، مع أن كلَّ واحد منهما يغتسل بما يُفضِله صاحبه عن غَرْفِهِ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم البحث في هذه المسألة قريبًا، وأن الأرجح هو الجمع بين الأحاديث بحمل النهي على التنزيه، فهذا أقرب للعمل بها كلّها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[737]

(

) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، قَالَ: حَدَّثنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيه، مِنَ الْجَنَابَةِ).

(1)

"المفهم" 1/ 582 - 584.

ص: 34

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت في أول 221) بمكة (خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(أفلَحُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نافع الأنصاريّ النجاريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفَيراء، ثقةٌ [7].

رَوَى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي بكر بن حزم، وسليمان بن عبد الرحمن بن جندب، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن وهب، وأبو عامر الْعَقَديّ، ووكيع، وأبو نعيم، وحماد بن زيد، والثوريّ، وحاتم بن إسماعيل، والمعافى بن عِمْران، والقعنبيّ، وهو آخر مَن حَدّث عنه، وغيرهم.

قال أحمد: صالحٌ، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن صاعد: كان أحمد يُنكر على أفلح قوله: "ولأهل العراق ذات عرق"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لم يُحَدِّث عنه يحيى، قال: ورَوَى أفلح حديثين منكرين: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشعر"، وحديث:"وَقَّتَ لأهل العراق ذاتَ عِرْق"، وكناه عبد الغني أبا محمد، والمعروف أن كنيته أبو عبد الرحمن، وقال ابن عديّ: ولم يُنكِر أحمد - يعني سوى هذه اللفظة - وقد تفرد بها عن أفلح مُعَافًى، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمةً.

قال الواقديّ: مات سنة (158)، وقال ابن حبان في "الثقات": كان مكفوفًا، مات سنة (165)، قال: وقيل سنة (158).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجهْ، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (321) و (649) و (1189) و (1211) وكرره مرة، و (1290) و (1321).

والقاسم تقدّم قبل باب، وعائشة رضي الله عنهما الحديث الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (33) من رباعيّات الكتاب.

ص: 35

وقولها: (تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ) ببناء الفعل للفاعل، و"أيدينا" مرفوع على الفاعليّة، بضمة مقدّرة؛ للاستثقال، والاختلاف ضدّ الاتّفاق، والمراد اختلاف أيديهما عند الغرف من الإناء بالرفع والوضع، بأن يرفع يده أحدهما من الإناء، ويضعها الآخر فيها.

وقولها: (مِنَ الْجَنَابَةِ) تقدّم أن المعنى بسبب الجنابة، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[738]

(

) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَل، عَنْ مُعَاذَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ، فَيُبَادِرُنِي، حَتى أقولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي، قَالَتْ: وَهُمَا جُنبانِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ المذكور أول الباب.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع)، تقدّم في "المقدّمة" 6/ 62.

3 -

(عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4](ت بعد سنة 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(مُعَاذَةُ) بنت عبد الله الْعَدَويّة، أم الصَّهْباء البصريّة، امرأة صِلَةَ بن أشيم، ثقةٌ [3].

رَوَت عن عائشة، وعليّ، وهشام بن عامر، وأم عمرو بنت عبد الله بن الزبير.

ورَوَى عنها أبو قِلابة، وقتادة، ويزيد الرِّشْك، وأيوب، وعاصم الأحول، وسليمان بن عبد الله البصريّ، وإسحاق بن سعيد، وأم الحسن، جدَّة أبي بكر العدويّ، وغيرهم.

ص: 36

قال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ حجةٌ، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وقال: كانت من العابدات، يقال: إنها لم تتوسد فراشًا بعد أبي الصهباء حتى ماتت، قال الحافظ: رَوَينا في "فوائد عبد العزيز المشرقيّ" بسند له، عن أبي بِشْر، شيخ من أهل البصرة، قال: أتيت معاذة، فقالت: إني اشتكيت بطني، فوُصِف لي نبيذ الجرّ، فأتيتها منه بقدَح فوضعته، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أن عائشة حدّثتني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن نبيذ الجرّ، فاكفنيه بما شئت، قال: فانكفأ القَدَح، وأهريق ما فيه، وأذهب الله تعالى ما كان بها. انتهى

(1)

.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط، برقم (321) و (335) وكرّره ثلاث مرّات، و (719) وكرّره مرّتين، و (1160) و (1476) و (1995).

وقولها: (كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم قريبًا سبب الإتيان بالضمير المنفصل، فلا تغفل.

وقولها: (مِنْ إِنَاءٍ بَيْني وَبَيْنَهُ) الظرف متعلّق بمحذوف، صفة لـ"إناء"، أي موضوع بيني وبينه صلى الله عليه وسلم.

وقولها: (وَاحِدٍ) بالجرّ صفة لي"إناء" بعد وصفه بالجارّ والمجرور.

وقولها: (فَيُبَادِنُي) أي يسابقني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الاغتراف من ذلك الإناء.

وقولها: (حَتَّى أقُولَ) بالنصب بـ "أن" مضمرة بعد "حتّى" وجوبًا؛ لكون الفعل مستقبلًا، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"

حَتْمٌ ك"جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ "

وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا اوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

ووقع في بعض النسخ مضبوطًا بالقلم "حَتَّى أَقُولُ" بالرفع، فعليه يكون الفعل حالًا، فيُفع عطفًا على "يبادرني"، أي فأقولُ إلخ، والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 12/ 479.

ص: 37

وقولها: (دَعْ لِي، دَعْ لِي) كرّرته للتأكيد، و"دع" بفتح، فسكون أمر وَدَعه يَدَعه: إذا تركه، وقد تقدّم أن بعض النحاة زعم أن العرب أماتت ماضيه، ومصدره، واسم فاعله، لكن الصحيح، خلاف ذلك، وقد قُرئ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بتخفيف الدال، وفي الحديث: "ليَنتهينّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات

" الحديث رواه مسلم، أي ترْكهم.

وقولها: (قَالَتْ: وَهُمَا جُنُبَانِ) الظاهر أن فاعل "قالت" ضمير عائشة رضي الله عنها، فيكون فيه التفات؛ إذ الظاهر أن تقول:"ونحن جنبان"، كما تقدّم، من رواية أبي سلمة، عنها، ويَحْتَمِل أن يكون ضمير معاذة، لكنها حكته آخذة عنها، فتأمّل، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[379]

(322) - (وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْني مَيْمُونَةُ، أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ، وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبت [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

2 -

(أَبُو الشَّعْثَاءِ) هو: جابر بن زيد الأزديّ الْيُحمِديّ، ثم الْجَوْفيّ - بفتح الجيم، وسكون الواو، بعدها فاء - البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ فقيهٌ [3].

رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، والْحَكَم بن عَمْرو الغفاريّ، ومعاوية بن أبي سفيان، وعكرمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه قتادة، وعمرو بن دينار، ويعلى بن مسلم، وأيوب السختيانيّ، وعمرو بن هَرِم، وجماعة.

قال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: لو أن أهل البصرة نَزَلوا عند قول جابر بن زيد، لأوسعهم علمًا من كتاب الله، وقال تميم بن حُدَير،

ص: 38

عن الرَّبَاب: سألت ابن عباس عن شيء، فقال: تسألوني، وفيكم جابر بن زيد؛ وقال داود بن أبي هند، عن عَزْرَة: دخلت على جابر بن زيد، فقلت: إن هؤلاء القوم ينتحلونك - يعني الإباضية

(1)

- قال: أبرأ إلى الله من ذلك، وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وفي "تاريخ البخاريّ" عن جابر بن زيد، قال: لقيني ابن عمر، فقال: يا جابرُ إنك من فقهاء أهل البصرة، وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا، ودُفِن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله، وفي "كتاب الزهد" لأحمد: لَمَّا مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق، وقال إياس بن معاوية: أدركت الناس، وما لهم مُفْتٍ غير جابر بن زيد، وفي "تاريخ ابن أبي خيثمة": كان الحسن البصريّ، إذا غزا أفتى الناس جابرُ بن زيد، وفي "الضعفاء" للساجيّ، عن يحيى بن معين: كان جابر إباضيًّا، وعكرمةُ صُفْريًّا

(2)

، وأغرب الأصيليّ، فقال: هو رجل من أهل البصرة لا يُعْرَف، انفرد عن ابن عباس بحديث:"مَن لم يجد إزارًا، فليلبس السراويل"، ولا يعرف هذا الحديث بالمدينة. انتهى

(3)

.

قال البخاريّ وغيره: مات سنة (93)، وقال ابن سعد: سنة (103)، وقال الهيثم بن عديّ: سنة (104).

(1)

"الإباضيّة" بكسر الهمزة: نسبة إلى جماعة من الخوارج، يقال لهم: الإباضية، وهم أصحاب الحارث الإباضي، وهم جماعة من الفِرَق المختلفة العقائد، يكفّر بعضهم بعضًا، قاله في:"الأنساب" 1/ 70، و"اللباب" 1/ 23.

وقال في: "القاموس"(ص 572): الإباضيّة قوم من الخوارج، نُسبوا إلى عبد الله بن إباض التميميّ. انتهى.

(2)

"الصُّفْريّة" - بضم الصاد المهملة، وسكون الفاء -: نسبة إلى طائفة من الخوارج، يُنسبون إلى زياد بن الأصفر، قاله في:"اللباب" 2/ 73.

وقال في: "القاموس"(ص 383): الصُّفْريّة بالضمّ، ويُكسر: قوم من الْحَروريّة، نُسبوا إلى عبد الله بن صَفّار، كَكَتَان، أو إلى زياد بن الأصفر، أو إلى صُفْرة ألوانهم، أو لخلوّهم من الدين. انتهى.

(3)

"تهذيب التهذيب" 1/ 279 - 280.

ص: 39

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط، برقم (322) و (323) و (705) وأعاده بعده، و (1178) و (1410) وأعاده بعده، و (1447).

3 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي أيضًا.

والباقون تقدّموا في هذا الباب، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو) بن دينار، وفي مسند الْحُميديّ:"أخبرنا عمرو، أخبرنا أبو الشعثاء"(عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ) جابر بن زيد (عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: أَخْبَرَتْني مَيْمُونَةُ) بنت الحارث رضي الله عنها، هكذا صرّح في رواية المصنّف، والنسائيّ بأنها أخبرته، ورواه البخاريّ عن أبي نعيم، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد"، ثم قال البخاريّ بعده: كان ابن عيينة يقول أخيرًا: "عن ابن عبّاس، عن ميمونة"، والصحيح ما روى أبو نعيم، يعني الرواية التي أخرجها.

قال الحافظ رحمه الله: قوله: "كان ابن عيينة إلخ"، كذا رواه عنه أكثر الرواة، وإنما رواه عنه كما قال أبو نعيم مَن سمع منه قديمًا، وإنما رَجَّح البخاريّ رواية أبي نعيم جريًا على قاعدة المحدثين؛ لأن مِن جملة المرجحات عندهم قِدَم السماع؛ لأنه مظنة قُوَّة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهةٌ أخرى من وجوه الترجيح، وهي كونهم أكثر عددًا، وملازمةً لسفيان، ورَجَّحها الإسماعيلي من جهة أخرى، من حيث المعنى، وهو كون ابن عباس لا يَطَّلِع على النبيّ صلى الله عليه وسلم في حالة اغتساله مع ميمونة، فيدُلّ على أنه أخذه عنها.

وقد أخرج الرواية المذكورة الشافعيّ، والحميديّ، وابن أبي عمر، وابن أبي شيبة، وغيرهم في مسانيدهم، عن سفيان، ومسلم، والنسائيّ، وغيرهما، من طريقه.

ويُستفاد من هذا البحث أن البخاريّ لا يرى التسوية بين "عن فلان"،

ص: 40

وبين "أن فلانًا"، وفي ذلك بحث يطول ذكره، قال الحافظ: وقد حقّقته فيما كتبته على كتاب ابن الصلاح

(1)

. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي كون الحديث من مسند ميمونة رضي الله عنها، كما هو رأي المصنّف، وذلك لكثرة من رواه عن سفيان كذلك، وطول ملازمتهم له، وللمعنى الذي ذكره الإسماعيليّ، وإن رجّح البخاريّ كونه من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ نظرًا لقدم السماع، والله تعالى أعلم.

(أنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ) كذا في رواية المصنّف بالتوكيد بالضمير المنفصل، ووقع في رواية النسائيّ بدونه، وقد تقدّم بيان حكمه غير مرّة (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ)، وفي رواية النسائيّ:"من إناء واحد"، فـ "في" في رواية المصنّف بمعنى "من"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متّفق عليه، وإن اختلفا في كونه من مسندها، أو من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما تقدّم تحقيقه آنفًا.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 739](322)، و (البخاريّ) في "الغسل"(253)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(62)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 129)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(377)، و (الحميديّ) في "مسنده"(309)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 329)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(725)، وبقيّة المسائل تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "النكت على ابن الصلاح" للحافظ 2/ 590 - 593 بتحقيق الدكتور ربيع بن هادي.

(2)

"الفتح" 1/ 436 - 437.

ص: 41

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[740]

(323) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي، وَالَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالِي، أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْحَنظلي المعروف بابن راهويه، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةً فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

شرح الحديث:

عن عمرو بْن دينَارٍ أنه (قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي) مبتدأ خبره جملة "أنّ أبا الشعثاء إلخ"، وفي رواية الدارقطنيّ:"مبلغ علمي، والذي يسكن على بالي"، وفي رواية له:"علمي، والذي يخطر على بالي"(وَالَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالي) بكسر الطاء المهملة، وتُضمّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الخاطر: ما يَخطُر في القلب من تدبير أمر، فيقال: خَطَر ببالي، وعلى بالي خَطْرًا وخُطُورًا، من بابي ضَرَبَ، وقَعَدَ. انتهى

(1)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 173.

ص: 42

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يخطُر على بالي" بضمّ الطاء، وكسرها، لغتان، والكسر أشهر، ومعناه: يَمُرّ، ويَجري، و"البال": القلبُ والذهنُ، قال الأزهريّ: يقال: خَطَرَ ببالي، وعلى بالي كذا يَخْطُر خُطُورًا: إذا وقع ذلك في بالك وهَمّك، وقال غيره: الخاطر الهاجس، وجمعه خواطر.

(أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ) جابر بن زيد (أَخْبَرَنِي، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنها (أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ) رضي الله عنها، أي بما فضل من الماء الذي استعملته في غسل الجنابة، كما أوضحته الرواية الأخرى، ففي رواية ابن ماجه، من طريق، سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة"، وزاد أحمد في روايته: قال عبد الرزاق: وذلك أني سألته عن إخلاء الْجُنُبين جميعًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: [إن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله هذا الحديث بهذا الإسناد مع أن عمرو بن دينار لم يجزم برواية أبي الشعثاء له؟.

[قلت]: أجيب عنه بأنه إنما ذكره متابعةً، لا أنه قَصدَ الاعتماد عليه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ذهب بعضهم إلى أن هذا مما يُسقط التمسّك بالحديث؛ لأنه شكّ في الإسناد، والصحيح فيما يظهر لي أنه ليس بمُسقط له من وجهين:

[أحدهما]: أن هذا غالب ظنٍّ، لا شكٌّ، وأخبار الآحاد إنما تفيد غلبة الظنّ، غير أن الظنّ على مراتب في القوّة والضعف، وذلك موجب للترجيح بهذا الحديث، وإن عارضه ما جزم الراوي فيه بالرواية كان المجزوم به أولى.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 7.

ص: 43

أوالوجه الثاني،: أن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قد رواه الترمذيّ من طريق آخر، وصححه كما قدّمناه، ومعناه معنى حديث عمرو، وليس فيه شيء من ذلك التردّد، فصحّ ما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه القرطبيّ أنه يرى صحة الحديث بهذا السند لأمرين:

[أحدهما]: أن هذا الشكّ لا يؤثّر؛ إذ قال عمرو: "أكبر علمي"، وفي رواية للدارقطنيّ: قال: "مبلغ علمي، والذي يسكن على بالي"، وهذا يدلّ على أن غالب ظنّه إخباره له.

[الثاني]: أنه يشهد له، ما أخرجه أصحاب السنن، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: اغتَسَل بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنَة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه، فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، فقال:"إن الماء لا يُجْنِب"، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

وقد أعلّه قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه يَقبَل التلقين، وتُعُقّب بأنه قد رواه عنه شعبة، وهو لا يَحمِل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم، قاله في "الفتح"

(2)

.

وخلاصة القول أن الحديث، وإن كان فيه مقال من جهة هذا السند؛ لما تقدّم، لكنه صحيح بما يشهد له، بل صححه الدارقطنيّ رحمه الله بنفس السند، فقال - بعد إخراجه من طريق رَوْح بن عُبادة، عن ابن جريج، بنحو سياق المصنّف -: إسناد صحيح

(3)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 740](323)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 366)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 188)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 57)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(726، 727)، و (الدارقطنيّ)

(1)

"المفهم" 1/ 584.

(2)

"الفتح" 1/ 16.

(3)

راجع: "سنن الدارقطنيّ" 1/ 146.

ص: 44

في "سننه"(1/ 145 - 146)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله. المذكور أولَ الكتاب قال:

[741]

(324) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمن، أَنَّ زينَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ، أَن أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا، قَالَتْ: "كَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلَانِ فِي الإنَاءِ الْوَاحِد، مِنَ الْجَنَابَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المذكور في الباب الماضى.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوه) هو: هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس وُيرسل [5](ت 132)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف المذكور في هذا الباب.

6 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَة) ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم ماتت رضي الله عنها سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

7 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (62) وقيل غير ذلك (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأن رواته كلّهم رواة الجماعة، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وأنه مسلسل بالبصريين إلى هشام، والباقي مسلسلٌ بالمدنيين، ويحيى بن أبي كثير، وإن كان يماميًّا، غير أنه سكن المدينة عشر سنين، يطلُب العلم، وأن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّة، هي أمها رضي الله عنها، والله تعالى أعلم.

ص: 45

والحديث متّفق عليه، وهو حديث مختصرٌ، وقد تقدّم مطوّلًا برقم [692] في "بابُ الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد"، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[742]

(325) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح)، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمن، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ، وَيَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ"، وقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى:"بِخَمْسِ مَكَاكِيَّ"، وقَال ابْنُ مُعَاذٍ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ جَبْرٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام [9](ت 198)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ) ويقال: ابن جابر بن عَتيك الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 242.

3 -

(أنس) بن مالك الصحابي الشهير رضي الله عنه مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز (100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير عبد الله بن جبر، فمدنيّ.

ص: 46

4 -

(ومنها): أن شيخه الثاني أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، كما تقدّم في الإسناد الماضي.

5 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وهو آخر من مات بالبصرة، من الصحابة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره المائة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ) ويقال: ابن جابر، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن عبد الله بن عبد الله بن جبر"، وفي الرواية الأخرى:"عن ابن جبر" هذا كله صحيحٌ، وقد أنكره عليه بعض الأئمة، وقال: صوابه ابن جابر، وهذا غلطٌ من هذا المعترض، بل يقال فيه: جابرٌ وجبرٌ، وهو عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عَتِيك، وممن ذكر الوجهين فيه الإمام أبو عبد الله البخاريّ، وأن مِسْعرًا، وأبا الْعُمَيس، وشعبة، وعبد الله بن عيسى يقولون فيه: جبر. انتهى

(1)

.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ) جمع مكّوك، بفتح الميم، وضمّ الكاف الأولى، وتشديدها، ويُجمع أيضًا على مكاكيّ، بإبدال الياء من الكاف الأخيرة، وإدغامها في ياء الجمع، قال في "النهاية": أراد بالمكّوك المدّ، وقيل: الصاع، والأول أشبه؛ لأنه جاء في حديث آخر مفسّرًا بالمدّ، وأصله مكيالٌ، ويَختلِف باختلاف اصطلاح الناس في البلاد. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": الْمَكُّوك، كتَنُّورٍ: طاسٌ يُشرَبُ به، ومكيال يسع صاعًا ونصفًا، أو نصف رطلٍ إلى ثمان أواقي، أو نصف الْوَيْبَة، والْوَيْبَةُ: اثنان وعشرون، أو أربع وعشرون مُدًّا بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو ثلاث كَيْلَجات، والْكَيْلَجةُ مَنا وسبعة أثمان مَنًا، والْمَنَا رطلان، والرطلُ: اثنتا عشرة أُوقيّةً، والأُوقيّةُ: إِسْتَارٌ وثُلُثا إِسْتار، والإِسْتار: أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم: ستّة دَوَانِق، والدَّانَقُ: قيراطان، والْقِيراطُ: طَسُّوجان،

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 7.

(2)

"النهاية" 4/ 350.

ص: 47

والطّسُّوجُ: حَبَتان، والْحَبّة: سدس ثُمُن درهم، وهو جزءٌ من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم، جمعه مَكَاكيكُ، ومَكَاكيُّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ بعد ذكر ما تقدّم: وهو مكيال لأهل العراق، يسع صاعًا، ونصف صاع بالمدنيّ. انتهى

(2)

.

(وَيتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ") أي بماء في إناء يُسمّى بمكّوك، والصحيح - قاله القرطبيّ رحمه الله أن المراد بالمكُّوك هنا هو المدّ، بدليل الرواية التالية:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد"

(3)

.

[تنبيه]: اختلاف هذه المقادير، والأواني يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يراعي مقدارًا مؤقّتًا، ولا إناءً مخصوصًا، لا في الوضوء، ولا في الغسل، بل كان يفعل بحسب الحاجة.

ونقل النوويّ عن الإمام الشافعيّ وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى، أنهم قالوا: الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال، وُجِد فيها أكثر ما استعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقلّه، فدلّ على أنه لا حدّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

(وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى) هو محمد بن المثنّى شيخه الثاني (بِخَمْسِ مَكَاكِيَّ) يعني أن محمد بن المثنّى قال في روايته: "بخمس مكاكيّ" بالياء المشدّدة بدل قول عبيد الله، شيخه الأول:"بخمس مكاكيك" بالكافين، وقد سبق آنفًا أنهما لغتان (وَقَالَ ابْنُ مُعَاذٍ)، أيْ عُبيد الله شيخه الأول (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، وَلَمْ يَذْكرِ ابْنَ جَبْرٍ)، أي لم يذكر جدّه، بل اكتفى بذكر أبيه.

وهذا من شدّة احتياط المصنّف وورعه، حيث يراعي اختلاف ألفاظ شيوخه، وإن كان لا يختلف به المعنى، إلا أن أداء ما سمعه كما سمعه أمر له مكانته الرفيعة، ولذا حثّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الحفظ والأداء كما سمع، ودعا لمن فَعَل ذلك بالنَّضْرة، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "نَضَّرَ الله امرأً، سَمِعَ منّا شيئًا،

(1)

"القاموس المحيط" ص 858.

(2)

"المفهم" 1/ 581.

(3)

راجع: "المفهم" 1/ 581.

(4)

"شرح النوويّ" 4/ 6.

ص: 48

فبلَّغه كما سمع، فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع"، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيحٌ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 742 و 743](325)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 57 - 58 و 127) وفي "المياه"(179)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 65)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 112 و 116 و 259 و 282 و 290)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 175)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(116)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1203 و 1204)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(627 و 628 و 629)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(729 و 730)، وفوائد الحديث تقدّمت مستوفاةً، فراجعها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[743]

(

) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ ابْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنسٍ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاع، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَكيعُ) بن الجرّاح، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في:"مسنده"(3942)، والترمذيّ (2581)، وابن ماجه (232).

ص: 49

والباقون تقدّموا قبله، و"ابن جبر" هو: عبد الله بن عبد الله بن جبر.

وقوله: (إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ) أي ويزيد على الصاع حتى يصل الزائد إلى خمسة أمداد، يعني أنه زاد ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد، فإذا زاد عليه مدًّا صار خمسة أمداد، وبقيّة مباحث الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[744]

(326) - (وَحَدَّثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّل، قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثَنا بِشْرٌ، حَدَّثنا أَبُو رَيْحَانَةَ، عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُغَسِّلُهُ الصَّاعُ مِنَ الْمَاء، مِنَ الْجَنَابَة، وَيُوَضِّئُهُ الْمُدُّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن الْحُسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَمْرُو بْن عَلِيٍّ) بن بَحْر بن كَنِيز الفلّاس، أبو حفص الصيرفيّ الباهليّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.

3 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

4 -

(أَبُو ريحَانَةَ) عبد الله - بفتح الراء - هو: عبد الله بن مَطَر البصريّ، مشهور بكنيته، ويقال: اسمه زياد، والأول أشهر، وقال البخاريّ: عبد الله أصح، صدوقٌ تغيّر بآخره [3].

روى عن سفينة

(1)

، وابن عباس، وصحِبَ ابن عمر.

ورَوَى عنه عوف الأعرابي، ووُهيب بن خالد، وسليمان بن كثير، وبشر بن المفضل، وإسماعيل ابن علية، وعلي بن عاصم، وغيرهم.

(1)

قال الحافظ في: "تهذيب التهذيب" 2/ 435: ولكنه يروي عن سفينة إن كان سمع منه انتهى.

ص: 50

قال ابن معين: صالح، وقال مرّة: ليس به بأس، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال مرة: لا بأس به، وذكر ابن خَلْفون في "الثقات" أنه تغير، وأنّ مَن سَمِع منه قديمًا، فحديثه صالح، وقال ابن عديّ: لا أعرف له حديثًا منكرًا، فأذكره، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ.

روى له الجماعة، سوى البخاريّ، والنسائيّ، وله عند أبي داود في النهي عن مُعَاقَرَة الأَعْراب، وعند الباقين هذا الحديث فقط، وأعاده المصنّف هنا بعده.

5 -

(سَفِينَةُ) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الْبَخْتَريّ، كان عبدًا لأمّ سلمة زوجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقته، وشَرَطَت عليه أن يَخدُم النبي صلى الله عليه وسلم حياته، فقال: لو لم تشترطي عليّ ما فارقته، يقال: اسمه مِهْرَان بن فَرُّوخ، قاله الواقديّ، ويقال: نَجْرَان، قاله محمد بن سعد، ويقال: رُومان، ويقال: رَبَاح، ويقال: قيس، قاله ابن الْبَرْقيّ، ويقال: شَنْبَه ابن مَارفَنّه، ويقال: عُمير، حكاه ابن عبد البر، ويقال: عيسى، حكاه أبو نعيم، ويقال سُلَيمان، حكاه العسكريّ، ويقال: أيمن، ويقال: طَهْمَان، حكاهما السُّهَيليّ، ويقال: مثعب، حكاه الْبَرْديجيّ، ويقال: ذكوان، حكاه ابن عساكر، ويقال غير ذلك، وفَرَّقَ ابن أبي خَيْثَمة بين مِهْران وسَفِينة، وتَبِعه غير واحد، والله أعلم بالصواب.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، وأم سلمة، وعنه ابْنَاه: عبد الرحمن، وعمر، وسعيد بن جُمْهَان، وأبو رَيحانة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، والحسن البصري، وغيرهم.

أخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، من طريق حماد بن زيد، عن سعيد بن جُمْهان، عن سفينة رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان إذا أعيا بعض القوم ألقى عَلَيّ سيفه، ألقى عليّ تُرْسه، حتى حَمَلتُ من ذلك شيئًا كثيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنت سفينة"

(1)

.

(1)

رواه أحمد في: "مسنده" 5/ 220 و 221 و 222، والطبراني في:"المعجم الكبير"(6439)، وأبو نعيم في:"الحلية" 1/ 369، والحاكم في:"المستدرك" 3/ 606.

ص: 51

وأخرج الطبرانيّ في "الكبير" بسنده عن محمد بن المنكدر، عن سفينة رضي الله عنه قال: ركبت سفينة في البحر، فانكسرت، فركبتُ لَوْحًا من ألواحها، فطرحني اللوح في أَجَمَة فيها الأسد، فأقبل يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فطأطأ رأسه، وأقبل إليّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجَمَة، ووضعني على الطريق، وهَمْهم، فظننتُ أنه يودّعني، فكان ذلك آخر عهدي به

(1)

.

أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط وأعاده بعده، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (34) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (يُغَسِّلُهُ الصَّاعُ) بضمّ أوله، وتشديد ثالثه، من التغسيل، ويحتمل أن يكون بفتح أوله، وكسر ثالثه مبنيًّا للفاعل، من الغسل، والأول أولى؛ لمناسبة "يوَضئه".

وقوله: (مِنَ الْمَاءِ) بيان لـ"صاع"، وقوله:(مِنَ الْجَنَابَةِ)، أي في حال الجنابة، يعني أنه يكفيه الماء الذي يكون بمقدار الصاع للاغتسال، كما يكفيه مقدار المدّ منه للوضوء.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سفينة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[9/ 744 و 745](326)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(56)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(267)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 222)، و (الدارميّ) في "سننه"(694)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(630 و 631 و 632)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(734)، والله

(1)

راجع: "المعجم الكبير" 7/ 94. قال الحافظ الهيثميّ في: "مجمع الزوائد" 8/ 270: رواه الطبراني، والبزار، ورجال الطبرانيّ ثقات.

ص: 52

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[745]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِالصَّاع، وَيَتَطَهَّرُ بِالْمُدِّ"، وَفي حَدِيثِ ابْنِ حُجْرٍ: أَوْ قَالَ: "وَيُطَهِّرُهُ الْمُدُّ"، وقَالَ

(2)

: وَقَدْ كَانَ كَبِرَ، وَمَا كُنْتُ أَثِقُ بِحَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ) بن إياس السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ) هو ابن عُليّة في السند السابق.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (35) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أن شيخه الأول، وهو أبو بكر بن أبي شيبة وَصَفَ "سفينة" فقال:"عن سفينةَ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فزاد قولَهُ:"صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فـ "صاحبِ" مجرور على الحكاية؛ لأنه صفة لـ "سفينة"، وأما شيخه عليّ بن حُجر، فلم يصفه، بل اقتصر على قوله:"عن سفينةَ".

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ حُجْرٍ: أَوْ قَالَ: "وَيُطَهِّرُهُ الْمُدُّ") معناه: أن عليّ بن حجر زاد قوله: "أو قال: ويطهّره المدّ" بعد قوله: "ويتطهّر بالمدّ"،

(1)

وفي نسخة: "حدثنا" بدون عاطف.

(2)

وفي نسخة: "قال" بحذف العاطف.

ص: 53

و"أو" فيه للشكّ، يعني أنه شكّ، هل قال:"ويتطهر بالمدّ"، أو قال:"ويُطهِّره المدّ"؟ والله تعالى أعلم.

وقوله: (وقَالَ) وفي نسخة: "قال" بحذف الواو.

وقوله: (وَقَدْ كَانَ كَبِرَ) بكسر الباء، يقال: كَبِرَ الصبيّ وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِبَ مَكْبِرًا، مثل مسجِدٍ، وكَبَرًا، وزانُ عِنَبٍ: إذا طَعَنَ في السن، فهو كبير، وجمعه كبَارٌ، وكَبُرَ الشيءُ كُبْرًا، من باب قَرُبَ: إذا عَظُمَ، فهو كبير أيضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: كَبُرَ، كَكَرُمَ كِبَرًا، كَعِنَبٍ، وكُبْرًا بالضمّ، وكَبَارةً بالفتح: نقيض صَغُرَ، فهو كبيرٌ، وكُبّارُ، كرُمّانٍ، ويُخفّفُ، وهي بهاء، قال: وكَبِرَ، كَفَرِحَ كِبَرًا، كعِنَبٍ، ومَكْبِرًا، كمَنْزِلٍ: طَعَنَ في السنّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سَبَقَ أن كَبُرَ بمعنى عَظُم يكون بضم الموحّدة، ككَرُمَ، وكَبِرَ بمعنى طَعَنَ في السنّ، كما في هذا الحديث، ويكون بكسرها، كفَرِحَ وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، فاحفظه، فإنه قد يَغْلَطُ فيه الخاصّة فضلًا عن العامة، فيستعملون أحدهما مكان الآخر، ولا قائل به، أفاده الستد محمد مرتضى الزبيدي في "شرح القاموس"

(3)

.

وقوله: (وَمَا كُنْتُ أَثِقُ بِحَدِيثِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر الأصول "أَثِقُ " بكسر الثاء المثلثة، من الوثوق الذي هو الاعتماد، ورواه جماعة:"وما كنت أَيْنَقُ" بياء مثناة تحتُ، ثم نون: أي أَعْجَب به، وأرتضيه، والقائل:"وقد كان كَبِرَ" هو أبو رَيْحانة، والذي كَبِر هو سفينة، ولم يذكر مسلم حديثه هذا مُعْتَمِدًا عليه وحده، بل ذكره متابعةً لغيره من الأحاديث التي ذكرها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النووي من أن الذي كبِرَ هو

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 523.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 422.

(3)

راجع: "تاج العروس" 3/ 514.

ص: 54

سفينة، قاله قبله القاضي عياض

(1)

، لكن الذي ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب" يفيد أن الذي كَبِرَ هو أبو ريحانة، ودونك عبارته:"وقال مسلم في "صحيحه": حدثني علي بن حُجْر، ثنا ابنُ علية، أخبرني أبو ريحانة، وكأنه قد كَبِر، وما كنت أَثِق بحديثه". انتهى

(2)

.

والذي يظهر أن الكلام محتمل، إلا أن ما نقله في "التهذيب" ليس نصّ مسلم، كما لا يَخفى، بل نقله بحسب ما فهمه منه، فلو كان نصّ مسلم كما قال كان ظاهرًا في كونه لأبي ريحانة، إلا أن الأمر ليس كذلك، ومهما كان الأمر فليس ذكر مسلم الحديث بهذا الإسناد اعتمادًا عليه، بل شاهدًا لأحاديث الباب فلا يضرّه ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْس، ثَلَاثًا)

وبالسند المتّصل إلى الامام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[746]

(327) - (حَدَّثَنَا

(3)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: تَمَارَوْا فِي الْغُسْل، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْض الْقَوْمِ: أمّا أَنَا، فَإِنِّي أَغْسِلُ رَأْسِي كَذَا وَكَذَا

(4)

، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي أُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ أَكُفٍّ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ متقن [7] [179) (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

(1)

راجع كلامه في: "إكمال المعلم" 2/ 167.

(2)

"تهذيب التهذيب" 2/ 435.

(3)

وفي نسخة: "وحدثنا".

(4)

وفي نسخة: "بكذا وكذا".

ص: 55

2 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبيعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابد، اختَلَط، ويُدلّس [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ) - بضمّ المهملة، وفتح الراء - ابن الْجَوْن بن أبي الْجَوْن بن مُنقِذ بن ربيعة بن أصرم بن حَرَام الْخُزاعيّ، أبو مطرّف الصحابيّ الكوفيّ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أُبَيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، وجُبَير بن مُطْعِم.

ورَوَى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، ويحيى بن يَعْمُر، وعديّ بن ثابت، وعبد الله بن يسار الجهنيّ، وأبو الضُّحى، وغيرهم.

قال ابن عبد البر: كان خيرًا فاضلًا، وكان اسمه في الجاهلية يسارًا، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم سليمان، سَكَن الكوفة، وكان له سِنّ عاليةٌ، وشَرَفٌ في قومه، وشَهِدَ مع عليّ صِفِّين، وكان فيمن كَتَب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قَدِمها ترك القتال معه، فلما قُتِل قَدِم سليمان هو والمسيَّب بن نَجَبَة الفزاريّ، وجميعُ مَن خَذَله، وقالوا: ما لنا توبة إلا أن نَقْتُل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنُّخَيلة، ووَلَّوْا سليمان أمرهم، ثم ساروا، فالتَقَوا بعبيد الله بن زياد بموضع يقال له عين الوَرْدَة، فقُتِل سليمان والمسيَّب، ومن معهم في ربيع الآخر، سنة خمس وستين، وقيل: رماه يزيد بن الحصين بن نُمير بسهم، فقَتَله، وحَمَل رأسه إلى مروان، وكان سليمان يوم قتل ابن (93) سنةً، وذكر ابن حبان أن قتله كان سنة (67) والأول أصحّ، وأكثرُ

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (327) وأعاده بعده، و (2610) حديث: "إني لأعلم كلمةً، لو قالها لذهب عنه الذي يجد

" الحديث، وأعاده أيضًا.

4 -

(جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم) بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابيّ، قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أُسارَى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح.

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 98 - 99.

ص: 56

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه سليمان بن صُرَد، وأبو سِرْوَعَة، وابناه محمد ونافع ابنا جبير، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن باباه، وغيرهم.

قال الزبير: كان يؤخذ عنه النسب، وكان أَخَذَ النسبَ عن أبي بكر، وسَلَّحَ عمرُ بن الخطاب جُبيرًا سيفَ النعمان بن المنذر.

وقال ابن الْبَرْقيّ وخليفة: تُوفي سنة (59) بالمدينة، وقال المدائني سنة (58).

وحَكَى ابنُ عبد البر أنه أوّلُ من لَبِسَ الطيلسان بالمدينة، وقال العسكري: كان جُبير بن مُطْعِم أحدَ من يُتحاكَم إليه، وقد تَحاكم إليه عثمان وطلحة في قضية، ومات سنة (56).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط

(1)

، برقم (327) وأعاده بعده، و (463) و (1220) و (2354) وأعاده بعده، و (2386) و (2530) و (2556) وأعاده بعده.

وشيوخه الثلاثة تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها)؛ أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا إلخ" فيه إيضاح لاختلاف شيوخه في كيفيّة التحمّل، والأداء، فيحيى سمع قارئًا يقرأ على أبي الأحوص، ولذا قال:"أخبرنا"، وقتيبة، وأبو بكر سمعا من لفظ أبي الأحوص، ولذا قالا: حدّثنا، فقوله:"أبو الأحوص" تنازعه كلّ من "أخبرنا"، و"حدّثنا".

3 -

(ومنها): أن رجاله من رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

(1)

ذكرت في: "قرّة العين": أن له من الأحاديث (60) حديثًا، اتفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بحديث واحد، ومسلم بحديث آخر.

ص: 57

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة من صيغ الأداء.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ: سليمان، عن جبير رضي الله عنه، وهو من رواية الأقران

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ) بضمّ المهملة، وفتح الراء، وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنه (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، بصيغة اسم الفاعل، وهو من مشاهير الصحابة رضي الله عنه

(2)

، أنه (قَالَ: تَمَارَوْا) أي اختلفوا، وتنازعوا، والتماري، والمماراة: المجادلة على مذهب الشكّ والرِّيبة، ويقال للمناظرة: مماراة؛ لأن كلّ واحد منهما يستخرِج ما عند صاحبه يمتريه كما يمتري الحالب اللبنَ من الضرع، قاله في "اللسان"

(3)

.

(فِي الْغُسْلِ) تقدّم أنه بفتح الغين، وضمّها، أي في كمّيّة غسل الرأس، بدليل قوله:"فإني أغسل رأسي"، والمراد بالغسل أيضًا غسل الجنابة، بدليل الرواية الآتية من طريق شعبة، عن أبي إسحاق:"ذُكِر عنده الغسلُ من الجنابة"(عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظرف متعلّق بـ "تماروا"(فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي أَغْسِلُ رَأسِي كَذَا وَكَذَا) وفي نسخة: "بكذا وكذا"، وهو كناية عن عدد أكثر من الثلاثة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فإني أفيض على رأسي ثلاث أكُفّ"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَنَا)"أما" في الكلام حرف شرط، وتوكيد دائمًا، وتفصيل غالبًا، وهي بفتح الهمزة، وتشديد الميم، وقد تُبدَل ميمها الأولى ياء، كقول الشاعر [من الطويل]:

رَأَتْ رَجُلًا أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ

فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَرُ

أما كونها حرف شرط، فبدليل لزومها الفاء بعدها، نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ

} [البقرة: 26]، وأما كونها للتأكيد، فلأنها تعطي الكلام فضل توكيد، تقول: زيد

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 437.

(2)

المصدر السابق.

(3)

"لسان العرب" 15/ 278.

ص: 58

ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه ذاهبٌ لا مَحَالةَ تقول: أما زيد فذاهمب، وأما كونها للتفصيل، فهو غالب أحوالها، كما في الآية السابقة، وقد تأتي لغير تفصيل أصلًا، نحو أما زيد فمنطلق.

إذا تقرّر هذا، فـ "أمّا" في الحديث هنا يحتمل أن تكون للتفصيل، حُذف قسيمها لدلالة الكلام عليه، فكأنه قال: أما أنا فأُفيض إلخ، وأما أنتم فلا أدري ماذا تفعلون؟، أو نحو ذلك، ويدلّ على هذا قول بعض الناس: إني لأغسل كذا وكذا، ويَحْتَمِل أن تكون لمجرّد التوكيد، فلا تفصيل فيها، ولا تحتاج إلى تكرارها، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، وتقدّم أيضًا في "شرح المقدّمة" عند قول المصنّف رحمه الله:"ما بعدُ إلخ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَإِنِّي أُفِيضُ) بضمّ الهمزة، من الإفاضة، وهو الإسالة والصبّ: أي فأصبّ (عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ اَكُفٍّ") بفتح الهمزة، وضمّ الكاف: جمع كَفّ، وتُجمع أيضًا على كفُوف، مثلُ فَلْس وأَفْلُس وفُلُوس، وهي مؤنّثة، وهي الراحة مع الأصابع، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَكُفّ الأذى عن البدن، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: كون الكفّ مؤنّثةً هو الذي نصّ عليه في "المصباح" حيث قال: الكفّ من الإنسان وغيره أُنثى، قال ابن الأنباريّ: وزَعَمَ من لا يوثق به أن الكفّ مذكّرٌ، ولا يَعْرِف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كفّ مُخَضَّبٌ، فعلى معنى ساعدٍ مُخَضَّبٍ. انتهى

(2)

.

فعلى هذا فما وقع في الرواية هنا "ثلاث أكفّ" جار على الفصيح، وأما ما وقع في "صحيح البخاريّ" في حديث جابر رضي الله عنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاثة أكُفّ" فيحتاج للتأويل بمعنى العضو، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" عند قوله: "ثلاث أكفّ" وفي رواية كريمة: "ثلاثة أكفّ"، وهي جمع كفّ، والكفّ تُذكّر وتؤنّث.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 535 - 536.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 535.

ص: 59

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا صرّح في "الفتح" بأن الكفّ يذكّر، ويؤنّث، وكذا صرّح العينيّ به، وهو خلاف الصواب، فقد صرّح أهل اللغة، ونصّوا على أن الكفّ مؤنّث، كما أسلفته، ومن الغريب اعتراض العينيّ في هذا على الكرمانيّ، ودونك عبارتهما:

قال الكرمانيّ: [فإن قلت]: الكفّ مؤنّثة، فلم دخلت التاء في الثلاثة؟ [قلت]: المراد من الكفّ قدر ما فيها، فباعتباره دخلت، أو باعتبار العضو. انتهى.

فاعترض عليه العينيّ، فقال: قلت: في الجواب الأول نظرٌ، والثاني لا بأس به، والأحسن أن يقال: الكفّ يذكّر ويؤنّث، فيجوز دخول التاء، وتركه على الاعتبارين. انتهى

(1)

.

وهذا الاعتراض غير صحيح، فما قاله الكرماني من التأويل وجيه، فما استحسنه العينيّ من جواز التذكير والتأنيث فلا وجه له؛ لأنه لم يأت له بحجة من كلام أهل اللغة، بل نصّوا على أنه غلط.

ثم وجدت السيّد محمد المرتضى رحمه الله في "شرح القاموس" قد حقّق الموضوع، فأفاد وأجاد، ودونك نصّه: قال: قال شيخنا: الكفّ مؤنّثة، وتذكيرها غلطٌ، غير معروف، وإن جوّزه بعضٌ تأويلًا، وقال بعض: هي لغة قليلةٌ، فالصواب أنه لا يُعرف، وما ورد حملوه على التأويل، ولم يتعرّض المصنّف - يعني صاحب "القاموس" - لذلك قصورًا، أو بناءً على شُهرته، أو على أن الأعضاء المزدوجة كلها مؤنّثة. انتهى

(2)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح": والمراد أنه يأخذ في كلّ مرّة كفّين، ويدلّ على ذلك رواية إسحاق بن راهويه من طريق الحسن بن صالح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال في آخر الحديث:"وبسط يديه"، ويؤيّده حديث جُبير بن مُطعم، حيث قال:"وأشار بيديه كلتيهما"، قال: والكفّ اسم جنس، فيُحمل على الاثنين،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 301.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 234.

ص: 60

ويَحْتَمل أن تكون هذه الغرفات الثلاث للتكرار، ويَحْتَمِل أن يكون لكلّ جهة من الرأس، كما جاء ذلك في حديث القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، يعني الحديث السابق:"فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه"

(1)

.

ومعنى الحديث: فإني أُفيض على رأسي ثلاث حَفَنات، كلُّ حَفْنة منهنّ بملء الكفّين جميعًا، كما بيّنته رواية أحمد في "مسنده" من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صُرَد، عن جُبَير بن مُطْعِم، قال: تذاكرنا غسل الجنابة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أنا، فآخذُ ملء كفي ثلاثًا، فأُصُبُّ على رأسي، ثم أُفيض بعدُ على سائر جسدي".

ويدلّ على كون المراد ملء الكفّين ما في رواية البخاريّ، قال:"أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا، وأشار بيديه كلتيهما"، أي أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بيديه على كيفيّة أخذه الماء.

ودلّ هذا على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُفيض على رأسه أكثر من ثلاث، ودلّ أيضًا على أن غسل سائر الجسد ليس فيه التثليث؛ لأنه قال:"ثم أفيض إلخ"، ولم يذكر الثلاث، فالمطلوب فيه التعميم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جُبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[10/ 746 و 747](327)، و (البخاريّ) في "الغسل"(254)، و (أبو داود) في "الطهارة"(239)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 135)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(575)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(855 و 856)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(731، 732)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 1/ 439.

ص: 61

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز المناظرة، والمباحثة في العلم.

2 -

(ومنها): جواز مناظرة الفاضل بحضرة المفضول، ومناظرة الأصحاب بحضرة إمامهم وكبيرهم.

3 -

(ومنها): جواز التنازع عند النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير رفع صوت، وأما ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عبّاس رضي الله عنها قال: لَمّا اشتد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُه قال: "ائتوني بكتاب، أكتبْ لكم كتابًا لا تضلوا بعده"، قال عمر: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، فقال: "قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع

" الحديث.

فهذا محمولٌ على التنازع الذي يؤدّي إلى الخصام، ورفع الصوت، كما يدّل عليه سياق الحديث، فإنه صريحٌ في كون تنازعهم أدّى إلى رفعِ الصوت، والإخلال بالتعظيم الذي أوجبه الله عز وجل على الأمة بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية [الحجرات: 2].

4 -

(ومنها): كون الإفاضة على الرأس ثلاث غرفات، وهو القدر الكافي فيه، فلا ينبغي تجاوزه، لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل في حقّه:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث استحباب إفاضة الماء على الرأس ثلاثًا، وهو مُتَّفقٌ عليه، وأَلْحَق به أصحابنا سائر البدن قياسًا على الرأس، وعلى أعضاء الوضوء، وهو أولى بالثلاث من الوضوء، فإن الوضوء مبنيّ على التخفيف، ويتكرر، فإذا استُحِبّ فيه الثلاث، ففي الغسل أولى، ولا نعلم في هذا خلافًا إلا ما انفرد به الإمام أقضى القضاة، أبو الحسن الماورديّ صاحب "الحاوي" من أصحابنا، فإنه قال:"لا يستحب التكرار في الغسل"، وهذا شاذّ متروكٌ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إن أراد الماورديّ بقوله: "لا يستحبّ التكرار في الغسل" غسلَ الرأس، فقوله باطلٌ مردودٌ بهذه الأحاديث الصحيحة، كما

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 9.

ص: 62

أشار النوويّ رحمه الله، وإن أراد بذلك سائر الجسد - ولا أظنّه يريد إلا هذا - فالظاهر أن ما قاله هو الصواب؛ لأنه لم يُذكر في هذه الأحاديث الصحيحة التثليث إلا في الرأس، وأما سائر الجسد، ففيها الإفاضة فقط، فبأيّ دليل يقال: إن قوله شاذّ متروك؟، فتأملّ بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): التلطّف في التعليم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: هذا حرامٌ، أو نحو ذلك، بل أرشدهم إلى ما هو عليه من الهدي؛ ليهتدوا به، فما أكرمه صلى الله عليه وسلم من معلّم، وأحسنه من مرشد صلى الله عليه وسلم.

7 -

(ومنها): أنه قد يستفاد منه أن الوضوء قبل الغسل غير واجب، حيث لم يذكره صلى الله عليه وسلم هنا، لكن يُجاب عنه بأنه إنما ذَكَرَ محلّ التنازع، حيث قال بعضهم: إني أغسل رأسي كذا وكذا مرّةً، وقد تقدّم ترجيح القول بعدم وجوب هذا الوضوء، وإنما هو مستحبّ، بدليله، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[747]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَة، فَقَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأُفْرغُ عَلَىَ رَأْسِي ثَلَاثًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ) بن عثمان الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببُنْدَار، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بغُنْدر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أَو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون تقدّموا قبله، وكذا شرح الحديث، ومسائله.

وقوله: (أنَّهُ ذُكرَ عِنْدَهُ الْغُسْلُ) ببناء الفعل للمفعول، و"الغسل" نائب

ص: 63

فاعله، والضميران للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيحْتَمِل أن يكون الأول ضمير الشأن، والجملة تفسير له، والثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَأُفْرِغُ) بضم الهمزة، من الإفراغ، مبنيًّا للفاعل، وهو بمعنى "أُفيض"، أي أصبّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[748]

(328) - (وَحَدَّثنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ سَأَلوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ، فَكَيْفَ بِالْغُسْلِ؟ فَقَالَ:"أمَّا أَنَا فَأُفْرغُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا"، قَالَ ابْنُ سَالِمٍ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، وَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام المذكور أول الباب.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِم) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، والد محمد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن ابن علية، وهشيم، وعباد بن عباد، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والبخاريّ في غير "الجامع"، وابن أبي عاصم، وابنه محمد بن إسماعيل، ويعقوب بن سفيان.

قال الصَّدَفيّ: سألت أبا صالح بن عبيد الله، عن محمد بن إسماعيل الصائغ، فقال: ثقةٌ مأمونٌ، وأبوه ثقةٌ، وذَكَره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث فقط.

[تنبيه]: قال أبو بكر الخطيب البغداديّ رحمه الله: إسماعيل بن سالم اثنان: أحدهما يروي عن هشيم، وهو الصائغ، والآخر يَروِي عنه هُشيم، وهو

(1)

وفي نسخة: "وحدثني".

ص: 64

الأسديّ انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إسماعيل بن سالم الأسديّ له عند المصنّف حديث واحد سيأتي في "كتاب القسامة، والمحاربين" برقم (1680) حديث: "القاتل والمقتول في النار

" الحديث.

3 -

(هُشَيْم) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو بِشْرِ) بن أبي وَحْشيّة، واسمه: جعفر بن إياس، ثقةٌ، من أثبت الناس في سعيد بن جُبير [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

5 -

(أَبُو سُفْيَانَ) هو: طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكة، صدوق [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات بعد (70) وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو بشر، عن أبي سفيان، وكلاهما ممن اشتهر بكنيته.

3 -

(ومنها): أن فيه قولَهُ في آخر الحديث: "قَالَ ابْنُ سَالِمٍ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ"، قال النوويّ رحمه الله: فيه فائدةٌ عظيمة من دقائق هذا العلم ولطائفه، وهي مُصَرِّحة بغَزَارة علم مسلم رحمه الله، ودقيق نظره، وهي أن هشيمًا: مُدَلّسٌ، وقد قال في الرواية المتقدمة:"عن أبي بِشْر"، والمدلّس إذا قال:"عن" لا يُحتَجّ به إلا إذا أثبت سماعَهُ ذلك الحديثَ من ذلك الشخص الذي عنعن عنه، فَبَيَّن مسلم أنه ثبتٌ سماعه من جهة أُخرى، وهي رواية ابن

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 153 - 154.

ص: 65

سالم، فإنه قال فيها:"أخبرنا أبو بشر"، وقد قَدّمنا مَرّاتٍ بيانَ مثلِ هذه الدقيقة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ)"الْوَفْد" بفتح الواو، وسكون الفاء: جمع وافد، وهم القوم يجتمعون، وَيرِدون البلاد، وكذلك الذين يَقصِدون الأُمراء لزيارةٍ، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك، قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال في "القاموس": وَفَدَ إليه، وعليه يَفِدُ وَفْدًا، وَوُفُودًا، ووِفَادةً، وإِفَادةً: قَدِمَ، وورَدَ، وأوفده عليه، وإليه، وهم: وُفُودٌ، ووَفْدٌ، وأوفادٌ، ووُفَّدٌ. انتهى

(3)

. وقد تقدّم البحث بأتمّ من هذا في "كتاب الإيمان" عند شرح حديث قصّة وفد عبد القيس، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

و"ثَقِيف" - بفتح الثاء المثلّثة، وكسر القاف، آخره فاء بوزن أَمِير -: أبو قبيلة من هَوَازن، واسمه قَسِيّ بن مُنَبِّه بن بكر بن هَوَازن، قاله في "القاموس"

(4)

.

وقال في "اللباب": هو: ثَقِيف بن منبِّه بن بكر بن هَوَازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفَة بن قيس عَيْلان بن مُضَر، وقيل: إن اسم ثَقِيف قسيّ. انتهى

(5)

.

(سَأَلوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا) تفسير لمعنى "سألوا"(إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ)، أي في الشتاء، وكانت ثقيف تسكن الطائف، وهي مصيف أهل الحجاز؛ لأن جوّها باردٌ شتاءً، معتدلٌ صيفًا

(6)

.

(فَكَيْفَ بِالْغُسْلِ؟) الفاء فصيحيّة وقعت في جواب شرط مقدّر، أي إذا كانت أرضنا باردةً، وغسل الجنابة واجب علينا، فعلى أيّ حالة؟ وبكم حَفْنة

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 10.

(2)

"النهاية" 5/ 209.

(3)

"القاموس المحيط" ص 295.

(4)

"القاموس المحيط" ص 715.

(5)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 240 - 241.

(6)

"فتح المنعم" 2/ 333.

ص: 66

نغتسل؟، و"كيف" خبر مقدّمٌ، والباء زائدة، و"الغسل" مبتدأ مؤخّرٌ، (فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("أَمَّا أَنَا فَأُفْرِغُ) بضمّ الهمزة، وتخفيف الراء المكسورة، مبنيًّا للفاعل، من الإفراغ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأفرغت الشيء: صببته إذا كان يَسيل، أو من جوهر ذائب. انتهى

(1)

.

وَيَحْتَمل أن يكون بتشديد الراء، من التفريغ، وقد أثبته في "القاموس"، ونصّه: وأفرغه: صبّه، كفرَّغه انتهى

(2)

.

ومعناه هنا: أصبّ على رأسي، فهو بمعنى قوله الماضي:"فأُفيض على رأسي"(عَلَى رَأْسِي ثَلاثًا")، أي إفراغات ثلاثًا، فهو نعتٌ لمصدر محذوف.

وقوله: (قَالَ ابْنُ سَالِمٍ)، أي شيخه الثاني، إسماعيل بن سالم الصائغ (فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ)، تقدّم آنفًا أن فائدته إزالة خوف تدليس هُشيم؛ لأنه كثير التدليس، وقد رواه في رواية يحيى بـ "عن"، فأزال المصنّف ذلك برواية ابن سالم (وَقَالَ) ابن سالم أيضًا (إِنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ) يعني بدل قول يحيى: "أن وفد ثقيف قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ"، وهذا أيضًا من ورع المصنّف، واحتياطاته، وتشدّده في التزام ألفاظ المشايخ، وإن لم يختلف به المعنى؛ إذ ليس بين العبارتين اختلاف من حيث المعنى المراد هنا، وهو نسبة القول إلى قائله، وإن اختلف العلماء في النبيّ والرسول، هل هما مترادفان، أم بينهما عموم وخصوص؟ وقد استوفينا بحثه في أوائل "شرح المقدّمة"، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في جواز إبدال الرسول بالنبيّ، وعكسه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولي) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المصباح" 2/ 470.

(2)

"القاموس" ص 707.

ص: 67

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[10/ 748](328)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 304)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(858)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(733)، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، وستأتي أيضًا بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في جواز إبدال النبيّ بالرسول، وعكسه: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: الظاهر أنه لا يجوز تغيير: "قال النبيّ صلى الله عليه وسلم" إلى "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولا عكسه، وإن جازت الرواية بالمعنى، وكان أحمد إذا كان في الكتاب "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقال المحدث:"رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ضَرَبَ، وكتب:"رسول الله"، وعَلّل ابن الصلاح ذلك، فقال: لاختلاف معنى النبيّ والرسول؛ لأن الرسول مَن أوحي إليه للتبليغ، والنبيّ مَن أوحي إليه للعمل فقط

(1)

.

وتعقّبه النووي، فقال: والصواب جوازه؛ لأنه وإن اختلف معناه في الأصل، لا يختلف به هنا معنى؛ إذ المقصود نسبة القول لقائله، وذلك حاصل بكل من الموضعين، وهو مذهب أحمد بن حنبل، فقد سأله ابنه صالح عنه، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وما تقدّم عنه محمول على استحباب اتّباع اللفظ دون اللزوم، وهو مذهب حماد بن سلمة، والخطيب البغداديّ أيضًا.

وقد استَدَلّ بعضهم للمنع بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في الدعاء عند النوم، وفيه:"ونبيّك الذي أَرْسَلْتَ"، فأعاده على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ورسولك الذي أَرْسلتَ، فقال:"لا، ونبيّك الذي أرسلتَ".

(1)

هذا التعريف غير صحيح، بل الصواب أن الرسول من جاء بشرع جديد، والنبيّ من أوحي إليه بتجديد شريعة من قبله، فهو مأمور بالتبليغ، أي: بتبليغ شرع الرسول الذي قبل، وأما أن لا يؤمر بالتبليغ فتعريف باطلٌ، كيف لا يؤمر بالتبليغ، وهو نبيّ، وآحاد المؤمنين مأمور بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتبيلغ أحكام الشريعة؟ فتفطّن لهذه الدقيقة، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 68

وتعقّبه الحافظ العراقيّ رحمه الله فقال: ولا دليل فيه؛ لأن ألفاظ الأذكار توقيفيّةٌ، وربما كان في اللفظ سرٌّ لا يحصل بغيره، ولعله أراد أن يجمع بين اللفظين في موضع واحد، قال: والصواب ما قاله النوويّ، وكذا قال الْبُلْقِينيّ، وقال البدر ابن جماعة: لو قيل يجوز تغيير النبيّ إلى الرسول، ولا يجوز عكسه لَمَا بَعُد؛ لأن في الرسول معنى زائدًا على النبيّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن جماعة لا معنى له فيما نحن فيه، كما سبق في الردّ على ابن الصلاح، فزيادة معنى الرسول، لا يختلف بها نسبة القول إلى قائله؛ لأن النظر إلى ذات الشخص، لا إلى صفاته، فنسبة القول إليه، بأن نقول: قال فلان هذا القول، أو لم يقله متّحدة، لا تختلف باختلاف أوصافه، فتأملّ بالإنصاف.

والحاصل أن إبدال الرسول بالنبيّ، وعكسه جائزان، وإن كان التقيّدُ بالرواية، والأداءُ كما سمع أولى وأحسن، كما أسلفنا قريبًا من الاحتجاج له بالحديث الصحيح:"نضر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلّغه كما سمعه. . ." الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[749]

(329) - (وَحَدَّثنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْني الثَّقَفِيَّ - حَدَّثنَا جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ، صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِنْ مَاءٍ"، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ محَمَّدٍ: إِن شَعْرِي كثِيرٌ، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي كَانَ شَعْرُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ).

(1)

راجع: "تدريب الراوي على تقريب النواويّ" 2/ 121 - 122.

(2)

وفي نسخة: "وحدثني".

ص: 69

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(جَعْفَرُ) بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلويّ، أبو عبد الله المدني الصادق، وأمه أم فَرْوة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فلذلك كان يقول: وَلَدَني أبو بكر مرتين، صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ [6].

رَوَى عن أبيه، ومحمد بن المنكدر، وعبيد الله بن أبي رافع، وعطاء، وعروة، وجدّه لأمه القاسم بن محمد، ونافع، والزهري، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والسفيانان، ومالك، وابن جريج، وأبو حنيفة، وابنه موسى، ووُهيبٌ، والقطان، وأبو عاصم، وخلق كثير. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، ويزيد بن الهاد، ومات قبله. قال الدَّرَاوَرْدِيُّ: لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العباس. وقال مصعب الزبيري: كان مالك لا يروي عنه حتى يضمه إلى آخر. وقال ابن المديني: سئل يحيى بن سعيد عنه، فقال: في نفسي منه شيء، ومجالد أحب إلي منه، قال: وأملَى عليّ جعفر الحديث الطويل - يعني في الحج -. وقال إسحاق بن حَكِيم عن يحيى بن سعيد: ما كان كذوبًا. وقال سعيد بن أبي مريم: قيل لأبي بكر بن عياش: ما لك لم تسمع من جعفر، وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يتحدث به من الأحاديث: أشيء سمعته؟ قال: لا، ولكنها رواية رويناها عن آبائنا. وقال إسحاق ابن راهويه: قلت للشافعيّ: كيف جعفر بن محمد عندك؟ فقال: ثقة - في مناظرة جرت بينهما -. وقال الدُّوريّ عن يحيى بن معين: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خيثمة وغيره عنه: ثقة. وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى: كنتُ لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديثه، فقال لي: لِمَ لا تسألني عن حديث جعفر بن محمد؛ قلت: لا أريده، فقال لي: إنه كان يحفظ. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال ابن عَدِيّ: ولجعفر

ص: 70

أحاديث ونُسَخٌ، وهو من ثقات الناس، كما قال يحيى بن معين. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سُلالة النبيين. وقال علي بن الجعد عن زهير بن معاوية: قال أبي لجعفر بن محمد: إن لي جارًا يزعُم أنّك تَبْرأُ من أبي بكر وعمر، فقال جعفر: برئ الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر. وقال حفص بن غياث: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئًا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ولا يُحتَجّ به، ويُستَضعف، سئل مرة: سمعتَ هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرة، فقال: إنما وجدتها في كتبه.

قال الحافظ: يحتمل أن يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة، فذكر فيما سمعه أنه سمعه، وفيما لم يسمعه أنه وجده، وهذا يدل على تثبته.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلًا، يُحتجّ بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرتُ حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديث مستقيمة، ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يُلصق به ما جناه غيره. وقال الساجيّ: كان صدوقًا مأمونًا إذا حَدّث عنه الثقات، فحديثه مستقيم. وقال أبو موسى: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن سفيان عنه، وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال مالك: اختلفت إليه زمانًا، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مُصَل، وإما صائمٌ، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة.

قال الجعابيّ وغيره: وُلد سنة ثمانين. وقال خليفة وغير واحد: مات سنة (148).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.

4 -

(أَبُوهُ) هو: محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر الهاشمي، أمه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، ثقة فاضل [4]، مات سنة بضع (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.

ص: 71

والصحابيّ تقدّم في المسند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى جعفر، فأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا اغْتَسَلَ)، أي أراد الاغتسال (مِنْ جَنَابَةٍ)، أي بسببها (صَبَّ) بالبناء للفاعل (عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) - بفتحات -: جمع حَفْنة - بفتح، فسكون - وهي ملء الكفّين، يقال: حَفَنَ له حَفْنًا، من باب ضرب، وحَفْنَةً، والجمع حَفَنات، مثلُ سَجْدةٍ وسَجَدَات، وقوله:(مِنْ مَاءٍ") بيان لـ"حَفَنات"(فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو: الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، وأبوه يُعْرَف بابن الحنفية، ثقةٌ فقيهٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن دينار، وعاصم بن عمر بن قتادة، والزهريّ، وأبان بن صالح، وقيس بن مسلم، وعبد الواحد بن أيمن، وجماعة.

قال مصعب الزبيريّ، ومغيرة بن مِقْسم، وعثمان بن إبراهيم الحاطبيّ: هو أول مَن تَكَلَّم في الإرجاء، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وليس له عَقِبٌ، وقال ابن سعد: كان من ظُرَفاء بني هاشم، وأهل الفضل منهم، وكان يُقَدَّم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة، وهو أول مَن تكلم في الإرجاء،

ص: 72

وقال الزهريّ: ثنا الحسن، وعبد الله، ابنا محمد، وكان الحسن أرضاهما في أنفسنا، وفي رواية: وكان الحسن أوثقهما، وقال محمد بن إسماعيل الجعفريّ: حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم، عن أبيه، عن حسن بن محمد، قال: وكان من أوثق الناس عند الناس، وقال سفيان، عن عمرو بن دينار: ما كان الزهريّ إلا من غلمان الحسن بن محمد، وقال ابن حبان: كان من علماء الناس بالاختلاف، وقال سلام بن أبي مطيع، عن أيوب: أنا أتبرأ من الإرجاء، إن أول من تكلم فيه رجل من أهل المدينة، يقال له: الحسن بن محمد، وقال عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة: إنهما دخلا على الحسن بن محمد، فلاماه على الكتاب الذي وَضَعَ في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمرو، لوددت أني كنت مُتّ، ولم أكتبه.

قال الحافظ رحمه الله: المراد بالإرجاء الذي تَكَلَّم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يَعِيبه أهل السنة المتعَلِّق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العَدَنيّ في كتاب الإيمان له في آخره، قال: حدثنا إبراهيم بن عيينة، عن عبد الواحد بن أيمن، قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعدُ فإنا نوصيكم بتقوى الله، فذكر كلامًا كثيرًا في الموعظة، والوصية لكتاب الله، واتّباع ما فيه، وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تَقْتَتِل عليهما الأمة، ولم تشك في أمرهما، ونرْجِيء مَن بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنَكِل أمرهم إلى الله، إلى آخر الكلام، فمعنى الذي تكلم فيه الحسن أنه كان يَرَى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئًا أو مصيبًا، وكان يرى أنه يُرجئ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي تَعَلَّق بالإيمان، فلم يُعَرّج عليه، فلا يلحقه بذلك عاب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: لو كان ما قاله الحافظ في إرجاء الحسن بن محمد صحيحًا لكان الأمر هيّنًا، ولكن ما سبق عن أيوب، ومن قصّته مع زاذان في وضع الكتاب، يدلّ على غير هذا، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

ص: 73

وقال خليفة: مات سنة (99) أو مائة، وقيل غير ذلك في وفاته.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1405) حديث جابر، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما في جواز متعة النساء، وأعاده بعده، و (1407) حديث عليّ رضي الله عنه في النهي عن متعة النساء، وكرره ستّ مرّات.

(إِنَّ شَعْرِي) بفتح الشين، وسكون العين المهملة، وفتحها، قال الفيّوميّ رحمه الله: الشَّعْر بسكون العين، يُجمع على شُعور، مثلُ فلس وفلُوس، وبفتحها، يُجمع على أَشْعار، مثلُ سبب وأسباب، وهو من الإنسان وغيره، وهو مذكّرٌ، والواحدة شَعْرَةٌ، وإنما جُمِع الشعر تشبيهًا لاسم الجنس بالمفرد، كما قيل: إبلٌ وآبالٌ. انتهى

(1)

. (كَثِيرٌ)، وفي رواية البخاريّ:"إني رجلٌ كثير الشعر"، أي فأحتاج إلى أكثر من الحفنات الثلاث التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبّها على رأسه، (قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه، (فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي) أراد به أخوّة الإسلام، لا أخوّة النسب؛ لأنه ليس بينهما قرابة، لأن جابرًا رضي الله عنه أنصاريّ، والحسن بن محمد قرشيّ، هاشميّ، قيل: ويحتمل أن يكون أراد بالأخوّة المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار، ولا يخفى بُعده، والله تعالى أعلم. (كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ)، أي وكان يكفيه ثلاث حفنات، فاقتضى ذلك أن الإنقاء يحصل بها، وفي رواية البخاريّ:"كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا، وخيرٌ منك"، والمراد من الكثرة الطول والغزارة، وقال في "الفتح": وناسب ذكر الخيريّة؛ لأن طلب الازدياد من الماء يُلحَظ فيه التحرّي في إيصال الماء إلى جميع الجسد، وكان صلى الله عليه وسلم سيّد الورعين، وأتقى الناس لله تعالى، وأعلمهم به، وقد اكتفى بذلك، فأشار جابر رضي الله عنه إلى أن الزيادة على ما اكتفى به النبيّ صلى الله عليه وسلم تنطّع، قد يكون مثاره الوسوسة، فلا ينبغي أن يُلتفت إليه. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 314 - 315.

(2)

"الفتح" 1/ 439.

ص: 74

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[10/ 749](329)، و (البخاريّ) في "الغسل"(252 و 255 و 256)، وفي "الأدب المفرد"(959)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 127 و 207) وفي "الكبرى"(226)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(577)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1264)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 298 و 319 و 370 و 379)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(243)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(857)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(733)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب إفاضة الماء على الرأس ثلاثًا.

2 -

(ومنها): الاقتصاد في استعمال الماء في الطهارة، وكراهية التنطّع والإسراف فيه.

3 -

(ومنها): ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، والانقياد إلى ذلك، كما يحتجّون بأقواله، فإن جابرًا رضي الله عنه لَمّا سئل عن الغسل عن الجنابة، بيّن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، واحتجّ بفعله.

4 -

(ومنها): الردّ بعُنف على من يُماري بغير علم، إذا قصد الرادّ إيضاح المسألة، فإن الحسن بن محمد لَمّا سمع مقدار ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغتسل به من الماء، قال: لا يكفيني هذا، فردّ عليه جابر رضي الله عنه، فقال:"قد كان يكفي من كان خيرًا منك، وأكثر شعرًا" يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي فعليك باتّباع فعله، فأفحمه بذلك.

5 -

(منها): جواز المباحثة في العلم، والسؤال عنه، وإن كان السائل أشرف نسبًا، فإن العلم يزيد الشريف شرفًا، كما أن الجهل يضع من قدره، ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [من البسيط]:

الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ

وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ

6 -

(ومنها): الوقوف عند الحقّ إذا ظهر للإنسان، من غير ممانعة، ولا جدال.

7 -

(ومنها): ردّ الإنسان على نفسه الوسوسة، وحملها على التأسّي بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه.

ص: 75

8 -

(ومنها): أن فيه بيانَ أن خير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ضَمِن الله تعالى الفلاح والسعادة الأبدية في اتّباعه، فقال الله عز وجل:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ حُكْمِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ الْمُغْتَسِلَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[750]

(330) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي امْرَأةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، فَأَنَّقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: "لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثيَاتٍ

(1)

، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ، فَتَطْهُرِينَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ المذكور قبل بابين.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ الإمام المذكور قبل باب.

4 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

5 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الكوفيّ، ثم المكيّ الإمام المذكور قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "ثلاث حفنات".

ص: 76

6 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن نافع، ومكحول، وحميد بن نافع، وسعيد المقبريّ، والزهريّ، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، وأبيه موسى، وجدّه سعيد بن العاص، ولم يدركه، وجماعة. ورَوَى عنه يحيى بن سعيد، وهو من أقرانه، وشعبة، والسفيانان، والليث، وابن جريج، وعمرو بن الحارث، ومالك، وابن إسحاق، وهشام بن حسان، وغيرهم.

قال البخاريّ، عن ابن المدينيّ: له نحو أربعين حديثًا، وقال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ، وابن سعد: ثقة، زاد أحمد: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الدارقطنيّ: أيوب هو ابن عم إسماعيل بن أمية ثقتان، وقال ابن عيينة: كان أيوب أفقههما، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ، وذكره ابن المدينيّ في الطبقة الثالثة من أصحاب نافع، وشَذّ الأزديّ، فقال: لا يقوم إسناد حديثه، ولا عبرة بقول الأزديّ، وقال ابن عبد البر: كان ثقةً حافظًا.

قال خليفة: مات سنة (132)، وقيل غير ذلك، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في حبس داود بن عليّ مع إسماعيل بن أمية.

أخرج له الستّة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

7 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ) أبو سَعْد المدنيّ، واسم أبيه كيسان، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) المخزوميّ، أبو رافع المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عنها، وعن حجاج بن عمرو بن غَزِيّة الأنصاريّ، وأبي هريرة، وغيرهم.

وروى عنه أفلح بن سعيد القُبَائيّ، وأيوب بن خالد بن صفوان، وبكير بن الأشج، وأبو صَخْر حميد بن زياد، وسعيد بن أبي سعيد المقبريّ، والقاسم بن عباس الهاشميّ، وموسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ، وعكرمة، وهو من أقرانه، وغيرهم.

ص: 77

قال العجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

روى له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (330) و (2295) و (2789) و (2857) وأعاده بعده.

9 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (62) وقيل: غير ذلك (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن قوله: "قال إسحاق إلخ" فيه إشارة إلى أنه وقع اختلاف بين شيوخه، فالثلاثة أخذوا الحديث عن ابن عيينة سماعًا من لفظه، وإسحاق أخذه سماعًا لقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا سفيان"، وأيضًا صرّح باسمه.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فأبو بكر ما أخرج له الترمذيّ، وعمرو الناقد ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وإسحاق ما أخرج له ابن ماجه، ومحمد بن يحيى ما أخرج له أبو داود، وكذا عبد الله بن رافع ما أخرج له البخاريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سعيد، عن عبد الله بن رافع، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند، وقيل غير ذلك، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ) هكذا في رواية المصنّف صرّح بأن السائلة هي أم سلمة رضي الله عنها، وكذا هو عند أبي داود، والنسائيّ، ووقع في رواية لأبي داود:"أن امرأة من المسلمين"، بالإبهام، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي امْرَأةٌ أَشُدُّ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، مضارع شدّ، من بأبي نصر، وضرب، أي أُحْكِمُ (ضَفْرَ رَأْسِي)، أي نَسْجَ شعر رأسي، وإدخالَ بعضه في بعض، قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الضاد، وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين

ص: 78

والفقهاء، وغيرهم، ومعناه: أُحْكِم فَتْلَ شَعْري، وقال الإمام ابن بَرِّيّ في الجزء الذي صنَّفه في لحن الفقهاء: من ذلك قولهم في حديث أم سلمة: "أَشُدُّ ضَفْرَ رأسي" يقولونه بفتح الضاد، وإسكان الفاء، وصوابه ضم الضاد، والفاء جمع ضَفِيرة، كسَفِينة وسُفُن، وهذا الذي أنكره رحمه الله ليس كما زعمه، بل الصواب جواز الأمرين، ولكل منهما مَعْنًى صحيحٌ، ولكن يترجح ما قدمناه؛ لكونه المرويّ المسموع في الروايات الثابتة المتصلة. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: ضَفَرَ الشعرَ يَضفِره: نسج بعضه على بعض، والحبلَ فَتَلهُ، وعَدَا، وسَعَى. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الضَّفِيرة"، من الشعر: الْخُصْلة من الشعر والجمع ضَفائر، وضُفُرٌ بضمّتين، وضَفَرتُ الشعرَ ضَفْرًا، من باب ضرب: إذا جعلته ضفائر، كلُّ ضَفِيرة على حِدَةٍ بثلاث طاقات فما فوقها، والضَّفِيرة: الذُّؤابةُ. انتهى

(3)

.

(فَأَنقُضُهُ؟) بتقدير همزة الاستفهام، ووقع في بعض النسخ:"أفأنقضه؟ " بذكرها، فتكون داخلة على محذوف، أي: ألا يَجزيني غسل الشعر مضفورًا، فأنقضه؟، أو هي مقدّمة من تأخير، كما سبق البحث في ذلك مستوفًى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "أفأنقضه" صحيح الرواية بالقاف، وقد وقع لبعض مشايخنا بالفاء، ولا بُعد فيه من جهة المعنى. انتهى

(4)

.

(لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟)، أي لأجل الاغتسال من الجنابة، أو عند إرادة الاغتسال منها، وقد تقدّم بيان معنى الجنابة، وهي إنما سألت عن الوجوب، أي: هل يجب عليّ نقضه أم لا؟ بدليل قوله في الجواب: "لا، إنما يكفيك إلخ". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)، أي لا يجب عليك ذلك (إِنَّمَا يَكْفِيكِ)، أي يَجزيك، والكاف مكسورةٌ؛ لأن الخطاب للمؤنّث (أَنْ تَحْثِي) بكسر الثاء المثلّثة، وسكون الياء، أصله تحثيين بياءين، كتضرِبين، أو تحْثُوين، كتنصُرِين، فعلى الأول حُذفت كسرة الياء، للاستثقال، ثم الياء لالتقاء الساكنين، وأما على الثاني، فنُقلت كسرة الواو إلى الثاء المثلّثة بعد سلب حركتها، ثم قُلبت الواو ياءً؛

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 11.

(2)

"القاموس المحيط" ص 387.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 363.

(4)

"المفهم" 1/ 585.

ص: 79

للمناسبة، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، ثم في الحالتين حُذفت النون للناصب، قال القاري: ولا يجوز فتح الياء من "تَحْثِي" لأجل الناصب؛ لأن هذه الياء ليست جزء الكلمة التي تُفتح إذا دخل الناصب على الفعل، وإنما هي ضمير المؤنّثة.

و"أن تحثي" في تأويل المصدر فاعل "يكفيك"، ووقع في بعض نسخ النسائيّ:"أن تحثين" بإثبات النون، ويؤوّل على إهمال "أن" حملًا لها على "ما" المصدريّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ "أَنْ" حَمْلًا عَلَى

"مَا" أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلَا

وهو لغةٌ لا ضرورة، قال الشاعر [من البسيط]:

أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا

مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدَا

والْحثْيُ: الرَّمْيُ، والمراد به هنا الصبّ، يقال:"حَثَا الرجل التراب يحثوه حَثْوًا، من باب غزا، ويَحْثِيه حَثْيًا، من باب رَمَى: هاله، أي صبّه بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده، ثم رماه، ومنه: "فاحثُوا التراب في وجهه"، ولا يكون إلا بالقبض والرمي، أفاده الفيّوميّ.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "تحثي على رأسك ثلاث حثيات" هي بمعنى الْحَفَنات في الرواية الأخرى، و"الْحَفْنة": ملء الكفّين من أيّ شيء كان، ويقال: حثَيتُ، وحثوتُ بالياء والواو، لغتان مشهورتان. انتهى

(1)

.

(عَلَى رَأْسِكِ) متعلّق بـ "تحثي"(ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ) مفعول مطلق على النيابة، وأصله: حَثَياتٍ ثلاثًا (ثُمَّ تُفِيضِينَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإفاضة، وهو الصبّ، وثبتت النون؛ لأنه مرفوعٌ على الاستئناف، وأشار في هامش النسخة الهنديّة إلى أنه وقع في بعض النسخ بحذف النون، وهو القياس، على أن يكون منصوبًا عطفًا على "تَحْثِي"(عَلَيْكِ)، أي بقيّة بدنك، وفي رواية النسائيّ:"على جسدك"(الْمَاءَ) منصوب على المفعوليّة لـ"تُفيضين"(فَتَطْهُرِينَ") فيه دلالة على أن هذا الفعل، من الحثيات الثلاث على الرأس، وإفاضة الماء على سائر

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 11.

ص: 80

الجسد يكفي في تمام الطهارة، ولا يحتاج إلى الدَّلْك، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح، وقالت المالكيّة بوجوب الدلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 750 و 751 و 752](330)، و (أبو داود) في "الطهارة"(251 و 252)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(105)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 131) وفي "الكبرى"(138/ 243)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(603)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1046)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 73)، و (الحميديّ) في "مسنده"(294)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 289 و 314 - 315)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 263)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(246)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1198)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(98)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 657)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 181) وفي "المعرفة"(1/ 428)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(251)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(867 و 868 و 869)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(736 و 737)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عدم وجوب نقض المرأة شعرها المضفور في حالة غسلها من الجنابة، أو الحيض؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها هذا، فلا يجب عليها إيصال الماء إلى أصول شعرها، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى.

2 -

(ومنها): أنه ينبغي للإنسان أن يسأل حكم ما يجهله من أمر دينه، كما أمر الله عز وجل بذلك، حيث قال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

3 -

(ومنها): أنه يجب على المرأة أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات من الماء إذا اغتسلت من الجنابة، أو الحيض.

ص: 81

4 -

(ومنها): وجوب تعميم سائر البدن بإفاضة الماء عليه.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابيّات من شدّة حرصهنّ في تعلّم دينهنّ، ولا سيّما ما يخصّهُنّ مما يتعلّق بغسل الحيض، والنفاس.

6 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن غسل الرجل والمرأة من الجنابة والحيض والنفاس وغيرها من الأغسال المشروعة سواء في كل شيء، إلا ما سيأتي في المغتسلة من الحيض والنفاس أنه يستحب لها أن تستعمل فِرْصَةً من مسك، وقد تقدم بيان صفة الغسل بكمالها في الباب السابق.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الرجل يخالف المرأة في نقض ضفيرته، فيجب عليه دونها؛ لحديث ثوبان رضي الله عنه الآتي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: فإن كانت المرأة بكرًا لم يجب إيصال الماء إلى داخل فرجها، وإن كانت ثيبًا وجب إيصال الماء إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة؛ لأنه صار في حكم الظاهر، هكذا نصَّ عليه الشافعيّ، وجماهير أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: لا يجب على الثَّيِّب غسل داخل الفرج، وقال بعضهم: يجب ذلك في غسل الحيض والنفاس، ولا يجب في غسل الجنابة، والصحيح الأول. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نقض ضفيرة المرأة في الغسل: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَفَ أهلُ العلم في هذا الباب، فقالت طائفة: ليس على المرأة نقض رأسها في الاغتسال من المحيض والجنابة، روي هذا القول عن عائشة، وأمّ سلمة، وقال نافع: كُنّ نساء ابن عمر، وأمهات أولاده، إذا اغتسلن لم ينقضن عُقُصَهن من حيض ولا جنابة، وهذا قول عطاء، والحكم، والزهريّ، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

وقالت طائفة: إنها تنقض شعرها كلّه لغسل الجنابة، هكذا قال النخعيّ

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 12.

ص: 82

في الْعَروس، ورُوي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال لامرأته: خللي شعرك بالماء، لا تخلله نارٌ.

وقال حماد بن أبي سليمان: إن كانت تَرَى أن الماء أصاب أصول شعرها، فقد أجزأ عنها، وإن كانت ترى أن الماء لم تصبه فلتنقضه، وقد روينا عن الحسن وطاوُس أنهما فَرّقَا بين الجنب والحائض، فقالا في الحائض: تنقض شعرها إذا اغتسلت، فأما من الجنابة فلا.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبالقول الأول أقول؛ للحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وهو قول عائشة، وأم سلمة رضي الله عنها، وعليه الأكثر من أهل الْفُتيا من علماء الأمصار. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إنما يكفيك إلخ" يدلّ على صحّة ما ذهب إليه مالك وغيره من الرخصة في نقض الضُّفُر مطلقًا للرجال والنساء، وقد منعه بعضهم، منهم عبد الله بن عمر، وقد أجازه بعضهم للنساء خاصّةً، متمسّكًا في ذلك بحديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا: أنهم استفتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة، فقال:"أما الرجل، فلينشر رأسه، فليغسله، حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لِتَغْرِف على رأسها ثلاث غُرُفات بكفيها" أخرجه أبو داود

(2)

، وهذا نصّ في التفرقة، غير أن هذا الحديث من حديث إسماعيل بن عيّاش، واختُلف في حديثه، غير أن الذي صار إليه يحيى بن معين وغيره أن حديثه عن أهل الحجاز متروك على كلّ حال، وحديثه عن الشاميين

(1)

"الأوسط" 2/ 132 - 134.

(2)

حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود في:"سننه" برقم (255)، من طريق إسماعيل بن عيّاش، حدثني ضمضم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، قال: أفتاني جُبير بن نفير عن الغسل من الجنابة، أن ثوبان حدثهم، أنهم استفتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"أما الرجل فلينشر رأسه، فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غُرُفات بكفيها"، وهذا إسناد صحيح، وأعلّه بعضهم بإسماعيل بن عياش، وتُعُقّب بأنه من روايته عن الشاميين، وهو ثقة في أحاديثهم، وإنما ضُعّف في أحاديث الحجازيين والعراقيين، فتنبّه، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 83

صحيح، وهذا الحديث من حديثه عن الشاميين، فهو صحيح على قول يحيى بن معين، وهذا فيه نظرٌ، فإن كان ما قاله يحيى فالفرق واضح، وإن لم يكن، فعدم الفرق هو القياس؛ لأن النساء شقائق الرجال، كما صار إليه الجمهور.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله يحيى بن معين في إسماعيل بن عياش هو الذي صار إليه المحقّقون، كأحمد، وابن المدينيّ، والبخاريّ، وأبي داود، والنسائيّ، ودُحيم، ويعقوب بن شيبة، والدولابيّ، وابن عديّ، وغيرهم، راجع ترجمته في "التهذيب"

(1)

، فقد ثبت كون هذا الحديث صحيحًا، فثبت الفرق بين الرجل والمرأة، فيجب عليه نقض ضفيرته، لا عليها؛ لهذا الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال أيضًا: لا يُفهم من التخفيف في ترك حلّ الضُّفُر التخفيف في إيصال الماء إلى داخل الضفر؛ لما يأتي في حديث أسماء بنت شَكَل رضي الله عنهما، من قوله صلى الله عليه وسلم لها: "ثم تصبّ على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شؤون رأسها

(2)

. . ." الحديث، ولحديث عليّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تَرَك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فُعِل بها كذا وكذا من النار"، قال عليّ: فمن ثَمّ عاديت رأسي ثلاثًا، وكان يَجُزّ شعره

(3)

. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بإيجاب إيصال الماء إلى داخل شعر المرأة، فيه نظر لا يخفى، بل الحقّ أنه لا يجب عليها، بل يكفيها أن تحثي ثلاث حثيات على رأسها، كما هو نصّ حديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور هنا، حيث قال:"إنما يكفيك أن تحثي على رأسك إلخ"، وكذا حديث ثوبان رضي الله عنه المذكور نصّ أيضًا، حيث قال:"وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لِتَغْرِف على رأسها ثلاث غُرُفات بكفيها"، فدلّ على أن صبها على ظاهر رأسها كافٍ في غسلها.

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 163 - 164.

(2)

أي: أصوله.

(3)

حديث صحيح، أخرج أحمد في:"مسنده"(1/ 94 و 133)، وأبو داود في:"سننه"(249)، وابن ماجه (599).

(4)

راجع: "المفهم" 1/ 586.

ص: 84

وأما حديث عليّ رضي الله عنه المذكور، فضعيف؛ لأنه من رواية حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، وهو إنما روى عنه بعد اختلاطه، وقد كنت صححته في "شرح النسائيّ" تبعًا للحافظ، لكن تبيّن لي ضعفه؛ لما ذكرته، فتنبّه.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "انقضي رأسك، وامتشطي. . ." الحديث، رواه مسلم، فإنه في غسل النظافة للإحرام بالحجّ، لا لغسل الطهارة من الحيض؛ لأنها لم تزل في ذلك الوقت من حيضها، وعلى تقدير أنه يشمل الطهارة من الحيض، فيُحمَل على الاستحباب؛ جمعًا بينه وبين هذين الحديثين.

وكذلك حديث أسماء بنت شكل رضي الله عنها الآتي، حيث قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها. . ." الحديث، فمحمول أيضًا على وجه الكمال، والاستحباب أيضًا، لا على الوجوب؛ جمعًا بين النصوص.

وأما ما أخرجه الطبراني، والدارقطنيّ في "الأفراد"، والضياء المقدسيّ في "المختارة" من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضًا، وغسلته بخطميّ وأُشنان، وإن اغتسلت من جنابة صبّت الماء على رأسها صبًّا، وعصرته".

فحديث ضعيف، ولا تغترّ بإخراج الضياء له، فإن له في "المختارة" أحاديث ضعيفة، كما لا يخفى على من له إلمام بهذا الشأن، وقد بيّن الشيخ الألبانيّ رحمه الله ضعف هذا الحديث في "السلسلة الضعيفة" 2/ 342 رقم (937).

وخلاصة القول في المسألة أن أرجح الأقوال قول من قال: إن المرأة يكفيها أن تحثي على رأسها ثلاثًا، ولا يجب عليها أن تنقض ضفيرتها، وهذا كله يعمّ الجنابة، والحيضة؛ لزيادة رواية عبد الرزاق الآتية للحيضة، وهي زيادة ثقة غير منافية لرواية غيره، فتُقبل، وأما دعوى ابن القيّم شذوذها فغير مقبول، هذا كلّه في حقّ المرأة.

وأما الرجل فيجب عليه نقض ضفيرته حتى يصل الماء إلى أصول شعره؛ لحديث ثوبان رضي الله عنه المتقدّم: "أما الرجل فليَنشُر إلخ"، وهو حديث صحيح، كما سبق آنفًا.

فقد بيّن الفرق بين الرجل والمرأة، فأوجب عليه النقض دونها.

ص: 85

والحاصل أن الرخصة في عدم نقض الضفيرة خاصّ بالمرأة في الحيض والجنابة، وأما الرجل فيجب عليه النقض؛ لما ذكرناه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[751]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ (ح)، وَحَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، قَالَا: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أيّوبَ بْنِ مُوسَى، فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: "فَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ

(1)

وَالْجَنَابَةِ؟ "، فَقَالَ: "لَا"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وعبدٌ لقبه، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السّلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب (90)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر الحميريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، عَمِيَ في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحافظ الحجة العابد، من رؤوس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقيان تقدّما في المسند الماضي.

وقوله: (قَالَا) الضمير ليزيد بن هارون، وعبد الرزّاق.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ) يعني إسناد أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها.

(1)

وفي نسخة: "للحيض".

ص: 86

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير الثوريّ.

وقوله: (لِلْحَيْضَةِ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الياء التحتانيّة، المرّة من الحيض، وفي نسخة:"للحيض" من غير هاء.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن الثوريّ، هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(25455)

حدثنا يزيد، قال: حدثنا سفيان الثوريّ، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أَشُدُّ ضفر رأسي، أفأنقضه عند الغسل من الجنابة؟ فقال:"إنما يكفيك ثلاث حَفَنات، تَصُبِّينها على رأسك". انتهى.

وأما رواية عبد الرزّاق، عن الثوريّ، فقد أخرجها البيهقيُّ: في "السنن الكبرى"(1/ 181) فقال:

(822)

وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكريّ ببغداد، ثنا إسماعيل بن محمد الصقار، ثنا أحمد بن منصور الرَّمَاديّ، ثنا عبد الرزاق، أنا الثوريّ، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أَشُدُّ ضَفْر رأسي، أو قالت: عَقْص رأسي، أفأنقضه للجنابة والحيضة؟ قال:"لا، إنما يكفيك أن تُفْرِغي عليكِ ثلاث حَفَنات، ثم قد طهرت". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[752]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ الدَّارِمِيُّ

(1)

، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ - عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى،

(1)

وفي نسخة: "أحمد بن سعيد الدارميّ".

ص: 87

بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ:"أفَأَحُلُّهُ، فَأَغْسِلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَيْضَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ الدَّارِمِيُّ) هو: أحمد بن سعيد بن صخر الدارميّ، أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(زَكَريَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ) بن الصّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقَةٌ جليلٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(بخ م مدت س ق)، تقدّم في "المقدّمة" تقدم في "المقدمة" 6/ 88.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

4 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبَريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م دس ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد أيوب بن موسى الماضي.

وقوله: (وَقَالَ: "أَفَأَحُلُّهُ) فاعل "قال" ضمير روح بن القاسم.

وقوله: (أَفأَحُلُّهُ) بضم الحاء المهملة، من باب نصر، يقال: حَلَّ الْعُقْدة: إذا نقضها

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية روح بن القاسم، عن أيوب بن موسى هذه، لم أجد من أخرجها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[753]

(331) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو

(1)

"القاموس" ص 888.

ص: 88

هَذَا، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أفَلَا يَأمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ؟، لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا أَزِيدُ

(1)

عَلَى أَنْ أُفْرغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، مجمع على ثقته [2](ت 68)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 473.

والباقون تقدّموا قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا إسماعيل ابن عليّة" أشار به إلى أن شيخه يحيى صرّح باسم شيخه إسماعيل، وبإخباره له، بخلاف الآخرين، فلم يصرّحا بذلك.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فيحيى، وعلي بن حُجْر ما أخرج لهما أبو داود، وابن ماجه، وأبو بكر ما أخرج له الترمذيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي الزبير، عن عُبيد بن عُمير.

5 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "فلا أزيد".

ص: 89

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) الليثيّ المكيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة على الأصحّ، وتقدّمت ترجمته في "المقدمة" 4/ 18. (يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ) وفي رواية أبي عوانة:"كان عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر المرأة إذا اغتسلت من الجنابة أن تنقض قرون رأسها"(أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ) أي ضفائر رؤوسهنّ، قال النوويّ رحمه الله: هذا يُحْمَل على أنه أراد إيجاب ذلك عليهنّ، ويكون ذلك في شعور لا يَصِل إليها الماء، أو يكون مذهبًا له أنه يجب النقض بكل حال، كما حكيناه عن النخعيّ، ولا يكون بلغه حديث أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما، ويَحْتَمل أنه كان يأمرهن على الاستحباب والاحتياط، لا للإيجاب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن هذا مذهب له، وأنه لم يبلغه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأما التفريق بين الشعر الذي يصل إليه الماء، وبين غيره، فقد تقدّم أن الراجح أنه لا فرق بينهما، وأن المرأة لا يجب عليها إيصال الماء إلى أصول شعرها، كما هو ظواهر النصوص المتقدّمة، وحديث عائشة رضي الله عنها هذا أيضًا دالّ عليه:"ولا أزيد على أن أُفرغ على رأسي ثلاث إفراغات"، فلو كان الإيصال واجبًا لبيّنته، وقيّدت به، ولم تنكر على ابن عمرو إنكارًا مطلقًا، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرِو) هذا تعجّب من فعل ابن عمرو رضي الله عنهما، ثم إذا نُوّن "عَجَبًا" كان مفعولًا مطلقًا لفعل مقدّر، أي أَعْجَبُ عجبًا، والمنادى محذوف، أي يا قوم، أو "يا" حرف تنبيه، وإذا لم يُنَوّن كان هو المنادى، وأصله: يا عجبي، فأبدلت الياء ألفًا؛ للتخفيف، بعد قلب الكسرة قبلها فتحة.

[تنبيه]: حكم الاسم المتعجّب منه كحكم الاسم المستغاث منه، فيقولون: يا للماء، ويا للدواهي، إذا تعجّبوا من كثرتهما، ويقال: يا لَلْعَجب، ويا عَجَبَا لزيد، ويا عجبُ لزيد، كما يقولون: يا لَزيد، ويا زيدَا، ويا زيدُ لعمرو، قال في "الخلاصة":

وَلَامُ مَا اسْتُغِيثَ عَاقَبَتْ أَلِفْ

وَمِثْلُهُ اسْمٌ ذُو تَعَجُّبٍ أُلِفْ

ص: 90

وقولها: (هَذَا) بدل من ابن عمرو (يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ) بضمّ القاف، من باب نصر، كما سبق في الماضي (رُءُوسَهُنَّ) أي شعور رؤوسهنّ، فهو على حذف مضاف (أفَلَا يَأمُرُهُنَّ) تقدّم أن الهمزة مقدّمة من تأخير على مذهب الجمهور، وأصلها: فألا يأمرهنّ، قُدّمت على العاطف، لوجوب الصدارة لها، أو هي داخلةٌ على مقدّر، يُعطف عليه المذكور، على رأي الزمخشريّ.

والاستفهام إنكاريّ، وهو بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، فهو كقوله عز وجل:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، أي أُعموا، فلا ينظرون، أي فلينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟.

فيكون التقدير هنا: أَيَتَشَدّد في دينه هذا التشدّد، فلا يأمرُهنّ، أي فليأمرهنّ، والكلام على سبيل التهكّم

(1)

.

(أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ؟)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "يأمر"، أي ألا يأمرهنّ بحلق رؤوسهنّ حتى يتضرّرن بنقضها كلّما اغتسلن.

وفي رواية أبي عوانة: "أفلا يأمرهنّ بجَزّ نواصيهنّ".

(لَقَدْ) اللام هي الموطّئة للقسم، أي والله لقد (كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَما) ضمير منفصلٌ للمتكلّم أُتي لأجل العطف على الضمير المتّصل، كما سبق غير مرّة، (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) عطف على الضمير المتّصل في الفعل (مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) وهذا الإناء فُسّر في رواية أخرى، فقد أخرج النسائيّ الحديث من طريق إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عُبيد بن عُمير، أن عائشة قالت:"لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، فإذا تَوْرٌ موضوع مثل الصاع، أو دونه، فنشرع فيه جميعًا، فأفيض على رأسي بيديَّ ثلاث مرّات، وما أنقض لي شعرًا".

و"التَّوْر" بفتح، فسكون، فَراء: إناء من صُفْر، أو حجارة.

ويَحتمل أن يكون هو الفَرَق الذي تقدّم قبل باب في حديث عروة،

(1)

راجع: "فتح المنعم"(2/ 337)، فقد ذكر نحو هذا المعنى، ولكن لم أوافقه في تقديره، فإنه قدّره بقوله:"أتهاون في دينه إلخ"، وهذا غير لائق بالمقام، فتنبّه.

ص: 91

عن عائشة رضي الله عنها، وفسّره ابن عيينة بأنه ثلاثة آصع، لكن الأول أولى؛ لأن تفسير الرواية بما جاء في نفس الرواية من طريق أخرى أولى، وأقرب، فيُحمل هذا على بعض الأحيان، أو يُحمَل على اختلاف الصيعان بالصغر والكبر، فقد يكون بعضها كبيرًا يسع ثلاثة من صغارها، والله تعالى أعلم.

(وَلَا أَزِيدُ)، وفي نسخة:"فلا أزيد" بالفاء (عَلَى أَنْ أُفْرغَ) بالبناء للمفعول (عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ) هو معنى ما سبق بلفظ: "ثلاث حثيات"، وبلفظ:"ثلاث حَفَنات"، فيكون المعنى أنها تأخذ الماء بكفيها، فتصبه على رأسها، وفي رواية أبي عوانة:"فما أزيد على أن أَحْفِنَ على رأسي ثلاث مرات".

وفي الحديث دلالة على أنه لا يجب على المرأة نقض ضفيرتها في الاغتسال من الجنابة، وكذا الحيض، كما سبق تحقيقه في شرح الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[11/ 753](331)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 203)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(604)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 43)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(247)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(913 و 914 و 915)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(738)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 280)، وبقيّة مباحث الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 92

(12) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ اسْتِعْمَالِ الْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فِي مَوْضِعِ الدَّمِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[754]

(332) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا

(1)

؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا، كَيْفَ تَغْتَسِلُ:"ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرُ بِهَا"، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: "تَطَهَّرِي بِهَا، سُبْحَانَ اللهِ

(2)

، وَاسْتَتَرَ"، وَأَشَارَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِه، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاجْتَذَبْتُهَا إلَيَّ، وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أثَرَ الدَّمِ

(3)

، وقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: فَقُلْتُ: تتَبَّعِي بِهَا آثَارَ الدَّمِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مَنْصُورُ ابْنُ صَفِيَّةَ) هو: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث الْعَبْدَريّ الْحَجَبيّ المكيّ، ثقةٌ [5](ت 7 أو 138)(خ م دس ق) تقدم في "الحيض" 3/ 699.

2 -

(أُمُّهُ) هي: صفيّة بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الْعَبْدريّة، لها رؤية، وقع التصريح في "صحيح البخاريّ" بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها، تقدّمت في "الحيض" 3/ 699.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

(1)

وفي نسخة: "من حيضها".

(2)

وفي نسخة: "وسبحان الله".

(3)

وفي نسخة: "تتبّعي أثر الدم".

ص: 93

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه عمرو، فبغداديّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، هي أمه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّة، على قول من أثبت الصحبة لصفيّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ) قال في "الفتح": نُسب منصورٌ إلى أمه؛ لشهرتها، واسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة الْعَبْدريّ، وهو من رهط زوجته صفيّة، وشيبة له صحبة، ولها أيضًا، وقُتل الحارث بن طلحة بأحد، ولعبد الرحمن رؤية، ووقع التصريح بالسماع في جميع السند عند الحميديّ في "مسنده". انتهى ببعض تصرّف

(1)

.

[تنبيه]: القاعدة في "ابن صفيّة" أن تُكتب همزة الوصل في "ابن"؛ لأن ضابط حذفها إذا وقعت بين علمين، أن يكون الثاني أبًا للأول، فأما إذا كان أُمًّا، كهذا، وكمحمد ابن الحنفيّة، فإنها لا تُحذف، وكذلك إذا كان جدًّا، أو عمًّا، أو نحو ذلك، وراجع شروط هذه المسألة في "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل"

(2)

في النحو، عند قول صاحب "الخلاصة":

وَنَحْوَ "زَيْدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا

أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

والله تعالى أعلم.

(عَنْ أُمِّهِ) صفيّة بنت شيبة (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: سَأَلتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية للبخاريّ:"من الأنصار"، وجاء في الرواية الرابعة من طريق أبي الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر تسميتها:"أسماء بنت شَكَل - بالشين المعجمة، والكاف المفتوحتين، ثم اللام - ولم يُسَمِّ أباها في رواية غندر، عن شعبة، عن إبراهيم، ورَوَى الخطيب البغداديّ في "المبهمات" من

(1)

"الفتح" 1/ 494.

(2)

2/ 116 - 117.

ص: 94

طريق يحيى بن سعيد، عن شعبة هذا الحديث، فقال: أسماء بنت يزيد بن السَّكَن - بالمهملة، والنون - الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، وتبعه ابن الجوزيّ في "التلقيح"، والدمياطيّ وزاد: أن الذي وقع في "صحيح مسلم" تصحيف؛ لأنه ليس في الأنصار من يقال له: شَكَل.

وتعقّبه الحافظ، فأجاد، قال: وهو رَدٌّ للرواية الثابتة بغير دليل، وقد يَحْتَمِل أن يكون شَكَل لقبًا لا اسمًا، والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا الحديث أسماء بنت شَكَل، كما في "صحيح مسلم"، أو أسماء بغير نسب، كما في رواية غندر، عن شعبة بعد حديثٌ، ورواية أبي داود، وكذا هو في "مستخرج أبي نعيم" من الطريق التي أخرجه منها الخطيب، وحَكَى النووي في "شرح مسلم" الوجهين بغير ترجيح. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(كَيْفَ تَغْتَسِلُ)"كيف" في محلّ النصب على الحال، أي على أيّ صفة، وأيّ حالة تغتسل، ويحتمل أن يكون "كيف" مفعولًا مطلقًا لـ"تغتسل"، والمعنى: أيَّ اغتسال تغتسل.

ثم إن تعليمه صلى الله عليه وسلم لها كيفيّة الاغتسال أجمله في هذه الرواية، وبيّنه في الرواية الثالثة من طريق إبراهيم بن المهاجر، عن صفيّة، حيث قال: فقال: "تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرتها، فتطهّر، فتُحْسِن الطُّهور، ثم تَصُبّ على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرصة ممسكة، فتطهر بها. . .".

(مِنْ حَيْضَتِهَا؟) وفي نسخة: "من حيضها". (قَالَ) الراوي، والظاهر أنه سفيان بن عيينة، بدليل ما سيأتي، (فَذَكَرَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (عَلَّمَهَا، كَيْفَ تَغْتَسِلُ)، أي على أي حال تغتسل، أو أيَّ اغتسال تغتسل.

[تنبيه]: أعرب صاحب "فتح المنعم"(2/ 341)"كيف" هنا مفعولًا به لـ"عَلَّم"، وهو غير صحيح؛ لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، فالصواب أنه إما حال، أو مفعول مطلق لـ"اغتسل"، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً) - بكسر الفاء، وإسكان الراء، وبالصاد المهملة -:

(1)

"الفتح" 1/ 494 - 495.

ص: 95

بمعنى القِطْعة، قال في "الفتح":"الْفِرْصة" - بكسر الفاء، وحَكَى ابن سِيدَهْ تثليثها، وبإسكان الراء، وإهمال الصاد -: قِطعةٌ من صوف، أو قُطن، أو جِلْدة عليها صوف، حكاه أبو عبيد، وغيره. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور: "الْفِرْصة" - بالكسر - و"الْفَرْصة" - بالفتح - و"الْفُرْصَة" - بالضمّ - الأخيرتان عن كُرَاع: قطعة من الصوف، أو القطن، وقيل: هي قطعة قطن، أو خرقة تمسح بها المرأة من الحيض، وقال ابن الأثير: الفِرْصة - بكسر الفاء -: قطعة من صوف، أو قطن، أو خرقة، يقال: فَرَصْتُ الشيءَ: إذا قطعته. انتهى بتصرّف

(2)

.

وقال في "الفتح": وحَكَى أبو داود أن في رواية أبي الأحوص "قَرْصة" بفتح القاف، ووَجَّهه المنذريّ، فقال: يعني شيئًا يسيرًا، مثل القَرْصة بطرف الإصبعين. انتهى. وَوَهِمَ من عزا هذه الرواية للبخاريّ، وقال ابن قتيبة: هي قَرْضة، بفتح القاف، وبالضاد المعجمة. انتهى

(3)

.

(مِنْ مِسْكٍ) بكسر الميم، وهو الطيب المعروف، والمعنى: فِرْصةً مطَيَّبَةً من مِسْك، فعلى هذا فمتعلَّق الجارّ خاصّ بقرينة المقام، وأنكره بعضهم بأنهم ما كانوا أهل وُسع يجدون المسك، فالوجه فتح الميم، أي كائنة من جلد، عليه صوف، فمتعلّق الجارّ عامّ، وما جاء في الرواية الأخرى:"فرصةً ممسَّكةً" يُحمَل على الأول على أنها مطيّبةٌ بمسك، وعلى الثاني على أنها خَلَقٌ، قد مُسِّكَت كثيرًا، لا جديد، لكن الأحاديث تفيد المعنى الأول حتى قد جاء في الإحداد:"ولا تمسيّ طيبًا إلا إذا طهرت نُبْذةً من قُسْط، أو أظفار"، أفاده السنديّ في "شرح النسائيّ".

وقال النوويّ رحمه الله: "الْمِسك" - بكسر الميم - وهو الطيب المعروف، هذا هو الصحيح المختار الذي رواه، وقاله المحققون، وعليه الفقهاء وغيرهم، من أهل العلوم، وقيل: مَسْك، بفتح الميم، وهو الْجِلْدُ، أي قطعةَ جلدٍ فيه شعر، ذكر القاضي عياض، أن فتح الميم هي رواية الأكثرين، وقال أبو عبيد، وابن

(1)

"الفتح" 1/ 495.

(2)

"لسان العرب" 7/ 65.

(3)

"الفتح" 1/ 495.

ص: 96

قتيبة: إنما هو "قُرْضةً من مَسْك"، بقاف مضمومة، وضاد معجمة، و"مَسْك" بفتح الميم، أي قطعة من جلد، وهذا كله ضعيفٌ، والصواب ما قدمناه، وتدلّ عليه الرواية الأخرى المذكورة في الكتاب:"فِرْصة مُمَسَّكةً"، وهي بضم الميم الأولى، وفتح الثانية، وفتح السين المشدَّدة، أي قطعة من قُطْن، أو صوف، أو خرقة مُطَيَّبة بالمسك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقد أشبعت الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَتَطَهَّرُ بِهَا)، أي تنظّفي بتلك الفِرْصة المطيّبة بالمسك، وفي رواية للنسائيّ:"فتوضئي بها"، والمعنى واحد، والمراد تنظيف المحلّ من أثر الرائحة الكريهة، فتمسح محلّ الدم بها.

ولَمّا قال لها: "تطهّري" ظنّت أنه يريد التطهّر الشرعيّ، فاستغربت ذلك، واستفهمت (قَالَتْ: كَيْفَ أتطَهَّرُ بِهَا؟) "كيف" في محلّ نصب على الحال، وجملة "أتطهّر" مقول القول، ولا يجوز نصب "كيف" بـ "قال"؛ لأن اسم الاستفهام لا يَعمَل فيه ما قبله، أي قالت: على أيّ حالة أتطهّر بتلك الفرصة، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تَطَهَّرِي بِهَا، سُبْحَانَ اللهِ)، وفي نسخة:"وسبحان الله" بالواو، وإنما سبّح تعجّبًا من عدم فهمها معنى كلامه، قال النوويّ رحمه الله: قد قدَّمنا أن "سبحان الله" في هذا الموضع وأمثاله يراد بها التعجب، وكذا "لا إله إلا الله"، ومعنى التعجب هنا: كيف يَخْفَى مثل هذا الظاهر الذي لا يَحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟ انتهى

(2)

.

(وَاسْتَتَرَ) صلى الله عليه وسلم، أي استحياءً من أن واجهها بذكر ما يُستحيا منه عادةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها.

قال عمرو الناقد: (وَأَشَارَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ) أي مبيّنًا كيفيّة استتاره صلى الله عليه وسلم (قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عمرو الناقد، كما يشير إليه قوله فيما تقدّم:"قال عمرو: حدَّثنا سفيان إلخ"(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (وَاجْتَذَبْتُهَا إلَيَّ) أي مددتها، وهو افتعال من جذب، من باب ضرب: إذا مدّ (وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 14.

(2)

شرح النوويّ" 4/ 14.

ص: 97

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، أي من تتبعها آثار الدم، وفي رواية للنسائيّ:"قالت: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبّح، وأعرض عنها، ففَطِنَت عائشة لِمَا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذتها، وجذبتها إليّ، فأخبرتها بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعند الإسماعيليّ:"فلما رأيته يستحيي علّمتها"، وزاد الدارميّ:"وهو يسمع، ولا يُنكر".

(فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي) أمر من التتبّع (بِهَا)، أي بتلك الفِرصة الممسّكة، وفي نسخة بإسقاط "بها"(أثَرَ الدَّمِ) بالنصب على المفعوليّة، و"الأثر" - بفتحتين - بقيّة الشيء، أي ما بقي من الدم.

وقال النوويّ رحمه الله: قال جمهور العلماء: يعني به الفرج، وعن المحامليّ أنه قال: تُطَيِّب كلَّ موضع أصابه الدم من بدنها، وفي ظاهر الحديث حجة له. انتهى.

وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ) يعني شيخه الثاني، محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيَّ (فِي رِوَايَتِهِ: فَقُلْتُ)، أي قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت للمرأة (تَتَبَّعِي بِهَا آثَارَ الدَّمِ) أي بمدّ الهمزة، جمعَ أَثَرٍ.

وغرض المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف شيخيه في لفظة "أثر" بالإفراد والجمع، فقال عمرو:"أثر الدم" بالإفراد، وقال ابن أبي عمر:"آثار الدم" بالجمع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[12/ 754 و 755 و 756 و 757 و 758](332)، و (البخاريّ) في "الغسل"(314 و 315) وفي "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7357)، و (أبو داود) في "الطهارة"(314 و 315 و 316)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(642)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 131)، و (أبو

ص: 98

داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 60)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 79 و 207)، و (الحميديّ) في "مسنده"(167)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 122 و 147 و 188)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 197 - 1198)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(117)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1199 و 1200)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 180)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(920 و 921 و 923 و 924 و 925 و 926)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(739 و 740 و 741 و 742)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فِرْصةً من مسك؛ تطييبًا للمحلّ.

2 -

(ومنها): مشروعيّة التسبيح عند التعجّب من الشيء، واستعظامه، وكذلك عند التثبت على الشيء، والتذكر به، ومعناه هنا: كيف يخفى هذا الظاهر الذي لا يَحتاج في فهمه إلى كثير من التفكير؟.

3 -

(ومنها): استحباب استعمال الكنايات فيما يتعلّق بالعورات.

4 -

(ومنها): مشروعيّة سؤال المرأة العالمَ عن أحوالها التي يُحْتَشَم منها، ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها تقول:"نِعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين"، رواه مسلم

(1)

، وذكره البخاريّ تعليقًا بصيغة الجزم.

5 -

(ومنها): أن فيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة.

6 -

(ومنها): مشروعيّة تكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرره صلى الله عليه وسلم مع كونها لم تَفْهَمه أوّلًا؛ لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله:"تطهّري بها"، أي في المحل الذي يُستحيَى من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة رضي الله عنها ذلك عنه فتولّت تعليمها، وقد بوّب عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الاعتصام بالكتاب

(1)

سيأتي آخر هذا الباب.

ص: 99

والسنّة" من "صحيحه"، فقال: "بابُ الأحكام التي تُعْرَف بالدلائل".

7 -

(ومنها): تفسيرُ كلام العالم بحضرته لمن خَفِي عليه، إذا عَرَف أن ذلك يُعْجِبه.

8 -

(ومنها): الأخذُ عن المفضول بحضرة الفاضل.

9 -

(ومنها): صِحّةُ العرض على المحدِّث إذا أقره، ولو لم يقل عقبه: نَعَمْ.

10 -

(ومنها): أنه لا يُشتَرط في صحة التحمل فهمُ السامع لجميع ما يسمعه.

11 -

(ومنها): الرفق بالمتعلم، وإقامة العذر لمن لا يَفْهَم.

12 -

(ومنها): أن المرء مطلوب بستر عيوبه، وإن كانت مما جُبِل عليها، حيث أَمَرَ صلى الله عليه وسلم المرأةَ بالتطيب؛ لإزالة الرائحة الكريهة.

13 -

(ومنها): حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظيم حِلْمه وحيائه، كما وصفه عز وجل بذلك، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، زاده الله سبحانه وتعالى شَرَفًا وتكريمًا

(1)

، وصلى الله عليه، وسلّم تسليمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال النوويّ رحمه الله: المراد في هذا الباب بيان أن السنة في حقّ المغتسلة من الحيض أن تأخذ شيئًا من مسك، فتجعله في قطنة، أو خرقة، أو نحوها، وتُدخلها في فرجها بعد اغتسالها، ويستحب هذا للنفساء أيضًا؛ لأنها في معنى الحائض، وذكر المحامليّ من أصحابنا - يعني الشافعيّة - في كتابه "المقنع" أنه يُستَحبّ للمغتسلة من الحيض والنفاس أن تُطيِّب جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها، وهذا الذي ذكره من تعميم مواضع الدم من البدن غريب، لا أعرفه لغيره بعد البحث عنه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله المحامليّ رحمه الله هو ظاهر

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 553.

ص: 100

الحديث، حيث قال:"فتتبّعي بها آثار الدم"، بل أصرح منه ويصرح به رواية الإسماعيليّ:"تتبعي بها مواضع الدم"، فقصره على الفرج فقط خلاف الظاهر، فما قاله هو الحقّ، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: واختَلَف العلماء في الحكمة في استعمال المسك، فالصحيح المختار الذي قاله الجماهير من أصحابنا وغيرهم، أن المقصود باستعمال المسك تطييب المحل، ودفع الرائحة الكريهة، وحَكَى أقضى القضاة الماورديّ من أصحابنا وجهين لأصحابنا: أحدهما: هذا، والثاني: أن المراد كونه أسرع إلى عُلوق الولد، قال: فإن قلنا بالأول، ففَقَدت المسك، استَعمَلت ما يَخلُفه في طيب الرائحة، وإن قلنا بالثاني استَعمَلت ما قام مقامه في ذلك من القُسْط والأظفار، وشبههما.

قال: واختَلُفوا في وقت استعماله فمن قال بالأول قال: تستعمله بعد الغسل، ومن قال بالثاني قال: قبله. انتهى كلام الماورديّ.

قال النوويّ: وهذا الذي حكاه من استعماله قبل الغسل ليس بشيء، ويكفي في إبطاله رواية مسلم في الكتاب في قوله صلى الله عليه وسلم:"تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتَطَهّر، فتحسن الطُّهُور، ثم تَصُبّ على رأسها، فتدلكه، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرصة ممسكةً، فتطهر بها". وهذا نصّ في استعمال الفِرصة بعد الغسل، وأما قول من قال: إن المراد الإسراع في العلوق فضعيف، أو باطل، فإنه على مقتضى قوله ينبغي أن يُخَصّ به ذات الزوج الحاضر الذي يتوقع جماعه في الحال، وهذا شيء لم يَصِر إليه أحد نعلمه، وإطلاق الأحاديث يَرُدّ على من التزمه، بل الصواب أن المراد تطييب المحلّ، وإزالة الرائحة الكريهة، وأن ذلك مستحبّ لكل مغتسلة من الحيض أو النفاس، سواء ذات الزوج وغيرها، وتستعمله بعد الغسل، فإن لم تَجِد مسكًا، فتستعمل أيّ طيب وَجَدت، فإن لم تجد طيبًا استُحِبّ لها استعمال طين أو نحوه، مما يزيل الكراهة، نَصّ عليه أصحابنا، فإن لم تجد شيئًا من هذا، فالماء كافٍ لها، لكن إن تركت التطيب مع التمكن منه كُرِه لها، وإن لم تتمكن فلا كراهة في حقها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 101

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[755]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّه، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كيْفَ أَغْتَسِلُ عِنْدَ الطُّهْرِ؟ فَقَالَ: "خُذِي فِرْصَةً، مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِي بِهَا"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ)، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَبَّانُ) - بفتح الحاء المهملة - ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

3 -

(وُهَيْب) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165)، أو بعدها (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (فِرْصَةً مُمَسَّكَةً) بضمّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وفتح السين المشدّدة: أي قِطعةً من قُطْن، أو صُوف، أو خِرْقة مُطَيّبَةً بالمسك.

وقوله: (فَتَوَضَّئِي بِهَا) المراد من الوضوء هنا اللغويّ، وهي النظافة والحسن، أي تنظّفي بها.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير وُهيب، أي ذَكَرَ وُهيب نحو حديث سفيان بن عيينة الماضي.

[تنبيه]: رواية وُهيب هذه أخرجها الإمام النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(427)

أخبرنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفّان، قال: حدثنا وُهيب، قال: حدثنا منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة، أن امرأة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله، كيف أغتسل عند

(1)

وفي نسخة: "حدّثني" بحذف الواو.

ص: 102

الطهور؟ قال: "خذي فِرصةً مُمَسَّكَةً، فتوضئي بها"، قالت: كيف أتوضأ بها؟ قال: "توضئي بها"، قالت: كيف أتوضأ بها؟ قالت: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ، وأعرض عنها، فَفَطِنَتْ عائشة لما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأخذتها، وجَبَذتها إليّ، فأخبرتها بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقولها: "وجبذتها": أي جررتها إليّ، من الجبْذ، لغةٌ في الجذب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[756]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِر، قَالَ: سَمِعْتُ صَفِيَّةَ، تُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ؟ فَقَالَ: "تَأخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا

(1)

، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ

(2)

شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَطَهَّرُ بِهَا"، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ: "سُبْحَانَ الله، تَطَهَّرِينَ بِهَا"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِينَ أثَرَ الدَّم، وَسَأَلتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: "تَأخُذُ مَاءً، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ

(3)

شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ، نِسَاءُ الأنصَار، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ، أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ).

رجال هذا الإسناد: سبعةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل باب أيضًا.

(1)

وفي نسخة: "وسدرها".

(2)

وفي نسخة: "حتى يبلغ" بالياء.

(3)

وفي نسخة: "حتى يبلغ" بالياء.

ص: 103

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور، تقدّم قبل باب أيضًا.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ) بن جابر البجليّ، أبو إسحاق الكوفي، صدوقٌ، ليّن الحفظ [5].

رَوَى عن طارق بن شهاب، وله رؤية، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبي الشعثاء، وأبي الأحوص، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، ومِسْعَر، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال ابن المدينيّ: له نحو أربعين حديثًا، وقال الثوريّ، وأحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال يحيى القطان: لم يكن بقويّ، وقال أحمد: قال يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن بن مهديّ، وذَكَر إبراهيم بن مهاجر وآخر، فقال: ضعيفان، فغَضِب عبد الرحمن، وكَرِهَ ما قال، وقال عباس، عن يحيى: ضعيف، وقال العجليّ: جائز الحديث، وقال النسائي في "الكنى": ليس بالقويّ في الحديث، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: هو عندي أصلح من إبراهيم الْهَجَريّ، وحديثه يُكتَب في الضعفاء، وقال ابن سعد: ثقة، وقال ابن حبان في "الضعفاء": هو كثير الخطأ، وقال الحاكم: قلت للدارقطنيّ: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضَعَّفوه، تَكَلَّم فيه يحيى بن سعيد وغيره، قلت: بحجة؟ قال: بلى، حَدَّث بأحاديث لا يُتَابَعُ عليها، وقد غَمَزه شعبة أيضًا، وقال غيره عن الدارقطنيّ: يُعتَبَر به، وقال يعقوب بن سفيان: له شَرَفٌ، وفي حديثه لِينٌ، وقال الساجيّ: صدوقٌ اختلفوا فيه، وقال أبو داود: صالح الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، هو وحُصَين، وعطاء بن السائب قريبٌ بعضُهم من بعض، ومحلُّهم عندنا محلّ الصدق، يُكْتَب حديثهم، ولا يحتج به، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى: لا يُحْتَجُّ بحديثهم؟ قال: كانوا قومًا لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيَغْلَطُون، تَرَى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئتَ.

أخرج له المصنّف، والأربعة، قال الحافظ: وقع في مسند أثر عَلَّقه البخاريّ في "كتاب المزارعة"، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (332)، وحديث (655):"أما هذا فقد عصى أبا القاسم".

ص: 104

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ) البجليّ الكوفيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ صَفِيَّةَ) بنت شيبة الْعَبدريّة، وقوله:(تُحَدِّثُ) جملة حاليّة على قول الجمهور، أو مفعول ثان لـ"سمعتُ" على قول بعض النحاة: إنها من أخوات "ظنّ"، (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ أَسْمَاءَ) هي بنت شَكَل، كما يأتي في الرواية الثالثة (سَأَلتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ؟)، أي الحيض، فهو مصدر ميميّ لـ"حاضت"، يعني أنها سألته عن كيفيّة اغتسالها عند انقطاع حيضها، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا) بكسر السين، وسكون الدال المهملتين، قال المجد رحمه الله:"السِّدْرُ: شَجَرُ النّبِق، الواحدة بالهاء، جمعه: سِدْرَاتٌ، وسِدِرَاتٌ، وسِدَرَاتٌ، وسِدَرٌ، وسُدُرٌ". انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "السِّدْرَةُ: شَجَرة النَّبِق، والجمع: سِدَرٌ، ثم يُجْمَع على سِدَرَات، فهو جمع الجمع، وتجمع السِّدْرة أيضًا على سِدْرَات بالسكون؛ حَمْلًا على لفظ الواحد، قال ابن السَّرّاج: وقد يقولون: سِدْرٌ - أي بفتح، فسكون - ويريدون الأقل؛ لقلّة استعمالهم التاء في هذا الباب، وإذا أُطلِق السِّدْر في الغسل فالمراد الوَرَق المطحون، قال: والسِّدْر نوعان: أحدهما ينبُت في الأَرياف، فيُنْتَفع بوَرَقه في الغسل، وثمرته طيبةٌ، والآخر ينبُت في الْبَرّ، ولا يُنتفع بورقه في الغسل، وثمرته عَفِصَة". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "السِّدْر" هنا: هو الغاسول المعروف، وهو المتّخذ من ورق شجر النَّبِق، وهو السدر، وهذا التطهّر الذي أُمر باستعمال السدر فيه هو لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض، والغسل الثاني هو للحيض. انتهى

(3)

.

(فَتَطَهَّرُ)، قال القاضي عياض رحمه الله: التطهر الأوّل تَطَهُّر من النجاسة، وما مسّها من دم الحيض. انتهى.

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 46.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 271.

(3)

"المفهم" 1/ 588.

ص: 105

وتعقّبه النوويّ رحمه الله، فقال: والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالتطهر الأول الوضوء، كما جاء في صفة غسله صلى الله عليه وسلم، وقد قدَّمنا في أول كتاب الوضوء بيانَ معنى تحسين الطهور، وهو إتمامه بهيأته، فهذا المراد بالحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأظهر عندي أن المراد كلا الطهارتين؛ لأنهما مطلوبان شرعًا، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا اغتسل من الجنابة غسل فرجه، وما أصابه من الأذى، وثبت الحثّ على إحسان الوضوء، فقد تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم:"من توضّأ، فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده. . ." الحديث.

والحاصل أن قوله صلى الله عليه وسلم هنا: "فتطهّر، فتُحسن الطّهور" يشمل الطهارتين، فتأمل.

ومعنى إحسان الطُّهُور هو المبالغة بأداء فرائضه، ومراعاة مستحبّاته، كما سبق بيانه في أبواب الوضوء، والله تعالى أعلم.

وقوله: (الطُّهُورَ) هنا بضمّ الطاء؛ لأن المراد الفعل، وأما الطَّهُور بالفتح فاسم لما يُتطهّر به، هذا هو المشهور، لكن ذكر ابن الأثير عن سيبويه جواز الفتح أيضًا، وعبارته:"الطُّهور" بالضمّ: التطهّر، وبالفتح: الماء الذي يُتطهّر به، كالوَضُوء، والوُضُوء، والسَّحُور والسُّحُور، وقال سيبويه: الطَّهُور بالفتح يقع على الماء والمصدر معًا، فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمّها، والمراد بهما التطهّر. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَصُبُّ) بضمّ الصاد، من باب نصر (عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا) من باب نصر أيضًا، يقال: دلكت الشيءَ دَلْكًا: إذا مَرَسْته بيدك، ودلكت النعلَ بالأرض: إذا مسحتها بها، أفاده الفيّوميّ

(2)

. (شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ) الضمير لـ"إحداهنّ"، وفي بعض النسخ:"حتى يبلغ" بالياء، فيكون الضمير للدلك (شُؤُونَ رَأْسِهَا) بضم الشين المعجمة، وبعدها همزة، أي أصول شعر رأسها، وأصولُ الشُّؤون: المخطوط التي في عظم الْجُمْجُمة، وهو مُجْتَمَع شُعَب عظامها، الواحد منها شأن، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"النهاية" 3/ 147.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 199.

(3)

"شرح النووي" 4/ 15.

ص: 106

وقال القرطبيّ رحمه الله: "والشُّؤون" هو أصلُ فَرْق الرأس ومُلتقاها، ومنها تجيء الدموع، وذكرها مبالغةً في شدّة الدلك، وإيصال الماء إلى ما يخفى من الرأس. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا)، أي على شؤون رأسها (الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً) قال القرطبيّ رحمه الله: "الْفِرْصة": صحيح الرواية فيها بكسر الفاء، وفتح الصاد المهملة، وهي القطعة من الشيء، وهي مأخوذة من الْفَرْص، وهو القطع، والْمِفْرَصُ، والْمِفْرَاص: هو الذي تُقطع به الفضة، وقد يكون الْفَرص الشقّ، يقال: فَرَصتُ النعل: أي شققتُ أُذُنيها للشِّرَاك.

قال: وأما "مُمَسَّكةٌ"، فروايتنا فيها بضمّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين، ومعناه: مُطَيَّبةٌ بالمسك مبالغةً في نفي ما يُكرَهُ من ريح الدم، وعلى هذا تصحّ رواية الخشني، عن الطبريّ:"فِرْصَةً من مسك" بكسر الميم، وعلى هذا الذي ذكرناه أكثر الشارحين.

وقد أنكر ابن قُتيبة هذا كلّه، وقال: إنما هو قُرْضَةٌ بضمّ القاف

(2)

، وبالضاد المعجمة، وقال: لم يكن للقوم وُسْعٌ في المال بحيث يستعملون الطيب في مثل هذا، وإنما هو مَسْكٌ، بفتح الميم، ومعناه: الإمساك، فإن قالوا: إنما سُمِع رباعيًّا، والمصدر إمساك، قيل: سُمع أيضًا ثلاثيًّا، فيكون مصدره مَسْكًا.

قال القرطبيّ: لقد أحسن من قال في ابن قُتيبة: هَجُومٌ ولّاجٌ على ما لا يُحسن، ها هو قد أنكر ما صحّ من الرواية في "فِرْصة"، وجَهِلَ ما صحّح نَقْلَه أئمّة اللغة، واختار ما لا يلتئم الكلام معه، فإنه لا يصحّ أن يقال: خُذْ قِطعةً من إمساك، وسَوَّى بين الصحابة كلّهم في الفقر، وسُوء الحال، بحيث لا يقدرون على استعمال مِسْك عند التطهّر والتنظّف، مع أن المعلوم من أحوال أهل الحجاز واليمن مبالغتهم في استعمال الطيب من المسك وغيره، وإكثارهم

(1)

"المفهم" 1/ 588.

(2)

وقع في بعض نسخ "المفهم""قرضة" بالقاف، وهو الصواب، وأما ما في بعض النسخ "فرضة" بالفاء، فتحيفٌ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 107

من ذلك، واعتيادهم له، فلا يُلتَفَت لإنكاره، ولا يُعَرَّج على قوله. انتهى

(1)

.

(فَتَطَهَّرُ بِهَا") أصله تتطهّر بتاءين، فحُذفت إحداهما؛ تخفيفًا، كقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

أي تنظّفي بتلك الفِرصة المُمَسّكة (فَقَالَتْ أَسمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("سُبْحَانَ الله، تَطَهَّرِينَ بِهَا") بحذف إحدى التاءين أيضًا، وهو خبر بمعنى الأمر، كقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية [البقرة: 228]، وقوله:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} الآية [البقرة: 233]، (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِين أَثرَ الدَّمِ). قال النوويّ رحمه الله: معناه: قالت لها كلامًا خفيًّا. انتهى.

فضمير "كأنها" لعائشة رضي الله عنها، ومعنى "تُخفي ذلك"، أي تستر كلامها لئلا يسمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فاسم الإشارة يرجع إلى قولها المفهوم من "قالت"، يعني أن عائشة رضي الله عنها لَمّا لم تفهم أسماءُ مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"تطهّرين بها" قالت لها: معناه: تتبعين بتلك الْفِرصة أثر الدم، وتُنَظّفينه بها، والله تعالى أعلم.

(وَسَأَلَتْهُ)، أي سألت أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟)، أي عن كيفيّته (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَأْخُذُ) الضمير لإحداكنّ (مَاءً، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ) للشكّ من الراوي (تُبْلِغُ الطُّهُورَ) من الإبلاغ، ويحتمل أن يكون من التبليغ، يقادٍ أبلغه السلام، وبلّغه بالألف والتشديد: إذا أوصله، والمراد بإبلاغ الطُّهُور إحسانه، كما تقدّم قريبًا. (ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ) وفي بعض النسخ: "حتى يَبْلُغَ" بالياء، أي يَصِلَ الماء (شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (نِعْمَ النِّسَاءُ) فعلٌ وفاعل، والجملة خبر مقدّم، لقولها:(نِسَاءُ الأَنْصَارِ) وهو المخصوص بالمدح، وهذا الكلام قالته عائشة رضي الله عنها مدحًا لأسماء، حيث إنها جرّأت نفسها على سؤال ما يُستحيا منه عادةً؛ لأنه أمرٌ دينيّ مهمّ، لا يُعذر فيه أحدٌ، ممن وقع عليه التكليف، من الرجال والنساء، فاضطرّت إلى السؤال عنه، وألقت جلباب الحياء العاديّ؛ لأن الحياء

(1)

"المفهم" 1/ 589.

ص: 108

في الأمور الدينيّة غير محمود، ولذا قالت أم سُليم رضي الله عنها:"يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحقّ. . ." الحديث، متفق عليه.

[تنبيه]: اخْتَلَف النحاة في إعراب هذا التركيب، والأصحّ من أقوالهم: أن "نعم" و"بئس" فعلان ماضيان لإنشاء المدح والذمّ، فلا يتصرّفان؛ فلم يُستعمَل منهما غير الماضي، ولا بدّ لهما من مرفوع هو الفاعل، وهو على ثلاثة أقسام:

[الأول]: أن يكون محلّى بالألف واللام، كـ "نعم النساءُ"، وكقوله تعالى:{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

[والثاني]: أن يكون مضافًا إلى ما فيه "أل"، نحو قوله تعالى:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].

[والثالث]: أن يكون مضمرًا مفسَّرًا بنكرة بعده منصوبة على التمييز، نحو قول الشاعر [من البسيط]:

لَنِعْمَ مَوْئِلًا الْمَوْلَى إِذَا حُذِرَتْ

بَأْسَاءُ ذِي الْبَغْي وَاسْتِيلَاءُ ذِي الإِحَنِ

وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقولَه:

فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ

"نِعْمَ" وَ"بِئْسَ" رَافِعَانِ اسْمَيْنِ

مُقَارِنَيْ "أَلْ" أَوْ مُضَافَيْنِ لِمَا

قَارَنَهَا كـ "نِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا"

وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ

مُمَيِّزٌ كـ "نِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ"

ثم إن فاعل "نعم" و"بئس" إذا كان مؤنثًا، يجوز في الفعل إثبات التاء وحذفها، وإن كان مفردًا مؤنّثًا حقيقيًّا، كقول عائشة رضي الله عنها:"نعم النساء"، وإنما جاز ذلك، لأن فاعلها مقصود به استغراق الجنس، فعُومل معاملة جمع التكسير في جواز إثبات التاء وحذفها؛ لشبهه به، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَالْحَذْفَ فِي "نِعْمَ الْفَتَاةُ" اسْتَحْسَنُوا

لأَنَّ قَصْدَ الْجِنْسِ فِيهِ بَيِّنُ

ثم جملة قولها: "نعم النساء" من الفعل والفاعل خبر مقدّم لقولها: "نساء الأنصار"، أو هو خبر لمحذوف، تقديره: المخصوص بالمدح نساء الأنصار، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَيُذْكَرُ الْمَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا

أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا

وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى

كـ "الْعِلْمُ نِعْمَ الْمُقْتَنَى وَالْمُقْتَفَى"

ص: 109

الَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ) مرفوع، تنازعه الفعلان قبله (أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بـ "من" المحذوفة قياسًا، كما قال في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

قال الجامع عفا الله عنه: تخريج الحديث، وبقيّة مسائله تقدّمت في الحديث المذكور أولَ الباب، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[757]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ

(1)

، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَقَالَ: قَالَ: "سُبْحَانَ الله، تَطَهَّرِي بِهَا

(2)

، وَاسْتَتَرَ").

رجال هذا الإسناد ثلاثة:

كلهم تقدّموا قبل بابين، وأبو عبيد الله: هو معاذ بن معاذ بن نصر.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد شعبة السابق، فـ "في" بمعنى الباء، أي: عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفيّة، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (نَحْوَهُ)، أي نحو حديث محمد بن جعفر، يعني أن حديث معاذ بن معاذ نحو حديث محمد بن جعفر الماضي.

وقوله: (وَقَالَ: قَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ تَطَهَّرِي بِهَا) فاعل "قال" الأول ضمير معاذ، وفاعل "قال" الثاني ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى أن معاذًا قال في روايته:"وقال" بالواو بدل قول محمد بن جعفر: "فقال" بالفاء، وقال أيضًا:"تطهّري بها" بحذف النون على أنه فعل أمر للمؤنّثة، بدل قول محمد بن جعفر:"تطهّرين بها" على أنه فعل مضارع، حُذف منه إحدى التاءين، كما مرّ بيانه، وهو خبر بمعنى الأمر، فلا اختلاف في المعنى بين الروايتين.

(1)

زاد في نسخة: "العنبريّ".

(2)

وفي نسخة: "تطهّرُ بها".

ص: 110

ووقع في بعض النسخ: "تطهّر بها"، فإن صحّت، فيكون الضمير لـ"إحداكنّ"، كما سبق تحقيقه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ هذه أخرجها الإمام أبو داود: في "سننه" فقال - بعد إخراج الحديث من طريق أبي الأحوص، وأبي عوانة، كلاهما عن إبراهيم بن مهاجر -:

حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبريّ، أخبرني أبي، عن شعبة، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر - عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، أن أسماء سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال:"فِرْصة مُمَسّكَةً"، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: "سبحان الله، تطهري بها"، واستتر بثوب، وزاد: وسألته عن الغسل من الجنابة؟ فقال: "تأخذين ماءك، فتطهرين أحسن الطهور وأبلغه، ثم تصبين على رأسك الماء، ثم تدلكينه حتى يبلغ شؤون رأسك، ثم تفيضين عليك الماء"، قال: وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين، وأن يتفقهن فيه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[758]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَص، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ شَكَلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَغْتَسِلُ إِحْدَانَا إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ؟، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام الحافظ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ الحافظ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

ص: 111

3 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) هو: سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ الكوفيّ، تقدّم قبل باب.

والباقون تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (أَسمَاءُ بِنْتُ شَكَلٍ) - بالشين المعجمة، والكاف المفتوحتين - قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيحَ المشهور، وحَكَى صاحب "المطالع" فيه إسكان الكاف، وذكر الخطيب الحافظ، أبو بكر البغداديّ في كتابه "الأسماء المبهمة"، وغيره من العلماء، أن اسم هذه السائلة أسماء بنت يزيد بن السَّكَن التي كان يقال لها: خطيبةُ النساء، ورَوَى الخطيب حديثًا فيه تسميتها بذلك، والله أعلم.

انتهى

(1)

. وتقدّم تمام البحث في هذا في شرح حديث أول الباب، فراجعه، تستفد، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي الأحوص.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ) يعني أن أبا الأحوص اقتصر في روايته على ذكر سؤالها عن غسلها من الحيض، ولم يذكر سؤالها عن غسل الجنابة.

[تنبيه]: رواية أبي الأحوص هذه أخرجها الإمام أبو داود رحمه الله أيضًا في "سننه"، فقال:

(314)

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا سلّام بن سُليم، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: دخلت أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ قال: تأخذ سِدْرها وماءها، فتوضأ، ثم تغسل رأسها، وتدلُكُه حتى يبلغ الماء أصول شعرها، ثم تُفيض على جسدها، ثم تأخذ فِرصتها، فتَطَهَّر بها، قالت: يا رسول الله، كيف أتطهّر بها؟ قالت عائشة: فعرفت الذي يَكْنِي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: تتبعين بها آثار الدم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 16.

ص: 112

(13) - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَة، وغُسْلِهَا، وَصَلَاتهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[759]

(333) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلَا أَطْهُرُ، أفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ

(1)

بِالْحَيْضَة، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّي").

رجال هذا الإسناد: ستةً:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في المسند الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(وَكِيع) بن الجرَّاح بن المليح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنة (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94) على الصحيح (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت سنة (57) على الصحيح، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

(1)

وفي نسخة: "وليست".

ص: 113

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أدت رواته رواة الجماعة، سوى ابن أبي شيبة، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا غريب أحد التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، عن خالته: هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

5 -

(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ) بالحاء المهملة، والموحّدة، والشين المعجمة، بصيغة التصغير، اسمه قيس بن المطّلب بن أسد، وهي غير فاطمة بنت قيس التي طُلّقت ثلاثًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وهي: فاطمة بنت أبي حبيش قيس بن المطّلب بن أسد بن عبد العزَّى بن قُصيّ الأسديّة، مهاجريّة جليلة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الاستحاضة، وروى عنها عروة بن الزبير، وقيل: عن عروة، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش، قالت إلخ، ذكر إبراهيم الحربيّ أنها أم محمد بن عبد الله بن جحش، أخرج لها أبو داود، والنسائيّ، وليس لها في "الصحيحين" إلا ذكر في هذا الباب، والله تعالى أعلم.

(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي) قال الكرمانيّ رحمه الله: فإن قلت: ما موقع "إنّ" هنا؟ فإنه لا تُستعمل إلا عند إنكار المخاطب لمدخولها،

(1)

"الفتح" 1/ 396.

ص: 114

أو التردّد فيه، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار لاستحاضتها، ولا تردّد فيها.

قلت: قد تذكر أيضًا لتحقيق نفس القضية؛ إذا كانت بعيدة الوقوع، نادرة الوجود، وهنا كذلك. انتهى

(1)

. (امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ) بضمّ الهمزة، مبنيًّا للمفعول، قال في "الفتح": يقال: استُحيضت المرأة: إذا استمرّ بها الدم بعد أيامها المعتادة، فهي مستحاضة، والاستحاضة جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه. انتهى

(2)

.

وقال الأزهريّ والهرويّ وغيرهما: "الحيض": جريان دم المرأة في أوقات معلومة، يُرخيه قعر رحمها بعد بلوغها، و"الاستحاضة": جريانه في غير أوانه يسيل من عِرْقٍ في أدنى الرحم دون قعره، يقال: استُحيضت المرأة بالبناء للمفعول، فهي مستحاضة، وأصل الكلمة من الحيض، والزوائد التي لَحِقتها للمبالغة، كما يقال: قَرّ بالمكان، ثم يُزاد للمبالغة، فيقال: استقرّ، وأعشب المكان، ثم يُزاد للمبالغة، فيقال: اعشوشب، وكثيرًا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى، نبّه عليه ابن دقيق العيد رحمه الله. انتهى

(3)

.

وقال العلامة العينيّ رحمه الله: "الاستحاضة": اسم لما نَقَصَ من أقل الحيض، أو زاد على أكثره.

[فإن قلت]: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة، فقيل: استُحِيضت؟.

[قلت]: لَمّا كان الأول معتادًا معروفًا نُسِب إليها، والثاني لَمّا كان نادرًا غير معروف الوقت، وكان منسوبًا إلى الشيطان، كما ورد:"أنها رَكْضَةٌ من الشيطان"، بُنِي لِمَا لم يُسَمَّ فاعله.

[فإن قلت]: ما هذه السين فيه؟.

[قلت]: يجوز أن تكون للتحوّل، كما في استَحْجَر الطين، وهنا أيضًا تحوّل دم الحيض إلى غير دمه، وهو دم الاستحاضة، فافهم. انتهى

(4)

.

(1)

"شرح الكرمانيّ" 2/ 79.

(2)

"الفتح" 1/ 396.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(2/ 180)، شرح الزرقاني على الموطّأ" 1/ 121.

(4)

راجع: "عمدة القاري" ببعض إصلاح 3/ 212.

ص: 115

قال الجامع عفا الله عنه: في قوله: "تَحَوَّل دم الحيض إلخ" نظر لا يخفى؛ لأن دم الاستحاضة غير دم الحيض؛ لأن دم الحيض من قعر الرحم، ودم الاستحاضة دم انفجر من عرق، يقال له: العاذل، كما نُصَّ عليه في الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: "استُحيضت" المرأة من الأفعال الملازمة للبناء للمفعول، وهي ستة وستون فعلًا، وقد نظمتها بقولي:

اعْلَمْ - هَدَاكَ اللهُ - أَفْعَالًا أَتَتْ

مُغَيَّرًا صِيَغُهَا حَيْثُ بَدَتْ

وَهْيَ اسْتُحِيضتْ زُهِيَتْ

(1)

وَوُضِعَا

(2)

وَبُرَّ حَجٌّ

(3)

وُثِئَتْ

(4)

وَأُولِعَا

(5)

وَأُزْعِجَتْ وَأُرْعِدَتْ

(6)

نُخِي

(7)

عُنِي

(8)

عَلَيْهِ أُغْمِيَ

(9)

اسْتُهِلَّ

(10)

فَاعْتَنِ

وَوُكِسَتْ

(11)

وَدُهِشَتْ

(12)

وَبُهِتَتْ

(13)

سُقِطَ

(14)

مَعْ غُمَّ الْهِلَالُ

(15)

عُقِمَتْ

(16)

.

غُشِيِ عَلَيْهِمْ

(17)

وَغُمِي

(18)

وَأُهْدِرَا

(19)

طُلَّ دَمٌ

(20)

وَأُهْرِعُوا

(21)

وَشُهِرَا

(22)

(1)

تكبّرت.

(2)

يقال: وُضِع في حسبه، فهو وضيع: لا قدر له.

(3)

أي: قُبِل الحج.

(4)

وُثئت يده: إذا وَجِعت في العظم بلا كسر.

(5)

أولع بالشيء: إذا عُلِّق به.

(6)

أخذته الرِّعْدة.

(7)

أي: افتخر.

(8)

عُني بالشيء: اهتمّ به، واحتَفَل.

(9)

أي: غُشي عليه.

(10)

أي: ظهر.

(11)

أي: خسِرَتْ.

(12)

تحيّرت.

(13)

أي: دُهِشت وتحيّرت.

(14)

يقال: سقط في يده: زلّ، وأخطأ، ونَدِم، وتحيّر.

(15)

أي: حال دونه غيم رقيقٌ.

(16)

أي: لم تلد.

(17)

أصابهم الغشي.

(18)

كغُشي وزنًا ومعنى.

(19)

أي: بَطَل.

(20)

أي: بطل، ولم يُثأر.

(21)

أي: أسرعوا.

(22)

أي: أُفشي، وانتشر.

ص: 116

وَوُقِصت

(1)

وَنُكِبَتْ وَشُغِلَتْ

(2)

حُلِبَ سُرَّ

(3)

رُهِصَتْ

(4)

وَشُغِفَتْ

(5)

دِيرَ أُدِيرَ

(6)

دُفِقَتْ وَأُسْهِبَا

(7)

لُقِيَ شُبَّ

(8)

قُطِعَتْ

(9)

وَأُغْرِبَا

(10)

شُدِهَ

(11)

جُنَّ فُلِجَتْ

(12)

وَنُفِسَتْ

(13)

وَزُكِمَتْ وَقُرِنَتْ وَسُوِّسَتْ

(14)

وَنُسِئَتْ

(15)

وَقُنِيَتْ

(16)

وَمُقِعَا

(17)

وَثُلِجَتْ

(18)

وافْتُلِتَتْ

(19)

وَامْتُقِعَا

(20)

وَأُسْقِطَتْ

(21)

وَأُرْثِثَتْ وَحُصِرَا

(22)

وَطُلِقَتْ

(23)

وَضئِدَتْ

(24)

وَأُحْصِرَا

(25)

وَأُهْتِرَتْ

(26)

اسْتُهْتِرَتْ

(27)

وَانْتُقِعَا

(28)

وَأُوكِسَتْ

(29)

وَغُبِنَتْ

(30)

وَثُطِعَا

(31)

(1)

إذا سقط عن دابته، فكسرت عنقه.

(2)

أي: لُهِيَت به.

(3)

أي: فَرَح.

(4)

أي: أصابته الرهصة، وهي وَقْرة تصيب باطن حافره.

(5)

شُغِفَ بالشيء: أُولع به.

(6)

هما بمعنى، أي أخذه الدُّوار، وهو: بالضم والفتح: شبه الدوران يأخذ في الرأس. "ق".

(7)

أي: ذهب عقله من لدغ الحيّة، أو تغيّر لونه من حُبّ، أو فَزَع، أو مرض. قاله في "القاموس" 1/ 84.

(8)

شُبّت النارُ: اشتعلت.

(9)

انقطعت اليد بداء عَرَضَ لها.

(10)

اشتدّ وجعه.

(11)

دُهِشَ وشُغلَ، وحُيِّر.

(12)

أصابها الفالج.

(13)

وَلَدت.

(14)

أي: صُيِّرت ملكةً.

(15)

تأخر حيضها عن وقته، فَرُجِيَ أنها حُبلى.

(16)

قُنيت الجارية: منعت من اللعب مع الصبيان.

(17)

أي: رمي بشيء.

(18)

أصابها الثلج.

(19)

ماتت فَجْأة.

(20)

تغير لونه من حزن، أو فَزَع.

(21)

زلّت، وأخطأت، وندمت.

(22)

أي: احتبس ما في بطنه.

(23)

أصابها وجع الولادة.

(24)

أصابها الزكام.

(25)

احتبس ما في بطنه.

(26)

أُولعت بالقول في الشيء.

(27)

استُهترت بكذا: فُتنت به.

(28)

تغيّر لونه.

(29)

خسِرت.

(30)

خُدعت.

(31)

زُكِم.

ص: 117

وَدُبِرُوا

(1)

نُفِسَ عِذْقٌ كَمُلَا

سِتًّا وَسِتِّينَ فَخُذْ لِتَكْمُلَا

[تنبيه آخر]: هذه المرأة هي إحدى الصحابيّات اللاتي كنّ يستحضن في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهنّ عشر: بنات جحش الثلاثة: زينب، وحمنة، وأم حبيبة، أو أم حبيب، وفاطمة بنت أبي حُبيش المذكورة في هذا الحديث، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة، وأسماء بنت عُميس، وسهلة بنت سُهيل، وأسماء بنت مَرْثد، وبادية بنت غَيلان، فهنّ عشرٌ، ويقال: إن زينب بنت أم سلمة أيضًا استُحيضت، ولكن هذا لا يصحّ؛ لأنها في زمنه صلى الله عليه وسلم كانت صغيرة، وقد نظمهنّ في "شرح الزرقانيّ على الموطأ"، حيث قال [من الرجز]:

قَدِ اسْتُحِيضَتْ فِي زَمَان الْمُصْطَفَى

بَنَاتُ جَحْشٍ سَهْلَةٌ وَبَادِيَهْ

وَهِنْدُ أَسْمَا سَوْدَةٌ وَفَاطِمَهْ

وَبِنْتُ مَرْثَدٍ رَوَاهَا الرَّاوِيَهْ

(فَلَا أَطْهُرُ) بفتح الهاء وضمّها، من بابي نصر، وقرُب، والمراد بالطهارة هنا: النظافة من الدم، قال الفيّوميّ رحمه الله: طَهَر الشيءُ، من بابي قَتَل، وقَرُب طهارةً، والاسم الطُّهْر، وهو النقاء من الدنس والنجس، وهو طاهرُ الْعِرْض: أي بريء من العيب، ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض: طُهْرٌ، والجمع أطهارٌ، مثلُ قُفْل وأَقفال، وامرأة طاهرةٌ من الأدناس، وطاهرٌ من الحيض بغير هاء، وقد طَهَرت من الحيض، من باب نَصَرَ، وفي لغة قليلة من باب قَرُب، وتطهّرت: اغتَسَلَت، وتكون الطهارة بمعنى التطهّر. انتهى

(2)

.

وإنما قالت: "فلا أطهر" لأنه كان عندها أن طهارة الحائض لا تُعرف إلا بانقطاع الدم، فكَنَت بعدم الطهر عن اتّصاله، وكانت قد عَلِمت أن الحائض لا تصلّي، فظنّت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج، فأرادت أن تُحقّق ذلك، فقالت:(أَفأَدعُ الصَّلَاةَ؟)، أي أتركها، قال ابن الملقّن رحمه الله: هو سؤال عن استمرار حكم الحيض حالة دوام الدم، وعدمه ممن تقرّر عنده أن الحائض

(1)

أي: أصابهم الدَّبُور.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 379.

ص: 118

ممنوعة عن الصلاة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال الكرمانيّ رحمه الله: فإن قلت: الهمزة تقتضي عدم المسبوقيّة بغيرها، والفاء تقتضي المسبوقيّة به، فكيف يجتمعان؟.

قلت: هو عطف على مقدّر، أي أيكون لي حكم الحائض، فأدع الصلاة؟، أو الهمزة مقحمة، أو توسّطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على استفهاميّتها؛ لأنها للتقرير هنا، فلا تقتضي الصدارة. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: قد تقدّم أن بعضهم قال: إن العرب أماتت ماضي "يَدَعُ"، لكن الحقّ أنه منقول، وإن كان قليلًا، كقراءة من قرأ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} بتخفيف الدال، وكحديث:"دَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم، ودَعُوا الترك ما وَدَعُوكم"

(3)

، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا)، أي لا تتركي الصلاة؛ لأن الاستحاضة لا تمنع منها، ثمّ علَّل كونها غير مانعة عنها بقوله:(إِنَّمَا ذَلِكِ) بكسر الكاف؛ لأنه خطاب للمرأة، أي إنما ذلك الدم الزائد على العادة السابقة، وذلك لأن الدم الذي اشتكته (عِرْقٌ) - بكسر العين المهملة، وسكون الراء -: أي دم عِرق؛ لأن الخارج هو الدم، لا العِرْق.

ويُسمّى ذلك العِرْق بالعاذل - بالعين المهملة، والذال المعجمة، واللام، أو الراء - قال ابن الأثير رحمه الله:"العاذل": اسم العِرْق الذي يَسيل منه دم الاستحاضة، وذكر بعضهم "العاذر" بالراء، وقال: العاذرة: المرأة المستحاضة، فاعلةٌ بمعنى مفعولة، من إقامة العذر، ولو قال: إن العاذر هو الْعِرْق نفسه؛ لأنه يقوم بعذر المرأة لكان وجهًا، والمحفوظ "العاذل" باللام. انتهى

(4)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 180.

(2)

"شرح الكرمانيّ على البخاري" 2/ 79 - 80.

(3)

حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود 4/ 112.

(4)

"النهاية" 3/ 200.

ص: 119

قال ابن الملقّن رحمه الله: هذا العرق في أدنى الرحم يعتنق الرحم، قال: ويحتمل أن يكون من مجازي التشبيه، إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادّة الدم، وخروجه من مجاري الحيض المعتادة. انتهى باختصار

(1)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وأما ما يقع في كثير من كتب الفقه: "إنما ذلكِ عِرق انقطع وانفجر"، فهي زيادة لا تُعْرَف في الحديث، وإن كان لها معنى، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أما بلفظ: "انفجر" فكما قال، وأما بلفظ "انقطع"، فقد جاء بسند ضعيف عند الحاكم في "المستدرك"، والدارقطنيّ، والبيهقيّ في "سننيهما" بلفظ:"فإن الذي أصابها رَكْضة من الشيطان، أو عِرْقٌ انقَطَع، أو داء عَرَض لها"

(3)

، وصححه الحاكم، وتُعُقّب بأن صورته مرسل، وفي إسناده أيضًا عثمان بن سعيد التيميّ، ضعيف.

(وَلَيْسَ) اسم "ليس" ضمير الدم، وفي نسخة:"وليست"، فاسمها ضمير يعود إلى الحالة، أي ليست هذه الحالة حالة الحيض (بِالْحَيْضَةِ) بفتح الحاء، أي الحيض، هذا هو الأظهر ونقله الخطابيّ عن أكثر المحدثين، أو كلهم، ثم اختار الكسر على إرادة الحالة، وقال النوويّ: وهو في هذا الموضع مُتَعَيِّنٌ، أو قريب من المتعين، فهان المعنى يقتضيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض. انتهى

(4)

.

والمعنى: أن ذلك الدم دم علّة حَدَثت بالمرأة من تصدّع العرق، فاتّصل الدم، وليس بدم الحيض الذي يدفعه رحمها لميقات أيام معلومة، فيجري مجرى سائر الأَثفال والفُضول التي تستغني عنها الطبيعة، وتَقذفها عن البددن، فتجد النفس راحة لها فيها، وتُخلّصها عن ثقلها وأذاها

(5)

.

(1)

"الإعلام " 2/ 181.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 21.

(3)

راجع: ما كتبه محقق سنن الدارقطنيّ 1/ 482 - 483.

(4)

راجع: "الفتح" 1/ 488، و"شرح النوويّ" 4/ 21.

(5)

راجع: "المنهل العذب" 3/ 69.

ص: 120

(فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ) قال النوويّ رحمه الله: يجوز في "الحيضة" هنا الوجهان: فتح الحاء، وكسرُها جوازًا حسنًا. انتهى.

وقال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام النوويّ المذكور -: والذي في روايتنا بفتح الحاء في الموضعين. انتهى

(1)

.

(فَدَعِي الصَّلَاةَ)، أي اتركيها، يعني أنه إذا جاء الوقت الذي يعتادك فيه الحيض، فاتركي الصلاة، قال في "الفتح": هذا يتضمّن نهي الحائض عن الصلاة، وهو للتحريم، ويقتضي فساد الصلاة بالإجماع. انتهى

(2)

. (وَإِذَا أَدْبَرَتْ)، أي ذهبت الحيضة، أي مضى وقتها المعتاد لك، وقال الزرقانيّ: أي قدر الحيض على ما قدّره الشارع، أو على ما تراه المرأة باجتهادها، أو على ما تقدّم من عادتها، احتمالات. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو الأولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك"، فقد أمرها أن تقعد الأيام التي كانت تحبسها حيضتها قبل ذلك، فيكون قوله:"فإذا أدبرت" أي تلك الأيام التي اعتادتها فيها الحيضة، والله تعالى أعلم.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الأشبه أن يريد قدر أيامها، وصحّف بعض الطلبة هذه اللفظة بالذال المعجمة المفتوحة، وإنما هو بالدال المهملة، أي قَدْر وقتها. انتهى.

قال ابن الملقّن رحمه الله: ومما يُبطل هذا التصحيف روايةُ: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها". انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: المراد بالإدبار انقطاع الحيض، ومما ينبغي أن يُعتَنَى به معرفة علامة انقطاع الحيض، وقَلَّ مَن أوضحه، وقد اعتنى به جماعة من أصحابنا.

وحاصله أن علامة انقطاع الحيض، والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم، والصُّفْرة، والكُدْرة، وسواء خرجت رُطوبة بيضاء، أم لم يخرج شيء أصلًا.

(1)

"الفتح" 1/ 488.

(2)

"الفتح" 1/ 396.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 182 - 183.

ص: 121

قال البيهقيّ، وابن الصّبّاغ وغيرهما من أصحابنا: التَّرِيَّةُ رطوبة خفيفةٌ، لا صفرة فيها ولا كدرة، تكون على القطنة أثرًا لا لون، قالوا: وهذا يكون بعد انقطاع دم الحيض.

قال النوويّ: التَّرِيّة - بفتح التاء المثناة من فوقُ، وكسر الراء، وبعدها ياء مثناةٌ من تحتُ مشددة -.

وقد ذكره البخاريّ في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنساء: "لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَيْنَ القَصَّة البيضاء"، تريد بذلك الطهر.

و"القَصّة" - بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة - وهي الْجِصّ شُبِّهت الرطوبة النقية الصافية بالجِصّ.

قال أصحابنا: إذا مَضَى زمن حيضتها وجب عليها أن تغتسل في الحال لأول صلاة تُدركها، ولا يجوز لها أن تترك بعد ذلك صلاةً، ولا صومًا، ولا يمتنع زوجها من وطئها، ولا تمتنع من شيء يفعله الطاهر، ولا تستظهر بشيء أصلًا، وعن مالك: رواية أنها تستظهر بالإمساك عن هذه الأشياء ثلاثة أيام بعد عادتها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نسبه النوويّ إلى مالك رحمه الله إن صحّ عنه، فمما لا وجه له؛ لمخالفته النص الصريح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"وإذا أدبرت فصلّي"، فأوجب عليها الصلاة بمجرد انقطاع الحيض، ولم يجعل عليها شيئًا تستظهر به لا ساعةً، ولا أقلّ منها، فضلًا عن ثلاثة أيام، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّي")، أي بعد الاغتسال، كما صرّح به في الرواية الآتية حيث قال:"فاغتسلي، ثم صلّي".

[تنبيه]: وقع الاختلاف بين أصحاب هشام بن عروة في هذا الحديث، فمنهم مَن ذَكَر غسل الدم، ولم يذكر الاغتسال، كوكيع هنا، ومنهم مَن ذَكَر الاغتسال، ولم يذكر الغسل، كابن شهاب في رواياته الآتية، وكلهم ثقات،

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 22.

ص: 122

وأحاديثهم في "الصحيحين"، فيُحمل على أن كلّ فريق اختصر أحد الأمرين؛ لوضوحه عنده.

ووقع أيضًا اختلاف في زيادة: "ثم توضئي لكل صلاة"، وطعن فيها بعضهم بأنه مدرج، وبعضهم بأنه موقوفٌ على عروة، وسيأتي الجواب عن ذلك حيث يشير المصنّف إلى إعلاله - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[13/ 759 و 760](333)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(228) و"الحيض"(306 و 320 و 325 و 331)، و (أبو داود) في "الطهارة"(282 و 298)، و (الترمذيّ) فيها (125)، و (النسائيّ) فيها (1/ 181 و 185 و 186)، و (ابن ماجه) فيها (624)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 61)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1165)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 125)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 42 و 137 و 194 و 204 و 262)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 199)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1350)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 102)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 211)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(112)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 323 و 324 و 325 و 327 و 329)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(927 و 928 و 929)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(743 و 744 و 745 و 746 و 747 و 748)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الفرق بين دم الاستحاضة والحيض، فدم الاستحاضة يخرج من فرج المرأة في غير أوانه، من عِرْق يقال له: العاذل - بالعين المهملة، وكسر الذال المعجمة - وأما دم الحيض، فإنه يخرج من قَعْر الرحم.

2 -

(ومنها): جواز استفتاء مَن وَقَعت له مسألة.

ص: 123

3 -

(ومنها): جواز استفتاء المرأة بنفسها، ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة، وأحداث النساء.

4 -

(ومنها): ردّ المرأة إلى عادتها في الحيض.

5 -

(ومنها): جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة، قاله النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قول النوويّ: "عند الحاجة" مبنيّ على قول من يقول: إن صوتها عورة، وهو قول لا دليل عليه، فتنبّه.

6 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه نهي الحائض عن الصلاة في زمن الحيض، وهو نهي تحريم، ويقتضي فساد الصلاة هنا بإجماع المسلمين، وسواء في هذه الصلاة المفروضة والنافلة؛ لظاهر الحديث، وكذلك يحرم عليها الطواف، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وكل هذا مُتَّفقٌ عليه.

قال الجامع عفا الله عنه: إن أراد بقوله: "متّفقٌ عليه" اتّفاق أهل مذهبه، فذاك، وإلا فالمسألة فيها خلاف بالنسبة لسجود التلاوة، والشكر، وسيأتي في محلّه - إن شاء الله تعالى -.

قال: وقد أجمع العلماء على أنها ليست مكلَّفةً بالصلاة، وعلى أنه لا قضاء عليها. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): نجاسة دم الحيض والاستحاضة، ووجوب غسله قبل الدخول في الصلاة من بدن المرأة وثوبها.

8 -

(ومنها): نجاسة الدم، وهو إجماعٌ، إلا من شذّ

(2)

.

9 -

(ومنها): أن الصلاة تجب على المستحاضة بمجرد انقطاع حيضها، وأن الصلاة واجبة عليها أبدًا إلا في الأيام التي يُحكم بأنها حيض، وهذا إجماع.

10 -

(ومنها): أن الصلاة لا يتركها من عليه الدم، كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلّى وجُرحه يسيل دمًا.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 21 - 22.

(2)

"الإعلام" 2/ 183.

ص: 124

11 -

(ومنها): ترك الحائض الصلاة، وهو إجماع لم يُخالف فيه إلا الخوارج.

قال الجامع عفا الله عنه: أما ما نُقل من بعض السلف من أنه يُستحبّ للحائض إذا دخل وقت الصلاة أن تتوضّأ، وتستقبل القبلة، وتذكر الله تعالى، فمن البدع المنكرة، ومن الغلوّ الممنوع؛ لأن الله تعالى أكمل دينه، وأتمّه بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلو كان خيرًا وحسنًا لما تركه، فإن النساء كنّ يحضن في زمان نزول الوحي، فهل سُمع بأنهنّ، أو بعضهنّ كنّ يفعلن هكذا؟ كلا والله، ثم كلًّا، بل هذا هو التنطّع والغلوّ في الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"

(1)

، فتبصر، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

12 -

(ومنها): بيان أن المرأة إذا مَيَّزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قَدْرُه اغتَسَلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، فتتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة، مؤداةً أو مقضيةً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم توضئي لكل صلاة"، وبهذا قال الجمهور، وعند الحنفية أن الوضوء متعلِّق بوقت الصلاة، فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من الفوائت ما لم يخرج وقت الحاضرة، وعلى قولهم المراد بقوله:"وتوضئي لكل صلاة"، أي لوقت كل صلاة، ففيه دعوى مجاز الحذف، ويحتاج إلى دليل، وعند المالكية يستحب لها الوضوء لكل صلاة، ولا يجب إلا بحَدَث آخر، وقال أحمد، وإسحاق: إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

13 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أقبلت الحيضة" تعليقُ الحكم بالإقبال والإدبار، فلا بدّ أن يكون معلومًا لها بعلامة تعرفها، فإن كانت مميّزةً رُدّت إلى التمييز، فإقبالها بُدُوّ الدم الأسود،

(1)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في:"سننه" برقم (3029).

ص: 125

وإدبارها إدبار ما هو بصفة الحيض، وإن كانت معتادةً رُدّت إلى العادة، فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها انقضاء أيام العادة.

وقد ورد في حديث فاطمة ما يقتضي الردّ إلى التمييز، وقالوا: إن حديثها في المميّزة، وحمل قوله:"فإذا أقبلت الحيضة" على الحيضة المألوفة، قال: وأقوى الروايات في الردّ إلى التمييز الرواية التي فيها: "دمُ الحيض أسود يُعْرَفُ، فإذا كان ذلك، فأمسكي عن الصلاة"، وأما الردّ إلى العادة، ففي قوله صلى الله عليه وسلم:"ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها". انتهى

(1)

.

14 -

(ومنها): ما قاله ابن الملقّن رحمه الله: فيه دليل على الردّ إلى العادة؛ لأن الحديث يدلّ بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادةً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدر الأيام"، وهو يقتضي أنه كان لها أيام تحيض فيها، وليس فيه أنها كانت مميّزة، أو غير مميّزة، فإن ثبت ما يدلّ على التمييز فذاك، وإلا رُدّت إلى العادة، والتمسّك به يدلّ على أن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال، يُنزّل منزلة العموم في المقال، ويجوز أن يكون عَلِم الواقعة في التمييز أو عدمه، وأجاب على ما عَلِم. انتهى

(2)

.

15 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع فيما يحدُث لهم من الأمور كلّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسؤال عن الأحكام، وجوابه صلى الله عليه وسلم عنها.

[تنبيه]: قد استنبط من هذا الحديث الرازي الحنفيّ أن مدة أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة؛ لقوله:"قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"؛ لأن أقل ما يُطلق عليه لفظ "أيام" ثلاثة، وأكثره عشرة، فأما ما دون الثلاثة، فإنما يقال له: يومان، ويوم، وأما ما فوق عشرة، فإنما يقال: أحد عشر يومًا، وهكذا إلى عشرين، قال الحافظ رحمه الله: وفي الاستدلال بذلك نظر، ذكره في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسأل الرابعة): في بيان اختلاف الأخبار الواردة في المستحاضة التي استمرّ بها الدم، واختلاف أهل العلم في أمرها:

(1)

راجع: "الإعلام" 2/ 189 - 190.

(2)

"الإعلام" 2/ 186.

(3)

"الفتح" 1/ 488.

ص: 126

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: رَوَينا في هذا الباب ثلاثة أخبار، أَجْمَعَ أهلُ العلم على القول بأحدها وتثبيته، واختلفوا في الخبرين الآخرين، فأَثبتت القول بهما فرقة، ونَفَت فرقة القول بهما، ونَفَت فرقة القول بأحدهما، وأثبتت القول بالآخر، ثم قال:

‌ذكر الخبر الذي أَجمع أهل العلم على القول به وتثبيته

ثم أخرج بسنده حديث عائشة رضي الله عنها المذكور هنا.

ثم قال: اختَلَف أصحابنا بعد إجماعهم على صحة هذا الخبر في المعنى الذي له أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بترك الصلاة إذا أقبلت الحيضة، وأمره إياها بالصلاة عند إدبارها، فكان الشافعي يقول: يدُلّ حديث عائشة هذا على أن فاطمة بنت أبي حُبيش كان دم استحاضتها منفصلًا، من دم حيضها؛ لجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال:"إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم، وصلي"، فنقول: إذا كان الدم ينفصل، فيكون في أيام قانئًا ثخينًا مُحتَدِمًا يَضرِب الى السواد، له رائحة، فتلك الحيضة نفسُها، فلتدع الصلاة، فإذا ذهب ذلك الدم، وجاءها الدم الأحمر الرقيق الْمُشرِق، فهو عِرْق، وليست بالحيضة، وهو الطُّهور، وعليها أن تغتسل، وتصلي.

وكان أحمد بن حنبل، وإسحاق يقولان: وإذا كانت في معنى فاطمة، كان الجواب فيه كما أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، وهذه إذا كان دمها ينفصل، وقال أبو عبيد بمثل هذا المعنى.

وكان الأوزاعيّ يقول: لا يُوَقَّت في المستحاضة إذا لم يُعْرَف وقتُ نسائها، ولم يكن لها أيام تُعْرَف فيما مضى، أخذنا بهذا الحديث:"إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة"، قال الأوزاعي: وإقبالها سواد الدم، ونَتْنه، وتغيُّره لا يدوم عليها؛ لأنه لو دام عليها قتلها، فإذا اسودّ الدم، فهو حيض، فإذا أدبرت الحيضة، فصارت صُفْرة أو كُدْرة، فهي استحاضة.

قال ابن المنذر: وذهب غيرهم من أصحابنا إلى غير هذا المعنى، وقال: إنما أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن تَدَع الصلاة قدر أيامها المعروفة، كان عندها قبل أن تُستحاض، قال: وذلك بَيِّنٌ في الأخبار الثابتة بالأسانيد المتصلة، يُستَغنى بظاهرها عن غيرها.

ص: 127

قال: فقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا ذهب قدرها" يريد قدر الحيضة المعلومة قبل أن تُستحاض، وهذا مُستغنى به عما سواه، وقد روى هذا الحديث - يعني فاطمة بنت أبي حبيش المذكور - أبو أسامة، وذكر في الحديث أنه قال:"ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تَحِيضين فيها، ثم اغتسلي، وصلي".

ثم ذَكَر أحد الخبرين المختَلَف في ثبوته، فقال:

أخبرنا الربيع، أنبا الشافعيّ، أنبا مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تُهَراق الدماءَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أمُّ سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خَلَّفت، فلتغتسل، ثم لْتَسْتَثْفِر بثوب، ثم تصلي".

ثم ذَكَر الخبر الثالث المختَلَف في ثبوته، فقال:

حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عبد الرزاق، أنبا ابن جريج، عن عبد الله بن محمد، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أم حبيبة.

وحدثنا محمد بن خلف بن شعبة، والحديث له، ثنا زكريا بن عديّ، ثنا عبيد الله، عن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن إبراهيم، هو ابن محمد بن طلحة، عن عمران بن طلحة، عن بنت جحش - يعني حمنة - أنها قالت: كنت أُستحاض حيضةً شديدةً كثيرةً، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه، وأُخبره، فوجدته في بيت زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، قال:"ما هي يا هناه؟ قلت: إني لأستحي منك، وإنه لحديثٌ ما منه بُدّ، وإني أستحاض حيضةً شديدةً، فما ترى، تقول فيها يا رسول الله؟، قد منعني الصوم والصلاة، قال: "أَنْعَتُ لكِ الْكُرْسُف، فإنه يَذهب بالدم"، قالت: فإنه أكثر من ذلك، قال: "فَتَلَجَّمي"، قالت: فإنه أكثر من ذلك، إني أَثُجّ ثَجًّا، قال: "آمرك بأمرين، أيهما فعلت أجزأك من الآخر، وإن قَوِيت عليهما، فأنت أعلم، إنما هي رَكْضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا استنقأت، فصلي أربعًا وعشرين، أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزيك، كذلك فافعلي في كل شهر،

ص: 128

كما تَحِيض النساء، وكما يَطْهُرن لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قَوِيت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، ثم تغتسلين، وتصلين الظهر والعصر جمعًا، وتؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلي، وتجمعي بين الصلاتين، ثم تغتسلي مع الفجر، ثم تصلي، كذلك فافعلي، وصومي، وصلي إن قويت على ذلك"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذا أعجب الأمرين إليّ".

قال أبو عبيد: "الْكُرْسُفُ": القطن، وقولها: أَثُجُّه ثَجًّا: هو من الماء الثّجّاج، وهو السائل، وقوله:"تلجمي" يقول: شُدِّي لِجَامًا، وهو شبيه بقوله:"استثفري"، والاستثفار يكون من ثَفَر الدابة، شَبَّهَ هذا اللجام بالثَّفَر؛ لأنه يكون تحت ذنب الدابة. انتهى.

قال ابن المنذر: وأما الفرقة التي نَفَت القول بخبر أم سلمة، وخبر بنت جحش، فإنهم دفعوا خبر سليمان بن يسار بأنهم قالوا: خبر سليمان بن يسار خبرٌ غيرُ متصل، لا يصح من جهة النقل، وذلك أن غير واحد من المحدثين أدخل بين سليمان بن يسار وبين أم سلمة رجلًا، اسمه مجهول، والمجهول لا يجوز الاحتجاج بحديثه؛ إذ هو في معنى المنقطع الذي لا تقوم به الحجة.

قال: وأما حديث ابن عَقِيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة في قصة حَمْنة، فليس يجوز الاحتجاج به من وجوه، كان مالك بن أنس لا يروي عن ابن عَقِيل، قال الدافع لهذين الخبرين: وفي متن الحديث كلام مستنكر، زعمت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَعَل الاختيار إليها، فقال لها:"تَحَيَّضي في علم الله ستًّا أو سبعًا"، قالوا: وليس يخلو اليوم السابع من أن تكون حائضًا أو طاهرًا، فإن كانت حائضًا فيه، واختارت أن تكون طاهرًا، فقد ألزمت نفسها الصلاة في يوم هي فيه حائض، وصلت وصامت وهي حائض، وإن كانت طاهرًا اختارت أن تكون حائضًا، فقد أسقطت عن نفسها فرض الله عليها في الصلاة والصوم، وحَرَّمت نفسها على زوجها في ذلك اليوم، وهي في حكم الطاهر، وهذا غير جائز، وغير جائز أن تُخَيَّر مرة بين أن تُلْزِم نفسها الفرض في حال، وتُسقط الفرض عن نفسها إن شاءت في تلك الحال.

قال: ثم اختلفوا في تأويل هذه الأخبار الثلاثة، فأما فرقة فنفت القول بهذين الخبرين: خبر أم سلمة، وخبر بنت جحش، وقالت فرقة بها كلِّها،

ص: 129

وممن قال بها كلِّها أبو عبيد القاسم بن سلام، ذكر أبو عبيد أن الناس تكلموا في الحيض قديمًا وحديثًا، ووَقَّتوا فيه أوقاتًا مختلفةً، فلما رأينا الأوقات من العلماء قد اختُلِفت فيه، رددنا علم ذلك كله إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتهينا إليها؛ لأن الله جل ذكره يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فنظرنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدناه قد بَيَّن فيه ثلاثَ سُنَن تَبَيَّن فيها كلُّ مشكل لمن سمعها وفهمها، حتى لا يَدَع لأحد فيها مقالًا بالرأي.

أما أحد السنن الثلاث، فهي الحائض التي لها أيام معلومة، قد حاضتها بلا اختلاط عليها، ثم استحيضت، واستَمَرَّ بها الدم، وهي في ذلك تَعْرِف أيامها، ومبلغ عددها، فذكر حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي ذكرناه، وذكر حديثًا عن عائشة رضي الله عنها

(1)

.

قال أبو عبيد: وأما السنة الثانية، ففي الحائض التي لها أيام متقدمة، قد جَرَت عليها، وعرفتها، ثم استَمَرَّ بها الدم، وطال حتى اختلطت عليها أيامها، وزادت ونقصت، وتقدمت وتأخرت، حتى صارت لا تَعْرِف عددها، ولا وقتها من الشهور، فاحتُجَّ لمن هذه قصتها بحديث عائشة الذي بدأنا بذكره، وهو الخبر الثابت، خبر عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وأما السنة الثالثة، فهي التي ليست لها أيام متقدمةٌ، ولم تَرَ الدم قط، ثم رأته أول ما أدركت، فاستمر بها، فإن سنة هذه غير سنة الأولى والثانية، وذَكَر حديث بنت جحش الذي رواه ابن عَقِيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه، عن حمنة بنت جحش.

(1)

هو ما أخرجه ابن ماجه في سننه، فقال:(624) حدثنا علي بن محمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال:"لا، إنما ذلكِ عرق، وليست بالحيضة، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير".

وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلّس، وقد خالفه هشام بن عروة، فليست عنده هذه الزيادة، وقد أخرجه البخاريّ عن طريقه، راجع:"إرواء الغليل" للشيخ الألباني 1/ 225 رقم (208).

ص: 130

وقال أحمد، وإسحاق خلاف قول أبي عبيد، قالا: إذا استحيضت المرأة، واستمر بها الدم، وهي غير عارفة بأيامها فيما مضى، وليس ينفصل دمها، فتَعْرِف إقباله من إدباره، ووَصَفت من كثرة دمها وغلبته نحوًا مما وَصَفت حمنة، فإنها تجلس ستة أيام، أو سبعة أيام على حديث حمنة، وذلك وسط من حيض النساء.

قال ابن المنذر: فقول أحمد وإسحاق هذا، وتأويلهما لحديث حمنة خلاف تأويل أبي عبيد؛ لأن أبا عبيد إنما تأوَّل حديث حمنة، فيمن ليست لها أيام متقدمة، ولم تَرَ الدم، وتأويل الحديث عند أحمد وإسحاق لمن هي غير عارفة بأيامها فيما مضى ضِدَّ ما قال أبو عبيد، وتأوَّل الشافعي حديث حمنة على غير ما تأوله هؤلاء.

وكان الشافعي يقول بعد ذكره لحديث حمنة: هذا يدلّ على أنها كانت تعرف أيام حيضها ستًّا أو سبعًا، فلذلك قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإن قَوِيتِ أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، وتغتسلي حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعًا، ثم تؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلي، وتجمعي بين المغرب والعشاء فافعلي، وتغتسلين عند الفجر، ثم تصلين الصبح، وكذلك فافعلي، وصومي إن قويت على ذلك، وهذا أحب الأمرين إليّ"، قال الشافعيّ: هذا يدلّ على أنها كانت تَعْرف أيام حيضتها ستًّا أو سبعًا، فلذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الشافعيّ بعد أن ذكر حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث أم سلمة، وحديث حمنة، يقول: وبهذه الأحاديث الثلاثة نأخذ، وهي عندنا متفقة فيما فيه، وفي بعضها زيادة على بعض، فذكر حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وقد ذكرتُ قوله فيه فيما مضى، وقد ذكرنا عنه قوله في حديث حمنة، قال: وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المستحاضةَ يدل على أن المرأة التي سألت لها أمُّ سلمة، كانت لا ينفصل دمها، فأمرها أن تترك الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، والله أعلم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

(1)

"الأوسط" 2/ 218 - 227.

ص: 131

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها في قصّة فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها لاشكّ في صحّته؛ إذ هو متّفقٌ عليه.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها، وإن أعلّوه بالانقطاع، أو جهالة الواسطة، كما تقدّم في كلام ابن المنذر، فالصحيح أنه صحيح؛ لأن سليمان بن يسار تابعيّ ثقة ثبت، أدرك أم سلمة دون شكّ، وقد ذكروه فيمن سمع منها، ولم يُطعن بالتدليس، فروايته محمولة على الاتّصال، ولا تُعل برواية من أدخل الواسطة بينه وبينها؛ لأنه على تقدير صحتها يُحمل على أنه سمع الحديث منها مباشرة وبواسطة، كما هو معروف في روايات الثقات، وقد ذكر مثل هذا التأويل ابن التركماني في "الجوهر النقيّ"، وقد أجاد الشيخ الألبانيّ البحث في هذا، في كتابه "صحيح سنن أبي داود"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم

(1)

.

وأما حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها، فقد أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وغيرهم، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، قال: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، غير ابن عَقِيل، وقد تكلّم فيه بعضهم من قِبَل حفظه، وهو في نفسه صدوقٌ، فحديثه في مرتبة الحسن، وكان أحمد وابن راهويه يحتجّان به، كما قال الذهبيّ، ولهذا قال الترمذيّ عقب هذا الحديث: حسنٌ صحيحٌ، وسألت محمدًا - يعني البخاريّ - عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسنٌ صحيح، وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسنٌ صحيح. انتهى. كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

ثم إن أقرب التأويلات في الجمع بين الأحاديث هو الذي مشى عليه الإمام الشافعيّ رحمه الله.

وحاصله أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش يُحمل على من كانت تميّز بين دم استحاضتها ودم حيضها، فإذا استمرّ بها الدم، وهي تعرف دم الحيض إذا أقبل بأوصافه المعروفة لدى النساء، فإنها تقعد أيامها، فإذا ذهب ذلك، فإنها تغتسل، وتصلّي.

وأما حديث حمنة رضي الله عنها، فإنه يُحمل على من لا تميّز بين الدمين، ولكنها

(1)

"صحيح سنن أبي داود" 2/ 30 - 33.

ص: 132

كانت تعرف أيام حيضها، إما ستة أو سبعة، فتجلس مقدار تلك الأيام، فإذا ذهبت تغتسل، وتصلي.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها، فيحمل على المرأة التي لا تعرف عدد أيام حيضها، ولا تميّز بين الدمين، أو كانت مبتدأة، لم تحض قبلُ قط، فإنها تقعد مثل ما يقعد أغلب نساء قومها، أمها، وأخواتها، ونحوهنّ.

والحاصل أن التي لها عادة ترجع إلى عادتها، والتي لا عادة لها، ولكنها مميّزة تعمل بالتمييز، والتي لا عادة لها، ولا تمييز، فإنها ترجع، فبهذا تتفق الأحاديث، بلا تعارض، ولا دعوى نسخ، ولا تضعيف لصحيح، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"

(1)

، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): ذكر النوويّ رحمه الله فوائد مما يتعلّق بحكم الاستحاضة، فقال:

وأما حكم المستحاضة، فهو مبسوط في كتب الفقه أحسن بسط، وأنا أشير إلى أطراف من مسائلها، فاعلم أن المستحاضة لها حكم الطاهرات في معظم الأحكام، فيجوز لزوجها وطؤها في حال جريان الدم عندنا، وعند جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر في "الإشراف" عن ابن عباس، وابن المسيِّب، والحسن البصريّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر بن عبد الله المزنيّ، والأوزاعيّ، والثوريّ، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول، قال: ورَوَينا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يأتيها زوجها، وبه قال النخعيّ، والحكم، وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية عنه رحمه الله أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها الْعَنَتَ، والمختار ما قَدَّمناه عن الجمهور.

والدليل عليه ما رَوَى عكرمة، عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت مستحاضةً، وكان زوجها يجامعها، رواه أبو داود، والبيهقيّ، وغيرهما بهذا اللفظ، بإسناد حسن.

(1)

راجع: "المجتبى" 4/ 178 - 184.

ص: 133

قال البخاريّ في "صحيحه": قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صَلَّت، الصلاة أعظم، ولأن المستحاضة كالطاهرة في الصلاة والصوم وغيرهما، فكذا في الجماع، ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يَرِد الشرع بتحريمه، والله تعالى أعلم.

وأما الصلاة، والصيام، والاعتكاف، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، وحمله، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، ووجوب العبادات عليها، فهي في كل ذلك كالطاهرة، وهذا مُجْمَعٌ عليه، وإذا أرادت المستحاضة الصلاة، فإنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث، وطهارة النجس، فتغسل فرجها قبل الوضوء والتيمم، إن كانت تتيمم، وتحشو فرجها بقطنة، أو خرقة؛ رفعًا للنجاسة، أو تقليلًا لها، فإن كان دمها قليلًا يندفع بذلك وحده، فلا شيء عليها غيره، وإن لم يندفع شَدَّت مع ذلك على فرجها، وتَلَجَّمت.

وهو أن تشدّ على وسطها خرقةً، أو خيطًا، أو نحوه على صورة التِّكّة، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الطرفين، فتدخلها بين فخذيها وأليتيها، وتشد الطرفين بالخرقة التي في وسطها، أحدهما قُدَّامها عند سُرّتها، والأخرى خلفها، وتُحْكِم ذلك الشدّ، وتُلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخذين بالقطنة التي على الفرج إلصاقًا جيّدًا، وهذا الفعل يُسَمَّى تَلَجُّمًا، واستثفارًا، وتعصيبًا.

قال أصحابنا: وهذا الشدّ والتلجم واجب إلا في موضعين:

[أحدهما]: أن تتأذى بالشدّ، ويحرقها اجتماع الدم، فلا يلزمها؛ لما فيه من الضرر.

[والثاني]: أن تكون صائمة، فتترك الحشو في النهار، وتقتصر على الشدّ، قال أصحابنا: ويجب تقديم الشدّ والتلجم على الوضوء، وتتوضأ عقيب الشدّ من غير إمهال، فإن شدّت وتلجّمت، وأخَّرت الوضوء، وتطاول الزمان ففي صحة وضوئها وجهان، الأصحّ أنه لا يصحّ.

قال الجامع عفا الله عنه: تصحيح هذا القول فيه نظر لا يخفى، فإنه صلى الله عليه وسلم حين أمرها بالتلجّم، والوضوء لكلّ صلاة، ما اشترط عليها هذا الشرط، بل أطلقه إطلاقًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: وإذا استوثَقَت بالشدّ على الصفة التي ذكرناها، ثم خرج منها دم من

ص: 134

غير تفريط، لم تبطل طهارتها، ولا صلاتها، ولها أن تصلي بعدَ فرضها ما شاءت من النوافل؛ لعدم تفريطها، ولتعذر الاحتراز عن ذلك، أما إذا خرج الدم لتقصيرها في الشدّ، أو زالت العصابة عن موضعها؛ لضعف الشدّ، فزاد خروج الدم بسببه، فإنه يبطل طهرها، فإن كان ذلك في أثناء صلاة بطلت، وإن كان بعد فريضة لم تستبح النافلة؛ لتقصيرها، وأما تجديد غسل الفرج وحشوه وشدّه لكل فريضة، فيُنظَر فيه إن زالت العصابة عن موضعها زوالًا له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها، ولا ظهر الدم ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء.

قال: ثم اعلم أن مذهبنا أن المستحاضة لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة، مؤداةً كانت أو مقضيةً، وتستبيح معها ما شاءت من النوافل قبل الفريضة وبعدها، ولنا وجهٌ أنها لا تستبيح أصلًا؛ لعدم ضرورتها إلى النافلة، والصواب الأول، وحُكِي مثل مذهبنا عن عروة بن الزبير، وسفيان الثوريّ، وأحمد، وأبي ثور.

وقال أبو حنيفة: طهارتها مقدرة بالوقت، فتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت من الفرائض الفائتة.

وقال ربيعة، ومالك، وداود: دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء، فإذا تطهرت فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض، إلى أن تُحدث بغير الاستحاضة.

قال أصحابنا: ولا يصح وضوء المستحاضة لفريضة قبل دخول وقتها، وقال أبو حنيفة: يجوز، ودليلنا أنها طهارة ضرورة فلا تجوز قبل وقت الحاجة. قال الجامع عفا الله عنه: القول بعدم جواز وضوئها قبل الوقت يحتاج إلى دليل؛ إذ النصّ: "ثم توضئي لكلّ صلاة"، ولم يقيّده بكونه في الوقت فقط، فتدبّر، والله تعالى أعلم.

قال أصحابنا: وإذا توضأت بادرت إلى الصلاة عقب طهارتها، فإن أخّرت بأن توضأت في أول الوقت، وصلّت في وسطه نُظِر، إن كان التأخير للاشتغال بسبب من أسباب الصلاة، كستر العورة، والأذان والإقامة، والاجتهاد

ص: 135

في القبلة، والذهاب إلى المسجد الأعظم، والمواضع الشريفة، والسعي في تحصيل سُتْرة تصلي إليها، وانتظار الجمعة والجماعة، وما أشبه ذلك، جاز على المذهب الصحيح المشهور، ولنا وجه أنه لا يجوز، وليس بشيء.

وأما إذا أخرت بغير سبب من هذه الأسباب، وما في معناها ففيه ثلاثة أوجه: أصحها لا يجوز، وتبطل طهارتها، والثاني: يجوز، ولا تبطل طهارتها، ولها أن تصلي بها، ولو بعد خروج الوقت. والثالث: لها التأخير ما لم يَخرُج وقت الفريضة، فإن خرج الوقت فليس لها أن تصلي بتلك الطهارة.

قال الجامع عفا الله عنه: القول الثاني هو الأرجح عندي، وأما الآخران ففيهما نظر لا يخفى، فأين النصّ الذي فصّل هذا التفصيل؟ فقد أباح لها أن تصلي كلّ صلاة بوضوء، ولم يقيّد ذلك بشيء من التقديم والتأخير، وكونه في الوقت أو بعده، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

قال: قال أصحابنا: وكيفية نية المستحاضة في وضوئها أن تنوي استباحة الصلاة، ولا تقتصر على نية رفع الحدث، ولنا وجه أنه يجزئها الاقتصار على نية رفع الحدث، ووجهٌ ثالث أنه يجب عليها الجمع بين نية استباحة الصلاة ورفع الحدث، والصحيح الأول، فإذا توضأت المستحاضة استباحت الصلاةَ، وهل يقال: ارتفع حدثها؟ فيه أوجه لأصحابنا، الأصح أنه لا يرتفع شيء من حدثها، بل تستبيح الصلاة بهذه الطهارة مع وجود الحدث، كالمتيمم، فإنه محدث عندنا، والثاني: يرتفع حدثها السابق والمقارن للطهارة دون المستقبل، والثالث: يرتفع الماضي وحده.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول الثاني أرجح؛ حيث إنها مثل المتيمّم، والمتيمّم يرتفع حدثه على الأرجح، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"، وسيأتي هنا أيضًا في موضعه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

قال: (واعلم): أنه لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة، ولا في وقت من الأوقات إلا مرةً واحدةً في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مروي عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد.

ص: 136

ورُوي عن ابن عمر، وابن الزبير، وعطاء بن أبي رَباح أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، ورُوي هذا أيضًا عن عليّ، وابن عباس، وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا، وعن ابن المسيب، والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر دائمًا، والله تعالى أعلم.

ودليل الجمهور أن الأصل عدم الوجوب، فلا يجب إلا ما ورد الشرع بإيجابه، ولم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي"، وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل، وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود، والبيهقيّ، وغيرهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل، فليس فيها شيء ثابتٌ، وقد بَيّن البيهقيّ، ومَن قبله ضعفها، وإنما صح في هذا ما رواه البخاريّ، ومسلم، في "صحيحيهما": أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما ذلك عِرْق، فاغتسلي، ثم صلي"، فكانت تغتسل عند كل صلاة.

قال الشافعي رحمه الله: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا شك - إن شاء الله تعالى - أن غسلها كان تطوعًا غير ما أُمِرت به، وذلك واسع لها، هذا كلام الشافعي رحمه الله بلفظه، وكذا قال شيخه سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وغيرهما، وعباراتهم متقاربة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ من تضعيف أحاديث أمره صلى الله عليه وسلم لها بالاغتسال لكلّ صلاة، ليس مقبولًا، بل الحقّ أن الأحاديث صحيحة، كما حقّقت ذلك في شرح النسائيّ، وإنما وجه الأحاديث أن يُحمل الأمر فيها على الاستحباب، لا على الوجوب، بدليل أمره صلى الله عليه وسلم لها بالوضوء عند كلّ صلاة، فإن هذا يصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب.

والحاصل أن المستحاضة، تغتسل عند كل صلاة استحبابًا، وإن اقتصرت على الوضوء أجزأها، وإن أردت تحقيق المسألة، فارجع إلى ما كتبته في

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 17 - 20.

ص: 137

"شرح النسائيّ" تستفد علمًا جَمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[760]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ (ح)، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح)، وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وإِسْنَادِه، وَفِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَّا، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ زِيَادَةُ حَرْفٍ، تَرَكْنَا ذِكْرَهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدّراورديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

6 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

7 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199) عن (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

ص: 138

8 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) بن ثعلبة البزّار

(1)

المقرئ البغداديّ، ثقة، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(ن د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

9 -

(حَمَّادُ بْنُ زيْدِ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

10 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم في السند السابق، وكذا شرح الحديث، وبيان مسائله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ إلخ)، أي كلّ هؤلاء الخمسة، وهم: عبد العزيز الدراورديّ، وأبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن نُمير، وحماد بن زيد، فكلهم رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة، بمثل حديث وكيع عنه، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ) أراد بهذا بيان مخالفة قتيبة، عن جرير في جدّ فاطمة، حيث قال:"ابن عبد المطّلب"، والباقون قالوا:"ابن المطّلب"، وهو الصواب، قال النوويّ رحمه الله: وقع في الأصول "ابن عبد المطلب"، واتَّفَقَ العلماء على أنه وَهَمٌ، والصواب فاطمة بنت أبي حُبيش بن المطلب، بحذف لفظة "عبد"، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهِيَ امْرَأةٌ مِنَّا) معناه: أنها من بني أسد، والقائل هو هشام بن عروة، أو أبوه عروة بن الزبير بن العوام بن خُويلد بن أسد بن عبد الْعُزّى، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (قَالَ: وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ زِيادَةُ حَرْفٍ) أراد بالحرف هنا الجملة، وهي قوله:"وتوضئي لكلّ صلاة".

وقوله: (تَرَكنَا ذِكْرَهُ) أشار بهذا أن زيادة حماد شاذّة؛ لكونه خالف بها

(1)

بالزاي، آخره راء.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 21، وراجع أيضًا كلام الجيّانيّ في:"التقييد" 3/ 794.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 21.

ص: 139

جماعة الحفّاظ الذين رووا الحديث عن هشام بن عروة، وهم الأربعة الباقون، فكلهم لم يذكر هذه الزيادة، ولذلك تركها.

قال القاضي عياض رحمه الله: الحرف الذي تركه، هو قوله:"اغسلي عنك الدم، وتوضئي"، ذكر هذه الزيادة النسائيّ وغيره، وأسقطها مسلم؛ لأنها مما انفرد به حماد، قال النسائيّ: لا نعلم أحدًا قال: "وتوضئي" في الحديث غير حماد، يعني - والله أعلم - في حديث هشام، وقد رَوَى أبو داود وغيره ذكر الوضوء من رواية عديّ بن ثابت، وحبيب بن أبي ثابت، وأيوب بن أبي مَكِين، قال أبو داود: وكلها ضعيفة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عبارة النسائيّ، بعد إخراج الحديث من طريق حماد بن زيد، عن هشام: ولا أعلم أحدًا ذَكَر في هذا الحديث: "وتوضئي" غير حماد بن زيد، وقد رَوَى غيرُ واحد عن هشام، ولم يذكر فيه:"وتوضئي". انتهى.

[تنبيه]: هذا الذي أشار إليه المصنّف، وصرّح به النسائيّ من تفرّد حماد بن زيد بزيادة قوله:"وتوضئي" فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه لم يتفرّد حماد بها، بل تابعه أربعة كلّهم رووه عن هشام بن عروة، بتلك الزيادة:

(الأول): أبو معاوية عن هشام، عند البخاريّ في "صحيحه"، قال بعد ذكر الحديث ما نصّه: قال - يعني هشامًا -: وقال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".

قال الحافظ رحمه الله: وادّعَى بعضهم أن هذا معلَّق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور عن محمد بن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بيَّنَ ذلك الترمذيّ في روايته.

وادّعى آخر أن قوله: "ثم توضئي" من كلام عروة، موقوفًا عليه، وفيه نظرٌ، لأنه لو كان كلامه موقوفًا لقال:"ثم تتوضّأ" بصيغة الإخبار، فلما أتى به بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع، وهو قوله:"فاغسلي"

(2)

.

(الثاني): حماد بن سلمة، فقد رواه الدارميّ من طريق حماد بن سلمة، عن هشام.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 176.

(2)

"الفتح" 1/ 397.

ص: 140

(الثالث): يحيى بن سُليم، فقد رواه السرّاج من طريق يحيى بن سُليم، عن هشام بن عروة، قاله الحافظ أيضًا

(1)

.

(الرابع): أبو حمزة السُّكّريّ، عن هشام، فقد رواه ابن حبّان من طريقه، في "صحيحه" (2/ 320) وفيه:"فاغتسلي، وتوضّئي لكلّ صلاة".

والحاصل أن زيادة أمر المستحاضة بالوضوء في حديث فاطمة من طريق هشام ثابتٌ عن حماد بن زيد، عند النسائيّ، وأشار إليه المصنّف هنا، وأبي معاوية عند البخاريّ، والترمذيّ، وحماد بن سلمة عند الدارميّ، ويحيى بن سُليم عند السّرّاج، وأبي حمزة السّكّري عند ابن حبّان.

وخلاصة القول في هذه المسألة أن المستحاضة يجب عليها الوضوء لكلّ صلاة؛ لصحّة الأمر به في هذا الحديث، وأما الغسل فلا يجب عليها إلا مرّة عند انقضاء حيضها، وأما في كلّ وقت فمن باب الاستحباب، كما أسلفنا تحقيقه، فتنبه لهذه الفوائد المهمّة، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه آخر]: أما رواية أبي معاوية التي أحالها المصنّف على رواية وكيع، فقد أخرجها البخاريّ: في "صحيحه"، فقال:

(228)

حدثنا محمد - هو ابن سلام - قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، إنما ذلكِ عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي"، قال: وقال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذلك الوقت". انتهى.

وأما رواية حماد بن زيد، فقد أخرجها النسائيّ: في "سننه"، فقال:

(217)

أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربيّ، قال: حدثنا حماد - وهو ابن زيد - عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استُحِيضت فاطمة بنت أبي حبيش، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أُستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلكِ عرق، وليست بالحيضة،

(1)

"الفتح" 1/ 418.

ص: 141

فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك أثر الدم، وتوضئي، فإنما ذلك عرق، وليست بالحيضة"، قيل له: فالغسل؟ قال: "ذلك لا يشك فيه أحد". انتهى.

وأما رواية عبد العزيز الدراورديّ، وجرير بن عبد الحميد، فلم أجد من أخرجهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[761]

(334) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح)، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَفْتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ

(1)

، رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ، فَقَالَ:"إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ صَلِّي"، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُل صَلَاةٍ، قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَمْ يَذْكُرِ

(2)

ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَتْهُ هِيَ، وقَالَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: ابْنَةُ جَحْشٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أُمَّ حَبِيبَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، فقيهٌ، إمام [7](ت 175)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، الإمام الحجة الثبت الفقيه، من رؤوس [4](ت 125)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

والباقون تقدّموا قبله.

(1)

وفي نسخة: "ابنة جحش".

(2)

وفي نسخة: "ولم يذكر" بالواو.

ص: 142

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف صيغ أدائهما، فالأول قال:"حدّثنا ليث"، لأنه سمعه من لفظه مع غيره، والثاني قال:"أخبرنا الليث"؛ لكونه سمع قراءة من يقرأ عليه، وأيضًا اختلفا في إدخال "أل" على "ليث"، وهو جائز؛ للمح الأصل، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وقتيبة وإن كان بَغْلانيًّا، إلا أنه سكن مصر أيضًا.

4 -

(ومنها): مسلسلٌ بالفقهاء.

5 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عروة، عن خالته عائشة رضي الله عنها.

6 -

(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَفْتَتْ)، أي طلبت الْفَتْوى، ويقال: الْفُتْيا، وهو اسم مِن أفتى العالم: إذا بَيَّن الحكم

(1)

. (أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ)، وفي نسخة:"ابنة جحش"، وهي أخت زينب أم المؤمنين، وهي مشهورة بكنيتها، وقد قيل: اسمها حبيبة، وكنيتها أم حبيب، بغير هاء، قاله الواقديّ، وتبعه الحربيّ، ورجحه الدارقطنيّ، والمشهور في الروايات الصحيحة:"أم حبيبة" بإثبات الهاء، وكانت زوج عبد الرحمن بن عوف، كما ثبت عند المصنّف من رواية عمرو بن الحارث الآتية.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

ص: 143

ووقع في "الموطأ" عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة: "أن زينب بنت جحش، التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، كانت تُستحاض

" الحديث، فقيل: هو وَهَمٌ، وقيل: بل صوابٌ، وأن اسمها زينب، وكنيتها أم حبيبة، وأما كون اسم أختها، أم المؤمنين زينب، فإنه لم يكن اسمها الأصليّ، وإنما كان اسمها بَرَّة، فغَيَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي أسباب النزول للواحديّ أن تغيير اسمها كان بعد أن تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلعله صلى الله عليه وسلم سماها باسم أختها؛ لكون أختها غلبت عليها الكنية، فأُمِن اللبس.

ولهما أخت أخرى، اسمها حَمْنة - بفتح المهملة، وسكون الميم، بعدها نون - وهي أيضًا إحدى المستحاضات، كما تقدم.

قال الحافظ رحمه الله: وتَعَسَّف بعض المالكية، فزعم أن اسم كلٍّ من بنات جحش زينب، قال: فأما أم المؤمنين، فاشتهرت باسمها، وأما أم حبيبة، فاشتهرت بكنيتها، وأما حمنة، فاشتهرت بلقبها، ولم يأتِ بدليل على دعواه بأن حمنة لقبٌ.

ولم ينفرد "الموطأ" بتسمية أم حبيبة زينب، فقد روى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن ابن أبي ذئب حديث الباب، فقال: إن زينب بنت جحش. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "أم حبيبة"، فقد قال الدارقطنيّ: قال إبراهيم الحربيّ: الصحيح أنها أم حبيب، بلا هاء، واسمها حبيبة، قال الدارقطنيّ: قول الحربيّ صحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن، قال غيره: وقد رُوي عن عمرة، عن عائشة أن أم حبيب. وقال أبو عليّ الغسانيّ: الصحيح أن اسمها حبيبة، قال: وكذلك قاله الحميديّ، عن سفيان

(2)

.

وقال ابن الاثير: يقال لها: أم حبيبة، وقيل: أم حبيب، قال: والأول أكثر، وكانت مستحاضة، قال: وأهل السير يقولون: المستحاضة أختها حَمْنة

(1)

"الفتح" 1/ 508 - 509.

(2)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 794 - 796.

ص: 144

بنت جحش، قال ابن عبد البر: الصحيح أنهما كانتا تستحاضان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي الجمع بين هذه الراويات، فأم حبيبة كنيتها، كما صحّ في مسلم، وتقدّم عن الحافظ أنه المشهور في الروايات، ويقال لها أيضًا: أم حبيب بلا هاء، واسمها زينب، كما صحّ عن مالك، وابن أبي ذئب، ويقال لها أيضًا حبيبة، كما صحّ في رواية الحميديّ عن سفيان.

وأما تغليط مالك في تسميتها بزينب، فلا وجه له؛ لأنه إمام متقن، على أنه لم ينفرد بذلك، بل تابعه عليه ابن أبي ذئب، كما تقدّم آنفًا، وكذلك تغليط تكنيتها بأم حبيبة، لا وجه له؛ لصحّته في رواية مسلم، بل هو المشهور في الروايات، كما تقدّم، فتصحيح الدارقطنيّ، تبعًا لإبراهيم الحربيّ كون كنيتها أم حبيب بلا هاء، محلّ نظر، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال في "الفتح" عند شرح حديث عائشة رضي الله عنها: "أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت، وهي مستحاضة".

قوله: "بعض نسائه". قال ابن الجوزيّ ما عرفنا من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مَن كانت مستحاضةً، قال: والظاهر أن عائشة أشارت بقولها: "من نسائه"، أي النساء المتعلقات به، وهي أم حبيبة بنت جحش، أخت زينب بنت جحش.

قال الحافظ: يرد هذا التأويل قوله في الرواية الثانية: "امرأة من أزواجه"، وقد ذكرها الحميديّ عقب الرواية الأولى، فما أدري كيف غَفَل عنها ابن الجوزيّ؟، وفي الرواية الثالثة:"بعض أمهات المؤمنين"، ومن المستبعد أن تعتكف معه صلى الله عليه وسلم امرأة غير زوجاته، وإن كان لها به تعلق.

وقد حَكَى ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث، كُنّ مستحاضات: زينب أم المؤمنين، وحمنة زوج طلحة، وأم حبيبة زوج عبد الرحمن بن عوف، وهي المشهورة منهنّ بذلك.

وذكر أبو داود من طريق سليمان بن كثير، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"استحيضت زينب بنت جحش، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: اغتسلي لكل صلاة"، وكذا وقع في "الموطأ" أن زينب بنت جحش استحيضت، وجزم ابن

ص: 145

عبد البر بأنه خطأ؛ لأنه ذكر أنها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، والتي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف إنما هي أم حبيبة أختها.

وقال شيخنا الإمام البلقينيّ: يُحْمَل على أن زينب بنت جحش استحيضت وقتًا، بخلاف أختها، فإن استحاضتها دامت.

قال الحافظ: وكذا يُحْمَل على ما سأذكره في حقّ سودة وأم سلمة، والله أعلم.

قال: وقرأت بخط مغلطاي في عَدّ المستحاضات في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: وسودة بنت زمعة، ذكرها العلاء بن المسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين، فلعلها هي المذكورة.

قال الحافظ: وهو حديث ذكره أبو داود، من هذا الوجه تعليقًا، وذكر البيهقيّ أن ابن خزيمة أخرجه موصولًا، قال الحافظ: لكنه مرسلٌ؛ لأن أبا جعفر تابعيّ، ولم يذكر من حدثه به.

قال: وقرأت في "السنن" لسعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا خالد هو الحذاء، عن عكرمة، أن امرأة من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت معتكفةً، وهي مستحاضةٌ، قال: وحدثنا به خالد مرةً أخرى، عن عكرمة، أن أم سلمة، كانت عاكفةً، وهي مستحاضةٌ، وربما جَعَلت الطست تحتها، قال الحافظ: وهذا أولى ما فُسِّرت به هذه المرأة؛ لاتحاد المخرج.

وقد أرسله إسماعيل ابن علية، عن عكرمة، ووصله خالد الطحان، ويزيد بن زريع، وغيرهما، بذكر عائشة فيه، ورجح البخاريّ الموصول، فأخرجه، وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن إسماعيل ابن علية هذا الحديث، كما أخرجه سعيد بن منصور بدون تسمية أم سلمة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة لـ"استفتت"(فَقَالَتْ) هذا تفسير لمعنى "استفتت"(إِنِّي أُسْتَحَاضُ) بضمّ الهمزة، مضارع استُحيضت المرأة بالبناء للمفعول: إذا استمرّ بها الدم في غير أيام الحيض، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ)، أي دم عِرْق انفجر، بسبب ركضة الشيطان، (فَاغْتَسِلِي)، وفي

(1)

"الفتح" 1/ 490 - 491.

ص: 146

رواية عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب الآتية:"إن هذه ليست بالحيضة، ولكنّ هذا عرق، فاغتسلي، وصلّي"، وفي رواية عراك، عن عروة الآتية:"امكُثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، وصلّي"، (ثُمَّ صَلِّي") فيه وجوب الصلاة على المستحاضة، وهو مُجْمَعٌ عليه، كما تقدّم بيانه، (فَكَانَتْ) أم حبيبة (تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)، أي عند إرادة أداء كلّ صلاة (قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَمْ يَذْكُرِ)، وفي نسخة:"ولم يذكر" بالواو (ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَتْهُ هِيَ) معنى كلامه: أنَّ ابن شهاب في رواية الليث بن سعد عنه لم يذكر أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالاغتسال، بل إنما كانت تغتسل من عند نفسها، وقد اختُلف في هذا الاغتسال، هل هو من عندها، أو بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ وسيأتي تحقيقه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: ابْنَةُ جَحْشٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أُمَّ حَبِيبَةَ) معنى كلامه أن في رواية شيخه محمد بن رُمح وقع قوله: "استفتت ابنة جحش"، بدل قول قتيبة:"استفتت أم حبيبة"، وهذا من احتياطات المصنّف رحمه الله، وشدّة تحرّيه في أداء ما سمع كما سمع، وإن لم يختلف المعنى؛ إذ لا اختلاف بين ابنة جحش، وأم حبيبة، وقد تقدّم له نظير هذا غير مرّة، ونبّهت عليه مرَارًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[13/ 761 و 762 و 763 و 764 و 765 و 766](334)، و (البخاريّ) في "الحيض"(327)، و (أبو داود) في "الطهارة"(290)، و (النسائيّ) فيها (1/ 117 و 119)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 83)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 196 و 199)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1353)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 331 و 349)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 99)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 173 - 174)،

ص: 147

و (أبو عوانة) في "مسنده"(930 و 931 و 932 و 933 و 935 و 936)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(749 و 750 و 751 و 752 و 753 و 754 و 755)، والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(المسألة الثالثة): في اختلاف العلماء في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها بالاغتسال لكلّ صلاة:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه، فقد ذكر المصنّف عن الليث بن سعد أنه شيء فعلته هي، وقال النووي في "شرح المهذّب": لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرّة واحدة عند انقطاع الحيض. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لم يصحّ إلخ فيه نظر، بل صحّ وثبت من حديث الزهريّ، من رواية سليمان بن كثير، وابن إسحاق، عنه، ومن رواية ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، ومن رواية يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، كما سيأتي بيانه قريبًا، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

ثم ذكر النوويّ عن الشافعيّ أنه قال: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشكّ أن غسلها كان تطوّعًا غير ما أُمرت به، وذلك واسع لها. انتهى

(1)

.

وممن تصدّى لتضعيف رواية الأمر بالغسل لكل صلاة البيهقيّ في "سننه"، لكن ردّ عليه العلّامة المحقّق ابن التركمانيّ، فأجاد، وأفاد، ودونك حوارهما: أخرج البيهقيّ رحمه الله بسنده عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة استُحيضت، فذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:"إنها ليست بحيضة، ولكنها رَكْضة من الرحم، فلتنظر قدر أقرائها التي كانت تحيض، فتترك الصلاة، ثم تغتسل عند كل صلاة، وتصلي".

قال البيهقيّ: قال بعض مشايخنا: خبر ابن الهاد غير محفوظ.

(1)

نقله النووي في: "المجموع" 2/ 436.

ص: 148

فردّ ذلك ابن التركمانيّ رحمه الله بقوله: إن أراد غير محفوظ عنه، فليس كذلك، فإن البيهقيّ أخرجه من طريق ابن أبي حازم عنه، وأخرجه النسائيّ من طريق بكر بن مضر عنه، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق عبد العزيز الدّرَاوَرْديّ عنه، فهؤلاء ثلاثة رووه عنه.

وإن أراد أنه غير محفوظ منه، فليس كذلك أيضًا؛ لأن ابن الهاد من الثقات المحتجّ بهم في "الصحيح".

ثم أسند البيهقيّ من طريق أبي داود بسنده عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش:"استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة"، ثم قال البيهقيّ: رواية ابن إسحاق عن الزهريّ غلط؛ لمخالفتها سائر الرواة عن الزهريّ.

فردّه ابن التركمانيّ بقوله: المخالفة على وجهين: مخالفة ترك، ومخالفة تعارض وتناقض، فإن أراد مخالفة الترك والتناقض، فلا تناقض في ذلك، وإن أراد مخالفة التعارض فليس كذلك؛ إذ الأكثر فيه السكوت عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالغسل عند كلّ صلاة، وفي بعضها أنها فعلته هي، وقد تابع ابن إسحاق سليمانُ بن كثير، كما ذكره البيهقيّ قريبًا، وخبر ابن الهاد المتقدّم شاهد لذلك.

ثم قال البيهقيّ: وكيف يكون الأمر بالغسل عند كلّ صلاة ثابتًا من حديث عروة؟ وقد أخبرنا أبو أحمد، فذكر بسنده عن عروة قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غُسلًا واحدًا، ثم تتوضّأ بعد ذلك للصلاة، وأسند عن عائشة نحوه.

قال ابن التركمانيّ: كأنه ضعّف الأمر بالغسل لكلّ صلاة بمخالفة فتوى عروة وعائشة له، وقد عُرف من مذهب المحدّثين أن العبرة لما رَوَى الراوي، لا لرأيه.

ثم ذكر البيهقيّ من طريق الحسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي مسلم، أخبرتني زينب بنت أبي سلمة أن امرأةً كانت تُهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسل عند كلّ صلاة، ثم قال: خالفه هشام الدستوائيّ، فأرسله، ثم ذكر من جهة هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، أن أم حبيبة سألت

إلخ.

ص: 149

قال ابن التركمانيّ: في تسمية هذا مرسلًا نظر، وعلى تقدير تسليمه قد عُرف ما في الإرسال مع زيادة الثقة للإسناد

إلى آخر كلامهما رحمهما الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: الإرسال الذي ذكره البيهقيّ في روايته فقط، وسيأتي في رواية ابن حزم أنه قال:"عن أم حبيبة"، فرواه بـ "عن"، فثبت اتّصاله، فظهر بهذا أن حديث الأمر بالغسل صحيح، وأن العلل التي ذكروها غير مقبولة على قواعد المحدّثين، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

ولقد أجاد الإمام الناقد أبو محمد بن حزم في سوق الأحاديث في كتابه "الْمُحَلَّى" حيث قال: حدثنا حُمَام بن أحمد، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا علان، ثنا محمد بن بشار، ثنا وهب بن جرير بن حازم، ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، هو ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أم حبيبة بنت جحش، أنها كانت تُهَراق الدم، وأنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.

وبه إلى ابن أيمن: ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي، ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث بن سعيد التَّنُّوريّ، عن الحسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرتني زينب بنت أبي سلمة المخزوميّ: "أن امرأة كانت تهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كل صلاة، وتصلي".

قال: زينب هذه ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأت في حجره عليه السلام، ولها صحبة

(1)

.

وبه إلى ابن أيمن: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن أم حبيبة بنت جحش، "أنها استُحيضت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل عند كل صلاة".

حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا ابن السليم، ثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود،

(1)

لكن لم يثبت لها رواية، فتنبّه.

ص: 150

ثنا هناد بن السريّ، عن عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"أن أم حبيبة بنت جحش استُحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة".

حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك الخولانيّ، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا وهب بن بقية، ثنا خالد بن إسماعيل، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عُميس، قالت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استُحيضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا واحدًا، وتغتسل للفجر غسلًا، وتتوضأ فيما بين ذلك".

قال ابن حزم: فهذه آثار في غاية الصحة، رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع صواحب: عائشة أم المؤمنين، وزينب بنت أم سلمة

(1)

، وأسماء بنت عُميس، وأم حبيبة بنت جحش، ورواها عن كلّ واحدة، من عائشة، وأم حبيبة عروة، وأبو سلمة، ورواه أبو سلمة عن زينب بنت أم سلمة، ورواه عروة عن أسماء. انتهى كلام ابن حزم باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في رواية البيهقيّ أنه ثابت أيضًا من رواية ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، وقد أجاد البحث في هذا الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح أبي داود"، فراجعه

(3)

.

والحاصل أن الحديث في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بغسل المستحاضة لكلّ صلاة ثابت، فوجب القول به، وأما تغليط الحفّاظ كما ادّعاه البيهقيّ، وغيره، أو دعوى النسخ كما ادّعاه الطحاويّ، فغير صحيح، بل الأولى والأحسن الجمع بين الأحاديث بحمل الأمر على الندب كما هو رأي الجمهور، والصارف له عن الوجوب صحة أمره صلى الله عليه وسلم لها بالوضوء لكلّ صلاة، وقد أشبعت البحث في المستحاضة في "شرح النسائيّ"

(4)

، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى

(1)

فيه نظر؛ إذ لم يثبت أنها سمعت منه صلى الله عليه وسلم، فتنبّه.

(2)

راجع: "المحلّى" 2/ 211 - 213.

(3)

1/ 70 - 86.

(4)

راجع: "المجتبى" 4/ 163 - 167 و 178 - 184.

ص: 151

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[762]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبَيْر، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمن، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، خَتَنَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ

(1)

، استُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَة، وَلَكِنَّ

(2)

هَذَا عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي، وَصَلِّي"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ فِي مِرْكَنٍ، فِي حُجْرَةِ أُخْتِهَا، زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، حَتَّى تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللهُ هِنْدًا، لَوْ سَمِعَتْ بِهَذِهِ الْفُتْيَا، وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَتَبْكِي؛ لِأنَّهَا كَانَتْ لَا تُصَلِّي).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّ، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، أو بعدها (ع) تقدمت في "المقدمة" جـ 2 ص 417.

والباقون تقدّموا قبله.

(1)

وفي نسخة: "وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف".

(2)

وفي نسخة: "وَلَكِنْ" بتخفيف النون.

ص: 152

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في هذه الرواية، عن عروة بن الزبير، وعمرة، وهو الصواب، وكذلك رواه ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن عروة، وعمرة، وكذلك رواه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عروة، وعمرة، كما رواه الزهريّ، وخالفهما الأوزاعيّ، فرواه عن الزهريّ، عن عروة، عن عمرة بـ "عن"، جَعَلَ عروة راويًا عن عمرة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الجامع عفا الله عنه: وهكذا وقع عند البخاريّ في "صحيحه" من طريق ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، ولفظه:"عن عروة، وعن عمرة" بإعادة الجارّ، قال في "الفتح": يعني كلاهما عن عائشة، كذا للأكثر، وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر بحذف الواو، فصار من رواية عروة عن عمرة، وكذا ذكر الإسماعيليّ أن أحمد بن الحسن الصوفي حدثهم به، عن خَلَف بن سالم، عن مَعْن، والمحفوظ إثبات الواو، وأن الزهريّ رواه عن شيخين: عروة وعمرة، كلاهما عن عائشة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ وغيره من طُرُق، عن ابن أبي ذئب، وكذا أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، وأبو داود من طريق الأوزاعيّ، كلاهما عن الزهريّ عنهما، وأخرجه مسلم أيضًا من طريق الليث، عن الزهريّ، عن عروة وحده - يعني الرواية الماضية - ومسلم أيضًا من طريق إبراهيم بن سعد، وأبو داود من طريق يونس، كلاهما عن الزهريّ عن عمرة

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 24.

ص: 153

وحدها - يعني الرواية التالية - قال الدارقطنيّ: هو صحيح من رواية الزهريّ، عن عروة وعمرة جميعًا. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) مجرورٌ على البدليّة، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير مبتدأ، أي هي، أو النصب، بتقدير فعل، أي أعني (أَنَّ أمّ حَبِيبَةَ) تقدّم الخلاف في اسمها، وكنيتها في شرح الحديث الماضي (بِنْتَ جَحْشٍ) بفتح الجيم، وسكون الحاء المهملة، آخره شين معجمة (خَتَنَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "خَتَنَة" على البدليّة، وهو: بفتح الخاء المعجمة، والتاء المثنّاة من فوقُ - ومعناه: قريبة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها.

قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْخَتَنُ " بفتحتين عند العرب كلُّ من كان من قِبَل المرأة، كالأب، والأخ، والجمع أَخْتان، وخَتَنُ الرجل عند العامّة: زوج ابنته، وقال الأزهريّ: الْخَتَنُ: أبو المرأة، والْخَتَنَة: أمها، فالأَخْتان من قِبَل المرأة، والأَحْماءُ من قِبَل الرجل، والأَصهارُ يعمّهما، ويقال: المخاتنة: المصاهرة، يقال: خاتنهم: إذا صاهرهم. انتهى

(2)

.

(وَتَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ)، وفي نسخة: "وكانت تحت

عبد الرحمن بن عوف"، والمراد أنها زوجته، قال النوويّ رحمه الله: عَرَّفها بشيئين: أحدهما: كونها أخت أم المؤمنين، زينب بنت جَحْش، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والثاني: كونها زوجة عبد الرحمن. انتهى.

(اسْتُحِيضَتْ) بالبناء للمفعول (سَبْعَ سِنِينَ) قال في "الفتح": قيل: فيه حجة لابن القاسم في إسقاطه عن المستحاضة قضاء الصلاة إذا تركتها ظانّةً أن ذلك حيضٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بالإعادة، مع طول المدّة، ويحتمل أن يكون المراد بقولها:"سبع سنين" بيان مدّة استحاضتها، مع قطع النظر، هل كانت المدّة كلها قبل السؤال، أو لا؟ فلا يكون فيه حجة لما ذُكِر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن القاسم في هذا عندي هو الحقّ، وهو

(1)

"الفتح" 1/ 508.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 164.

ص: 154

الذي مشى عليه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، وقد ذكرت تحقيقه في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.

(فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ)، أي في شأن الاستحاضة، فقالت: إني أُستحاض، أفأدع الصلاة؟، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذِهِ)، أي الحالة التي أصابتك من استمرار الدم في غير أيام العادة (لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ) تقدّم ضبطه بالفتح، والكسر (وَلَكِنَّ) بتشديد النون، وفي نسخة بتخفيفها (هَذَا) إنما ذكّره هنا، مع أنه أنّثه في السابق؛ نظرًا للخبر، وهو قوله: (عِرْقٌ)، أي دم عرق انفجر (فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي")، أي إذا مضى قدر أيام الحيض، فاغتسلي، وصلّي الصلاة، وفي الرواية الآتية من طريق عراك، عن عروة رحمه الله:"امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، وصلّي"، قال النوويّ رحمه الله: في هذين اللفظين دليلٌ على وجوب الغسل على المستحاضة إذا انقضى زمن الحيض، وإن كان الدم جاريًا، وهذا مُجمع عليه، وقد قدّمنا بيانه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولكن هذا عِرْقٌ، فاغتسلي" قد يَتمسّك به من يوجب الغسل على المستحاضة من حيث أمرها بالغسل، وعلّله بكونه دمَ عِرْق، وهذا لا حجة فيه؛ لما بُيِّن في الرواية الأخرى أن هذا الغسل إنما هو للحيضة، فإنه قال فيها:"امكُثي قدر ما كانت تحبسُك حيضتُك، ثم اغتسلي". انتهى

(2)

.

(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنه: (فَكَانَتْ)، أي أم حبيبة (تَغْتَسِلُ فِي مِرْكَنٍ) بكسر الميم، وفتح الكاف، وهو الإجّانة التي تُغسل فيها الثياب، قاله النوويّ، وفي "القاموس":"الْمِرْكن": بكسر الميم، كمِنْبَر: إناء معروف. انتهى. و"الإِجّانة": بكسر الهمزة، وتشديد الجيم: إناء تُغسل فيه الثياب، والجمع أَجَاجين، والإِنْجانة لغةٌ تمتنع الفُصحاء من استعمالها، أفاده الفيّوميّ

(3)

.

(فِي حُجْرَةِ أُخْتِهَا) متعلّق بـ "تغتسل"، و"الْحُجْرة" بضمّ، فسكون، وزانُ غُرْفة: البيت، والجمع حُجَر، وحُجُرَات، كغُرَفٍ وغُرُفَات (زْينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ)

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 25.

(2)

"المفهم" 1/ 593.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 6.

ص: 155

بجرّ "زَينب" بالفتحة؛ لكونه غير منصرف؛ للعلميّة والتأنيث، بدل من "أُختها"(حَتَّى تَعْلُوَ)، أي تغلب (حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ) المراد أنها كانت تجلس في الْمِركن، ثم تصُبّ عليها الماء من غيرها، فيستنقع الماء فيها، فتعلو حمرة الدم السائل منها الماء؛ لكثرتها، ثم تخرح منها، فتغسل ما أصاب رجليها من ذلك الماء المتغيّر بالدم، أفاده القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وزاد في رواية النسائيّ من طريق النعمان بن المنذر، والأوزاعيّ، وحفص بن غَيْلان، كلهم عن الزهريّ:"وتخرُج، فتصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعها ذلك من الصلاة".

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) رحمه الله (فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ)، أي بهذا الحديث الذي حدّثه به عروة، عن عائشة رضي الله عنها (أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ) بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقة، فقيهٌ، عابد من [3](ت 94) وقيل غير ذلك، وتقدّم في "الإيمان" 26/ 210.

(فَقَالَ) أبو بكر لَمّا سمع هذا (يَرْحَمُ اللهُ هِنْدًا) كتب في هامش نسخة محمد ذهني رحمه الله

(2)

وهو من المحققين ما نصّه: لقوله: "يرحم الله هندًا" لم يَذكُر من هي؟، فلم يُدْرَ أقريبته، أم حليلته؟ وفي آخر "الإصابة" لابن حجر:"هند" غير منسوبة وقع ذكرها في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عند مسلم إلى آخر ما هنا بعينه، ولم يزد عليه شيئًا. انتهى

(3)

. (لَوْ سَمِعَتْ بِهَذهِ الْفُتْيَا) بضمّ الفاء، وسكون التاء الفوقيّة، مقصورًا، ويقال له: الفُتْوَى، ويُجمع على الفتاوي - بكسر الواو - على الأصل، وقيل: يجوز الفتح للتخفيف، قاله في "المصباح"، وفي "القاموس": "الْفُتْيَا، والْفُتْوَى - يعني بضم الفاء - وتُفتح - يعني الأخيرةَ -: ما أفتى به الفقيه. انتهى

(4)

.

(وَاللهِ إِنْ) مخفّفة من الثقيلة، ولذا وقعت اللام الفارقة بعدها، أي إنها (كَانَتْ لَتَبْكِي؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تُصَلِّي)، أي لاستمرار الدم بها، وظنّها أنه

(1)

"المفهم" 1/ 593.

(2)

راجع: نسخته 1/ 181.

(3)

راجع: "الإصابة" 8/ 350.

(4)

"القاموس المحيط " 4/ 373.

ص: 156

كالحيض يمنع الصلاة، مع أن حكمه مخالف له، كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة، وغيرها من النساء، حين قالت: "أفأدع الصلاة؟ قال: لا

" الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبقيّة مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[763]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ، أَخْبَرَنَا

(1)

إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمن، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، إِلَى قَوْلِهِ: تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ) الوَرَكَانيّ - بفتحتين - الخراسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنَ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ إلخ) يعني أن حديث إبراهيم بن سعد مثل حديث عمرو بن الحارث، إلا أنه انتهى إلى قوله:(تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

وقولها: (تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ) معناه: أنها كانت تغتسل في الْمِرْكَن، فتجلس فيه، وتصبّ عليها الماء، فيختلط الماء المتساقط عنها بالدم، فيَحْمرّ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 157

الماء، ثم إنه لا بدّ أنها كانت تتنظّف بعد ذلك عن تلك الغسالة المتغيّرة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية إبراهيم بن سعد هذه أخرجها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "المسند المستخرج على صحيح مسلم"(1/ 381)، فقال:

(751)

حدثنا أحمد بن يوسف بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا محمد بن جعفر الْوَرَكَانيّ، ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قالت: جاءت أم حبيبة بنت جحش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت استُحِيضت سبع سنين، فاشتكت ذلك إليه، واستفتته فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا ليس بحيضة، ولكنه عِرْق، فاغتسلي، ثم صلي"، قالت عائشة: فكانت تغتسل لكل صلاة، فكانت تجلس في الْمِرْكن

(2)

، فيعلو الدم الماء، ثم تصلي. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[764]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ عَمْرَةَ

(3)

، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ ابْنَةَ جَحْشٍ، كَانَتْ تُسْتَحَاضُ سَبْعَ سِنِينَ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 25.

(2)

وقع في النسخة: "في الموكز" بالواو بعد الميم، آخره زاي، والظاهر أنه تصحيف، فأصلحته بما عند أبي عوانة فقد أخرجه في:"مسنده"(1/ 267) رقم (930) من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، وفيه:"وتجلس في مركن" على الصواب، كما وقع في مسلم، فتنبّه.

(3)

وفي نسخة: "عن عروة".

ص: 158

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة المشهور، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (عَنْ عَمْرَةَ

(1)

، عَنْ عَائِشَةَ). قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن جميع رُواة مسلم، إلا السمرقنديّ، فإنه جَعَل عروة مكان عمرة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن رواية السمرقنديّ خطأ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَنَّ ابْنَةَ جَحْشٍ، كَانَتْ تُسْتَحَاضُ سَبْعَ سِنِينَ). قال القاضي عياض رحم الله في الرواية: إنه وقع في نسخة أبي العباس الرازيّ: "أن زينب بنت جحش"، قال القاضي: اختَلَف أصحاب "الموطأ" في هذا عن مالك، وأكثرهم يقولون:"زينب بنت جحش"، وكثير من الرواة يقولون:"عن ابنة جحش"، وهذا هو الصواب، ويُبَيِّنُ الوهمَ فيه قولُهُ:"وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف"، وزينب هي أم المؤمنين، ولم يتزوجها عبد الرحمن بن عوف قطّ، إنما تزوجها أوّلًا زيد بن حارثة، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف هي أمُّ حبيبة أختها، وقد جاء مُفَسَّرًا على الصواب في قوله:"خَتَنَة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف"، وفي قوله:"كانت تغتسل في بيت أختها زينب".

قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: قيل: إن بنات جحش الثلاث: زينب، وأم حبيبة، وحَمْنة، زوج طلحة بن عبيد الله، كُنّ يُسْتَحَضْنَ كلُّهنّ، وقيل: إنه لم يستحض منهنّ إلا أم حبيبة.

وذكر القاضي يونس بن مغيث في كتابه "الْمُوعِب" في شرح "الموطأ" مثل هذا، وذكر أن كل واحدة منهنّ اسْمُها زينب، ولُقِّبَت إحداهنّ حَمْنة، وكُنِيت الأخرى أم حبيبة، وإذا كان هذا هكذا، فقد سَلِمَ مالك من الخطأ في تسمية أم حبيبة زينب.

(1)

وفي نسخة: "عن عروة".

ص: 159

وقد ذكر البخاريّ من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:"إن بعض أمهات المؤمنين"، وفي أخرى:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتَكَفَت معه بعضُ نسائه، وهي مستحاضة". انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا رُوي "أن ابنة جحش"، وفي بعض النسخ عن أبي العبّاس الرازيّ:"أن زينب بنت جحش كانت تُستحاض"، وهو وَهَمٌ، والمستحاضة ليست زينب، وإنما هي أم حبيبة بنت جحش، وزعم قوم أن اسمها حبيبة، وتُكنى أم حبيبة، ثم أخرج بسنده عن محمد بن المثنّى، عن سفيان، عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت جحش، كانت تُستحاض، وكذلك قال الْحُميديّ، عن سُفيان، وهو الصحيح.

ثم أخرج بسنده، عن الحميديّ، عن سفيان، عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت جحش استُحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

قال: وحَكَى أبو الحسن الدارقطنيّ، عن أبي إسحاق الحربي، أنه قال: الصحيح قول من قال في الحديث: "أن أم حبيب" بلا هاء، واسمها حبيبة.

قال أبو الحسن الدارقطنيّ: قول إبراهيم صحيحٌ، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من كلام هؤلاء الأئمة - رحمهم الله تعالى - أن رواية من روى "زينب بنت جحش" غلطٌ، والصواب ما وقع في أكثر الأصول "ابنة جحش"، وهي حبيبة أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنهما، وتُكنى أم حبيب بلا هاء، كما قاله الحربيّ، وصححه الدارقطنيّ، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) يعني أن سفيان بن عيينة حدث عن الزهريّ نحو حديث الثلاثة المتقدّمين، وهم: الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وإبراهيم بن سعد عن الزهريّ.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 180 - 181.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 794 - 796.

ص: 160

[تنبيه]: رواية سفيان هذه أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 322) فقال:

(936)

- حدثنا إبراهيم الحربيّ، قال: حدثنا محمد بن الصباح، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ عن عمرة، عن عائشة، أن ابنة جحش، استُحِيضت، فكانت تمكث سبع سنين، وتجلس في الْمِرْكَن، فيعلوه الدم، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها، ثم تغتسل، وتصلي، تقول: ثم يأمرها أن تغتسل لكل صلاة. انتهى.

وأخرجها أيضًا أبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم"(1/ 381) فقال:

(752)

- حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ، وحدثنا فاروق، ثنا أبو مسلم، ثنا القعنبيّ قالا: ثنا سفيان، ثنا الزهريّ، عن عمرة، قالت: عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش، استُحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنما ذاكِ عرق، وليس بالحيضة"، فأمرها أن تغتسل، وتصلي، كانت تغتسل لكل صلاة، وتجلس في مِرْكن، فيعلو الدم الماء. لفظ الحميديّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[765]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح)، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ

(1)

، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِن أُمَّ حَبِيبَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّمِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ مِرْكَنَهَا مَلْآنَ

(2)

دَمًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أمْكُثي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُك، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي").

(1)

وفي نسخة: بإسقاط "بن سعيد".

(2)

وفي نسخة: "ملآى".

ص: 161

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) أبو رجاء المصريّ، واسم أبيه سُويد، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(جَعْفَر) بن ربيعة بن شُرَحبيل بن حسَنَةَ الْكِنْديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

3 -

(عِرَاك) بن مالك الْغِفَاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أحاديث.

وقولها: (مَلْآنَ دَمًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول ببلادنا، وذكر القاضي عياض: أنه رُوي أيضًا "ملآى"، وكلاهما صحيح، الأول على لفظ "المركن"، وهو مذكّر، والثاني على معناه، وهو "الإجّانة"، وهي مؤنّثةٌ.

ثم ظاهر العبارة يقتضي أنه كان مملوءًا دمًا خالصًا، وليس كذلك، بل الصواب أنه كان مملوءًا بالماء الأحمر المشبه للدم، أي ماءًا كالدم، ففي الكلام استعارة تصريحيّة أصليّة، أفاده بعض الشرّاح

(1)

.

وقوله: ("امْكُثِي) بضمّ الكاف، مضارع مكُث، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب نصر: إذا أقام، وتلبّثَ، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا، فهو قَرِيبٌ لغةٌ فيه، وقرأ السبعة:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدّى بالهمز، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لم يَعْجَلْ، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُك، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي") معناه: انتظري بلا صلاة، ونحوها مما تُمْنَع منه الحائض عدد الأيام التي كانت تمنعك حيضتك فيها عنه، ثم اغتسلي، وافعلي جميع ما كنت ممنوعةً منه أيام الحيض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هو صاحب "فتح المنعم" 2/ 348.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 577.

ص: 162

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال.:

[766]

(

) - (حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ قُرَيْشٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْن مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا:"امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُك، ثُمَّ اغْتَسِلِي"، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُوسَى بْنُ قُرَيْشٍ التَّمِيمِيُّ) هو: موسى بن قُريش بن نافع التميميّ البخاريّ، مقبول [11].

رَوَى عن إسحاق بن بكر بن مضر، ويحيى بن صالح الْوُحاظيّ، ورَوَى عنه مسلم بن الحجاج، قال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاريّ: كانت رحلة محمد بن إسماعيل، وسفيان بن عبد الحكم، وموسى بن قُريش في آخر سنة عشر ومائتين. انتهى.

وتوفي موسى قبل محمد بن إسماعيل بمدة، أرَّخه القراب في سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (334)، و (2051) حديث:"نعم الأُدُمُ، أو الإدام الخلّ"، و (2803) حديث:"إن القمر انشقّ على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم".

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم بن سلمان، أبو يعقوب المصريّ، صدوقٌ فقيهٌ [10].

رَوَى عن أبيه، وعنه الربيع الْجِيزيّ، وعبد الرحمن، ومحمد ابنا عبد الله بن عبد الحكم، وموسى بن قريش، وأبو حاتم الرازي، وقال: لا بأس به، كان

(1)

وفي نسخة: "شكت - يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

ص: 163

عنده دُرْجٌ عن أبيه، وقال ابن يونس: كان فقيهًا مفتيًا، وكان يجلس في حلقة الليث، ويفتي بقوله، وكان ثقةً، تُوُفِّي سنة (218)، وذكر يحيى بن عثمان بن صالح أن مولده سنة (142)، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (334)، و (2803) حديث:"إن القمر انشقّ على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم".

3 -

(أَبُوهُ) بكر بن مضر بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) تقدّم اختلاف العلماء، هل هذا الغسل من عند نفسها، أم بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ والجمهور على الأول، لكن الأرجح أنه بأمره صلى الله عليه وسلم، كما حقّقناه فيما سبق، فتنبّه، وبقيّة شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[767]

(335) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مُعَاذَةَ (ح)، وَحَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْك، عَنْ مُعَاذَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَتَقْضِي إِحْدَانَا الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا، تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

ص: 164

2 -

(حَمَّاد) بن زيد، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ)

(1)

عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(يَزِيدُ الرِّشْكُ) - بكسر الراء، وسكون المعجمة - هو: ابن أبي يزيد الضُّبَعيّ - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها عين مهملة - مولاهم، أبو الأزهر البصريّ الذّارع المعروف بالرِّشْك، ثقة عابدٌ [6].

رَوَى عن خالد الأَبَحِّ، وعبد الله بن أنس، ومُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وأبي زيد الأنصاريّ، وأبي الْمَلِيح الْهُذَليّ، ومعاذة العدوية.

ورَوَى عنه شعبة، ومعمر، وعبد الوارث بن سعيد، وحماد بن زيد، وجعفر بن سليمان، وأبو قُدَامة، وأبان العطار، وسَلِيم بن حَيَّان، وابن علية.

قال أبو طالب، عن أحمد: صالح الحديث، رَوَى عنه شعبة، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس به بأس، والرِّشْك هو الْقَسَّام، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: صالحٌ صالحٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذيّ: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان غَيُورًا، فسُمِّي بالفارسية أرشك، فقيل: الرِّشْك، ويقال: الْقَسَّام؛ لأنه مَسَحَ مكة قبل أيام الموسم، فبلغ كذا وكذا، ومسح أيام الموسم، فزاد كذا وكذا، وقال سعيد بن عامر، عن المثنى بن سعيد: بَعَثَ الحجاج يزيد الرشك إلى البصرة، فوجد طولها فرسخين، وعرضها خمسة دوانق، وقال ابن الجوزيّ: الرشك بالفارسية: الكبير اللحية.

وقال ابن سعد: كان ثقةً، وقال ابن شاهين: ضعفه ابن معين، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين قال: كان ابن عُلَيَّة يضعفه، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم.

ورُوي عن جعفر بن سليمان الضُّبَعيّ: قال: كنت أسمع بكاء يزيد الرِّشك، وهو يومئذ ابن مائة سنة.

(1)

بكسر القاف، وتخفيف اللام، وبالباء الموحدة.

ص: 165

قال ابن حبّان، وابن منجويه: مات سنة ثلاثين ومائة بالبصرة، وفيها أرّخه خليفة، وابن سعد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (335) وأعاده بعده، و (719): "كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى

"، و (1160): "لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم"، و (2649): "كلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له".

6 -

(مُعَاذَةُ) بنت عبد الله الْعدويّة، أم الصَّهْباء البصريّة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الحيض" 9/ 738.

7 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت (57) على الأصحّ (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف بالنسبة للإسناد الأول، ومن خماسيّاته بالنسبة للثاني.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، فقوله:"وحدّثنا حماد" عطف على قوله: "حدثنا حماد" الأول، فقائل:"حدّثنا" هو أبو الربيع، شيخ المصنّف، فله فيه إسنادان: أحدهما: حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها، والثانى: حماد، عن يزيد الرِّشك، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها، فالثاني أعلى بدرجة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، فكلّهم بصريّون سوى عائشة رضي الله عنها.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم، عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، عن معاذة، ورواية أبي قلابة، عن معاذة، من رواية الأقران؛ إذ هما من الطبقة الثالثة.

6 -

(ومنها): أن فيه يزيد الرِّشْك - بكسر الراء، وإسكان الشين المعجمة - واختَلَف العلماء في سبب تلقيبه بالرشك، فقيل: معناه بالفارسية: القاسم،

ص: 166

وقيل: الغيور، وقيل: كثير اللحية، وقيل: الرشك بالفارسية اسم للعقرب، فقيل ليزيد: الرشك؛ لأن العقرب دخلت في لحيته، فمكثت فيها ثلاثة أيام، وهو لا يدري بها؛ لأن لحيته كانت طويلةً عظيمةً جدًّا، حَكَى هذه الأقوال صاحب "المطالع" وغيره، وحَكاها أبو عليّ الغسانيّ، وذكر هذا القول الأخير بإسناده، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاذَةَ) بنت عبد الله العدوية، البصريّة، معدودة في فقهاء التابعين (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، السائلة المبهمة هي معاذة نفسها، كما بيّنته رواية يزيد، قال:"سمعت معاذة أنها سألت عائشة"، ورواية عاصم، عن معاذة، قالت:"سألت عائشة"، وقوله:(فَقَالَتْ) تفسير وتوضيح لمعنى سؤالها (أَتَقْضِي إِحْدَانَا الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟) أي حيضها، فـ "المحيض" مصدر ميميّ لـ"حاض"، والظرف لا يتعلّق بـ "تقضي"؛ لأن الصلاة لا تُقضى في أيام المحيض، وإنما هو متعلّق بحال مقدّر من "الصلاة"، أي حال كونها واجبةً أيام محيضها، أو متعلّق بصفة لـ "الصلاة"، بناء على جعل المعرّف بلام الجنسيّة في معنى النكرة، كما في قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّةَ قَلْتُ لَا يَعْنِينِي

فجملة "يسبّني" تحتمل الوجهين.

وفي رواية عاصم: "ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ ".

وفي رواية البخاريّ: "أتجزي إحدانا صلاتَها إذا طهرت؟ "، وهو بفتح أول "تَجْزي": أي تقضي، و"صلاتَها" بالنصب مفعوله، ويُروى "أتُجزئ" بضمّ أوله، وهمز آخره: أي أتكفي المرأة الصلاة الحاضرة، وهي طاهرةٌ، ولا تحتاج إلى قضاء الفائتة في زمن الحيض؟ فـ "صلاتُها" على هذا بالرفع على الفاعليّة، قال الحافظ: والأوّل أشهر، يعني رواية "تَجزي" بالفتح.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 27.

ص: 167

(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها منكرةً لسؤالها عما لا ينبغي السؤال عنه؛ لوضوح حكمه لدى النساء منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"حروريّةٌ" خبر مقدَّم، و"أنتِ" مبتدأ مؤخّرٌ، وفائدة تقدُّم الخبر الدلالة على الحصر، أي أحرورية أنت لا غير؟

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: "الْحُروريّة" - بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى، وهي نسبة إلى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعانيّ: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، وقال الهرويّ: تعاقدوا في هذه القرية، فنُسبوا إليها، فمعنى قول عائشة رضي الله عنها أنّ طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة، هو استفهام إنكار، أي هذه طريقة الحرورية، وبئست الطريقة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "الحروريّ" منسوب إلى حروراء بفتح الحاء، وضم الراء المهملتين، وبعد الواو الساكنة راء أيضًا: بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر أنها بالمدّ، قال المبرد: النسبة إليها حروراويّ، وكذا كلُّ ما كان في آخره ألف تأنيث ممدودة، ولكن قيل: الحروريّ بحذف الزوائد، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج: حروريّ؛ لأن أول فرقة منهم خرجوا على عليّ رضي الله عنه بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها، وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دلّ عليه القرآن، ورَدّ ما زاد عليه من الحديث مطلقًا، ولهذا استفهمت عائشة معاذة استفهام إنكار. انتهى

(3)

.

وقال العينيّ رحمه الله: وكبار فِرَق الحرورية ستة: الأزارقة، والصفرية، والنجدات، والعَجَاردة، والإباضية، والثعالبة، والباقون فروع، وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، ويجمعهم القول بالتَّبَرِّي من عثمان وعلي رضي الله عنه، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يُصححون المناكحات إلا على ذلك.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 445.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 27.

(3)

"الفتح" 1/ 502.

ص: 168

وكان خروجهم على عهد علي رضي الله عنه لَمّا حكّم أبا موسى الأشعريّ وعمرو بن العاص، وأنكروا على عليّ في ذلك، وقالوا: شككت في أمر الله، وحَكَمت عدوك، وطالت خصومتهم، ثم أصبحوا يومًا، وقد خرجوا، وهم ثمانية آلاف، وأميرهم ابن الكوا عبد الله، فبَعَث إليهم عليّ عبدَ الله بن عباس، فناظرهم، فرجع منهم ألفان، وبقي ستة آلاف، فخرج إليهم عليّ، فقاتلهم.

وكانوا يشددون في الدين، ومنه قضاء الصلاة على الحائض، قالوا: إذا لم يسقط في كتاب الله تعالى عنها على أصلها.

وقد قلنا: إن حروراء اسم قرية، وهي ممدودة، وقال بعضهم بالقصر أيضًا، حكاه أبو عبيد، وزعم أبو القاسم الغورانيّ أن حروراء هذه موضع بالشام، وفيه نظر؛ لأن عليًّا رضي الله عنه إنما كان بالكوفة، وقتاله لهم إنما كان هناك، ولم يأت أنه قاتلهم بالشام؛ لأن الشام لم يكن في طاعة علي رضي الله عنه، وعلى ذلك أطبق المؤرخون. انتهى.

وزاد في رواية عاصم الآتية عن معاذة: "فقلت: لا، ولكني أسأل"، أي سؤالًا مجردًا لطلب العلم، لا للتعنت.

(قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا)، وفي الرواية التالية:"قد كُن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضن، أفأمرهنّ أن يَجْزين؟ "(تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي في زمنه، ووجوده بين أظهرنا، والغرض منه بيان أنه كان مُطّلعًا على حال النساء، من الحيض وتركهنّ الصلاة في أيامه (ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ) ببناء الفعل للمفعول، والكلام فيه حذف، تقديره: أي تحيض، وتترك الصلاة أيام الحيض، ثم لا تؤمر بقضائها بعد الطهر، والمراد من عدم الأمر عدم الوجوب؛ لأن الواجب مأمور به.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم مع اطّلاعه على حيضها، وتركها الصلاة ما كان يأمرها بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمرها به، كما أمر بقضاء الصوم.

وفي رواية البخاريّ: "فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله"، وعند الإسماعيليّ:"فلم نكن نقضي، ولم نؤمر به"، قال في "الفتح": والاستدلال بقولها: "فلم نكن نقضي" أوضح من الاستدلال بقولها: "فلم نؤمر به"؛ لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب؛ لاحتمال

ص: 169

الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء. انتهى

(1)

.

وقال أيضًا: فَهِمت عائشة رضي الله عنها طلب الدليل، فاقتصرت في الجواب عليه دون التعليل، والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام، أن الصلاة تتكرر، فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام، ولمن يقول بأن الحائض مخاطبة بالصيام أن يُفَرِّق بأنها لم تخاطب بالصلاة أصلًا.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: اكتفاءُ عائشة رضي الله عنها في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لم تؤمر به يحتمل وجهين:

[أحدهما]: أنها أَخَذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء، فيُتَمسَّك به حتى يوجد المعارض، وهو الأمر بالقضاء، كما في الصوم.

[ثانيهما]: قال: وهو أقرب، أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم؛ لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يُبَيِّن دل على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بذلك الأمر بقضاء الصوم، كما في رواية عاصم، عن معاذة الآتية:"فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[14/ 767 و 768 و 769](335)، و (البخاريّ) في "الحيض"(321)، و (أبو داود) في "الطهارة"(262 و 263)، و (الترمذيّ) فيها (130)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 191)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1277 و 1278)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1570)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 339 - 340)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 94 و 120 و 143)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 233)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(101)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1349)، و (البيهقيّ) في

(1)

"الفتح" 1/ 503.

ص: 170

"الكبرى"(1/ 308)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(941 و 942 و 943 و 944 و 945)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(756 و 757 و 758)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض، ومثلها النفساء، كما لم يجب عليهما أداؤها.

2 -

(ومنها): بيان وجوب قضاء الصوم عليهما، دون أدائه.

3 -

(ومنها): مشروعيّة سؤال أهل العلم لمن كان يجهل أمرًا من أوامر الشرع.

4 -

(ومنها): استفسار العالم السائل عن وجه سؤاله، هل هو مسترشدٌ، فيُليّن له الجواب، حتى يفهمه، أم هو معارض، فيشدّد له الخطاب، حتى يُفحمه؟.

5 -

(ومنها): ذكر الدليل في محلّ الجواب؛ لأنه يكون كافيًا عن طلب الدليل؛ إذ لو أجابت عائشة رضي الله عنها ربّما طالبتها السائلة بالدليل، فتحتاج إلى ذكره مرّةً أخرى.

6 -

(ومنها): أنه إنما أنكرت عائشة رضي الله عنها على السائلة لكونها فَهِمت أن السؤال سؤال منكر، لا مستفهم، ولَمّا بيّنت السائلة أنها ليست منكرةً، وإنما تسأل سؤال مستفهم، فرّقت لها عائشة رضي الله عنها بالنصّ؛ لأنه أبلغ وأقوى في الردّ على المخالف، بخلاف الفرق المعنويّ، فإنه عُرْضة للمعارضة، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على وجوب ترك الحائض الصلاة والصوم أثناء الحيض؛ لأن القضاء وعدم القضاء مترتّب على الترك.

قال النوويّ رحمه الله: فإن قيل: ليس في الحديث دليل على تحريم الصوم، وإنما فيه جواز الفطر، وقد يكون الصوم جائزً لا واجبًا كالمسافر.

قلنا: قد ثبت شدّة اجتهاد الصحابيّات رضي الله عنهن في العبادات، وحرصهنّ على الممكن منها، فلو جاز الصوم لفعله بعضهنّ، كما في القصر وغيره، ويدلّ أيضًا على التحريم حديث البخاريّ ومسلم:"أليس إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم". انتهى.

ص: 171

8 -

(ومنها): بيان أن قول الصحابي: كنا نؤمر بكذا محمول على الرفع على ما هو الصحيح، كما هو مذكور في كتب المصطلح.

9 -

(ومنها): أنه يؤخذ من الحديث أن أمر الشارع ونهيه حجة بمجرّده، ولا يفتقر إلى معرفة سرّه، وحكمته، أو علّته.

10 -

(ومنها): أن بعضهم ادّعى أنه ليس في السنّة ما يدلّ على تحريم الصوم على الحائض، وهو قول مردود؛ لحديث الشيخين المتقدّم، ولأن حديث حمنة رضي الله عنها صريح في ذلك، حيث قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني امرأة أُستحاض حيضة كثيرةً شديدةً، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم

" الحديث، وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره بطوله، وقد أقرّها صلى الله عليه وسلم على ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صلاة الحائض وصومها: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم، لا اختلاف بينهم على إسقاط فرض الصلاة عن الحائض في أيام حيضها، وإذا سقط فرض الصلاة عنها، فغير جائز أن يلزمها قضاء ما لم يجب عليها في أيام الحيض، من الصلاة بعد طهرها، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر دالّ على ذلك، ثم أخرج بسنده عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر إلى المصلى، فصلَّى، وانصرف، فقال:"يا معشر النساء تصدقن، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكنّ، يا معشر النساء"، فقلن له: ما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: بلى، قال:"فذاك من نقصان عقلها، وأليست إذا حاضت المرأة لم تُصَلّ، ولم تصم؟، قال: فذاك من نقصان دينها"، متّفقٌ عليه.

قال: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن لا صلاة عليها، ولا يجوز لها الصوم في حال الحيض، ثم أجمع أهل العلم على أن عليها الصومَ بعد الطهر، ونَفَى الجميع عنها وجوب الصلاة، فثبت قضاء الصوم عليها بإجماعهم، وسقط عنها فرض الصلاة لاتفاقهم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

(1)

"الأوسط" 2/ 202 - 203.

ص: 172

وقال العينيّ رحمه الله: لا خلاف في أن الحائض لا تقضي الصلاة بين الأمة، إلا لطائفة من الخوارج، قال معمر: قال الزهريّ: تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة، قلت: عمن؟ قال: أجمع المسلمون عليه، وليس في كل شيء تجد الإسناد القويّ، أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال، وعلى أنه لا يجب عليهما قضاء الصلاة، وعلى أنه عليهما قضاء الصوم، والفرق بينهما أن الصلاة كثيرة، متكررة، فيشُقّ قضاؤها، بخلاف الصوم، فإنه يجب في السنة مرةً واحدةً، ومن السلف من كان يأمر الحائض بأن تتوضأ عند وقت الصلاة، وتذكر الله تعالى، تستقبل القبلة ذاكرة لله جالسةً، رُوي ذلك عن عقبة بن عامر، ومكحول، وقال: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في حيضهنّ، وقال عبد الرزاق: بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة، وقال عطاء: لم يبلغني ذلك، وإنه لحسنٌ، وقال أبو عمر: هو أمر متروك عند جماعة الفقهاء، بل يكرهونه، قال أبو قلابة: سألنا عن ذلك، فلم نجد له أصلًا، وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرفه، وإنا لنكرهه.

قال الجامع عفا الله عنه: تبيّن بما قاله أبو قلابة، وسعيد بن عبد العزيز أن ما نُقل عن مكحول من قوله: كان ذلك من هدي نساء المسلمين، غير ثابت عنه، وإن صحّ، فلعله يريد مسلمي بلدته، وقريته، والله تعالى أعلم.

قال: وفي "منية المفتي" للحنفية: يستحب لها عند وقت كل صلاة أن تتوضأ، وتجلس في مسجد بيتها، تسبح وتهلل مقدار أداء الصلاة، لو كانت طاهرةً، حتى لا تبطل عادتها.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكرت هذا القول إلا ليُتَعَجَّب منه، ويستبينه من له مُسكة من اتباع السنة، أليس الاستحباب مما يختصّ به الشارع الحكيم؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية [الشورى: 21]، فهل يجوز لمسلم أن يقول: يستحبّ هذا، ويكره هذا، أو يحرم، أو يجب بدون بيّنة من كتاب أو سنة، أو إجماع؟ {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الآية [النحل: 116]، {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

قال: وفي الدراية: يكتب لها ثواب أحسنِ صلاةٍ كانت تصلي.

ص: 173

قال الجامع: هذا أشدّ وأخطر مما قبله، فهل عِلْمُ مقدار الثواب، وتمييز أحسن الثواب من حسنه من تخصّصات صاحب "الدراية"؟، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].

وبالجملة فمن قرأ كتب الفقهاء المتأخرين يَرَى العَجَب الْعُجَاب من هذا النوع، مما يتجاسرون فيه بإيحاب أشياء، أو تحريمها، أو استحبابها، أو نحو ذلك، دون أيّ حجة، وأيّ برهان، بل بما يجول في خَلَدهم من الظنون الخالية عن البراهين الساطعة، وربما يكون ذلك مضادًّا لما ثبت بالنص الصريح، وذلك نتيجة قصور علمهم، وقلّة ورعهم، وما أحسن قول ابن عابدين في "رسم المفتي":

وَلَيْسَ يَجْسُرُ عَلَى الأَحْكَامِ

سِوَى شَقِيٍّ خَاسِرِ الْمَرَامِ

والحاصل أن الحقّ هو ما عليه جمهور أهل العلم من أنه لا تجب على الحائض الصلاة، لا أداؤها، ولا قضاؤها، ولا يُشرع لها أن تتشبه بمن تصلي، كما افتات هؤلاء الذين سمعت هذياناتهم، بل الواجب عليها الابتعاد من كلّ ابتداع ما أنزل الله به من سلطان، وإنما الواجب عليها قضاء الصوم فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[768]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَةَ، أَنَّهَا سَاَلتْ عَائِشَةَ: أَتَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كُنَّ نِسَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحِضْنَ، أفَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَجْزِينَ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: تَعْني يَقْضِينَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا، فمن أول السند إلى شعبة تقدّموا قبل باب، ومن بعده تقدّموا في السند الماضي، ويزيد هو الرِّشك.

وقوله: (قَدْ كُنَّ نِسَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلخ) هذا على لغة أكلوني البراغيث؛

ص: 174

لأن الأكثر في الاستعمال أن يقال: قد كانت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا

لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَـ "فَازَ الشُّهَدَا"

وَقَدْ يُقَالُ "سعِدَا"، وَ"سَعِدُوا"

وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

وقوله: (أفَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَجْزِينَ؟) بفتح حرف المضارعة، وكسر الزاي مضارع جَزَى، غير مهموز، وقد فسره محمد بن جعفر غندر في الكتاب: أن معناه يَقْضِين، وهو تفسير صحيح، يقال: جَزَى يَجْزِي: أي قَضَى، وبه فسروا قوله تعالى:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، ويقال: هذا الشيء يَجزِي عن كذا، أي يقوم مقامه، ومنه سُمّي يوم الجزاء، قال القاضي عياض رحمه الله: وقد حَكَى بعضهم فيه الهمز. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[769]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُعَاذَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ

(2)

، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِك، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْم، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكسّيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبت فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(عَاصِم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 184.

(2)

وفي نسخة: "ولكنْ أسأل".

ص: 175

والباقيان تقدّما.

وقولها: (مَا بَالُ الْحَائِضِ إلخ) ذكر في "القاموس" من معاني "البال": الحال، والخاطر، والقلب، والمناسب هنا معنى الحال، أي ما حال الحائض وما شأنها في قضائها الصوم دون الصلاة؟، والاستفهام حقيقيّ، فهي تستفهم، وتسأل عن علة هذه التفرقة.

وقولها: (لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ) الباء زائدة في خبر "ليس"، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ"مَا"وَ"لَيْسَ "جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرْ

والمعنى: أني لست أوجب قضاء الصلاة، كالحروريّة، ولكني أسأل عن الحكم سؤال مسترشد، لا سؤال معاند.

وقولها: (كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكِ) الإشارة إلى الحيض، والكاف مكسورةٌ، خطابًا للمؤنّثة، أي كان الحيض يصيبنا، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ مَشْرُوعِيَّةِ تَسَتُّرِ الْمُغْتَسِلِ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[770]

(336) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْر، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ، تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، أبو زكريّا تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو

ص: 176

عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أميّة، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

4 -

(أَبُو مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ) ويقال: مولى عَقِيل بن أبي طالب، واسمه يزيد الهاشميّ المدَني، ثقةٌ مشهور بكنيته [3].

رَوَى عن عَقِيل بن أبي طالب، وأم هانئ بنت أبي طالب، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن سعيد، وأبي واقد الليثيّ، ورأى الزبير بن العوام.

ورَوَى عنه سالم أبو النضر، وسعيد المقبريّ، وسعيد بن أبي هند، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وإسحاق بن أبي طلحة، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، وأبو حازم بن دينار، ويزيد بن الهاد، وغيرهم.

قال الواقديّ: هو مولى أم هانئ، وكان يلزم عَقِيلًا، فنُسِب إليه، وكان شيخًا قديمًا، رَوَى عن عثمان، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: وكان ثقةً، قليل الحديث، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن عثمان.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (336) وكرّره أربع مرّات، و (722) حديث: "أوصاني حبيبي بثلاث

"، و (2176) حديث: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة

".

5 -

(أمَّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ) الهاشمية، اسمها فاختة، وقيل: هند، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها مولاها، أبو مُرَّة، وأبو صالح باذام، وابن ابنها جَعْدة المخزوميّ، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها أيضًا، هارون، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وابنه عبد الله، والشعبيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء، وكريب، ومجاهد، وعروة بن الزبير، ومحمد بن عقبة بن أبي مالك، وهي شقيقة عليّ رضي الله عنه وإخوته، وكانت تحت هُبيرة بن أبي وهب المخزوميّ، فوَلَدت له عمرًا، وبه كان يكنى، وهانئًا، ويوسف، وجَعْدة، ذكره الزبير بن بكار وغيره، أسلمت يوم الفتح، وعاشت

ص: 177

بعد عليّ رضي الله عنه مدّةَّ، حَكَى هذا الترمذي وغيره، وقد خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم، ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره ستّ مرات.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والقراءة، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه راويين اشتهرا بالكنية: أبو مرّة، وأم هانئ.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سالم، عن أبي مرّة.

6 -

(ومنها): أن أم هانئ رضي الله عنه، وأبا مرّة هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وليس لأم هانئ فيه إلا هذا الحديث، وأما أبو مرّة، فله حديثان آخران أيضًا، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة (أَنَّ أَبَا مُرَّةَ) يزيد الهاشميّ (مَوْلَى أُمِّ هَانِيءٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ)، تقدّم أنه يقال له أيضًا: مولى عَقِيل بن أبي طالب؛ للزومه إياه (أَخْبَرَهُ)، أي أبا النضر (أَنَّهُ سَمِعَ أمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ) واسمها فاختة، وقيل: غيرها رضي الله عنها (تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ) المراد فتح مكّة، وكان في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وفي الرواية التالية:"أنه لَمّا كان عامُ الفتح أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأعلى مكة".

وسبب ذهابها إليه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته هي، قالت: "أتاني حَمَوان لي، فأجرتهما، فجاء عليّ يريد قتلهما، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في قبّة بالأبطح بأعلى مكة

" الحديث، وفيه: "قد أجرنا من أجرت، وأمّنّا من أمّنتِ".

ص: 178

وقد وقع اختلاف فيمن أجارته أم هانئ رضي الله عنها، وسيأتي بيانه في "كتاب الصلاة" - إن شاء الله تعالى -.

(فَوَجَدْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يَغْتَسِلُ) جملة في محلّ نصب على أنه مفعول ثان لـ "وَجَدَ"، أو هو منصوب على الحال من المفعول (وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ) صلى الله عليه وسلم (تَسْتُرُهُ)، أي عن أعين الناس (بِثَوْبٍ) وجملة "وفاطمة تستره" في محلّ نصب على الحال من المفعول أيضًا، والحًديث متّفقٌ عليه، وسيأتي بيان مسائله في الحديث الآتي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ سياقًا مما هنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[771]

(

) - (حَدَثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْح، أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى غُسْلِه، فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ، فَالْتَحَفَ بِه، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلهم تقدّموا

(1)

، إلا واحدًا، وهو:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) الْفَزَاريّ، مولى سمرة بن جندب، المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي موسى، وأبي هريرة، وابن عباس، وأم هانئ بنت أبي طالب، وذكوان مولى عائشة، وأبي مُرّة مولى أم هانئ، وعَبِيدة السَّلْمانيّ، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، ويزيد بن أبي حبيب، ونافع بن عمر الْجُمَحيّ، وابن إسحاق، وعبد الله بن محمد بن أبي يحيى، وموسى بن ميسرة، ونافع مولى ابن عمر، والوليد بن كثير، وأسامة بن زيد الليثيّ، وغيرهم.

(1)

فالثلاثة الأولون تقدّموا قبل باب، والباقيان تقدّما في السند الماضي.

ص: 179

قال ابن سعد: تُوُفّي في أول خلافة هشام بن عبد الملك، وله أحاديث صالحة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن قانع: مات سنة ست وعشرة ومائة.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ذكر عبد الحق أن في "مصنف عبد الرزاق" عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى، في لباس الحرير، كذا قال، وقوله:"عن رجل" زيادة ليست في كتاب عبد الرزاق، ولا غيره، من حديث نافع، نعم رواه عبد الرزاق قال: سمعت عبد الله بن سعيد بن أبي هند، يحدث عن أبيه، عن رجل، عن أبي موسى، أخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، وقال: هو وَهَمٌ، وقع من عبد الله بن سعيد بن أبي هند؛ لسوء حفظه، كذا قال، وأراد ترجيح رواية نافع، عن سعيد، عن أبي موسى، وقد ذكر أبو زرعة وغيره، أن حديثه عنه مرسل.

وقال الدارقطنيّ في "العلل": رواه أسامة بن زيد الليثيّ، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مُرّة، مولى أم هانئ، عن أبي موسى، قال الدارقطنيّ بعد أن أخرجه: هذا أشبه بالصواب. قلت

(1)

: رواه كذلك من طريق عبد الله بن المبارك، عن أسامة، لكن رواه ابن وهب، عن أسامة، فلم يذكر فيه أبا مُرّة، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: من لطائف هذا الإسناد أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) الفزاريّ المدنيّ (أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ) - بفتح العين المهملة، وكسر القاف - ابن أبي طالب، تقدّم أنه إنما نُسب إليه؛ للزومه إياه، وإلا فهو مولى أم هانئ، وهذا هو الذي جُعل له في كتب مصطلح

(1)

القائل هو الحافظ، فتنبّه.

(2)

"تهذيب التهذيب" 2/ 47 - 48.

ص: 180

الحديث بـ "باب من نُسب إلى خلاف الظاهر"، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَنَسَبُوا الْبَدْرِيَّ وَالْخُوزِيَّا

لِكَوْنِهِ جَاوَرَ وَالتَّيْمِيَّا

كَذَلِكَ الْحَذَّاءُ لِلْجَلَّاسِ

وَمِقْسَمٌ مَوْلَى بَنِي عَبَّاسِ

(حَدَّثَهُ)، أي حدّث سعيدًا (أَنَّ أمّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنها (حَدَّثَتْهُ)، أي أبا مرّة (أَنَّهُ) الضمير للشأن، أي أن الحَال والشأن (لَمَّا كَانَ عَامُ الفتْحٍ) بالرفع على الفاعليّة، فـ "كان" هنا تامّة، أي حضر، ويحتمل أن تكون ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى الزمن، و"عامَ الفتح" خبرها، أي لَمّا كان الزمن عامَ الفتح (أتتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن تقول: أتيت إلخ، والجملة جواب "لَمّا"(وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم نازلٌ بأعلى مكة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من أعلاها من الموضع المسمّى بكَدا بالفتح والمدّ، وضُربت له خيمة هناك.

[تنبيه]: هذا الحديث سيأتي مطوّلًا في "كتاب الصلاة"، فقد أخرجه بهذا السند، عن أبي النضر، أن أبا مرة، مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ، بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، قالت: فسلمت، فقال:"من هذه؟ " قلت: أم هانئ، بنت أبي طالب، قال:"مرحبًا بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثمانيَ ركعات، ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، عليّ بن أبي طالب، أنه قاتل رجلًا أجرته، فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: وذلك ضحى.

وقوله: (قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال بتقدير "قد" على رأي البصريين، كما في قوله تعالى:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90](إِلَى غُسْلِهِ) متعلّق بـ "قام"، وهو بضمّ الغين اسم من الاغتسال (فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ) رضي الله عنها (ثُمَّ) بعد تمام غسله (أَخَذَ) صلى الله عليه وسلم (ثَوْبَهُ) هو الثوب الذي سترته به فاطمة رضي الله عنها، ففي الرواية التالية: "فسترته ابنته فاطمة بثوبه، فلما

ص: 181

اغتسل أخذه، فالتَحَف به" (فَالْتَحَفَ بِهِ) بالبناء للفاعل، أي اشتمل به، قال البخاريّ في "صحيحه": قال الزهريّ: الملتحف: المتوشِّح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على المنكبين. انتهى.

وقال في "القاموس": لَحَفَه، كمَنَعَه: غَطّاه باللِّحَاف ونحوه، والتحف به: تغطّى، واللِّحَاف ككتاب: ما يُلْتَحف به. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": الالتحاف لغةً التغطّي، وكلُّ شيء تغطّيتَ به، فقد التحفت به، وقال الليث: اللَّحْفُ: تغطيتك الشيء باللِّحاف، وقال غيره: لَحَفتُ الرجل ألحفه لَحْفًا: إذا طَرَحت عليه اللِّحاف، أو غطّيته بشيء، وتلحّفتُ: اتّخذت لنفسي لِحَافًا.

وفائدة الالتحاف: أن لا ينظر المصلّي إلى عورة نفسه إذا ركع، وأن لا يسقط الثوب إذا ركع، وإذا سجد. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) بإثبات الياء في "ثماني"، ونصبه على المفعوليّة لـ "صلّى"، وهذا هو الجاري على القاعدة، ووقع في بعض النسخ:"ثمانَ ركعات" بحذف الياء، وهو مشكلٌ؛ لما سيأتي.

[تنبيه]: قال الجوهريّ رحمه الله: يقال: ثمانية رجال، وثماني نسوة، وهو في الأصل منسوب إلى الثُّمُن؛ لأنه الجزء الذي صيَّر السبعةَ ثمانيةً، فهو ثمنها، ثم فتحوا أوّله؛ لأنهم يُغيّرون في النسب، كما قالوا: دُهْريّ، وسُهْليّ، وحذفوا إحدى ياءي النسب، وعوّضُوا منها الألفَ، كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن، فثبتت ياؤه عند الإضافة، كما ثبتت ياء القاضي، فتقول: ثماني نسوة، وثماني مائة، كما تقول: قاضي مكة، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجرّ، وتثبت عند النصب؛ لأنه ليس بجمع، فيُجْرَى مَجْرَى جَوَارٍ وسَوَارٍ في ترك الصرف، وما جاء في الشعر غيرَ مصروف فهو على توهّم أنه جمع. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الثمانية بالهاء للمعدود المذكّر، وبحذفها للمؤنّث، ومنه {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]، والثوب سبع في ثمانية، أي طوله سبع أذرُع،

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 194 - 195.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 59.

(3)

"الصحاح" 5/ 1686.

ص: 182

وعرضه ثمانية أشبار؛ لأن الذراع أنثى، ولهذا حُذفت العلامة معها، والشبر مذكّرٌ، وإذا أُضيفت الثمانية إلى مؤنّث ثبتت الياء ثبوتها في القاضي، وأُعربت إعراب المنقوص، تقول: جاء ثماني نسوة، ورأيتُ ثمانيَ نسوة، تُظهر الفتحة، وإذا لم تُضِفْ قلت: عندي من النساء ثمانٍ، ومررتُ منهنّ بثمانٍ، ورأيتُ ثماني، وإذا وقعت في المركّب تخيَّرتَ بين سكون الياء وفتحها، والفتح أفصح، يقال: عندي من النساء ثَمَانِيَ عشرةَ امرأة، وتُحذف الياء في لغة بشرط فتح النون، فإن كان المعدود مذكّرًا قلتَ: عندي ثمانية عشر رجلًا بإثبات الياء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن ما وقع في معظم نسخ "صحيح مسلم"، كالنسخة التي شرحها النووي، ونسخة محمد ذهني، بلفظ "ثمانَ ركعات" خلاف الصواب، فالصواب ما وقع في نسخة شرح الأبيّ، وقد أشار إليها محمد ذهني في هامش نسخته، وفي هامش النسخة الهنديّة أيضًا، بلفظ:"ثمانِيَ ركعات" بإثبات الياء، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.

وقوله: (سُبْحَةَ الضُّحَى) بضم السين المهملة، وإسكان الباء الموحّدة: هي النافلة، سُمّيت بذلك للتسبيح الذي فيها.

قال النوويّ رحمه الله: هذا اللفظ فيه فائدةٌ لطيفةٌ، وهي أن صلاة الضحى ثماني ركعات، وموضع الدلالة كونها قالت:"سُبْحَة الضُّحى"، وهذا تصريح بأن هذا سنةٌ مقررةٌ معروفةٌ، وصلّاها بنيّة الضحى، بخلاف الرواية الأخرى:"صَلَّى ثماني ركعات، وذلك ضحى"، فإن من الناس من يَتَوَهَّم منه خلاف الصواب، فيقول: ليس في هذا دليل على أن الضحى ثماني ركعات، ويزعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى في هذا الوقت ثماني ركعات بسبب فتح مكة، لا لكونها الضحى، فهذا الْخَيَال الذي يتعلق به هذا القائل في هذا اللفظ، لا يتأتى له في قولها:"سُبْحة الضُّحى"، ولم يزل الناس قديمًا وحديثًا يحتجون بهذا الحديث على إثبات صلاة الضُّحَى ثماني ركعات. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 84 - 85.

ص: 183

نفيسٌ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم هانئ رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[15/ 770 و 771 و 772](336)، وفي "صلاة المسافرين"، و (البخاريّ) في "الغسل"(280) و"الصلاة"(357) و"الجزية"(3171) و"الأدب"(6158)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1291)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(2734)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 126)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 152)، و (ابن أبي شيجة) في "مصنّفه"(2/ 409)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(4861)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 343 و 423 و 425)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 339)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 418)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1233)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1188)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 198)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3131 و 6785)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(759 و 760 و 761)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة التستّر عند الاغتسال.

2 -

(ومنها): جواز اغتسال الرجل بحضرة امرأة من محارمه، إذا حال بينهما ساتر، من ثوب، أو نحوه.

3 -

(ومنها): جواز السلام على من يغتسل؛ لأن أم هانئ سلّمت عليه صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): جواز كلام المغتسل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "من هذه؟ إلخ".

5 -

(ومنها): أن من سُئل عن اسمه يُجيب بصريح اسمه، كما فعلت أم هانئ، ولا يقول: أنا، فقد ورد الإنكار على من قال ذلك، فقد أخرج الشيخان

ص: 184

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعوت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من هذا؟ "، قلت: أنا، قال: فخرج وهو يقول: "أنا أنا".

6 -

(ومنها): استحباب الصلاة عقب الاغتسال.

7 -

(ومنها): التحاف المصلّي بثوبه إذا كان واحدًا، وقد عرفت معنى الالتحاف قريبًا، ولا يجوز أن يشتمل به اشتمال الصمّاء، فقد أخرج المصنّف عن جابر رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهَى عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وهو مُسْتَلْقٍ على ظهره".

8 -

(ومنها): استحباب صلاة الضّحى، وقد اختلف العلماء في صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، هل هي الشكر للفتح، أم هي صلاة الضحى؟.

فمنهم من قال: إنها صلاة الفتح، ومنهم من قال: إنها صلاة الضحى، والصحيح أنها صلاة الضحى؛ لقول أم هانئ رضي الله عنها في هذه الرواية:"سُبحةَ الضحى"، وأصرح منها ما في رواية أبي داود بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى يوم الفتح سُبحة الضحى ثماني ركعات"، لكن في سنده ضعف؛ لأن في سنده عياض بن عبد الله ليّن الحديث.

وروى ابن عبد البرّ: في "التمهيد" - كما في "الفتح"

(1)

- من طريق عكرمة بن خالد، عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، فصلى ثماني ركعات، فقلت: ما هذه؟ قال: "صلاة الضحى"، فهذه أصرح في أن تلك الصلاة كانت صلاة الضحى.

9 -

(ومنها): أن صلاة الضحى تكون ثماني ركعات، والمستحبّ فيها أن يسلّم من كلّ ركعتين، لما أخرجه أبو داود في "سننه" في هذا الحديث من طريق كريب مولى ابن عباس، عن أم هانئ بنت أبي طالب "أن رسول الله يوم الفتح صلى سُبحة الضحى، ثمانيَ ركعات، يُسَلّم من كل ركعتين"، لكن في إسناده عياض بن عبد الله وقد عرفتَ حاله، كما مرّ آنفًا.

لكن يؤيّده حديث: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وهو وإن اختُلف

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 65.

ص: 185

فيه إلا أن الأرجح أنه صحيح، كما سيأتي في محلّه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الروايات في حديث أم هانئ رضي الله عنها هذا:

(اعلم): أنه وقع اختلاف في محلّ اغتساله صلى الله عليه وسلم، وصلاته، وفيمن ستره، وفي عدد صلاته، هل هي ثمان، أم ركعتان.

ففي رواية: اغتسل في بيتها"، وهي رواية صحيحة، أخرجها أبو داود، وفي رواية: "أنها ذهبت إلى بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل"، وهي رواية المصنّف هنا، ومالك في "الموطّا"، وفي رواية: أن فاطمة سترته"، وهي رواية الشيخين، وغيرهما، وفي رواية أن أبا ذرّ رضي الله عنه هو الذي ستره، وهي رواية عند ابن خزيمة، والجواب عن هذه الاختلافات أن يقال:

أما الاختلاف في المحلّ فَيُحمل على أنه نزل في بيت أم هانئ بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر، فجاءت فوجدته يغتسل، أو يُحمَل على أن ذلك تكرّر منه صلى الله عليه وسلم، ويؤيّده ما رواه ابن خزيمة عنها أن أبا ذرّ ستره لَمّا اغتسل، أفاده في "المنهل العذب"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني فيه بُعدٌ لا يخفى، وأما قوله: يؤيّده ما رواه ابن خزيمة، ففيه أن هذه الرواية ضعيفة؛ لأن في سندها المطّلب بن عبد الله بن حنطب كثير التدليس، وقد عنعنه، فلا يصلح للتقوية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وأما الاختلاف فيمن ستره، فيجاب بأن أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر ستره في أثنائه، أفاده في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن حديث ستر أبي ذرّ رضي الله عنه لا يصحّ، فلا يعارض ما في "الصحيح" من أن فاطمة رضي الله عنها هي التي سترته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وأما الاختلاف في عدد الصلاة، ففي رواية أم هانئ أنه صلى ثماني

(1)

راجع: "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 7/ 195.

ص: 186

ركعات، وفي حديث ابن أبي أوفى أنه صلى ركعتين، فقد أخرج الطبرانيّ من حديثه "أنه صفى الضحى ركعتين، فسألته امرأته؟ فقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين".

والجواب عن هذا أن يُحمل على أن ابن أبي أوفى رأى من صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين، ورأت أم هانئ الثمانية كلّها، فأخبر كلّ بما رآه، أفاده في "المنهل" أيضًا.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية الطبرانيّ هذه ضعيفة؛ لأن في سندها الشعثاء بنت عبد الله الأسديّة، وهي مجهولة، وقد أجاد الكلام في هذا الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "تمام المنّة"

(1)

فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[772]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: فَسَتَرَتْهُ ابْنتهُ فَاطِمَةُ بِثَوْبِه، فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَهُ، فَالْتَحَفَ بِه، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى ثَمَانيَ

(2)

سَجَدَاتٍ، وَذَلِكَ ضُحًى).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، مشهور بكنيته، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(الْوَليدُ بْنُ كثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

وقوله: (أَخَذَهُ) أي أخذ الثوب الذي سترته به فاطمة رضي الله عنها.

وقوله: (فَالْتَحَفَ بِه، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ سَجَدَاتٍ) هكذا "ثماني" في

(1)

"تمام المنّة" 1/ 259.

(2)

وفي نسخة: "ثمان" بحذف الياء.

ص: 187

بعض النسخ، وهو الصواب، ووقع في معظم النسخ:"ثمان سجدات"، وقد عرفت ما فيه، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله.

وقوله: (سجدات) المراد بها الركعات، وسُمّيت الركعة سجدةً؛ لاشتمالها عليها، وهذا من باب تسمية الشيء بجزئه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَذَلِكَ ضُحًى)، أي هذه الذي ذكرناه من اغتساله صلى الله عليه وسلم، وقد سترته فاطمة رضي الله عنها، ثم التحافه بثوبه، وصلاته ثمان ركعات كان وقت الضُّحى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[773]

(337) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِي، أَخْبَرَنَا مُوسَى الْقَارِئُ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاءً، وَسَتَرْتُهُ

(2)

، فَاغْتَسَلَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقةٌ ثبت إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُوسَى الْقَارِئُ) هو: موسى بن عيسى الليثيّ القارئ الكوفيّ الخيّاط، صدوقٌ [9].

رَوَى عن زائدة بن قدامة، ومُفَضَّل بن يونس.

ورَوَى عنه إسحاق بن راهويه، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، وعبد الله بن براد الأشعريّ، ومحمد بن أبان الْبَلْخيّ، وسفيان بن وكيع بن الجراح.

وثّقه مُطَيَّن، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مُطَيَّن: مات سنة ثلاث وثمانين ومائة.

تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 29.

(2)

وفي نسخة: "فسترته".

ص: 188

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنيّ [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام يدلّس [5](ت 147)(ع) في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

5 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) واسم أبيه رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يُرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 98)، أو غير ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

6 -

(كُرَيْبٌ) بن أبي مسلم الهاشميّ، مولى ابن عبّاس، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع)، تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

8 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، أم المؤمنين، ماتت 51) (ع)، تقدّمت في "الحيض" 1/ 687.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، فهو سند نازل، وأنزل أسانيده التساعيّات.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وموسى القارئ، فتفرّد به هو.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سالم، سوى شيخه، فمروزيّ، والباقون مدنيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، وسالم، وكريبٌ، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الثالثة، وماتا في سنة واحدة على بعض الأقوال.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، هي خالته، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه في "الحيض"[8/ 728](317)

ص: 189

حيث ساقه المصنّف بأطول مما هنا إلا أنه ليس فيه ذكر سترها له، ولفظه: عن ابن عباس قال: حدثتني خالتي ميمونة، قالت:"أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسْله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدَلَكها دلكًا شديدًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حَفَنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده".

وقد أخرجه البخاريّ أيضًا مطوّلًا، وذكر فيه سترها له، ولفظه: عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة: "وضعت للنبيّ صلى الله عليه وسلم غُسْلًا، فسترته بثوب، وصَبَّ على يديه فغسلهما، ثم صبّ بيمينه على شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صبَّ على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى، فغسل قدميه، فناولته ثوبًا، فلم يأخذه، فانطلق، وهو ينفض يديه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(16) - (بَابُ تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَاتِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[774]

(338) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ الْحُبَاب، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرةِ الرَّجُل، وَلَا الْمَرْأةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَة، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثوْبِ الْوَاحِدِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل بابين.

ص: 190

2 -

(زيدُ بْنُ الْحُبَابِ)

(1)

أبو الحسين العُكْليّ الكوفيّ، خُرَاسانيّ الأصل، صدوقٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

3 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدني القرشيّ، صدوقٌ يَهِم [7].

رَوَى عن نافع مولى ابن عمر، وسالم أبي النضر، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، وأيوب بن موسى، وبُكير بن عبد الله بن الأشج، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عثمان، وابن ابنه الضحاك بن عثمان، وابن عمه عيسى بن المغيرة بن الضحاك، والثوريّ، ووكيع، وأبو بكر الحنفيّ، وابن أبي فُديك، وزيد بن الحباب، وابن وهب، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأبو ضمرة أنس بن عياض.

قال أحمد، وابن معين، ومصعب الزبيريّ: ثقةٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ، وابنه عثمان ضعيف، وقال أبو زرعة: ليس بقويّ، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن سعد: كان ثبتًا، وكان ثقةٌ كثير الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقال ابن بكير: ثقةٌ مدنيّ، وقال ابن نُمير: لا بأس به، جائز الحديث، وقال علي بن المدينيّ: الضحاك بن عثمان ثقةٌ، وقال ابن عبد البر: كان كثير الخطأ، ليس بحجة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ، مولى عمر بن الخطّاب، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقة فقيهٌ يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) أبو حفص، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو جعفر الأنصاري الخزرجيّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوى عن أبيه، وعمارة بن حارثة الضمري، وأبي حميد الساعدي.

ورَوَى عنه ابناه: رُبيح، وسعيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من

(1)

بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة المكررة المخففة.

ص: 191

أقرانه، وسهيل بن أبي صالح، وصفوان بن سُليم، وشريك بن أبي نَمِر، وزيد بن أسلم، وعمرو بن سليم الزُّرَقي، وسعيد المقبري، وعُمارة بن غزية، وعمران بن أبي أنس، وسليط بن أيوب، وغيرهم.

قال النسائي: ثقةٌ. وقال العجلي: تابعي مدني ثقةٌ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين، وفيها أَرّخه أبنُ نمير، وعمرو بن علي. وقال ابن سعد مثل ما قال ابن حبان، وزاد: كان كثير الحديث، وليس هو بِثَبْتٍ، ويستضعفون روايته، ولا يحتجون به.

أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

6 -

(أَبُوهُ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36) وقيل غير ذلك (ع)، تقدّم في "المقدّمة" 6/ 71.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والعنعنة، والإخبار.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، وهو من رواية الأقران، فكلاهما من الطبقة الثالثة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) الظاهر أنها نافيةٌ، والفعل بعدها مرفوع؛ لأن "لا" النافية لا تعمل في الفعل، ويكون المراد من النفي النهي على وجه المبالغة؛ لأن فيه ادّعاء أن المنهيّ عنه قد امتُثِلَ، وأصبح يُخبّرُ عنه بعدم الوقوع.

ص: 192

ويحتمل أن تكون ناهيةً، فيجزم الفعل بعدها بسكون مقدّر، منع من ظهوره اشتغال المحلّ بكسرة التخلّص من التقاء الساكنين، والله تعالى أعلم.

(يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ). قال المجد رحمه الله: "العَوْرة": الْخَلَلُ في "الثَّغْر وغيره، وكلُّ مَكْمَنٍ للسَّتْر، والسَّوْأَةُ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: كلُّ شيء يستره الإنسان أَنَفَةً وحَيَاءً فهو عورةٌ، والنساءُ عورةٌ، قال: وقيل: للسوءة عورةٌ؛ لقبح النظر إليها، قال: والْعَورةُ في الثَّغْر والحرب: خللٌ يُخاف منه، والجمع عَوْرَاتٌ بالسكون؛ للتخفيف، والقياس الفتح؛ لأنه اسم، وهو لغة هُذَيل. انتهى بتصرّف

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الْعَوْرة": كلُّ ما يُستحيا منه إذا ظَهَر، قال: ومنه الحديث: "المرأة عورة"

(3)

جعَلَها نفسَها عورةً؛ لأنها إذا ظهرت يُستحيا منها، كما يُستحيا من العورة إذا ظهرت.

قال: والعورة من الرجل ما بين السرة والركبة، ومن المرأة الْحُرّةِ جميعُ جسدها، إلا الوجه واليدين إلى الكوعين، وفي أخمصها خلاف، ومن الأمة مثلُ الرجل، وما يبدو منها في حال الخدمة، كالرأس، والرقبة، والساعد، فليس بعورة، وسترُ العورة في الصلاة وغيرها واجب، وفيه عند الخلوة خلاف. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "العورة" في أصل الوضع: هي ما يُستحيا من الاطّلاع عليه، ويلزم منه عار. انتهى

(5)

.

وسيأتي بيان اختلاف العلماء في حدّ العورة في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(وَلَا) تنظر (الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرة الْمَرْأَةِ)، وعورتها بالنسبة لنظر المرأة هو ما بين سرّتها وركبتها، كما سيأتي (وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ) بضمّ حرف

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 97.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 437.

(3)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، (1093) عن عبد الله - بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان".

(4)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 319.

(5)

"المفهم" 1/ 598.

ص: 193

المضارعة، من الإفضاء، وهو الوصول، يقال: أفضيت إلى الشيء: إذا وصلت إليه

(1)

.

و"لا" هنا نافيةٌ؛ لكون الفعل بعدها مرفوعًا، حيث ثبتت فيه الياء التي حقّها أن تُحذف للجازم، كما قال في "الخلاصة":

وَأَيُّ فِعْلٍ آخِرٌ مِنْهُ أَلِفْ

أَوْ وَاوٌ اوْ يَاءٌ فَمُعْتَلًّا عُرِفْ

فَالأَلِفَ انْوِ فِيهِ غَيْرَ الْجَزْمِ

وَأَبْدِ نَصْبَ مَا كـ "يَدْعُو""يَرْمِي"

وَالرَّفْعَ فِيهِمَا انْوِ وَاحْذِفْ جَازِمَا

ثَلَاثَهُنَّ تَقْضِ حُكْمًا لَازِمَا

لكن حكى السيوطيّ رحمه الله في "همع الهوامع" أن عدم حذف حرف العلّة للجازم لغة، وخرّج عليها قراءة قُنبل "إنه من يتقي ويصبر" بالياء، وجزم "يصبر"

(2)

، وعلى هذه اللغة يحتمل أن يكون "يُفضي" هنا مجزومًا بـ "لا"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) المراد به أن لا يكون بينهما حائل، يمنع من وصول جسد أحدهما إلى جسد الآخر.

قال ابن الملك رحمه الله: أي لا يصل بشرة أحدهما إلى بشرة الآخر في ثوب واحد في الْمُضطَجَع؛ لخوف ظهور الفاحشة بينهما، قال المظهر رحمه الله: ومن فعل ذلك يُعزّر، ولا يُحدّ، قاله في "المرقاة"

(3)

.

وحاصل المعنى: أنه لا يجوز للرجل أن يَصِل بجسده إلى جسد الرجل بلا حائل بينهما، والمراد من جسده هنا الموضع الذي لا يجوز إليه النظر منه، وهو ما بين السرة والركبة، أو السوأتان على الخلاف الذي يأتي، وأما ما عدا ذلك مما يحلّ للرجل النظر إليه، فلا يحرم الإفضاء إليه بجسده، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يُفضي الرجل إلى الرجل إلخ": أي لا يخلوان كذلك ليباشر أحدهما عورة الآخر، ويلمسها، ولمسها محرَّمٌ كالنظر

(1)

"المصباح المنير" 2/ 476.

(2)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" 1/ 67.

(3)

"مرقاة" المفاتيح 6/ 277.

ص: 194

إليها، وأما إذا كانا مستوري العورة بحائل بينهما، فذلك من النساء محرَّم على القول بأن جسد المرأة على المرأة كلّه عورة، وحكمها على القول الآخر، وحكم الرجل الكراهة، وهذا لعموم النهي عنه، وصلاحيةُ إطلاق لفظ العورة على ما ذُكر مما اختُلف فيه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بالتحريم، أو الكراهة فيما إذا كانا مستوري العورة، مما لا وجه له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"في ثوب واحد"؛ إذ مفهومه أنهما إذا كانا في ثوبين، فلا نهي في الإفضاء المذكور، لا بين الرجلين، ولا بين المرأتين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ")، أي دون حائل بين جسديهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[16/ 774 و 775](338)، و (أبو داود) في "الحمّام"(4018)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2793)، و (النسائيّ) في "عشرة النساء"(347)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(661)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 106)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 63)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5564)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(4/ 268)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 98)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2250)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(807)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(763 و 764)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"المفهم" 1/ 598.

ص: 195

1 -

(منها): بيان تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا لا خلاف فيه، وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة، والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع، ونبّه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل على نظره إلى عورة المرأة، وذلك بالتحريم أولى، وهذا التحريم في حق غير الأزواج والسادة، أما الزوجان فلكل واحد منهما النظر إلى عورة صاحبه جميعها، إلا الفرج نفسه، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحها أنه مكروه لكل واحد منهما النظر إلى فرج صاحبه من غير حاجة، وليس بحرام.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الصحيح أنه يجوز أن ينظر أحد الزوجين إلى فرج الآخر من غير كراهة؛ لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها، ولا دليل على الكراهة، فتبصّر.

قال: والثاني: أنه حرام عليهما، والثالث أنه حرام على الرجل مكروه للمرأة، والنظر إلى باطن فرجها أشد كراهةً وتحريمًا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن هذين القولين مما لا دليل عليهما، فتبصّر.

قال: وأما السيد مع أمته، فإن كان يملك وطأها، فهما كالزوجين، وإن كانت محرَّمة عليه بنسب، كأخته وعمته وخالته أو برضاع أو مصاهرة، كأم الزوجة وبنتها وزوجة ابنه، فهي كما إذا كانت حُرّة، وإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة، أو وثنيةً، أو معتدّة، أو مكاتبةً، فهي كالأمة الأجنبية.

وأما نظر الرجل إلى محارمه، ونظرهن إليه، فالصحيح أنه يباح فيما فوق السرّة وتحت الركبة، وقيل: لا يحل إلا ما يظهر في حال الخدمة والتصرف، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان تحريم إفضاء الرجل إلى عورة الرجل، كأن يناما في لحاف واحد، وليس بينهما حائل يمنع من وصول عورة أحدهما إلى الآخر، وكذلك المرأة مع المرأة ليس بين عورتيهما حائل كذلك.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليل على تحريم لمس عورة غيره

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 30 - 31.

ص: 196

بأيّ موضع من بدنه كان، وهذا مُتَّفقٌ عليه، وهذا مما تعُمّ به البلوى، ويتساهل فيه كثير من الناس باجتماع الناس في الحمّام، فيجب على الحاضر فيه أن يصون بصره ويده وغيرها عن عورة غيره، وأن يصون عورته عن بصر غيره ويد غيره، من قَيِّم وغيره، ويجب عليه إذا رأى من يُخِلّ بشيء من هذا أن يُنكر عليه، قال العلماء: ولا يسقط عنه الأنكار بكونه يَظُنّ أن لا يُقْبَل منه، بل يجب عليه الإنكار إلا أن يخاف على نفسه أو غيره فتنة.

قال: وأما كشف الرجل عورته في حال الخلوة، بحيث لا يراه آدميّ، فإن كان لحاجة جاز، وإن كان لغير حاجة، ففيه خلاف بين العلماء في كراهته وتحريمه، والأصح عندنا أنه حرام. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي حكم كشف العورة في الخلوة مستوفى في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): عناية الشارع بإبعاد الناس عن الأسباب التي تؤدّي إلى وقوع الفاحشة؛ إذ إفضاء الرجل إلى الرجل، وكذا المرأة مع المرأة، كأن يناما في لحاف واحد بلا حائل بينهما من أخطر ما يؤدي إلى وقوع ذلك، فنهى عنه؛ سدًّا للذريعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حدّ عورة الرجل والمرأة:

قال النوويّ رحمه الله: أما ضبط العورة في حقّ الأجانب، فعورة الرجل مع الرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وفي السرة والركبة ثلاثة أوجه لأصحابنا:

[أصحها]: ليستا بعورة.

[والثاني]: هما عورة.

[والثالث]: السرة عورة دون الركبة.

وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها، فكذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه، سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها.

وقال بعض أصحابنا: لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة، وليس هذا القول بشيء.

ص: 197

قال الجامع عفا الله عنه: بل هذا القول هو الراجح؛ لأنه لا دليل على تحريم نظرها إليه، بل الأدلّة على الجواز كثيرة:

(فمن أقوى الأدلّة) على جواز نظرها إلى وجهه أن الأمة مجمعة على جواز خروج الرجال إلى أعمالهم بثياب المهنة، كالسراويل، والقميص، والإزار، وكانت النساء ينظرن إليهم، بلا نكير، ولا جاء أمر من الشارع بتستر الرجال لئلا يراهم النساء.

(ومنها): ما في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد

".

(ومنها): ما أخرجاه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصّة الخثعميّة: وفيه: فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبيّ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر

الحديث.

والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم ما منعها أن تنظر إلى وجوه الرجال الحاضرين لديه، وإنما صرف وجه الفضل؛ خشية الفتنة، وغير ذلك من الأدلة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: ولا فرق أيضًا بين الأمة والحرة إذا كانتا أجنبيتين، وكذلك يحرم على الرجل النظر إلى وجه الأمرد إذا كان حسن الصورة، سواء كان نظره بشهوة أم لا، سواء أمن الفتنة أم خافها، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء المحققين، نَصّ عليه الشافعيّ، وحذاق أصحابه رحمهم الله تعالى، ودليله أنه في معنى المرأة، فإنه يُشْتَهَى كما تُشتَهى، وصورته في الجمال كصورة المرأة، بل ربما كان كثير منهم أحسن صورة من كثير من النساء، بل هم في التحريم أولى لمعنى آخر، وهو أنه يتمكن في حقهم من طُرُق الشرّ ما لا يتمكن من مثله في حق المرأة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر النووي مسألة النظر إلى الأمرد على هذا الوجه الغريب، فهل هذا نصّ كتاب الله تعالى، أو جاء شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النظر إلى الأمرد، مع كثرة الْمُرْد في حضرته صلى الله عليه وسلم وفي عهده؟، هذا شيء عجيب!!.

قال: وهذا الذي ذكرناه في جميع هذه المسائل، من تحريم النظر هو

ص: 198

فيما إذا لم تكن حاجة، أما إذا كانت حاجة شرعية، فيجوز النظر، كما في حالة البيع، والشراء، والتطبب، والشهادة، ونحو ذلك، ولكن يحرم النظر في هذه الحال بشهوة، فإن الحاجة تبيح النظر للحاجة إليه، وأما الشهوة فلا حاجة إليها، قال أصحابنا: النظر بالشهوة حرام على كل أحد غير الزوج والسيد، حتى يحرم على الإنسان النظر إلى أمه وبنته بالشهوة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: لا خلاف في تحريم النظر إلى العورة من الناس بعضهم إلى بعض، ووجوب سترها عنهم إلا الرجل مع زوجته أو أمته، واختُلف في كشفها في الانفراد، وحيث لا يراه أحدٌ، ولا خلاف أن السوأتين من الرجل والمرأة عورةٌ، واختُلف فيما عدا ذلك من الركبة إلى السرّة من الرجل، هل هو عورةٌ أم لا؟ ولا خلاف أن إبداءه لغير ضرورة قصدًا ليس من مكارم الأخلاق.

ولا خلاف أن ذلك من المرأة عورة على النساء والرجال، وأن الحرّة عورة ما عدا وجهها وكفّيها على غير ذوي المحارم من الرجال، وسائر جسدها على المحارم، ما عدا شعرَها ورأسها وذراعيها، وما فوق نحرها.

واختُلف في حكمها مع النساء، فقيل: جسدها كلّه عورةٌ، فلا يَرى النساء منها إلا ما يراه ذو المحرم، وقيل: حكم النساء مع النساء حكم الرجال مع الرجال، إلا مع نساء أهل الذمّة، فقيل: حكمهنّ في النظر إلى أجساد المسلمات حكم الرجال؛ لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] على خلاف بين المفسّرين في معناه.

وحكم المرأة فيما تراه من الرجل حكم الرجل فيما يراه من ذوي محارمه من النساء، وقد قيل: حكم المرأة فيما تراه من الرجل كحكم الرجل فيما يراه من المرأة، والأول أصحّ.

وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثدييها، ولها أن تُبدي رأسها ومِعْصمها، وقيل: حكمها حكم الرجال، وقيل: يُكره لها كشف معصمها ورأسها

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 31.

ص: 199

وصدرها، وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطية رؤوسهنّ، ويقول: لا تتشبّهن بالحرائر.

وحكم الحرائر في الصلاة ستر جميع أجسادهنّ إلا الوجه والكفّين، وهذا قول مالك، والشافعيّ، والأوزاعيّ، وأبي ثور، وكافّة السلف، وأهل العلم.

وقال أحمد بن حنبل: لا يُرى منها شيء، ولا ظفرها، ونحوه قول أبي بكر بن عبد الرحمن.

وأجمعوا أنها إن صلّت مكشوفة الرأس كلّه أن عليها إعادة الصلاة، واختلفوا في بعضه، فقال الشافعيّ، وأبو ثَوْر: تُعيد، وقال أبو حنيفة: إن انكشف أقلّ من ثلثه لم تُعِدْ، وكذلك أقلّ من ربع بطنها، أو فخذها، وقال أبو يوسف: لا تُعيد في أقلّ من النصف، وقال مالك: تُعيد في القليل والكثير من ذلك في الوقت.

واختُلف عندنا - أي المالكيّة - في الأمة تصلّي مكشوفة البطن، هل يُجزئها، أو لا بدّ من سترها جسدها؟.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: كلُّ شيء من الأمة عورة حتى ظفرها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب من قال: إن الفخذ من العورة؛ للأحاديث الواردة في ذلك:

(منها): حديث عليّ رضي الله عنه، قال: قال لي النبيّ عليه السلام: "ولا تُبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميت"، رواه أبو داود، وابن ماجه، وهو حديث حسن لشواهده.

(ومنها): حديث جَرْهَدٍ الأسلميّ، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ بُردة، وقد انكشف فخذي، فقال:"غَطِّ فخذك، فإن الفخذ عورة"، رواه مالك، وأحمد، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ، وصححه ابن حبّان، وعلّقه البخاريّ في "صحيحه"، وضعّفه في "تاريخه" للاضطراب في إسناده

(2)

.

(1)

"المفهم" 1/ 596 - 598.

(2)

راجع: بيان الاضطراب في: "التاريخ الكبير" 2/ 248 - 249، و"نصب الراية" 4/ 243 - 244.

ص: 200

(ومنها): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، وفخذه خارجة، فقال:"غَطّ فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته"، رواه أحمد، والترمذيّ، وهو حديث حسن لشواهده أيضًا.

(ومنها): حديث محمد بن جحش، قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا معه على معمر، وفخذاه مكشوفتان، فقال:"يا معمر، غَطّ فخذيك، فإن الفخذين عورة" رواه أحمد بإسناد حسن، والحاكم في "المستدرك"، وقال الزيلعيّ في "نصب الراية": إسناده صالح، وصححه الطحاويّ

(1)

.

والحاصل أن هذه الأحاديث لا شكّ في صحّتها بمجموعها، وقد صحّح بعضهم بعضها، وحسّن الآخرون بعضها، فهي صالحة للاحتجاج بها، فقد دلّت على أن الفخذ عورة، فهي أولى بالاحتياط من أحاديث انكشاف فخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أصحّ، ولذا قال الإمام البخاريّ في "صحيحه": ويُروى عن ابن عبّاس، وجَرْهد، ومحمد بن جحش، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الفخذ عورة"، وقال أنس: حَسَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الإزار عن فخذه، وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله عن حديث أنس هذا

(3)

: هذا محمول على أنه انكشف الإزار، وانحسر بنفسه، لا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعمّد كشفه، بل انكشف لإجراء

(1)

"مسند أحمد" 5/ 290، و"المستدرك" 4/ 180، و"معاني الآثار" 1/ 474 - 475، و"نصب الراية" 4/ 245.

(2)

"صحيح البخاريّ" في: "الصلاة"(12)"باب ما يُكره في الفخذ".

(3)

أراد بحديث أنس ما أخرجه الشيخان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فصلّينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ورَكِب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في زُقَاق خيبر، وإن ركبتي لتَمَسّ فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم حَسَر الإزار عن فخذه، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

ومثله ما أخرجاه أيضًا، واللفظ للبخاريّ عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا في مكان، فيه ماء، قد انكَشَف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها".

ص: 201

الفرس، ويدلّ عليه أنه ثبت في رواية في "الصحيحين":"فانحسر الإزار".

وقال أيضًا في حديث عائشة رضي الله عنها

(1)

: لا دلالة فيه على أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنه مشكوك في المكشوف، قال أصحابنا: لو صحّ الجزم بكشف العورة تأوّلناه على أن المراد كشف بعض ثيابه لا كلّها، قالوا: ولأنها قضيّة عين، فلا عموم لها، ولا حجة فيها. انتهى.

وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث ما ذكره غير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم: أن العورة عورتان: مخفّفة ومغلّظة، فالمغلّظة السوأتان، والمخفّفة الفخذان، ولا تنافي بين الأمر بغضّ البصر عن الفخذين؛ لكونهما عورةً، وبين كشفهما؛ لكونهما عورةً مخفّفةً. انتهى

(2)

.

ثم بعد أن كتبت ما تقدّم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله رسالة في لباس الصلاة، قد أجاد فيها، فأحببت إلحاقها بما سبق؛ لما حوته من التحقيق والتلخيص قال رحمه الله:

(فصل) في اللباس في الصلاة، وهو أخذ الزينة عند كل مسجد الذي يسميه الفقهاء:"باب ستر العورة في الصلاة".

فإن طائفة من الفقهاء ظنّوا أن الذي يُستَر في الصلاة هو الذي يُستر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، ثم قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الباطنة {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} والآية، فقال: يجوز لها في الصلاة أن تُبديَ الزينة الظاهرة دون الباطنة، والسلف قد تنازعوا في الزينة

(1)

هو ما أخرجه مسلم في: "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوّى ثيابه .... وفيه: فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تَهتشّ له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست وسوّيت ثيابك؟ فقال:"ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة".

(2)

راجع: "المجموع شرح المهذّب" 3/ 159 - 160.

ص: 202

الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود، ومن وافقه: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم، وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعيّ، وقول في مذهب أحمد، وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك.

وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرةٌ، وزينة غير ظاهرة، وجَوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يَرَى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تُظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] حُجِب النساء عن الرجال، وكان ذلك لَمّا تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر، ومنع النساء أن يُنظَرْنَ، ولَمّا اصطَفَى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر، قالوا: إن حَجَبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها، فلما أمر الله أن لا يُسأَلن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يُدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يُغَطِّي رأسها وسائر بدنها، وقد حَكَى أبو عبيد وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تُظْهِر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكُنّ النساء ينتقبن، وفي "الصحيح": أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كُنّ مأمورات بالجلباب؛ لئلا يُعْرَفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أُمِرت ألا تُظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين.

وعلى هذا فقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] يدُلّ على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها، وفيه قولان: قيل: المراد الإماء، والإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب، ورجحه أحمد وغيره، وقيل: هو

ص: 203

المملوك الرجل، كما قاله ابن عباس وغيره، وهو الرواية الأخرى عن أحمد.

فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، وقد جاءت بذلك أحاديث، وهذا لأجل الحاجة؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد، والمعامل، والخاطب، فإذا جاز نظر أولئك، فنظر العبد أولى، وليس في هذا ما يوجب أن يكون مَحْرَمًا يسافر بها، كغير أولي الإربة، فإنهم يجوز لهم النظر، وليسوا محارم يسافرون بها، فليس كلُّ من جاز له النظر جاز له السفر بها، ولا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة، وإن كان لا يخلو بها، ولا يسافر بها، فإنه لم يدخل في قوله:"لا تسافر امرأة إلا مع زوج، أو ذي محرم"، فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عَتَقَ، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طَلَّق أختها، والمحرم مَن تَحْرُم عليه على التأبيد، ولهذا قال ابن عمر: سفر المرأة مع عبدها ضَيعَةٌ.

فالآية رَخَّصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم، وحديث السفر، ليس فيه إلا ذَوُو المحارم، وذكر في الآية نساءهنّ، أو ما ملكت أيمانهن، وغير أولي الإربة، وهي لا تسافر معهم.

وقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال: احتراز عن النساء المشركات، فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة، ولا تدخُل معهنّ الحمّام، لكن قد كنّ النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها، فيرين وجهها ويديها، بخلاف الرجال، فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميّات، وليس للذميات أن يَطَّلِعن علي الزينة الباطنة، ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره، ولهذا كان أقاربها تُبدي لهن الباطنة، وللزوج خاصةٌ ليست للأقارب.

وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] دليل على أنها تُغَطِّي العنق، فيكون من الباطن لا الظاهر ما فيه من القلادة وغيرها. انتهى.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضًا:

(فصل):

فهذا ستر النساء عن الرجال، وستر الرجال عن الرجال، والنساء عن النساء في العورة الخاصة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة"، وكما قال: "احفظ عورتك إلا عن زوجتك،

ص: 204

أو ما ملكت يمينك"، قلت: يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعتَ أن لا يراها أحدٌ فلا يراها"، قال: قلت: يا نبيّ الله إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: "فالله أحق أن يستحيى منه"

(1)

.

ونَهَى أدت يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد، وقال عن الأولاد:"مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع"، فنَهَى عن النظر واللمس لعورة النظير؛ لما في ذلك من القبح والفحش.

وأما الرجال مع النساء، فلأجل شهوة النكاح، فهذان نوعان، وفي الصلاة نوع ثالث، فإن المرأة لو صَلَّت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانًا، ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عريانًا، ولو كان وحده، فعُلِم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع.

وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال.

فالأول مثل المنكبين، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء، فهذا لحقّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرّة تختمر في الصلاة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"

(2)

، وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تَكشِف رأسها لهؤلاء، ولا لغيرهم، وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب، وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند

(1)

حديث حسن، أخرجه الترمذيّ برقم (2794)، وابن ماجه (1920).

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في:"سننه" 1/ 173.

ص: 205

جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعيّ، وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوى، فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة، قالت:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].

قالت: الْفَتَخَ، حِلَق من فضة تكون في أصابع الرجلين، رواه ابن أبي حاتم.

فهذا دليلٌ على أن النساء كنّ يُظهرن أقدامهن أوّلًا كما يُظهرن الوجه واليدين، كنّ يُرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها، ولم يكن يمشين في خِفَاف وأحذية، وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيمٌ، وأم سلمة قالت:"تصلي المرأة في ثوب سابغ، يغطِّي ظهر قدميها"، فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم.

وبالجملة قد ثبت بالنصّ والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تَلْبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خَرَجت، وحينئذ فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كنّ يمشين أوّلًا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهنّ، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طردًا ولا عكسًا.

وابن مسعود رضي الله عنه لَمّا قال: الزينة الظاهرة هي الثياب، لم يقل: إنها كلَّها عورة حتى ظفرها، بل هذا قول أحمد، يعني أنها تشترط في الصلاة، فإن الفقهاء يُسَمُّون ذلك "باب ستر العورة"، وليس هذا من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالبيت عريانٌ، فالصلاة أولى، وسئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال:"أوَ لكلكم ثوبان؟ "، وقال في الثوب الواحد:"إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضَيِّقًا، فاتزر به"، ونَهَى أن يصلي الرجل في ثوب واحد، ليس على عاتقه منه شيء.

فهذا دليلٌ على أنه يؤمر في الصلاة بستر العورة: الفخذ، وغيره، وإن جوَّزنا للرجل النظر إلى ذلك، فإذا قلنا على أحد القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد: إن العورة هي السوأتان، وإن الفخذ ليست بعورة، فهذا في جواز نظر الرجل إليها، ليس هو في الصلاة والطواف، فلا يجوز أن يصلي الرجل مكشوف الفخذين، سواء قيل: هما عورة أو لا، ولا يطوف عريانًا، بل عليه

ص: 206

أن يصلي في ثوب واحد، ولا بُدّ من ذلك إن كان ضيقًا اتَّزَرَ به، وإن كان واسعًا التحف به، كما أنه لو صلى وحده في بيت، كان عليه تغطية ذلك باتّفاق العلماء.

وأما صلاة الرجل بادي الفخذين، مع القدرة على الإزار، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، ومن بَنَى ذلك على الروايتين في العورة، كما فعله طائفة، فقد غَلِطُوا، ولم يقل أحمد ولا غيره: إن المصلي يصلي على هذه الحال، كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين، فكيف يبيح له كشفَ الفخذ؟، فهذا هذا.

وقد اختُلِف في وجوب ستر العورة، إذا كان الرجل خاليًا، ولم يُختَلَف في أنه في الصلاة لا بدّ من اللباس، لا تجوز الصلاة عريانًا مع قدرته على اللباس باتّفاق العلماء، ولهذا جوَّز أحمد وغيره للعُرَاة أن يصلوا قعودًا، ويكون إمامهم وسطهم، بخلاف خارج الصلاة، وهذه الحرمة لا لأجل النظر، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، لَمّا قال: قلت: يا رسول الله، فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال:"فالله أحق أن يُستحيى منه من الناس"

(1)

، فإذا كان هذا خارج الصلاة، فهو في الصلاة أحقّ أن يُستَحْيى منه، فتؤخذ الزينة لمناجاته، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما لغلامه نافع لَمّا رآه يُصلي حاسرًا: أرأيت لو خرجت إلى الناس، كنت تخرج هكذا؟ قال: لا، قال: فالله أحقّ مَن يُتَجَمَّل له، وفي الحديث الصحيح لَمّا قيل له صلى الله عليه وسلم: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً؟، فقال:"إن الله جَمِيلٌ يحب الجمال"

(2)

.

وهذا كما أمر المصلي بالطهارة والنظافة، والطيب، فقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تتخذ المساجد في البيوت، وتُنَظَّف، وتُطَيَّب

(3)

.

وعلى هذا فيستتر في الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل، والمرأة

(1)

تقدّم أنه حديث حسنٌ.

(2)

أخرجه مسلم، وقد تقدّم في:"كتاب الإيمان".

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في:"سننه"(455)، وابن ماجه في:"سننه"(758).

ص: 207

من المرأة، ولهذا أُمرت المرأة أن تختمر في الصلاة، وأما وجهها ويداها وقدماها، فهي إنما نُهيت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تنه عن إبدائه للنساء، ولا لذوي المحارم.

فعُلِم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة التي نُهي عنها؛ لأجل الفحش، وقبح كشف العورة، بل هذا من مقدمات الفاحشة، فكان النهي عن إبدائها نهيًا عن مقدمات الفاحشة، كما قال في الآية:{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} [البقرة: 232]، وقال في آية الحجاب:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، فنَهَى عن هذا سدًّا للذريعة، لا أنه عورة مطلقة، لا في الصلاة ولا غيرها، فهذا هذا.

وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيدٌ جدًّا، واليدان يسجدان، كما يسجد الوجه، والنساء على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كان لهنّ قُمُصٌ، وكُنّ يصنعن الصنائع، والقمص عليهنّ، فتبدي المرأة يديها، إذا عجنت وطحنت وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا لبيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك القدمان، وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكن يصلين بقمصهنّ وخمرهن، وأما الثوب الذي كانت المرأة تُرخيه، وسألن عن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"شبرًا"، فقلن: إذن تبدو سوقهنّ، فقال:"ذراعًا، لا يزدن عليه"

(1)

، وقول عمر بن أبي ربيعة:

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ

فهذا كان إذا خرجن من البيوت، ولهذا سئل عن المرأة تَجُرّ ذيلها على المكان القَذِر، فقال:"يطهره ما بعده"

(2)

، وأما في نفس البيت، فلم تكن تلبس ذلك، كما أن الْخِفَاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السُّوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت، ولهذا قلن: إذن تبدو سوقهنّ، فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في:"سننه"، (4/ 65) عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإزار، فالمرأة يا رسول الله؟ قال:"ترخي شبرًا"، قالت أم سلمة: إذًا ينكشف عنها، قال:"فذراعًا لا تزيد عليه". انتهى.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود 1/ 104.

ص: 208

وقد رُوي: "أعروا النساء يلزمن الحجال"

(1)

، يعني إذا لم يكن لها ما تلبسه في الخروج لزمت البيت، وكنّ نساء المسلمين يصلين في بيوتهن، وقد قال النبيّ - صلي الله عليه وسلم -:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن"، ولم يؤمرن مع القمص إلا بالخمر، لم تؤمر بسراويل؛ لأن القميص يغني عنه، ولم تؤمر بما يغطي رجليها، لا خُفّ، ولا جَوْرب، ولا بما يغطي يديها، لا بقفازين، ولا غير ذلك.

فدَلّ على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك، إذا لم يكن عندها رجال أجانب.

وقد رُوي أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة، فإذا وضعت خمارها وقميصها، لم ينظر إليها، وروي في ذلك حديث عن خديجة رضي الله عنها.

فهذا القدر للقميص والخمار هو المأمور به لحقّ الصلاة، كما يؤمر الرجل إذا صلى في ثوب واسع أن يَلْتَحِف به، فيغطي عورته ومنكبيه، فالمنكبان في حقه كالرأس في حق المرأة؛ لأنه يصلي في قميص، أو ما يقوم مقام القميص، وهو في الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له، كالقميص والجبة، كما أن المرأة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، وأما رأسه فلا يخمره، ووجه المرأة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، قيل: إنه كرأس الرجل، فلا يُغَطَّى، وقيل: إنه كيديه فلا تغطي بالنقاب والبرقع، ونحو ذلك مما صُنِع على قدره، وهذا هو الصحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ إلا عن القفازين والنقاب، وكنَّ النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال، من غير وضع ما يجافيها عن الوجه، فعُلِم أن وجهها كيدي الرجل ويديها، وذلك أن المرأة كلَّها عورة كما تقدم، فلها أن تغطي وجهها ويديها، لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل، ويلبس الإزار، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله، وأفاد حيث بيّن أن العورة التي يُطلب سترها في الصلاة، من الرجال والنساء، غير العورة التي

(1)

حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 6/ 1.

(2)

"مجموع الفتاوى"(22/ 109 - 120).

ص: 209

يُطلب سترها في غير الصلاة، وهذا هو الحقّ، كما بيّنه رحمه الله، وفصّله تفصيلًا حسنًا، فتنبّه لهذا الفرق المفيد، فإن بعض الناس لا يميّز ذلك حقّ التمييز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[775]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَا مَكَانَ "عَوْرَةِ": "عُرْيَةِ الرَّجُل، وَعُرْيَةِ الْمَرْأَةِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك، واسمه دينار - وقد يُنسب إلى جدّ أبيه كما في هذا السند - الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8].

رَوَى عن أبيه، ومحمد بن عمرو بن علقمة حديثًا واحدًا، وهشام بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذيب، وكثير بن زيد الأسلمي، وموسى بن يعقوب الزَّمْعيّ، وعبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسَلَمَة بن وَرْدان، والضحاك بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وغيرهم.

ورَوى عنه الشافعي، وأحمد، والحميدي، وقتيبة، وأحمد بن صالح، وحاجب بن سليمان الْمَنبِجِيّ، والحسن بن داود المنكدري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، ودُحَيم، وهارون الحمال، وغيرهم.

قال النسائي: ليس به بأس. قال ابن معين: ثقةٌ. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 210

قال البخاريّ: مات سنة مائتين، وقال ابن سعد: مات سنة (99)، وقال مرّة: مات سنة إحدى ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.

وقوله: (عُرْيَةِ الرَّجُل، وَعُرْيَةِ الْمَرْأَةِ). قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا هذه اللفظة على ثلاثة أوجه: "عِرْية" - بكسر العين، وإسكان الراء - و"عُرْية" - بضم العين، وإسكان الراء - و"عُرَيَّة" - بضم العين، وفتح الراء، وتشديد الياء - وكلها صحيحةٌ، قال أهل اللغة: عِرية الرجل - بضم العين، وكسرها - هي مُتَجَرَّدُهُ، والثالثة على التصغير. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية ابن أبي فُدَيك هذه ساقها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 283)، فقال:

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عليّ بن المدينيّ، قال: ثنا ابن أبي فُديك، قال: ثنا الضحاك بن عثمان الأسديّ، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عِرْيَة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عِرْيَة المرأة، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تُفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد". انتهى، والله تعالى أعلم بالصمواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(17) - (بَابُ جَوَازِ الاغْتِسَالِ عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[776]

(339) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً،

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 30.

ص: 211

يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْأَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى عليه السلام عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا، إِلَّا أنَّهُ آدَرُ، قَالَ: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِه، قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَى بِإِثْرِه، يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْأَةِ مُوسَى، قَالُوا: وَاللهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، فَقَامَ الْحَجَرُ حَتَّى نُظِرَ إِلَيْه، قَالَ: فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنَّهُ بِالْحَجَرِ نَدَبٌ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى بِالْحَجَرِ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم قبل بابين أيضًا.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل الأبناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدوسيّ الصحابيّ الشهير، مات (57)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالصنعانيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأما أبو هريرة رضي الله عنه، فيمنيّ، ثم مدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "هذا ما حدّثنا أبو هريرة

إلخ"؛ إشارةً إلى أن هذا الحديث مما في صحيفة همّام بن منبّه المشهورة، وقد تقدّم بيان هذا وإيضاحه غير مرّة.

(1)

وفي نسخة: "ضربُ موسى الحجرَ".

ص: 212

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الصنعانيّ، أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى مجموع ما يورده من الأحاديث، وقد أسلفت آنفًا أن هذا الحديث من "صحيفة همّام بن منبّه" المشهورة، فاسم الإشارة مبتدأ خبره قوله:(مَا) اسم موصول، أي الذي (حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ)، أي حدّثناه، فالعائد على الموصول محذوف (عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة (فَذَكَرَ) الضمير لهمّام رحمه الله (أَحَادِيثَ، مِنْهَا)، أي من تلك الأحاديث التي ذكرها، فالجارّ والمجرور خبر مقذم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فجملة "وقال إلخ" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه ("كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، أي جماعاتهم، فهو كقوله تعالى:{آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]، وقوله:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]، فتأنيث الفعل على قول من يقول: حكم الجمع مطلقًا حكم المؤنث غير الحقيقيّ، وأما على قول من يقول: كل جمع مؤنّث، إلا جمع المذكّر السالم، فتأنيثه على خلاف القياس، أو باعتبار القبيلة

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: بنو إسرائيل هم أولاد يعقوب عليه السلام، فـ "إسرائيل": اسم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلًا، وهم: روبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وداني، ويفتالي

(2)

، وزبو لون، وجاد، ويساخر، وأشير، ويو سف، وبنيامين، وهم الذين سماهم الله الأسباط، وسُمُّوا بذلك؛ لأن كل واحد منهم والد قبيلة، والسبط في كلام العرب الشجرة الْمُلْتَفَّة الكثيرة الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل كالشعوب من العجم، والقبائل من العرب، وموسى عليه الصلاة والسلام من ذرية لاوي، وهو موسى بن عمران بن فاهث

(3)

بن لاوي

(4)

.

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 363.

(2)

وقع في بعض المصادر "نفتالي" بالنون.

(3)

وقع في بعض المصادر "قاهث" بالقاف.

(4)

"عمدة القاري" 3/ 340 - 341.

ص: 213

(يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً) بضمّ العين المهملة: جمع عار، كقاض وقُضاة، وانتصابه على الحال من الواو.

ثم إن ظاهره أن ذلك كان جائزًا في شرعهم، وإلا لَمَا أقرّهم موسى عليه السلام عليه السلام على ذلك، وكان هو عليه السلام يغتسل وحده؛ أخذًا بالأفضل، وأغرب ابن بطّال، فقال: هذا يدلّ على أنهم كانوا عُصاةً له، وتبعه على ذلك القرطبيّ، فأطال في ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": [فإن قلت]: كشف العورة حرام في حقّ غير الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فكيف الذي حصل من موسى عليه السلام؟.

[قلت]: ذاك في شرعنا، وأما في شرعهم فلا، والدليل عليه أنهم كانوا يغتسلون عُرَاةً، وموسى صلى الله عليه وسلم يراهم، لا يُنكر عليهم، ولو كان حَرَامًا لأنكره.

[فإن قلت]: إذا كان كذلك فلم كان موسى عليه السلام ينفرد في الخلوة عند الغسل؟.

[قلت]: إنما كان يفعل ذلك من باب الحياء، لا أنه كان يجب عليه ذلك، ويَحْتَمل أنه كان عليه إزار رقيق فظهر ما تحته لَمّا ابتل بالماء فرأوا أنه أحسن الخلق فزال عنهم ما كان في نفوسهم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال فيه نظرٌ، وسيأتي في كلام الحافظ ما يُبعده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْأَةِ بَعْضٍ)"السَّوْءَة" بفتح، فسكون: العورة، وهي فرج الرجل والمرأة، والتثنية سَوْءتان، والجمع سوآتٌ، سُمِّيت سَوْءَةً، لأن انكشافها للناس يسُوءُ صاحبها، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وجملة "ينظر

إلخ" حال من فاعل "يغتسلون" أيضًا.

(وَكَانَ مُوسَى عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ) منصوب على الحال بتأويله بـ "منفردًا"، كما قال في "الخلاصة":

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"

(1)

1/ 460.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 342.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 298.

ص: 214

وفي رواية للبخاريّ في كتاب "الأنبياء" من طريق الحسن وابن سيرين، وخِلاس كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن موسى كان رجلًا حَيِيًّا سَتِيرًا

(1)

، لا يُرى من جلده شيءٌ؛ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا الاستتار إلا من عيب بجلده: إما برصٌ، وإما أَدْرَةٌ، وإما آفةٌ

".

(فَقَالُوا)، أي بنو إسرائيل (وَاللهِ مَا) نافيةٌ (يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا، إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ) بالمدّ، وفتح الدال المهملة، وتخفيف الراء، قال الجوهريّ:"الأُدرة": نفخة في الْخِصية، وهي بفتحات، وحُكي بضمّ أوله، وإسكان الدال. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "آدر" زَعَمَ ثعلب في "الفصيح" أنه كآدم، وقال كراع في "المنتخب":"الأُدْرَة" على مثال فُعْلة: فَتْقٌ يكون في إحدى الْخِصيتين، وقال عليّ بن حمزة فيما ذكره ابن عميس: يقال: "أُدْرَةٌ"، و"أَدْرَةٌ" - بالضم، والفتح، وإسكان الدال، وبالفتح والتحريك - وفي "الْمُخَصَّص" لابن سِيدَهْ:"الأدرة": الْخُصية العظيمة أَدِرَ الرجلُ أَدَرًا، من باب فَرِحَ فَرَحًا، وقيل: الأَدَرُ الذي ينفتق صفَاقه

(2)

، فيقع قُصْبُهُ في صَفْنه، ولا يَنفَتِق إلا من جانبه الأيسر، وقد تَأَدَّر الرجل من داء يصيبه، والشَّرْج

(3)

ضدّه، وفي "الْمُحْكَم": الآدَرُ والْمَادُور: الذي ينفتق صِفَاقُهُ، وقيل: هو أن يصيبه فَتْقٌ في إحدى الْخِصيتين، ولا يقال: امرأة أَدْراء، إما لأنه لم يُسْمَع، وإما أن يكون لاختلاف الْخِلْقة، وقد أَدِرَ أَدَراء والاسم الأُدْرَة، وقيل: الْخِصية الأَدْراء: العظيمة من غير فَتْقٍ، وفي "الجامع": الأُدْرَة، والأَدَر: مصدران، واسم المنتفخة الأَدَرَة،

(1)

الحيي بفتح المهملة، وكسر التحتانيّة الخفيفة، بعدها أخرى مثقّلة، بوزن فَعِيل من الحياء، وقوله:"سَتِيرًا" بوزنه من الستر، ويقال: سِتِّيرًا بالتشديد، قاله في:"الفتح" 6/ 503 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم الحديث (3404).

(2)

"الصِّفَاق": ككتاب: الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والْمُصْرَان، أو جلد البطن كلّه. انتهى. "القاموس" 3/ 254.

(3)

"الشرْج": مثل فلس: ما بين الدبر والأنثيين، وأيضًا هو: مجمع حَلْقة الدبر الذي ينطبق، قاله في:"المصباح المنير" 1/ 308.

ص: 215

وقيل: أَدِرَ الرجلُ يَأْدَرُ: إذا أصابه ذلك، وفي "الصحاح": الأُدْرة: نفخة في الْخِصية، يقال: رجل آدرُ: بَيِّنُ الأَدَر، وفي "الجمهرة": هو العظيم الْخِصيتين. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الضمير للنبيّ عليه السلام، ويحتمل أن يكون لأبي هريرة رضي الله عنه حاكيًا ما سمع منه صلى الله عليه وسلم (فَذَهَبَ)، أي موسى عليه السلام (مَرَّةً يَغْتَسِلُ) جملة حاليّة، وهي حال مقدّرة، أي ذهب حال كونه مقدّرًا الاغتسال، فهو كقوله تعالى:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].

(فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) رُوي عن سعيد بن جبير: أنه قال: الحجر الذي وضع موسى عليه السلام ثوبه عليه، هو الذي كان يَحمِله معه في الأسفار، فيضربه، فيتفجر منه الماء، والله تعالى أعلم، ذكره في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": ظاهره أنه دخل الماء عريانًا، وعليه بوَّب البخاريّ في "كتاب الغسل":"من اغتسل عُرْيانًا"، قال: ونَقَل ابن الجوزيّ، عن الحسن بن أبي بكر النيسابوريّ أن موسى عليه السلام نزل إلى الماء مؤتزرًا، فلما خرج تتبع الحجر، والمئزر مبتلّ بالماء، عَلِمُوا عند رؤيته أنه غير آدر؛ لأن الأُدْرَة تَبِينُ تحت الثوب المبلول بالماء. انتهى.

قال: وهذا إن كان هذا الرجل قاله احتمالًا، فيحتمل، لكن المنقول يخالفه؛ لأن في رواية علي بن زيد، عن أنس، عند أحمد في هذا الحديث "أن موسى كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يُلْقِ ثوبه حتى يواري عورته في الماء". انتهى

(3)

.

(فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ)، وفي رواية البخاريّ المذكورة: "وإن الله أراد أن يُبرّئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عَدا بثوبه

".

(قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَى) مخفّف الميم: أي جَرَى أشدَّ الجري، قاله

(1)

"عمدة القاري" 3/ 341.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 342.

(3)

"الفتح" 6/ 554.

ص: 216

النوويّ، وقال ابن الأثير: أي أسرع إسراعًا، لا يرُدّه شيءٌ، وكلُّ شيء مضى لوجهه على أمر، فقد جَمَحَ. انتهى

(1)

.

وفي "القاموس": جَمَحَ الفرسُ، كمَنَعَ جَمْحًا، وجُمُوحًا، وجِمَاحًا، وهو جَمُوحٌ: اعتزَّ فارسه، وغَلَبَهُ. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": زعم ابن سِيدَهْ أنه يقال: جَمَح الفرسُ بصاحبه جَمْحًا، وجِمَاحًا: ذَهَب يجري جريًا عاليًا، وكلُّ شيء مضى ليس على وجهه، فقد جَمَح، قال نِفْطَوَيه: الدابة الْجَمُوح: هي التي تميل في أحد شقيها، وفي "التهذيب" لأبي منصور: فَرَسٌ جَمُوحٌ: إذا رُكِب، فلم يَرُدَّ اللجام رأسه، وهذا ذمّ، وفرسٌ جَمُوح: أي سريعٌ، وهذا مدحٌ. انتهى

(3)

.

(بِإِثْرِهِ) - بكسر الهمزة، وسكون الثاء المثلثة، وبفتحتين أيضًا - لغتان مشهورتان: أي بَعْدَهُ، وفي "القاموس":"الأثر" محرّكةً: بقيّة الشيء، جمعه آثارٌ بالمدّ، وأُثورٌ بالضمّ. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة" نقلًا عن "الواعي": "الأَثَرُ" محركةً: هو ما يُؤَثِّر الرَّجُلُ بقدمه في الأرض. انتهى

(5)

.

(يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "جَمَحَ"(ثَوْبِي) مفعول لفعل محذوف: أي أعطني، أو رُدّ ثوبي، والجملة مقول "يقول"(حَجَرُ) منادى بحذف حرف النداء، وهو جائز في السعة، كما قال في "الخلاصة":

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وقال الحريريّ رحمه الله في "مُلْحَته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

وفي رواية البخاريّ من الطريق المذكورة: "فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر"، وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الغسل" من طريق همّام:"ثوبي يا حجرُ" بذكر حرف النداء.

(1)

"النهاية" 1/ 291.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 218.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 341.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 362.

(5)

"عمدة القاري" 3/ 341.

ص: 217

وإنما خاطب موسى عليه السلام الحجر؛ لأنه أجراه مُجْرَى مَن يَعْقِل؛ لكونه فَرَّ بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان، فناداه، فلما لم يُطِعْه ضربه، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون موسى عليه السلام أراد أن يضربه إظهارًا للمعجزة بتأثير ضربه، ويَحْتَمِل أن يكون عن وحي؛ لإظهار الإعجاز، ومَشْيُ الحجرِ إلى بني إسرائيل بالثوب أيضًا معجزة أخرى لموسى عليه السلام

(1)

.

(ثَوْبِي حَجَرُ) كرّره للتوكيد (حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْأَةِ مُوسَى) أي عورته، وقد تقدّم ضبطها ومعناها آنفًا (قَالُوا: وَاللهِ مَا) نافية، ولا تعمل عمل "ليس"؛ لتقدم خبرها على اسمها، وهذا مذهب ابن مالك، كما بيّنه بقوله:

إِعْمَالَ "لَيْسَ" أُعْمِلَتْ "مَا" دُونَ "إِنْ"

مَعَ بَقَا النَّفْي وَتَرْتِيب زُكِنْ

وجوّز بعض النحاة إعمالها فيما إذا كان خبرَها ظرفًا، أو جارًّا ومجرورًا، كما هنا.

وقوله: (بِمُوسَى) الجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله: (مِنْ بَأْسٍ)، و"من" فيه زائدة، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ

نَكِرَةً كـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"

و"البأس" في الأصل هو: العذاب، والشدّة في الحرب، لكن المراد هنا الكناية عن الضرر والعيب، أي ليس بموسى عليه السلام ما كنّا نظنّه فيه من عيب خَلْقيّ، يمنعه من الاغتسال معنا عُريانًا، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ في "كتاب الأنبياء" من طريق روح بن عبادة، عن عوف:"حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون"، وفي روايةٍ له:"فرأوه كأحسن الرجال خَلْقًا، فبَرّأه مما قالوا"، وفي رواية قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عند ابن مردويه، وابن خزيمة:"وأَعْدَله صورةً"، وفي روايته:"فقالت بنو إسرائيل: قاتل الله الأَفّاكين، وكانت براءته".

(فَقَامَ الْحَجَرُ)، أي توقّف عن الجري (حَتَّى نُظِرَ إِلَيْهِ) ببناء الفعل

(1)

"عمدة القاري" 3/ 341.

ص: 218

للمفعول، أي حتى نظرت إليه بنو إسرائيل عريانًا، ورأوا سوأته، والمراد أن الحجر لَمْ يكتف برؤيتهم لموسى عليه السلام، وهو يجري، بل أوقفه الله تعالى عندهم؛ ليتأكّدوا من براءته مما آذوه به، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لأبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق آنفًا (فَأَخَذَ) موسى عليه السلام (ثَوْبَهُ) زاد عند البخاريّ:"فلبسه"(فَطَفَقَ) - بكسر الفاء، وفتحها - لغتان، ومعناه جَعَلَ، وأقبل، وصار ملتزمًا لذلك، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: "طَفِقَ" من أفعال المقاربة التي تدخل على المبتدأ، فترفعه، والخبر فتنصبه، وتُسمّى أفعال الشروع، وقد ذكرها ابنُ مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

.......................

وَتَرْكُ "أَنْ" مَعْ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا

كَـ "أَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو" وَطَفَقْ

كَذَا "جَعَلْتُ" وَ"أَخَذْتُ" وَ"عَلِقْ"

[تنبيهٌ آخر]: أفعال المقاربة ثلاثة أنواع:

(الأول): ما وُضع للدلالة على قرب الخبر، وهو ثلاثة:"كاد"، و"كَرِب"، و"أوشك".

(الثاني): ما وُضع للدلالة على رجائه، وهو ثلاثة:"عسى"، و"اخْلَوْلَق"، و"حَرَى".

(الثالث): ما وُضع للدلالة على الشروع فيه، وهو كثير، ومنه طَفِقَ، وهذه كلها ملازمة لصيغة الماضي، إلَّا أربعة، فاستُعْمِل لها مضارع، وهي "كاد"، و"أوشك"، و"طَفَقَ"، و"جَعَل"، واستُعمِل مصدر لاثنين، وهما "طفق"، و"كاد"، وحَكَى الأخفش طُفُوقًا عمن قال: طَفَقَ بالفتح، وطَفَقًا عمن قال: طَفِقَ بالكسر، أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقوله: (بِالْحَجَرِ) الباء فيه زائدة، و"الحجر" منصوب بقوله:(ضَرْبًا") لأنه نائب مناب يضرب، وقيل: هو منصوب بالفعل المقدّر، والجملة خبر "طَفَقَ".

وفي رواية للبخاريّ من الطريق المذكورة: "وطَفِقَ بالحجر ضربًا بعصاه".

(1)

شرح النوويّ" 4/ 33.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 342.

ص: 219

قال النوويّ رحمه الله: يجوز أن يكون موسى عليه السلام أراد بضرب الحجر إظهار معجزةٍ لقومه بأثر الضرب في الحجر، ويَحْتَمِل أنه أُوحي إليه أن يضربه لإظهار المعجزة، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": هو من تَتِمّة مقول همّام بن منبّه، وليس بمعلّق (وَاللهِ إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (بِالْحَجَرِ) خبر مقدّم لقوله:(نَدَبٌ) بالنون والدال المفتوحتين: أي أثَرٌ، قال في "المنتهى": النَّدَبُ: أَثَرُ الْجُرْح إذا لَمْ يرتفع عن الجِلْد، وجُرْحٌ نَدِيبٌ ذُو نَدَبٍ، وقد انتدَبْتُهُ: جعلته نَدَبًا وأَثَرًا، والجمع أَنْدابٌ ونُدُوبٌ، وفي "الاشتقاق" للرمّانيّ، عن الأصمعيّ: النَّدَبُ: هو الجرح إذا بقي منه أثَرٌ مُشرِفٌ، يقال: ضربه حتى أندبه. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: النَّدَبةُ: أَثَرُ الجرح الباقي على الجلد، جمعه نَدَبٌ، وأَندابٌ، ونَدِبَ الجُرْح، كفَرِحَ: صَلُبَتْ نَدَبَته، كأندب، ونَدِبَ الظهرُ نَدَبًا، ونُدُوبَةً ونُدُوبًا: صارت فيه نُدُوبٌ. انتهى

(3)

.

(سِتَّةٌ) بالرفع على البدليّة من "نَدَبٌ"، أي ستّة أَثار (أَوْ سَبْعَةٌ)"أو" للشكّ من الراوي، وقوله:(ضَرْبُ مُوسَى) خبر لمحذوف: أي هو ضرب موسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون منصوبًا بفعل مقدَّر، أي أعني، هذا إن صحّ روايةً.

وأعرب بعضهم قوله: "ستّةٌ أو سبعةٌ" خبرًا مقدّمًا، و"ضربُ موسى" مبتدأ مؤخّرًا، والوجه الأول أوضح وأولى، والله تعالى أعلم.

وفي رواية للبخاريّ: "فوالله إن بالحجر لندَبًا من أثر ضربه، ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا"، ووقع عند ابن مردويه من رواية حبيب بن سالم، عن أبي هريرة الجزم بستّ ضربات، قاله في "الفتح".

وقوله: (بِالْحَجَرِ) ووقع في نسخة: "الحجرَ"، وعلى الأول فالباء فيه زائدة، و"الحجر" مفعول لـ "ضَرْبُ"، ولا تكون الباء أصليّة متعلّقة بـ "ضربُ"؛

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 33.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 341.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 131.

ص: 220

لأن ضربه ليس بالحجر، وإنما هو بعصاه، كما نَصّ عليه في الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد في الرواية الآتية في "كتاب الفضائل" من طريق عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة رضي الله عنه قصّة نزول الآية، فقال:

(339)

وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثيّ، حدثنا يزيد بن زُريع، حدثنا خالد الحذّاء، عن عبد الله بن شقيق، قال: أنبأنا أبو هريرة، قال: كان موسى عليه السلام رجلًا حييًّا، قال: فكان لا يُرَى مُتَجَرِّدًا، قال: فقال بنو إسرائيل: إنه آدر، قال: فاغتسل عند مُوَيْهٍ، فوضع ثوبه على حجر، فانطلق الحجر يَسْعَى، واتبعه بعصاه يضربه، ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ حتى وقف على ملأٍ من بني إسرائيل، ونزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69].

وأخرجه البخاريّ في "كتاب الأنبياء" من طريق الحسن، وابن سيرين، وخِلاس، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال:

(3404)

حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثنا رَوْح بن عُبادة، حدثنا عوفٌ، عن الحسن ومحمد وخِلاس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلًا حييًّا سَتِيرًا لا يُرَى من جلده شئٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التّسَتُّر إلَّا من عيب بجلده، إما بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وإما افةٍ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسي، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عَدَا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فرأوه عُرْيانًا، أَحْسَنَ ما خلق اللهُ، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطَفِق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لنَدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، فذلك قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} .

قال في "الفتح": قوله: "فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} لَمْ يقع هذا في رواية هَمّام، ورَوَى ابن

ص: 221

مردويه من طريق عكرمة، عن أبي هريرة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية، قال: إن بني إسرائيل كانوا يقولون: إن موسى آدر، فانطلق موسى إلى النهر يغتسل

" فذكر نحوه، وفي رواية علي بن زيد: "فرأوه ليس كما قالوا، فأنزل تعالى:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ". انتهى

(1)

.

[تنبيهٌ آخر]: رَوَى أحمد بن منيع في "مسنده" بإسناد حسن

(2)

، والطحاويّ، وابن مردويه من حديث عليّ أن الآية المذكورة نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون؛ لأنه توجه معه إلى زيارة، فمات هارون، فدفنه موسى، فطَعَن فيه بعض بني إسرائيل، وقالوا: أنت قتلته، فبرأه الله تعالى بأن رَفَعَ لهم جسد هارون عليه السلام، وهو ميت، فخاطبهم بأنه مات، وفي الإسناد ضعف، ولو ثبت لَمْ يكن فيه ما يمنع أن يكون في الفريقين معًا؛ لصدق أن كلًّا منهما آذى موسى، فبرأه الله مما قالوا، قاله في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[17/ 776](339)، وفي "كتاب الفضائل"، و (البخاريّ) في "كتاب الغسل"(278)، و"كتاب أحاديث الأنبياء"(3404)، و"تفسير القرآن"(4799)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3221)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 314 و 315)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(67)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(22/ 51 و 52)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(1)

"الفتح" 6/ 504 في: "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3404).

(2)

هكذا في: "الفتح"(6/ 505)"بإسناد حسن"، ولا يخفى ما فيه؛ لأنه قال في آخره: وفي الإسناد ضعف، اللهم إلَّا أن يريد بعض الأسانيد، وفيه بعد، فتأمل، والله أعلم.

(3)

"الفتح" 6/ 505.

ص: 222

(801)

، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(765)، وهو في "صحيفة همّام بن منبّه" برقم (61)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز التعرّي في الخلوة للغسل وغيره بحيث يَأْمَن أعين الناس، قال النوويّ رحمه الله: فيه التكشف في الخلوة، وأما بحضرة الناس فيحرم كشف العورة، قال العلماء: والتستر بمئزر ونحوه في حال الاغتسال في الخلوة أفضل من التكشف، والتكشف جائز مُدّة الحاجة في الغسل ونحوه، والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصحّ كما قدمنا في الباب السابق أن ستر العورة في الخلوة واجب على الأصح إلَّا في قدر الحاجة، قال: وموضع الدلالة من هذا الحديث أن موسى عليه الصلاة والسلام اغتسل في الخلوة عُريانًا، وهذا يَتِمّ على قول من يقول من أهل الأصول: إن شرع من قبلنا شرع لنا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: يأتي قريبًا أن القول بالاحتجاج بشريعة من قبلنا هو الحقّ بشروط تأتي، فتنبّه.

2 -

(ومنها): بيان جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية إليه، من مُداواة، أو براءة من العيوب، أو إثباتها، كالبرص، كما لو ادَّعَى أحدُ الزوجين على الآخر البرصَ؛ لِيُفْسَخ النِّكَاحُ فأنكر، وغير ذلك مما يتحاكم الناس فيه مما لا بُدّ فيه من رؤية العورة بالبصر، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قد قدمنا في الباب السابق أنه يجوز كشف العورة في موضع الحاجة في الخلوة، وذلك كحالة الاغتسال، وحال البول، ومعاشرة الزوجة، ونحو ذلك، فهذا كله جائز. انتهى.

3 -

(ومنها): جواز الحلف على الإخبار، كحلف أبي هريرة رضي الله عنه هنا.

4 -

(ومنها): الدلالة على معجزة موسى عليه السلام، وهو مشي الحجر بثوبه إلى ملأ من بني إسرائيل، ونداؤه عليه السلام له، وتأثير ضربه فيه.

5 -

(ومنها): بيان أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في خَلْقهم

(1)

6/ 504 - 505.

ص: 223

وخُلُقهم على غاية الكمال، وأن من نَسَبَ نبيًّا من الأنبياء إلى نقص في خِلْقته فقد آذاه، ويُخْشَى على فاعله الكفر.

6 -

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً لموسى عليه السلام.

7 -

(ومنها): بيان أن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى عليه السلام عَلِمَ أن الحجر ما سار بثوبه إلَّا بأمر من الله عز وجل، ومع ذلك عامله معاملة مَن يعقل حتى ضربه، ويَحْتَمِل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصا في الحجر.

8 -

(ومنها): بيان ما كان في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصبر على الجهّال، واحتمال أذاهم، وجعل الله تعالى العاقبة لهم على من آذاهم.

9 -

(ومنها): جواز المشي عريانًا للضرورة، وقال ابن الجوزيّ: لَمّا كان موسى عليه السلام في خلوة، وخرج من الماء، فلم يجد ثوبه، تبع الحجر بناءً على أن لا يصادف أحدًا، وهو عريان، فاتَّفَقَ أنه كان هناك قومٌ، فاجتاز بهم، كما أن جوانب الأنهار وإن خلت غالبًا، لا يؤمن من وجود قوم قريب منها، فبنى الأمر على أنه لا يراه أحدٌ؛ لأجل خلاء المكان، فاتّفَقَ رؤية من رآه.

قال الحافظ: والذي يظهر أنه استَمَرَّ يتبع الحجر على ما في الخبر، حتى وَقَفَ على مجلس لبني إسرائيل، كان فيهم من قال فيه ما قال، وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة، لَمْ يقع ذلك الموقع. انتهى، وهو تحقيقٌ جيّد.

10 -

(ومنها): أن صنيع المصنّف رحمه الله يدلّ على أنه يرى الاحتجاج بشريعة من قبلنا، وهو أيضًا مذهب البخاريّ رحمه الله حيث أورداه احتجاجًا لجواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، وهو الحقّ، بشروط، وقد ذكرتُ ذلك في "التحفة المرضيّة" في الأصول، حيث قلتُ:

وَشَرْعُ مَنْ قَبْلُ ثَلَاثَةً يُرَى

شَرْعٌ لَنَا بِلَا خِلَافٍ قَدْ جَرَى

وَهُوَ مَا صَحَّ لَدَيْنَا شَرْعَا

وَعِنْدَهُمْ كَالصَّوْم خُذْهُ قَطْعَا

وَالثَّانِ مَا لَيْسَ لَنَا بِشَرْعِ

بِلَا خَلَافٍ بَيْنِ أَهْلِ الْقَطْعِ

وَهُوَ مَا لَيْسَ لَدَيْنَا مُثْبَتَا

كَوْنُهُ شَرْعَهُمْ بِنَقْلٍ ثَبَتَا

ص: 224

مِثْلُ الَّذِي نُقِلَ مِمَّا سَلَفَا

مِنْ كُتُبٍ تَحْرِيفُهُمْ لَهَا وَفَا

أَوْ هُوَ ثَابِتٌ وَلَكِنْ وُضعَا

كَالإِصْرِ وَالأَغْلَالِ إِذْ قَدْ رُفِعَا

ثَالِثُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ مَا اشْتَمَلْ

عَلَى ثَلَاثَةِ ضَوَابِطَ اكْتَمَلْ

أَوَّلُهَا كَوْنُهُ شَرْعَ مَنْ سَبَقْ

ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فَاتَّسَقْ

وَثَانِهَا أَنْ لَا يَجِي فِي شَرْعِنَا

مُؤَيِّد لَهُ وَإِلَّا شَرْعُنَا

ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَجِي مَا يُبْطِلُهْ

فِي شَرْعِنَا فَإِنْ يَجِي لَا نَقْبَلُهْ

فَذِي الضَّوَابِطُ إِذَا تَوَفَّرَتْ

بِهِ احْتِجَاجُ الْأَكْثَرِينَ قَدْ ثَبَتْ

وَهْوَ الصَّوَابُ إِذْ إِلَاهُنَا عَلَا

مَا قَصَّ الاخْبَارَ سِوَى أَنْ نَعْمَلَا

كَذَلِكَ الرَّسُولُ لَمَّا أَخْبَرَا

عَنْ رَجُلٍ بِسَقْي كَلْبٍ أُجِرَا

سُئِلَ هَلْ نُؤْجَرُ فِي الْبَهَائِمِ

قَالَ نَعَمْ مُقَرِّرًا لِلْهَائِمِ

وَرَدُّ ذَا الْخِلَافِ لِلَّفْظِ لِمَنْ

أَمْعَنَ فِي النَّظَرِ تَوْجِيهٌ حَسَنْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(18) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمَشْيِ عُرْيَانًا، وَالاعْتِنَاءِ بِحِفْظِ الْعَوْرَةِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[777]

(340) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ، ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ حِجَارَةً، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى عَاتِقِكَ، مِنَ الْحِجَارَة، فَفَعَلَ، فَخَرَّ إِلَى الْأَرْض، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاء، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ:"إِزَارِي، إِزَارِي"، فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ في رِوَايَتِهِ: عَلَى رَقَبَتِكَ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عَاتِقِكَ).

ص: 225

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المعروف بابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) البغداديّ، مروزيّ الأصل المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

4 -

(إِسْحَاق بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ العابد، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

7 -

(ابْنُ جُرَبجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج الأُمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يرسل، ويُدلّس 61، (ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

8 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [41](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

9 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات بعد (75) من الهجرة، وهو ابن (94) سنة (ع)، تقدّم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بين اثنين منهم على حسب اختلاف كيفيّة التحمّل، كما أوضحته غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو وأبو داود، والثالث ما أخرج له أبو داود، والرابع ما أخرج له ابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع.

4 -

(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 226

شرح الحديث:

عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ)، أي لَمّا بُدئ بناؤها، قيل: سمّيت الكعبة بهذا الاسم؛ لعلوّها وارتفاعها، ومنه الكعب للعظم البارز في القدم، وقيل: لاستدارتها وعلوّها، ومنه قيل للفتاة: كاعب إذا برز ثديها واستدار، وقيل: لأنَّها مكعّبة الشكل، طولها مثلُ عرضها، ومثل ارتفاعها

(1)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مرسل صحابيّ، وقد قدَّمنا أن العلماء من الطوائف، متفقون على الاحتجاج بمرسل الصحابيّ، إلَّا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائنيّ، من أنه لا يحتج به، وقد تقدم دليل الجمهور في الفصول المذكورة في أول الكتاب. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": هذا من مرسل الصحابيّ؛ لأن جابرًا رضي الله عنه لَمْ يُدْرِك هذه القصة، فيَحتَمِل أن يكون سمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو ممن حضرها من الصحابة رضي الله عنهم.

وقد رَوَى الطبرانيّ، وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق ابن لَهِيعة، عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا: هل يقوم الرجل عريانًا؟ فقال: أخبرني النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لَمّا انهدمت الكعبة، نَقَلَ كلُّ بطن من قريش، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَقَل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق، يتَقَوَّوْن بها - أي على حَمْل الحجارة - فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فاعتُقِلت رجلي، فخَرَرت، وسقط ثوبي، فقلت للعباس: هَلُمَّ ثوبي، فلست أَتَعَرَّى بعدها، إلَّا إلى الغسل"، لكن ابن لَهِيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان، عن أبي الزبير، ذكره أبو نعيم.

قال الحافظ رحمه الله: فإن كان محفوظًا، وإلا فقد حضره من الصحابة العباس، كما في حديث الباب، فلعلَّ جابرًا حمله عنه.

ورَوَى الطبرانيّ أيضًا، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق عمرو بن أبي قيس، والطبريّ في "التهذيب" من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في "المعرفة" من طريق قيس بن الربيع، وفي "الدلائل" من طريق شعيب بن خالد،

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 364.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 34.

ص: 227

كلهم عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثني أبي العباسُ بن عبد المطلب، قال:"لما بَنَتْ قريشٌ الكعبة، انفرَدنا رجلين رجلين، ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، فجعلنا نأخذ أُزُرنا، فنضعها على مناكبنا، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لَبِسنا أُزُرنا، فبينما هو أمامي، إذ صُرع، فسعيت، وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال: فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نُهِيت أن أمشي عريانًا، قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته"، تابعه الحكم بن أبان، عن عكرمة، أخرجه أبو نعيم أيضًا.

ورُوِيَ ذلك أيضًا من طريق النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، ليس فيه العباس، وقال في آخره:"فكان أوّل شيء رأى من النبوة"، والنضر ضعيف، وقد خَبَط في إسناده، وفي متنه، فإنه جَعَل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب، وهو غلام.

وكذا رَوَى ابن إسحاق في "السيرة" عن أبيه، عمن حدَّثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إني لمع غلمان هم أسناني، قد جعلنا أُزُرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها، إذ لَكَمني لاكم لَكْمةً شديدةً، ثم قال: اشدُد عليك إزارك".

قال الحافظ: فكأنّ هذه قصة أخرى، واغتَرّ بذلك الأزرقيّ، فَحَكَى قولًا:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا بُنِيت الكعبةُ كان غلامًا"، ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي

(1)

عن معمر، عن الزهريّ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر يتعلّق ببناء الكعبة]: أخرج عبد الرزاق، ومن طريقه الحاكم، والطبرانيّ من حديث أبي الطفيل قال: "كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرَّضْم

(3)

، ليسس فيها مَدَرٌ، وكانت قدر ما يقتحمها الْعَنَاق، وكانت ثيابها توضع عليها تُسْدَل سَدْلًا، وكانت ذات ركنين، كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبًا من جُدّة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها،

(1)

أي: في التنبيه التالي.

(2)

"الفتح" 3/ 516 - 517 "كتاب الحج " رقم (1586).

(3)

"الرَّضْمُ" بفتح، فسكون، ويُحرّك، وككتاب: صُخُور عِظامٌ، يُرضم بعضها فوق بعض في الأبنية، قاله في:"القاموس المحيط" 4/ 120.

ص: 228

فوجدوا الروميّ الذي فيها نَجّارًا، فقَدِمُوا به وبالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كُلَّما أرادوا القرب منه لهدمه بَدَت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرًا أعظم من النَّسْر، فغرز مخالبه فيها، فالقاها نحو أجياد، فهَدَمَت قريش الكعبة، وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِل الحجارة من أجياد، وعليه نَمِرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خَمِّر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين".

قال معمر: وأما الزهريّ، فقال: الَمّا بَلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الْحُلُم، أجمرت امرأة الكعبةَ، فطارت شِرارة من مِجْمَرها في ثياب الكعبة، فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها، وهابوه، فقال الوليد: إن الله لا يُهلك مَن يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت، ومعه العباس، فقال: اللهم لا نريد إلَّا الإصلاح، ثم هَدَم، فلما رأوه سالمًا تابعوه".

قال عبد الرزاق: وأخبرنا ابن جريجٍ، قال: قال مجاهد: كان ذلك قبل المبحث بخمس عشرة سنةً، وكذا رواه ابن عبد البر، من طريق محمد بن جبير بن مطعم، بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في "مغازيه"، والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق.

قال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء.

وذكر ابن إسحاق أن السيل كان يأتي، فيصيب الكعبة، فيتساقط من بنائها، وكان رَضْمًا فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نَفَرًا سَرَقُوا كنز الكعبة، فذَكَر القصة مطولةً في بنائهم الكعبة، وفي اختلافهم فيمن يَضَع الحجر الأسود، حتى رَضُوا باول داخل، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحَكَّمُوه في ذلك، فوضعه بيده، قال: وكانت الكعبة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا.

ووقع عند الطبرانيّ من طريق أخرى، عن ابن خُثَيم، عن أبي الطفيل: أن اسم النجار المذكور باقوم، وللفاكهيّ من طريق ابن جريجٍ مثله، قال: وكان يَتّجِر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشُّعَيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عِيري مع عِيركم إلى الشام، أعطيتكم الخشب، ففعلوا.

ص: 229

ورَوَى سفيان بن عيينة في "جامعه" عن عمرو بن دينار، أنه سمع عُبيد بن عُمير يقول: اسم الذي بَنَى الكعبة لقريش باقوم، وكان رُومِيًّا.

وقال الأزرقيّ: كان طولها سبعة وعشرين ذراعًا، فاقتَصَرت قريش منها على ثمانية عشر، ونَقَصُوا من عرضها أذرعًا أدخلوها في الْحِجْر، والله تعالى أعلم

(1)

.

(ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَبَّاس) بن عبد المطّلب، فـ "عبّاس" مرفوعٌ عطفًا على "النبيُّ"، ويجوز نصبه - إن صحّ روايةً - على أنه مفعول معه (يَنْقُلَانِ حِجَارَةً) الجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى عَاتِقِكَ، مِنَ الْحِجَارَةِ) معناه: لِيَقِيك الحجارة، أو من أجل الحجارة، وفي رواية محمد بن رافع:"على رقبتك"، وفي رواية زكريا بن إسحاق الآتية:"على منكبك".

و"العاتق": ما بين المنكب والعنق، وهو موضع الرداء، وجمعه عَوَاتِق، وعُتْقٌ - بضمّ، فسكون - وعُتَّقٌ - بضمّ، فتشديد تاء - وهو مُذَكَّر، قال في "اللسان": وقد أُنِّث، وليس يَثبُتُ، وزعموا أن هذا البيت مصنوعٌ، وهو:

لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةٌ

اتَّسَعَ الْفَتْقُ عَلَى الرَّاتِقِ

لَا صُلْحَ بَيْنِي فَاعْلَمُوهُ وَلَا

بَيْنَكُمُ مَا حَمَلَتْ عَاتِقِي

سَيْفِي وَمَا كُنَّا بِنَجْدٍ وَمَا

قَرْقَرَ قُمْرُ الْوَادِ بِالشَّاهِقِ

قال ابن بَرّيّ: العاتق مؤنّثة، واستشهد بهذه الأبيات، وقال اللحيانيّ: هو مذكّرٌ لا غيرُ. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: أنشد ابن عصفور رحمه الله في ذكر الأعضاء التي تُذكَّر وتؤنّث، فقال [من الطويل]:

وَهَاكَ مِنَ الأَعْضَاءِ مَا قَدْ عَدَدتُهُ

يُؤَنَّثُ أَحْيَانًا وَحِينًا يُذَكَّرُ

لِسَانُ الْفَتَى وَالْعُنْقُ وَالإِبْطُ وَالْقَفَا

وَعَاتِقُهُ وَالْمَتْنُ وَالضِّرْسُ يُذْكَرُ

وَعِنْدِي ذِرَاعٌ وَالْكُرَاعُ مَعَ الْمِعَى

وَعَجْزُ الْفَتَى تَمَّ الْقَرِيضُ الْمُحَبَّرُ

(1)

"الفتح" 3/ 516 - 517 "كتاب الحج" رقم (1586).

(2)

"لسان العرب" 10/ 237 - 238.

ص: 230

كَذَا كُلّ نَحْوِيٍّ حَكَى فِي كِتَابِهِ

سِوَى سِيبَوَيْهِ وَهْوَ فِيهِمُ مُكْبَرُ

يَرَى أَنَّ تَأنِيثَ الذِّرَاعِ هُوَ الَّذِي

أَتَى وَهْوَ لِلتَّذْكِيرِ فِي ذَاكَ مُنْكِرُ

(1)

(فَفَعَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أمره به العباس رضي الله عنه من جعل إزاره على عاتقه؛ ليقيه من الحجارة (فَخَرَّ)، أي سقط صلى الله عليه وسلم (إِلَى الْأَرْضِ) في رواية زكريا بن إسحاق، الآتية:"فَحَلَّهُ، فجعله على منكبه، فسَقَط مَغْشِيًّا عليه"، (وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ) بفتح الحاء المهملة والميم: أي ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوقُ (إِلَى السَّمَاءِ) متعلّق بـ "طَمَحَت"، (ثُمَّ قَامَ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ)، وفي رواية عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ عند البخاريّ:"ثم أفاق، فقال"("إِزَارِي، إِزَارِي") بالتكرار، أي أعطني إزاري (فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ) زاد في رواية زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار الآتية:"في رُؤي بعد ذلك عُريانًا".

(قَالَ ابْنُ رَافِعٍ) هو محمد شيخه الرابع في هذا السند (فِي رِوَايَتِهِ: عَلَى رَقَبَتِكَ) أبدل قول الآخرين: "على عاتقك"(وَلَمْ يَقُلْ)، أي ابن رافع (عَلَى عَاتِقِكَ) مؤكّد وموضّح لما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف رحمه الله) هنا في "الحيض"[18/ 777 و 778](340)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(364)، و"الحجِّ"(1582)، وفي "كتاب المناقب"(3829)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(1103)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 295 و 310 و 333 و 380)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1603)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(802 و 803 و 804)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(766 و 767)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 364.

ص: 231

1 -

(منها): بيان بعض ما أكرم الله تعالى به رسولَه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مصونًا محميًّا في حغره عن القبائح، وأخلاق الجاهلية، وقد تقدّم بيان عصمة الأنبياء - صلوات الله عليهم - في "كتاب الإيمان"، وجاء في رواية في غير "الصحيحين":"أن الملك نَزَل، فشَدّ عليه صلى الله عليه وسلم إزاره"، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان جبله الله تعالى على أحسن الأخلاق، والحياء الكامل، حتى كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، فلذلك غُشِي عليه لَمّا تعرّى من إزاره، وانكشفت عورته، فلم يُرَ بعد ذلك عريانًا.

3 -

(ومنها): أنه لا يجوز التعري للإنسان بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشي عريانًا بحيث لا يَأْمَن أعين الآدميين إلَّا ما رُخّص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عُرَاةً.

4 -

(ومنها): استحباب المشاركة في فعل الخير، والمسارعة إليه؛ فقد ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم لنقل الحجارة مع قريش لبناء الكعبة الشريفة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج الطبرانيّ بسنده عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس قال: كنا ننقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت، وأفردت قريش رجلين رجلين ينقلون الحجارة، والنساء ينقلن الشِّيد، وكنت أنا وابن أخي، فكنا ننقل على رقابنا، وأزُرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس اتزرنا، فبينا أنا أمشي ومحمد صلى الله عليه وسلم قُدّامي، ليمس عليه إزار خَرّ، فانبطح على وجهه، فجئت أسعى، والقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره، فقال:"نُهِيت أن أمشي عُريانًا"، فقلت: اكتُمْها مخافةَ أن يقولوا مجنون. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث، وإن كان في سنده مقال؛ لأن سماكًا مضطرب في روايته عن عكرمة، لكنه صحيح بشواهده، كحديث جابر رضي الله عنه المذكور في الباب.

ثم قيل: إنه يدُلّ على أنه لا يجوز التعرّي في الخلوة، ولو لَمْ يكن مع الناس.

لكن الذي يظهر لي أنه محمول على الحال التي كان عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت قريش، رجالُها ونساؤها تنقل معه الحجارة، فقال: "نهيت أن أمشي

ص: 232

عريانًا"، أي في مثل هذه الحالة، فلو كان ذلك نَهْيًا عن التعري في كلّ مكان، لكان قد نهاه عنه في غسل الجناية في الموضع الذي قد أَمِن أن يراه فيه أحد، ولكنه نهاه عن التعرّي بحيث يراه فيه أحد.

قال العينيّ رحمه الله؛ والقعودُ بحيث يراه مَن لا يحل له أن يرى عورته في معنى المشي عريانًا، ولذلك نَهَى الشارع عن دخول الحمام بغير إزار. انتهى

(1)

،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[778]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِياءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَة، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَهُ عَلَى مَنْكِبِكَ، دُونَ الْحِجَارةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبِه، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْه، قَالَ: فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عُرْيَانًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء القَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ)، أي مع قريش.

وقوله: (لِلْكَعْبَةِ)، أي لأجل بناء الكعبة.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 107.

ص: 233

وقوله: (وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ) جملة حاليّة من الفاعل.

وقوله: (عَمُّهُ) بالرفع على أنه بدلٌ من العبّاس، أو عطف بيان له.

وقوله: (لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ)"لو" يَحْتَمِل أن تكون للتمنّي، فلا تحتاج إلى الجواب، ويَحْتَمِل أن تكون شرطيّة، وجوابها محذوف، أي لكان أرفق بك، وأسهل عليك.

وقوله: (عَلَى مَنْكِبِكَ) بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الكاف، وزانُ مَجْلِس: مُجتَمَع رأس الْكَتِف والعَضُد.

وقوله: (دُونَ الْحِجَارَةِ)، أي تحت الحجارة، والمراد وضع الإزار على المنكب ليكون حائلًا بين الحجارة والكتف؛ تخفيفًا لصلابة الحجارة على الكتف.

وقوله: (قَالَ: فَحَلَّهُ) يحتمل أن يكون مقول جابر رضي الله عنه، أو مقول من حدّثه، قاله العينيّ

(1)

.

وقوله: (مَغْشِيًّا عَلَيْهِ)، أي مُغْمًى عليه؛ وذلك لانكشاف عورته، و"مغشيّ" مفعولٌ من غُشي عليه بالبناء للمفعول، فأصله مغشويّ، كمنصور، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وأُدغمت في الياء، فصار مَغْشيًّا، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيا .... وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا

وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا

قال الفيّوميّ رحمه الله: غُشِيَ عليه بالبناء للمفعول غَشْيًا بفتح الغين، وضمُّها لغةٌ، والْغَشْيةُ بالفتح: المرّة، فهو مَغْسيّ عليه، ويُقال: إن الغشي يُعطِّل القُوَى المحرِّكة، والأَورِدة الحسّاسة؛ لضعف القلب بسبب وجع شديد، أو بَرْد، أو جُوعٍ مُفرط، وقيل: الغشيُ: هو الإغماء، وقيل: الإغماء: امتلاء بُطون الدماغ من بَلْغم بارد غليظ، وقيل: الإغماء: سهوٌ يَلْحَقُ الإنسان مع فُتُور الأعضاء لعلّة. انتهى

(2)

.

(1)

عمدة القاري" 4/ 107.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 447 - 448.

ص: 234

وقوله: (قَالَ: فَمَا رُئِيَ) بضمّ الراء، بعدها همزة مكسورة، ويجوز كسر الراء، بعدها ياء ساكنة، ثم همزة مفتوحة

(1)

.

وقوله: (عُرْيَانًا) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "رُئي"، إن كانت علميّةً، أو منصوب على الحال من نائب فاعل"رُئِي"، إن كانت بصريّةً، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[779]

(341) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ أَحْمِلُهُ ثَقِيلٍ، وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ، قَالَ: فَانْحَلَّ إِزَارِي، وَمَعِيَ الْحَجَرُ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ، حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ، فَخُذْهُ، وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربّما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

2 -

(أَبُوهُ) هو: يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَل، صدوقٌ يُغرِبُ، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ الْأَنصَارِيُّ) الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [5](ت قبل 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) هو: أسعد بن سهل بن حُنيف - بضمّ المهملة - الأنصاريّ، مشهور بكنيته، وُلِد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسُمّي باسم جده لأمه أسعد بن زُرارة، وكُنِي بكنيته، وهو معدود في الصحابة؛ لرؤيته، ولم يَسمَع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسم أمه حبيبة بنت أسعد.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 107.

ص: 235

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، وعثمان، وعمِّه عثمان، وأبيه سهل، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وزيد بن ثابت، وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابناه: سهل ومحمد، وابنا عمّه: عثمان وحكيم، ابنا حكيم بن عباد بن حُنيف، وابن عمه: أبو بكر بن عثمان بن حنيف، والزهريّ، ويحيى بن سعيد، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وآخرون.

وقال أبو معشر المدنيّ: رأيته شيخًا كبيرًا يَخْضِب بالصفرة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال سعيد بن السَّكَن: وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا، وكذا قال البغويّ، وابن حبان، وقال يونس، عن ابن شهاب: أخبرني أبو أُمامة بن سهل، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم، وقال غيره: وُلد قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعامين، وقال الطبرانيّ: له رؤيةٌ، وقال أبو زرعة: لَمْ يسمع من عمر، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي قيل له: هو ثقة؟ فقال: لا يُسأل عن مثله، هو أجلّ من ذاك، وقال أبو منصور الباورديّ: مختلف في ححبته، إلَّا أنه وُلد في عهده صلى الله عليه وسلم، وهو ممن يُعَدّ في الصحابة الذين رَوَى عنهم الزهريّ، وقال السُّلَمِيّ: سئل الدارقطنيّ، هل أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: نعم، وأخرج حديثه في "المسند"، وقال البخاريّ: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، وقال أحمد بن صالح: ثنا عنبسة، ثنا يونس، عن الزهريّ، حدثني أبو أمامة، وكان قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسَمّاه، وحَنَكه، وهذا إسناد صحيح، ونَقَل ابن مَنْدَهْ عن أبي داود أنه قال: صَحِبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وبايعه، قال ابن مندهْ: وقول البخاريّ أصحّ.

وقال خليفة وغيره: مات سنة مائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

5 -

(الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب، الزهريّ، أبو عبد الرَّحمن، أمه الشفاء بنت عوف، أخت عبد الرَّحمن بن عوف.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وعن أبيه، وخاله عبد الرَّحمن بن عوف، وأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن عوف، وعثمان، وعليّ، ومعاوية،

ص: 236

والمغيرة، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة، وابن عباس، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنته أم بكر، ومروان بن الحكم، وعوف بن الطفيل، رَضِيع عائشة، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وعبد الرَّحمن بن حُنين، وعبد الله بن أبي مُليكة، وعليّ بن الحسين، وعروة بن الزبير، وعمرو بن دينار، وغيرهم.

قال الزبيريّ: كان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وكان من أهل الفضل والدين، ووقع في "صحيح مسلم" من حديثه في خِطْبة عليّ لابنة أبي جهل، قال المسور: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا محتلم، يخطب الناس، فذكر الحديث.

قال الحافظ: وهو مشكل المأخذ؛ لأن المؤرِّخين لَمْ يَختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خِطْبة عليّ كانت بعد مولد المسور بنحو من ست سنين، أو سبع سنين، فكيف يُسَمَّى محتلمًا، فَيَحْتَمِل أنه أراد الاحتلام اللغويّ، وهو العقل، والله تعالى أعلم.

قال: ومن الشذوذ ما حُكِي في رجال "الموطأ" لابن الحذّاء أنه قيل: إن المسور عاش مائة وخمس عشرة سنة، ولعل قائل ذلك انتَقَل ذهنه إلى مخرمة والد المسور، فإن مخرمة قيل: إنه عُمِّر طويلًا. انتهى

(1)

.

قال عمرو بن عليّ: وُلد بمكة بعد الهجرة بسنتين، فقَدِمَ به المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان، ومات سنة أربع وستين، أصابه المنجنيق، وهو يصلي في الْحِجْر، فمكث خمسة أيام، وهو ابن ثلاث وستين، وفيها أرَّخه الواقديّ، وقيل: قُتل مع ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، والأول أصح.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والإخبار، والعنعنة.

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 79 - 80.

ص: 237

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجة، وعثمان بن حكيم، فعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمِسْوَرِ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو، آخره راء (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء، أنه (قَالَ: أَقْبَلْتُ بِحَجَرِ أَحْمِلُهُ ثَقِيلٍ) بالجرّ صفة بعد صفة، وهو من النعت بالمفرد بعد النعت بالجملة، وهو جائز على الأصحّ، كما في قوله تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، وقوله:{بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الآية [المائدة: 54]

(1)

، (وَعَلَيَّ إِزَارٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (خَفِيفٌ) صفة لـ "إزار. (قَالَ) المِسْوَر رضي الله عنه (فَانْحَلَّ إِزَارِي) أي انفكّ، وانتقض رِباطه، يقال: حللتُ الْعُقدة من باب نصر: إذا نقضتها، فانحلّت

(2)

. (وَمَعِيَ الْحَجَرُ) جملة حاليّة من الفاعل (لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ)، أي على الأرض؛ لثقله (حَتَّى بَلَغْتُ) بتخفيف اللام (بِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ)، أي أوصلته إليه بتعب وشدّة، يقال: بلغت به العلّةُ: إذا اشتدّت، قاله في "القاموس"

(3)

، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: في رْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ، فَخُذْهُ)، أي استتر به (وَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تَمْشُوا عُرَاةً") بالضمّ: جمع عارٍ، حال من الفاعل، والنهي للتحريم، كما سبق بيانه في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث الْمِسْوَر بن مَخْرَمة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله،

(1)

راجع: "حاشية الخضري على الخلاصة" عند قوله:

"فَائِقَةً أَلْفِيَّةَ ابْنِ مُعْطِي" إلخ.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" 3/ 360، و"المصباح المنير" 1/ 148.

(3)

3/ 103.

ص: 238

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[18/ 779](341)، و (أبو داود) في "الحمّام"(4016)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(805)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(768 و 769)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 6)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 318)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(19) - (بَابُ بَيَانِ أَحَبِّ مَا يُسْتَتَرُ بِهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[780]

(342) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيّ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَهْدِي، وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاس، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، قَالَ ابْنُ أَسْمَاءَ فِي حَدِيثِهِ: يَعْني حَائِطَ نَخْلٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ)

(1)

أبو محمد الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ)

(2)

أبو عبد الرَّحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

(1)

بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وبالخاء المعجمة، غير منصرف؛ للعلميّة، والعجمة، وتقدّم غير مرّة.

(2)

بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة.

ص: 239

3 -

(مَهْدِيٌّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ) التيميّ الضبّيّ البصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقةٌ [6].

رَوَى عن الحسن بن سعد، مولى الحسن بن عليّ، وعبد الرَّحمن بن أبي بكرة، وعبد الرَّحمن بن أبي نُعْم البجليّ، ورجاء بن حَيْوَة، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد، وحميد بن عبد الرَّحمن، وغيرهم.

ورَوَى عنه جرير بن حازم، ومهديّ بن ميمون، وهشام بن حسان، وشعبة، وواصل مولى أبي عيينة، وعثمان بن عبد الحميد اللاحقيّ.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال شعبة في رواية: حدثنا محمد بن أبي يعقوب، سيد بني تميم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، وقال ابن نمير: ثقةٌ، نقله أبو الوليد الباجي في رجال البخاري له.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (342) وأعاده في "كتاب الفضائل" برقم (2429)، وحديث (2522): "أرأيت إن كان أسلم، وغفار

".

5 -

(الْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ، مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) هو: الحسن بن سعد بن معبد الهاشميّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [4].

رَوَى عن أبيه، وعن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الرَّحمن بن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو إسحاق الشيبانيّ، والمسعوديّ، وأخوه أبو العُمَيس، والحجاج بن أرطاة، ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وجماعة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه العجليّ، ونقل ابن خَلْفُون أن ابن نُمير وثَّقه أيضًا.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجهْ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره مرّتين: هنا، وفي "كتاب الفضائل".

ص: 240

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي طالب الهاشميّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمه أسماء بنت عُمَيس، وعمه عليّ بن أبي طالب، وعثمان، وعمار بن ياسر.

ورَوى عنه بنوه: معاوية، واسحاق، وإسماعيل، وأم أبيها، وابن خالته عبد الله بن شدّاد بن الهاد، وابن أخيه لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر، والحسن بن الحسن بن عليّ، وابنه عبد الله بن الحسن، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل، وأبو جعفر، محمد بن عليّ بن الحسين، والحسن بن سَعْد مولى الحسن بن علي، وخالد بن سارة المخزوميّ، وسعد بن إبراهيم الزهريّ، وعبد الله بن أبي مُليكة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ومُوَرِّق العِجْليّ، وغيرهم.

قال الزبير بن بَكّار، عن عمه: قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، حَمَل امرأته أسماء بنت عُميس معه، فوَلَدت له هناك عبد الله، وعَوْنًا، ومحمدًا، ثم قَدِم جعفر بهم المدينة، وذُكِر عن عبد الله بن جعفر قال: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي، فنَعَى لها أبي، وأخباره في الكرم شهيرةٌ، وقال ابن حبان: كان يقال له قطب الخاء، وكان يوم تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشر، وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن عبد الملك بن مروان قال: سمعت أبي قال: سمعت معاوية يقول: رَجُلُ بني هاشم عبدُ الله بن جعفر، وهو أهل لكلّ شَرَفٍ، لا والله ما سابقه أحد إلى شرف إلَّا وسبقه، وقال يعقوب بن سفيان: أَمَّرَه عليّ صلى الله عليه وسلم في صِفِّين.

وقال الزبير: وكان عبد الله بن جعفر جوادًا مُمَدَّحًا، مات زمنه سنة ثمانين، وهو عام الْجُحَاف لسيل كان بمكة، جَحَف الحُجّاج، وكان الوالي أبان بن عثمان، فصلى عليه، وكان يوم توفي ابن (90) سنةً، وقال غيره: مات سنة (80) وهو ابن ثمانين، وقيل:(90) وهو ابن (90) سنةً، وقيل غير ذلك في تاريخ وفاته، والأول أصحّ

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم

(1)

راجع: "الإصابة" 4/ 35 - 39، و"تهذيب التهذيب" 2/ 313.

ص: 241

(342)

وأعاده في "الفضائل" برقم (2429)، وحديث (2043):"يأكل القثّاء بالرُّطَب"، و (2427):"نعم، فحملنا، وتركك"، و (2428): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِم من سفر تُلُقّي بصبيان أهل بيته

"، وأعاده بعده، و (2430): "خير نسائها مريم بنت عمران

".

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن جعفرًا، ومحمد بن عبد الله، والحسن بن سعد هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا ما لكلّ منهم من الحديث فيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي أركبني خلفه، يقال: رَدِفَ الرجلُ بكسر الدال، كسمعه، وعليه اقتصر الجوهريّ وغيره، وفتحها، كنصر، كما تفيده عبارة "القاموس"

(1)

: إذا ركب خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفك، وقال في "اللسان": قال الزجّاج: يقال: رَدِفتُ الرجلَ: إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبتُهُ خلفي، قال ابن برّيّ: وأنكر الزُّبَيديّ: أردفتُهُ بمعنى أركبتَهُ معك، قال: وصوابه: ارتدفته، فأما أردفته ورَدِفته، فهو أن تكون أنت رِدْفًا له، وأنشد [من الوافر]:

إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفِتِ الثُّرَيَّا

ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا

لأن الجوزاء خلفَ الثُّرَيّا كالرِّدْفِ

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أنكره الزُّبيديّ يردّه هذا الحديث الصحيح؛ لأن "أردفني" هنا بمعنى أركبني بلا شكّ، فالصواب ما قاله الزّجّاج، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 3/ 143.

(2)

"لسان العرب" 9/ 115 - 116.

ص: 242

والدابّة التي ركبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم كانت بغلة، كما بُيِّنَ في رواية أحمد، ولفظه:"قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته، وأردفني خلفه".

(ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ)، أي يومًا من الأيّام، فـ "ذات" مقحمةٌ، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه على رأي من يُجيزه

(1)

.

(فَأَسَرَّ اِلَيَّ حَدِيثًا)، أي كلّمني به سرًّا، وفي رواية أحمد:"ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط، فقضى حاجته، ثم توضأ، ثم جاء، والماء يقطر من لحيته على صدره، فأسَرَّ إليّ شيئًا، لا أحدّث به أحدًا"(لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ) الجملة في محلّ نصب صفة لـ "حديثًا"، زاد في رواية أحمد: "فحَرَّجنا عليه

(2)

أن يحدِّثنا، فقال: لا أُفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه حتى ألقى الله".

(وَكَانَ أَحَبَّ مَا) اسم موصول، أي الذي (اسْتَتَرَ) بالبناء للفاعل (بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ)، أي عند قضاء حاجته، فاللام بمعنى"عند"، كقولهم: كتبته لخمس خلون، وجعل منه ابن جنّي قراءة الْجَحْدريّ:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5] بكسر اللام، وتخفيف الميم، أي عندما جاءهم

(3)

. (هَدَف) بفتح الهاء، والدال: ما ارتفع من الأرض، قاله النوويّ

(4)

، وقال الفيّوميّ:"الْهَدَف" - بفتحتين -: كلُّ شيء عظيم مرتفع، قاله ابن فارس، مثلُ الجبل، وكَثِيب الرمل، والبناء، والجمعُ: أَهْدافٌ، مثلُ سبب وأسباب، والهدَف أيضًا: الْغَرَضُ، وأَهْدَفَ لك الشيءُ بالألف: انتَصَبَ، واستهدف كذلك، ولأمن صَنَفَ، فقد استَهْدَف": أي انتَصَبَ كالغَرَض يُرْمَى بالأقاويل. انتهى

(5)

.

(أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ) بالحاء المهملة، والشين المعجمة، وقد فسَّره بقوله:(قَالَ ابْنُ أَسْمَاءَ) هو: عبد الله بن محمد بن أسماء الضُّبَعيّ شيخه الثاني، نسبه لجدّه (فِي حَدِيثِهِ)، أي روايته لهذا الحديث (يَعْنِي) الضمير لعبد الله بن

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 391.

(2)

أي: سألناه بشدّة أن يحدّثنا، وأصل التحريج - كما في:"القاموس المحيط" -: التضييق.

(3)

راجع: "مغني اللبيب" ص 216.

(4)

"شرح النووي" 4/ 35.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 635.

ص: 243

جعفر رضي الله عنه (حَائِطَ نَخْلٍ) قال ابن الأثير رحمه الله: الحائش: النخل الْمُلْتَفّ المجتمع، كأنه لالتفافه يَحُوشُ بعضه إلى بعض. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": الحائش: جماعة النخل، لا واحد له. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: يقال للحائش أيضًا الْحِشّ، قال المجد رحمه الله: الْحِشّ مثلّثةً: الْمَخْرَجُ؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، جمعه حُشُوشٌ. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحشّ: البُستان، والفتح أكثر من الضمّ

(4)

، وقال أبو حاتم: يقال لبستان النخل: حُبُّ"، والجمع حُشّان - بالضمّ -، وحِشّان - بالكسر - فقولهم: بيت الْحشّ مجاز؛ لأن العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، فلَمّا اتّخذوا الْكُنُفَ، وجعلوها خَلَفًا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم، وقال الفارابيّ: الْحُشّ: البستان، ومن ثَمَّ قيل للمَخْرَج: الْحشّ، وقال في "مختصر العين": الْمَحَشَّةُ: الدُّبُرُ، والْمَحشّ: الْمَخْرَج: أي مخرَج الغائط، فيكون حقيقةً. انتهى

(5)

.

[تنبيه آخر]: هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، في "مسنده" مطوّلًا، ولفظ أحمد، فقال:

(1662)

حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب، يحدث عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته، وأردفني خلفه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبَرّز كان أحبَّ ما تبرز فيه هَدَفٌ يَستتر به، أو حائش نخل، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح

(6)

له، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ، وذَرَفَت

(7)

عيناه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذِفْرَاه

(8)

، وسَرَاتَهُ، فسَكَنَ، فقال:"مَن ربُّ هذا الجمل؟ "، فجاء شابّ

(1)

"النهاية" 1/ 468.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 270.

(3)

"القاموس المحيط" 2/ 269.

(4)

تقدّم عن القاموس أنه مُثَلَّث، فتنبّه.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 137.

(6)

"الناضح": ما يُستقى عليه من الإبل.

(7)

بفتح الراء: أي دمعت.

(8)

بكسر الذال، مقصورًا: العظم الشاخص خلف الأذن. اهـ. "ق".

ص: 244

من الأنصار، فقال: أنا، فقال: "ألا تَتَّقِي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكك الله إياها، فإنه شَكَاك إليّ، وزَعَمَ أنك تُجِيعه، وتُدْئبه

(1)

"، ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط، فقضى حاجته، ثم توضأ، ثم جاء، والماء يقطر من لحيته على صدره، فأسَرَّ إليّ شيئًا، لا أحدِّث به أحدًا، فحَرَّجنا عليه أن يحدثنا، فقال: لا أُفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه حتى ألقى الله. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[19/ 780](342)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2549)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(340)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 204)، رقم (1747 و 1757)، و (الدارميّ) في "الطهارة"(1/ 170 و 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1411)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 94)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 197)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(770)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): استحباب الاستتار عند قضاء الحاجة بحائط، أو هَدَف، أو وَهْدة، أو نحو ذلك، بحيث يُغيّب جميع شَخْص الإنسان عن أعين الناظرين، وهذه سنّة مؤكّدة، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

2 -

(ومنها): جواز الإرداف على الدابّة إذا كانت مُطيقة، وما ورد من النهي عن ذلك

(4)

، فيُحمل على ما إذا لَمْ تُطق، والله تعالى أعلم.

(1)

أي: تتعبه بالعمل.

(2)

المراد فوائد الحديث بتمامه، لا ما ساقه المصنّف فقط، فتنبّه.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 35.

(4)

قد وردت أحاديث في نهي ركوب الثلاثة على دابة، وأسانيدها ضعيفة، والصحيح =

ص: 245

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، حيث كان يُردف خلفه الصبيان.

4 -

(ومنها): بيان فضل هذا الصحابي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، حيث أسرّ إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخصّه دون غيره.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه أيضًا من كمال الأدب، وحسن الوفاء بالعهد، حيث كتم سرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يه حتى يموت، مع أن أصحابه ناشدوه أن يُحدّثهم به.

6 -

(ومنها)؛ ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الرأفة والرحمة على جميع الحيوان، فلما بكى هذا الناضح، وشكا إليه، رحمه، فنزل له، فمسح ذِفراه، قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

7 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث حنّ إليه هذا الناضح، وشكا إليه ما يلقاه من التعب والجوع.

8 -

(ومنها): أيضًا معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أطلعه الله سبحانه وتعالى على المغيّبات، وأعلمه ما تتكلّم به الحيوانات، قال الله تعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

9 -

(ومنها): وجوب رحمة البهائم، ولا سيّما التي ينتفع بها الإنسان، فلا يجوز تجويعها، وتكليفها ما لا تُطيق من العمل.

10 -

(ومنها): بيان كمال الشريعة، وعموم نفعها للجميع، حيث اهتمّت بحفظ حقوق جميع المخلوقات، عقلائها، وبهائمها، فحرّمت الظلم، وأوجبت الإحسان إلى كلّ أحد، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد} [فصلت: 42]، فسبحان اللطيف الخبير الرؤوف الرحيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

= يجوز إذا أطاقت الدابَّة، فقد أخرج الطبريّ بسند جيّد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"كان يوم بدر ثلاثة على بعير"، وأخرج الطبريّ أيضًا، وابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: ما أبالي أن أكون عاشر عشرة على دابَّة إذا أطاقت حمل ذلك، قاله في:"الفتح"(10/ 410)"كتاب اللباس" رقم (5965).

ص: 246

(20) - (بَابُ بَيَانِ حَدِيثِ: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ")

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[781]

(343) - (وَحَدثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكٍ، يَعْنى ابْنَ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاثْنَيْنِ إِلَى قُبَاءٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَنِي سَالِمٍ، وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَابِ عِتْبَانَ، فَصَرَخَ بِه، فَخَرَجَ يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ"، فَقَالَ عِتْبَانُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُعْجَلُ عَنِ امْرَأَتِه، وَلَمْ يُمْن، مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرَّحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226) على الأصحّ (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

3 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.

4 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

5 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا" بحذف العاطف.

ص: 247

6 -

(شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ) هو: شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، نُسب لجدّه، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.

7 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 112)(خت م)(ع) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

8 -

(أَبُوهُ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (63) أو (74)، وقيل غير ذلك (ع)، تقدّم في "المقدّمة" 6/ 71.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدّثنا إسماعيل إلخ"، فيه سلوك مسلك الاحتياط والورع في المحافظة على بيان كيفيّة التحمل والأداء، وقد تقدّم وجه ذلك غير مرّة، فقوله:"إسماعيل" تنازعه كلّ من "أخبرنا"، و"حدّثنا".

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن أبي جعفر"، وقوله:"يعني ابن أبي نَمِر"، وذلك أن إسماعيل، وشريكًا لَمْ ينسبا في روايته إلى أبويهما، فأراد أن ينسبهما، فاضطرّ إلى أن يأتي بـ "هو"، و"يعني" إشارةً إلى أن ذلك من زيادته، وليس في روايته، وقد تقدّم توضيح ذلك غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن والده.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن مالك رضي الله عنه، أنه (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاثْنَيْنِ إِلَى قُبَاءٍ) بضمّ القاف، وتخفيف الموحدة، ممدودٌ مذكّر، مصروف، على الصحيح الذي عليه

ص: 248

المحقّقون والأكثرون، وفيه لغة أخرى، أنه مؤنّثٌ غير مصروف، وأخرى أنه مقصورٌ، قاله النوويّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قُبَاءُ: موضعٌ بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، من جهة الجنوب، نحو ميلين، وهو بضمّ القاف، يُقصَرُ، ويُمَدُّ، ويُصرَفُ، ولا يُصرَف. انتهى

(2)

.

وقباءُ هذا هو الموضع الذي استُقبل فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة يوم وصوله من هجرته، وفائدة ذكر أبي سعيد رضي الله عنه اليوم والمكان في الحديث التوثيق من الرواية، وأنه متأكّد من كلّ ما جاء فيها، حتى الزمان والمكان

(3)

، والله تعالى أعلم.

(حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَنِي سَالِمٍ)، أي مكانهم، وهم: حيّ من الأنصار (وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَابِ عِتْبَانَ) بكسر العين المهملة على المشهور، وقيل: بضمّها، هو: عتبان بن مالك بن عمرو العَجْلانيّ الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "كتاب الإيمان"(12/ 157).

(فَصَرَخَ بِهِ)، أي صاح به، وناداه، يقال: صَرَخَ يَصْرُخُ، من باب نَصَرَ صُرَاخًا فهو صارخٌ، وصَرِيخٌ: إذا صاح، وصرَخَ فهو صارخٌ: إذا استغاث

(4)

، قاله في "المصباح"، وفي "القاموس": الصَّرْخةُ: الصَّيْحةُ الشديدةُ، وكغُرَابٍ: الصوت، أو شديده. انتهى

(5)

.

قيل: المعنى: فناداه بصوت معتدل؛ لأنه المناسب لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقاره، ولا يقال: إن تعجُّل عتبان دليلٌ على أن الصرخة كانت عاليةً مزعجة؛ لأنا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يهتمّون بلقائه، ويسارعون إليه بمجرّد العلم به، وبمكانه صلى الله عليه وسلم "

(6)

.

(فَخَرَجَ) عتبان) رضي الله عنه، وجملة (يَجُرُّ) حال من الفاعل، ويقال: جَرَرتُ

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 36.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(3)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 375.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 337.

(5)

"القاموس المحيط" 1/ 263.

(6)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 375.

ص: 249

الحبلَ ونحوه جَرًّا، من باب نصر: إذا سَحَبْتَهُ، فانجرّ، وجرّرته بالتشديد مبالغة وتكثير، وجرّيته بالياء على البدل، أفاده الفيّوميّ.

(إِزَارَهُ) بكسر الهمزة: ثوبٌ يُحيط بالنصف الأسفل من البدن، يذكَّر ويؤنّث

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الإِزَارُ" معروفٌ، والجمع في القلّة آزِرَةٌ، وفي الكثرة أُزُرٌ بضمّتين، مثلُ حِمَار وأحمِرة، وحُمُر، ويُذكّر، ويؤنّثُ، فيقال: هو الإزارُ، وهي الإزار، قال الشاعر [من الرجز]:

قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الإِزَارِ الْحَمْرَا

أَنّي مِنَ السَّاعِين يَوْمَ النَّكْرَا

وربّما أُنّث بالهاء، فقيل: إزارةٌ، والْمِئْزَر بكسر الميم مثله، نظيرُ لِحاف، ومِلْحَفٍ، وقِرَامٍ، ومِقْرَمٍ، وقِيَاد ومِقْوَد، والجمع مآزرٌ، واتَّزَرتُ: لَبستُ الإزار، وأصله بهمزتين، الأولى همزة وصل، والثانية: فاء افْتَعَلْتُ. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: أن عتبان خرج يسحب رداءه من شدّة استعجاله، لَمْ يُكمل لفّه حتى إن طرفه الأسفل ينسحب وراءه، والله تعالى أعلم.

وفي الرواية الآتية: "فخرج ورأسه يقطر"، يعني أنه اغتسل، ثم خرج، وعليه أثر الاغتسال، من تقاطر الماء من رأسه، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ولذلك قال:"أعجلنا الرجل".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ) أي حَمَلناه على الْعَجَلَة، يقال: عَجِلَ عَجَلًا، من باب تَعِبَ، وعَجَلَةً: إذا أسرع، وحَضَرَ، وأعجلته بالألف: إذا حملته على أن يَعْجَلَ

(3)

.

والمعنى هنا: حملناه على الاستعجال قبل أن يقضي حاجته من زوجته، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ عِتْبَانُ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ)، أي أخبرني (الرَّجُلَ)، أي عن حاله، والحكم الذي يترتّب على فعله (يُعْجَلُ) بضمّ أوله، وفتح ثالثه، مضارع أُعْجِلَ بالبناء للمفعول: أي يُدْفَعُ إلى الْعَجَلة والإسراع.

(1)

"المعجم الأوسط" 1/ 16.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 13.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 394.

ص: 250

و"أرأيت" معناها: أخبرني، كما مرّ آنفًا، وذلك عن طريق مجازين:

[أحدهما]: في همزة الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلًا من طلب الفهم.

[والثاني]: في الرؤية بإرادة المسبّب عنها، وهو الإخبارُ، فال الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ "أخبِرْني".

وجملة "يُعْجَلُ" في محلّ نصب على الحال، وفي الكلام مضافان محذوفان، والمعنى: أخبرني عن حكم الرجل يضطرّ إلى العَجَلة والإسراع عن جماع امرأته

(1)

، والله تعالى أعلم.

(عَنِ امْرَأَتِهِ)، أي عن جماعها، وهو متعلّق بـ "يُعْجَلُ"(وَلَمْ يُمْنِ) بضمّ أوله، وإسكان الميم، وكسر النون، من الإمناء رباعيًّا، وهذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن الكريم، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} الآية [الواقعة: 58]، وفيه لغة ثانية، "يَمْنِ" بفتح أوّله، مضارع منَي، كرمَى ثلاثيًّا، ولغة ثالثةٌ، "يُمَنِّ" بضمّ الياء، مع فتح الميم، وتشديد النون، مضارع مَنّي، كزَكّى.

يقال: أمنى ومَنَى ومَنَّى ثلاث لغات حكاها أبو عمرو الزاهد، والأولى أفصح وأشهر وبها جاء القرآن قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} .

فتحصل مما سبق أن فيها ثلاث لغات، تقول: مَنَى الرجل بالتخفيف، كرَمَى، وأمنى بالألف، ومنّى بالتشديد: إذا خرج منيّه، و"الْمَنِي"، كغنيّ، ويُخفّف، والْمَنْيةُ، كرَمْيَةٍ: ماء الرجل والمرأة، جمعه: مُنْيٌ، كقُفْلٍ

(2)

.

(مَاذَا عَلَيْهِ؟)، أي ما الذي يجب عليه من أنواع الطهارة، هل الاغتسال، أم يكفيه الوضوء؟ (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ")، أي الغسل من خروج المنيّ، فالمراد بالماء الأول ماء الغسل، وبالثاني: المنيّ، فـ "أل" فيه للعهد الذهنيّ، وفيه الجناس التامّ، و"من" سببيّةٌ.

والمعنى: لأن وجوب الغسل بسبب إنزال المنيّ، والقصر المستفاد من "إنما" قصر إفراد، أي إثبات حكمٍ لشيء، ونفيه عن شيء آخر؛ لأن المخاطب

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 376.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" مع ما كُتب في هامشه 4/ 391.

ص: 251

كان يعتقد أن الغسل واجب بسبب الجماع، وبسبب الإنزال، وليس قصرًا حقيقيًّا، حتى يَنفِي الغسل عن الأسباب الأخرى، كالحيض والنفاس

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما الماء من الماء" حمله ابن عبّاس رضي الله عنهما على أن ذلك في الاحتلام، فتأَوَّله، وذهب غيره من الصحابة وغيرهم إلى أن ذلك منسوخٌ

(2)

.

[تنبيه]: ذكر الإمام الشافعيّ رحمه الله: أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تُطْلَق بالحقيقة على الجماع، وإن لَمْ يكن معه إنزال، فإن كلَّ من خُوطب بأن فلانًا أجنب من فلانة، عُقِل أنه أصابها، وإن لَمْ يُنزل، قال: ولم يُخْتَلف أن الزنى الذي يَجب به الحدّ هو الجماع، ولو لَمْ يكن معه إنزال.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: إيجاب الغسل بالإيلاج بالنسبة إلى الإنزال، نظيرُ إيجاب الوضوء بمس الذكر بالنسبة إلى خروج البول، فهما متفقان دليلًا وتعليلًا. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق المسألة في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[20/ 781 و 782](343) و [20/ 784](345)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(180)، و (أبو داود) في "الطهارة"(217)، و (ابن ماجة) في "الطهارة"(606)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(963)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 59)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 89)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 21 و 29 و 36)، و (ابن خزيمة)

(1)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 376.

(2)

"المفهم" 1/ 600.

(3)

راجع: "الفتح" 1/ 473.

ص: 252

في "صحيحه"(233)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 165 و 167)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 54)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(815 و 816 و 817 و 818)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(771 و 772 و 773)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الجماع من غير أن يُنزل، وهو وجوب الوضوء، دون الغسل، لكن هذا كان في أول الإسلام، ثم نُسِخ، كما سيأتي تحقيقه في الباب التالي.

2 -

(ومنها): جواز الأخذ بالقرائن؛ لأن الصحابيّ رضي الله عنه لَمّا أبطأ عن الإجابة مُدّة الاغتسال، خالف المعهود منه، وهو سرعة الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عليه أثر الغسل، دَل على أنه كان مشغولًا بجماع.

3 -

(ومنها): أنه يستحب الدوام على الطهارة؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ ينكر على عتبان تأخير إجابته.

قال الحافظ رحمه الله: وكأن ذلك كان قبل إيجابها؛ إذ الواجب لا يؤخر للمستحب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخّر ردّ السلام حتى توضّأ، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح، عن المهاجر بن قُنفذ رضي الله عنه، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلَّم عليه، فلم يَرُدّ عليه، حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال:"إني كَرِهتُ أن أذكر الله عز وجل إلَّا على طُهْر - أو قال: على طهارة - "، فقد أخّر ردّ السلام الواجب لأجل الوضوء المستحبّ، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن هذا الحكم منسوخٌ، ولم يَبق من تمسّك به إلَّا ما رُوي عن هشام بن عروة، والأعمش، وسفيان بن عيينة، وداود الظاهريّ، وادَّعى القاضي عياض أنه لا يَعْلَم من قال به بعد خلاف الصحابة رضي الله عنهم إلَّا الأعمش، وداود.

وقال النوويّ: اعلم أن الأمة مجمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع،

(1)

"الفتح" 1/ 341، و"عمدة القاري" 3/ 87.

ص: 253

وإن لَمْ يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال، وكانت جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلَّا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين. انتهى، وسيأتي تحقيق المسألة في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى -.

5 -

(ومنها): السؤال عن ما يجهله الإنسان من أحكام دينه، وإن كان مما يُستحيا من ذكره، كأن يتعلّق بما بينه وبين امرأته من أمر الجماع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[782]

(

) - (حَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيّ، حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، أَن أَبا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمنِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ")

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث في معظم النسخ مؤخّر عن الحديث رقم (786): "حدثنا محمد بن المثنّي، حدّثنا محمد بن جعفر إلخ"، والظاهر أنه غلط من بعض النساخ، والصواب أن محلّه هنا، كما هو في النسخة الهنديّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِي) - بفتح الهمزة - نزيل مصر، أبو جعفر السعديّ مولاهم، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

(1)

وقع في معظم النسخ تأخير هذا الحديث إلى ما قبل قوله: "وحدّثني زهير بن حرب، وعبد بن حميد إلخ"، ولكن الصواب - كما في بعض النسخ - أن موضعه هنا، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

ص: 254

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المشهور المدنيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، مكثرٌ [3](ت 94)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 423.

والصحابيّ تقدّم قبله.

وقوله: (إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ) قال المازريّ رحمه الله: هذا الحديث يَحتجّ به من لا يوجب الغسل من التقاء الختانين، وإنما الحجة من جهة دليل الخطاب

(1)

، وقد اختلف الأصوليّون في القول به، فمن نفى دليل الخطاب لَمْ يكن عنده في الحديث حجة، ومن أثبته صحّ له الانفصال عن الحديث بوجوه:

[أحدها]: أنه قيل: إن ذلك في أول الإسلام، ثم نُسخ.

[والثاني]: أن يكون محمولًا على المنام؛ لأنه لا يجب الاغتسال فيه إلَّا من الماء.

وأما الحديث الذي فيه أنه: "خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه يقطر ماء، فقال له: لعلنا أعجلناك"، فإن لَمْ يُحمل على الوطء في غير الفرج، فيُحمل على أنه منسوخ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مسائل هذا الحديث تقدّمت فيما قبله، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[783]

(344) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّير، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَمَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ بَعْضُهُ بَعْضًا).

(1)

هو الذي يُسمّى بمفهوم المخالفة، وهو إثبات نقيض الحكم المنطوق به.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 194.

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 255

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)، وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ) - بكسر الشين، وتشديد الخاء المعجمتين - هو: يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، ثقةٌ [2].

رَوَى عن أبيه، وأخيه مُطَرِّف، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمران بن حُصين، وحنظلة الكاتب، وعثمان بن أبي العاص الثقفيّ، وغيرهم.

وروى عنه سليمان التيميّ، وسعيد الجريريّ، وقتادة، وخالد الحذّاء، وقُرّة بن خالد، وكَهْمس بن الحسن، وفَرْقد السَّبَخيّ، وآخرون.

قال أبو العلاء: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، ومُطَرِّف أكبر مني بعشر سنين، رَوَى ذلك البخاريّ في "تاريخه"، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وقال حزم القُطَعيّ، عن ثابت الْبُنَانيّ: جاء أبو العلاء إلى الحسن، فقال له رجل: تَكَلَّم يا أبا العلاء، فقال: لا، لست هناك، قال ثابت: فأعجبني إقراره على نفسه، وقال أبو هلال الراسبيّ، عن أبي صالح العقيليّ قال: كان أبو العلاء يقرأ في المصحف، فَخَرَّ مَغْشيًّا عليه، وذكره أبو موسى في "ذيل الصحابة"، وعزاه لأبي زكريّا ابن مَنْدَهْ مُعَلَّقًا بروايةٍ وَقَعت له من طريق سُريج بن يونس، عن هُشيم، عن يونس بن عُبيد، عن يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: وأظنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حبّان: مات سنة إحدى عشرة ومائة، وأَرَّخه خليفة، وابن قانع، والقرّاب: سنة ثمان ومائة.

ص: 256

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا برقم (344)، وحديث (554): "صلّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته تنخّع

"، وأعاده بعده، و (992): "ما يَسُرّني أن لي مثله ذهبًا

"، و (1161): "هل صمتَ من سَرَر هذا الشهر؟

"، و (1226): "أعمر طائفةً من أهله في العشر

"، و (2203): "ذاك شيطانٌ، يقال له: خَنْزَب

".

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أن رجاله كلهم بصريون، إلَّا أبا العلاء، فإنه كوفيّ.

2 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن، عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الأثر:

عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير رحمه الله، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْسَخُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب فتح يفتح، و"النسخ": لغةً يُطلق على الإزالة، والنقل، والتحويل، يقال: نسخت الشمس الظلّ، والريحُ آثار القدم: أي أزالته، ونسخت الكتاب: أي نقلته، وشرعًا: رفع حكم شرعيّ بمثله، مع تراخيه عنه، وقد أشبعت البحث في بيان النسخ، وأقسامه في "المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة"

(1)

، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(حَدِيثُهُ) بالرفع فاعل "يَنْسَخُ"(بَعْضُهُ بَعْضًا) بالرفع بدل من "حديثُهُ" بدلَ بعض من كلّ، والتقدير: ينسخ بعض حديثه بعضًا (كَمَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ بَعْضُهُ بَعْضًا) الكاف بمعنى"مثل"، صفة لمصدر محذوف، و"ما" مصدريّة، والتقدير: نسخًا مثلَ نسخ بعض القرآن بعضًا.

قال النوويّ رحمه الله: مراد مسلم بروايته هذا الكلام عن أبي العلاء أن حديث: "الماءُ من الماء" منسوخ، وقول أبي العلاء: إن السنة تنسخ السنة هذا صحيح، قال العلماء: نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه:

[أحدها]: نسخ السنة المتواترة بالمتواترة.

(1)

"المنحة الرضيّة" 2/ 263 - 334.

ص: 257

[والثاني]: نسخ خبر الواحد بمثله.

[والثالث]: نسخ الآحاد بالمتواترة.

[والرابع]: نسخ المتواتر بالآحاد.

فأما الثلاثة الأُوَل فهي جائزة بلا خلاف، وأما الرابع فلا يجوز عند الجماهير، وقال بعض أهل الظاهر: يجوز، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وإلى أقسام النسخ أشرت في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:

ثُمَّةَ بِالنَّظَرِ لِلدَّلِيلِ جَا

قِسْمَيْنِ مَا بِالاتِّفَاقِ نُهِجَا

نَسْخُ الْقُرَانِ بِالْقُرَانِ أُثِرَا

وَسُنَنٍ أَيْضًا بِمَا تَوَاتَرَا

آحَادُهَا بِمِثْلِهَا وَاخْتُلِفَا

أَي فِي مَسَائِلَ ثَلَاثٍ فَاعْرِفَا

أَحَدُهَا نَسْخُ الْقُرَانِ السُّنَّهْ

أَهْلُ الأُصُولِ قَدْ رَأَوْهُ سُنَّهْ

وَقَدْ نفَاهُ الشَّافِعِي وَأَحْمَدُ

وَالثَّانِ نَسْخُهَا بِهِ فَيُحْمَدُ

لِلأَوَّلينَ وَنَفَاهُ الشَّافِعِي

وَهُوَ الصَّحِيحُ فِيهِمَا فَتَابِعِ

ثَالِثُهَا النَّسْخُ لِمَا تَوَاتَرَا

بِضِدّهِ لَهُ الأصُولِيْ حَظَرَا

إِذْ مَا تَوَاتَرَ يَكُونُ أَقْوَى

لَكِنَّ تَعْلِيلَهُمُ لَا يَقْوَى

وَالأَرْجَحُ الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ

مِثَالُهُ فِي النَّصِّ قُلْ مَسمُوعُ

وَجَازَ نَسْخُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ كَمَا

يَجُوزُ عَكْسُهُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَى

فإن أردت تحقيق المسألة، فراجع "المنحة الرضيّة" شرح المنظومة المذكورة، وبالله تعالى التوفيق.

(مسألة): هذا الأثر مرسل صحيح؛ لأن أبا العلاء تابعيّ، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [20/ 783](344)، وأخرجه (أبو داود) في "المراسيل"(456)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 37.

ص: 258

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[784]

(345) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ع)، وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَم، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنصَار، فَأَرْسَلَ إِلَيْه، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ:"لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:"إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أَقْحَطْتَ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ"، وقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ:"إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أقحِطْتَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببُندار، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الْوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة، حافظ متقنٌ عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

6 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكنديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

7 -

(ذَكْوَانُ) أبو صالح السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) شرح في "المقدمة" 2/ 4.

والصحابيّ تقدَّم قبل حديث.

ص: 259

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ فرّق بينهم بالتحويل؛ لاختلاف صيغة الأداء، حيث قال أبو بكر:"حدّثنا غُندر"، بلقبه، والآخران:"حدّثنا محمد بن جعفر" باسمه.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى أبي بكر، والحكم، فكوفيّان، وذكوان وأبي سعيد، فمدنيّان.

3 -

(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشّار من المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة، وكلاهما بصريّان، وكانا كفرسي رِهان، وماتا في سنة واحدة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الحكم، عن ذكوان، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ذَكْوَانَ) أبي صالح السمّان، (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ)، وفي رواية البخاريّ:"أرسل إلى رجل من الأنصار"، وهذا الأنصاريّ هو الذي سُمّي في الرواية الماضية: عتبان، وهو ابن مالك الأنصاريّ، كما نسبه بَقِيّ بن مَخْلَد في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه.

ووقع في رواية في "صحيح أبي عوانة" أنه ابن عتبان، والأول أصحّ، ورواه ابن إسحاق في "المغازي" عن سعيد بن عبد الرَّحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن جدّه، لكنه قال:"فَهَتَفَ برجل من أصحابه، يقال له: صالح"، فإن حُمِل على تعدد الواقعة، وإلا فطريق مسلم أصحّ.

وقد وقعت القصة أيضًا لرافع بن خَدِيج وغيره، أخرجه أحمد وغيره، ولكن الأقرب في تفسير المبهم الذي في هذه الرواية أنه عتبان، والله تعالى أعلم، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

1/ 340 - 341 "كتاب الوضوء" رقم (180).

ص: 260

(فَأَرْسَلَ إِلَيْه، فَخَرَجَ)، أي الرجل المرسل إليه (وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ) بضمّ الطاء المهملة، من باب نصر، وقَطَرَانًا، وقَطَرته، يتعدّى، ولا يتعدّى، هذا قول الأصمعيّ، وقال أبو زيد: لا يتعدّى بنفسه، بل بالألف، فيقال: أقطرته، و"الْقَطْرة": النُّقْطة، والجمع قَطَرات، وتقاطر: سال قطْرَةً قطرةً، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمعنى: ينزل منه الماء قطرةً قطرةً من أثر الغسل، وإسناد القطر إلى الرأس مجاز، من قبيل سال الوادي

(2)

، والجملة في محلّ نصب على الحال، من فاعل "خَرَج"، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟) كلمة "لعلّ" هنا لإفادة التحقيق، بدليل الرواية السابقة:"أعجلنا الرجل"، فمعناه: قد أعجلناك عن فراغ حاجتك من الجماع.

قال العينيّ رحمه الله ما حاصله: لا يمكن أن تكون "لعلّ" هنا على بابها للترجّي؛ لأن الترجي لا يحتاج إلى جواب، وهنا قد أجاب الرجل بقوله:"نعم" مقرّرًا له، انتهى بتصرّف

(3)

.

وفيه جواز الأخذ بالقرائن؛ لأن الصحابيّ لما أبطأ عن الإجابه مدّة الاغتسال خالف المعهود منه، وهو سرعة الإجابه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عليه أثر الغسل دلّ على أن شغله كان به، واحتَمَل أن يكون نزع قبل الإنزال؛ ليُسْرع الإجابةَ، أو كان أنزل فوقع السؤال عن ذلك.

وقد كان عتبان رضي الله عنه طَلَب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فيصلي في بيته، في مكان يتخذه مُصَلًّى، فأجابه كما سيأتي في موضعه، فيَحْتَمِل أن تكون هي هذه الواقعةَ، وقَدَّمَ الاغتسالَ؛ ليكون متأهبًا للصلاة معه، والله تعالى أعلم

(4)

.

(قَالَ) الرجل (نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أَقْحَطْتَ) قال النوويّ رحمه الله: أما "أُعْجِلْتَ": فهو في الموضعين - بضم الهمزة، وإسكان العين، وكسر الجيم - وأما "أَقْحَطتَ": فهو في الأولى - بفتح الهمزة والحاء -

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 507.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 3/ 86.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 86.

(4)

"الفتح" 1/ 341.

ص: 261

وفي رواية ابن بشار - بضم الهمزة، وكسر الحاء - مثلُ "أُعجِلتَ"، والروايتان صحيحتان، ومعنى الإقحاط هنا عدم إنزال المنيّ، وهو استعارة من قُحُوط المطر، وهو انحباسه، وقُحوطِ الأرض، وهو عدم إخراجها النبات. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قَحَطَ المطرُ قَحْطًا، من باب نَفَعَ: احتَبَسَ، وحَكَى الفرّاءُ: قَحِطَ المطرُ، من باب تَعِبَ، وقَحُط بالضمّ، فهو قَحِيط، وقُحِطَت الأرض والقومُ بالبناء للمفعول، وبلَدٌ مقحُوطٌ، وبلادٌ مقاحيطُ، وأقحط الله الأرضَ بالألف، فأَقْحَطَتْ، وهي مُقْحِطَةٌ، وأَقْحَطَ القومُ: أصابهم الْقَحْطُ، بالبناء للفاعل، والمفعول، وفي الحديث:"من أتى أهله، فأقحط، فلا غُسل عليه"

(2)

، يعني: فلم يُنزِل، مأخوذ من أَقْحَط: إذا انقطع عنه المطرُ، فشَبَّهَ احتباس المنيّ باحتباس المطر، ومثله في المعنى:"إنما الماء من الماء"

(3)

، وكلاهما منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى الختانان، فقد وجب الغُسل". انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إذا أُعجلت" - بضم الهمزة، وكسر الجيم - وفي أصل أبي ذرّ:"إذا عَجِلت" بلا همز، و"قُحِطت"، وفي رواية غيره:"أُقحطتَ" بوزن "أُعجلتَ"، وكذا لمسلم.

قال صاحب "الأفعال": يقال: أُقحط الرجلُ إذا جامع، ولم يُنزِل، وحكى ابن الجوزيّ عن ابن الخشاب أن المحدثين يقولون:"قَحَطَ" بفتح القاف، قال: والصواب الضم.

قال الحافظ: وروايته في "أمالي أبي عليّ القالي" بالوجهين في القاف، وبزيادة الهمزة المضمومة، يقال: قُحِط الناسُ، وأقحطوا: إذا حُبِس عنهم المطرُ، ومنه استعير ذلك لتأخر الإنزال.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: ليس قوله: "أو" للشك، بل هو لبيان عدم الإنزال، سواء كان بحسب أمر من ذات الشخص، أم لا.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 37.

(2)

لَمْ أجده بهذا اللفظ، ولعله رواه بالمعنى، والله أعلم.

(3)

متّفق عليه.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 491.

ص: 262

قال الحافظ رحمه الله: وهذا بناء على أن إحداهما بالتعدية، وإلا فهي للشكّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما تقدّم أنه يجوز "قحط" ثلاثيًّا بفتح الحاء، وكسرها، وضمّها، و"أقحط" رباعيًّا مبنيًّا للفاعل، وللمفعول، والله تعالى أعلم.

(فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ)، أي فلا يجب عليه الاغتسال (وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ)، أي إنما الواجب هو الوضوء فقط.

قال في "العمدة": يجوز في "الوضوءُ" الرفع والنصب، أما الرفع، فعلى أنه مبتدأ وخبره قوله:"عليك"، والنصب على أنه مفعولُ "عليك"؛ لأنه اسم فعل، نحو عليك زيدًا، ومعناه: فالزم الوضوءَ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ إلخ" كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نُسخ بعدُ، قاله الترمذيّ وغيره، وقد أشار إلى ذلك أبو العلاء بن الشِّخِّير، وأبو إسحاق، قال ابن القصّار: أجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من تقدّم على الأخذ بحديث: "إذا التقى الختانان"، وإذا صحّ الإجماع بعد الخلاف كان مُسقطًا للخلاف، قال القاضي عياضٌ: لا نعلم من قال به بعد خلاف الصحابة إلَّا ما حُكِي عن الأعمش، ثم بعده عن داود الأصبهانيّ، وقد رُوي أن عمر حَمَلَ الناس على ترك الأخذ بحديث:"الماء من الماء" لَمّا اختَلَفوا فيه، قال القرطبيّ: وقد رجع المخالفون فيه من الصحابة عن ذلك حين سَمِعوا حديث عائشة رضي الله عنها، فلا يُلتَفتُ إلى شيء من الخلاف المتقدّم ولا المتأخّر في هذه المسألة. انتهى

(2)

.

وقوله: (وقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ) يعني أن شيخه محمد بن بشار خالف شيخيه: أبا بكر، وابن المثنّى، فقال:(إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أُقْحِطْتَ)، أي بضمّ الهمزة في الفعلين، بالبناء للمفعول، وأما هما، فرويا الأول بالضمّ، والثاني بالفتح.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، ومسائله في الحديث الماضي، فلا حاجة لتطويل الكتاب بإعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 87.

(2)

"المفهم" 1/ 600.

ص: 263

وبالسند المتّصل إلى "الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[785]

(346) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ (ح)، وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَة، ثُمَّ يُكْسِلُ؟ فَقَالَ:"يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَرْأَة، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) هو: سليمان بن داود العتكيّ البصريّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّاد) بن زيد البصريّ الحافظ الحجة، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) أبو المنذر المدنيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

6 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

7 -

(أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ المدنيّ، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات غازيًا بالروم سنة (50)، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

8 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، من فُضلاء الصحابة، مات سنة (19) أو (32)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلافهما في صيغ الأداء، حيث وقع في رواية الأول:"حدّثنا هشام بن عروة"، فنسبه إلى أبيه، وفي رواية الثاني:"حدّثنا هشام"، فلم ينسبه.

ص: 264

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"، أي لأبي كريب، وقد تقدّم البحث فيه غير مرّة.

3 -

(ومنها): أن شيخه الثاني أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، والابن، عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) الأنصاريّ، خالد بن زيد رضي الله عنه (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ) أي عن حكمه، وقوله:(يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ) أي يجامعها (ثُمَّ يُكْسِلُ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بضم الياء، ويجوز فتحها، يقال: أكسل الرجلُ في جماعه: إذا ضَعُفَ عن الإنزال، وكَسِلَ أيضًا بفتح الكاف، وكسر السين، والأول أفصح. انتهى

(1)

.

ولفظ البخاريّ: "قال: يا رسول الله، إذا جامع المرأة، فلم يُنزِل؟ ".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ) خبر بمعنى الأمر، أي لغسل ما أصابه منها، فهو كقوله تعالى:{يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الآية [البقرة: 233]، وقوله:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية [البقرة: 228].

وفي رواية البخاريّ: "يغسل ما مسّ المرأة منه"، أي يغسل الرجل العضو الذي مسّ فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم، وإرادة اللازم؛ لأن المراد رطوبة فرجها، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على نجاسة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف معروف، والأصحّ عند بعض أصحابنا نجاستها، ومن قال بالطهارة يَحْمِل الحديث على الاستحباب، وهذا هو الأصح عند أكثر أصحابنا. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ يَتَوَضأُ") قال في "الفتح": هذا صريح في تأخير الوضوء عن غسل

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 38.

(2)

1/ 474.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 38.

ص: 265

الذكر، زاد عبد الرزّاق، عن الثوريّ، عن هشام فيه:"وضوءه للصلاة"، وقوله:(وَيُصَلِّي) أصرح في الدلالة على ترك الغسل من حديث عثمان رضي الله عنه الآتي بلفظ: "يتوضّأ وضوءه للصلاة، ويغسل ذكره"

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[20/ 785 و 786](346)، و (البخاريّ) في "الغسل"(293)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(957 و 958)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 95)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 113 و 114)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1169)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 164)، وفي "المعرفة"(1/ 458)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 54)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(819 و 821)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(774 و 775).

وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[786]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مَحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْمَلِيِّ، عَنِ الْمَلِيِّ، يَعْنِي بقَوْلهِ: الْمَلِيِّ

(2)

، عَنِ الْمَلِيِّ، أَبُو أَيُّوبَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُل، يَأتي أَهْلَهُ، ثُمَّ لَا يُنْزِلُ، قَالَ:"يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ").

(1)

"الفتح" 1/ 474.

(2)

وفي نسخة: يعني بقوله: "عن المليء

إلخ".

ص: 266

رجال هذا الإسناد: سبعة:

كلهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين.

وقوله: (يَعْني بِقَوْلِهِ: الْمَلِيِّ، عَنِ الْمَليِّ، أَبُو أَيُّوبَ إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول"أبو أيوب" بالواو، وهو صحيح، والمليّ: الْمُعْتَمَدُ عليه المركون إليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا وقع في معظم النسخ التي بين يديّ "أبو أيّوب" بالواو، إلَّا النسخة التي شرح عليها الأبيّ، فوقع فيها ما لفظه:"قال: حدّثني أبي، عن المليّ، يعني بقوله: المليّ أبا أيوب إلخ"، وكذا هو في "مستخرج أبي نعيم"، وهو الجاري على القاعدة الجادّة؛ لأن رفع الأسماء الستّة، وهي"أبوك"، و "أخوك"، و"فوك"، و"حَمُوكِ"، و"هنوكَ"، و"ذو" بمعنى صاحب، يكون بالواو، ونصبها بالألف، وجرّها بالياء، ويجوز في "أب" و"أخ"، و"حم" إعرابها إعراب المقصور على الألف، ويجوز نقصها بحذف أواخرها، فتعرب بالحركات الظاهرة على الباء، والخاء، والميم، وأما "هن" فنقصه أشهر، من إتمامه، وإلى هذا كلّه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَارْفَعْ بِوَاوِ وَانْصبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صحْبَةً أَبَانَا

وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ وَهَنُ

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

وأما ما وقع في معظم النسخ بلفظ "أبو أيوب" بالواو فلا بدّ من تأويله؛ لأن إعرابه على الواو دائمًا لغة ضعيفة، فلا يجوز تخريج الرواية الصحيحة عليه، فيؤؤل بأنه محكيّ على حالة الرفع، أي من نحو قوله:"حدثنا أبو أيوب"، فيكون "أبو أيوب" مفعولًا به لـ"يعني" منصوبًا بفتحة مقدّرة، منع من ظهورها اشتغال المحلّ بإعراب الحكاية، والله تعالى أعلم.

وقوله: (عَنِ الْمَلِيِّ) أصله مَلِيءٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعول، قال الفيّوميّ رحمه الله:

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 38 - 39.

ص: 267

رجلٌ مليءٌ، مهموز، على فعيل: غنيّ مقتدرٌ، ويجوز البدل، والإدغام. انتهى

(1)

.

والمراد به هنا الثقة، قال الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" بعد إخراج الحديث من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه ما نصّه: قال عبد الله: قال أبي: "المليّ، عن المليّ": ثقة، عن ثقة. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يريد بقوله: "المليء" الثقة في نقله الذي يُعتَمَدُ على ما عنده، كما يُعتَمَد على المليء في مداينته ومعاملته، ويوثق به. انتهى بتصرّف

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[787]

(347) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ (ع)، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِير، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفانَ رضي الله عنه

(4)

، قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاة، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) نسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ) الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 580.

(2)

"مستخرج أبي نعيم" 1/ 389.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 200.

(4)

سقط في بعض النسخ: لفظ "رضي الله عنه".

ص: 268

3 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) الْعَنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

4 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، ولد عبد الصمد المذكور قبله، أبو عُبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

5 -

(جَدّهُ) هو: عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

6 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ) الْمُعَلِّم المكتب الْعَوذيّ البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

7 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

8 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف المذكور في ثاني أحاديث الباب.

9 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الْهِلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 94) وقيل بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

10 -

(زيدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) الصحابيّ المدنيّ المشهور رضي الله عنه، مات بالكوفة سنة (68) وقيل:(70) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 238.

11 -

(عَثْمَانُ) بن عفّان رضي الله عنه تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من تُساعيّات المصنف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين اثنين، وأفرد واحدًا بالتحويل؛ لاختلاف صيغتي الأداء؛ إذ قال الأوّلان:"حدّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث"، بصيغة الجمع، وباسمه العلم، وقال الثالث:"حدّثني أبي"، بصيغة الإفراد، وكناه بـ "أبي"، وهو عبد الصمد المذكور.

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه: زهير،

ص: 269

فبغداديّ، وعبد، فكسّيّ، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، ويحيى بن أبي كثير، وإن كان يماميًّا، إلا أنه سكن المدينة عشر سنين يطلب العلم، كما قاله ابن حبان.

3 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو، والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ، والثالث ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: يحيى، وأبو سلمة، وعطاء، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ لأنهما تابعيّان كبيران، كلاهما من الطبقة الثالثة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ: زيد بن خالد، عن عثمان رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) اسم أبيه صالح بن المتوكّل.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ ما نصّه: "عن الحسين، قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة إلخ"، فقال في "الفتح": قوله: "قال يحيى" هو ابن أبي كثير، أي قال الحسين: قال يحيى، ولفظ "قال" الأولى تحذف في الخطّ عرفًا، قوله:"وأخبرني" هو عطف على مقدر: أي أخبرني بكذا، وأخبرني بكذا، ووقع في رواية مسلم بحذف الواو، قال ابن العربيّ: لم يسمعه الحسين من يحيى، فلهذا قال:"قال يحيى"، كذا ذكره ولم يأت بدليل، وقد وقع في رواية مسلم في هذا الموضع:"عن الحسين، عن يحيى"، وليس الحسين بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع، إذا لقيه على الصحيح، على أنه وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين، عن يحيى بالتحديث، ولفظه:"حدثني يحيى بن أبي كثير"، ولم ينفرد الحسين مع ذلك به، فقد رواه عن يحيى أيضًا معاوية بن سلام، أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن، أخرجه البخاريّ. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 472.

ص: 270

أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ زيدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِي) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَل عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه) الخليفة الراشد، استُشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة (35)، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 10/ 144، وقوله:(قَالَ) تفسير وتوضيح لمعنى "سأل"(قُلْتُ: أَرَأَيْتَ)، تقدّم الكلام عليها قريبًا (إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ، وَلَمْ يُمْنِ؟)، تقدّم أن فيه ثلاثَ لغات: ضمّ الياء، وإسكان الميم، وهي اللغة الفصحى، وفتح الياء، والثالثة ضم الياء، مع فتح الميم، وتشديد النون: أي لم يخرج منيّه (قَالَ عُثْمَانُ) بن عفّان رضي الله عنه (يَتَوَضَّأُ) خبر بمعنى الأمر، أي ليتوضّأ، كما تقدّم قريبًا (كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ)، أي وضوءًا شرعيًّا، لا وضوءًا لغويًّا، وهو غسل بعض أعضائه، مما مسّ المرأة منه (وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ) ببناء الفعل للفاعل، ولا تنافي بينه وبين قوله في الرواية الماضية:"ثم يتوضّأ"، فأخّر الوضوء عن غسل الذكر؛ لأن الواو لا ترتيب فيها، فتنبّه (قَالَ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (سَمِعْتُهُ)، أي سمعت هذا الحكم، وهو الأمر بالوضوء، وغسل الذكر (مِنْ رَسُولِ للهِ صلى الله عليه وسلم). هذا الحكم منسوخ على قول الجمهور، وهو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: هكذا أورد المصنّف: هذه الرواية مختصرة على سؤال زيد بن خالد لعثمان رضي الله عنه، وقد ساقها البخاريّ رحمه الله بزيادة سؤاله عليًّا والزبير، وطلحة، وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم، ونصّه:

(292)

حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد الجهني أخبره، أنه سأل عثمان بن عفان، فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته، فلم يُمْنِ؟ قال عثمان:"يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره"، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عن ذلك عليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله، وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك.

قال في "الفتح": قوله: "فأمروه بذلك" فيه التفات؛ لأن الأصل أن يقول: فأمروني، أو هو مقول عطاء بن يسار، فيكون مرسلًا، وقال الكرمانيّ: الضمير يعود على الْمُجَامع الذي في ضمن "إذا جامع"، وجزم أيضًا بأنه عن عثمان إفتاءٌ وروايةٌ مرفوعةٌ، وعن الباقين إفتاءٌ فقط.

ص: 271

قال الحافظ: وظاهره أنهم أمروه بما أمره به عثمان، فليس صريحًا في عدم الرفع، لكن في رواية الإسماعيليّ:"فقالوا مثل ذلك"، وهذا ظاهره الرفع؛ لأن عثمان أفتاه بذلك، وحدّثه به، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، فالمثلية تقتضي أنهم أيضًا أفتوه، وحدَّثوه، وقد صَرَّح الإسماعيليّ بالرفع في رواية أخرى له، ولفظه:"فقالوا مثل ذلك، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - "، وقال الإسماعيليّ: لم يقل ذلك غير يحيى الْحِمَّانيّ، وليس هو من شرط هذا الكتاب

(1)

. انتهى، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[20/ 787](347)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(179)، و"الغسل"(192)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 90)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 63 و 64)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(224)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(127 و 1172)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 53 و 54)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 164 و 165)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(820 و 822)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(776)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف العلماء في حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه هذا:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه، فقد صححه الشيخان، كما علمت، حيث أخرجاه في "صحيحيهما"، وهذا غاية الصحّة، وقد خالفهم فيه بعضهم.

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: في كتابه "الاستذكار": "مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان،

(1)

"الفتح" 1/ 472.

ص: 272

وعائشة، زوج النبيّ - صلي الله عليه وسلم - كانوا يقولون: إذا مس الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل"، قال: هذا حديثٌ صحيحٌ عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاءُ الختانين، وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد الجهنيّ أخبره، أنه سأل عثمان بن عفان، قال: قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته، ولم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وسأل عن ذلك عليًّا، والزبير، وطلحة، وأبي بن كعب، فأمروه بذلك.

قال: وهذا حديثٌ منكرٌ، لا يُعْرَف من مذهب عثمان، ولا من مذهب عليّ، ولا من مذهب المهاجرين، انفرد به يحيى بن أبي كثير، ولم يتابع عليه، وهو ثقةٌ، إلا أنه جاء بما شَذّ فيه، وأُنكر عليه، ونكارته أنه مُحالٌ أن يكونْ عثمان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُسقِط الغسل من التقاء الختانين، ثم يفتي بإيجاب الغسل منه، ولا أعلم أحدًا قال بأن الغسل من التقاء الختانين منسوخٌ، بل قال الجمهور: إن الوضوء منه منسوخٌ بالغسل، ومن قال بالوضوء منه أجازه، وأجاز الغسل، فلم ينكره.

قال: وقد تدبرت حديث عثمان الذي انفرد به يحيى بن أبي كثير، فليس فيه تصريح بمجاوزة الختان الختان، وإنما فيه جامع، ولم يَمَسّ، وقد تكون مجامعةٌ، ولا يمس فيها الختان الختان؛ لأنه لفظ مأخوذ من الاجتماع، يُكنَى به عن الوطء.

وإذا كان كذلك، فلا خلاف حينئذ فيما قال عثمان: إنه يتوضأ، وجائز أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون معارضًا لإيجاب الغسل بشرط التقاء الختانين.

قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد؟ قال: سألت عنه خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وعليًّا، وطلحة، والزبير، وأُبيّ بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، أفيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم، ما يُروَى من خلافه عنهم، قلت: عن على، وعثمان، وأُبيّ بن كعب؟ قال: نعم، وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عليّ بن المدينيّ، وذكر هذا

ص: 273

الحديث، فقال: إسناد حسن، ولكنه حديث شاذّ غير معروف. انتهى المقصود من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد حكى الأثرم عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حَكَى يعقوب بن شيبة، عن عليّ بن المدينيّ أنه شاذّ.

والجواب عن ذلك أن الحديث ثابتٌ من جهة اتّصال إسناده، وحفظ رواته، وقد رَوَى ابن عيينة أيضًا عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، فليس هو فردًا، وأما كونهم أفْتَوْا بخلافه، فلا يَقْدَح ذلك في صحته؛ لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه، فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ، وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية.

وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم يُنزل المجامع منسوخ بما دلّ عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب التالي، والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره، من طريق الزهريّ، عن سهل بن سعد، قال: حدّثني أُبَيّ بن كعب، أن الفُتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء رُخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخَّص بها في أول الإسلام، ثم أَمَرَ بالاغتسال بعدُ. صححه ابن خزيمة، وابن حبان.

وقال الإسماعيليّ: هو صحيح على شرط البخاريّ، كذا قال، وكأنه لم يَطَّلِع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل، نعم أخرجه أبو داود، وابن خزيمة أيضًا مَن طريق أبي حازم، عن سهل، ولهذا الإسناد أيضًا علة أخرى، ذكرها ابن أبي حاتم.

وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يُحْتَجّ به، وهو صريح في النسخ، على أن حديث الغسل، وإن لم يُنْزِل أرجح من حديث:"الماءُ من الماء"؛ لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء بالمفهوم، أو بالمنطوق أيضًا، لكن ذاك أصرح منه.

(1)

"الاستذكار" 3/ 78 - 83.

ص: 274

ورَوَى ابن أبي شيبة وغيره، عن ابن عباس: أنه حَمَلَ حديث: "الماءُ من الماء" على صورة مخصوصة، وهي ما يقع في المنام، من رؤية الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجواب الذي ذكره في "الفتح" عن الطعن في صحّة حديث زيد الجهنيّ رضي الله عنه المذكور في الباب تحقيق نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن الحديث صحيح، صحّحه الشيخان، وغيرهما، والطعن فيه بثبوت الفتوى عن عثمان ومن ذُكر معه من الصحابة رضي الله عنهم غير صحيح؛ لأنه يُجمع بأنهم أفتوا بخلاف ما رووه عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - لَمّا بلغهم النسخ لما رووه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[788]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ الْحُسَيْن، قَالَ يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَن عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا أيُّوبَ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

وكلّهم تقدّموا في السند الماضي، غير عروة، فتقدّم في الذي قبله.

وقوله: (أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الدارقطنيّ رحمه الله: هو وَهَمٌ؛ لأن أبا أيوب إنما سمعه من أُبَيّ بن كعب، كما قال هشام بن عروة، عن أبيه.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: قلت: الظاهر أن أبا أيوب سمعه منهما؛ لاختلاف السياق؛ لأن في روايته عن أُبَيّ بن كعب قصةً، ليست في روايته، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - مع أن أبا سلمة، وهو ابن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرًا وسنًّا وعلمًا من هشام بن عروة، وروايتُهُ عن عروة من باب رواية الأقران؛ لأنهما

(1)

"الفتح" 1/ 473.

ص: 275

تابعيان فقيهان، من طبقة واحدة، وكذلك رواية أبي أيوب، عن أبي بن كعب، لأنهما فقيهان صحابيان كبيران، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر، عن أبي أيوب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه الدارميّ، وابن ماجه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.

والحاصل أن حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه ـ هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيح، ولا يُعلّ بروايته السابقة بواسطة أبيّ بن كعب رضي الله عنه؛ لإمكان الجمع بكونه رواه عنه، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، ثمّ سمعه منه صلى الله عليه وسلم.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ بَيَانِ نَسْخ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ"، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[789]

(348) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَأَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ (ح) وَحَدَّثنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَام، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، وَمَطَرٍ عَنِ الْحَسَن، عَنْ أَبِي رَافِع، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَع، ثُمَّ جَهَدَهَاَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ"، وَفِي حَدِيثِ مَطَرٍ:"وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ"، قَالَ زُهَيْرٌ مِنْ بَيْنِهِمْ:"بَيْنَ أَشْعُبِهَا الْأَرْبَعِ").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ)

(1)

مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقة [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

(1)

"أبو غسّان" بفتح الغين المعجمة، وتشديد السين المهملة، يجوز صرفه وعدمه، و"الْمِسمعيّ" بكسر الميم الأولى، وفتح الثانية.

ص: 276

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هو: هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(مَطَر) بن طَهْمَان السلميّ مولاهم، أبو رجاء الْخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، ضعيف في حديث عطاء [6] [ت 5 أو 129) (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

[تنبيه]: قوله: (وَمَطَرٍ) بالجرّ عطفًا على قتادةَ، فهشام الدستوائيّ، يرويه عن كلّ من قتادة، ومطر، وكلاهما يرويانه عن الحسن البصريّ

إلخ

(1)

.

6 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، يرسل، ويُدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 1 ص 306.

7 -

(أَبُو رَافِعٍ) نُفَيعٌ الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهورٌ بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 462.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان بالتحويل، ويجتمعان في معاذ بن هشام.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه الأولين، فالأول ما روى عنه الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو وأبو داود، ومطر الورّاق، علّق له البخاريّ.

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 10/ 247 تحقيق بشّار.

ص: 277

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وأبي هريرة، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين رَوَى بعضهم، عن بعض: قتادةُ، عن الحسن، عن أبي رافع.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَلَسَ) الضمير المستتر فيه، وفي قوله:"جَهَدَ" للرجل، والضميران البارزان في قوله:"شعبها"، و"جهدها" للمرأة، وترك إظهار ذلك لدلالة السياق عليه، كما في قوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، وقد وقع مصرَّحًا به في رواية لابن المنذر، من وجه آخر، عن أبي هريرة، قال رحمه الله: "إذا غَشِي الرجل امرأتَهُ، فقعد بين شُعَبها

" الحديث. (بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ) "الشُّعَبُ" - بضمّ الشين المعجمة، وفتح العين المهملة -: جمع شُعْبة - بضمّ، فسكون - وهي القطعة من الشيء.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الشُّعبة من الشجرة: الْغُصن المتفرّع منها، والجمعُ شُعَبٌ، مثلُ: غُرْفة وغُرَف، وفي الحديث:"إذا جلس بين شُعبها الأربع": يعني يديها ورجليها على التشبيه بأغصان الشجرة، وهو كناية عن الجماع؛ لأن القعود كذلك مظِنّة الجماع، فكنّى بها عن الجماع، والشُّعبة من الشيء: الطائفة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قيل: المراد بشُعَبها هنا يداها، ورجلاها، وقيل: رجلاها، وفخذاها، وقيل: ساقاها، وفخذاها، وقيل: فخذاها، وإسكتاها

(2)

،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 314.

(2)

"الإسكة" بكسر الهمزة وزانُ سِدْرة، وفتح الهمزة لغة قليلة: جانب فرج المرأة، وهما: إسكتان، والجمع إِسَكٌ، مثلٌ سِدَرٍ، قال الأزهريّ: الإِسْكتان: ناحيتا الفرج، والشُفْران: طرفا الناحيتين، قاله في "المصباح المنير" 1/ 15.

ص: 278

وقيل: فخذاها، وشُفْراها

(1)

، وقيل: نواحي فرجها الأربع، قال الأزهريّ: الإِسكتان: ناحيتا الفرج، والشُّفْران: طرف الناحيتين.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الأقرب عندي أن يكون المراد بالشعب الأربع: اليدين، والرجلين، أو الرجلين والفخذين، فيكون الجماع مكنيًّا عنه بذلك، فاكتُفي بما ذُكر عن التصريح، قال: وإنما رجّحنا هذا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة، إذ هو حقيقة في الجلوس بينهما، وأما إذا حُمِلَ على نواحي الفرج، فلا جلوس بينها حقيقةً. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: الأولى في هذا، والأحرى على معنى الحكم أن الشُّعَب نواحي الفرج الأربع، والشُّعَب النواحي، ومثل قوله في الحديث الآخر رحمه الله: "إذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة

"، لأنها لا تتوارى حتى يغيب بين الشُّعب الأربع، ومثله قول عائشة رضي الله عنها: "إذا جاوز الختان الختانَ"، و"إذا مسّ الختان الختانَ"، وكذلك لا يُعتبر التقاء الختانين إلا بمجاوزتها وبمغيبها هنالك، ولا يُلتفت إلى التقائهما على غير هذه الصفة، وقد يتأتى الجلوس بين اليدين والرجلين والفخذين والإسكتين - وهما الشُّفْران - ولا تغيب الحشفة، ولا يلتقي الختانان، قال: وبالجملة فمراد الأحاديث على اختلافها أنه لا اعتبار بالماء، وأن المخالطة توجب الغسل. انتهى كلام عياض رحمه الله باختصار

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ جَهَدَهَا) - بفتح الجيم والهاء - يقال: جَهَدَ، وأجهد: أي بَلَغَ المشقة، قيل: معناه كَدَّها بحركته، أو بلغ جُهده في العمل بها، وفي رواية شعبة، عن قتادة الآتية:"ثم اجتهد"، ورواه أبو داود، من طريق شعبة وهشام معًا، عن قتادة بلفظ:"وألزق الختانَ بالختان"، بدل قوله:"ثم جَهَدها"، وهذا يدلّ على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج، ورواه البيهقيّ من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة مختصرًا، ولفظه: "إذا التقى الختانان، فقد وجب

(1)

بضم، فسكون، جمعه أَشفار، مثلُ قُفْل وأقفال، وشُفْرُ كلّ شيء: حرفه، ومنه شُفْر الفرج لحرفه، قاله في "المصباح" 1/ 317.

(2)

"الفتح" 1/ 470.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 197 - 198.

ص: 279

الغسل"، وروي أيضًا بهذا اللفظ، من حديث عائشة، أخرجه الشافعيّ من طريق سعيد بن المسيب، عنها، وفي إسناده عليّ بن زيد، وهو ضعيف، وابن ماجهْ من طريق القاسم بن محمد، عنها؛ ورجاله ثقات، ويأتي في رواية أبي موسى الأشعريّ، عنها بلفظ: "ومسّ الختانُ الختانَ"، والمراد بالمسّ، والالتقاء، المحاذاةُ، ويدلّ عليه رواية الترمذيّ بلفظ: "إذا جاوز"، وليس المراد بالمسّ حقيقته؛ لأنه لا يُتصوَّر عند غيبة الحشفة، ولو حَصَل المس قبل الإيلاج لم يَجب الغسل بالإجماع، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقيل: الجَهْد من أسماء النكاح، فمعنى "جهَدَها": جامعها، وإنما عدل إلى الكناية؛ للاجتناب عن التفوّه بما يَفْحُشُ ذكره صريحًا، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "ثم جَهَدها": الأولى هنا أن يكون "جَهَد": أي بلغ جَهْده في عمله فيها، والجَهْد: الطاقة، والاجتهاد منه، وهي إشارة إلى الحركة، وتمكّن صورة العمل، وهو نحوٌ من قول من قال: حَفَزَها: أي كَدّها بحركته، وإلا فأيّ مشقّة تبلغ بها في ذلك؟ وقال ابن الأنباريّ: جهدت الرجل: إذا حملته على أن يبلغ مجهوده، وهو أقصى قوّته، فلعلّه أيضًا من هذا؛ أي طلب منها مثل ما فعل، وهو بمعنى قوله أيضًا في الآخر:"إذا خالط"، وهو كناية عن مبالغة الجماع، ومغيب الحشفة، واختلاط العضوين، والْخِلاط الجماعُ، قاله الحربيّ؛ وخالطها: جامعها، وقال الخطّابيّ: الجهد من أسماء النكاح، والختانان هما ختان الرجل، وختان المرأة، ولا يكاد يتماسّان غالبًا إلا بعد مغيب الحشفة، فكنى النبيّ - صلي الله عليه وسلم - بالتقائهما عما وراءهما من الإيلاج. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ") جواب "إذا"، و"أل" في "الغسل" للعهد الذهنيّ، وقوله:(وَفي حَدِيثِ مَطَرٍ: "وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ") يعني أن مطرًا زاد على قتادة قوله: "وإن لم يُنزل"، وهو بضمّ حرف المضارعة، من الإنزال رباعيًّا، وحُذف مفعوله؛ لعلمه؛ أي وإن لم يُنزل المنيّ.

(1)

1/ 470 - 471.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 366.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 198.

ص: 280

قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أن إيجاب الغسل لا يَتَوَقّف على نزول المنيّ، بل متى غابت الحشفة في الفرج وجب الغسل على الرجل والمرأة، وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة، ومن بعدهم، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرناه، وقد تقدم بيان هذا. انتهى.

[تنبيه]: قوله: "وفي حديث مطر

" إلخ، هذا ظاهر في أن هذه الزيادة لم تقع في رواية قتادة، ولعله لم يقع ذلك للمصنّف رحمه الله في روايته، وإلا فقد وقع في رواية قتادة أيضًا، رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عفّان، قال: حدثنا همام وأبان، قالا: حدثنا قتادة به، وزاد في آخره: "أنزَلَ أو لم يُنزل"، وكذا رواه الدارقطنيّ، وصححه من طريق عليّ بن سهل، عن عفّان، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسيّ، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) أي ابن حرب، شيخه الأول (مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من بين شيوخه الأربعة ("بَيْنَ أَشْعُبِهَا الْأَرْبَعِ") يعني أن رواية زُهير بن حرب، عن معاذ بن هشام بلفظ "أَشْعُب" بالهمزة، بدل رواية الثلاثة عنه بلفظ "شُعَب" بضمّ؛ ففتح، و"الأَشْعُبُ" بفتح الهمزة، وضمّ العين، جمع شَعْبٍ، كفلس وأَفْلُس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 789 و 790](348)، و (البخاريّ) في "الغسل"(291)، و (أبو داود) في "الطهارة"(216)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 110 و 111)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 59)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 85 - 86)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 393 و 520)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 194)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1174 و 1178 و 1182)، و (الطحاويّ) في

(1)

1/ 471.

ص: 281

"شرح معاني الآثار"(1/ 56)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 163) وفي "المعرفة"(1/ 417)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(823 و 824 و 825 و 826)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(778 و 779)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نسخ مفهوم حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الماضي: "إنما الماء من الماء"، ودليل النسخ ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" عن أُبي بن كعب رضي الله عنه:"أن الفُتيا التي كانوا يقولون: "الماء من الماء" رخصةٌ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخَّص بها في أول الإسلام، ثم أَمَرَنا بالاغتسال بعدها"، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، وقال الإسماعيليّ: إنه صحيح على شرط البخاريّ، وهو صريح في النسخ، وتؤيّده الآية الكريمة:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، قال الشافعيّ رحمه الله: الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، ولو لم يحصل إنزال.

2 -

(منها): أن المراد بالجهد هنا الكدّ بحركته، ولا يكون ذلك إلا مع الإيلاج، ويفسّره رواية أبي داود:"إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل"، وهو حديث صحيح.

3 -

(ومنها): أن فيه جواز الجماع على هذه الكيفية، وإن كان غيرها من الإقبال والإدبار، وعلى الشق جائزًا، ما كان في مكان الحرث، وهو القبل؛ لإطلاق الآية:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]،.

4 -

(ومنها): استحباب الكناية فيما يُستقبح التصريح بذكره، كالجماع.

5 -

(ومنها): ما قاله ابن الملقّن رحمه الله: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد وجب الغسل" فيه دلالة على أنه ليس على الفور، وهو إجماع، قال: ثم اعلم أن الأحكام المتعلّقة كلّها من وجوب الغسل، والمهر، وغيرهما متعلّقة بتغييب الحشفة بالاتّفاق، ولا يُشترط تغييب جميع الذكر، قال: ومسائل تغييب الحشفة كثيرة جدًّا، أوصلها الجوينيّ إلى ستّين، وغيره إلى نيّف وسبعين، وبعض المالكيّة إلى نيّف وثمانين، وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: إنها أصل لألف مسألة، وقد

ص: 282

جمعت منها ما تيسّر من ذلك في أوراق مفردة، ولله الحمد. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن نفس الإيلاج موجب للغسل، وإن لم يحصل إنزال، قال ابن الملقّن رحمه الله: إن إيجاب الغسل لا يتوقّف على إنزال المنيّ، بل متى غابت الحشفة في الفرج وجب الغسل على الرجل والمرأة، ولهذا جاء في الرواية الأخرى:"وإن لم يُنزل"، فيكون قوله:"إذا جلس" خرج مخرج الغالب، لا أن الجلوس بين شُعبها وجهدها شرط لوجوب الغسل، وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة؛ كعثمان، وأُبيّ، ومن بعدهم؛ كالأعمش، وداود، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرنا.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ثم انعقد الإجماع

" إلخ فيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ الخلاف لا زال قائمًا على ما ستعرفه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

وقال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: خالف بعض الظاهريّة داودَ، ووافق الجماعة، ومستند داود:"إنما الماء من الماء"، وقد جاء في الحديث:"إنما الماء من الماء" كان رخصة في أول الإسلام، ثم نُسخ، رواه الترمذيّ، وصححه

(2)

، فزال ما استندوا إليه.

وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم -: قال أصحابنا: ولو غَيَّب الحشفة وجب الغسل، سواء كان المولَج فيه حيًّا أو ميتًا صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان ذلك عن قصد، أم عن نسيان، وسواء كان مختارًا، أو مكرَهًا، أو استدخَلَت المرأة ذكره، وهو نائم، وسواء انتشَرَ الذكر أم لا، وسواء كان مختونًا، أم أغلف، فيجب الغسل في كل هذه الصور على الفاعل والمفعول به، إلا إذا كان الفاعل أو المفعول به صبيًّا أو صبيًّة، فإنه لا يقال: وجب عليه لأنه ليس مكلفًا، ولكن يقال: صار جُنُبًا، فإن كان مميزًا وجب على الوليّ أن يأمره بالغسل، كما يأمره بالوضوء، فإن صلّى من غير غسل لم تصح صلاته، وإن لم يغتسل حتى بَلَغ وجب عليه الغسل، وإن اغتسل في الصبا، ثم بلغ لم يلزمه إعادة الغسل.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 92.

(2)

الترمذيّ (1/ 185)، وابن حبّان رقم (1170 و 1176)، وابن خزيمة (1/ 112).

ص: 283

قال: والاعتبار في الجماع بتغييب الحشفة من صحيح الذكر بالاتفاق، فإذا غَيَّبها بكمالها تعلقت به جميع الأحكام، ولا يشترط تغييب جميع الذكر بالاتفاق، ولو غيب بعض الحشفة، لا يتعلق به شيء من الأحكام بالاتفاق، إلا وجهًا شاذًّا ذكره بعض أصحابنا أن حكمه حكم جميعها، وهذا الوجه غلطٌ منكرٌ متروكٌ.

وأما إذا كان الذكر مقطوعًا، فإن بقي منه دون الحشفة، لم يتعلق به شيء من الأحكام، وإن كان الباقي قدر الحشفة فحسب، تعلقت الأحكام بتغييبه بكماله، وإن كان زائدًا على قدر الحشفة، ففيه وجهان مشهوران لأصحابنا، أصحهما أن الأحكام تتعلق بقدر الحشفة منه، والثاني لا يتعلق شيء من الأحكام إلا بتغييب جميع الباقي.

ولو لَفّ على ذكره خرقة، وأولجه في فرج امرأة ففيه ثلاثه أوجه لأصحابنا: الصحيح منها والمشهور، أنه يجب عليهما الغسل، والثاني: لا يجب؛ لأنه أولج في خرقة. والثالث: إن كانت الخرقة غليظة تمنع وصول اللذة والرطوبة، لم يجب الغسل، وإلا وجب.

ولو استدخَلت المرأة ذكر بهيمة، وجب عليها الغسل، ولو استدخَلت ذكرًا مقطوعًا، فوجهان، أصحهما يجب عليها الغسل. انتهى كلام النووي ببعض اختصار

(1)

.

[تنبيه]: قال ابن العربيّ: قد رَوى جماعة من الصحابة المنع، ثم رجعوا، حتى رُوي عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك جعلته نكالًا، وانعقد الإجماع على ذلك

(2)

، ولا يُعبأ بخلاف داود في ذلك، فإنه لولا خلافه ما عُرِف

(3)

، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاريّ في ذلك، وحكمه بأن الغسل

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 41.

(2)

هذا غير صحيح، فلا زال الخلاف قائمًا، كما ستعرفه.

(3)

هذا مما لا يليق بمثل ابن العربيّ من الحط على داود، فإن داود رحمه الله إمام من الأئمة المعتبرين، وبالجملة فإنه لا يكون دونك يا ابن العربي، قاتل الله التعصب، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 284

أحوط، وهو أحد علماء الدين، والعجب أنه يساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وبين حديث عثمان، وأبيّ في نفي الغسل إلا بالإنزال، وحديث عثمان ضعيف؛ لأن مرجعه إلى الحسين بن ذكوان المعَلِّم، يرويه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد، والحسين لم يسمعه من يحيى، وإنما نقله له، بـ "قال يحيى"، ولذلك أدخله البخاريّ عنه بصيغة المقطوع، وهذه علّة، وقد خولف حسين فيه عن يحيى، فرواه عنه غيره موقوفًا على عثمان، ولم يذكر فيه النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وهذه علّة ثانية، وقد خولف فيه أيضًا أبو سلمة، فرواه زيد بن أسلم، عن عطاء، عن زيد بن خالد، أنه سأل خمسة أو أربعة من الصحابة، فأمروه بذلك، ولم يرفعه، وهذه علّة ثالثة، وكم من حديث ترك البخاريّ إدخاله بواحدة من هذه العلل الثلاث، فكيف بالحديث إذا اجتمعت فيه، وحديث أُبيّ أيضًا يصعُب التعلّق به؛ لأنه قد صحّ رجوعه عما رَوَى لَمّا سَمِعَ، وعَلِمَ مما كان أقوى منه.

ويحتمل قول البخاريّ: الغسل أحوط؛ يعني في الدين، وهو باب مشهور في أصول الفقه، وهو أشبه بإمامة الرجل وعلمه

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا تجرّأ ابن العربيّ بالحكم على حديثٍ اتّفق الشيخان على تصحيحه، وتخريجه في "صحيحيهما"، سبحان الله إن هذا لهو العجب العُجَاب!!!.

قال ابن الملقّن رحمه الله بعد سوق كلام ابن العربيّ هذا، ما نصّه: قد أخرج البخاريّ حديث عثمان من غير طريق الحسين بن ذكوان، رواه عن سعد بن حفص، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عطاء، عن زيد بن خالد، عن عثمان مرفوعًا، وقال الدارقطنيّ: حدّث به عن يحيى حسينٌ المعلِّم، وشيبان، وهو صحيح عنهما.

(1)

قال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام ابن العربيّ هذا، ما نصّه: قلت: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يُستفاد من الحديث من غير هذه المسألة، كما استَدَلّ به على إيجاب الوضوء فيما تقدم. انتهى. "الفتح" 1/ 474.

ص: 285

ورواه ابن شاهين من حديث معاوية بن سلّام، عن يحيى به، والحسين بن ذكوان ثقةٌ مشهورٌ، أخرج له الستّة، وأما العُقيليّ، فضعّفه بلا حجّة.

وقوله: إن البخاريّ رواه بصيغة المقطوع؛ فيه نظرٌ، بل ذكره في موضع الاحتجاج به، وقد أخرجه مسلم بصيغة "عن يحيى" بدل "قال يحيى"، وقال ابن طاهر: سمع الحسين بن ذكوان من يحيى، وقد رواه مصرّحًا بالسماع من يحيى ابنُ خُزيمة في "صحيحه"، والبيهقيّ في "سننه"، وغيرُهما، فلله الحمد.

وقوله: إن أبا سلمة خالفه زيد بن أسلم، لا يضرّه؛ لأن أبا سلمة إمام حافظ، وقد زاد فيُقبل، ولأن الراوي قد ينشَطُ، فيَرفَع الحكم. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد ابن الملقّن رحمه الله، في ردّه على اجتراء ابن العربيّ بتضعيف حديثٍ اتّفَقَ الشيخان على تصحيحه، وجنى عليهما بالحطّ عن مقدارهما، بكونهما لم يَعْلَما ثلاث علل في الحديث اطّلع عليها ابن العربيّ بمهارته، وبُعْد نظره، وهيهات هيهات أن يكون هذا.

وبالجملة فحديث عثمان رضي الله عنه صحيح، وقد تقدّم البحث عنه بأتمّ مما هنا عند شرحه، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الجماع دون إنزال المنيّ:

ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى إيجاب الغسل بالإيلاج، وإن لم يُنزل، وبه قال الخلفاء الأربعة، والأئمة الأربعة، وقد ادَّعَى بعضهم انعقاد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وليس كذلك، بل الخلاف موجود، كما سنحقّقه.

وذهب بعض أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى عدم الإيجاب إلا بالإنزال.

وممن رُوي عنه ذلك عثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقّاص، وابن مسعود، ورافع بن

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 89 - 92.

ص: 286

خَدِيج، وأبو سعيد الْخُدريّ، وأُبيّ بن كعب، وأبو أيوب الأنصاريّ، وابن عبّاس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وجمهور الأنصار رضي الله عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهشام بن عروة، والأعمش، وبعض أهل الظاهر، قاله ابن حزم رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر بعض من ذكرهم ابن حزم -: ثم منهم من رجع عنه إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع. انتهى

(2)

.

قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر نفي ابن العربيّ الماضي - ما نصّه: وأما نفي ابن العربيّ الخلاف، فمعتَرَض، فإنه مشهور بين الصحابة، ثبت عن جماعة منهم، لكن ادَّعَى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معتَرَضٌ أيضًا، فقد قال الخطابيّ: إنه قال به من الصحابة جماعةٌ، فسَمّى بعضهم، قال: ومن التابعين: الأعمش، وتبعه عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترضٌ أيضًا، فقد ثَبَت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة، عند عبد الرزاق، بإسناد صحيح، وقال عبد الرزاق أيضًا: عن ابن جريج، عن عطاء، أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم أُنزل حتى أغتسل، من أجل اختلاف الناس؛ لأخذنا بالعروة الوثقى، وقال الشافعيّ في "اختلاف الحديث": حديث: "الماء من الماء" ثابتٌ، لكنه منسوخ .. إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني: من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى يُنزل. انتهى.

فعُرِف بهذا أن الخلاف كان مشهورًا بين التابعين، ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن دعوى الإجماع على وجوب الغسل بالإيلاج دون الإنزال غير صحيحة، بل الخلاف في ذلك لا زال قائمًا بين الصحابة فمن بعدهم، وإن كان الجمهور على الإيجاب، وهو الحقّ؛ لوضوح أدلّته على ما نوضّحه الآن، فنقول:

(1)

راجع: "المحلَّى" 2/ 4.

(2)

راجع: "المجموع" 2/ 136.

(3)

"الفتح" 1/ 474.

ص: 287

احتجّ القائلون بعدم وجوب الغسل إلا بالإنزال بما رواه الشيخان عن زيد بن خالد الجهنيّ، أنه سأل عثمان بن عفان، فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته، فلم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله، فسألت عن ذلك عليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله، وأُبَيّ بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك.

وما أخرجاه عن أبي سلمة، أن عروة بن الزبير، أخبره أن أبا أيوب أخبره، أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما أخرجاه عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: أخبرني أُبَيّ بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة، فلم يُنزِل؟ قال:"يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ، ويصلي".

وما أخرجاه من حديث أبي سعيد الخدريّ، في قصّة عتبان بن مالك رضي الله عنه.

وما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الماء من الماء".

وغير ذلك من الأحاديث بهذا المعنى.

واحتجّ الجمهور القائلون بالوجوب وإن لم يُنزل بحديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنها المذكور في الباب: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل، وإن لم يُنزل".

قالوا: حديث: "الماء من الماء" منسوخ بهذه الأحاديث.

[فإن قلت]: ليس فيها دليل على النسخ؛ لعدم التعرُّض إلى شيء من التاريخ.

[قلت]: قد جاء ما يدلّ على النسخ صريحًا، وهو ما رواه أبو داود في "سننه" بسند صحيح،. عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: حدثني أُبيّ بن كعب: أن الفُتيا التي كانوا يُفتون: "إن الماء من الماء" كانت رخصةً رَخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أَمَرنا بالاغتسال بعدُ. وأخرجه ابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح، وقال ابن عبد البر في "الاستذكار": هو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له.

ص: 288

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الاغتسال من التقاء الختانين، وإن لم يوجد الإنزال؛ لوضوح نسخ حديث:"إنما الماء من الماء" بحديث أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنها المذكورين في الباب، وعلى فرض عدم تأخّر تاريخهما لم ينتهض حديث:"الماء من الماء" لمعارضتهما؛ لأنه مفهوم، وهما منطوقان، والمنطوق أرجح من المفهوم، كما قاله الشوكانيّ رحمه الله، وقد أشبعت الكلام في هذا البحث في "شرح النسائيّ"، فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[790]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ:"ثُمَّ اجْتَهَدَ"، وَلَمْ يَقُلْ:"وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ) بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

وابن المثنى، وقتادة تقدّما في السند الماضي، وشعبة تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لمحمد بن أبي عديّ، ووهب بن جرير.

ص: 289

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) الإشارة إلى الإسناد الماضي، وهو: عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ

إلخ) أشار به إلى أن حديث شعبة، وإن كان مثل هشام الدستوائيّ، أنه خالفه في قوله:"ثم جهدها"، فإنه قال:"ثم اجتهد".

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: "وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ") فيه إشكال؛ لأنه يقتضي أن هشامًا قاله، وقد تقدّم أن المصنّف نصّ على أنه لم يقع في رواية قتادة:"وإن لم يُنزل"، وإنما هو في رواية مطر فقط، مع أن غيره أثبته في رواية قتادة أيضًا، كما أسلفناه.

ويَحْتمل أن يجاب بأنه إنما ذكره من باب التأكيد، لا من باب بيان الخلاف بينهما، ولا يخفى ما فيه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية شعبة هذه أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 391) فقال:

(779)

وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى، ثنا عمرو بن عليّ، وأبو موسى قالا: ثنا وهب بن جرير، قال: وثنا يحيى بن حكيم، ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن قتادة (ح) وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن المثنى، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - قال:"إذا قَعَدَ بين شُعَبها الأربع، ثم اجتهد، فقد وجب الغسل". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[791]

(349) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأنْصَارِيُّ، حَدَّثنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، وَهَذَا حَدِيثُهُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي

ص: 290

مُوسَى، قَالَ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَار، فَقَالَ الْأنصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ، أَوْ مِنَ الْمَاء، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ

(1)

إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأُذِنَ لِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أمَّاهْ، أَوْ يَا أمّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلكِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ

(2)

، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي

(3)

أَنْ تَسْأَلني عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أمُّكَ، قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَع، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبله.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأنصَارِيُّ) هو: محمد بن عبد الله بن الْمُثَنَّى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ، أبو عبد الله البصريّ القاضي، ثقة [9].

رَوَى عن أبيه، وسليمان التيميّ، وحميد الطويل، وابن عون، وابن جريج، وحبيب بن الشهيد، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام بن حسان، وغيرهم.

ورَوى عنه البخاريّ، وروى هو والباقون عن عليّ بن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن جعفر البِيكَنديّ، وخليفة بن خياط، وقتيبة بن سعيد، وأبي موسى محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار بندار، وإبراهيم بن المستمِرّ الْعُرُوقيّ، وأبي الأزهر، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، ومحمد بن إسماعيل ابن علية، وأبي حاتم الرازيّ، وغيرهم.

قال الأحوص بن المفضَّل بن غسان الغلابيّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال مرَّةً: لم أر من الأئمة إلا ثلاثة: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشميّ، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وقال أبو داود:

(1)

وفي نسخة: "بَلَى".

(2)

وفي نسخة: "أستحيي منك".

(3)

وفي نسخة: "لا تستحي" بياء واحدة.

ص: 291

تغيَّر تغيرًا شديدًا، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال زكريا الساجيّ: رجل جليل عالم، لم يكن عندهم من فرسان الحديث، مثل يحيى القطان ونظرائه، غَلَب عليه الرأي، قال: وحُدِّثت عن ابن معين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يَلِيق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ قال: للحديث رجال، وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي، وأبو خيثمة: أنكر معاذ بن معاذ ويحيى بن سعيد حديثَ الأنصاريّ، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس:"احتجم النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وهو محرم صائم"، وقال الأثرم، عن أحمد: ما كان يصنع الأنصاريّ عند أصحاب الحديث، إلا النظر في الرأي، وأما السماع فقد سَمِع، قال: وقد سمعت أبا عبد الله ذكر الحديث الذي رواه الأنصاريّ، عن حبيب بن الشهيد، فضعَّفه، وقال: كانت ذهبت للأنصاريّ كتبٌ، فكان بعدُ يحدِّث من كتب غلامه أبي حكيم، أُراه قال: فكان هذا من ذلك، وقال يعقوب بن سفيان: سئل عليّ ابن المدينيّ عن حديث الأنصاريّ، عن حبيب بن الشهيد، قال: ليس من ذلك شيء، إنما أراد حديث حبيب، عن ميمون، عن يزيد بن الأصمّ: تزوج النبيّ - صلي الله عليه وسلم - ميمونة محرمًا، قال الخطيب: كان الأنصاريّ قد جالس في الفقه سَوّار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن العنبريّ، وعثمان الْبَتِّيَّ، ووليَ قضاء البصرة أيام الرشيد، بعد معاذ بن معاذ، ومات بالبصرة، قال يعقوب بن سفيان: سنة (214) مات الأنصاريّ، قال: وسمعته سنة اثنتي عشرة ومائتين، يقول: قد أشرفت على أربع وتسعين سنة.

وقال الخطيب: وَهِمَ يعقوب في تاريخ وفاته، ثم رَوَى بإسناده عن أبي موسى، محمد بن المثنى، قال: مات سنة خمس عشرة، وفيها أَرَّخه إسماعيل بن إسحاق القاضي، زاد ابن سعد: لم يزل الأنصاريّ بالبصرة يُحَدِّث إلى أن مات بها في رجب سنة خمس عشرة ومائتين، قال ابن سعد: وكان صدوقًا، وأرَّخه عمرو بن عليّ سنة ثمان عشرة ومائتين، وقال معاذ: ما رأيته عند الأشعث قط، وذكر عُمَر بن شَبّة في "أخبار البصرة" أنه ذُكِر للقضاء أيام المهديّ سنة ست وستين ومائة، فقال عثمان بن الربيع الثقفيّ للفضل بن الربيع: إنه فقيه وعفيفٌ، ولكنه يأتم بقول أبي حنيفة، ولنا في مصرنا أحكام

ص: 292

تخالفه، فلا يُصلحنا إلا مَن أجاز أحكامنا، فتركوا ولايته إذ ذاك، وقال الساجيّ: سمعت محمد بن المثنى يقول: سمعت الأنصاريّ يقول: من زعم من أصحاب أشعث، ممن كان يلزمه أنه كان لا يراني إلى جنبه، فهو من الكاذبين، كأنه يُعَرِّض بمعاذ بن معاذ، وعلى هذا فقد تعارضا، فتساقطا، قال: وسمعت بشر بن آدم ابن بنت أزهر يقول: سمعت الأنصاريّ يقول: قد وُلّيتُ القضاء مرتين، والله ما حكمت بالرأي، ولقد بعت مُدَبَّرًا، قال: وسمعت محمد بن عبد الله الزياديّ يقول: سألت الأنصاريّ عن شيء قَضَى به علينا معاذ بن معاذ، فأفتى بخلافه، فلما وُلِّي القضاء قَضَى في تلك المسألة بما قَضَى به معاذ، فسألته، فقال: كنت أنظر في كتب أبي حنيفة، فإذا جاء دخول الجنة والنار، لم نجد القول إلا ما قال معاذ.

أخرج له الجماعة، وليس له عند المصنّف في الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

3 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

4 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

5 -

(حُمَيد بن هلال) بن هُبَيرة، ويقال: ابن سُويد بن هُبيرة الْعَدَويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة عالم [3].

رَوَى عن عبد الله بن مُغَفّل، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وأنس، وهشام بن عامر الأنصاري، وابنه سعد بن هشام، وعبد الله بن الصامت، وأبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أيوب السختياني، وعاصم الأحول، وحجاج بن أبي عثمان، وحبيب بن الشهيد، وقتادة، وسليمان بن المغيرة، وهشام بن حسّان، وغيرهم.

قال القطان: كان ابن سيرين لا يرضاه، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: لأنه دخل في عمل السلطان، وكان في الحديث ثقة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو هلال الراسبي: ما كان بالبصرة أعلم منه. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة، وقد حَدّث عنه الأئمة، وأحاديثه مستقيمة. وقال ابن سعد: كان

ص: 293

ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البزار في "مسنده": لم يسمع من أبي ذرّ. وقال أبو حاتم: لم يَلْقَ هشام بن عامر، والحفاظ لا يُدخلون بينهما أحدًا، حماد بن زيد وغيره، وهو الأصح. وقال ابن المديني: لم يَلْقَ عندي أبا رفاعة العدوي. ووَثّقه العجلي، وفي أحاديث القهقهة من "السنن" للدارقطني من طريق وهيب عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كان أربعة يُصَدِّقُون مَنْ حدَّثهم، ولا يبالون ممن يسمعون: الحسن، وأبو العالية، وحُميد بن هلال، ولم يذكر الرابع، وفي بعض النسخ منه: وداود بن أبي هند.

قال ابن سعد: مات في ولاية خالد على العراق.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.

6 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3](104) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

7 -

(أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس بن سُلَيم بن حضّار الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

8 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، (ت 57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، ويجتمعان في هشام بن حسّان، وإنما فرّق بينهما؛ لاختلاف صيغ الأداء؛ ففي رواية محمد بن عبد الله الأنصاريّ، قال هشام بن حسّان:"حدّثنا حُميد بن هلال، عن أبي بُردة، عن أبي موسى"، فصرّح بتحديث حميد له، ولم يشك، وفي رواية عبد الأعلى، قال: "عن حميد بن هلال، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي بُردة

إلخ"، فشكّ.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه هو أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وأبو موسى رضي الله عنه، كان واليًا على

ص: 294

البصرة، زمن عمر رضي الله عنه، فوُلد له أبو بُردة هناك، ثم تولى إمرة الكوفة، وكذلك أبو بُردة كان قاضيًا على الكوفة بعد شُريح، فهما بصريّان كوفيّان.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

6 -

(ومنها): أن فيه راويين اشتهرا بالكنية، أما أبو بردة، فقد اختُلف في اسمه، فقيل: اسمه كنيته، وقيل: عامر، وقيل: الحارث، كما أسلفته آنفًا، وأما أبو موسى رضي الله عنه، فلم يُختَلف في اسمه عبد الله بن قيس رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) رحمه الله (قَالَ) الظاهر أن الضمير لحميد (وَلَا أَعْلَمُهُ) أي لا أعتقد هذا الحديث (إِلَّا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) أي إلا كوني سمعته منه، ويحتمل أن يكون لهشام، أي قال هشام: لا أعلم حميدًا حدّثني بهذا الحديث إلا عن أبي بردة.

[فإن قلت]: فيه شكّ، فكيف أخرجه المصنّف رحمه الله؟.

[قلت]: الشكّ في هذا الطريق لا يضرّ؛ لأنه قد جزم في رواية محمد بن عبد الله الأنصاريّ، فالظاهر أنه حدّث به هشامًا مرّتين، مرّة، وقد شك فيه، ومرّة قد تحقّق عنده سماعه منه فجزم، ولذا استجاز المصنّف إخراجه ترجيحًا لحالة الجزم؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي مُوسَى) متعلّق بحال مقدّر؛ أي حال كون أبي بردة راويًا عن أبيه أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (اخْتَلَفَ) بالبناء للفاعل (فِي ذَلِكَ) الإشارة إلى حكم الجماع دون إنزال المنيّ (رَهْط) بالرفع على الفاعليّة لـ "اختَلَف"، وقد تقدّم "الرهط" بسكون الهاء أفصح من فتحها، وهم: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وقيل غير ذلك في معناه

(1)

، (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ) رضي الله عنه (فَقَالَ الْأنصَارِيُّونَ) جمع أنصاريّ، نسبة إلى الأنصار، وإن كان جمعًا؛ لكونه جرى مجرى العلم، كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله في" الخلاصة"، حيث قال:

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 241 - 242.

ص: 295

وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ

إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ

وفي رواية أبي نعيم: "عن أبي موسى: قال: كنت في بيت، فذكروا ما يوجب الغسل"، وفي رواية أبي عوانة: "عن أبي موسى: قال: كنّا جلوسًا، فذكروا ما يوجب الغسل، فقال من حضر من المهاجرين: إذا مسّ الختان الختان، أو خالط الختان الختان، فقد وجب الغسل، وقال من حضر من الأنصار: لا حتى يَدْفُق، فقال أبو موسى: أنا آتيكم بالخبر، فقام إلى عائشة، فسلّم

" الحديث.

(لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ) بفتح الدال المهملة، وسكون الفاء: أي خروج المنيّ بشدّة، وقال أبو نعيم: الدَّفْقُ: الصبّ. انتهى. يقال: دَفَقَ الماءُ دَفْقًا، من باب نصر

(1)

: انصبّ بشدّة، ودفقتُهُ أنا، يتعدّى ولا يتعدّى، فهو دافقٌ ومدفوقٌ، وأنكر الأصمعيّ استعماله لازمًا، قال: وأما قوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، فهو على أسلوب لأهل الحجاز، وهو أنهم يُحَوِّلون المفعول فاعلًا إذا كان في محلّ نَعْتٍ، والمعنى: من ماء مدفوقٍ، وقال ابن الْقُوطيّة

(2)

ما يوافقه: سِرٌّ كاتم؛ أي مكتوم، وعارف: أي معروفٌ، ودافق: أي مدفوق، وعاصم: أي معصومٌ، وقال الزجّاج: المعنى: من ماء ذي دَفْقٍ. ذكره الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: دَفَقَه يَدْفُقُهُ - أي بالضمّ - وَيدْفِقُهُ - أي بالكسر -: صبّهُ، وهو ماءٌ دافقٌ: أي مدفوقٌ لأن دَفَقَ متعدٍّ عند الجمهور. انتهى

(4)

.

ثم يحتمل أن يكون المراد بقوله: "من الدَّفق" المعنى المصدريّ؛ أي من إخراج المنيّ، إن كان من المتعدّي، أو خروجه إن كان من اللازم، و"من" في الموضعين سببيّة.

(1)

هكذا في "المصباح"، لكن في "القاموس" ما يفيد أنه من بابي نصر، وضرب؛ فتنبّه.

(2)

الظاهر أن "قال" هنا بمعنى ذكر؛ أي ذكر ابن القوطيّة ما يوافق ما قاله الأصمعي، فقال: يقال: سرّ كاتم

إلخ.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 197.

(4)

"القاموس المحيط" 3/ 231.

ص: 296

(أَوْ مِنَ الْمَاءِ)"أو" للشكّ من أحد الرواة في أيّ اللفظين وقع عند الاختلاف، والمراد من كلّ اللفظين المنيّ.

(وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ) للإضراب الإبطاليّ، وفي بعض النسخ:"بلى" أي بلى يجب الغسل (إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) الضمير في "خالط" المفهوم من المقام، للرجل؛ أي جامع امرأته، أو للعضو، والمخالطة كناية عن المبالغة في الجماع، واختلاطِ العضوين، قال الحربيّ: والخلط من أسماع الجماع

(1)

.

(قَالَ) أبو بردة (قَالَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (فَأَنا أَشْفِيكُمْ) الفاء في جواب شرط مقدَّر؛ أي إذا كنتم مختلفين، ولم تجدوا من يفصل بينهم، فأنا أشفيكم، وقوله:"أشفيكم" بفتح الهمزة، وضمّها، يقال: شفاه يَشفيه: أبرأه، كأشفاه، قاله في "القاموس".

وقال في "المصباح": شَفَى الله المريضَ، يَشْفِيه، من باب رَمَى

(2)

، شِفَاءً: عافاه، واشتفيتُ بالعدوّ، وتَشَفّيتُ به من ذلك؛ لأن الغضب الكامن كالداء، فإذا زال بما يطلبه الإنسان من عدوّه، فكأنه برئ من دائه. انتهى

(3)

.

(مِنْ ذَلِكَ) الإشارة إلى الاختلاف في هذا الموضوع، كأنه داء، ورفعه دواؤه (فَقُمْتُ) أي من مجلس الاختلاف (فَاسْتَأذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (فَأُذِنَ لِي) بالبناء للمفعول (فَقُلْتُ لَهَا: يَا أمّاهْ) منادى مضاف إلى ياء المتكلّم، وأصله: يا أمّي، قلبت ياء المتكلّم ألفًا بعد قلب الكسرة قبلها فتحةً؛ للتخفيف، ثم أُلحق بها هاء السكت ساكنة؛ لأجل الوقف (أَوْ) للشك من أحد الرواة أيضًا، هل قال:"يا أماه"، أو قال:(يَا أمّ الْمُؤْمِنِينَ) هذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلكِ عَنْ شَيءٍ، وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ) وفي نسخة: "أستحيي منك"، فالأول على لغة التعدية بنفسه، والثاني على لغة التعدية بالحرف، قال في "القاموس":"الحياء": الْحِشْمَةُ، حَيِيَ منه حياءً، واستحيا منه، واستَحَى منه، واستحياه. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "النهاية" 2/ 64.

(2)

قد عرفت مما سبق عن "القاموس" أنه من بابي نصر، وضرب؛ فتنبّه.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 319.

(4)

"القاموس المحيط" 4/ 322.

ص: 297

فقد أفاد أنه يتعدّى بنفسه، وبحرف الجرّ.

وقال في "المصباح": الحياء: هو الانقباض، والانزواء، قال الأخفش: يتعدّى بنفسه، وبالحرف، فيقال: استحييتُ منه، واستحييته، وفيه لغتان: إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم بياء واحدة. انتهى

(1)

.

(فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (لَا تَسْتَحْيِي) وقع في النسخ بياءين، وعليه فـ "لا" نافية، والفعل مرفوع، وهو خبرٌ بمعنى النهي على وجه المبالغة، وفي بعض النسخ:"لا تستحي" بياء واحدة، على لغة من قال: استحَى يستحي، كما تقدّم بيانه (أَنْ تَسْأَلني)"أن" مصدريّة والفعل في تأويل المصدر مفعول به، أو مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ لأن سأل يتعدّى إلى المفعول الثاني بنفسه، وبحرف الجرّ، قال في "القاموس": سأله كذا، وعن كذا، وبكذا بمعنى

(2)

، والتقدير هنا: أي عن سؤالي (عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإنمَا أَنَا أمُّكَ) الفاء للتعليل؛ أي لأني أمك، كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6](قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟) الفاء في جواب شرط مقدّر، و"ما" استفهاميّة؛ أي إذا أذِنت لي في السؤال، وشجّعتني عليه، وخفَّفتِ عني ثقل الحياء الذي اعتراني، فأيُّ شيء يوجب على الإنسان أن يغسل جميع بدنه؟ (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ) معناه: صادفت خبيرًا بَحقيقة ما سألت عنه، عارفًا بَخفيّه وجليّه، حاذقًا فيه.

قال الأبيّ رحمه الله: هذا مثل، قال أبو عبيد: وأصله لمالك بن حُبير، أحد حكماء العرب، وبه تمثّل الفرزدق حين لقيه الحسين رضي الله عنه، وهو يريد العراق للبيعة، وقال له: ما وراءك؟، فقال:"على الخبير سقطت"، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والأمر ينزل من السماء، فقال: صدقتني. انتهى

(3)

.

وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدلّ على أنها فَهِمَت أن سؤاله عما يوجب

(1)

"المصباح المنير" 1/ 160.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 392.

(3)

"شرح الأبّي" 2/ 112.

ص: 298

الغسل من الجماع؛ لأنه رجل إنما يسأل عما يخصّه غالبًا، وقد يَحْتَمل أن سؤاله كان حين سؤال عمر وغيره من الصحابة لها حين اختلافهم في المسألة، ففهِمَت بقرينة الحال مراده، أفاده القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ) تقدّم الخلاف في معناه (وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ) قال ابن الأثير رحمه الله: المراد بالختانين موضع القطع من ذكر الغلام، وفرج المرأة، ويقال لقطعهما: الإعذار والْخَفْض. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": خَتَنَ الولدَ يَخْتِنُهُ، ويَخْتُنُه - أي من بابي ضرب، ونصر -، فهو خَتِينٌ، ومختونٌ: قَطَعَ غُرْلَته

(3)

، والاسم ككِتاب، وكتابة، والختانة: صناعته، والختان موضعه من الذكر، والْخَتْنُ: القطعُ. انتهى

(4)

.

وقال بعض الشرّاح: "الخِتان" للرجل: قطع قِطعة الكَمَرة

(5)

المغطّية للحشفة، وللمرأة قطع جلدة من أعلى الفرج، تُشبه عَرْفَ الدِّيك، مجاورة لمخرج البول، بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة، قيل: يُطلق الختان للرجل والمرأة، بخلاف الخِفَاض، فلا يقال إلا للمرأة، وقيل: الخِتان للرجل، والخفاض للمرأة، وعليه فالتثنية في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى الختانان" على سبيل التغليب، وقاعدتُهُ ردّ الأثقل إلى الأخفّ، والأدنى إلى الأعلى

(6)

.

قال الجامع عفا الله: المراد هنا الموضع الذي قُطعت منه الجلدة، من الرجل والمرأة، فعلى ما سبق من إطلاق الختان على مكان القطع فلا حذف، وعلى إطلاقه على المصدر، فالكلام على حذف مضاف؛ أي موضع الختان، أي القطع.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه غَيَّب ذكره في فرجها، وليس المراد حقيقة المس، وذلك أن ختان المرأة في أعلى الفرج، ولا يمسه الذكر

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 199.

(2)

"النهاية" 2/ 10.

(3)

"الْغُرْلة": كالْقُلْفة وزنًا ومعنى. اهـ. "المصباح" 2/ 446.

(4)

"القاموس الحيط" 4/ 218.

(5)

"الكَمَرة: الحَشَفة وزنًا ومعنى. اهـ. "المصباح" 2/ 541.

(6)

"فتح المنعم" 2/ 378.

ص: 299

في الجماع، وقد أجمع العلماء على أنه لو وضع ذكره على ختانها، ولم يولجه، لم يجب الغسل، لا عليه ولا عليها، فدَلّ على أن المراد ما ذكرناه، والمراد بالْمُمَاسّة الْمُحَاذاة، وكذلك الرواية الأُخرى:"إذا التقى الختانان": أي تحاذيا. انتهى

(1)

.

(فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ") جواب "إذا"، أي وجب غسل جميع الجسد على الرجل والمرأة؛ لكونهما جنبين، داخلين، في أمر الله تعالى بقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[21/ 791](349)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(108 و 109)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(608)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 46 و 66)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(954)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(227)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1183)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 55 و 57)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 163 و 166)، وفي "المعرفة"(1/ 415 و 417)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(343)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(827)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(780 و 781)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة حرصهم على العلم، حتى يحصل بينهم مناقشة؛ للوصول إلى معرفة الحقّ.

2 -

(ومنها): بيان ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من العلم الذي لا يشاركها غيرها مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله معها.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 42.

ص: 300

3 -

(ومنها): حسن أدب الصحابة، وتقدير مكانة عائشة رضي الله عنها في العلم، واستفادتهم منها.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا لم يكن عنده من الأدلّة ما يستند إليه أن يسأل غيره من أهل العلم، ويعتمد على نقله منه، ولا يجتهد برأيه ما دام يجد مَن عنده العلم بالنصوص.

5 -

(ومنها): أدب أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه في سؤال عائشة رضي الله عنها، فقد توسّل بحسن أدبه إلى ما طلبه من الشفاء من داء الجهل بهذه المسألة.

6 -

(ومنها): بيان أن الجهل داء للإنسان فدواؤه العلم، فينبغي أن لا يسكت على جهله، بل يطلب العلم من عند أهله، فإن شفاء الْعِيّ السؤال، كما قال النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، فقد أخرج أحمد، وأبو داود وغيرهما، واللفظ لأبي داود بسند حسن، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حَجَرٌ، فشَجَّه في رأسه، ثم احتَلَم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نَجِد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قَدِمنا على النبيّ - صلي الله عليه وسلم - أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، أَلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شِفَاء الْعِيّ

(1)

السؤال".

7 -

(ومنها): بيان وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وأن حديث:"الماء من الماء" منسوخ، كما حقّقنا وجهه في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[792]

(350) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِي، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أُمِّ كلْثُوم، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنَّ رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلَ يُجَامِعُ أَهْلَهُ، ثُمَّ يُكْسِلُ، هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؟ وَعَائِشَةُ

(1)

"العِيّ " بالكسر: التحيّر في الكلام، وعدم الضبط، والمراد به هنا: الجهل.

ص: 301

جَالِسَة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لأفعَلُ ذَلِكَ، أنا وَهَذِه، ثُمَّ نَغْتَسِلُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الْخَزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْليُّ) نزيل مصر، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن مَعْمَر الْفِهْريّ المدنيّ، نزيل مصر، فيه لينٌ [7].

رَوَى عن إبراهيم بن عُبيد بن رِفاعة، والزهريّ، وأبي الزبير، ومَخرمة بن سليمان، وسعد بن إبراهيم.

ورَوى عنه ابنه معمر، وصدقة السَّمين، وابن لَهِيعة، والليث، وابن وهب.

قال أبو حاتم: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ: روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر، وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أبو صالح: ثَبْت

(1)

، له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيءٌ، وقال البخاريّ: منكر الحديث.

روى له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجهْ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (350)، وحديث (763): "فجعل يمسح النوم عن وجهه

"، و (980): "ليس فيما دون خمس أواق

"، و (2748): "لو أنكم لم تكن لكم ذنوب

".

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوقٌ، يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنها، تقدّم قريبًا.

(1)

هذا مع قوله: "في حديثه شيء" فيه تناقض، فليُتأمل.

ص: 302

7 -

(أُمُّ كُلْثُومٍ) بنت أبي بكر الصدّيق، أمُّها حَبِيبة بنت خارجة، وتُوُفِّي أبوها، وهي حَمْلٌ، ثقة [2].

رَوَت عن أختها عائشة رضي الله عنها، وروى عنها ابنها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وهو أكبر منها، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والمغيرة بن حكيم الصنعانيّ، وجُبير بن حبيب، ولُوط بن يحيى.

ذكرها ابن مندهْ، وأبو نعيم، وغيرهما في "الصحابة"، وأخطأوا في ذلك؛ لأنها ولدت بعد موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

أخرج لها البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (350)، وحديث (638):"إنه لوقتها لولا أن أشقّ على أمتي".

8 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَنَ بينهما.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن تابعيّة: جابر، عن أم كلثوم، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن جابرًا رضي الله عنه صحابيّ، وهو أكبر منها سنًّا ومرتبةً، وفضلًا.

3 -

(ومنها): رواية الراوية عن أختها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنها (عَنْ أُمِّ كُلْثُوم) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه (عَنْ) أختها (عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنه (زَوْجِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجر على البدليّة، ويجوز قطعه إلى الرفع والنصب بتقدير "هي"، و"أعني" (قَالَتْ: إِن رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه" لعلّه عتبان - يعني ابن مالك رضي الله عنه. انتهى

(1)

. (سَأَل

(1)

راجع: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 112.

ص: 303

رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ) جملة فعليّة في محلّ نصب على الحال؛ بناءً على القاعدة: "الْجُمَل وشبهُها بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال"، ويَحْتَمل أن تكون في محلّ جرّ صفة لـ "الرجل"؛ لأن المعرّف بـ "أل" الجنسيّة في قوّة النكرة (ثُمَّ يُكْسِلُ) بضمّ أوله، مضارع أكسل رباعيًّا، ويجوز أن يكون بفتح أوّله، وكسر ثالثه ثلاثيًّا، من باب فَرِحَ، قال في "القاموس": أَكْسَلَ في الجماع: خالطها، ولم يُنزِل، أو عَزَلَ، ولم يُرِد وَلَدًا، كَكَسِلَ، كَفَرِحَ. انتهى

(1)

.

(هَلْ عَلَيْهِمَا) أي الزوجين (الْغُسْلُ؟) أي غسل جميع جسدهما (وَعَائِشَةُ جَالِسَة) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، والرابط الواو (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لَأفعَلُ ذَلِكَ) أي الجماع من غير إنزال (أَنَا) أتى به للفصل حتى يعطف ما بعده على الضمير المتّصل، وهذا الفصل ليس بلازم؛ لحصوله باسم الإشارة، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَهَدهِ) عطف على الضمير الفاعل، وأشار إلى عائشة رضي الله عنها (ثُمَّ نَغْتَسِلُ") قال النوويّ رحمه الله: إنما ذَكَر النبيّ - صلي الله عليه وسلم - بهذه العبارة؛ ليكون أوقع في نفسه.

انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرجه المصنف، وفيه عياض بن عبد الله، وهو متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته؟.

[قلت]: لم ينفرد به عياض، بل تابعه عليه عبد الله بن لهيعة، عند الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"(1/ 55) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 44 - 45.

ص: 304

عياض بن عبد الله القُرشيّ، وابنُ لَهِيعة، عن أبي الزبير المكيّ

إلخ، وابن لَهِيعة، وإن تُكلّم فيه، إلا أن رواية العبادلة: عبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ عنه صحيحة، قال عبد الغنيّ بن سعيد الأزديّ: إذا روى العبادلة عن ابن لَهِيعة، فهو صحيح، ثم ذكرهم، وزاد غيره: وعبد الله بن مسلمة القعنبيّ.

والحاصل أن ابن لَهِيعة صالح للمتابعة مطلقًا، وإذا كان من رواية العبادلة عنه، فأحرى أن يكون متابعًا قويًّا يصحّ به الحديث.

وأيضًا الحديث له شاهد صحيح، من طريق آخر، أخرجه الترمذيّ، فقال:

(101)

حدثنا أبو موسى، محمد بن المثنى، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا".

وقال الإمام أحمد في "مسنده":

(24120)

حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعيّ، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، زوج النبيّ - صلي الله عليه وسلم - قالت:"إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، واغتسلنا".

وهذا الحديث صحيح، والوليد بن مسلم وإن كان يدلّس ويسوّي، إلا أنه صرّح بالتحديث في شيخه، وشيخ شيخه، في رواية أحمد المذكورة، فانتفت عنه تهمة التدليس.

وقد أجاد الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ في "كتاب الوهم والإيهام" حيث قال - بعد ذكر كلام عبد الحقّ في إعلال الحديث بالإرسال - ما نصّه:

وكونه يروى مرسلًا ليس بعلّة فيه، ولا أيضًا قول القاسم: إنه لم يسمع في هذا شيئًا، فإنه قد يعني به شيئًا يناقض هذا الذي رويتَ، لا بدّ من حمله على ذلك؛ لصحّة الحديث المذكور عنه من رواية ابنه عبد الرحمن، وهو الثقة المأمون، والأوزاعيّ إمام، والوليد بن مسلم، وإن كان مدلّسًا ومُسَوِّيًا، فإنه قال فيه: حدّثنا.

ص: 305

ذكر ذلك الدارقطنيّ، وذكر له أيضًا طريقًا آخر عن الأوزاعيّ، هو منه أيضًا صحيح.

قال الدارقطنيّ: حدّثنا أبو بكر النيسابوريّ، أخبرني العبّاس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعيّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أنها سُئلت عن الرجل يُجامع المرأة، فلا يُنزل الماء؟ قالت:"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا جميعًا".

قال الدارقطنيّ: رفعه الوليد بن مسلم، والوليد بن مَزْيد، ورواه بشر بن بكر، وأبو المغيرة، وعمرو بن أبي سلمة، ومحمد بن كثير الْمِصيصيّ، ومحمد بن مصعب، وغيرهم موقوفًا. انتهى كلامه

(1)

.

الوليد بن مزيد ثقةٌ، أحد أكابر أصحاب الأوزاعيّ، وكان الأوزاعيّ يقول: عليكم به، فإن كتبه صحيحة، أو كلامًا هذا معناه، وقال أيضًا: ما عُرِض عليّ كتاب أصحّ من كتب الوليد بن مزيد، وقال فيه دُحيم: صالح الحديث.

وابنه العبّاس بن الوليد ثقةٌ صدوقٌ، وقد ذَكَر جميعُهُم سماع بعضهم من بعض، فصحّ الحديث.

فإن كان حديث الترمذيّ مُعتَرَضًا مَن طريق الوليد بن مسلم، فقد صحّ من طريق الوليد بن مزيد، وقد صحّ حديث عائشة رضي الله عنها بهذا المعنى من رواية جابر عنها، ذكره مسلم، فاعلم ذلك. انتهى كلام أبي الحسن ابن القطّان رحمه الله

(2)

، وقد أجاد، وأفاد.

والحاصل أن الحديث صحيح بالروايتين: رواية المصنّف، ورواية أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، فلا معنى لتعقّب الحافظ ابن حجر كلام ابن القطّان بأنه متعسّف، لا يرتضيه محقّق، انظر:"نكته على تحفة الأشراف"(12/ 272)، وقوله أيضًا في "التلخيص الحبير" (1/ 242 - 143): وأجاب من

(1)

"سنن الدارقطنيّ" 1/ 112.

(2)

"بيان الوهم والإيهام" 5/ 267 - 269.

ص: 306

صحّحه بأنه يَحْتَمل أن يكون القاسم كان نسيه ثم تذكّر، فحدّث به ابنه، أو كان حدّث به ابنه ثم نسي، ولا يخلو الجواب عن نظر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الجواب: لا نظر فيه - إن شاء الله -؛ لأنه جواب مقنع، وكم من مواضع مشكلة، أجاب هو فيها بمثل هذا الجواب، أو بأشدّ من هذا.

وجملة القول أن الحديث رواه عن الأوزاعيّ متّصلًا الوليد بن مسلم عند أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، كما سبق، والوليد بن مزيد عند الدارقطنيّ، كما سبق أيضًا، وعبد الله بن كثير القارئ الدمشقيّ عند ابن حبان (1175)، وبشر بن بكر عند ابن الجارود في "المنتقى"(93)، وإسماعيل بن عبد الله بن سماعة عند تمّام في فوائده، وقال الشافعيّ في "مسنده" (1/ 104) (شفاء العيّ): حدّثني الثقة، فكل هؤلاء: الوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد، وعبد الله بن كثير، وبشر بن بكر، وإسماعيل بن عبد الله، والثقة عند الشافعي، عن الأوزاعي

(1)

.

وأجاب بعض المحقّقين عن اعتراض الحافظ على ابن القطّان في نسيان القاسم، فقال: ونسيان القاسم للحديث ليس بالأمر الغريب، فقد نسي بعض حديثه من هو أجلّ منه، فنسي عمر بن الخطاب واقعته مع عمّار لَمّا أجنبا، ونسي أبو معبد حديثًا سمعه من ابن عبّاس في انقضاء الصلاة بالتكبير، قال عمرو بن دينار: ذكرته لأبي معبد بعدُ، فقال: لم أُحدّثك، قال عمرو: وقد حدّثنيه، وروى الزهريّ حديث عائشة في بطلان النكاح بغير الوليّ، ثم لَمّا سأله ابن جريج عنه، فقال: لا أعرفه، وروى سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه حديث أبي هريرة في القضاء باليمين مع الشاهد، فسأله عبد العزيز بن محمد عنه، فلم يعرفه، وقد نسي ابن عمر حديث صلاة القنوت، ونسي سمرة حديث العقيقة، وأشباه ذلك كثير، فأيّ نظر حينئذ في نسيان القاسم. انتهى

(2)

.

(1)

راجع ما كتبه محقق: "التحقيق" لابن الجوزيّ 2/ 110 - 112.

(2)

راجع: تخريج الشيخ أبي إسحاق الحوينيّ المسمّى: "غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود" 1/ 93 - 94.

ص: 307

وبهذا بان لك الحقّ واتّضح، وأن الحديث صحيح بلا ريب - ولله الحمد -، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) من هذا الوجه هنا في "الحيض"[21/ 792](350)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 68 و 110)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 55)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 164).

وأخرجه من طريق الأوزاعيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:(الترمذيُّ) في "الطهارة"(108)، و (النسائيّ) في "عشرة النساء" من "الكبرى"(9127)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(608)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 86)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1175 و 1176)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الاغتسال من الجماع، وإن لم يحصل إنزال.

2 -

(ومنها): جواز ذكر مثل هذا بحضرة الزوجة، إذا ترتّبت عليه مصلحة.

[فإن قلت]: قد ورد الوعيد في إفشاء السرّ بين الزوجين، فقد أخرج المصنّف في "كتاب النكاح" من طريق عبد الرحمن بن سعد، قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجلُ يُفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم يَنشُرُ سرَّها".

وفي لفظ: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجلُ يفضي إلى امرأته

"، فكيف يُجمَع بينه، وبين حديث الباب؟.

[قلت]: يُجمع بينهما بحمل ما في الباب على ما دعت إليه حاجة، وترتّبت عليه مصلحة دينيّة، وحديث النهي على ما خلا من ذلك، ولا سيّما فيما إذا كانت المرأة تتأذّى بإفشائه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قيل: إن فعله صلى الله عليه وسلم للوجوب؛ إذ لولا ذلك لم يحصُل جواب السائل.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عند الجمهور أن فعله صلى الله عليه وسلم للاستحباب

ص: 308

ما لم يقترن به دليل الوجوب، وهنا إنما استفيد من ضمّه إلى الأدلة الأخرى، كحديث:"إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل"، فأراد النبيّ - صلي الله عليه وسلم - أن يؤكد الوجوب المستفاد من قوله بما ذكره من فعله، وقد حقّقتُ هذا الموضوع في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(22) - (بَابُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[793]

(351) - (وَحَدثنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام، أَنَّ خَارِجَةَ بْنَ زيدٍ الْأنصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَن أَبَاهُ زيدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيه، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّه) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأَيليّ، ثم المدنيّ، ثم الشاميّ، ثم المصريّ، ثقةٌ ثبت [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

ص: 309

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الإمام المشهور، تقدّم قبل باب.

6 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام) الْمخزومي المدنيّ، ثقةٌ [5] مات في أول خلافة هشام (ع) تقدم في "الإيمانً" 26/ 210.

7 -

(خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الأنصَارِيُّ) هو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ النَّجَّاريّ، أبو زيد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3].

أدرك عثمان، وروى عن أبيه، وعمه يزيد، وأسامة بن زيد، وسهيل بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأمه أم سعد بن الربيع، وأم العلاء الأنصارية.

ورَوَى عنه ابنه سليمان، وابنا أخويه: سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وقيس بن سعد بن زيد، وعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وابنه محمد بن عبد الله، ومُجالد بن عوف، وأبو الزناد، والزهريّ، وعثمان بن حكيم، وغيره.

قال أبو الزناد: كان أحد الفقهاء السبعة، وقال مصعب الزبيري: كان خارجة، وطلحة بن عبد الله بن عوف يقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق، وينتهي الناس إلى قولهما، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال ابن خِرَاش: خارجة بن زيد أجلّ من كل من اسمه خارجة.

وقال البخاريّ: إن صحّ قول موسى بن عقبة: إن يزيد بن ثابت قُتل يوم اليمامة؛ فإن خارجة بن زيد لم يدرك عمه.

قال ابن نمير، وعمرو بن عليّ: مات سنة (99)، وقال ابن المدينيّ، وغير واحد: مات سنة مائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحَكَى القولين جميعًا.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

8 -

(زَيْدُ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحاك بن زيد بن لُوذان بن عمرو بن عَبد عَوف بن غَنْم بن مالك بن النجار الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة المدني، قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يكتب له الوحي، رَوَى عنه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم.

وروى عنه ابناه: خارجة، وسلمان، ومولاه ثابت بن عبيد، وأم سَعْد، قيل: إنها ابنته، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد، وسهل بن حُنيف، وابن

ص: 310

عمر، وسهل بن سعد، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وسهل بن أبي حَثْمَةَ، ومروان بن الحكم، وأبان بن عثمان، وبُسْر بن سعيد، وطاووس، وعُبيد بن السَّبَّاق، وعطاء بن يسار، وغيرهم من الصحابة والتابعين.

قال عاصم عن الشعبي: غلب زيدٌ الناسَ على اثنتين: الفرائضِ والقرآنِ. وقيل: إن أوّل مشاهده يوم الخندق. قاله الواقدي. وكانت معه راية بني النجار يوم تبوك، وكانت أوّلًا مع عُمارة بن حَزْم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم منه، فدفعها لزيد بن ثابت، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغك عني شيء؟ قال: "لا، ولكن القرآن مُقَدَّم". أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 421.

وكان زيد من علماء الصحابة، وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك.

وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ثبت ذلك في "الصحيح"، وقال له أبو بكر: إنك شابٌّ عاقل، لا نَتَّهِمُك. وروى البخاري تعليقًا، والبغوي، وأبو يعلى موصولًا عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه، قال: أُتِي بي النبي صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأتُ عليه فأعجبه ذلك، فقال:"تعلم كتاب يهودَ، فإني ما آمنهم على كتابي"، ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حَذِقتُهُ، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. ورواه عبد بن حميد من طريق ثابت بن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أكتب إلى قوم، فأخاف أن يزيدوا عليّ، أو ينقصوا، فتَعَلَّمِ السُّرْيانية"، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الشعبي قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال: تَنَحّ يا ابن عَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد"، رواه أحمد بإسناد صحيح، وقيل: إنه معلول. ورَوَى ابن سعد بإسناد صحيح قال: كان زيد بن ثابت أحد أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبَيٌّ، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. ورُوِي بسند فيه الواقدي من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. ورَوَى البغوي بإسناد صحيح عن خارجة بن زيد: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر، فَقَلَّمَا رجع إلا أقطعه حديقة من نخل. ومن

ص: 311

طريق ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم. وقال مسروق: قَدِمتُ المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وقال علي بن زيد بن جُدْعان، عن سعيد بن المسيب: شَهِدتُ جنازة زيد بن ثابت، فلما دُلِّيَ في قبره قال ابنُ عباس رضي الله عنها: مَن سَرّه أن يعلم كيف ذَهَاب العلم، فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دُفن اليوم علم كثير. وقال أبو هريرة رضي الله عنه حين مات: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا.

مات زيد سنة اثنتين، أو ثلاث، أو خمس وأربعين، وقيل: سنة إحدى، أو اثنتين، أو خمس وخمسين، وفي خمس وأربعين قول الأكثر. ولَمّا مات رثاه حسان بقوله [من الطويل]:

فَمَنْ لِلْقَوَاِفي بَعْدَ حَسَّانَ وَابْنِهِ

وَمَنْ لِلْمَعَانِي بَعد زَيْدِ بْنِ ثَابِتِ

وفضائله كثيرة

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا

(2)

، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقول، والإخبار.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فتفرّد بهما هو، وأبو داود، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض؛ ابن شهاب، وعبد الملك، وخارجة.

(1)

راجع: "الإصابة" 2/ 490 - 492، و"تهذيب التهذيب" 1/ 659 - 660.

(2)

هكذا في برنامج الحديث "صخر"، والذي في "المنتقى" لابن الجوزيّ أنه رَوَى من الأحاديث (92) حديثًا، اتفق الشيخان على (5) وانفرد البخاريّ بـ (4) ومسلم بحديث واحد، والله تعالى أعلم.

ص: 312

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن أبيه، عن جدّه.

6 -

(ومنها): أن فيه خارجة، أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة المجموعين في قول بعضهم:

إَذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتهم لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

7 -

(ومنها): أن صحابيّه من الصحابة المشهورين، ذو مناقب جمَّة، فكان كاتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وكان شهد له صلى الله عليه وسلم بأنه أفرض الأمة، وكان من الراسخين في العلم رضي الله عنه.

8 -

(ومنها): أن زيدًا رضي الله عنه وخارجة هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، فأما زيد فله فيه بضعة عشر حديثًا، وأما خارجة فليس له إلا هذا الحديث، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ الأيليّ: (قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) كذا هو في جميع الأصول: "عبد الملك بن أبي بكر"، قال الحافظ أبو عليّ الغَسّانيّ: هكذا يُروى هذا الإسناد عن جميع رواة الكتاب، وفي نسخة أبي عبد الله بن الْحَذّاء مما أُصْلِح بيده، فأفسده:"وقال ابن شهاب: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن"، جعل "عبد الله" موضع "عبد الملك"، والصواب "عبد الملك"، وكذا رواه أبو أحمد الْجُلُوديّ، وكذلك هو في نسخة أبي زكريا الأشعريّ، عن ابن ماهان، وكذلك رواه الزُّبَيديّ، عن الزهريّ، عن عبد الملك بن أبي بكر، وهو أخو عبد الله بن أبي بكر.

وقد روى الزهريّ، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أُميّة بن عبد الله بن خالد بن أَسِيد، عن ابن عمر، حديثَ قَصْر الصلاة في السفر، قولَ عبد الله بن عمر:"إن الله بعث إلينا محمّدًا صلى الله عليه وسلم، فإنما نَفْعَل كما رأينا يفعل".

قال محمد بن يحيى الذُّهْليّ: روى الزهريّ، عن أبي بكر بن

ص: 313

عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعن أخيه

(1)

محمد بن عبد الرحمن، وعن أخيه عكرمة بن عبد الرحمن، وروى أيضًا عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأخيه عبد الملك بن أبي بكر، وأخيه عمر بن أبي بكر.

وكلُّ هؤلاء مُخَرَّجٌ حديثهم في "الصحيح"، إلا عمر بن أبي بكر، فلا أعلم له رواية في الكتابين. انتهى كلام أبي عليّ الغسّانيّ رحمه الله

(2)

.

(أَنَّ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ الْأنصَارِيَّ) رحمه الله (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عبد الملك (أَنَّ أَبَاهُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ") أي من أجل أكل ما مسّته النار، فـ "ما" موصولة، وجملة "مسّت النار" صلتها، والعائد محذوف، كما قال في "الخلاصة":

....................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

و"مَسّ" من باب تَعِبَ، ونَصَرَ، يقال: مَسَسْتُ الجسدَ بماء، وأمسسته ماءً. أفاده الفيّوميّ

(3)

.

وليس المراد مجرّد مسّ النار، بل لا بدّ من تغييره وإنضاجه، كما تفيده الروايات الأخرى، ففي رواية أحمد، وأبي داود، والنسائيّ:"توضؤوا مما أنضجت النار"، وفي رواية أحمد أيضًا وأصحاب السنن:"توضؤوا مما غيّرت النار"، فيُستفاد منها أن مجرّد المسّ لا يوجب الوضوء، بل لا بدّ أن يكون مما غيّرته، وأنضجته؛ فتنبّه.

وهذا الحديث يدلّ على وجوب الوضوء من أكل ما غيّرته النار، وبه قال طائفة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وهو الحقّ؛ لأن أحاديث الباب منسوخة.

(1)

وقع في النسخة: "عن أخيه"، بحذف الواو، والصواب إثباتها. انظر:"تهذيب التهذيب" 3/ 624، فقد ذكر أن ابن شهاب روى عنه، بل لم يذكر له راويًا غيره؛ فتنبّه.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 796 - 797.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 572.

ص: 314

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الوضوء هنا هو الوضوء الشرعيّ العرفيّ عند جمهور العلماء، وكان الحكم كذلك، ثم نُسخ، كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنها:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ الوضوء مما مسّت النار"

(1)

، وعلى هذا تدلّ الأحاديث الآتية بعدُ، وعليه استقرّ عمل الخلفاء، ومعظم الصحابة، وجمهور العلماء مِن بعدهم، وذهب أهل الظاهر، والحسن البصريّ، والزهريّ إلى العمل بقوله:"توضّؤوا مما مسّت النار"، وأن ذلك ليس بمنسوخ. وذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى إيجاب الوضوء من أكل لحم الْجَزُور لا غير.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه أحمد، ومن معه هو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

قال: وذهبت طائفة إلى أن ذلك الوضوء إنما هو الوضوء اللغويّ، وهو غَسْلُ اليد والفم من الدَّسَم، كما فَعَل النبيّ - صلي الله عليه وسلم - حيث شَرِب اللبن، ثم مضمض، وقال:"إن له دَسَمًا"

(2)

، وأن الأمر بذلك على جهة الاستحباب،

وممن ذهب إلى هذا ابن قتيبة، ذكره في "غريبه"، والصحيح الأول، فلْيُعْتَمَدْ عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، ويأتي تمام البحث في هذا في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[22/ 793](351)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 107)، وفي "الكبرى"(1/ 105)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 184 و 188 و 189 و 190 و 191)، و (الدارميّ) في "سننه"(732)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(783)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 240)، وسيأتي تمام

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود برقم (192)، والنسائيّ (1/ 108).

(2)

متّفق عليه.

(3)

"المفهم" 1/ 603.

ص: 315

البحث فيه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المذكور في الحديث الماضى قال المصنّف رحمه الله:

[794]

(352) - (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِد، فَقَالَ: إِنَّمَا أتوَضَّأُ مِنْ أثْوَارِ أَقِطٍ أكَلْتُهَا؛ لأنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تَوَضَّؤوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث، والذي بعده موصولان بالسند الماضي، ليسا معلّقين، بل هما معطوفان، حُذف منهما حرف العطف، وهو جائز عند بعض النحاة في سعة الكلام، وإن كان الأكثرون يقيّدونه بالشعر؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ورجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن مروان بن الحكم الأمويّ الخليفة الراشد، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 101)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 46.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ) ويقال له: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ الكِنَانيّ حَلِيف بني زُهْرة، صدوقٌ [3].

رَوَى عن جابر بن عبد الله، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والسائب بن يزيد، وغيرهم، ورأى عمر وعليًّا.

ورَوَى عنه أبو عبد الله الأغرّ، وأبو صالح السمّان، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: قَدِمَ مصر زمن عمر بن عبد العزيز.

وجعل ابن أبي حاتم إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ ترجمتين، والحقّ أنهما واحد، والاختلاف فيه على الزهري وغيره، وقال ابن معين: كان الزهري يَغْلَط فيه. انتهى.

وفي "تاريخ البخاريّ" ما معناه: رَوَى معمر، وابن جريج، وعبد الجبار،

ص: 316

عن الزهريّ، عن عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ - يعني عن أبي سلمة -، وتابعه يحيى بن أبي كثير، ووافقهم بن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن إبراهيم بن قارظ، وكذا قال شعبة، وإبراهيم بن سعد، عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وتابعهم محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وقال عُقَيل، ويونس، عن الزهريّ، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وكذا قال يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن أبي صالح السمّان، عن عبد الله بن إبراهيم، وتابعه عثمان بن حكيم، عن أبي أمامة بن سهل، سمع عبد الله بن إبراهيم بن قارظ. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (352)، وحديث (851): "إذا قلت لصاحبك: أنصت

"، و (1394): "فإني آخر الأنبياء

" وأعاده بعده، و (1568): "ئمن الكلب خبيث

".

شرح الحديث:

عن عمر بن عبد العزيز: (أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في مسلم هنا، وفي "الجمعة"، و"البيوع"، ووقع في "باب الجمعة" من كتاب مسلم من رواية ابن جُريج: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وكلاهما قد قيل، وقد اختَلَف الحفّاظ فيه على هذين القولين، فصار إلى كلّ واحد منهما جماعة كثيرة، وقارظ بالقاف، وكسر الراء، وبالظاء المعجمة. انتهى

(2)

. (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عمر بن عبد العزيز (أنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِدِ) أي فوق ظهر المسجد، وفيه دليلٌ على جواز الوضوء على ظهر المسجد، وكذا رحبته إذا لم يؤد إلى إيذاء أحد، وقد نَقَل ابن المنذر إجماع العلماء على جوازه

(3)

. (فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه مبيّنًا سبب

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 72.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 44.

(3)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 44، و"الفتح" 1/ 285 "كتاب الوضوء" رقم (137)، و"نيل الأوطار" 1/ 314.

ص: 317

وضوئه ذلك (إِنَّمَا أتوَضَّأُ مِنْ أثوَارِ أَقِطٍ) أي قِطَع من أَقِط، فـ "الأثوار" بفتح الهمزة، وسكون الثاء المثلّثة: جمع ثَوْر - بفتح، فسكون -: وهو القطعة العظيمة من الأَقِط، ويُجمع أيضًا على ثِوَرة - بكسر، ففتح -. أفاده في "القاموس"

(1)

.

و"الأَقِط" مثلّثةً، ويُحرَّك، وكَكَتِفٍ، ورَجُلٍ، وإبلٍ: شيءٌ يُتَّخذ من الْمَخِيض الْغَنَميّ، جمعه: أَقْطانٌ، أفاده في "القاموس" أيضًا

(2)

. و"الْمَخِيض" فَعِيلٌ بمعنى مفعول: هو اللبن الذي استُخرج زُبْده بوضع الماء فيه وتحريكه، أفاده في "المصباح"

(3)

. (أَكَلْتُهَا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "أثوار"، أو حال منه؛ لتخصصه بالإضافة، ثم ذكر أبو هريرة رضي الله عنه الدليل الذي استنده في عمله هذا بقوله:(لِأنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ") أي من أكل ما غيّرته، وأنضجته النار، كما سبق بيانه في الحديث الماضي.

وبهذا تبيّن أن أبا هريرة رضي الله عنه ممن يرى وجوب الوضوء مما مسّت النار، وهو مذهب طائفة، كما سيأتي تمام البحث فيه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

ويُستفاد منه كون الوضوء مما مسّت النار غير معروف عندهم، ولولا ذلك لَمَا احتاج أبو هريرة رضي الله عنه إلى بيان سبب وضوئه، وفيه أنه يُستحبّ للعالم أن يُبيّن سبب فعله للناس، إذا كان مظِنّة إنكار الناس له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[22/ 794](352)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(79)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 105 و 106)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(485)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(667 و 668)، و (أبو داود

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 383.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 349.

(3)

"المصباح المنير" / 565.

ص: 318

الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(265 و 271 و 427 و 470 و 478 و 479)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 63)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1146)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(747)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(783)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المذكور قبل حديث قال المصنّف رحمه الله أيضًا:

[795]

(353) - (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَأنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ

(1)

، أَنَّهُ سَأَل عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان الأمويّ، أبو خالد، ويقال: أبو عثمان المدنيّ، نزيل دِمَشق، ثقةٌ [6].

رَوَى عن عروة بن الزبير، وقَبِيصة بن ذُؤيب، وعنه الزهريّ، ومحمد بن مَعْن بن نَضْلَة، وابنه مَعْن بن محمد.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

2 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام تقدّم قبل بابين.

وقوله: (وَأَنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ) وفي نسخة: "بهذا الحديث"، والجملة في محلّ نصب حال من فاعل "أخبرني"، أو من مفعوله.

ومعنى كلام الزهريّ هذا: أنه بينما يحدّث سعيدَ بنَ خالد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في وضوئه من أكل أثوار أقط، أخبره سعيد بأنه سأل عروة بن الزبير عن حكم الوضوء من أكل ما مسّته النار، فأخبره عروة أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضّؤوا مما مسّت النار"، فوافق

(1)

وفي نسخة: "بهذا الحديث".

ص: 319

حديثها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[22/ 795](353)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(486)، و (أحمد) في "مسنده"(23439)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(783)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 155)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابُ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[796]

(354) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ القَعْنبيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مَدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يُقدِّمان في "الموطّا" عليه أحدًا، من صغار [9](ت في أول سنة 221) بمكة (ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، إمام دار الهجرة، ثقة ثبتٌ رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

ص: 320

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدَويّ، مولى عمر بن الخطّاب، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقة فقيه، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الْهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 93)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسِ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ("أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ) أي لحمه، وفي الرواية الآتية من طريق محمد بن عليّ:"أكل عَرْقًا"، وللبخاريّ في "كتاب الأطعمة":"تَعَرَّق": أي أكل ما على العَرْق - بفتح العين المهملة، وسكون الراء - وهو العظم، ويقال له: الْعُرَاق، بالضمّ أيضًا.

قال في "القاموس": "الْكَتِف": كَفَرِحٍ، ومِثْلٍ، وجَبَلٍ، جمعه: كقِرَدَةٍ، وأَصْحابٍ. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": "الْكَتِف" - بفتح، فكسر - و"الْكِتْف" - بكسر، فسكون - مثل كَذِبٍ وكِذْبٍ: عظمٌ عَرِيضٌ خَلْفَ الْمَنْكِب، أنثى، وهي تكون للناس وغيرهم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: أفاد القاضي إسماعيل أنّ أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم الكتفَ كان في بيت

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 188.

(2)

"لسان العرب" 9/ 294.

ص: 321

ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي بنت عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيحْتَمِل أنه كان في بيت ميمونة، كما سيأتي من حديثها، وهي خالة ابن عباس، كما أن ضُباعة بنت عمه، قاله في "الفتح"

(1)

. (ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ") أي لأنه ليس مما ينقض الوضوء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الحيض"[23/ 796 و 797](354)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(207)، و (أبو داود) في "الطهارة"(187)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(490)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 25)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 227 و 281)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(40 و 41)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1133 و 1141 و 1142)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 64)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(22)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 153)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(169)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(748)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(784)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان أن أكل ما مسّته النار لا ينقض الوضوء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الراجح، كما سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أنه استَدَلّ الإمام البخاريّ رحمه الله به في "صحيحه" على أن الأمر بتقديم العَشاء على الصلاة خاصّ بغير الإمام الراتب، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا دُعي إلى الصلاة ألقى السكّين، وترك الأكل، وتوجّه إلى الصلاة، وهو استنباط وجيه.

(1)

1/ 372.

(2)

المراد فوائد أحاديث الباب، لا خصوص هذا السياق؛ فتنبّه.

ص: 322

3 -

(ومنها): جواز قطع اللحم بالسكين، وقد ورد في النهي عنه حديث في "سنن أبي داود"، لكنّه قال الحافظ رحمه الله: فإن ثَبَتَ خُصّ بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك؛ لما فيه من التشبه بالأعاجم، وأهل الترف. انتهى.

4 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": فيه أن الشهادة على النفي إذا كان محصورًا تُقْبَل. انتهى.

ووجه ذلك أن الصحابيّ أخبر بعدم وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"ثم صلّى، ولم يتوضّأ"، فيقبل إخباره ذلك؛ لأنه نفي محصور بتلك الواقعة، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): بيان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان يحتزّ اللحم بالسكّين.

6 -

(ومنها): استحباب خدمة الأكابر، حيث كان أبو رافع يشوي اللحم للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

7 -

(ومنها): جواز أكل المشويّ، ولا يكون من الترفّه والتكبّر.

8 -

(ومنها): استحباب قبول الهديّة، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يقبلها، ويُثيب عليها.

9 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من محبتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإيثارهم له، فقد كان ذلك اللحم الذي في بيت ميمونة رضي الله عنها قد أهداه بعض الصحابة، كما بيّنته رواية أحمد.

10 -

(ومنها): استحباب إهداء اللحم والخبز.

11 -

(ومنها): جواز الصلاة بعد أكل اللحم والخبز بدون المضمضة، لقوله:"ثم صلّى، ولم يمسّ ماء"، بل في رواية أحمد:"ثم نَهَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه إلى الصلاة، وما مَسَّ، ولا أحد ممن كان معه ماءً، ثم صلى بهم".

12 -

(ومنها): استحباب المضمضة بعد شرب اللبن؛ إزالةً لدَسَمِه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن له دَسَمًا"، وكذلك كلّ ما له رائحة كريهة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوضوء مما مسّت النار:

ص: 323

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَفَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن بَعْدَهم في الوضوء مما مست النار:

فمِمَّن رُوِي عنه أنه توضأ أو أمر بالوضوء منه: عبد الله بن عمر، وأبو طلحة، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعريّ، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو عَزّة رجل يقال: إن له صحبة.

قال: وقد رُوي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز، وأبي مِجْلَز، وأبي قِلابة، ويحيى بن يعمر، والحسن البصريّ، وأبي مَيْسَرة، والزهريّ.

قال: ومن حجة بعض من قال هذا القول الأخبار الثابتة عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالوضوء منه.

قال: وممن رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمره بالوضوء مما مست النار: زيد بن ثابت، وأبو طلحة، وأبو أيوب الأنصاريّ، وأبو موسى الأشعريّ، وسهل بن الحنظلية، وسَلَمة بن وَقْش، وأم سلمة، وابن عمر، وعائشة، وأم حبيبة.

قال: وأسقطت طائفة الوضوء مما مست النار، فمِمَّن كان لا يرى الوضوء مما مست النار: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة الباهليّ، وأُبَيّ بن كعب.

ثم أخرج بسنده عن أيوب السختيانيّ، أنه قال: إذا بلغك اختلاف عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدت في ذلك الاختلاف أبا بكر وعمر، فشُدّ يدك به، فهو الحقّ، وهو السنة.

ثم أخرج عن يحيى بن آدم، كان يقول: ليس يُحتاج مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ قول آخر، وإنما كان يقال: عَمِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر؛ لِيُعْلَم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات عليه.

قال: وهذا قول مالك بن أنس فيمن تَبِعَه من أهل المدينة، وسفيان الثوريّ، فيمن وافقه من أهل العراق، وبه قال الأوزاعيّ وأصحابه، وكذلك قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا أعلم اليوم بين أهل العلم اختلافًا في ترك الوضوء، مما مست النار، إلا الوضوء من لحوم الإبل خاصّةً، وسيأتي ذكرُ اختلافهم فيه - إن شاء الله تعالى -.

ص: 324

قال: وقد احتَجَّ بعض من لا يرى الوضوء مما مست النار بأخبار ثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم أخرج بأسانيده حديث:"أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم كتف شاة، ثم صلّى، ولم يتوضّأ".

ثم أخرج حديث جابر رضي الله عنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسّت النار"، وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والنسائيّ.

قال: وقال بعضهم: والدليل على أن الرخصة هي الناسخة اتفاقُ الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في ترك الوضوء، وقد ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، ولا يجوز أن يَسْقُط عنهم جميعًا علمُ ما يحتاجون إليه في الليل والنهار؛ إذ مما لا بد للناس منه الأكل والشرب، ولو كان الأكل حَدَثًا، ينقض الطهارة، ويوجب الوضوء، لم يَخْفَ ذلك عليهم، ولم يذهب معرفة ذلك عليهم، وغيرُ جائز أن يَجْهَلوا ذلك.

فإذا تطهر المرء، فهو على طهارته، إلا أن يَدُلَّ كتابٌ، أو سنةٌ لا معارضَ لها، أو إجماعٌ على أن طهارته قد انتقضت. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: ذكر مسلم رحمه الله في هذا الباب الأحاديث الواردة بالوضوء مما مست النار، ثم عقّبها بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مست النار، فكأنه يشير إلى أن الأمر بالوضوء منسوخ، وهذه عادة مسلم وغيره من أئمة الحديث، يذكرون الأحاديث التي يرونها منسوخة، ثم يُعَقِّبونها بالناسخ، ثم ذكر اختلاف العلماء نحو ما تقدّم، وأدلّتهم، ثم قال: وأجابوا عن حديث الوضوء مما مست النار بجوابين:

[أحدهما]: أنه منسوخ بحديث جابر رضي الله عنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار"، وهو حديث صحيحٌ، رواه أبو

(1)

"الأوسط" 1/ 213 - 225.

ص: 325

داود، والنسائيّ، وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة.

[والجواب الثاني]: أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين، ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو أيضًا نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح كون الأمر بالوضوء مما مسّت النار منسوخًا بما سبق من الأدلّة؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[797]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عَرْقًا، أَوْ لَحْمًا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

2 -

(وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ) القُرشيّ مولى آل الزبير، أبو نُعيم المدنيّ المعلِّم، ثقةٌ، من كبار [4].

رَوَى عن أسماء بنت أبي بكر، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وجابر، وأنس، وعمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد، وأبي سعيد الخدري، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم.

ورَوَى عنه هشام بن عروة، وأيوب، وعبيد الله بن عمر، وعبد الحميد بن جعفر، وابن عجلان، وابن إسحاق، ومالك، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، والوليد بن كثير، وعبد العزيز بن الماجشون، وآخرون.

ص: 326

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ، ثقةٌ، وقال علي بن الحسين بن الجنيد، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: لم يكن له فتوى، وكان مُحَدّثًا ثقةً، توفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقال عمرو بن عليّ، والترمذيّ: مات سنة تسع، والأول أكثر وأشهر.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (354)، وحديث (715): "الآن حين قدِمتَ؟

"، وأعاده بعده، و (1935): "بعثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن ثلاثمائة

"، وأعاده بعده، و (2022): "سمِّ الله، وكل بيمينك

"، وأعاده بعده، و (2984): "بينا رجلٌ بفلاة من الأرض

".

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءِ) بن عيّاش بن علقمة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ العامريّ، أبو عبد الله القرشيّ المدنيّ، وقيل: إنه من مواليهم، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي حميد الساعديّ في عشرة من الصحابة، منهم أبو قتادة الأنصاريّ، وعن ابن عباس، وابن الزبير، وأبي هريرة، وربيعة بن كعب الأسلميّ، وزينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد، ومالك بن أوس بن الْحَدَثَان، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو الزناد، ووهب بن كيسان، وموسى بن عقبة، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن الهاد، وابن عَجْلان، وابن إسحاق، والوليد بن كثير، وغيرهم.

قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه: حدثني محمد بن عمرو بن عطاء، وكان امرءًا صدوقًا، وقال ابن سعد: كانت له هيئةُ مروءةٍ، وكان ثقةً، وله أحاديث، وتُوُفّي بالمدينة في خلافة الوليد بن يزيد، وقال ابن حبّان: توفي في ولاية هشام. كذا قال في ثقات التابعين، قال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما بأنه مات في آخر خلافة هشام، وأول خلافة الوليد، وزاد ابن حبان: وله ثلاث وثمانون سنة، وقال غيره: وله تسعون سنة.

ص: 327

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، هذا برقم (354)، و (359): "جمع عليه ثيابه، ثم خرج

"، و (1605): "لا يحتكر إلا خاطئ"، و (2142): "كان اسمي برّة، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب

"، وأعاده بعده، و (2573): "ما يُصيب المؤمن من وَصَب، ولا نَصَب

".

4 -

(عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو الفضل المدنيّ، أمه زُرْعة بنت مِشْرَح بن مَعْدي كَرِب الكنديّ، ثقةٌ عابدٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمرو، وعبد الله بن جبير، وعبد الملك بن مروان بن الحكم.

وروى عنه أولاده: محمد، وعيسى، وعبد الصمد، وسليمان، وداود، والمنهال بن عمرو، وسعد بن إبراهيم، والزهريّ، وحبيب بن أبي ثابت، وأبان بن صالح، وعبد الله بن طاوس، ومنصور بن المعتمر، وآخرون.

قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة: وُلد ليلة قتل عليّ في شهر رمضان سنة (40)، فسُمي باسمه، وكُني بكنيته، ثم غَيَّر عبد الملك بن مروان كنيته، وكان ثقة، قليل الحديث، وقال في موضع آخر: كان أصغر ولد أبيه سنًّا، وكان من أجمل قريش على وجه الأرض، كان يخضب بالوَسْمة، وكان يُدعَى السّجّاد؛ لكثرة صلاته، وقال مصعب الزبيريّ: سمعت رجلًا من أهل العلم يقول: إنما كان سبب عبادته أنه رأى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان وعبادته، فقال: لأنا أولى بهذا منه، وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رَحِمًا، فتجرد للعبادة، وقال ضمرة بن ربيعة: حدثني عليّ بن أبي حَملة: قال: كان علي بن عبد الله يسجد كل يوم ألف سجدة

(1)

، وقال ميمون بن زياد العدويّ عن أبي سنان: كان علي بن عبد الله معنا بالشام، وكان يخضب بالوَسْمة، وكان يصلي كل يوم ألف ركعة، وقال العجليّ، وأبو زرعة: ثقة، وقال عمرو بن عليّ: كان

(1)

هكذا يذكرون مثل هذا في التراجم، ولا أرى فيه مدحًا؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان يصلي هذا العدد، فلا ينبغي عدّ مثل هذا في المناقب؛ فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 328

من خيار الناس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن المدينيّ وغيره: مات سنة سبع عشرة ومائة، وقال ابن معين وغير واحد: سنة ثمان عشرة، وعن خليفة مثله، وقيل: سنة (114)، وقال أبو حسان الزياديّ: تُوُفّي بالبلقاء من أرض الشام، في الْحُمَيمة سنة (19) ويقال: ثمان عشرة، وحَكَى ابن حبان هذه الأقوال في وفاته، وجَزَم بما عليه الأكثر أنها سنة (118)، وقد حَكَى المبرد وغيره أنه لَمّا وُلد جاء به أبوه إلى عليّ بن أبي طالب، فقال: ما سميته؟، فقال: أوَ يجوز لي أن أسميه قبلك؟ فقال: قد سميتُهُ باسمي، وكنيته بكنيتي، وهو أبو الأملاك، وذكر بعد ذلك تَغيير عبد الملك لكنيته، والله تعالى أعلم.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (354)، وحديث (355)، وحديث (763): "اللهم اجعل في قلبي نورًا

".

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ) بن عبد الله بن عبّاس الهاشميّ

(1)

، أمه العالية بنت عبيد الله بن عباس، ثقةٌ [6].

رَوَى عن جدّه، يقال: مرسل، وأبيه، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن محمد ابن الحنفية، وعمر بن عبد العزيز، وطائفة.

وروى عنه ابناه: السَّفّاح، وأبو جعفر المنصور، وأخوه عيسى بن عليّ، وحبيب بن أبي ثابت، وعُقيل بن خالد، وهشام بن عروة، ويزيد بن أبي زياد، والحكم بن مصعب، وعبد الله بن المؤمل المخزوميّ، وعبد الله بن سليمان الْمَوْصِليّ، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية أوصى إليه، ودفع إليه كتبه، وقال له: هذا الأمر في ولدك، وقال أبو هاشم: لا أعلم أحدًا أعلم منه، ولا خيرًا منه، قال: وكان أبو هاشم عالِمًا قد قرأ الكُتُب، وقال ابن الكلبيّ: كان من أجمل الناس، وكان أول من نَطَق

(1)

أخطأ في برنامج الحديث (صخر) هنا، حيث ترجم لمحمد بن عليّ بن الحسين المعروف بالباقر، والصواب أنه محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس؛ فتنبّه.

ص: 329

بالدعوة العباسية، ومات سنة أربع وعشرين ومائة، وقد انتشرت دعوته وكثرت شيعته، وبلغ من السنّ نيّفًا وستين سنة، وأوصى إلى ابنه إبراهيم، وقال ابن سعد: مات سنة خمس وعشرين ومائة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: رَوَى عن ابن عباس، وقال مصعب: كان ثقةً ثبتًا مشهورًا، وقال مسلم في "كتاب التمييز": لا يُعْلَم له سماعٌ من جدّه، ولا أنه لقيه، والله تعالى أعلم.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (354)، وحديث (763): "اللهم اجعل في قلبي نورًا

". والباقون تقدّموا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد، فرّقها بالتحويل من عند هشام بن عروة، فأصل الإسناد واحد، وإنما تفرعّ من عند هشام، فهو: عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم قال هشام: وحدّثني الزهريّ عن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم قال هشام أيضًا: وحدّثني محمد بن عليّ، عن أبيه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: هشام، عن وهب، عن محمد بن عمرو، وهشام، عن الزهريّ، عن عليّ بن عبد الله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَكَلَ عَرْقًا) بفتح العين المهملة، وإسكان الراء: هو العظم، عليه قليل من اللحم.

وقوله: (أَوْ لَحْمًا)"أو" هنا للشكّ من الراوي.

وقوله: (وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً) من عطف العامّ على الخاصّ؛ أي لم يمسّ ماء الوضوء الشرعيّ، ولا الوضوء اللغويّ، بأن يغسل فمه ويديه؛ طلبًا للنظافة، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 330

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[798]

(355) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفٍ، يَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 27.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ) المدنيّ، أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، ووحشيّ بن حرب، وأنس.

وروى عنه أبو سلمة، وأبو قِلابة، وسليمان بن يسار، وأخوه الزِّبْرِقان، وابن أخيه الزبرقان بن عبد الله بن عمرو، وابن أخيه يعقوب بن عمرو بن عبد الله بن عمرو، والزهريّ، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وغيرهم.

قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، من كبار التابعين، قال الواقديّ: مات في خلافة الوليد، وقال خليفة: مات سنة خمس، أو ست وتسعين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجهْ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

4 -

(أَبُوهُ) هو: عمرو بن أمية بن خُويلد بن عبد الله بن إياس بن عبد بن ناشرة بن كعب بن جُدَي بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة، أبو أمية الضَّمْريّ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أولاده: جعفر، وعبد الله، والفضل، وابن أخيه الزِّبْرِقان، والشعبيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو قلابة الجرْميّ، وأبو مهاجر.

ص: 331

قال ابن سعد: أسلم حين انصرَفَ المشركون عن أُحُد، وكان شجاعًا له إقدام، وهو الذي رَوَى عنه أبو قلابة الجرْميّ، عن أبي أمية، قال محمد بن عمر: فكان أول مشهد شَهِده عمرو بن أمية مسلمًا بئر مَعُونة، فأسرته بنو عامر يومئذ، فَجَزّ عامر بن الطُّفيل ناصيته، وأطلقه، ومات بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله عنه، وذكر أبو نعيم أنه مات قبل الستين، قال: وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عينًا وحده، فحَمَل خُبيبًا من خشبته، وقال ابن سعد: وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ في زِوَاج أم حبيبة رضي الله عنها، وقال ابن عبد البرّ: كان من رجال العرب نَجْدةً وجُرْأةً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه في أموره.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده. والزهريّ تقدّم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبغداديّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه

(1)

، هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وليس له فيه إلا هذا الحديث، وكذا ليس له في البخاريّ إلا حديثان فقط؛ هذا، وحديث في المسح، بل هو من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا نحو عشرة أحاديث فقط، راجع "تحفة الأشراف"(7/ 327 - 332)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ) بفتح الضاد المعجمة، وسكون الميم: نسبة إلى جدّه، وفي رواية البخاريّ: "عن ابن شهاب، قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أميّة، أن أباه أخبره

" (عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ) - بالحاء المهملة والزاي -: أي يقطع (مِنْ كَتِفٍ) وفي الرواية التالية:

(1)

وكذا ابنه هذا أول محل ذكره، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

ص: 332

"يحتزّ من كتِف شاة"، وفيه جواز قطع اللحم بالسكّين إذا احتيج إليه؛ لصلابة اللحم، أو كبر القطعة، قيل: ويُكره ذلك من غير حاجة

(1)

، وفيه نظر، والله تعالى أعلم. (يَأْكُلُ مِنْهَا)، وفي رواية البخاريّ في:"الصلاة" من طريق صالح، عن الزهريّ:"يأكل ذراعًا يَحْتَزّ منها". (ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ") فيه أن الوضوء من أكل ما مسّت النار ليس بواجب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمرو بن أميّة الضمريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[23/ 798 و 799 و 800](355)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(208)، و"الأذان"(675)، و"الجهاد"(2923)، و"الأطعمة"(5408 و 5422 و 5462)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1836)، و (عبد الرزاق) في "المصنّف"(634)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 58)، و (الحميديّ) في "مسنده"(898)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 48)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 139 و 179 و 5/ 278 و 288)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 185)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(23)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1141 و 1150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 153 و 157)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(753)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(786 و 787)، وبقيّة المسائل ستأتي آخر الباب - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[799]

(

) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيّ، عَنْ

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 45.

ص: 333

أَبِيه، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا

(1)

، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاة، فَقَامَ، وَطَرَحَ السِّكِّينَ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التُّسْتَريّ، صدوقٌ تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ) ببناء الفعل للمفعول، وقد بَيَّن النسائي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن الذي دعاه إلى الصلاة هو بلال رضي الله عنه.

وقوله: (وَطَرَحَ السِّكِّينَ) أي رماه، و"السّكين" فيه لغتان: التذكير، والتأنيث، يقال: سكّين جيّدٌ، وجيّدةٌ، وسُمّيت سكّينًا؛ لتسكينها حركة المذبوح

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهريّ:"فألقاها، والسكّين"، وفي رواية ابن حبّان من طريق الفضل بن عمرو بن أمية الضمريّ، عن عمرو بن أميّة:"أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحتزّ من عَرْقٍ يأكلُ، فأتى المؤذِّن بالصلاة، فألقى الْعَرْقَ والسكّين من يده، ولم يتوضّأ"، وفي لفظ:"وصلّى، ولم يتوضّأ"

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "يأكل منها".

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 45 - 46.

(3)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 3/ 428 رقم (1150).

ص: 334

[800]

(

) - (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ)

قال الجامع عفا الله عنه: هذا موصول بالسند المذكور قبله، وليس معلّقًا، وهو الحديث الذي تقدّم في رواية هشام بن عروة، عن الزهريّ قبل حديث، فتفطّن، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[801]

(356) - (قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجّ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا أيضًا موصول بالسند الماضي.

ورجاله: أربعة:

1 -

(بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ) هو: بكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5](ت 120) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

2 -

(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: كريب بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

3 -

(مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنت الحارث الهلاليّة، تزوّجها صلى الله عليه وسلم بسرف سنة سبع، وماتت بها سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

وعمرو: هو ابن الحارث المذكور قبله، والحديث مضى شرحه، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا في "الحيض"[23/ 801 و 802](356)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(210)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(788)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 154)، والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 335

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[802]

(

) - قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الْأَشَجّ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أيضًا موصول بالسند الماضي، وليس معلّقًا، والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تخريجه قبله، وكذلك رجاله هم المذكورون قبله، غير:

1 -

(يَعْقُوبَ بْنِ الْأَشَجِّ) هو: يعقوب بن عبد الله بن الأشجّ، مولى بني مخزوم، ويقال: مولى الْمِسْوَر بن مَخْرَمة، ويقال: مولى أشجع، أبو يوسف المدنيّ، وهو أخو بُكير المذكور في السند الماضي، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وبشر بن سعيد، والقعقاع بن حكيم، وكريب مولى ابن عباس، وأبي صالح السمان، وغيرهم.

ورَوَى عنه جعفر بن ربيعة، والحارث بن يعقوب، ويزيد بن أبي حبيب، وابن عجلان، وابن إسحاق، والليث بن سعد، وآخرون.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: قُتِل في البحر شهيدًا سنة اثنتين وعشرين ومائة، في آخر خلافة هشام، وقد رُوِيَ عنه، وكان ثقة، وله أحاديث، وكذا قال غير واحد في تاريخ وفاته، وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ نزل مصر، وقال يحيى بن بكير: كان بالمدينة ثلاثةُ إخوة، بنو الأشج، لا يُدرَى أيهم أفضل: يعقوب، وعُمَر، وبُكير، وقال عيسى بن دينار: سمعت ابن القاسم يقول: بلغني عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، وكان من خيار هذه الأمة، فذكر قصة، قال: ولقد سمعت مالكًا وغيره أن يعقوب قال في غَزَاته التي قُتل فيها: إني رأيت أني دخلت الجنة، فسُقِيتُ فيها لبنًا، قال: فاستقاء، فقاء اللبن، قال أبو القاسم: وكان في البحر بموضع لا لبن فيه.

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والترمذيّ،

ص: 336

والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (356)، وحديث (2708): "من نزل منزلًا، ثم قال: أعوذ بكلمات الله

"، وأعاده بعده، و (2709): "لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله

".

[تنبيه]: رواية يعقوب هذه مثل رواية بكير السابقة، ليس فيها ذكر ابن عبّاس بين عكرمة، وميمونة، هكذا نسخ "صحيح مسلم" التي بين أيدينا، وذكر الحافظ أبو الحجاج المزيّ في "تحفة الأشراف"، ما نصّه: ذكر خَلَف حديث أحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بُكير، عن كُريب مولى ابن عبّاس، عن ميمونة في ترجمة ابن عبّاس، عن ميمونة، كما وقع في بعض النسخ من "صحيح مسلم": عن كريب، عن ابن عباس بدل مولى ابن عباس، عن ميمونة ولم يذكره في هذه الترجمة، وهو وَهَمٌ لا شك فيه، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه النسخة التي أشار إليها المزيّ رحمه الله لم أرها فيما بين يديّ من نسخ "صحيح مسلم"، ولكن ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"، فقال - بعد إخراج حديث عمرو بن أميّة من طريق حرملة، وابن وهب كلاهما عن عمرو بن الحارث بسند المصنّف -: قال عمرو: وحدّثني بُكير بن الأشجّ، عن كُريب مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس، عن ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل عندها كَتِفًا، ثم صلّى، ولم يتوضّأ

(1)

".

قال عمرو: وحدّثني جعفر بن ربيعة، عن بُكير

(2)

بن الأشجّ، عن كُريب، عن ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. انتهى

(3)

.

وقد أورده البيهقيّ رحمه الله أيضًا في "الكبرى" هكذا بذكر ابن عبّاس، ثم قال: رواه مسلم في "الصحيح" عن أحمد بن عيسى، إلا أنه قال في حديث جعفر بن ربيعة: عن يعقوب، عن كريب، عن ميمونة، وهو الصحيح، وذكرُ ابن عبّاس فيه زيادة وهم. انتهى

(4)

.

(1)

وقع في النسخة: "ولم توضّأ" بدون حرف المضارعة، وهو غلطٌ؛ فتنبّه.

(2)

وقع في النسخة: "بكر" مكبّرًا، وهو غلط فاحش؛ فتنبّه.

(3)

"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 394 - 395.

(4)

"السنن الكبرى" 1/ 154.

ص: 337

فتبيّن بهذا أن ما وقع في نسخ "صحيح مسلم" بعدم ذكر ابن عبّاس هو الصواب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[803]

(357) - (قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي غَطَفَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: "أَشْهَدُ لَكُنْتُ أَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَطْنَ الشَّاة، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أيضًا موصول بالسند الماضي، وليس معلّقًا، فتنبّه.

ورجاله: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، وقيل: مدنيّ الأصل، صدوقٌ [6](ت بعد 130)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ) لقبه عَبّاد، مولى بني هاشم، لا بأس به

(1)

[6].

رَوَى عن أبيه، وجدّه، وأبي غَطَفان بن طَرِيف الْمُرّيّ، وروى عنه سعيد بن أبي هلال، وعمرو بن أبي عمرو، ومحمد بن عجلان، ذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الحافظ رحمه الله: في روايته عن جدّه نظر، ذكر البخاريّ أن الدراورديّ لم يضبطه، ولهذا ذكره ابن حبان في أتباع التابعين. انتهى

(2)

.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا. الحديث فقط.

(1)

قال عنه في "التقريب": مقبول، والأولى ما هنا، فقد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، ولم يتكلّم فيه أحد، وأخرج له مسلم هنا، فتأمل.

(2)

"تهذيب التهذيب" 5/ 267.

ص: 338

3 -

(أَبُو غَطَفَانَ) - بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة - ابن طَرِيف، ويقال: ابن مالك الْمُرّيّ - بالراء - المدنيّ، قيل: اسمه سعد، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يُعرف اسمه، قال: ويقال في كنيته أيضًا: أبو مالك، ثقةٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، طَرِيف بن مالك، وسعيد بن زيد بن عمرو، وأبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي هريرة، وابن عباس.

ورَوَى عنه عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقارظ بن شيبة الزهريّ، وعمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر، ويعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، وإسماعيل بن أمية، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان قد لَزِم عثمان، وكَتَبَ له، وكتب أيضًا لمروان، وقال النسائيّ في "الْكُنَى": أبو غَطَفان ثقة، قيل: اسمه سعد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: أبو غطفان ثقة، وقال الدُّوريّ، عن أبي بكر بن داود: أبو غطفان مجهول.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا فيه نظر لا يخفى، بل هو مشهور، فقد كان كاتبًا لعثمان ملازمًا له، وروى عنه جماعة، ووثّقه من هو أعلم وأدرى من أبي بكر بن داود، كما سلف آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وفرَّق البزار بين الراوي عن أبي هريرة، وبين الراوي عن ابن عباس، جعلهما اثنين.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (357)، وحديث (1134): "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا

"، و (2026): "لا يشربنّ أحد منكم قائمًا

".

4 -

(أَبُو رَافِعٍ) الْقِبطيّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، الصحابيّ رضي الله عنه، مات في أول خلافة عليّ رضي الله عنه (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.

ص: 339

وعمرو: هو ابن الحارث المتقدّم.

وقوله: ("أَشْهَدُ) هي في معنى القسم، وجوابه قوله: "لَكُنْتُ

إلخ"، ورواه أبو عوانة بلفظ: "لقد كنت أشوي

إلخ"، وهو الذي وقع في "المشكاة"، وعزاه إلى "مسلم"، ولم أره في نسخ مسلم التي عندي، وقال الطيبيّ في "شرحه": قوله: "أشهد" فيه معنى القسم، ولهذا دخلت اللام على "قد" جوابًا له، أي والله لقد كنت أشوي، وفيه دلالة على إثبات هذه الدعوى عند الخلاف فيها بين الصحابة، وإنما ضمّن الشهادة معنى القسم؛ لأن الشهادة إخبار عن مواطأة القلب للسان، واعتقاد ثبوت المدّعَى. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) - بفتح أوله - مضارع شَوَى، كرمى يرمي، ويجوز أيضًا بضمّه مضارع أَشْوَى.

قال في "المصباح": شَوَيتُ اللحمَ أَشويه شَيًّا، فانشَوَى، مثلُ كسرته، فانكسر، وهو مَشْويّ، وأصله مفعولٌ، وأشويته بالألف لغةٌ، واشتويته على افتعلتُ مثلُ شَوَيْتُهُ، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فاشتوى على افتعل، فإن الافتعال فعلُ الفاعل. انتهى

(2)

.

وقوله: (بَطْنَ الشَّاةِ ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) المراد ببطن الشاة: الكبد، وما معه من حشوها، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: أشوي بطن الشاة، فيأكل منه، ثم يصلّي، ولا يتوضّأ

(3)

.

وفي ابن حبّان في "صحيحه"(1149): "عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ، فشُوي له بطنها، فأكل منها، ثم قام يصلّي، ولم يتوضّأ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي رافع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 765.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 46.

ص: 340

[فإن قلت]: في سنده عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، لم يوثّقه غير ابن حبّان، وقال عنه في "التقريب": مقبول، وإن كان غير مقبول، كما تقدّم في ترجمته، فكيف أخرجه المصنّف هنا؟.

[قلت]: عبد الله بن عبيد الله قد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، ولم يجرحه أحد، ولم ينفرد بهذه الرواية، فقد أخرج الحديث ابن حبّان في "صحيحه"(1149) من طريق زيد بن أبي أُنيسة، عن شُرحبيل بن سعد الأنصاريّ، عن أبي رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه"(1/ 48) من طريق آخر؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[23/ 803](357)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 154)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 48)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1149)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(751 و 752)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(789)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[804]

(358) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ

(1)

، وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْث) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عُقَيْل) بن خالد الأيليّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

(1)

وفي نسخة: "فمضمض".

ص: 341

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم المذكور في الباب.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3]، (ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما المذكور في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن هذا أحد الأحاديث التي أخرجها الأئمة الخمسة: الشيخان، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، عن شيخ واحد، وهو قتيبة

(1)

.

4 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل مصر، ونصفه الثاني بالمدنيين.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن عبيد الله أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وأن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وقد تقدّموا كلهم غير مرّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا) بفتحتين، قال في "اللسان": اللبن: خُلاصة الجسد، ومُستخلصه من بين الفرث والدم، وهو كالْعَرَق يجري في العُرُوق، والجمع أَلبان، والطائفة القليلة لَبَنَةٌ. انتهى

(2)

. (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ) وفي نسخة: "فمضمض"، يقال: مضمضتُ الماءَ في فمي: إذا حرّكته بالإدارة فيه، وتمضمضتُ بالماء: إذا فعلتَ ذلك، قال الفارابيّ: المضمضة: صوت الحيّة ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 374، و"عمدة القاري" 3/ 160.

(2)

"لسان العرب" 13/ 372.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 575.

ص: 342

وفي رواية ابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعيّ

فذكره بصيغة الأمر: "مَضْمِضُوا من اللبن، فإن له دَسَمًا"، وكذا رواه الطبريّ من طريق أخرى، عن الليث بالإسناد المذكور، وأخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة، وسهل بن سعد مثله، وإسناد كل منهما حسن.

وهذا الأمر بالمضمضة للاستحباب، لا للوجوب بدليل ما رواه الشافعيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما راوي الحديث، أنه شَرِبَ لبنًا، فمضمض، ثم قال: لو لم أتمضمض ما باليت، وأخرج أبو داود بإسناد حسن، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَرِب لبنًا، فلم يتمضمض، ولم يتوضأ".

قال الحافظ رحمه الله: وأغرب ابن شاهين، فجعل حديث أنس ناسخًا لحديث ابن عباس، ولم يذكر مَن قال فيه بالوجوب، حتى يحتاج إلى دعوى النسخ. انتهى.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا سبب المضمضة (إِنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها محكيّة بالقول (لَهُ دَسَمًا") منصوب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، و"الدَّسَمُ" بفتحتين: الشيء يظهر على اللبن من الدهن، وقال الزمخشريّ: هو من دسم المطر الأرضَ: إذا لم يبلُغ أن يبلّ الثرى، والدُّسْمُ بضمّ الدال، وسكون السين: الشيء القليل. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "الدَّسَمُ محرّكةً: الْوَدَكُ، والْوَضَرُ، والدنَسُ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: دَسِمَ الطعام دَسَمًا، من باب تَعِبَ، فهو دَسِمٌ، والدَّسَمُ: الْوَدَكُ من لحم وشَحْم، ودسَّمتُ اللُّقْمة تدسيمًا: إذا لطّختها. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما أورد المصنّف رحمه الله هذا الحديث في هذا الباب، وإن لم يكن اللبن مما مسته النار إشارةً إلى أن سبب الأمر بالوضوء مما مسّته النار هو الدسم الذي فيه، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 160.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 111.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 194.

ص: 343

وقال ابن بطّال عن المهلّب: فيه بيان علّة الأمر بالوضوء مما مسّت النار، وذلك لأنهم كانوا أَلِفُوا في الجاهليّة قلّة التنظيف، فأُمروا بالوضوء مما مسّت النار، فلمّا تقرّرت النظافة في الإسلام، وشاعت نُسِخ.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا تعلّق له بما ذُكر، وإنما فيه بيان العلّة للمضمضمة من اللبن، فيدلّ على استحبابها من كلّ شيء دَسِمٍ، ويُستنبط منه استحباب غسل اليدين للتنظيف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[23/ 804](358)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(211)، و"الأشربة"(5609)، و (أبو داود) في "الطهارة"(196)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(89)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 109)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(498)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1158 و 1159)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(756 و 757 و 758)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(790 و 791)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب المضمضة من شرب اللبن.

2 -

(ومنها): استحباب تنظيف الفم من الأطعمة والأشربة التي فيها دَسَمٌ وأَثَرٌ يبقى بعد أكلها وشربها.

3 -

(ومنها): استحباب النظافة من كلّ شيء له أثر يبقى على الإنسان؛ لأن النظافة من الدين، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وأما الحديث الذي أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، مرفوعًا: "إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 374.

ص: 344

يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود"، فضعيف؛ لأن في سنده خالد بن إلياس ضعيف، وتُغني عنه الآية المذكورة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[805]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ (ح) وَحَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِإِسْنَادِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر، كلّهم تقدّموا في هذا الباب، إلا اثنين، وهما:

1 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ فاضل، إمام نبيلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

و"عمرو": هو ابن الحارث، و"يحيى بن سعيد" هو القطّان، و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ، و"عُقيل" مصغّرًا هو ابن خالد.

[تنبيه]: قوله: (حَدَّثنا ابن وهب، وأخبرني عمرو

إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "وأخبرني عمرو" بالواو في "وأخبرني"، وهي واو العطف، والقائل:"وأخبرني عمرو" هو ابن وهب، وإنما أتى بالواو أوَّلًا؛ لأنه سمع من عمرو أحاديث، فرواها، وعطف بعضها على بعض، فقال ابنُ وهب: أخبرني عمرو بكذا، وأخبرني عمرو بكذا، وعدّد تلك الأحاديث، فسمع أحمد بن عيسى لفظ ابن وهب هكذا بالواو، فأدّاه أحمد بن عيسى كما سمعه، فقال:"حدّثنا ابن وهب، قال - يعني ابنَ وهب -: وأخبرني عمرو".

انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: رواية عمرِو بن الحارث التي أحالها المصنّف هنا على رواية

ص: 345

عُقيل، ساقها الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(3/ 433)، فقال:

(1158)

أخبرنا ابن سَلْم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدَّثنا ابن وهب، قال: حدّثني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لبنًا، ثم دعا بإناء، فمضمض، وقال:"إن له دَسَمًا". انتهى.

وأما رواية الأوزاعي، فقد أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "الأشربة" من "صحيحه"، فقال:

(5610)

حدثنا أبو عاصم، عن الأوزاعيّ، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَرِب لبنًا، فمضمض، وقال:"إن له دَسَمًا". انتهى.

وأما رواية يونس، فقد أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3357)

حدّثنا عثمان بن عُمر، حدّثنا يونس، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض من لبن، وقال:"إن له دَسَمًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[806]

(359) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة، فَأُتِيَ بِهَدِيَّةٍ: خُبْزٍ وَلَحْمٍ

(1)

، فَأَكَلَ ثَلَاثَ لُقَمٍ، ثُمَّ صَلَّى بِالنَّاس، وَمَا مَسَّ مَاءً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

(1)

وفي نسخة: "بهَدِيَّةِ خُبْزٍ وَلَحْمٍ" بالإضافة.

ص: 346

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ) - بمهملتين، بينهما لام ساكنة - الدّيليّ - بكسر الدال المهملة، وسكون التحتانيّة - المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن معبد بن كعب بن مالك، وعطاء بن يسار، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وحُميد بن مالك، ومحمد بن عمران الأنصاريّ، والزهريّ، ووهب بن كيسان، وغيرهم.

ورَوَى عنه عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن محمد القرشيّ، وسعيد بن أبي هلال، وابن إسحاق، وزهير بن محمد، والوليد بن كثير، ومالك بن أنس، وإسماعيل بن جعفر، والدَّرَاوَرْديّ، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان ذا هيئة، ملازمًا للمسجد، وكذا قاله ابن سعد.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (359)، وحديث (792): "ما أذِنَ الله لشيء كأَذَنِه لنبيّ يتغنّى

"، و (950): "مستريحٌ، ومستراح منه

"، و (2022): "كُلْ مما يليك"، و (2449): "إن فاطمة منّي، وإني أتخوّف أن تُفتن في دينها

".

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فمروزيّ، والله تعالى أعلم.

ص: 347

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ("أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ) يعني لبسها واستتر بها، وفي رواية أبي عوانة من طريق الوليد بن كثير، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: "كنت مع ابن عبّاس في بيت ميمونة في المسجد، فقال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توضّأ، ثم لبس ثيابه

"، وفي رواية أبي نعيم: "قال: كنت مع ابن عبّاس في بيت ميمونة، فجعل يتعجّب ممن يزعُمُ أن الوضوء مما مسّت النار، ثم قال: لقد كنت في هذا البيت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد توضّأ، ولبس ثيابه، فجاءه المؤذّن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة خارجًا من البيت، لقيه هديّة عضو من شاة، فأكل منه لقمةً، أو لقمتين

" (ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة، فَأُتيَ) بالبناء للمفعول (بِهَدِيَّةٍ) بفتح الهاء، وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة: فَعِيلة بمعنى مفعولة، وقوله: (خُبْزٍ وَلَحْمٍ) بالجرّ على البدليّة من "هديّة"، وفي بعض النسخ بإضافة "هديّة" إلى ما بعدها (فَأَكَلَ ثَلَاثَ لُقَمٍ) بضمّ اللام، وفتح القاف: جمع لَقْمة بفتح، فسكون: اسم لما يُلقم في مرّة، كالْجُرْعة اسم لما يُجْرَع في مرّة، يقال: لَقِمتُ الشيءَ لَقَمًا، من باب تَعِبَ، والتقمته: إذا أكلته بسُرعة، ويُعدَّى بالهمزة والتضعيف، فيقال: لَقَّمتُهُ الطعامَ تلقيمًا، وألقمته إياه إلقامًا، فتلقّمه تَلَقُّمًا. قاله الفيّوميّ

(1)

.

(ثُمَّ صلَّى بِالنَّاسِ) أي إمامًا لهم (وَمَا مَسَّ مَاءً")"ما" نافية، والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "صلّى"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[23/ 806 و 807](359)،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 557.

ص: 348

و (أحمد) في "مسنده"(1/ 345) رقم (2257)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 153)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(749 و 750)، و (أبو نعيم) في "مسنده"(792 و 793)، وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[807]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ حَلْحَلَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ شَهِدَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: صَلَّى، وَلَمْ يَقُلْ بِالنَّاسِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) الْمَخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ، عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ حَلْحَلَةَ) فاعل "ساق" ضمير الوليد بن كثير. والمعنى: أن حديث الوليد بن كثير، عن محمد بن عمرو بن عطاء، كمعنى حديث محمد بن عمرو بن حَلْحَلة، عنه.

وقوله: (وَفيهِ: أَن ابْنَ عَبَّاسٍ شَهِدَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

إلخ) يعني أن في حديث الوليد زيادة: "أن ابن عبّاس رضي الله عنهما شَهِد ذلك"، أي الفعل الذي فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، من الأكل من تلك الهديّة، ثم قال:"صَلّى"، ولم يزد قوله:"بالناس".

وقال النوويّ رحمه الله عند قوله: "وفيه أن ابن عبّاس رضي الله عنهما شَهِد ذلك من

ص: 349

النبيّ صلى الله عليه وسلم" -: هذا فيه فائدةٌ لطيفةٌ، وذلك أن الرواية الأولى فيها عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَمَع ثيابه، وليس فيها أنّ ابن عباس رأى هذه القضية، فيَحْتَمِل أنه رآها، ويحتمل أنه سمعها من غيره، وعلى تقدير أن يكون سمعها من غيره، يكون مرسل صحابيّ، وقد مَنَعَ الاحتجاج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والصواب قول الجمهور، وهو الاحتجاج به، فلما كانت هذه الرواية محتملةً هذا الذي ذكرناه، نَبَّهَ مسلم رحمه الله على ما يزيل هذا كلّه، فقال: "شَهِدَ ابن عباس ذلك"، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية الوليد بن كثير التي أحالها المصنّف هنا على رواية محمد بن عمرو بن حَلْحَلة، أخرجها الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه" (1/ 396) فقال:

(793)

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو كريب، ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، ثنا محمد بن عمرو بن عطاء، قال: كنت مع ابن عباس في بيت ميمونة، فجعل يتعجب ممن يزعُم أن الوضوء مما مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد توضأ ولبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة، خارجًا من البيت، لقيه هديةُ عضوٍ من شاة، فأكل منه لقمةً، أو لقمتين، ثم صلى ولم يتوضأ. انتهى.

وأخرجه البيهقيّ في "الكبرى" مطوّلًا (1/ 153) فقال:

(691)

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدثنا أبو العباس، محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثيّ، ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: كنت مع ابن عباس في بيت ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجعل يَعْجَب ممن يزعُم أن الوضوء مما مست النار، ويضرب فيه الأمثال، ويقول: إنا نستحمّ بالماء الْمُسَخَّن ونتوضأ به، ونَدَّهِن بالدهن المطبوخ، وذكر أشياء مما يصيب الناس، مما قد مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت، عند

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 47 - 48.

ص: 350

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توضأ ثم لبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة، خارجًا من البيت، لقيته هديةُ عضوٍ من شاة، فأكل منها لقمة أو لقمتين، ثم صلَّى، وما مس ماء. انتهى.

وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" من طريق آخر بأتمّ من هذا، فقال:

(2257)

حدّثنا يعقوب

(1)

، حدّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدّثنا محمد بن عمرو بن عطاء بن عيّاش بن علقمة، أخو بني عامر بن لؤيّ، قال: دخلت على ابن عباس بيت ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم لغد يوم الجمعة، قال: وكانت ميمونة قد أوصت له به، فكان إذا صلَّى الجمعة، بُسِطَ له فيه، ثم انصرف إليه، فجَلَس فيه للناس، قال: فسأله رجل وأنا أسمع، عن الوضوء مما مست النار من الطعام؟ قال: فرفع ابن عباس يده إلى عينيه، وقد كُفّ بصره، فقال: بَصُرَ عيناي هاتان، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ لصلاة الظهر في بعض حُجَره، ثم دعا بلال إلى الصلاة، فنَهَضَ خارجًا، فلما وَقَفَ على باب الحجرة، لقيته هديةٌ، من خبزٍ ولحمٍ، بَعَثَ بها إليه بعضُ أصحابه، قال: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، ووُضِعَت لهم في الْحُجْرة، قال: فأكل، وأكلوا معه، قال: ثم نَهَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه إلى الصلاة، وما مَسَّ، ولا أحد ممن كان معه ماءً، قال: ثم صلى بهم، وكان ابن عباس إنما عَقَلَ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم آخره. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(24) - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[808]

(360) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ،

(1)

هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 351

حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَن رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ"

(1)

، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ"، قَالَ: أُصَلِّي

(2)

فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: "لَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ، فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)، وله أكثر من (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ)

(3)

التيميّ مولاهم المدنيّ الأعرج، وقد يُنسَبُ إلى جدّه، ثقةٌ [4](ت 160)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 114.

4 -

(جَعْفَرُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ) واسم أبيه عكرمة، وقيل: مسلمة، وقيل: مسلم، السُّوَائيّ، أبو ثور الكوفيّ، صدوق

(4)

[3].

رَوَى عن جدّه جابر بن سمرة في الوضوء من لحوم الإبل، وغير ذلك، وهو جدّه من قَبِل أمه، وقيل: من قِبَل أبيه، ورَوَى عنه أشعث بن أبي الشعثاء، وسماك بن حرب، وعثمان بن عبد الله بن موهب، ومحمد بن قيس الأَسْديّ.

قال أبو حاتم بن حِبّان: جعفر بن أبي ثور، وهو أبو ثور بن عكرمة، فمن لم يُحكِم صناعة الحديث تَوَهَّم أنهما رجلان مجهولان، هكذا قال ابن حبان في "الثقات"، وقال عبد الله بن علي ابن المدينيّ، عن أبيه: مجهول،

(1)

وفي نسخة: "فلا تتوضّأ" بتاءين.

(2)

وفي نسخة: "أَأُصلي" بهمزتين في الموضعين.

(3)

بفتح الهاء، والميم.

(4)

قال عنه في "التقريب": مقبول، والظاهر ما قلته؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، وصحح حديثه المصنّف، وابن خزيمة، وابن حبّان، وابن منده، والبيهقيّ، فلا ريب أنه مشهور؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 352

وقال الترمذيّ في "العلل": جعفر مشهور، وقال الحاكم أبو أحمد: هو من مشايخ الكوفيين الذين اشتَهَرت روايتهم عن جابر، وليس ذكر عكرمة في نسبه بمحفوظ، وكذا مَن قال: جعفر بن ثور من غير تكنيته، وصحح حديثه في لحوم الإبل مسلم، وابنُ خزيمة، وابن حبان، وأبو عبد الله بن منده، والبيهقيّ، وغير واحد، وذكر البخاريّ في "التاريخ" الاختلاف في نسبته إلى جابر بن سمرة، وصَدَّر كلامه بقوله: قال سفيان، وزكرياء، وزائدة، عن سماك، عن جعفر بن أبي ثور بن جابر، عن جابر بن سمرة، فكأنه عنده أرجح. قاله في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (360)، وحديث رقم (1128).

5 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة، ويقال: ابن عمرو بن جُندب بن حُجَير بن رئاب بن حبيب بن سُواءة بن عامر بن صَعْصَعة السُّوَائيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو خالد، له ولأبيه صحبة، نَزَل الكوفة، ومات بها، وله عقب بها

(2)

.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وخاله سعد بن أبي وقاص، وعمر، وعليّ، وأبي أيوب، ونافع بن عتبة بن أبي وقاص.

ورَوَى عنه سماك بن حرب، وتميم بن طرفة، وجعفر بن أبي ثور، وأبو عون الثَّقَفيّ، وعبد الملك بن عُمير، وحُصين بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعيّ، وجماعة.

قال ابن سعد: تُوُفّي في خلافة عبد الملك بن مروان، في ولاية بشر بن مروان، وقال خليفة: مات سنة (73)، وقيل عنه: سنة (76)، وقال ابن منجويه، وأبو القاسم البغويّ، وابن حبان: مات سنة (74)، قال الحافظ: وهو أشبه بالصواب؛ لأن بشر بن مروان وَليَ الكوفةَ سنة (74) ومات سنة (75)،

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 74.

(2)

وضبط العسكريّ في "التصحيف" اسم جده زَبّاب، بزاي، وباءين، الأولى مشددة، وكذا قال ابن ماكولا. قاله في "تهذيب التهذيب" 2/ 35.

ص: 353

وقد ذكر أكثر المؤرخين أن جابر بن سمرة مات في أيامه. انتهى

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (51) حديثًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت ما له فيه من الأحاديث، وكذا جعفر بن أبي ثور هذا أول محلّ ذكره، وليس له فيه إلا حديثان، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ) بهمزتين، ووقع في "المشكاة":"أنتوضّأ" بالنون، وقال في "المرعاة": بالنون، وفي بعض النسخ بالياء، وفي بعضها:"أتوضّأ" بالمتكلّم المفرد، مع حذف همزة الاستفهام، وهي الصحيحة الموافقة لما في "صحيح مسلم". انتهى.

هكذا قال، والنسخ التي بين يديّ من "صحيح مسلم":"أأتوضّأ" بهمزتين؛ فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟) أي من أكلها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ") بحذف إحدى التاءين، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدِ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وفي بعض النسخ: "فلا تتوضّأ" بتاءين، وهو الأصل.

(قَالَ) الرجل (أَتَوَضَّأُ) هكذا النسخ بهمزة واحدة بحذف همزة الاستفهام (مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ) أي أكلها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ") قال في "المرعاة": المراد به الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة؛ لأن الحقائق الشرعيّة مقدّمة على غيرها، والحديث نصّ على أن الأكل من لحم الإبل ناقض للوضوء على كلّ حال، نيّئًا كان أو مطبوخًا، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق بن

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 35.

ص: 354

راهويه، وغيرهما، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الوضوء المأمور به من لحوم الإبل، المباح من لحوم الغنم هو اللغويّ، ولذلك فرّق بينهما؛ لما في لحوم الإبل من الزفورة والزّهم، وعلى تقدير كونه وضوءًا شرعيًّا، فهو منسوخ بما تقدّم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ ما سبق من أنه وضوء شرعيّ، وأنه واجب من لحوم الإبل، وسيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

(قَالَ) الرجل (أُصَلِّي) بحذف همزة الاستفهام، وفي بعض النسخ:"أَأُصلي" بهمزتين في الموضعين (فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ) جمع مَرْبِض - بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الموحّدة، وزانُ مَجْلِس -: مأوى الغنم ليلًا، أفاده في "المصباح"

(2)

، وفي "القاموس":"الرَّبَضُ محرَّكةً: مأوى الغنم"

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") أي صلّ في مرابضها، وفيه دليلٌ على جواز الصلاة في مرابضها، وهو الحقّ (قَالَ) الرجل (أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ) جمع مَبْرَك - بفتح الميم والراء، بينهما موحّدة ساكنة، وزانُ جَعْفَر -: موضع بروكها. أفاده في "المصباح"

(4)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا") أي لا تصلّ فيها، وفيه دليل على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وهو الحق، وفيه خلاف سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[24/ 808 و 809](360)،

(1)

"المفهم" 1/ 605.

(2)

"المصباح" 1/ 215.

(3)

راجع: "القاموس" 2/ 331.

(4)

راجع: "المصباح" 1/ 45.

ص: 355

و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 57)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 46 - 47)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 88 و 93 و 98 و 100 و 101 و 102 و 105 و 106 و 108)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(31)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1124 و 1127)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 70)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1867)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(754)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(794 و 795)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وإباحته من أكل لحم الغنم، والمراد به الوضوء الشرعيّ، لا اللغويّ على الصحيح.

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث، ما نصّه: في سؤال السائل عن الوضوء من لحوم الإبل، وعن الصلاة في أعطانهما، وتفريق النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الجوابين أرى البيان أنه أراد الوضوء المفروض للصلاة، دون غسل اليدين، ولو كان ذلك غسل اليدين من الغَمَر

(1)

لاستوى فيه لحوم الإبل والغنم جميعًا، وقد كان ترك الوضوء مما مسّته النار، وبقي المسلمون عليه مدّة، ثم نُسخ ذلك، وبقي لحوم الإبل مستثنًى من جملة ما أُبيح بعد الحظر الذي تقدّم ذكرنا له. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(2)

، وهو حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقًا، خلافًا لمن قال: إن الإذن بالصلاة فيها كان قبل أن تبنى المساجد، وفيه نظر؛ إذ لا دليل على ذلك.

3 -

(ومنها): بيان طهارة أبوال الغنم وأبعارها؛ لأن مرابض الغنم لا تخلو عن ذلك، وقد أذن الشارع بالصلاة فيها مطلقًا، ليس فيه تخصيص موضع دون موضع، ولا تقييد بحائل يقي من الأبوال، وهذا هو الحقّ، خلافًا للحنفيّة، والشافعيّة.

(1)

"الْغَمَرُ" بالتحريك: ما يَعْلَق باليد من دسم اللحم. اهـ. "القاموس" 2/ 104.

(2)

"صحيح ابن حبان" 3/ 410 - 411.

ص: 356

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: إباحة الصلاة في مرابض الغنم دليلٌ لمالك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه؛ لأن مرابضها مواضع رُبُوضها وإقامتها، ولا يخلو عن أبوالها وأرواثها، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل، فليس لنجاسة فضلاتها، بل لأمر آخر، إما لنتن معاطنها، أو لأنها لا تخلو غالبًا عن نجاسة من يستتر بها عند قضاء الحاجة، أو لئلا يتعرّض لنفارها في صلاته، أو لما جاء أنها خُلقت من الشياطين، وهذه كلّها مما ينبغي للمصلّي أن يتجنّبها، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح هذا الحديث للاستدلال به على نجاسة فَضَلاتها، وقد أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم للْعُرَنيين شُرب ألبانها وأبوالها، ولا يُلتَفتُ إلى قول من قال: إن ذلك لموضع الضرورة؛ لأنا لا نسلّمها؛ إذ الأدوية في ذلك للمرض الذي أصابهم كثيرةٌ، ولو كان ذلك للضرورة لاستكشف عن حال الضرورة، ولسأل عن أدوية أخرى حتى يتحقّق عدمها، ولو كانت نجاسةً لكان التداوي بها ممنوعًا أيضًا بالأصالة كالخمر، أَلَا تراه لَمّا سئل صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخمر؟ قال:"إنها ليست بدواء، ولكنها داء"، رواه مسلم، ولم يلتفت إلى الحاجة النادرة التي يباح فيه، كإزالة الْغَصَص بجرعة منها عند عدم مائع آخر.

وحاصله أن إخراج الأمور عن أصولها، وإلحاقها بالنوادر، لا يلتفت إليه؛ لأنه خلاف الأصل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

وهو بحثٌ جيّد، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): بيان النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، وهو للتحريم على الأصحّ، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوضوء من أكل لحم الإبل:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالوضوء من لحوم الإبل، ثم أخرج حديث جابر بن سمرة هذا، وحديث

(1)

"المفهم" 1/ 605 - 606.

ص: 357

البراء رضي الله عنه

(1)

، ثم قال: والوضوء من لحوم الإبل يجب؛ لثبوت هذين الحديثين، وجَوْدة إسنادهما.

وقد اختَلَف أهل العلم في هذا الباب، فقالت طائفة كما قلنا، رَوَينا عن جابر بن سمرة أنه كان يقول: كنا نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم، ورَوَينا عن ابن عمر أنه قال: توضّوا من لحوم الإبل، ولا توضّوا من لحوم الغنم.

قال: وهذا قول محمد بن إسحاق، صاحب "المغازي"، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أحمد بن حنبل: فيه حديثان صحيحان: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة، وقال إسحاق: قد صَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.

وأسقطت طائفة الوضوء من لحوم الإبل، وممن كان لا يرى ذلك واجبًا مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وقد رُوي ذلك عن سُويد بن غَفَلة، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، ورُوي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر الاختلافات: وذهب إلى انتقاض الوضوء به: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى، وأبو بكر بن المنذر، وابن خزيمة، واختاره الحافظ أبو بكر البيهقيّ، وحُكِي عن أصحاب الحديث مطلقًا، وحُكِي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

ثم قال: وهذا المذهب أقوى دليلًا، وإن كان الجمهور على خلافه، وقد أجاب الجمهور عن حديث:"توضّأ من لحوم الإبل" بحديث جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ الوضوء مما مست النار"، ولكن هذا الحديث

(1)

قال: (29) حدثنا إسحاق، عن عبد الرازق، عن الثوريّ، عن الأعمش، عن عبد الله - هو ابن عبد الله -، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أنصلي في أعطان الإبل؟ قال: "لا"، قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "لا"، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". انتهى. "الأوسط" 1/ 138.

(2)

"الأوسط" 1/ 138 - 142.

ص: 358

عامّ، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاصّ، والخاصّ مقدَّم على العام. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه النوويّ رحمه الله مخالفًا لمذهبه من وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل هو الحقّ، ولقد أنصف رحمه الله، ودافع عن السنّة، وترك الدفاع عن المذهب، خلاف ما يسلكه عامّة مقلدي المذاهب من تأويلهم الأحاديث الصحيحة إذا خالفت مذهبهم.

وقال الحافظ في "التلخيص": قال البيهقيّ: حَكَى بعض أصحابنا عن الشافعيّ قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به.

قال البيهقيّ: قد صحّ فيه حديثان: حديث جابر بن سمرة، وحديث البراء، قاله أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه. انتهى.

وقد ذكر العلامة الموفق ابن قدامة رحمه الله في "المغني" في هذا البحث كلامًا حسنًا مفيدًا، قال: إن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال نَيّئًا ومطبوخًا عالِمًا كان أو جاهلًا، وبهذا قال جابر بن سمرة، ومحمد بن إسحاق، وإسحاق، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر، وهو أحد قولي الشافعيّ، قال الخطابيّ: ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث.

وقال الثوريّ، ومالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي: لا ينقض الوضوء بحال؛ لأنه رُوي عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل"، ورُوي عن جابر قال:"كان آخر الأمرين، ترك الوضوء مما مست النار"، رواه أبو داود.

ولنا ما رَوَى البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها"، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال:"لا يتوضأ منها"، رواه أبو داود

(2)

، وروى جابر بن سمرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، أخرجه مسلم.

وروى الإمام أحمد باسناده، عن أُسيد بن حُضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 48 - 49.

(2)

حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (184).

ص: 359

"توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم"، وروى ابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.

قال أحمد، وإسحاق ابن راهويه: فيه حديثان صحيحان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة.

وحديثهم عن ابن عباس لا أصل له، وإنما هو من قول ابن عباس موقوفًا عليه، ولو صَحّ لوجب تقديم حديثنا عليه؛ لكونه أصح منه وأخصّ، والخاصّ يُقَدَّم على العام، وحديث جابر لا يعارض حديثنا أيضًا؛ لصحته وخصوصه.

[فإن قيل]: فحديث جابر متأخر، فيكون ناسخًا.

[قلنا]: لا يصح النسخ به؛ لوجوه أربعة:

[أحدها]: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل متأخر عن نسخ الوضوء مما مست النار، أو مقارن له، بدليل أنه قَرَن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم، وهي مما مست النار.

فإما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي، وإما أن يكون بشيء قبله، فإن كان به، فالأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار، فكيف يجوز أن يكون منسوخًا به، ومن شرط الناسخ تأخره، وإن كان النسخ قبله لم يجز أن يُنسَخ بما قبله.

[الثاني]: أن أكل لحوم الإبل إنما نقض؛ لكونه من لحوم الإبل، لا لكونه مما مست النار، ولهذا ينقض وإن كان نِيئًا، فنَسْخُ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى، كما لو حُرِّمت المرأة للرضاع، ولكونها ربيبةً، فنَسخُ التحريم بالرضاع، لم يكن نسخًا لتحريم الربيبة.

[الثالث]: أن خبرهم عامّ، وخبرنا خاصّ، والعام لا يُنسَخ به الخاصّ؛ لأن من شرط النسخ تعذر الجمع، والجمع بين العام والخاص ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص.

[الرابع]: أن خبرنا صحيح مستفيض، ثبتت له قوّة الصحة والاستفاضة والخصوص، وخبرهم ضعيف؛ لعدم هذه الوجوه الثلاثة فيه، فلا يجوز أن يكون ناسخًا له.

[فإن قيل]: الأمر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب، فنحمله عليه،

ص: 360

ويحتمل أنه أراد بالوضوء غسل اليدين؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام، اقتَضَى غسل اليد، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده

(1)

، وخَصَّ ذلك بلحم الإبل؛ لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره.

[قلنا]: أما الأول فمخالف للظاهر من ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أن مقتضى الأمر الوجوب.

[الثاني]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم هذا اللحم، فأجاب بالأمر بالوضوء منه، فلا يجوز حمله على غير الوجوب؛ لأنه يكون تلبيسًا على السائل، لا جوابًا.

[الثالث]: أنه صلى الله عليه وسلم قرنه بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم، والمراد بالنهي ها هنا نفي الإيجاب لا التحريم، فيتعين حمل الأمر على الإيجاب؛ ليحصل الفرق.

وأما الثاني فلا يصح؛ لوجوه أربعة:

[أحدها]: أنه يلزم منه حمل الأمر على الاستحباب، فإن غسل اليد بمفرده غير واجب، وقد بيّنا فساده.

[الثاني]: أن الوضوء إذا جاء في لسان الشارع وجب حمله على الوضوء الشرعيّ، دون اللغويّ؛ لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضوعاته.

[الثالث]: أنه يخرج جوابًا لسؤال السائل عن حكم الوضوء من لحومها، والصلاة في مباركها، فلا يُفهَم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة.

[الرابع]: أنه لو أراد غسل اليد لما فرَّق بينه وبين لحم الغنم، فإن غسل اليد منها مستحب، ولهذا قال:"من بات وفي يده ريح غَمَر، فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه"

(2)

، وما ذكروه من زيادة الزهومة فأمر يسير لا يقتضي التفريق، والله أعلم.

(1)

الأمر بالوضوء من الطعام، وبعده لا يصحّ، بل هو ضعيف، أخرجه أبو داود 3/ 345.

(2)

حديث حسن، أخرجه الترمذيّ 4/ 289.

ص: 361

ثم لا بد من دليل نَصرِف به اللفظ عن ظاهره، ويجب أن يكون الدليل له من القوّة بقدر قوة الظواهر المتروكة وأقوى منها، وليس لهم دليل وقياسهم فاسد، فإنه طرديّ لا معنى فيه، وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضي، لا لكونه مأكولًا، فلا أثر لكونه مأكولًا، ووجوده كعدمه.

ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة، تخالف الأصول، فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها بحديث من مراسيل أبي العالية، ومالك والشافعيّ أوجباه بمسّ الذكر بحديث مختلف فيه، معارَض بمثله، دون مسّ بقيّة الأعضاء، وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي لا معارض له، مع بُعده عن التأويل، وقوّة الدلالة فيه؛ لمخالفته لقياس طرديّ. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد العلامة ابن قُدامة رحمه الله في تحقيق هذه المسألة بما لا مزيد عليه، فجزاه الله خيرًا عن دفاعه عن السنّة الصحيحة.

والحاصل أنه قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن المذهب الصحيح هو ما ذهب إليه المحدّثون، ومحقّقو الفقهاء؛ كأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، والبيهقيّ، وابن حزم، وقوّاه النوويّ وغيره من وجوب الوضوء بأكل لحم الإبل؛ فتبصّر وكن مع الحقّ، ودُر حيث دار الدليل وإن قلّ المائل إليه، واهجر خلافه وإن اعتمد الجمهور عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في مبارك الإبل:

قال صاحب "المرعاة" رحمه الله: في الحديث دليلٌ على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وإليه ذهب مالك، وأحمد، وابن حزم، وهو الحقّ.

وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها، وهذا إنما يتمّ على القول بأن علّة النهي هي النجاسة،

(1)

"المغني" 1/ 238 - 244.

ص: 362

وذلك متوقّف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، والحقّ طهارة أبوال مأكول اللحم وأزباله، ولو سلّمنا النجاسة فيه لم يصحّ جعلها علّةً؛ لأن العلّة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم؛ إذ لا قائل بالفرق.

وقيل: علّة النهي ما فيها من النفور، وبهذا علّل أصحاب مالك والشافعيّ، وعلى هذا فيفرّق بين كون الإبل في مباركها وبين غَيبتها.

وفيه أن النهي عن الصلاة فيها مطلقٌ، سواءٌ كانت الإبل فيها، أو لم تكن.

وقيل: علّة النهي أن يُجاء بها إلى مباركها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها، أو يستمرّ فيها مع شغل خاطره، وفيه أيضًا ما تقدّم.

وقيل: لأن الراعي يبول بينها، وفيه أن هذا ظن وتخمين لم يقُم عليه دليلٌ، فلا يُلتَفَت إليه.

وقيل: علّة النهي شدّة نتنها.

وقيل: الحكمة في النهي كونها خُلقت من الشياطين، ويدلّ عليه حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه عند أحمد، والنسائيّ، وحديث البراء عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه.

قال الإمام الشوكانيّ - بعد بيان اختلافهم في تعليل النهي بنحو ما ذكرنا -: إذا عَرَفت هذا الاختلاف في العلّة تبيّن لك أن الحقّ الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد والظاهريّة. انتهى.

ولا يُعارضه حديث الصلاة إلى الراحلة بجعلها سُترةً في الصلاة؛ لأن ذلك كان في السفر حالة الضرورة، ولأن النهي مقصور على مواضع بروكها وعَطَنها، وفرقٌ بين الصلاة في العَطَن، وبين جعلها سُترةً في الصلاة في حال شَدّ الرحل عليها. انتهى كلام صاحب "المرعاة" رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلّتها أن أرجحها هو القول بتحريم الصلاة في مبارك الإبل؛ عملًا بظاهر النصّ الصحيح الخالي عن المعارض؛ فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 363

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[809]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ سِمَاكٍ (ح) وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَأَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاء، كُلُّهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرٍو) الْمُهَلَّب بن عمرو الأزديّ الْمَعْنِيّ البغداديّ، المعروف بابن الْكِرْمانيّ، ثقةٌ، من صغار [9](ت 214) عن (86) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 95/ 511.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّي [7](ت 160) وقيل بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(سِمَاك) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، إلا في عكرمة، فمضطرب، وقد تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

5 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ، يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

7 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ

(1)

، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

(1)

قيل: هو منسوب إلى بطن من الأزد، لا إلى علم النحو.

ص: 364

8 -

(أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) الْمُحَاربيّ الكوفيّ، واسم أبي الشعثاء سُليم بن الأسود، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.

والباقون تقدّموا فيما قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ) الضمير يرجع إلى كل من سماك بن حرب، وعثمان بن عبد الله، وأشعث بن أبي الشعثاء.

[تنبيه]: رواية سماك، وأشعث أخرجها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه (1/ 397) فقال:

(795)

حدثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن سماك (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الملك، نا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا شيبان، عن أشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: يا رسول الله، أتطهر من لحوم الغنم؟ فقال:"إن شئت، وإن شئت فدع"، قال: فأصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: فأتطهر من لحوم الإبل؟ قال: "نعم"، قال: أُصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". انتهى.

وأما رواية أشعث، فقد أخرجها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (3/ 433) فقال:

(1157)

أخبرنا عمر بن محمد الهمدانيّ، قال: حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: حدثنا زائدة، وإسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الغنم؟ فقال: "توضأ إن شئت"، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال:"صلِّ إن شئت"، وسئل عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال:"توضأ"، وسئل عن الصلاة في مَبَاتِ الإبل؟ فقال:"لا تصلّ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 365

(25) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَث، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَتِهِ تِلْكَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[810]

(361) - (وَحَدَّثَني عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثنَا سُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَعَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّه، شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْه، أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاة، قَالَ:"لَا يَنْصَرِفُ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ فِي رِوَايَتِهِمَا: هُوَ

(1)

عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة ثبتٌ إمام حجة، من كبار [8](ت 198) عن (91) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم تقدّم قبل باب.

6 -

(سَعِيد) بن المسيِّبِ بن حَزْن بن أبي وَهْب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

7 -

(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ) بن غَزِيَّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

(1)

وفي نسخة: "وهو" بالواو.

ص: 366

رَوَى عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم المازنيّ، وهو أخو تميم لأمه، وجدته أم عمارة، وأبي قتادة الأنصاريّ، وأبي بشير الأنصاريّ، وأبي سعيد الخدريّ، وعويمر بن أشقر.

وروى عنه عمرو بن يحيى عمارة، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابناه: محمد، وعبدُ الله ابنا أبي بكر والزهريّ، وحبيب بن زيد، وعُمارة بن غَزِيّة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

قال الواقديّ: عن أبي بكر بن أبي سَبْرة، عن موسى بن عقبة، قال: قال عباد: كنت يوم الخندق ابن خمس سنين، وقال محمد بن إسحاق، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ابن خمس سنين" إن صحّ هذا فعبّاد من صغار الصحابة، فقد عُدّ منهم من هو أصغر منه، فتأمل.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

8 -

(عَمُّهُ) هو: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ المشهور، صاحب صفة الوضوء، مات رضي الله عنه (63)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 561.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، فرّق بينهم بالتحويل؛ للاختلاف في كيفيّة تحمّله عنهم، فقد أخذ عن الأولين وحده، ولذا قال:"وحدّثني"، وعن الثالث مع غيره، ولذا قال:"وحدّثنا".

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين، وهما عن عمّ الثاني.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن الملقن رحمه الله: إن عبّادًا هذا بفتح أوله، وتشديد ثانيه، يشتبه بعُبَاد بضمّ أوّله، وتخفيف ثانيه، وهو قيس بن عُبَاد وغيره، وبعِبَاد بكسر أوّله، وتخفيف ثانيه، وبعِيَاذ بالياء المثنّاة تحتُ، وذال معجمة، وبعِيَاد

ص: 367

مثله إلا أن الدال مهملة، وبعناد بإبدال الباء نونًا، وكلٌّ موضّح في كتابي "مشتبه النسبة". انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وهو راوي صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم المتّفق عليه، وهو الذي قتل مسيلمة الكذّاب، واستُشهد بالحرّة سنة (63)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيد) بن المسيِّب (وَعَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ) بالجرّ عطفًا على سعيد، وفي رواية البخاريّ:"وعن عبّاد" بزيادة "عن"، فقال في "الفتح": هو معطوف على قوله: "عن سعيد بن المسيب"، وسقطت الواو من رواية كريمة غَلَطًا؛ لأن سعيدًا لا رواية له عن عبّاد أصلًا، ثم إن شيخ سعيد فيه يَحْتَمِل أن يكون عَمَّ عباد، كأنه قال كلاهما عن عمه؛ أي عم الثاني، وهو عبّاد، وَيحتَمِل أن يكون محذوفًا، ويكون من مراسيل ابن المسيِّب، وعلى الأول جَرَى صاحب "الأطراف"، ويؤيد الثاني رواية معمر لهذا الحديث، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي سعيد الخدريّ، أخرجه ابن ماجه، ورواته ثقات، لكن سئل أحمد عنه، فقال: إنه منكر. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ويؤيّد الثاني .. ، إلخ فيه نظر لا يخفى، كيف يؤيّده وهو منكرٌ، كما قال الإمام أحمد، بل الذي يظهر أن ما ذهب إليه صاحب "الأطراف" هو الصواب، فسعيد بن المسيِّب يروي هذا الحديث مع عبّاد بن تميم، عن عم عبّاد، وهو عبد الله زيد، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(عَنْ عَمِّهِ) أي عمّ عبّاد، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم المازنيّ الأنصاريّ، كما سماه سفيان بن عيينة هنا، واختُلِف هل هو عم عباد لأبيه، أو لأمه؟ (شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ) هو بضم الشين، وكسر الكاف مبنيًّا للمفعول، و"الرجل" مرفوع على أنه نائب فاعله، قال النوويّ رحمه الله: ولم يُسَمَّ هنا الشاكي، وجاء في رواية البخاريّ أن السائل هو عبد الله بن زيد الراوي،

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 660 - 661.

ص: 368

وينبغي أن لا يُتَوَهَّم بهذا أنه "شَكَى" مفتوحة الشين والكاف، ويُجْعَل الشاكي هو عمَّه المذكور، فإن هذا الوَهْمَ غَلَطٌ. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية البخاريّ: "أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": قوله: "أنه شكا" كذا في روايتنا "شكا" بألف، ومقتضاه أن الراوي هو الشاكي، وصَرَّح بذلك ابن خزيمة، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، ولفظه:"عن عمه، عبد الله بن زيد، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل"، ووقع في بعض الروايات:"شُكِيَ " بضم أوله، على البناء للمفعول، وعلى هذا فالهاء في "أنه" ضمير الشأن، ووقع في مسلم:"شُكِيَ" بالضم أيضًا، كما ضبطه النوويّ. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "شَكَى" من شَكَوت فلانًا أشكوه شَكْوًا، وشِكايةً وشَكِيَّةً وشَكَاةً: إذا أخبرتَ عنه بسوء فعله، فهو مَشْكُوّ، وشَكِيٌّ، والاسم الشكوى، والياء في شَكَى منقلبة عن واو، وأصله شَكَوَ بدليل يشكو، والشَّكْوَى، ويجوز أن تكون أصلية، غير منقلبة في لغة من قال: شَكَى يَشْكِي بالياء. انتهى

(3)

.

(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) - بضم أوله، وفتح المعجمة، وتشديد الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة - وأصله من الْخَيَال، والمعنى: يُظَنّ، والظن هنا أعمّ من تساوي الاحتمالين، أو ترجيح أحدهما، على ما هو أصل اللغة، من أن الظن خلاف اليقين، قاله في "الفتح"

(4)

.

وقال في "العمدة": قوله: "يُخَيَّل" على صيغة المجهول: أي يُشَبَّه، ويُخايَل، وفلان يَمضي على الْمُخَيَّل، أي على ما خُيِّلت، أي شُبِّهت، يعني على غَرَر من غير تعين، وخُيِّل إليه أنه كذا على ما لم يُسَمَّ فاعله من التخييل والوهم، قال الله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. انتهى

(5)

.

وقال في "المصباح": وخُيِّل له كذا بالبناء للمفعول، من الوَهْم والظنّ،

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 51.

(2)

"الفتح" 1/ 286.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 382.

(4)

"الفتح" 1/ 286.

(5)

"عمدة القاري" 2/ 382.

ص: 369

وخَيَّلَ الرجلُ على غيره تخييلًا، مثلُ لبّس تلبيسًا وزنًا ومعنًى: إذا وجّه الوهْمَ إليه، والْخَيالُ كلُّ شيء تراه كالظلّ، وخَيَالُ الإنسان في الماء والمرآة صورة تِمثَاله، وربّما مرّ بك الشيء يُشبه الظلّ فهو خَيَالٌ، وكلُّهُ بالفتح. انتهى

(1)

.

والجملة من الفعل والنائب صفة لـ"الرجل"، على تقدير "أل" جنسيّة، والمعرّف بها في قوّة النكرة، كما في قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

فإنه لم يُرِد لئيمًا معيَّنًا، فهو نكرة في المعنى، نبّه عليه الفاكهيّ

(2)

.

(أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ) أي الحدثَ خارجًا منه، وصَرَّح به الإسماعيليّ، ولفظه:"يُخَيَّلُ إليه في صلاته أنه يَخرُج منه شيء"، وفيه العدول عن ذكر الشيء المستقذَر بخاص اسمه، إلا للضرورة.

وجملة "أن" من اسمها وخبرها نائب فاعلٍ لقوله: "يُخَيَّل".

(فِي الصَّلَاةِ) متعلّق بـ"يُخيّل"، أو بـ"يجد"، قال في "الفتح": تمسّك بعض المالكية بظاهره، فخَصُّوا الحكم بمن كان داخل الصلاة، وأوجبوا الوضوء على من كان خارجها، وفَرَّقوا بالنهي عن إبطال العبادة، والنهيُ عن إبطال العبادة متوقف على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك؛ لأن هذا التخيُّل إن كان ناقضًا خارج الصلاة، فينبغي أن يكون كذلك فيها، كبقية النواقض. انتهى

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن هذا السؤال ("لَا يَنْصَرِفُ) بالرفع على أن "لا" نافية، أو بالجزم على أنها ناهية، ويكون النفي بمعنى النهي، بل هو أبلغ؛ لأنه نفيٌ للشيء من أصله، والنهي إعدام لحكمه مع بقائه، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وفي رواية البخاريّ:"لا ينفتل، أو لا ينصرف"، قال في "الفتح": هو شك من الراوي، وكأنه من عليّ - يعني ابن المدينيّ شيخ البخاريّ فيه - لأن الرواة غيره رووه عن سفيان بلفظ:"لا ينصرف"، من غير شك. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 187.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 661 - 662.

(3)

"الفتح" 1/ 286.

ص: 370

وقال في "العمدة": كلمة "أو" للشك من الراوي، قال الكرمانيّ: والظاهر أنه من عبد الله بن زيد، قال العينيّ: يجوز أن يكون ممن دونه من الرواة، ووقع في كتاب الخطابيّ:"ولا ينصرف" بحذف الهمزة، وفي رواية للبخاري:"لا ينصرف"، من غير شك. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الشكّ من عليّ بن المدينيّ هو الأقرب، كما أشار إليه الحافظ، بدليل رواية غيره بلا شكّ؛ إذ لو كان ممن فوقه لاتفقت الروايات في الشكّ؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا) أي من الدبر (أَوْ) للتنويع لا للشكّ (يَجِدَ رِيحًا") أي خارجًا من الدبر أيضًا، وعبّر بالوجدان دون الشمّ؛ ليشمل ما لو لمس المحلّ، ثم شمّ يده. قاله في "الفتح".

ثم إن الغاية تدلّ على أنه إذا وجد ريحًا، أو سمع صوتًا ينصرف لأجل الوضوء، وهو المطلوب، والمقصود بقوله: "حتى يسمع

إلخ" أي حتى يتيقّن بطريق الكناية أعمّ من أن يكون بسماع صوت، أو وجدان ريح، أو يكون بشيء آخر، وغلبة الظنّ عند بعض العلماء في حكم المتيقّن، فبقي الشكّ لا عبرة به، بل يُحكم بالأصل المتيقّن، وإن طرأ الشكّ في زواله. قاله السنديّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": ودَلَّ حديث الباب على صحة الصلاة، ما لم يَتَيقَّن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين؛ لأن المعنى إذا كان أوسع من اللفظ، كان الحكم للمعنى. قاله الخطابي.

وقال أيضًا: وحَمَل بعضهم الحديث على مَن كان به وسواس، وتَمَسَّك بأن الشكوى لا تكون إلا من علة.

وأُجيب بما دلّ على التعميم، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بلفظ:"إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه؛ أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنّ من المسجد، حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". انتهى

(2)

.

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 99.

(2)

"الفتح" 1/ 287.

ص: 371

وقال ابن الملقّن رحمه الله: "الشيء" المشار إليه هو الحركة التي يظُنّ بها أنها حدَثٌ، وليس كذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"حتى يسمع صوتًا أو يَجِد ريحًا"، ومعناه: يعلم وجود أحدهما يقينًا، ولا يُشترط اجتماع السماع والشمّ بالإجماع.

قال الإسماعيليّ رحمه الله: هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شك في خروج ريح منه، لا نفي الوضوء إلا من سماع صوت، أو وجدان ريح.

وفي "صحيحي ابن خزيمة وابن حبّان"، و"مستدرك الحاكم" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك أحدثتَ، فليقل: كذبتَ، إلا ما وجد ريحًا بأنفه، أو سمع صوتًا بأذنه".

وفي "مسند أحمد" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا: "إن الشيطان ليأتي أحدكم، وهو في صلاته، فيأخذ شَعْرة من دبره، فيَمُدُّها، فيرى أنه أحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا"، وفي إسناده عليّ بن زيد بن جُدْعان، ضعيف.

وقال ابن خزيمة: قوله: "فليقل: كذبت" أراد: فليقل: "كذبت" بضميره، لا ينطق بلسانه؛ إذ المصلي غير جائز له أن يقول: كذبت، نطقًا.

قال في "العمدة": ويؤيد ما قاله ما رواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك قد أحدثت، فليقل في نفسه: كذبت".

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنّ من المسجد"، وفي رواية الترمذيّ:"فوجد ريحًا بين أَلْيَتَيْه".

وفي "علل ابن أبي حاتم": "فوجد ريحًا من نفسه"، وفي "كتاب الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلّام:"يجد الشيءَ في مقعدته، قال: لا يتوضأ إلا أن يجد ريحًا يعرفها، أو صوتًا يسمعه".

وروى ابن ماجه بسند فيه ضعف، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: رأيت السائب بن يزيد، يَشُمّ ثوبه، فقلت: مِمّ ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وضوء إلا من ريح، أو سماع".

ورَوَى أبو داود من حديث علي بن طلق، يرفعه:"إذا فَسَا أحدكم فليتوضأ".

ص: 372

قال مهنّا: قال أبو عبيد الله: عاصم الأحول يُخطئ في هذا الحديث، يقول: علي بن طلق، وإنما هو طلق بن عليّ، وأبى ذلك البخاريّ، فقال فيما ذكره أبو عيسى عنه في "العلل"، وذكر حديث علي بن طلق هذا، بلفظ: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نكون بالبادية، فيكون من أحدنا الرُّوَيحة؟ فقال:"إن الله تعالى لا يستحي من الحقّ، إذا فَسَا أحدكم، فليتوضأ"، فقال: لا أعرف لعليّ بن طلق، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وهو عندي غير طلق بن عليّ، ولا يُعرَف هذا من حديث طلق بن علي.

ولما ذكره الترمذي في "الجامع" من حديث علي بن طلق حَسَّنه، وذكره ابن حبان في "صحيحه" بلفظ:"إذا فَسَا أحدكم في الصلاة، فلينصرف، ثم ليتوضأ، ولْيُعِد صلاته"، ثم قال: لم يقل أحد: "ولْيُعِد صلاته" إلا جرير بن عبد الحميد، وقال أبو عبيد في "كتاب الطهور" إنما هو عندنا عليّ بن طلق؛ لأنه حديثه المعروف، وكان رجلًا من بني حنيفة، وأحسبه والد طلق بن عليّ الذي سأل عن مسّ الذكر.

وممن ذكره في مسند عليّ بن طلق أحمد بن منيع في "مسنده"، والنسائيّ، والكجيّ في "سننيهما"، وأبو الحسين بن قانع في آخرين.

[تنبيه]: (اعلم): أن حقيقة المعنى في قوله: "حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا": حتى يَعْلَم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بالإجماع، فإن الأصمّ لا يسمع صوتًا، والأخشم الذي راحت حاسّة شَمّه لا يشُمّ أصلًا.

وقال الخطابيّ رحمه الله: لم يُرِد بذكر هذين النوعين من الحدث تخصيصهما، وقَصْرَ الحكم عليهما، حتى لا يُحدِث بغيرهما، وإنما هو جوابٌ خَرَجَ على حرف المسألة التي سأل عنها السائل، وقد دخل في معناه كلُّ ما يَخرج من السبيلين، وقد تخرج منه الريح، ولا يسمع لها صوتًا، ولا يجد لها ريحًا، فيكون عليه استئناف الوضوء، إذا تَيَقَّن ذلك، وقد يكون بأذنه وَقْرٌ، فلا يسمع الصوت، أو يكون أخشم، فلا يجد الريح، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم، كان الحكم للمعنى، وهذا كما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استَهَلَّ الصبيّ وَرِثَ، وصُلِّي عليه"

(1)

،

(1)

ضعيف.

ص: 373

لم يُرِد تخصيص الاستهلال الذي هو الصوت، دون غيره من أمارات الحياة، من حركة، وقبض، وبسط، ونحوها. قاله في "العمدة"

(1)

.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أبي شيبة شيخه الثالث (وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِمَا: هُوَ) وفي نسخة: "وهو" بالواو (عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ) يعني أنهما زادا في روايتهما بعد قوله: "عن عمّه" ما نصّه: هو: عبد الله بن زيد، والمعنى أن المراد بعمّه هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازنيّ، وهو عمّ لعبّاد بن تميم، وقد سبق عن الحافظ أنه اختُلف هل هو عمّه لأبيه أو لأمه؟ وقال ابن الملقّن: هو عمّه من قبل أمه، لا من قبل أبيه

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[25/ 810](361)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(137 و 177) و"البيوع"(2056)، و (أبو داود) في "الطهارة"(176)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 98)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(513)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 248 و 249)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(742)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(796)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن هذا الحديث أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يُحكَم ببقائها على أصولها، حتى يُتَيَقَّن خلاف ذلك، ولا يضرّ الشكّ الطارئ عليها، والعلماء متفقون على هذه القاعدة، ولكنهم مختلفون في كيفية استعمالها، مثاله مسألة الباب التي دلّ عليها

(1)

"عمدة القاري" 2/ 383 - 384.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 660 - 661.

ص: 374

الحديث، وهي أن مَن تيقن الطهارة، وشكّ في الحدث يُحكَم ببقائه على الطهارة، سواء حَصَل الشك في الصلاة أو خارجها، وهذا بالإجماع بين الفقهاء، إلا عن مالك، فله روايتان: إحداهما: أنه يلزمه الوضوء، إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والأخرى يلزمه بكل حال، وحُكِيت الأولى عن الحسن البصريّ، وهو وجه شاذّ عند الشافعية، ذكره الرافعيّ، والنوويّ في "الروضة"، وحُكِيت الثانية أيضًا وجهًا للشافعية، وهو غريب، وعن مالك رواية ثالثة، رواها ابن قانع عنه، أنه لا وضوء عليه، كما قاله الجمهور، وحكاها ابن بطال عنه.

ونَقَل القاضي، ثم القرطبيّ، عن ابن حبيب المالكيّ أن هذا الشك في الريح دون غيره من الأحداث، وكأنه تبع ظاهر الحديث، واعتَذَر عنه بعض المالكية بأن الريح لا يتعلق بالمحلّ منه شيء، بخلاف البول والغائط، ولا يخفى ما فيه، وعن بعض أصحاب مالك أنه إن كان الشك في سبب حاضر، كما في الحديث طرح الشك، وإن كان في سبب متقدم فلا.

وأما إذا تيقن الحدث، وشكّ في الطهارة، فإنه يلزمه الوضوء بالإجماع، وعلى هذا الأصل من شكّ في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب، أو غيره، أو أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو أنه ركع، أو سجد أم لا، أو نَوَى الصوم أو الصلاة، أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه الأمثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث.

وقالت الشافعية: تُسْتَثنَى من هذه القاعدة بضع عشرة مسألةً:

(منها): من شك في خروج وقت الجمعة قبل الشروع فيها، قيل: أو فيها، ومن شك في ترك بعض وضوء، أو صلاة بعد الفراغ، لا أثر له على الأصح.

(ومنها): عَشْرٌ ذَكَرهُنّ ابن القاصّ - بتشديد الصاد المهملة المشدّدة - من الشافعية

(1)

: الشكّ في مدة خُفّ، وأنّ إمامه مسافر، أو وَصَل وطنه، أو نوى

(1)

هو أحمد بن أبي أحمد إمام جليل، توفّي بطرسوس سنة (335 هـ). "المجموع"(1/ 143).

ص: 375

إقامةً، ومسح مستحاضة شُفِيت، وغسل متحيّرة، وثوبٌ خَفِيَت نجاسته، ومسألة الظبية، وبطلان التيمم بتوهم الماء، وتحريم صيد جَرَحه فغاب، فوجده ميتًا.

قال الققال: لم يَعْمَل بالشك في شيء منها؛ لأن الأصل في الأولى الغسل، وفي الثانية الإتمام، وكذا في الثالثة، والرابعة إن أوجبناه، والخامسة والسادسة اشتراطُ الطهارة، ولو ظنًّا أو استصحابًا، والسابعة بقاء النجاسة، والثامنة لقوة الظنّ، والتاسعة للشك في شرط التيمم، وهو عدم الماء، وفي الصيد تحريمه، إن قلنا به.

قال النوويّ رحمه الله في "تحقيقه" بعد أن لخّص المسألة هكذا، وبسطها في "شرح المهذّب": وقولُ ابن القاصّ أقوى في غير الثامنة، والتاسعة، والعاشرة. انتهى.

2 -

(ومنها): ما قالته الشافعية: لا فرق في الشك بين تساوي الاحتمالين في وجوب الحدث وعدمه، وبين ترجيح أحدهما وغلبة الظن في أنه لا وضوء عليه، فالشك عندهم خلاف اليقين، وإن كان خلاف الاصطلاح الأصوليّ، وقولهم موافق لقول أهل اللغة: الشك خلاف اليقين، نعم يُستحب الوضوء احتياطًا، فلو بان حدثه أوّلًا، فوجهان أصحهما لا يجزيه هذا الوضوء؛ لتردده في نيته، بخلاف ما إذا تيقن الحدث، وشك في الطهارة، فتوضأ، ثم بان محدثًا، فإنه يجزيه قطعًا، لأن الأصل بقاء الحدث، فلا يضر التردد معه، ولو تيقن الطهارة والحدث معًا، وشك في السابق منهما فأوجه؛ أصحها أنه يأخذ بضدّ ما قبلهما إن عرفه، فإن لم يعرفه لزمه الوضوء مطلقًا.

3 -

(ومنها): ما قال الخطابيّ رحمه الله: فيه حجة لمن أوجب الحدّ على من وُجِدت منه رائحة المسكر، وإن لم يُشاهَد شربه، ولا شهد عليه الشهود، ولا اعترف به.

وتعقّبه العينيّ، بأن الحدود تدرأ بالشبهة والشبهة هنا قائمة.

قال الخطابيّ: وفيه دلالة أيضًا على أنه إذا تيقّن النكاح، وشكّ في الطلاق كان على النكاح المتقدّم، إلا إن تيقّن الطلاق.

قال ابن الملقّن: وهذا فرد من أفراد القاعدة التي أسلفناها، ويتعلّق بها ما رويناه بالإسناد إلى عبد الرحمن بن مالك بن مغراء، قال: جاء رجلٌ إلى

ص: 376

أبي حنيفة، فقال: شربت البارحة نبيذًا، فلا أدري أطلّقتُ امرأتي أم لا؟، فقال له: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلّقتها، قال: فتركه، ثم جاء سفيان الثوريّ، فسأله، فقال: اذهب فراجعها، فإن كنت طلّقت، فقد راجعتها، وإلا فلا تضرّك المراجعة، فتركه وجاء إلى شريك، فقال له: اذهب فطلّقها ثم راجعها، فتركه، وجاء إلى زفر فسأله، فقال: هل سألت قبلي أحدًا؟، قال: نعم، وقمق عليه القصّةَ، فقال في جواب أبي حنيفة: الصوابَ قال لك، وقال في جواب سفيان: ما أحسن ما قال، ولما بلغ إلى قول شريك ضَحِك مليًّا، ثم قال: لأضربنّ لهم مثلًا، رجلٌ مرّ بشِعْب يسيل دمًا، فشكّ في ثوبه هل أصابه نجاسة؟ قال أبو حنيفة: ثوبك طاهر حتى تستيقن، وقال سفيان: اغسله، فإن كان نجسًا، فقد طهّرته، وإلا فقد زدته طهارةً، وقال شريك: بُلْ عليه، ثم اغسله، ذكره ابن الملقّن

(1)

، والله أعلم بصحّة القصّة.

4 -

(ومنها): مشروعية سؤال العلماء عما يحدث من الوقائع، وجواب السائل.

5 -

(ومنها): ترك الاستحياء في العلم، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم كل شيء، وأنه يصلي بوضوء واحد صلوات ما لم يحدث.

6 -

(ومنها): قبول خبر الواحد.

7 -

(ومنها): أن من كان على حال لا ينتقل عنه إلا بوجود خلافه.

8 -

(ومنها): أنهم كانوا يَشْكُون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم جميع ما ينزل بهم.

9 -

(ومنها): أنه استَدَلَّ به بعضهم على أن رؤية المتيمم الماء في صلاته، لا ينقض طهارته

(2)

، وفيه نظرٌ؛ لأن الشرع جعل صلاحية طهارة التيقم مغيّاة بوجود الماء، فقد أخرج أبو داود، وغيره بسند صحيح، عن أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الصعيد الطيِّب طَهُور، وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك".

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 675 - 676.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 2/ 384 - 385.

ص: 377

فقد جعل وُجود الماء غاية لصلاحية التيمّم، فيدلّ على أنه ينتقض بوجوده، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.

10 -

(ومنها): ما قاله ابن الملقن رحمه الله: هذه القاعدة تُعرف في الأصول باستصحاب الحال، وهي من الأدلّة الشرعيّة الثلاثة التي هي: أصلٌ، ومعقول الأصل، واستصحاب حال.

ونعني بالأصل: الكتاب، والسنّة، والإجماع، وبمعقول الأصل: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب، على ما تقرّر في الأصول.

ونعني باستصحاب حال الأصل البقاء عليه حتى يدلّ دليل على خلافه، وهو على ضربين: استصحاب حال العقل، واستصحاب حال الإجماع. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة استصحاب الحال قد استوفيتها في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعهما تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[811]

(362) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْه، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِد، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(سُهَيْل) بن أبي صالح السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 672.

ص: 378

3 -

(أَبُوهُ) ذكوان السمّان الزيّات أبو صالح المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وزهير تقدّما في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا) أي من المرض، كالقرقرة، بأن تردّد في بطنه ريح (فَأَشْكَلَ) أي التبس (عَلَيْه، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ) أي من الحدث (أَمْ لَا؟) قال ابن الملك رحمه الله: يعني صار مشكلًا عنده خروج شيء من بطنه، وعدم خروجه، قال: هذا الاستفهام جعله في حكم المصدر، كما في قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، يعني إنذارك وعدم إنذارك سواء. انتهى

(1)

.

(فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ) المراد من محلّ صلاته؛ أي لا ينصرف من موضع صلاته لأجل الوضوء؛ لأن المتيقَّن لا يُبطله الشكّ.

قال الطيبيّ رحمه الله: هذا يوهم أن حكم غير المسجد بخلاف المسجد، لكن أشير به إلى أن الأصل أن يصلي المؤمن التقيّ في المسجد؛ لأنه مكان الصلاة ومعدنها، وكأن من هو خارجٌ منه خارج من حكم المصلّي؛ مبالغةً،

(1)

راجع ما كتبه محمد ذهني في هامش: "صحيح مسلم" 1/ 190.

ص: 379

فعلى المؤمن ملازمته، والمواظبة على إقامة الصلوات مع الجماعات، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا") تقدّم أن "أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، أي حتى يتيقّن بوجود الحدث الناقض لوضوئه، وذلك بأن يسمع صوت الريح الخارجة من الدبر، أو يجد ذلك في يده بأن يَشُمَّ المحلّ.

وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": معنى: "حتى يسمع صوتًا

إلخ": حتى يتيقّن الحدث، لا أن سماع الصوت، أو وجود الريح شرط، فإنه قد يكون أصمّ لا يسمع الصوت، وقد يكون أخشم لا يجد الريح، وينتقض طهره إذا تيقّن الحدث.

وقال المازريّ رحمه الله: في الحديث دليلٌ على أن الريح الخارجة من أحد السبيلين توجب الوضوء، وقال أصحاب أبي حنيفة: خروج الريح من القبل لا يوجب الوضوء.

وفيه دليلٌ على أن اليقين لا يزول بالشكّ في شيء من أمر الشرع، وهو قول عامّة أهل العلم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[25/ 811](362)، و (أبو داود) في "الطهارة"(177)، و (الترمذيّ) فيها (74 و 75)، و (ابن ماجه) فيها (515)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 441)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(741)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(797)، و (البيهقي) في "الكبرى"(1/ 188)، وبقيّة المسائل تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 759.

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 758.

ص: 380

(26) - (بَابُ طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[812]

(363) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ، فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمُوهُ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ " فَقَالُوا

(1)

: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ:"إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، فِي حَدِيثِهِمَا: عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقة، صنف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 242)(م ت س ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا لطائف الإسناد، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: تُصُدِّقَ) بالبناء للمفعول، وفي الرواية الآتية:"مرّ بشاة مطروحة أُعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة"(عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذه المولاة

(2)

.

[تنبيه]: قد جاء في رواية صحيحة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان هو الذي أعطى

(1)

وفي نسخة: "فقال".

(2)

"الفتح" 3/ 448.

ص: 381

تلك الشاة لمولاة ميمونة رضي الله عنها فقد أخرج النسائيّ في "سننه" بسند صحيح، من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة، كان هو أعطاها مولاة لميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هلّا انتفعتم بجلدها؟ " فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما حرم أكلها"

(1)

.

وقد روي نحو هذا في شاة لسودة رضي الله عنها ففي "صحيح البخاريّ" عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن سودة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: ماتت لنا شاةٌ، فدبغنا مَسْكَها، ثم ما زِلْنا نَنْبِذ فيه، حتى صار شَنًّا.

وفي "مسند أحمد" عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة - يعني الشاة - فقال: "فلولا أخذتم مَسْكها"، فقالت: نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما قال الله عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية [الأنعام: 145] فإنكم لا تَطْعمونه، أن تدبغوه، فتنتفعوا به، قالت: فأَرسلتُ إليها، فسُلِخت مَسْكها، فدبغته، فأخذتُ منه قِرْبةً حتى تخرّقت عندها"

(2)

.

(بِشَاةٍ) متعلّق بـ"تُصُدِّق"، وفي رواية البخاريّ:"مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعنز ميتة"، قال في "الفتح":"الْعَنْز" بفتح المهملة، وسكون النون، بعدها زاي: هي الماعزة، وهي الأنثى من المعز، ولا ينافي رواية:"ماتت شاة"؛ لأنه يُطْلَق عليها شاة كالضأن. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: من الغريب أن صاحب "فتح المنعم" تعقّب كلام الحافظ هذا، فقال: وعندي أن العنز غير الشاة، وحمل الروايتين على

(1)

راجع: "المجتبى" 7/ 172.

(2)

رواه "أحمد" في "مسنده"(1/ 327 و 6/ 429)، وابن حبّان في "صحيحه"(4/ 97)، وفي إسناده سماك، عن عكرمة، وهو مضطرب، لكن يشهد له ما تقدّم من "صحيح البخاري"، فهو صحيح.

(3)

"الفتح" 9/ 577.

ص: 382

حادثتين مختلفتين أولى من حمل العنز والشاة على ذات واحدة. انتهى.

والغريب قوله: العنز غير الشاة، فمن أين له هذا؟، وقد أثبت أرباب اللغة أن الشاة والغنم يطلقان على الضأن وعلى المعز

(1)

، بل ذكر في "القاموس"، و"اللسان" قولًا: إن الشاة تُطلق على الضأن، والمعز، والظباء، والبقر، والنعام، وحمر الوحش.

وأيضًا من أين له أنه صلى الله عليه وسلم اتّفقت له هذه الواقعة مرّتين لمولاة ميمونة رضي الله عنها؟ هذا شيء عجيب.

فالصواب ما قاله الحافظ رحمه الله، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(فَمَاتَتْ) أي تلك الشاة (فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هَلَّا أَخَذْتُمْ)"هَلَّا" - بفتح الهاء، وتشديد اللام -: حرف تحضيض، مختصّ بالجمل الفعليّة، فإذا قُصد به التوبيخ، وهو اللوم على ترك الفعل، والتنديم؛ أي الإيقاع في الندم، كما هنا، كان الفعل ماضيًا، وإن قُصِد الحثّ على الفعل كان مستقبلًا، ومثلها "لولا"، و"لوما"، و"أَلَّا" بالتشديد، و"أَلَا" بالتخفيف، وإلى قاعدة هذه الحروف أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

"لَوْلَا" و"لَوْمَا" يَلْزَمَانِ الابْتِدَا

إِذَا امْتِنَاعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا

وَبِهِمَا التَّحْضِيضَ مِزْ وَ"هَلَّا"

"أَلَّا""أَلَا" وَأَوْليَنْهَا الْفِعْلَا

وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلٍ مُضمَرِ

عُلِّقَ أَوْ بِظَاهِرٍ مُؤَخَّرِ

(إِهَابَهَا) بكسر الهمزة، وتخفيف الهاء، قال في "القاموس":"الإهاب" كَكِتَاب: الجلد، أو ما لم يُدْبَغ، جمعه: آهِبَةٌ، وأُهُبٌ، وأَهَبٌ. انتهى

(2)

.

وفي "المصباح": "الإهاب": الجِلْدُ قبل أن يُدبغ، وبعضهم يقول: الإهاب: الجلد، وهذا الإطلاق محمولٌ على ما قيّده الأكثرُ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"أيُّما إهاب دُبغ" يدلّ عليه، والجمعُ أُهُبٌ بضمّتين على القياس، مثلُ كتاب وكُتُب، وبفتحتين على غير قياس، قال بعضهم: وليس في كلام العرب فِعَالٌ

(1)

راجع: "القاموس المحيط"، و"المصباح المنير"، و"لسان العرب" في مادّة "غنم"، و"شوه" تجد الصواب.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 37.

ص: 383

يُجمَعُ على فَعَلٍ بفتحتين إلا إِهابٌ وأَهَبٌ، وعِمَادٌ وعَمَدٌ، وربّما استُعير الإهاب لجلد الإنسان. انتهى

(1)

.

(فَدَبَغْتُمُوهُ) قال في "المعجم الوسيط": دَبَغَ الجلدَ يدبُغُه دَبْغًا، ودِبَاغًا، ودِبَاغَةً: عالجه بمادّة ليلين، ويزول ما به من رُطُوبة، ونَتْن. انتهى

(2)

. وقال في "القاموس": دَبَغَ الإهاب، كنصر، ومَنَعَ، وضَرَبَ دَبْغًا ودِبَاغًا ودِبَاغَةً بكسرهما، فاندبَغَ، والدِّبَاغُ، والدِّبْغُ، والدِّبْغَةُ مكسوراتٍ: ما يُدْبَغُ به، وككِتَابَةٍ: حِرْفَة الدَّبّاغ. انتهى

(3)

.

(فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟) أي بالإهاب (فَقَالُوا) أي القوم المخاطبون، وفي بعض النسخ:"فقال" بالإفراد، أي بعض الحاضرين، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تعيين القائل. انتهى

(4)

. (إِنَّهَا) أي الشاة (مَيْتَةٌ) بتخفيف الياء، ويجوز تشديدها، قال في "المصباح":"الميتة": من الحيوان: ما مات حَتْفَ أنفه، والجمع ميتات، وأصلها ميِّتةٌ بالتشديد، قيل: والتُزِم التشديد في ميتة الأَناسيّ؛ لأنه الأصل، والتُزم التخفيف في غير الأناسيّ؛ فرقًا بينهما، ولأن استعمال هذه أكثر من الآدميّات، فكانت أولى بالتخفيف. انتهى

(5)

.

والمعنى: أن هذه الشاة محرَّمة؛ لأنها ميتة، وإنما قالوا ذلك ظنًّا منهم أن تحريم الميتة في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} يشمل جلدها كلحمها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا المراد بالتحريم في الآية (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) بتشديد الراء من التحريم، ويجوز تخفيفها، قال النوويّ رحمه الله: رويناه على وجهين: "حَرُمَ" - بفتح الحاء، وضمّ الراء -، و"حُرِّم" - بضمّ الحاء، وكسر الراء المشدّدة - وفي هذا اللفظ دلالة على تحريم أكل جلد الميتة، وهو الصحيح، كما سيأتي تحقيقه، وللقائل الآخر أن يقول: المراد تحريم لحمها. انتهى

(6)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما حرم أكلها" خرج على الغالب مما تُراد اللحوم له، وإلا فقد حرم حملها في الصلاة، وبيعها، واستعمالها، وغير ذلك

(1)

"المصباح المنير" 1/ 28.

(2)

"المعجم الوسيط " 1/ 270.

(3)

"القاموس المحيط " 3/ 104.

(4)

"الفتح" 9/ 575.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 584.

(6)

"شرح النوويّ" 4/ 55.

ص: 384

مما يحرم من النجاسات. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: ظاهره أن ما عدا المأكول من أجزاء الميتة غير محرّم الانتفاع به، كالشعر، والسنّ، والقرن، ونحوها، قالوا: لا حياة فيها، فلا تنجس بموت الحيوان. انتهى

(2)

.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) هو: ابنُ أبي شيبة، شيخه الثاني (وَابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو محمد بن يحيى بن أبي عمر، شيخه الرابع (فِي حَدِيثِهِمَا) أي في روايتهما لهذا الحديث عن سفيان بن عيينة (عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها) يعني أنهما ذكرا ميمونة رضي الله عنها بعد ابن عبّاس رضي الله عنهما، فجعلاه من رواية ابن عبّاس عنها، بخلاف يحيى بن يحيى، وعمرو الناقد، فقد جعلاه من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قال في "الفتح" عند قوله: "مَرَّ بشاة"، ما نصّه: كذا للأكثر عن الزهريّ، وزاد بعض الرواة عن الزهريّ، عن ابن عباس، عن ميمونة، أخرجه مسلم وغيره من رواية ابن عيينة، والراجح عند الحفّاظ في حديث الزهريّ، ليس فيه ميمونة، نعم أخرج مسلم، والنسائيّ من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، أن ميمونة أخبرته. انتهى

(3)

.

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخراج حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا -، ما نصّه: وفي الباب عن سَلَمة بن الْمُحَبِّق، وميمونة، وعائشة، وحديث ابن عباس حسن صحيح، وقد رُوِي من غير وجه عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوُ هذا، ورُوي عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورُوي عنه عن سَوْدة، وسمعت محمدًا - يعني البخاريَّ - يُصَحِّح حديث ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس، عن ميمونة، وقال: احْتَمَل أن يكون رَوَى ابنُ عباس، عن ميمونة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى ابنُ عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَذكُر فيه عن ميمونة. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله

(4)

.

(1)

"المفهم" 1/ 610.

(2)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 172.

(3)

"الفتح" 9/ 575 "كتاب الذبائح والصيد" رقم الحديث (5531).

(4)

راجع: "الجامع""كتاب اللباس" رقم (1650).

ص: 385

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما نقله الترمذيّ عن البخاريّ أن الحديث صحيح بالطريقين، فيُحْمَلُ على أن ابن عبّاس رضي الله عنهما شَهِدَ القضيّة، لكن أخبرته خالته ميمونة رضي الله عنها بتفاصيلها، حيث إن تلك الشاة كانت لمولاتها، فكان يُحدّث تارةً بهذا، وتارةً بهذا، ولا مانع من ذلك، بل مثلُ هذا كثير في أحاديث الحفّاظ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[26/ 812 و 813 و 814 و 815](363) و [26/ 816](364) و [26/ 817](365)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1492) و"البيوع"(2221) و"الذبائح والصيد"(5531 و 5532)، و (أبو داود)(4120 و 4121)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1727)، و (النسائيّ) في "الفَرَع والعَتِيرة"(7/ 171 - 172)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3610)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1282 و 1284 و 1285)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(184)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 379)، و (الحميديّ) في "مسنده"(315)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 329)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 86)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 42)، (والطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 469)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 15)، و (ابن حزم في "المحلَّى" (1/ 119)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(547 و 548 و 549 و 550 و 551 و 552 و 553 و 554 و 555 و 556 و 557)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(798 و 799 و 800 و 801 و 802 و 803)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم جلود الميتة، وهو جواز الانتفاع بها، لكن بشرط أن تُدبغ.

2 -

(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه مراجعةُ الإمام فيما لا

ص: 386

يَفْهَم السامع معنى ما أَمَرَهُ، كأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها، وقد حُرِّمت علينا؟ فَبَيَّنَ له وجه التحريم.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة؛ لأن لفظ القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فَخَصَّت السنةُ ذلك بالأكل.

4 -

(ومنها): أن فيه حُسْنَ مراجعتهم، وبلاغتهم في الخطاب؛ لأنهم جَمَعُوا معانيَ كثيرةً في كلمة واحدة، وهي قولهم:"إنها ميتة".

5 -

(ومنها): أن الزهريّ رحمه الله استَدَلَّ به على جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقًا، سواءٌ أدُبغَ أم لم يُدْبَغ؟.

وتُعُقِّب بأنه صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم تقييده بالدباغ، فالحقّ أنه لا بدّ منه، وهو مذهب الجمهور.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز دفع الزكاة لموالي أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ترجم به الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله:"باب الصدقة على موالي أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ثم أورد حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من كتاب الزكاة - إن شاء الله تعالى -.

7 -

(ومنها): بيان مشروعيّة حفظ المال، والعمل في تنميته، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى أخذ جلدها، وإصلاحه بالدباغ، ثم الانتفاع به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم جلود الميتة:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَفَ أهل العلم في الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ وبعده:

فنهت طائفةٌ عن الانتفاع به قبل الدباغ وبعده، وممن قال بهذا القول أحمد بن حنبل، وقال زيد بن وهب: كَتَبَ إلينا عمر بن الخطاب أنه بلغني أنكم بأرض تَلْبسون ثيابًا، يقال لها: الفِرَاء، فانظروا ما من ميتة.

ثم أخرج بسنده، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، أن محمد بن الأشعث، كَلَّم عائشة رضي الله عنها في أن يتخذ لها لِحَافًا من الفِرَاء، فقالت: إنه ميتة،

ص: 387

ولست بلابسة شيءٍ من الميت، قال: فنحن نصنع لكِ لحافًا مما يُدبَغ، وكرهت أن تلبس من الميتة.

وأخرج أيضًا عن محمد

(1)

قال: كان ممن يَكرَه الصلاة في الجلد إذا لم يكن ذكيًّا عمر، وابن عمر، وعائشة، وعمران بن حصين، وابن جابر.

قال: وقد احتَجَّ بعض القائلين بهذا القول أن الله حَرَّم الميتة في كتابه تحريمًا عامًّا، لم يَخُصَّ منها شيئًا دون شيء، فقال عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية [المائدة: 3]، وكان تحريم الميتة يقع على اللحم والجلد؛ لأنه لم يَخُصّ شيئًا دون شيء، وليس لأحد أن يخص من ذلك شيئًا إلا بكتاب أو سنة، لا معارض لها، والأخبار في ذلك مختلفة في أسانيدها ومتونها

(2)

، ففي حديث معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ على شاة لمولاة لميمونة، فقال:"أَلَا استمتعتم بإهابها"، ولم يذكر الدباغ في حديثه، وفي حديث مالك، عن الزهريّ:"هلا استنفعتم بجلدها"، ولم يذكر الدباغ.

واختَلَفوا في إسناد هذا الحديث، فقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن ميمونة، ورُوِي عن الشعبيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة، وقال أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"ماتت شاةٌ لسودة".

فلما اختُلِف في إسناد هذا الحديث، وفي متنه، لم يثبت به حجةٌ، ثم لو لم يَخْتَلف الحديث على ما ذكرناه، وكان حديثًا واحدًا لكان خبرُ ابن عُكَيم ناسخًا له؛ لأنه قال في حديثه: جاءنا كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب"، مع أن هذا القول قد رُوِي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كَرِهوا ذلك، واحتَجَّ ببعض ما ذكرناه أحمد بن حنبل.

(1)

الظاهر أنه ابن سيرين.

(2)

سيأتي أن الصحيح أنه لا اختلاف فيها، ولا اضطراب، وقد أخرجها الشيخان؛ فتنبّه.

ص: 388

قال: وأباحت طائفة الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ، وحَرَّمت الانتفاع بها قبل الدباغ، وذلك مثل جلود الأنعام، وما يقع عليه الذكاة، وهي حيّة، هذا قول أكثر أهل العلم.

قال: وممن رَأَى أن جلود ما يقع عليه الذكاة إذا مات منها شيء قبل أن يُذَكَّى، ويدبغ أن الدباغ يُطَهِّره: عطاءُ بن أبي رَبَاح، وإبراهيم النخعيّ، والشعبيّ، والحسن البصريّ، وقتادة، ويحيى الأنصاريّ، وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعيّ، والليث بن سعد، وسفيان الثوريّ، وأهل الكوفة، وابن المبارك، والشافعيّ، وإسحاق بن راهويه.

قال: وقد رَوَينا غيرَ ما ذكرناه أقاويلَ غيرها خلافَ ما ذكرناه، فمن ذلك ما رواه هُشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه كان يقول: يُنْتَفَع بجلود الميتة إذا دُبِغت، ولا تباع، ولا نَعْلَم أحدًا وافق النخعيّ على هذا القول.

وقد حَكَى ابنُ وهب عن مالك أنه سئل، هل يُصَلَّى في جلد الميتة إذا دُبغ؟ قال: لا، وقال: إنما أُذن في الاستمتاع به، ولا أرى أن يُصَلَّى فيه.

ورُوي عن الحسن أنه كان لا يرى بالصلاة في كل شيء دُبغ بأسًا.

قال: وظاهر هذا القول يُلزم أن يُصَلَّى في جلود الخنازير والكلاب إذا دُبِغت، ولا نعلم أحدًا يقول ذلك في جلود الخنازير

(1)

.

ومن ذلك ما رَويناه عن الزهريّ أنه كان ينكر الدباغ، ويقول: يُسْتَمتَع به على كل حال، مع أنا قد رَوَينا من حديث الوليد بن الوليد الدمشقيّ، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ أن دباغها طهورها.

وقد رَوينا عن النخعيّ روايةً غير الرواية الأولى، أنه سئل عن الرجل يموت له الإبل والبقر والغنم، فيَدْبُغ جلودها؟ قال: يبيعها، ويلبسها إذا دَبَغها.

قال ابن المنذر: وقد احتَجَّ بعض أصحابنا ممن يقول بما ذكرناه، من جُمَل أهل العلم: أن الله عز وجل حَرَّم الميتة في كتابه، فكان ذلك واقعًا على اللحم والجلد جميعًا، إلا أن يُروَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر يدلّ على خصوصيّة شيء منه، فلما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رَخَّصَ في جلد الشاة الميتة بعد الدباغ، وَجَب

(1)

فيه أنه لا يصحّ دعوى الإجماع في هذا، فالخلاف قائم، كما سيأتي؛ فتنبّه.

ص: 389

استثناء ذلك من جملة التحريم، وهو الجلد قبل الدباغ على جملة التحريم.

وذكر هذا القائل حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وحديث الشعبيّ، عن عكرمة، والزهريّ، عن عبيد الله، وقال: هذه الأخبار ثابتةٌ.

فإن قيل: قد اختلفوا فيه.

قيل: ليس الاختلاف مما يوهن الخبر، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما أن يكون ابن عباس سمع ذلك من ميمونة وسودة جميعًا؛ لأن كُلَّ مَن رَوَى ما ذكرناه، عن ابن عباس، عن ميمونة، أو سودة ثقةٌ، يجب قبول حديثه، فيَحْتَمِل أن يكون ابنُ عباس سمع الحديث منهما، فإن كان ذلك فهو ثابت، لا يَدفع له أن يكون ذلك ثابتًا عن أحدهما، فأيهما كان فهو مقبول، لا معنى لردّه، وأيهما كان غيره يجب قبوله.

وقال: فأما خبر ابن وَعْلَة، عن ابن عباس، فليس مما يجوز أن يكون أن يُقابَلَ به خبرُ عبيد الله بن عبد الله، ولا عطاء، ولا عكرمة إذا خالفوه؛ لأن هؤلاء حفاظ أصحاب ابن عباس، مع أن رواية ابن وعلة ليست بخلاف لرواية هؤلاء، قد يجوز أن يكون ابن عباس قد سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا دُبِغ الإهاب، فقد طَهُر"، مختصرًا، ويكون قد سمع من ميمونة وسودة، أو إحداهما قصة الشاة، وليس في رواية ابن وعلة قصة الشاة، ولا في حديث هؤلاء اللفظ الذي في رواية ابن وعلة، فيجوز أن يكونا حديثين محفوظين، كل واحد منهما غير صاحبه.

فإن قالوا: ليس في رواية معمر، عن الزهريّ ذكر الدباغ.

قيل لهم: قد رَوَى هذا الحديث ابنُ عيينة، وعُقيلٌ، والزُّبيديّ، وهؤلاء من ثقات أصحاب الزهريّ، وقد ذَكَروا الدباغ في حديثهم، والحافظ إذا زاد في الحديث شيئًا، فزيادته مقبولة.

فإن قال قائل: كيف يجوز أن يكون الدباغ في حديث الزهريّ يُرَخِّص

(1)

في جلود الميتة قبل الدباغ وبعده؟.

(1)

هكذا نسخة "الأوسط"، والظاهر أنه سقط منه لفظة "وهو"؛ أي وهو يرخّص في جلود الميتة

إلخ.

ص: 390

قيل: قد اختُلِف فيه عن الزهريّ، والكراهيةُ ثبتت عندنا عنه، وأقلُّ ذلك أن تكون الروايتان متكافئتين، فلا يجوز أن يَثْبُت عليه واحدة منهما، وإذا لم يثبت عليه واحدة منهما، سقط قولُ الزهريّ، ويثبت تحريم الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ باتفاق أهل العلم؛ إذ لا نَعْلَم أحدًا أرخص في ذلك إلا ما اختُلِفَ فيه عن الزهري.

قال: ولو لم يُرْوَ عن الزهريّ هذا الحديث، لكان في رواية عمرو بن دينار، وابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن ميمونة، وحديثه عن عكرمة، عن ابن عباس، كفايةٌ ومَقْنَعٌ.

فإن قيل: فإن ثبت هذا، فحديث ابنُ عكيم ناسخ له.

قيل: إن ابن عكيم لم يَسْمَع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليست له صحبة، إنما رَوَى ذلك عن مشيخة من جهينة لم يسمهم، ولم يُدْرَ مَن هم؟ ولا يجوز دفع خبر، وقد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبر مشيخة

(1)

لا يُعرَفُون.

قال: ومع هذا فلو كان خبر ابن عكيم ثابتًا، لاحْتَمَلَ أن لا يكون مخالفًا للأخبار التي ذكرناها؛ لأن تلك الأخبار فيها إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالانتفاع بجلد الشاة الميتة بعد الدباغ، وإذا أمكن لنا أن تكون الأخبار مختلفةً، وأمكن استعمالها، فاستعمالها أولى بنا من أن نَجعلها متضادّة، فيُستَعمَل خبرُ ابن عُكيم في النهي عن استعمال جلود الميتة قبل الدباغ، ويُستَعمَل خبر ابن عباس وغيره في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ.

وقد يجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم جَعَل دباغ الميتة طهورها قبل موته بأقل من شهر، ولا يكون خبر ابن عكيم لو ثبت ناسخًا له، على أن خبر ابن عُكيم غير ثابت؛ لأنه لم يُخبِر مَن حامل الكتاب إليهم؟ ولا مَن قرأ الكتاب عليهم؟، والحديث من مشيخة لا يُعْرَفون. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله.

وقال في "الفتح" ما حاصله: استَدّلّ الزهريّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "هلا استمتعتم بإهابها" على جواز الانتفاع بجلود الميتة مطلقًا، سواء دُبغت أم لا، لكن صحّ التقييد من طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور، واستثنى الشافعي من

(1)

كان في النسخة "غير مشيخة"، والظاهر أنه تصحيف، فتأمله.

ص: 391

الميتات الكلب والخنزير، وما تولّد منهما لنجاسة عينها عنده، ولم يَستثن أبو يوسف وداود شيئًا؛ أخذًا بعموم الخبر، وهي رواية عن مالك.

وقد أخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "إذا دُبِغ الإهاب فقد طهر"، ولفظ الشافعيّ، والترمذيّ، وغيرهما من هذا الوجه:"أيما إهاب دبغ فقد طهر"، وأخرج مسلم إسنادها ولم يسق لفظها، فأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه باللفظ المذكور، وفي لفظ مسلم من هذا الوجه، عن ابن عباس: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟، فقال:"دباغه طهوره"، وفي رواية للبزار من وجه آخر قال:"دباغ الأديم طهوره".

وجزم الرافعي وبعض أهل الأصول أن هذا اللفظ ورد في شاة ميمونة، ولكن لم أقف على ذلك صريحًا، مع قوة الاحتمال فيه؛ لكون الجميع من رواية ابن عباس.

وقد تَمَسَّك بعضهم بخصوص هذا السبب، فقَصَر الجواز على المأكول؛ لورود الخبر في الشاة، ويَتَقَوَّى ذلك من حيث النظر بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذُكِّي لم يطهر بالذكاة عند الأكثر، فكذلك الدباغ.

وأجاب مَن عَمَّم بالتمسك بعموم اللفظ، فهو أولى من خصوص السبب، وبعموم الإذن بالمنفعة، ولأن الحيوان طاهر يُنتَفَع به قبل الموت، فكان الدباغ بعد الموت قائمًا له مقام الحياة، والله أعلم.

وذهب قوم إلى أنه لا يُنتَفَع من الميتة بشيء، سواءٌ دُبغ الجلد أم لم يُدبَغ، وتَمَسَّكوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"، أخرجه الشافعيّ، وأحمد، والأربعة، وصححه ابن حبان، وحسّنه الترمذيّ، وفي رواية للشافعيّ وأحمد وأبي داود:"قبل موته بشهر"، قال الترمذيّ: كان أحمد يذهب إليه، ويقول: هذا آخر الأمر، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده، وكذا قال الخلال نحوه.

ورَدَّ ابن حبان على من ادَّعى فيه الاضطراب، وقال: سمع ابن عُكيم الكتاب يُقرأ، وسمعه من مشايخ من جهينة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا اضطراب.

وأعلّه بعضهم بالانقطاع، وهو مردود، وبعضهم بكونه كتابًا، وليس بعلّة

ص: 392

قادحة، وبعضهم بأن ابن أبي ليلى، راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه؛ لما وقع عند أبي داود عنه، أنه انطلق، وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، قال: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إليّ فأخبروني. فهذا يقتضي أن في السند مَن لم يُسَمَّ، ولكن صَحَّ تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم، فلا أثر لهذه العلة أيضًا.

وأقوى ما تَمَسَّك به من لم يأخذ بظاهره، معارضة الأحاديث الصحيحة له، وإنها عن سماع، وهذا عن كتاب، وإنها أصح مخارج.

وأقوى من ذلك الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب على الجلد قبل الدباغ، وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهابًا، إنما يسمى قِرْبة، وغير ذلك، وقد نُقِلَ ذلك عن أئمة اللغة، كالنضر بن شُمَيل، وهذه طريقة ابن شاهين، وابن عبد البرّ، والبيهقيّ.

وأبعد مَن جَمَع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير؛ لكونهما لا يُدْبَغان، وكذا مَن حَمَل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره.

وحَكَى الماورديّ عن بعضهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا مات، كان لعبد الله بن عُكيم سَنة، وهو كلام باطلٌ، فإنه كان رجلًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر المذاهب وأدلّتها أن أقوى المذاهب قول من قال: يجوز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدبغ مطلقًا، سواء كان مأكول اللحم، أو غير مأكوله، ولو خنزيرًا أو كلبًا، وأن الدباغ يُطهِّر ظاهره وباطنه، فهذا هو الحقّ؛ لأن الأحاديث الكثيرة الواردة في طهارة الإهاب إذا دُبغ عامّة لم تفرّق بين مأكول اللحم، وغير مأكوله، وبين الخنزير والكلب وغيرهما.

وأما حديث عبد الله بن عُكيم، فلا يقاوم هذه الأحاديث الصحاح، بل هو ضعيف

(2)

؛ للاضطراب، كما تقدّم عن الإمام أحمد رحمه الله، ولجهالة مشايخ

(1)

9/ 575 - 576 "كتاب الذبائح والصيد" رقم الحديث (5531).

(2)

ضعفه كثير من الأئمة: ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والخطابيّ، والبيهقيّ، وابن عبد البرّ، والنوويّ. راجع:"المعرفة" للبيهقيّ 1/ 176، و"التمهيد" لابن =

ص: 393

ابن عكيم؛ وأما محاولة الشيخ الألبانيّ رحمه الله في تصحيحه بأن مشايخه من الصحابة

(1)

، ففيه نظر لا يخفى، فمن أين ثبت له التصريح بكونهم من الصحابة؟ هيهات.

والحاصل أن الراجح ضعفه، وعلى تقدير صحّته، فيُوفّق بينه وبينها بحمله على غير المدبوغ، كما قال كثير من أهل اللغة: إن الإهاب لا يطلق إلا على غير المدبوغ.

ثم رأيت الحافظ أبا بكر الحازميّ رحمه الله قد أجاد الكلام في حديث عبد الله بن عُكيم هذا، في كتابه "الاعتبار"، حيث قال:

حديث ابن عُكيم هذا حسنٌ على شرط أبي داود والنسائيّ، أخرجاه في كتابيهما من عدّة طرُق، وقد روي عن الحكم من غير وجه، وفيها اختلاف ألفاظ. قال: ومن ذهب إلى هذا الحديث قال: المصير إلى هذا الحديث أولى؛ لأن فيه دلالة النسخ، ألا ترى حديث سلمة بن المحبّق يدلّ على أن الرخصة كانت يوم تبوك، وهذا قبل موته بشهر، فهو بعد الأول بمدّة؟ ولأن في حديث سودة:"حتى تخرّقت"، وفي رواية أخرى: كنّا ننبذ فيه حتى صار شنًّا.

ثم قال الحازميّ: ولو اشتهر حديث ابن عكيم بلا مقال فيه، كحديث ابن عباس في الرخصة لكان حديثًا أولى أن يؤخذ به، ولكن في إسناده اختلافٌ، رواه الحكم مرّة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عُكيم، ورواه القاسم بن مُخيمرة، عن خالد، عن الحكم، وقال: إنه لم يسمعه من ابن عُكيم، ولكن من أناس دخلوا عليه ثم خرجوا، فأخبروه به.

قال: ولولا هذه العلل، لكان أولى الحديثين أن يؤخذ به حديث ابن عُكيم؛ لأنه إنما يؤخذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر، والأحدث فالأحدث، على أن جماعة أخذوا به، وذهب إليه من الصحابة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله.

ثم روى الحازميّ بإسناده عن أبي الشيخ الحافظ أنه قال: حُكي أن

= عبد البرّ 4/ 164، و"العلل" لابن أبي حاتم رقم (77)، و"المجموع" للنووي 1/ 219.

(1)

راجع: "إرواء الغليل" 1/ 76 - 79.

ص: 394

إسحاق ابن راهويه ناظر الشافعيّ، وأحمدُ بن حنبل حاضرٌ في جلود الميتة إذا دُبغت، فقال الشافعيّ: دباغها طَهورها، فقال له إسحاق: ما الدليل؟ فقال: حديث الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن ميمونة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"هلّا انتفعتم بإهابها"، فقال له إسحاق: حديث ابن عُكيم: كَتَب إلينا النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب"، فهذا يُشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة، لأنه قبل موته بشهر، فقال الشافعيّ: فهذا كتاب، وذاك سماع، فقال إسحاق: فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَتَب إلى كسرى وقيصر، فكانت حجةً بينهم عند الله، فسكت الشافعيّ، فلما سمع ذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عُكيم، وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعيّ.

قال الحازميّ: وقد حَكَى الخلّال في "كتابه" عن أحمد أنه توقّف في حديث ابن عُكيم لَمّا رأى تزلزل الرواة فيه، وقال بعضهم: رجع عنه.

قال الحازميّ: وطريق الإنصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عُكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صَحّ، ولكنه كثير الاضطراب، ثم لا يقاوم حديث ميمونة في الصحّة، وقال النسائيّ: أصحّ ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت حديث الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عبّاس، عن ميمونة رضي الله عنهما.

قال الحازميّ: وروينا عن الدُّوريّ أنه قال ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين: "لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عَصَب"، أو "دباغها طهورها"؟. فقال:"دباغها طهورها" أعجب إليّ.

قال الحازميّ: فإذا تعذّر ذلك، فالمصير إلى حديث ابن عبّاس أولى؛ لوجوه من الترجيحات، ويُحمَلُ حديث ابن عُكيم على الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يُسمّى إهابًا، وبعد الدباغ يُسمّى جلدًا، ولا يُسمّى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة؛ ليكون جمعًا بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضادّ عن الأخبار. انتهى كلام الحافظ أبي بكر الحازميّ رحمه الله

(1)

ببعض اختصار.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ الحازميّ رحمه الله وأفاد، فتلخّص

(1)

"كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار" ص 56 - 59.

ص: 395

من كلامه أن حديث عبد الله بن عُكيم مضطربٌ، لا يقاوم حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في الترخيص بالانتفاع بعد الدبغ، وعلى تقدير صحّته، فيُجمع بحمله على ما قبل الدبغ؛ فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الانتفاع بشعور الميتة، وأصوافها، وأوبارها:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَفُوا في ذلك، فأباحت طائفة الانتفاع بذلك كله، وممن أباح ذلك الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وبه قال حماد بن أبي سليمان إذا غُسِل، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يَرَون أن غسل صوف الميتة طهوره، وبه قال مالك بن أنس، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: يُغْسَل، وقال الأوزاعيّ: الريش والعَصَب والصوف ذَكِيّ كله.

وكَرِه بعضهم ذلك، قال ابن جريج: سألت عطاء عن صوف الميتة؟ فكرهه، وقال: إني لم أسمع أنه يُرَخَّص إلا في إهابها إذا دُبِغ.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الشاة أو البعير أو البقرة إذا قُطِع من أيّ ذلك عضو، وهو حيّ أن المقطوع منه نجس، وأجمعوا على أن الانتفاع بأشعارها وأوبارها وأصوافها جائز، إذا أُخِذ منها ذلك، وهي أحياء، ففيما أجمعوا عليه على الفرق بين الأعضاء والشعر والصوف والوبر بيان على افتراق أحوالها، ودَلَّ ذلك أن الذي يَحتاج إلى الذكاة هو الذي إذا فات أن يُذَكَّى حرُم، وأن ما لا يَحتاج إلى الذكاة ولا حياة فيه طاهر، أُخِذ منها ذلك وهي أحياء أو بعد موتها؛ إذ لا حياة فيها؛ لأنها لو كانت فيها حياة كانت كالأعضاء التي تَحتاج إلى الذكاة، فلا بأس بشعر الميتة وصوفها ووبرها، وهذا قول أكثر أهل العلم، والله أعلم.

فأما عطاء فإنما كَرِهه، وقد يَكْرَه الشيءَ، فإذا وُقِّف على التحريم لم يُحَرّمه، ولا يؤخذ من عطاء أنه حَرَّمه، ولو وُجد ذلك منه لكان خلافًا لقول مَن قد ذكرنا ذلك عنه من التابعين ومن بعدهم.

ص: 396

وقد رَوَينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما قُطِع من البهيمة، وهي حية، فهو ميت".

ثم أخرج بسنده عن أبي واقد الليثيّ، قال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يَجُبّون أسنمة الإبل، ويقطعون ألية الغنم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما قُطِع من البهيمة وهي حية، فهو ميت"

(1)

.

قال: وقد أجمعوا على أنه لم يُرِد بذلك الشعر، ولا الصوف، ولا الوبر.

وقال بعض من يُوافق مذهبنا: يقال لمن يخالف ما قلنا: جاء الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما قُطِع من البهيمة، وهي حية فهو ميت"، واتفق أهل العلم على القول به، فلم أبحتَ الانتفاع بشعر ما يؤكل لحمه إذا جُزّ، وهو حيّ؟ فإن قال: لأن الشعر لا يموت، ولا يحتاج إلى الذكاة؛ لأنه لا حياة فيه، قيل: وكذلك هو بعد موت الشاة، وإنما حَرُم بموت الشاة ما يموت بموتها، وما كان لا يَحِلّ إلا بالذكاة، وموافقتك إيانا على ما ذكرناه في حياة الشاة توجب عليك القول بمثل ذلك بعد موتها؛ لأن القياس منهما واحد. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قول الجمهور بجواز الانتفاع بشعر الميتة، وصوفها، ووبرها هو الحقّ؛ لأن هذه الأشياء مما لا تحلّها الحياة، فهي مخالفة لأعضاء الميتة الأخرى، بدليل أنه لو قُطع عضو من البهيمة، وهي حيّة كان حرامًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما قُطع من البهيمة وهي حيّة فهو ميتة"، وقد وقع الإجماع على أنه لو جُزّ شعرها، أو صوفها، أو وبرها وهي حيّة، جاز الانتفاع به، فبان الفرق بذلك، واتّضح؛ فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في عظام الميتة والعاج

(3)

:

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد (20897 و 20898)، وأبو داود (2858)، والترمذيّ (1400) بإسناد صحيح.

(2)

"الأوسط" 2/ 272 - 274.

(3)

"العاج": أنياب الفيل. اهـ. "المصباح" 2/ 436.

ص: 397

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَفُوا في الانتفاع بعظام الميتة، وأنياب الفِيَلَة، فكرهت طائفة ذلك، قال عطاء: زعموا أنه لا يصاب عظامها إلا وهي ميتة، قال: فلا يُستمتع بها، قيل: وعظام الميتة كذلك؟ قال: نعم.

وكَرِه طاوس، والحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز العاج، وقال مالك في أمشاط العاج: ما كان ذَكِيًّا فلا بأس به، وما كان منها ميتًا فلا خير فيه، وكَرِه ذلك معمر، وقال الشافعيّ: لا تباع عظام الميتة.

ورَخَّصَت طائفة في العاج، هذا قول عروة بن الزبير، وقال هشام: كان لأبي مشط، ومدهن من عظام الفيل، وكان ابن سيرين: لا يرى في التجارة به بأسًا.

وقد رَوَينا عن الحسن البصريّ قولًا ثانيًا، وهو أن لا بأس بأنياب الفيلة، وكان النعمان يقول: لا بأس ببيع العاج، وما أشبهه من العظام والقرون، وإن كان من ميتة، وكذلك الريش والوَبَر والشعر.

وكان سفيان الثوري يقول: لا أرى بالقرن والظِّلْف بأسًا، ليس بمنزلة العظم، وقال أصحاب الرأي: لا بأس بعظم الميت إذا غُسِل.

وكان الليث بن سعد يقول: لا بأس بعظام الميتة أن يُنتفع بها الأمشاط والمداهن، وغير ذلك، إذا أُغليت على النار بالماء، حتى يذهب ما فيها من الدَّسَم، وهو الذي سمعته من العلماء.

قال ابن المنذر رحمه الله: حَرَّم الله الميتة والدم ولحم الخنزير، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّم الميتة، وأجمع أهل العلم في حمل أقاويلهم على تحريم الميتة، واختلفوا في عظام الميتة على سبيل ما ذكرناه عنهم، فالميتة مُحَرَّمة على ظاهر كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واتفاق الأمة، ومن الدليل الْبَيِّن على أن العظم يَحْيَى بحياة الحيوان، ويموت بموته قوله تعالى:{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} الآية [يس: 78 - 79]، فأعلمنا أنه يُحيي العظام، ودَلَّ ذلك على أن في العظم حياةً، وليس الشعر والصوف كذلك؛ لأنه لا حياة فيهما، ودل إجماع أهل العلم على طهارة الصوف إذا جُزَّ من الشاة، وهي حية، وأن عضوًا لو قطع منها، وهي حية أن ذلك نجس، فلما أجمعوا على الفرق بينهما بأن أحدهما يَحيَى بحياة

ص: 398

ذي الروح، ويموت بموته، وأن الآخر لا حياة فيه، فيموت كموت ذي الروح، وأما الجلد المدبوغ، فيُستَثْنَى من جملة الميتة بالخبر الثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك كان حكمه حكم الميتة، ولو وجدنا في العظم سنةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب استثناءه كما توجب استثناء الجلد المدبوغ، لأخرجناه من جملة الميت، كما أخرجنا الجلد المدبوغ.

وقد ذكر ربيعة بن كلثوم أن ضِرْسًا للحسن سقط قال: فقال لي الحسن: يا ربيعة أشعرت أنه مات بعضي اليوم؟. فأما إباحة الكوفيّ في الانتفاع بشعر الخنزير، ومنعه الانتفاع بشعور بني آدم وبيعها، فمن أعجب ما حُكِي وأقبحه؛ إذ هو خارج عن باب النظر والمعقول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله، تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن عظام الميتة لا يجوز الانتفاع بها، وليست مثل ما قدّمنا من الشعر والصوف والوبر؛ لأنها تحلّها الحياة، بدليل الآية السابقة، فنص تحريم الميتة يشملها، بخلاف الشعر ونحوه؛ لأنها لا تحلّها الحياة، بدليل جواز الانتفاع بها لو جُزّت من الحيوان الحيّ، فافهم الفرق بإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[813]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ شًاةً مَيْتَةً، أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ

(2)

مِنَ الصَّدَقَة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ "، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ:"إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"

(3)

.

(1)

"الأوسط" 2/ 281 - 283.

(2)

وفي نسخة: "مولاة ميمونة" بالإضافة.

(3)

وفي نسخة: "فقالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها".

ص: 399

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

والباقون إلى يونس تقدّموا قبل بابين، ومن بعدهم تقدّموا في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[814]

(

) - (حَدَّثَنَا

(1)

حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، بِنَحْوِ رِوَايَةِ يُونُسَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الْخَلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) هو: إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 400

5 -

(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4](ت بعد 130 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

و"ابن شهاب" تقدّم.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد ابن شهاب المتقدّم، وهو: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وقوله: (بِنَحْوِ رِوَايَةِ يُونُسَ) يعني أن رواية صالح بمعنى رواية يونس بن يزيد السابقة.

[تنبيه]: رواية صالح، عن ابن شهاب هذه أخرجها أبو عوانة

(1)

في "مسنده"(1/ 179) فقال:

(551)

حدّثنا أبو داود الْحَرّانيّ، وعبّاس الدُّوريّ، قالا: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله أخبره، أن عبد الله بن عبّاس أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بشاة ميتة، فقال:"هلّا استمتعتم بإهابها؟ "، قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال:"إنما حرم أكلها". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[815]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ، أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَة، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"ألَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا، فَدَبَغُوهُ، فَانْتَفَعُوا بِهِ؟ ").

(1)

وكذا أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 399) رقم (800)، إلا أنه سقط من النسخة ذكر ابن عبّاس، وهو غلط من النساخ؛ فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 401

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ) هو: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الْمِسْور بن مَخْرَمة الزهريّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10].

رَوَى عن ابن عيينة، وعبد الوهاب الثقفيّ، وأبي سعد مولى بني هاشم، وأبي عامر الْعَقَديّ، ومعاذ بن معاذ بن هشام، ومالك بن سُعَير بن الخمس، وغيرهم.

ورَوَى عنه الجماعة سوى البخاريّ، وابنُ خزيمة، وأبو حاتم، ومحمد بن هارون الرُّويانيّ، والبُوشَنْجيّ، وأبو الأذان عمر بن إبراهيم الحافظ، ومحمد بن يحيى بن مندهْ، وأبو عَرُوبة، وابن أبي داود، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال الدارقطنيّ: من الثقات، قليل الخطأ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال اللالكائيّ: مات سنة ست وخمسين ومائتين.

أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط

(1)

، هذا الحديث برقم (363)، وحديث (1801): "من لكعب بن الأشرف؟، فإنه قد آذى الله ورسوله

".

2 -

(عَمْرو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

3 -

(عَطَاء) بن أبي رباح واسمه أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقون تقدّموا أول الباب، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

(1)

وذكر في "تهذيب التهذيب"(6/ 11)، ما نصّه: وفي "الزهرة": روى عنه مسلم (14) حديثًا. انتهى. والذي سُجّل له في برنامج الحديث (صخر) هو الذي ذكرته في الشرح، وما أظنّ هذا الذي ذكره في "التهذيب" صحيحًا، وسيتبيّن عند نهاية الشرح - إن شاء الله تعالى - ما هو الصحيح من ذلك، أسأل الله تعالى أن يوفّقني لإتمامه، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.

ص: 402

وقوله: (أَلَّا أَخَذُوا) بتشديد اللام كـ"هلّا" وزنًا ومعنًى، ويجوز في "ألا" التخفيف أيضًا، كما سبق قريبًا، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[816]

(364) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ مُنْذُ حِينٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِيَ

(1)

ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ مَيْمُونَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ دَاجِنَةً كَانَتْ لِبَعْضِ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَاتَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ الملقَّب أبا الْجَوزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضّحّاك بن مَخْلَد النبيل الشيبانيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يرسل ويدلّس [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (أَنَّ دَاجِنَةً) قال النوويّ رحمه الله: هي: - بالدال المهملة والجيم والنون - قال أهل اللغة: داجن البيت ما أَلِفَها من الطير والشاء، وغيرهما، وقد دَجَنَ في بيته: إذا لزمه، والمراد بالداجنة هنا الشاة. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: دَجَنَ بالمكان دَجْنًا، من باب قَتَل، ودُجُونًا: أقام به، وأدجن بالألف مثلُهُ، ومنه قيل لِمَا يَأْلَف البيوتَ من الشاء والحمام، ونحوهما: دَواجن، وقد قيل: داجنة بالهاء، وسَحَابةٌ داجنةٌ: أي مُمطِرة، والدَّجْنُ وزانُ فَلْسٍ: المطر الكثير. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "منذ حينٍ، أخبرني ابن عبّاس" بحذف "قال".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 190.

ص: 403

وقوله: (كَانَتْ لِبَعْضِ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهر هذه الرواية أن تلك الشاة كانت لبعض أزواجه صلى الله عليه وسلم، والروايات الأخرى صريحة في كونها لمولاة ميمونة رضي الله عنها فيَحْتَمِل أن تكون القصة واحدة، ويكون قوله:"لبعض نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم " مجازًا، وهذا يؤيّده كونه من رواية ابن عبّاس، عن ميمونة رضي الله عنهم.

ويَحْتَمِلُ أن تكون لبعض نسائه حقيقةً، كما هو الظاهر، فيمكن أن تكون شاة سودة رضي الله عنها، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عباس، عن سودة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: ماتت لنا شاةٌ فدَبَغنا مَسْكها، ثم ما زلنا نَنْبذ فيه حتى صار شَنًّا.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الأول، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[817]

(365) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ لِمَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ

(2)

، فَقَالَ:"أَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، وقيل: الطائيّ، أبو عليّ المروزيّ الأشلّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [8].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وهشام بن حسان، ويزيد بن أبي زياد، وأبي حيّان التيميّ، وزكرياء بن أبي زائدة، وعبد الله بن عثمان بن خُثيم، وغيرهم.

وروى عنه إبراهيم بن موسى الرازيّ، وإسماعيل بن الخليل، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهناد بن السريّ، وأبو كريب، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "وحدثنا".

(2)

وفي نسخة: "لمولاة ميمونة" بالإضافة.

ص: 404

قال سهل بن عثمان: نَظَر وكيع في حديثه، فقال: ما أصحّ حديثه، كان عبد الرحيم، وحفص بن غياث يطلبان الحديث معًا، وقال ابن معين، وأبو داود: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، كان عنده مصنفات، قد صَنَّفَ الكتب، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن المدينيّ: لا بأس به، وقال العجليّ: ثقةٌ، متعبِّدٌ كثير الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقةٌ صدوقٌ، ليس بحجة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال محمد بن الحجاج الضبيّ: مات عبد السلام بن حرب سنة سبع وثمانين ومائة، ومات عبد الرحيم بن سليمان أظن آخر السنة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

2 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوقٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقون تقدّموا قبله في الباب، وكذا شرح الحديث، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[818]

(366) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ وَعْلَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دُبغَ الْإِهَابُ، فَقَدْ طَهُرَ").

رجال هذا الحديث: خمسة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

2 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقة فقيه، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَعْلَةَ) - بفتح الواو، وسكون العين المهملة - ويقال: ابن السُّمَيْفِع بن وَعْلة السَّبئيّ

(1)

المصريّ، صدوقٌ [4].

(1)

بفتح السين المهملة، وبعدها الباء الموحّدة، ثم الهمزة، ثم ياء النسب، انتهى. "شرح النوويّ" 4/ 55.

ص: 405

رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وعنه زيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبو الخير الْيَزَنيّ، وجعفر بن ربيعة، والقعقاع بن حكيم، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: عبد الرحمن بن أُسميفع بن وَعْلة السَّبَئيّ، كان شريفًا بمصر في أيامه، وله وِفَادة على معاوية، وصار إلى إفريقية، وبها مسجده ومواليه، وقال في حرف الألف: أُسميفع بن وَعْلة بن يَعْفُر بن سَلامة بن شُرَحبيل بن علقمة السَّبئيّ، آخر ملوك سبأ، عليه قام الإسلام، هاجر في خلافة عمر، وشَهِد الفتح بمصر، وترك عِدّة من الولد، منهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وذكر غَيرَهم، وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات التابعين، من أهل مصر، وذكره أحمد، فضعَّفه في حديث الدباغ.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (366)، كرّره ثلاث مرّات، وحديث (1579): "إن الذي حرّم شُربها، حرّم بيعها

".

والباقيان تقدّما في الباب.

وقوله: (إِذَا دُبغَ الْإِهَابُ) ببناء الفعل للمفعول، و"الإهاب" بكسر الهمزة: الجلد قبل أن يُدبغ، أو الجلد مطلقًا، كما تقدّم تمام البحث فيه.

وقوله: (فَقَدْ طَهُرَ) بضم الهاء، وفتحها لغتان، والفتح أفصح، أي ظاهره وباطنه، فيجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة

(1)

.

وتمام شرح الحديث سيأتي في الحديث الثالث، وأخّرته إليه؛ لكونه أتمّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[819]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيز، يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ،

(1)

"المرعاة شرح المشكاة" 2/ 198.

ص: 406

كُلُّهُمْ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، يَعْني حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدّرَاوَرْديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدث من كتُب غيره فيُخطئ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الستة بلا واسطة، ثقةٌ ثبت [10](ت 247) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ المعروف بابن راهويه، المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

5 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(سُفْيَان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة فقيه، من كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله:، (بِمِثْلِهِ) يعني أن حديث شيوخه الخمسة: أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وقتيبة، وأبي كريب، وإسحاق مثل حديث شيخه الماضي، وهو يحيى بن يحيى.

وقوله: (يَعْنِي حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول "يعني" بالياء المثنّاة من تحتُ، ولعله من كلام الراوي عن مسلم، ولو رُوي بالنون في أوله على أنه من كلام مسلم لكان حسنًا، ولكن لم يُرْوَ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النووي" 4/ 55.

ص: 407

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[820]

(

) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيع، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ فَرْوًا، فَمَسِسْتُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟ قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِب، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ، وَالْمَجُوسُ، نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَا

(1)

بِالسِّقَاء، يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَألنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"دِبَاغُهُ طَهُورُهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ) بن طارق بن قُرّة بن نَهِيك بن مُجاهد الهلاليّ، أبو حفص الكوفيّ، نزيل مصر، ثقةٌ، من كبار [10].

رَوَى عن مالك، والليث، ويحيى بن أيوب، وابن لَهِيعة، ومَسْلَمة بن علي الْخُشَنيّ، ورِشْدين بن سعد، والسَّرِيّ بن يحيى، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وروى مسلم، وأبو داود له بواسطة يحيى بن معين، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، وأبي بكر الصاغانيّ، وأبي حاتم الرازيّ، وعنه أيضًا ولده طاهر، وإبراهيم الْجُوزَجانيّ، وإبراهيم بن ديزيل، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن هانئ، وأحمد بن عبد الله العجليّ، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "ويأتوننا".

ص: 408

قال العجليّ: كوفى ثقةٌ، كتبنا عنه بمصر، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن يونس: مات في ربيع الأول سنة تسع عشرة ومائتين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده، وكذا له عند البخاريّ حديث واحد فقط، برقم (5137) حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، إن البكر تستحي، قال:"رضاها صَمْتها".

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ - بمعجمة، وفاء، وقاف - أبو العبّاس المصريّ، صدوق ربّما أخطأ [7].

رَوَى عن حميد الطويل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعبد الله بن دينار، وربيعة بن جعفر بن ربيعة، وسهل بن معاذ، وغيرهم.

ورَوَى عنه شيخه ابن جريج، والليث، وهو من أقرانه، وجرير بن حازم، وابن وهب، وابن المبارك، وأشهب، وزيد بن الحباب، والمقبري، وعمرو بن الربيع، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سيئ الحفظ، وهو دون حَيْوَة، وسعيد بن أبي أيوب، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح، وقال مرة: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي: يحيى بن أيوب أحب إليك، أو ابن أبي الموال؟ فقال: يحيى بن أيوب أحب إليّ، ومحل يحيى الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الآجري: قلت لأبي داود: ابن أيوب ثقة؟ فقال: هو صالح. وقال النسائي: ليس به بأس، وقال مرة: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: كان أحد طلاب العلم بالآفاق، وحَدّث عنه الغرباء أحاديث ليست عند أهل مصر، قال: أحاديثُ جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب ليس عند المصريين منها حديث، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة، تُوُفّي سنة ثمان وستين ومائة. وقال ابن سعد: منكر الحديث. وقال الدارقطني: في بعض حديثه اضطراب، ومن مناكيره عن ابن جريج، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه مرفوعًا: "وإن كان مائعًا فانتفعوا

ص: 409

به". وقال الترمذي عن البخاري: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: كان ثقةً حافظًا. وقال الإسماعيلي: لا يحتج به. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له أشياء يخالف فيها. وقال إبراهيم الحربي: ثقة. وقال الساجيّ: صدوق يَهِم، كان أحمد يقول: يحيى بن أيوب يخطئ خطأً كثيرًا. وقال الحاكم أبو أحمد: إذا حدّث من حفظه يخطئ، وما حدث من كتاب فليس به بأس. وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وحَكَى عن أحمد أنه أنكر حديثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة في القراءة في الوتر. وكذا نقل ابن عدي، ثم قال: ولا أرى في حديثه إذا رَوَى عن ثقة حديثًا منكرًا، وهو عندي صدوق، لا بأس به.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (366) وأعاده بعده، و (483) و (872) و (1134) و (1442) و (2296).

5 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسم أبيه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يُرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

6 -

(أَبُو الْخَيْرِ) مَرْثَد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

والباقيان تقدّما قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) اسمه سُويد (أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ) مَرْثد بن عبد الله (حَدَّثَهُ) وقوله: (قَالَ) تفسير وَتوضيح لمعنى "حدّثه"(رَأَيْتُ عَلَى) عبد الرحمن (ابْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ) بفتح السين المهملة، والموحّدة، بعده همزة: نسبة إلى سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان

(1)

. (فَرْوًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "فَرْوًا"، وهو الصحيح المشهور في اللغة، وجمع الفَرْو فِرَاءٌ، ككَعْب وكِعَاب، وفيه لغة قليلة أنه يقال:"فَرْوَةٌ" بالهاء، كما يقولها العامّة، حكاها ابن فارس في "الْمُجمل"، والزُّبَيديّ في "مختصر العين". انتهى

(2)

.

(1)

"اللباب" 2/ 98، و"الأنساب" 3/ 209 - 210.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 56.

ص: 410

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "المشهور في اللغة" هكذا قال النوويّ، لكن الذي تقتضيه كتب اللغة التي بين يديّ أنهما مشهوران، بل لم يذكره في "القاموس" إلا بالهاء، وعبارته:"الْفَرْوةُ": لُبسٌ معروف. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": "الْفَرْوة": التي تُلْبَس، قيل: بإثبات الهاء، وقيل: بحذفها، والجمع الْفِرَاءُ، مثلُ: سَهْمٍ وسِهَام. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": "الْفَرْوُ"، و"الْفَرْوَةُ": معروفٌ الذي يُلبَس، والجمع فِرَاءٌ، وقال أبو منصور: والْفَرْوةُ إذا لم يكن عليها وَبَرٌ، أو صُوفٌ لم تُسَمَّ فَرْوةً. انتهى باختصار

(3)

.

وذكر المرتضى رحمه الله في "التاج" أن الفَرْو أنواع، قال: وهي جلود حيوانات، تُدْبَغُ، فتُخَيّط، ويلبس بها الثياب، فيلبسونها اتّقاء البرد. انتهى

(4)

.

(فَمَسِسْتُهُ) بكسر السين الأولى، على اللغة المشهورة، وفي لغة قليلة بفتحها، فعلى الأول المضارع يَمَسّه، بفتح الميم، وعلى الثانية بضمّها، قاله النوويّ

(5)

.

وفي "المصباح": مَسِسْتُهُ، من باب تَعِبَ، وفي لغة مَسَسْتُهُ مَسًّا، من باب قتل: أفضيتُ إليه بيدي من غير حائل، هكذا قيّدوه، والاسم: المسيس، مثلُ كَريم. انتهى

(6)

.

(فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟)"ما" تعجّبيّة، أي أَيُّ شيء ثبت لك في مسّه؟ (قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وقوله:(قُلْتُ) تفسير لـ"سألتُ"، وبيان لكيفيّته (إِنَّا) بكسر الهمزة؛ لوقوعها محكيّة بالقول، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

أَوْ حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ أَوْ حَلَّتْ مَحَلْ

حَالٍ كَـ"زُرْتُهُ وَإِنِّي ذُو أَمَلْ"

(نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ) وفي رواية النسائيّ: "إنا نغزو هذا المغرب، وإنهم أهل وَثَنٍ

"، والمراد بالمغرب القُطْر المعروف (وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ) بباءين موحّدتين،

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 373.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 471.

(3)

"لسان العرب" 15/ 151.

(4)

"تاج العروس" 10/ 278.

(5)

"شرح النوويّ" 4/ 56.

(6)

"المصباح المنير" 2/ 572.

ص: 411

وراءين، وزانُ جَعْفر: قوم من أهل المغرب، كالأعراب في الْقَسْوَة والْغِلْظة، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: وبَرْبَرٌ: جِيلٌ، جمعه: الْبَرَابِرة، وهم بالمغرب، وأُمّة أخرى بين الْحُبُوش والزَّنْجِ يقطعون مذاكير الرجال، ويَجعلونها مهور نسائهم، وكلُّهم من وَلَد قَيْسِ عَيْلان، أو هم بطنان من حِمْيَر، صِنْهاجةُ، وكُتَامَةُ، صاروا إلى الْبَرْبَر أيّام فتح أَفْرِيقَش الملك أَفْرِيقِيَةَ. انتهى

(2)

.

(وَالْمَجُوسُ) بفتح الميم، وتخفيف الجيم: أمّة من الناس، قال الفيّوميّ رحمه الله: هي كلمة فارسيّةٌ، وتمجّس: صار من المجوس، كما يقال: تَنَصَّرَ، وتَهَوَّدَ: إذا صار من النصارى، أو من اليهود، ومجّسه أبواه: جعلاه مجوسيًّا. انتهى

(3)

.

وقال ابن سِيدهْ: المجوس: جِيل معروف، جمعٌ، واحدهم مجوسيّ، وقال غيره: وهو معرَّبٌ، أصله مِنْجِ كُوشْ، وكان رجلًا صغير الأُذنين، كان أول من دان بدين المجوس، ودعا الناس إليه، فعرَّبته العرب، فقالت: مَجُوس، ونزل القرآن به، والعرب ربّما تركت صرف مجوس إذا شُبِّه بقبيلة من القبائل، وذلك أنه اجتمع فيه العُجمة والتأنيث، ومنه قوله:

كَنَارِ مَجُوسَ تَسْتَعِيرُ اسْتِعَارَا

(4)

(نُؤْتَى) بالبناء للمفعول (بِالْكَبْشِ) بفتح الكاف، وسكون الموحّدة: هو الْحَمَلُ

(5)

إذا أَثْنَى

(6)

، أو إذا خرجت رَبَاعيته، جمعه: أَكْبُشٌ؛ بفتح، فسكون، ثم ضمّ الموحّدة، وكِبَاشٌ بالكسر، وأَكْبَاشٌ بالفتح، أفاده المجد

(7)

. وقوله:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 44.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 370 - 371، وراجع:"تاج العروس" في هذا الموضع 3/ 38 - 39 ففيه بيان وإيضاح.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 564.

(4)

"لسان العرب" 6/ 214 - 215.

(5)

"الْحَمَلُ" بفتحتين: ولد الضأن في السنة الأولى، جمعه: حُمْلان، قاله في "المصباح" 1/ 152.

(6)

أي ألقى ثنيّته.

(7)

"القاموس المحيط" 2/ 285.

ص: 412

(قَدْ ذَبَحُوهُ) جملة في محلّ جرّ نعتٌ لـ"الكبش" على جعل "أل" جنسيّة، أو حالٌ منه، على حدّ قول الشاعر:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

وقد تقدّم غير مرّة (وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ) أي لأنهم ليسوا من أهل الكتاب الذين أحلّ الله ذبائحهم، بقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة: 5]، وفي رواية النسائيّ: "وإنهم أهل وَثَنٍ

".

(وَيَأْتُونَا) بحذف نون الرفع؛ تخفيفًا، وفي نسخة:"ويأتوننا" بنونين، الأولى نون الرفع، والثانية نون "نا" ضمير المتكلّم (بِالسِّقَاءِ) بكسر السين، قال ابن الأثير رحمه الله: هو: ظرف الماء من الجلد، ويُجمع على أسقية، وقد تكرّر في الحديث مفردًا وجمعًا. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: السِّقاءُ كَكِسَاءٍ: جِلْدُ السَّخْلة إذا أجذع، يكون للماء واللبن، جمعه: أَسْقِيةٌ، وأَسقياتٌ، وأَسَاقٍ. انتهى

(2)

.

(يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول ببلادنا "يجعلون" بالعين بعد الجيم، وكذا نقله القاضي عياضٌ عن أكثر الرواة، قال: ورواه بعضهم "يَجمُلُون" بالميم، ومعناه يُذيبون، يقال: بفتح الياء، وضمّها لغتان، يقال: جَمَلتُ الشحمَ، وأجملته: أذبته. انتهى

(3)

.

و"الْوَدَكَ": بفتح الواو، والدال المهملة: دَسَمُ اللحم والشَّحْم، وهو ما يتحلّب من ذلك، يقال: وَدَّكتُ الشيءَ توديكًا، وكبشٌ وَدِيكٌ، ونَعْجةٌ وَدِيكةٌ: أي سَمِينٌ وسَمِينةٌ، ووَدَكُ الميتة: ما يَسِيل منها، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) أي حكم جلد الميتة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("دِبَاغُهُ) بكسر الدال المهملة تقدّم أنه يكون للمصدر، ويكون اسمًا لما يُدبغ به، والأول هو المناسب هنا، وهو عبارة عن إزالة الرائحة الكريهة، والرطوبات النجسة باستعمال الأدوية، أو بغيرها، قال إبراهيم

(1)

"النهاية" 2/ 381.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 343.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 56.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 413

النخعيّ رحمه الله: كلُّ شيء يمنع الجلد من الفساد، فهو دباغ

(1)

.

فقوله: "دباغه" مبتدأ، خبره قوله:(طَهُورُهُ") بفتح الطاء المهملة؛ أي مُطهّرٌ له، وفي الرواية التالية:"فقال: اشرب، فقلت: أرأي تراه؟ فقال ابن عبّاس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دِباغه طَهُوره"، وفي رواية النسائيّ: "ولهم قِرَبٌ يكون فيها اللبن والماء، فقال ابن عبّاس: الدباغ طَهُور"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[26/ 818 و 819 و 820 و 821](366)، و (أبو داود) في "اللباس"(4123)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1728)، و (النسائيّ) في "الْفَرَع والْعَتِيرة"(7/ 173)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3609)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 498)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 43)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(190)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 378)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 270 و 343)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 86)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 46)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 16)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 469)، وفي "مشكل الآثار"(4/ 262)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(61)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1287 و 1288)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(303)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(560 و 561 و 562 و 563 و 564)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(804 و 805 و 806 و 807 و 808)، وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المرعاة" 2/ 198.

ص: 414

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[821]

(

) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيع، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَعْلَةَ السَّبَئِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِب، فَيَأْتِينَا الْمَجُوسُ بِالْأَسْقِيَة، فِيهَا الْمَاءُ وَالْوَدَكُ، فَقَالَ: اشْرَبْ، فَقُلْتُ: أَرَأْيٌ تَرَاهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "دِبَاغُهُ طَهُورُهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحْبيل بن حَسَنَةَ الْكِنديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (أَرَأْيٌ تَرَاهُ؟) وفي رواية النسائيّ: "قال ابن وَعْلَة: عن رأيك، أو شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، أي أتفتيني بهذا عن مجرّد اجتهادك، أم تفتيني مستندًا إلى ما سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، وفيه أن المستفتي له أن يسأل المفتي عن مأخذه؛ استرشادًا، حتى يكون على بصيرة من أمر دينه؛ لا تعنّتًا، وعلى العالم أن يُبيِّن له ذلك، إن كان جليًّا، كدليل ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا، وأما إذا كان صعبًا يقصر فهم السائل عن إدراكه، فليس عليه أن يبيّنه له؛ صونًا لنفسه عن التعب فيما لا يفيد، ويَعتذر إليه بقصور فهمه عنه، وإلى هذا كله أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع"، حيث قال:

وَجَازَ عَنْ مَأْخَذِهِ إِنْ يَسْأَلِ

مُسْتَرْشِدًا وَلْيُبْدِ إِنْ كَانَ جَلِي

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "حدّثني"، وفي أخرى:"حدّثنا".

ص: 415

(27) - (بَابُ التَّيَمُّمِ)

قال الجامع عفا الله عنه: في هذه الترجمة مسائل:

(المسألة الأولى): في معنى التيمّم لغة وشرعًا:

"التيمّم": في اللغة: هو القصدُ، قال الأزهريّ: التيمّم في كلام العرب القصد، يقال: تيمّمتُ فلانًا، ويَمّمته، وتأمّمته، وأمّمته: أي قصدته. انتهى. قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": التيمّم في اللغة: القصد، قال امرؤ القيس:

تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا

بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي

أي قصدتها.

وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنيّة استباحة الصلاة ونحوها، وقال ابن السِّكِّيت: قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43] أي اقصدوا الصعيد، ثم كثر استعمالهم حتى صار التيمّم مسح الوجه واليدين بالتراب. انتهى. فعلى هذا هو مجاز لغويّ، وعلى الأول هو حقيقة شرعيّة، واختُلف في التيمّم، هل هو عزيمة أو رخصةٌ؟ وفصّل بعضهم، فقال: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": "التيمم" مصدر تيمم تيممًا، من باب التفَعُّل، وأصله من الأَمّ، وهو القصد، يقال: أَمَّهُ يؤُمُّه أَمًّا: إذا قصده، وذكر أبو محمد في كتابه "الواعي": يقال: أَمَّ، وتَأَمَّم، ويَمَّمَ، وتَيَمَّمَ بمعنى واحد، والتيمم أصله من ذلك؛ لأنه يقصد التراب، فيتمسح به، وفي "الجامع" عن الخليل: التيمم يَجري مجرى التَّوَخِّي، تقول: تَيَمَّمْ أطيب ما عندك، فَأَطْعِمنا منه؛ أي تَوَخَّهُ، وأجاز أن يكون التيمم الْعَمْدَ والْقَصْدَ، وهذا الاسم كَثُر حتى صار اسمًا للتمسح بالتراب، قال الفراء: ولم أسمع يَمَمْتُ بالتخفيف، وفي "التهذيب" لأبي منصور: التيمم: التعمُّد، وهو ما ذكره البخاريّ في "التفسير" في "سورة

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 56.

(2)

"الفتح" 1/ 514 - 515.

ص: 416

المائدة"، ورواه ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن سفيان.

قال العينيّ: التيمم في اللغة مطلق القصد، قال الشاعر [من الوافر]:

وَلَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا

أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي

أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ

أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي

ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

تَيَمَّمْتُكُمْ لَمَّا فَقَدْتُ أُولِي النُّهَى

وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ بِالتُّرْبِ

وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة، وهو مسح الوجه واليدين؛ لاستباحة الصلاة، وامتثال الأمر. انتهى بزيادة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): التيمّم جائز بالكتاب، والسنّة، والإجماع؛ أما الكتاب، فقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].

وأما السنّة فأحاديث الباب وغيرها.

وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على جواز التيمّم في الجملة

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: التيمّم رخصة، وفضيلة اختُصّت بها هذه الأمة - زادها الله شرفًا - لم يُشاركها فيها غيرها من الأمم، كما صَرَّحت به الأحاديث الصحيحة المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أن التيمّم مختصّ بالوجه واليدين، سواء تيمّم من الحدث الأصغر، أو الأكبر، وسواء تيمّم عن كلّ الأعضاء، أو بعضها. انتهى

(3)

.

وقال الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله في كتابه "حجة الله البالغة": لَمّا كان من سنّة الله في شرائعه أن يُسهّل عليهم كلّ ما لا يستطيعونه، وكان أحقّ أنواع التيسير أن يُسقط ما فيه حرجٌ إلى بدل؛ لتطمئنّ نفوسهم، ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرّة واحدةً، ولا يَألفوا ترك الطهارات، أسقط الوضوء والغسل في المرض والسفر إلى التيمّم، ولَمّا كان ذلك كذلك نزل القضاء في الملإ الأعلى بإقامة التيمّم مقام الوضوء والغسل، وحصل له

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 3.

(2)

راجع: "المغني" 1/ 310.

(3)

"المجموع شرح المهذّب" 2/ 309.

ص: 417

وجود تشبيهيّ أنه طهارة من الطهارات، وهذا القضاء أحد الأمور العظام التي تميّزت به الملّة المصطفويّة

(1)

من سائر الملل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وجُعِلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء"

(2)

.

قال: إنما خصّ الأرض لأنها لا تكاد تُفقَد، فهي أحقّ ما يُرفَع به الحرج، ولأنها طَهُور في بعض الأشياء؛ كالخفّ، والسيف بدلًا عن الغسل بالماء، ولأن فيه تذلّلًا بمنزلة تعفير الوجه في التراب، وهو يناسب طلب العفو.

وإنما لم يفرَّق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يُشرعَ التمرّغ؛ لأن من حقّ ما لا يُعقَل معناه بادئ الرأي أن يُجعل كالمؤثّر بالخاصيّة دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنّت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرّغ فيه بعض الحرج، فلا يصلح رافعًا للحرج بالكلّيّة.

وفي معنى المرض البرد الضارّ؛ لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه

(3)

، والسفرُ ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر

(4)

إلى الذهن.

وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب؛ لأن الرجل محلّ الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلًا ليحصل التنبّه. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): قال الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه الممتع "إعلام الموقّعين": ومما يُظنّ أنه على خلاف القياس باب التيمم، قالوا: إنه على خلاف القياس من وجهين:

[أحدهما]: أن التراب مُلَوِّث لا يزيل دَرَنًا، ولا وسخًا، ولا يُطَهِّر البدن كما لا يطهر الثوب.

(1)

هكذا النسخة، والجاري على القاعدة أن يقال:"المصطفيّة"؛ فتنبّه.

(2)

أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وسيأتي في "الصلاة" برقم (522).

(3)

يعني قصّة صلاته بأصحابه في السفر بالتيمّم، وهو جنب، علّقه البخاريّ (1/ 454)، وأخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 207) وصححه الحاكم، وابن حبّان.

(4)

هكذا النسخة، ولعله "كما يتبادر

إلخ".

(5)

"حجة الله البالغة" 1/ 558 - 559.

ص: 418

[والثاني]: أنه شُرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح.

ولَعَمْرُ الله إنه خروج عن القياس الباطل المضادّ للدين، وهو على وفق القياس الصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى جَعَل من الماء كل شيء حيّ، وخلقنا من التراب، فلنا مادّتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا، وأقواتنا، وبهما تَطَهُّرنا، وتَعَبُّدنا، فالتراب أصل ما خُلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي رَكَّب الله عليهما هذا العالم، وجَعَل قِوَامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يَجُز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لَوَّثَ ظاهرًا، فإنه يُطَهِّر باطنًا، ثم يُقَوِّي طهارة الباطن، فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقيقة الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثُّر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه.

قال: وأما كونه في عضوين، ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يُفعَل عند المصائب والنوائب، والرجلان محلّ ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله، والذل له والانكسار لله ما هو أحب العبادات إليه، وأنفعها للعبد، ولذلك يُسْتَحَبّ للساجد أن يُتَرِّب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب، كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقايةً، فقال: تَرِّبْ وجهك، وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين.

وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التيمم جُعِل في العضوين المغسولين، وسَقَطَ عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خُفِّف عن المغسولين بالمسح، خُفِّف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مُسِحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت

ص: 419

به الشريعة، هو أعدل الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح.

قال: وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدِث، فلَمَّا سَقَط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث، سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى؛ إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم، ويُدْخِل أكرمَ المخلوقات على الله في شبه البهائم، إذا تمرغ في التراب، فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه، ولله الحمد. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[822]

(367) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِه، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاء، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِه، وَأقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: أَلا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِالنَّاسِ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي، قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّم، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْر، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ: مَا هِيَ بِأوَّلِ بَرَكتِكُمْ، يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْه، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ).

(1)

"إعلام الموقّعين" 1/ 372 - 374.

ص: 420

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِك) بن أنس، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الإمام المشهور، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، وُلد في حياة عائشة رضي الله عنها، وأمه قُرَيبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ثقةٌ جليلٌ فاضلٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وابن المسيِّب، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وغيرهم.

وروى عنه سماك بن حرب، والزهريّ، وعبيد الله بن عمر، وابن عجلان، وهشام بن عروة، ومنصور بن زاذان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وموسى بن عقبة، وأيوب السختيانيّ، وحميد الطويل، ومالك، وشعبة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وابن جريج، والليث، وعمرو بن الحارث المصريّ، ويزيد بن الهاد، وغيرهم.

قال مصعب الزهريّ: كان من خيار المسلمين، وكان له قدرٌ في أهل المشرق، وقال ابن عيينة: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، وقال مرةً: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، وما بالمدينة يومئذ أفضل منه، وقال مالك: لم يَخلُف أحد أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن، وقال أبو طالب، عن أحمد: ثقةٌ ثقةٌ، وقال العجليّ، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل المدينة فقهًا وعلمًا وديانةً وفضلًا وحفظًا وإتقانًا، وقال الواقديّ عن ابن أبي الزناد: - كان ثقةً ورعًا، كثير الحديث.

قال ابن سعد، وغير واحد: مات بالشام سنة (126)، وكذا قال خليفة، وقال مرة: مات سنة (31)، وكذا قال الفلاس، والهيثمُ بن عديّ، وابن قانع، والأول أصحّ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.

ص: 421

4 -

(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أحد الفقهاء السبعة، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [3]، (ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت (57) على الأصحّ (ع)، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث والقراءة، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل المدينة، وأخذ عن مالك.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، عن عمّته.

5 -

(ومنها): أن فيه القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.

6 -

(ومنها): أن فيه عائشة أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصدّيق، من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، وكانت من المشهورين بالفُتْيا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) قال في "الفتح": قال ابن عبد البر في "التمهيد": يقال: إنه كان في غَزَاة بني الْمُصْطَلِق، وجزم بذلك في "الاستذكار"، وسبقه إلى ذلك ابنُ سعد، وابنُ حبان، وغَزَاة بني المصطلق هي غزوة الْمُرَيسيع، وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة رضي الله عنها، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضًا، فإن كان ما جزموا به ثابتًا حُمِل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين؛ لاختلاف القصتين، كما هو مُبَيَّن في سياقهما.

قال: واستَبْعَد بعض شيوخنا ذلك، قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين

ص: 422

قُدَيد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر؛ لقولها في الحديث:"حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش"، وهما بين المدينة وخيبر، كما جزم به النوويّ.

قال الحافظ: وما جزم به مخالف لما جزم به ابنُ التين، فإنه قال: البيداء هي ذو الحليفة، بالقرب من المدينة من طريق مكة، قال:"وذاتُ الجيش" وراء ذي الحليفة، وقال أبو عبيد البكريّ في "معجمه": البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم ساق حديث ابن عمر، قال: "بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها، ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد

" الحديث، قال: والبيداء هو الشرف الذي قُدّام ذي الحليفة في طريق مكة، وقال أيضًا: "ذاتُ الجيش" من المدينة على بَرِيد، قال: وبينها وبين العَقِيق سبعة أميال، والعقيقُ من طريق مكة، لا من طريق خيبر، فاستقام ما قال ابن التين.

ويؤيده ما رواه الحميديّ في "مسنده" عن سفيان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، في هذا الحديث، فقال فيه: إن القلادة سقطت ليلة الأبواء. انتهى.

و"الأبواء" بين مكة والمدينة، وفي رواية عليّ بن مسهر في هذا الحديث، عن هشام، قال: وكان ذلك المكان يقال له: الصُّلْصُل، رواه جعفر الفريابيّ في "كتاب الطهارة" له، وابن عبد البرّ من طريقه.

و"الصُّلْصُل" بمهملتين مضمومتين، ولامين الأولى ساكنة بين الصادين، قال البكريّ: هو جبل عند ذي الحليفة، كذا ذكره في حرف الصاد المهملة، وَوَهِمَ مغلطاي في فهم كلامه، فزَعَم أنه ضبطه بالضاد المعجمة، وقلَّده في ذلك بعض الشراح وتصرّف فيه، فزاده وَهَمًا على وَهَم، وعُرِف من تضافر هذه الروايات تصويب ما قاله ابن التين.

واعتَمَد بعضهم في تعدد السفر على رواية للطبرانيّ صريحة في ذلك، كما سيأتي. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 515 - 516.

ص: 423

(حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ) بفتح الموحّدة والمدّ: هي الشَّرَف الذي قُدّام ذي الحليفة في طريق مكة (أَوْ) للشكّ، قال العينيّ: هو من عائشة رضي الله عنها، وقال الحافظ: الشكّ من بعض الرواة عن عائشة أو منها، وقد جاء في حديث عمّار أنها ذات الجيش بالجزم (بِذَاتِ الْجَيْشِ) بفتح الجيم، وسكون الياء التحتانيّة، آخره شين معجمة، قيل: هي من المدينة على بريد، بينها وبين العقيق سبعة أميال (انْقَطَعَ عِقْدٌ) بكسر العين المهملة، وسكون القاف: كل ما يُعْقَد، ويعَلَّق في العنق، ويُسَمَّى قِلادةً أيضًا كما سيأتي في الرواية التالية، وعند البخاريّ في "التفسير" من رواية عمرو بن الحارث:"سَقَطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونَزَل"، وهذا مُشعر بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقولها: (لِي) أي معي، فاللام للاختصاص، وإلا فهو كان لأختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، استعارته منها

(2)

.

(فَأَقامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ) أي لأجل طلب ذلك العقد الضائع (وَأقَامَ النَّاسُ) أي الصحابة الذين غزوا تلك الغزوة (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ) أي ليسوا نازلين على محلّ يوجد فيه ماء للوضوء، أو للوضوء وغيره، كالشرب.

(وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ) أي وليسوا أيضًا حاملين معهم ماء من محلّ آخر، والجملة في محلّ نصب على الحال من "الناس".

(فَأتى النَّاسُ) الذين معه صلى الله عليه وسلم (إِلَى أبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه للشكوى مما فعلت بنته، وكأنهم إنما شكوا إلى أبي بكر رضي الله عنه لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نائمًا، وكانوا لا يوقظونه (فَقَالُوا: ألَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ) أي من إقامتها برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في مكان ليس فيه ماء، وإنما أسندوا ذلك إليها؛ لأنه حصل بسببها، وقوله:(أقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِالنَّاسِ مَعَهُ) بيان لما صنعته، والباء للتعدية (وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ) قالت عائشة رضي الله عنها: (فَجَاءَ أَبُو

(1)

1/ 516.

(2)

راجع: "حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 164.

ص: 424

بَكْرٍ) رضي الله عنه، وإنما لم تقل: أبي؛ تنبيهًا على أنه لم يُراعِ حقّ الأبوّة من شدّة غضبه في الله عز وجل (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي) جملة في محلّ نصب على الحال، من فاعل "جاء"، والرابط الواو.

و"الْفَخِذ" من الأعضاء مؤنّثة، وفيها أربع لغات: فتح الفاء، وكسر الخاء المعجمة، وكسرهما، وفتح الأول وكسره، مع سكون الثاني فيهما، وكذا كلّ ثلاثيّ عينه حرف حلق تجوز فيه اللغات الأربع، سواء كان اسمًا؛ كفخذ، أم فعلًا، كشَهِدَ؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقولها: (قَدْ نَامَ) جملة في محلّ نصب أيضًا على الحال من فاعل "واضع"، فيكون من الأحوال المتداخلة، أي حال كونه نائمًا (فَقَالَ) أي أبو بكر رضي الله عنه (حَبَسْتِ) بفتح الموحّدة، من باب ضرب (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة (وَالنَّاسَ) بالنصب عطفًا على المفعول، أو على أنه مفعول معه، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ

فِي نَحْوِ سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ

(وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه، أي لامني على الحبس المذكور.

قال الفيّوميّ رحمه الله: عَتَب عليه عَتْبًا، من بابي ضرب وقَتَل، ومَعْتِبًا أيضًا: لامه في تسخّطٍ، فهو عاتبٌ، وعَتّابٌ مبالغةٌ، قال: قال الخليل: حقيقة العتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الْمَوْجِدَة. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": والنكتة في قول عائشة رضي الله عنها: "فعاتبني أبو بكر"، ولم تقل: أبي؛ لأن قضية الأُبُوَّة الْحُنُوّ، وما وقع من العِتَاب بالقول، والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر، فلذلك أنزلته منزلة الأجنبيّ، فلم تقل: أبي. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ) أي من اللوم والعتاب، كما جرت به عادة الأب مع ابنته، ومن جملة ما قاله لها في ذلك ما في رواية عمرو بن الحارث:"فقال: حبست الناس في قلادة"، أي بسببها، وما عند الطبرانيّ من قوله:"في كل مرة تكونين عَنَاءً".

(1)

"المصباح المنير" 2/ 391.

(2)

"الفتح" 1/ 516.

ص: 425

(وَجَعَلَ) أي شَرَع أبو بكر رضي الله عنه (يَطْعُنُ بِيَدِهِ) بضم العين، وكذا في جميع ما هو حِسّيّ، وأما المعنويّ، فيقال: يَطْعَن، بالفتح، هذا هو المشهور فيهما، وحَكَى فيهما الفتح معًا في "المطالع" وغيرها، والضمُّ فيهما حكاه صاحب "الجامع"، قاله في "الفتح".

(فِي خَاصِرَتِي) هما من الإنسان: ما بين رأس الْوَرِك، وأسفل الأضلاع

(1)

، ويقال للخاصر: الخصر أيضًا

(2)

، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الْخَصْرُ" من الإنسان: وسَطُهُ، وهو الْمُسْتَدَقُّ فوق الْوَرِكَين، والجمع خُصُور، مثلُ فَلْس وفُلُوس. انتهى

(3)

.

(فَلَا) نافية، ولذا رُفِع الفعل بعدها (يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي) أي لم يمنعني من التحرّك مع شدّة ألم الطعن إلا كون رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا على فخذي.

فـ "مكانُ" مصدر ميميّ لـ "كان"، مرفوع على الفاعليّة لـ "يمنعني"، والاستثناء مفرَّغ.

(فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ) أي دخل في الصباح، فـ "أصبح" هنا ليست من الأفعال الناقصة التي هي من أخوات "كان" تحتاج إلى خبر؛ لأنها إذا كانت بمعنى الدخول في الوقت تكون تامّةً تكتفي بمرفوعها، وقولها:(عَلَى غَيْرِ مَاءٍ) متعلّق بـ "نام"، و"أصبح" على سبيل التنازع، أفاده الكرمانيّ

(4)

.

وعند البخاريّ في "التيمّم": "فقام حين أصبح"، قال الحافظ رحمه الله: والمعنى فيهما متقارب؛ لأن كلًّا منهما يدُلّ على أن قيامه من نومه كان عند الصبح، وقال بعضهم: ليس المراد بقوله: "حتى أصبح" بيانَ غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح؛ لأنه قَيَّدَ قوله:"حتى أصبح" بقوله: "على غير ماء" أي آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء، وأما رواية

(1)

راجع: "المعجم الوسيط" 1/ 237.

(2)

راجع: "تاج العروس" 3/ 177 فإنه ذكر أن الْخَصْرَ والخاصرة مترادفان.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 170.

(4)

"شرح الكرماني على صحيح البخاريّ" 3/ 211.

ص: 426

عمرو بن الحارث فلفظها: "ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم استَيْقَظ، وحَضَرت الصبح"، فإن أُعربت الواو حالية كان دليلًا على أن الاستيقاظ وقع حال وجود الصباح، وهو الظاهر، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَأنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ) هي آية المائدة على الراجح، قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ افتُرِضت الصلاة عليه إلا بوضوء، ولا يَدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، قال: وفي قوله في هذا الحديث: "آية التيمم" إشارة إلى أن الذي طرأ إليهم من العلم حينئذ حكمُ التيمم، لا حكم الوضوء، قال: والحكمةُ في نزول آية الوضوء، مع تقدم العمل به؛ ليكون فرضه مَتْلُوًّا بالتنزيل.

وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون أولُ آية الوضوء نزل قديمًا، فعلموا به الوضوء، ثم نزل بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة، وإطلاق آية التيمم على هذا من تسمية الكل باسم البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث التي أخرجها البخاريّ في "التفسير" تدل على أن الآية نزلت جميعًا في هذه القصة، فالظاهر ما قاله ابن عبد البر رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم لفظها: "فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} ، وهي صريحة في أن الآية نزلت كاملةً في وقت واحد في تلك السفرة، والله تعالى أعلم.

وقولها: (فَأنزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ) قال ابن العربيّ رحمه الله: هذه مُعْضِلة ما وجدت لدائها من دواء؛ لأنا لا نَعْلم أيّ الآيتين عَنَت عائشة رضي الله عنها، قال ابن بطال رحمه الله: هي آية النساء، أو آية المائدة، وقال القرطبيّ: هي آية النساء، ووَجَّهه بأن آية المائدة تُسَمَّى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتَّجِه تخصيصها بآية التيمم.

وأورد الواحديّ في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضًا.

(1)

"الفتح" 1/ 517.

ص: 427

قال الحافظ رحمه الله: خَفِيَ على الجميع ما ظهر للبخاريّ من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد؛ لرواية عمرو بن الحارث؛ إذ صَرَّح فيها بقوله: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية [المائدة: 6].

(فَتَيَمَّمُوا) يَحْتَمِل أن يكون خبرًا عن فعل الصحابة رضي الله عنهم، أي فتيمم الناس بعد نزول الآية، وَيحْتَمل أن يكون حكايةً لبعض الآية، وهو الأمر في قوله:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} بيانًا لقوله: "آية التيمم"، أو بدلًا، والاحتمال الأوّل أقرب، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ) بتصغير الاسمين، و"حُضير" - بحاء مهملة، ثم ضاد معجمة، آخره راء - ابن سماك بن عَتِيك الأنصاريّ الأشهليّ، أبو يحيى الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه سنة (20) أو (21)، تقدّمت ترجمته مستوفاةً في "الحيض" 3/ 700.

(وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ) بالضمّ: جمع نَقِيب بالفتح، يقال: نَقَبَ على القوم، من باب نصر نِقَابَةً بالكسر، فهو نَقِيبٌ، أي عَرِيف، وعَريف القوم هو مدبّر أمرهم، والقائم بسياستهم

(1)

.

(مَا هِيَ) أي هذه البركة الحاصلة للمسلمين بسبب فقد العقد، من الرخصة المشروعة بالتيمّم (بِأوَّلِ بَرَكتِكُمْ) أي بل هي مسبوقة بغيرها من البركات.

قال في "العمدة": والقرينة الحاليّة والمقاليّة تدلّان على أن قوله: "هي" يرجع إلى البركة، وإن لم يَمْضِ ذكرها، والبركة: كثرة الخير. انتهى

(2)

.

فـ "ما" نافية يَحتمل أن تكون حجازيّة، و"هي" اسمها، ويحتمل أن تكون تميميّة، و"هي" مبتدأ، والخبر قوله:"بأول بركتكم"، والباء زائدة في الخبر للتوكيد، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "مَا" وَ"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرْ

وفي رواية عمرو بن الحارث: "لقد بارك الله للناس فيكم"، وفي تفسير

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 620.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 8.

ص: 428

إسحاق البُسْتيّ من طريق ابن أبي مليكة عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "ما كان أعظم بركة قلادتك"، وفي رواية هشام بن عروة عند البخاريّ:"فوالله ما نزل بكِ من أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيرًا"، وفي رواية:"إلا جعل الله لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركةً".

[تنبيه]: إنما اختصّ أسيد بن حضير رضي الله عنه بهذا القول، دون غيره من الصحابة الآخرين؛ لأنه كان رأس المبعوثين في طلب ذلك العقد الذي ضاع، والله تعالى أعلم.

(يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ) لفظة "آل" مقحمة، وأراد أبا بكر نفسه، ويجوز أن يراد به أبو بكر وأهله وأتباعه. قاله في "العمدة"، والمعنى الثاني أظهر.

قال: والآل يُستعمل في الأشراف، بخلاف الأهل، فلا يقال: آل الحجّام، بل يقال: آل السلطان، ولا يَرِد قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]؛ لأنه بحسب تصوّره ذكره كذلك، أو بطريق التهكّم، ويجوز فيه (يال أبي بكر) بحذف الهمزة للتخفيف. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قول أسيد بن حُضَير رضي الله عنه: "ما هي بأول بركتكم

إلخ" يُشْعِر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيُقَوِّي قولَ من ذهب إلى تعدد ضَيَاع العقد.

وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ، فقال: سقط عقد عائشة رضي الله عنها في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلِقِ.

وقد اختَلَف أهل المغازي في أيِّ هاتين الْغَزَاتين كانت أوَّلًا، وقال الداوديّ: كانت قصة التيمم في غَزَاة الفتح، ثم ترَدَّد في ذلك، وقد رَوَى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمّا نَزَلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع؟

الحديث، فهذا يدل على تأخرها عن غَزْوة بني المصطلِق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.

قال الحافظ ما حاصله: سيأتي في "كتاب المغازي" أن البخاريّ يَرَى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة.

(1)

"شرح الكرمانيّ" 2/ 211، و"عمدة القاري" 4/ 5.

ص: 429

ومما يدل على تأخر القصة أيضًا عن قصة الإفك، ما رواه الطبرانيّ من طريق عَبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"لَمّا كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسَقَط أيضًا عقدي، حتى حُبِس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بُنَيّة في كل سَفْرة تكونين عَنَاءً وبلاء على الناس، فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة ثلاثًا"، وفي إسناده محمد بن حُمَيد الرازيُّ، وفيه مقال، وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أُبْهِم في حديث الباب، والتصريح بأن ضَيَاع العقد كان مرتين في غزوتين، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَبَعَثْنَا) أي أَثَرنا من مَبْرَكه (الْبَعِيرَ) بفتح الموحّدة، وقد تُكسر: الْجَمَلَ البازل

(2)

، أو الْجَذَع، جمعه: أَبْعِرَةٌ، وأباعرُ، وأباعيرُ، وبُعْران بالضمّ، وبِعْرانٌ بالكسر، أفاده في "القاموس"

(3)

.

وقال في "المصباح": الْبَعِيرُ: مثلُ الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبْتُ بَعِيري، والْجَمَلُ بمنزلة الرجل يختصّ بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى، والْبَكْرُ والْبَكْرَةُ: مثلُ الْفَتَى والْفَتَاة، والْقَلُوصُ: كالجارية، هكذا حكاه جماعة، منهم: ابن السّكّيت، والأزهريّ، وابن جنّي، ثم قال الأزهريّ: هذا كلام العرب، ولكن لا يَعرفه إلا خواصّ أهل العلم باللغة، ووقع في كلام الشافعيّ رحمه الله في الوصيّة: لو قال: أعطوه بعيرًا، لم يكن لهم أن يعطوه ناقةً، فَحَمَل البعير على الجمل، ووجهُهُ أن الوصيّة مبنيّةٌ على عرف الناس، لا مُحتَمَلات اللغة التي لا يَعرِفها إلا الخواصّ، وحَكَى في "كِفَاية الْمُتَحَفِّظِ" معنى ما تقدّم، ثم قال: وإنما يُقال: جَمَلٌ، أو ناقةٌ إذا أَرْبَعَا، فأما قبل ذلك، فيقال: قَعُودٌ، وبَكْرٌ، وبَكْرةٌ، وقَلُوصٌ. انتهى

(4)

.

(الّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ) أي راكبةً عليه حالة السفر (فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ) قال

(1)

"الفتح" 1/ 518.

(2)

بزل البعير من باب قعد: فَطَر نابه بدخوله في السنة التاسعة. اهـ. "المصباح" 1/ 48.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 374 - 375.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 53.

ص: 430

النوويّ رحمه الله: كذا وقع هنا، وفي رواية البخاريّ:"فبَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فوجدها"، وفي روايةٍ:"رجلين"، وفي روايةٍ:"ناسًا"، وهي قضيّة واحدة، قال العلماء: المبعوث هو أُسيد بن حُضير وأتباعٌ له، فذَهَبوا فلم يجدوا شيئًا، ثم وجدها أُسيد بعد رجوعه تحت البعير، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "فوجدنا العقد تحته" ظاهرٌ في أن الذين توجهوا في طلبه أوّلًا لم يجدوه، وفي الرواية التالية:"فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من أصحابه في طلبها"، وفي رواية للبخاريّ من طريق عروة:"فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فوجدها"، أي القلادة، ولأبي داود:"فبَعَثَ أسيد بن حضير وناسًا معه".

وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أُسيدًا كان رأس مَن بُعِث لذلك، فلذلك سُمِّي في بعض الروايات دون غيره، وكذا أُسند الفعل إلى واحد مبهم، وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أوّلًا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرَّحِيل، وأثاروا البعير، وَجَدَه أُسيد بن حُضير، فعلى هذا فقوله في رواية البخاريّ:"فوجدها"، أي بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره.

وقال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون فاعل "وجدها" النبيَّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقد بالغ الداوديّ في توهيم رواية عروة، ونَقَلَ عن إسماعيل القاضي أنه حَمَل الوهم فيها على عبد الله بن نُمَير، وقد بان بما ذكرنا من الجمع بين الروايتين أن لا تخالف بينهما، ولا وَهَم. انتهى

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: في الحديثين أيضًا اختلافٌ آخر، وهو قول عائشة رضي الله عنها:"انقَطَعَ عِقْدٌ لي"، وقالت في رواية عمرو بن الحارث:"سَقَطَت قلادة لي"، وفي رواية عروة عنها:"أنها استعارت قِلادةً من أسماء - يعني أختها - فهلكت"، أي ضاعت.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 59.

(2)

هكذا عزا في "الفتح" هذا الكلام إلى النوويّ، ولم أره في "شرحه" في هذا المحلّ، فالله تعالى أعلم.

(3)

"الفتح" 1/ 519.

ص: 431

والجمع بينهما أن إضافة القلادة إلى عائشة؛ لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء؛ لكونها ملكها؛ لتصريح عائشة في رواية عروة بأنها استعارتها منها، وهذا كله بناءٌ على اتحاد القصة.

وقد جَنَحَ البخاريّ في "التفسير" إلى تعدّدها، حيث أورد حديث الباب في "تفسير المائدة"، وحديث عروة في "تفسير النساء"، فكان نزول آية المائدة بسبب عقد عائشة، وآية النساء بسبب قلادة أسماء، قال الحافظ: وما تقدم من اتحاد القصة أظهر، والله تعالى أعلم. انتهى.

[فائدة]: وقع في رواية عمار، عند أبي داود وغيره في هذه القصة أن العقد المذكور كان من جَزْعِ ظَفَار، وكذا وقع في قصة الإفك - كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى - و"الْجَزْع" - بفتح الجيم، وسكون الزاي - خَرَز يمنيّ، و"ظَفَارِ" اسم مدينة، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[27/ 822 و 823](367)، و (البخاريّ) في "التيمّم"(334 و 336)، وفي "فضائل الصحابة"(3672 و 3773)، و"التفسير"(4607 و 4608) و"النكاح"(5250) و"الحدود"(6844 و 6845)، و (أبو داود) في "الطهارة"(317)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 172)، و (ابن ماجه) في "التيمّم"(568)، و (مالك) في "الموطّأ"(89)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 43 - 44 ترتيب الساعاتيّ)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(880)، و (الحميديّ) في "مسنده"(165)، و (أحمد) في "مسنده"(24283 و 25136)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 208)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(261 و 262)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1300 و 1709)،

(1)

"الفتح" 1/ 518 - 519.

ص: 432

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 223 - 224)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(307)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9641)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(875 و 871 و 872 و 873)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(809 و 810)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان بدء التيمّم، وأنه شُرع بسبب قصّة عائشة رضي الله عنها.

2 -

(ومنها): جواز السفر بالنساء في الغزوات وغيرها عند الأمن عليهنّ، فإذا كان لواحد نساء، فله أن يسافر مع أيتهنّ شاء واختُلف في وجوب القرعة، فأوجبه مالك والشافعي وأحمد، واستحبّه الحنفيّة، وسيأتي تمام البحث فيه في الموضع المناسب له - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): اتخاذ النساء الحليّ؛ تجملًا لأزواجهنّ.

4 -

(ومنها): جواز السفر بالعارية، وهو محمول على رضا صاحبها.

5 -

(ومنها): جوازُ الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه، وكذا سلوك الطريق التي لا ماء فيها، هكذا قيل.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن المدينة كانت قريبةً منهم، وهم على قصد دخولها، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَم بعدم الماء مع الركب، وإن كان قد عَلِم بأن المكان لا ماء فيه، وَيحْتَمِل أن يكون قوله:"ليس معهم ماء"، أي للوضوء، وأما ما يحتاجون إليه للشرب، فَيَحْتَمِل أن يكون معهم، والأول مُحْتَمِل لجواز إرسال المطر، أو نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، كما وقع في مواطن أخرى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الاستدلال الأول قويّ، ولا يخفى ما في الاحتمالات الأخرى من التكلّف، فتأمّله، والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن فيه اعتناءَ الإمام بحفظ حقوق المسلمين، وإن قَلَّت، فقد نقل ابن بطال أنه رُوي أن ثمن العقد المذكور كان اثني عشر درهمًا، وَيلْتَحق بتحصيل الضائع الإقامةُ للحوق المنقطع، ودفنِ الميت، ونحو ذلك من مصالح الرعية، وفيه إشارة إلى ترك إضاعة المال.

(1)

1/ 516.

ص: 433

7 -

(ومنها): أن فيه شَكْوَى المرأة إلى أبيها، وإن كان لها زوج، وكأنهم إنما شَكَوا إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نائمًا، وكانوا لا يوقظونه حتى يستيقظ بنفسه؛ لأنهم لا يعلمون أيوحى إليه أم لا؟.

8 -

(ومنها): أن فيه نسبةَ الفعل إلى من كان سببًا فيه؛ لقولهم: "صَنَعَتْ"، و"أقامت".

9 -

(ومنها): فيه جواز دخول الرجل على ابنته، وإن كان زوجها عندها، إذا عَلِمَ رضاه بذلك، ولم يكن حالة مباشرة.

10 -

(ومنها): أن فيه تأديبَ الرجل ابنته، ولو كانت مُزَوَّجةً كبيرةً خارجةً عن بيته، ويُلْحَق بذلك تأديب مَن له تأديبه، ولو لم يأذن له الإمام.

11 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة، أو يَحصُل به تشويش لنائم، وكذا لِمُصَلٍّ، أو قارئٍ، أو مُشتغل بعلم، أو ذكر.

12 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على الرخصة في ترك التهجد في السفر، إن ثبت أن التهجد كان واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم.

13 -

(ومنها): أنه استُدلّ به أيضًا على أن طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت؛ لقولها في رواية البخاريّ: "وحَضَرَت الصبح، فالتُمِس الماء، فلم يوجد".

14 -

(ومنها): بيان أن الوضوء كان واجبًا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حقّ عائشة ما وَقَع.

15 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بالآية على وجوب النية في التيمم؛ لأن معنى: {فَتَيَمَّمُوا} اقصِدُوا، كما تقدم، وهو قول فقهاء الأمصار، إلا الأوزاعيّ وزُفَر.

16 -

(ومنها): ما قيل: إنه يجب نقل التراب، ولا يكفي هبوب الريح به، بخلاف الوضوء، كما لو أصابه مطرٌ فنَوَى الوضوء به، فإنه يجزئ.

قال في "الفتح": والأظهر الإجزاء لمن قَصَد التراب من الريح الهابّة، بخلاف من لم يَقْصِد، وهو اختيار الشيخ أبي حامد. انتهى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

17 -

(ومنها): بيان أنه يتعين الصعيد الطيب للتيمم، لكن اختَلَفَ العلماء

ص: 434

في المراد بالصعيد الطيب، وسيأتي تحقيقه وترجيح الراجح منه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

18 -

(ومنها): ما قيل: إنه يجب التيمم لكل فريضة، والحقّ أنه لا يجب، وسيأتي تحقيقه أيضًا قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

19 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على فضل عائشة وأبيها رضي الله عنهما، وتكرار البركة منهما.

20 -

(ومنها): أنّ فيه دليلًا على أن التيمّم يستوي فيه الصحيح والمريض والمحدث والجنب، ولم يختَلِف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب، وقد كان عمر بن الخطاب، وابن مسعود رضي الله عنهما يقولان: الجنب لا يطهِّره إلا الماء؛ لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، والمائدة: 6]، ولم يتعلَّق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الثابتة الواردة في تيمم الجنب، وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

21 -

(ومنها): بيان جواز التيمم في السفر، وهذا أمر مجمعٌ عليه، واختلفوا في الحضر، والحقّ جوازه، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك وترجيح الراجح بدليله قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

22 -

(ومنها): جواز وضع الرجل رأسه على فخذ امرأته، ونومه عليها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل التيمّم رافع للحدث، أم مبيح للصلاة؟:

قال النوويّ رحمه الله: مذهبنا، ومذهب الأكثرين أن التيمّم لا يرفع الحدث، بل يبيح الصلاة، فيستبيح به فريضةً، وما شاء من النوافل، ولا يَجمَع بين فريضتين بتيمم واحد، وإن نوى بتيممه الفرض استباح الفريضة والنافلة، وإن نوى النفل استباح النفل، ولم يستبح به الفرض، وله أن يصلي على جنائز بتيمم واحد، وله أن يصلي بالتيمم الواحد فريضة وجنائز، ولا يتيمم قبل دخول

ص: 435

وقتها، وإذا رأى المتيمم لفقد الماء ماءً وهو في الصلاة لم تبطل صلاته، بل له أن يتمها إلا إذا كان ممن تلزمه الإعادة، فإن صلاته تبطل برؤية الماء. انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن التيمّم رافع للحدث، وقد حقّق هذا الموضوع شيخ الإسلام رحمه الله، حيث قال:

وقد تنازع العلماء في التيمم، هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائمٌ؟ ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع، وهذه مسألة نظريةٌ، وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء؟ على قولين مشهورين، وهو نزاع عَمَليّ:

فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريّ، والزهريّ، والثوريّ، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.

والقول الثاني أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه.

ثم من هؤلاء من يقول: يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول: يتيمم لفعل كل فريضة ولا يَجمع به فرضين، وغلا بعضهم، فقال: ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، قالوا: لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء.

قالوا: ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم، لكن لما ثبت في الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، رواه مسلم في "صحيحه"، دلّت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب.

وعَلَّل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه.

ص: 436

ووَرَد عن عليّ، وعمرو بن العاص، وابن عمر مثل قولهم.

ولنا أنه قد ثَبَت بالكتاب والسنة أن التراب طهور، كما أن الماء طهور، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأَمِسَّه بشرتك، فإن ذلك خير"

(1)

، فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا، فدلّ على أنه مطهرٌ للمتيمم، وإذا كان قد جَعَل المتيمم مُطَهَّرًا كما أن المتوضئ مُطَهَّر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل: إن خروج الوقت يبطله، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول، فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلًا له في صفته، كصيام الشهرين فإنه بدل عن الإعتاق، وصيام الثلاث والسبع، فإنه بدلٌ عن الهدي في التمتّع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفّارة اليمين، فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل منه، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمّار لَمّا تمرغ في التراب، كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه، كما يغسل جميع بدنه، وقد بَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين، بخلاف الغسل، والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضى النص والقياس.

[فإن قيل]: الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه.

[قيل]: عن هذا جوابان:

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ.

ص: 437

[أحدهما]: أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء، يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعيّ على خلاف ذلك.

[الوجه الثاني]: أن يقال: قول القائل: يرفع الحدث أو لا يرفعه، ليس تحته نزاع عَمَليّ، وإنما هو نزاع اعتباريّ لفظيّ، وذلك أن الذين قالوا: لا يرفع الحدث قالوا: لو رفعه لم يَعُد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء، والذين قالوا: يرفع الحدث إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عمليّ شرعيّ، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية، تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن المناسبة هل تنخرم بالمعارضة؟، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته؟.

ثم أفاض شيخ الإسلام رحمه الله في تحقيق هذا الموضوع إلى أن قال:

وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول: إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا مع وجود الجنابة يمتنع حصول الطهارة، ومن قال: إنه ليس برافع، ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تامّ كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التامّ مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، وإن أريد أن سبب المنع قائم، ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيحٌ.

وكذلك من قال: هو رافع للحدث إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع، أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية بخلاف الماء.

ص: 438

وإن قال: أريد برفعه أنه رفع منع المانع، فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعيّ عمليّ.

وعلى هذا فيقال على كل من القولين: لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا، وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت، وبعد الوقت، وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا فرق مؤثِّرٌ إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت، فقد خالف موجب الدليل.

وأيضًا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يَفْصِل بين أن يقصد التيمم بفرض، أو نفل، أو تلك الصلاة، أو غيرها، كما لم يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر.

وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر، فَعَلَ ما أمر الله به، ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فَعَل عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له، ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي يوسف وغيره، لكن محمد بن الحسن لم يُجَوِّز ذلك؛ لنقص حال المتيمم.

وأيضًا كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سبب حادث لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواءً، والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع.

[فإن قيل]: هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة.

ص: 439

[قيل]: أما طهارة الماسح على الخفين، فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل، ولهذا وقّتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصةً ليست بعزيمة حدَّ لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلةً للمقيم، ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمةً لم تتوقت، بل يمسح عليها إلى أن يَحُلَّها، ويمسح في الطهارتين: الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين: الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين.

وأما ذوو الأحداث الدائمة؛ كالمستحاضة، فأولئك وُجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رَخَّص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة، ولهذا لو تطهرت المستحاضة، ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت، فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي؛ لوجود الناقض للطهارة، بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته.

والتيمم كالوضوء، فلا يُبطِل تيممَهُ إلا ما يبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد.

وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا؛ كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا، فإنه لا يتوقت عنده، لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت.

وقول القائل: إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين.

[قيل]: نعم يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد أحسن، وأتى بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقى محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته؛ لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير

ص: 440

طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في "الصحيح" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَلَّم عليه رجل، فلم يرد عليه حتى تيمم وردَّ عليه السلام، وقال:"كرهت أن أذكر الله إلا على طهر"

(1)

.

وإذا كان تطهر قبل الوقت، كان قد أحسن، وأتى بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدَّى أكثر من الواجب في الزكاة وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة، والتيممُ مع عدم الماء حسن، ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارَضٌ بقول غيره، ولا إجماع في المسألة، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه شيخ الإسلام رحمه الله تحقيقٌ بديع مفيد جدًّا.

خلاصته أن الحقّ أن التيمّم رافع للحدث، فيجوز قبل الوقت وبعده، ويصلّي به الفرائض المتعدّدة والنوافل، كما يصلي بالوضوء من غير فرق؛ لأن الشارع جعله بدلًا عنه مطلقًا ما لم يقدر على استعمال الماء، ولا ينقضه إلا ما ينقض أصله، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه جحة العنيد وملجأ البليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تيمّم الجنب إذا خشي على نفسه البرد:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على جواز التيمم عن الحدث الأصغر، وكذلك أجمع أهل هذه الأعصار، ومَن قبلهم على جوازه للجنب والحائض والنفساء، ولم يخالف فيه أحدٌ من الخلف، ولا أحد من السلف إلا ما جاء

(1)

حديث صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" 1/ 5، وقصّة السلام عليه صلى الله عليه وسلم وهو يبول أخرجه مسلم في "صحيحه".

ص: 441

عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وحُكِي مثله عن إبراهيم النخعيّ الإمام التابعي وقيل: إن عمر، وعبد الله رجعا عنه، وقد جاءت بجوازه للجنب الأحاديث الصحيحة المشهورة، وإذا صلى الجنب بالتيمم، ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء إلا ما حُكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الإمام التابعيّ أنه قال: لا يلزمه، وهو مذهب متروك بإجماع من قبله، ومَن بعده، وبالأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بغسل بدنه إذا وَجَد الماء. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

وقال ابن المنذر رحمه الله: وقد احتجّ غير واحد من أهل العلم في التيمم على الجنب بقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] كان معناه لا يقرب الصلاة جنب إلا أن يكون عابر سبيل مسافرًا لا يجد الماء، فيتيمم ويصلي. قال: وَرَوينا معنى هذا القول عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحكم، والحسن بن مسلم بن يناق، وقتادة.

وبه قال الشافعيّ، والثوريّ، وأبو ثور، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو قول عوامّ أهل العلم من فقهاء الأمصار.

قال: وقد رَوَينا عن عمر، وابن مسعود قولًا، معناه منع الجنب التيمم، وقال النخعيّ: إذا أجنب الرجل، ولم يجد الماء فلا يتيمم ولا يصلي، وإذا وجد الماء اغتَسَل، وصلّى الصلوات.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبالقول الأول أقول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح الأقوال هو الذي ذهب إليه الجمهور، من جواز التيمّم للجنب، بل القول بخلافه مهجور، منابذ للأدلّة الصحيحة المشهورة، كحديث عمّار رضي الله عنه المتّفق عليه، وسيأتي في الباب، ومنها: حديث عمران بن حصين الخزاعيّ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا معتزلًا لم يصل في القوم، فقال:"يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ "، فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد،

(1)

"الأوسط" 2/ 13 - 15.

ص: 442

فإنه يكفيك"، متّفقٌ عليه، وغير ذلك من الأدلّة الصحيحة؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في جماع من لا يجد الماء أهله:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في غَشَيان من لا ماء معه من المسافرين وغيرهم، فكرهت طائفة لمن هذه صفته أن يجامع، وممن رَوَينا عنه أنه كره ذلك عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وبه قال الزهريّ، وقال مالك: لا أحب له أن يصيب أهله إلا ومعه ماء.

وأباحت له طائفة غشيان أهله، وإن لم يكن معه ماء، فقالت: يتيمم، ويصلي، رُوي هذا عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد، والحسن، وقتادة، وهو قول سفيان، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وقال: قد فعله ابن عباس، وقال في مكان آخر: يتوقاه أحب إليّ إلا أن يخاف، قال إسحاق: هو سنة مسنونة من النبيّ صلى الله عليه وسلم في أبي ذر وعمار، وفعله ابن عباس.

وقال أصحاب الرأي: يطؤها، واحتجوا بقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43 والمائدة: 6].

وفي المسألة قول ثالث قاله عطاء، قال في المسافر لا يجد الماء: إن كان بينه وبين الماء أربع ليال فصاعدًا، فليُصْبِ أهله، وإن كان بينه وبينه ثلاث ليال فما دونها، لم يصب أهله، وقال الزهريّ: إن كان في السفر، فلا يقربها حتى يأتي الماء، وإن كان أعزب فلا بأس أن يصيبها، وإن لم يكن عنده ماء.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبهذا القول نقول؛ لأن الله تعالى أباح وطء الزوجة وملك اليمين، فما أباح فهو على الإباحة، لا يجوز حظر ذلك، ولا المنع منه إلا بسنة أو إجماع، والممنوع منه حال الحيض، والإحرام، والصيام، وحال المظاهر قبل أن يكفّر، وما وقع تحريم الوطء منه بحجة، فأما كل مختَلَف فيه في ذلك فمردود إلى أصل إباحة الكتاب الوطء، قال تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، وقد جعل التيمم طهارة لمن لا يجد الماء، ولا فرق بين من صلى بوضوء عند وجود الماء، وبين من صلى بتيمم حيث لا يجد الماء؛ إذ كلٌّ مُؤَدٍّ ما فُرِض عليه.

ص: 443

قال: والأخبار التي ذكرناها في باب إثبات التيمم للجنب المسافر الذي لا يجد الماء، دالّة على صحة ما قلناه، وقد رَوَينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى بعينه حديثًا، ثم أخرج من طريق حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرجل يَعزُب ولا يَقدِر على الماء، يجامع أهله؟ قال:"نعم". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده حجاج بن أرطاة ضعيف، فالأولى الاستدلال بما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، أن أبا ذرّ رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني أَعْزُبُ عن الماء، ومعي أهلي، فتُصيبني الجنابة، فأصلّي بغير طهور؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الصعيد الطيّب طهورٌ

"، وهو حديث صحيح، صححه الحاكم، وابن حبّان، وغيرهما.

وجه الدلالة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ أبا ذر رضي الله عنه في إصابة الجنابة له من أهله مع أنه ليس معه ماء، فدلّ على أن إتيان أهله لمن ليس معه ماء جائز، فيتيمّم بالصعيد.

والحاصل أن أرجح الأقوال قول من قال: بجواز غشيان الأهل لمن لا يجد الماء، كما رجحه ابن المنذر وغيره؛ لقوّة حجّته؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حدّ المريض الذي يباح له التيمّم:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في التيمم للمريض الواجد للماء، فرخّص كثير منهم لمن به القروح، أو الجروح، أو الْجُدَريّ

(2)

، وخاف على نفسه أن يتيمم، وإن وَجَد الماء.

رَوَينا عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}

(1)

"الأوسط" 2/ 16 - 18.

(2)

"الْجَدَريّ" بفتح الجيم، وضمّها، وأما الدال فمفتوحة فيهما: قُرُوحٌ تَنْفَط عن الجلد ممتلئة ماءً، ثم تنفتح. اهـ. "المصباح" 1/ 93.

ص: 444

الآية [المائدة: 6]، قال: إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله، أو قروح، أو جُدَريّ، فجَنُب، فخاف أن يغتسل فيموت، يتيمم بالصعيد، ورَخَص مجاهد في التيمم للمَجْدُور، وقال عكرمة: يتيمم الذي به القُروح أو الجروح، ورَخَّص طاوس في ذلك للمريض الشديد المرض، وكذلك قال قتادة، وحماد بن أبي سليمان، وإبراهيم للذي به الْجُدَريّ أن يتيمم، وكذلك قال مالك في المجدور والمحصوب، إذا خافا على أنفسهما.

وقالت طائفة: إنما رُخِّص في التيمم للمريض الذي لا يجد الماء، فأما مَن وجد الماء فليس يجزيه إلا الاغتسال، واحتج بظاهر قوله بعد أن ذكر المريض وغيره:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} الآية [النساء: 43]، هذا قول عطاء، وكان الحسن يقول في المجدور تصيبه الجنابة: يُسَخَّن له الماء فيغتسل به، ولا بُدَّ من الغسل.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبالقول الأول أقول؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية [النساء: 29]، وقد ثبت أن عمرو بن العاص رضي الله عنه احتَلَم في ليلة باردة، فأشفق إن اغتسل أن يهلك، فتيمم وصلى، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك ولم يقل شيئًا

(1)

، وليس بين من خاف إن اغتسل أن يَتْلَف من البرد، وبين من به علة يخاف الموت إن اغتسل من أجلها فرقٌ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم المبيّن عن الله تعالى معنى ما أراد، لو كان ما فَعَل عمرو غير جائز لعلَّمه ذلك، ولأمره بالإعادة، ففي إقراره ذلك من فعله، وترك الإنكار عليه دليل على إجازة ما فعله. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

(1)

هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" بسند صحيح (334) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ "، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا.

(2)

"الأوسط" 2/ 19 - 20.

ص: 445

والحاصل أن جواز التيمّم للمريض الواجد ماءً إذا شقّ عليه استعماله هو الحقّ؛ لوضوح حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في معنى الصعيد:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه على أقوال:

فقيل: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، وإن لم يَعْلَق بيده، كالزِّرْنِيخ، والنُّورة، والْجِصّ، وكالصخرة الملساء، فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به، وهو قول أبي حنيفة، ومحمدٌ يوافقه، لكن بشرط أن يكون مُغَبَّرًا، لقوله:{مِنْهُ} .

وقيل: يجوز بالأرض، وبما اتصل بها حتى بالشجر، كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر والمدَر، وهو قول مالك، وله في الثلج روايتان: إحداهما: يجوز التيمم به، وهو قول الأوزاعيّ، والثوريّ، وقيل: يجوز بالتراب والرمل، وهو أحد قولي أبي يوسف، وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب، وقيل: لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبارٌ يَعْلَق باليد، وهو قول أبي يوسف، والشافعيّ، وأحمد في الرواية الأخرى.

واحتجّ هؤلاء بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وهذا لا يكون إلا فيما يعلق بالوجه واليد، والصخرُ لا يعلق لا بالوجه ولا باليد، واحتجوا أيضًا بأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الصعيد الطيب تراب الحرث، واحتجوا أيضًا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"جُعِلت لي الأرض مسجدًا، وجُعلت تربتها طهورًا"، قالوا: فعَمَّ الأرض بحكم المسجد، وخَصَّ تربتها، وهو ترابها بحكم الطهارة.

قالوا: ولأن الطهارة بالماء اختَصَّت من بين سائر المائعات بما هو ماء في الأصل، فكذلك طهارة التراب تختص بما هو تراب في الأصل، وهما الأصلان اللذان خُلِق منهما آدم، الماء والتراب، وهما العنصران البسيطان، بخلاف بقية المائعات والجامدات، فإنها مركبة.

واحتج الأولون بقوله تعالى: {صَعِيدًا} قالوا: والصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعمّ كل صاعد، بدليل قوله تعالى:{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف: 8]، وقوله:{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40].

ص: 446

واحتجَّ من لم يخص الحكم بالتراب بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصلِّ"، وفي رواية:"فعنده مسجده وطهوره"، فهذا يُبَيِّن أن المسلم في أيّ موضع كان عنده مسجده وطهوره، ومعلوم أن كثيرًا من الأرض ليس فيها ترابُ حرث، فإن لم يجز التيمم بالرمل كان مخالفًا لهذا الحديث، وهذه حجة مَن جَوَّز التيمم بالرمل دون غيره، أو قَرَن بذلك السَّبِخَة، فإن من الأرض ما يكون سبخة، واختلاف التراب بذلك كاختلافه بالألوان، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوه على قدر تلك القبضة، جاء منهم الأسود والأبيض، وبين ذلك، وجاء منهم السهل والْحَزْن، وبين ذلك، ومنهم الخبيث والطيب، وبين ذلك"، وآدم إنما خُلِق من تراب، والتراب الطيب والخبيث الذي يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا، يجوز التيمم به، فعلم أن المراد بالطيب الطاهرُ، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار، فإنها ليست من جنس التراب، ولا تَعْلَق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة، فإنها معادن في الأرض، لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس، قاله شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان المذاهب، وأدلّتها أنّ أرجحها مذهب أبي حنيفة، ومالك - كما قال النوويّ - وهو جواز التيمّم بكلّ ما كان من جنس الأرض، وإن لم يَعْلَق باليد؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من فقد ماءً، وصعيدًا:

قال النوويّ رحمه الله: هذه المسألة فيها خلاف للسلف والخلف، وهي أربعة أقوال للشافعيّ:[أصحها]: عند أصحابنا أنه يجب عليه أن يصلي، ويجب عليه أن يعيد الصلاة، أما الصلاة فلقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما

(1)

"مجموع الفتاوى" 21/ 364 - 366.

ص: 447

استطعتم"، وأما الإعادة فلأنه عذر نادرٌ، فصار كما لو نَسِي عضوًا من أعضاء طهارته وصلى، فإنه يجب عليه الإعادة.

[والقول الثاني]: لا تجب عليه الصلاة ولكن تُستحب، ويجب القضاء، سواء صلى أم لم يصلّ.

[والثالث]: تحرم عليه الصلاة؛ لكونه محدثًا، وتجب الإعادة.

[والرابع]: تجب الصلاة، ولا تجب الإعادة، وهذا مذهب الْمُزَنيّ، وهو أقوى الأقوال دليلًا، ويعضده هذا الحديث وأشباهه، فإنه لم يُنقَل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إيجاب إعادة مثل هذه الصلاة، والمختار أن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولم يثبت الأمر فلا يجب، وهكذا يقول المزنيّ في كل صلاة وجبت في الوقت على نوع من الخلل، لا تجب إعادتها.

وللقائلين بوجوب الإعادة أن يجيبوا عن هذا الحديث بأن الإعادة ليست على الفور، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة على المختار. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح المذاهب عندي هو ما ذهب إليه المزنيّ، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وسحنون من المالكيّة، وابن المنذر - كما عزاه إليهم في "الفتح"

(2)

- لقوّة دليله، كما قاله النوويّ.

وأما قوله: "إن الإعادة لا تجب على الفور" ففيه نظر، بل الحقّ أنه يجب إذا قدر الشخص عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها، فليُصلّها إذا ذكرها"، متّفقٌ عليه، فقد أوجب عليه أن يصليها وقت تذكّرها، وهذا مثله، فلو كانت الإعادة واجبة لبيّنها لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت؛ لأن ذلك وقت الحاجة، فلما لم يبيّنها تبيّن عدم وجوبها.

والحاصل أن الأرجح أن من فقد شرطًا من شروط الصلاة، كفاقد الطهورين، وعادم ما يستر عورته، ونحو ذلك تجب عليه الصلاة، ولا تجب عليه الإعادة؛ لأنه قام بما كُلّف به، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، متّفق عليه، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 60.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 524.

ص: 448

وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[823]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا اسْتَعَاَرَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أتوُا النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْه، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّم، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا، فَوَاللهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ، إِلَّا جَعَلَ اللهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة بن زيد القُرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بِشر الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

5 -

(هِشَام) بن عروة المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير المدنيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

وقولها: (أنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ) هي أخت عائشة رضي الله عنهما الملقّبة بذات النطاقين، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وتوفّيت سنة (3 أو 74) وتقدّمت ترجمتها في "الطهارة" 33/ 681.

ولا تخالف بين هذه الرواية: "استعارت من أسماء"، وقولها الماضي:"انقطع عِقْد لي"؛ لإمكان الجمع بأنه كان ملكًا لأسماء حقيقةً، أضافته إلى نفسها؛ لكونه في يدها وتصرّفها، والله تعالى أعلم.

ص: 449

وقولها: (قِلَادَةً) بكسر القاف: ما يُجعل في العنُق

(1)

، وهو العقد المذكور في الحديث الماضي، قال النوويّ رحمه الله: وأما العقد، فهو بكسر العين، وهو كلُّ ما يُعقد، ويُعلّق في العنق، فيُسمّى عِقْدًا وقِلادةً. انتهى

(2)

.

وقولها: (فَهَلَكَتْ) أي ضاعت، وهو بمعنى قولها السابق:"انقطع عقد لي".

وقولها: (فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ) وفي رواية البخاريّ: "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا"، ولا تنافي بين الروايتين؛ لإمكان الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل جماعة، وجعل رجلًا منهم رئيسًا عليهم، وهو أسيد بن حُضير رضي الله عنه.

وقولها: (فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ) هذا دليل لقول من قال: إن فاقد الطهورين يصلي على حاله، وقد تقدّم أن أرجح المذاهب وجوب الصلاة عليه، بلا إعادة؛ فتنبّه.

[تنبيه]: قوله: "فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ" هذه الزيادة ادّعى ابن المنذر رحمه الله في "الأوسط"(2/ 46) أنه تفرّد بها عبدة بن سليمان.

ورُدّ عليه بأنه لم ينفرد بها، بل تابعه أبو أسامة، ومحمد بن بشر عند المصنّف هنا، وعبد الله بن نمير، عند الحسن بن سفيان في "مسنده"، وأبو نعيم عند الإسماعيليّ، أفاده في "الفتح"

(3)

.

قوله: (فَوَاللهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ) وفي رواية البخاريّ: "فوالله ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينه، إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرًا".

والحديث متّفقٌ عليه، والمسائل المتعلّقة به قد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[824]

(368) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ

(1)

راجع: "القاموس" 1/ 330.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 59.

(3)

1/ 525.

ص: 450

شَقِيقٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الله، وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، كَيْفَ يَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا يَتَيَمَّمُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة، لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ، أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيد، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ: أَلمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ: بَعَثَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيد، كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أتيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا"، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِين، وَظَاهِرَ كَفَّيْه، وَوَجْهَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَوَ لَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(شَقِيق) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة [2](ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

5 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(عَمَّارُ) بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوَذِيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن يام بن عَنْس - بنون ساكنة - ابن

ص: 451

مالك العنسي، أبو اليَقْظَان، حليف بني مخزوم، وأمه سُمَيّة مولاة لهم، كان من السابقين الأولين هو وأبوه، وكانوا ممن يُعَذَّب في الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يَمُرّ عليهم، فيقول:"صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة"، واختُلف في هجرته إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها، ثم شهد اليمامة فقطعت أذنه بها، ثم استَعمَله عمر رضي الله عنه على الكوفة، وكَتَبَ إليهم أنه من النجباء، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمارًا تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا على أنه قُتل مع علي رضي الله عنه بصِفِّين قتله أبو غادية الجهنيّ، وقيل: المزنيّ، طعنه برمح فسقط، سنة سبع وثمانين في ربيع، وله ثلاث وتسعون سنة

(1)

، واتفقوا على أنه نزل فيه قوله عز وجل:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]

(2)

.

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّه: "مَرْحبًا بالطيّب المطيّب"

(3)

، وقال:"اهتدوا بهدي عمّار"

(4)

، وقال:"من أبغض عمّارًا أبغضه الله، ومن عاداه عاداه الله"

(5)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط

(6)

، هذا برقم (368) وأعاده بعده، وحديث (869): "إن طول صلاة الرجل، وقِصَر خطبته مئنّة من فقهه

"، وحديث رقم (2779) وأعاده بعده، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّفاق كيفيّة تحمّله عنهم، وهي السماع من لفظهم مع غيره.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 134.

(2)

راجع: "الإصابة" 4/ 473 - 474.

(3)

أخرجه الترمذيّ (3799)، والحاكم في (3/ 388) وصححه، ووافقه الذهبيّ.

(4)

أخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 385 و 402)، وصححه ابن حبان (2193)، والحاكم في (3/ 75) ووافقه الذهبيّ.

(5)

أخرجه أحمد (1/ 89 و 90)، والحاكم 3/ 389 و 390، وصححه، ووافقه الذهبيّ.

(6)

وقال ابن الملقّن رحمه الله في "الإعلام"(2/ 132): له عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان وستّون حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وقال ابن الجوزيّ: على واحد، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بحديث.

ص: 452

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال أبو بكر

إلخ"، وذلك أن شيوخه الثلاثة، وإن اشتركوا في الرواية عن أبي معاوية، إلا أن شيخه أبا بكر صرّح بالتحديث عنه، بخلاف الآخرين، فبيّنه المصنّف بالتفصيل.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

4 -

(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، إلا الثوريّ.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ: أبي موسى، عن عمّار رضي الله عنهما، وتابعيّ عن تابعيّ مخضرم: الأعمش، عن شقيق، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ شَقِيق) بن سلمة، أبي وائل رحمه الله، وفي رواية للبخاريّ من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، قال:"سمعتُ شقيق بن سلمة"، فصرّح الأعمش بالسماع، فزالت عنه تهمة التدليس، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (وَأَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن مسعود (أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ) قال في "القاموس": "الجَنابة": الْمَنيّ، وقد أجنب، وجَنِبَ - بكسر النون - وجَنُبَ - بضمّها - وأُجْنِبَ - بالبناء للمفعول - واسْتَجْنَبَ، وهو جُنُبٌ يستوي الواحد والجميع، أو يقال: جُنبان، وأَجْنابٌ، لا جُنُبَةٌ. انتهى

(1)

.

وقال في "المفهم": قال الفرّاء: يقال: أجنب الرجل، وجَنُبَ من الجنابة، وقال غيره: يقال: جُنُبٌ للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنّث، قال ابن فارس: وقد قيل في الجمع: أجنابٌ، والجنابة: الْبُعْدُ، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ

فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ

فقوله: "عن جنابة": أي بُعْدٍ، قال الأزهريّ: وسُمّي جُنُبًا؛ لأنه نُهِي أن

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 48 - 49.

ص: 453

يقرَبَ مواضع الصلاة ما لم يتطهّر، فيجتنبها، وقال الشافعيّ: إنما سُمّي جُنُبًا من المخالطة، ومن كلام العرب: أجنب الرجلُ: إذا خالط امرأته، وهذا ضدّ المعنى الأول، كأنه من القرب منها. انتهى

(1)

.

(فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا) المراد طول المدّة، لا التحديد بالشهر (كَيْفَ يَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟) أي هل يصلّي بالتيمّم، أم يترك الصلاة؟، وفي رواية البخاريّ:"لو أن رجلًا أجنب، فلم يجد الماء شهرًا، أما كان يتيمّم، ويُصلّي؟ "(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (لَا يَتَيَمَّمُ) يعني أنه لا يُصلي؛ لعدم ما يتوضّأ به (وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا) قال القرطبيّ رحمه الله: كان مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الجنب لا يتيمّم؛ لأنه ليس داخلًا في عموم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]، ألا تراه قد سَلَّم ذلك لأبي موسى، ونحا إلى منع الذريعة، وكأنه كان يعتقد تخصيص العموم بالذريعة، ولا بُعْدَ في القول به على ضعفه.

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان يرى أن الآية لا تتناول الجنب رأسًا، فمنعه التيمّم لذلك، وتوقّف في حديث عمّار رضي الله عنه؛ لكونه لم يَذْكُره حين ذَكَّرَه به، وقد صحّ عن عمر، وابن مسعود أنهما رجعا إلى أن الجنب يتيمّم، وهو الصحيح؛ لأن الآية بعمومها متناولة له، ولحديث عمّار رضي الله عنه المذكور هنا، وحديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: أصابتني جنابةٌ ولا ماء، فقال له:"عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، متّفقٌ عليه، وهذا نصّ رافعٌ للخلاف. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في المسألة الخامسة في الحديث (822) تحقيق القول في مسألة تيمّم الجنب، وأن الراجح جوازه، وهو مذهب الجمهور، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه (فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ) وفي رواية البخاريّ: "فكيف تصنعون بهذه الآية؟ "، وقوله:(فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ) متعلّق بصفة لـ "الآية"، أو حال منه.

(1)

"المفهم" 1/ 613.

(2)

"المفهم" 1/ 613 - 614.

ص: 454

وإنما عَيَّنَ سورة المائدة؛ لكونها أظهر في مشروعيّة تيمّم الجنب من آية النساء؛ لتقدّم حكم الوضوء في المائدة.

وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؟ [المائدة: 6] بدلٌ من "الآية، أو عطف بيان.

قال الخطّابيّ وغيره: فيه دليلٌ على أن عبد الله بن مسعود كان يرى أن المراد بالملامسة الجماع، فلهذا لم يَدفع دليل أبي موسى رضي الله عنه، وإلا لكان يقول له: المراد من الملامسة التقاء البشرتين فيما دون الجماع، وجَعْلُ التيمّم بدلًا من الوضوء لا يستلزم جعله بدلًا من الغسل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الخطابيّ وغيره من أن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن المراد بالملامسة الجماع واضح من هذه القصّة، وتَعَقُّب العينيّ تبعًا للكرمانيّ مما لا يخفى بُعْده على من تأمله، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ) بالبناء للمفعول (فِي هَذِهِ الْآيَةِ)"في" هنا سببيّة، كما في حديث:"عُذّبت امرأة في هرّة حبستها"، متّفقٌ عليه، أي بسبب هذه الآية (لَأَوْشَكَ) أي أسرع، قال في "القاموس": وَشُكَ الأمرُ، ككَرُمَ: سَرُعَ، كَوَشَّكَ، وأوشك: أسرع السيرَ؛ كَوَاشَك، ويوشِكُ الأمرُ أن يكون، وأن يكونَ الأمرُ، ولا تُفْتَحُ شينه، أو لغةٌ رَدِيَّةٌ. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: يُوشِك أن يكون كذا من أفعال المقاربة، والمعنى: الدنوّ من الشيء، قال الفارابيّ: الإيشاك: الإسراع، وفي "التهذيب" في باب الحاء: وقال قتادة: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن لنا يومًا أوشك أن نستريح فيه، ونَنْعَمَ"، لكن قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها قليلٌ، وقال بعضهم: وقد استعملوا ماضيًا ثلاثيًّا، فقالوا: وَشُكَ مثلُ قَرُبَ، وُشْكًا. انتهى

(3)

.

قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَاسْتَعْمَلُوا مُضَارِعًا لِـ "أَوْشَكَا"

وَ"كَادَ" لَا غَيْرُ وَزَادُوا "مُوشِكَا"

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 544.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 323.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 661.

ص: 455

(إِذَا بَرَدَ) بفتح الراء على المشهور، وحَكَى الجوهريّ ضمّها، قاله في "الفتح"

(1)

.

وعبارة "القاموس": الْبَرْدُ: معروفٌ، بَرَدَ، كنَصَرَ، وكَرُمَ، بُرُودةً، وماءٌ بَرْدٌ - بفتح، فسكون - وباردٌ، وبَرُودٌ - بالفتح -، وبُرَادٌ - بالضمّ، وتخفيف الراء - ومَبْرُودٌ، وبَرَدَهُ - بالتخفيف - وبَرّده - بالتشديد -: جعله باردًا، أو خَلَطه بالثلج. انتهى

(2)

.

وفي "المصباح": بَرُد الشيءُ بُرُودةً، مثلُ سَهُلَ سُهُولةً: إذا سكنت حرارته، وأما بَرَدَ بَرْدًا، من باب نصر، فيُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، يقال: بَرَدَ الماءُ، وبَرَدتُهُ، فهو باردٌ ومَبْرُودٌ، وهذه العبارة تكون من كلّ ثلاثيّ يكون لازمًا ومتعدّيًا، قال الشاعر [من الطويل]:

وَعَطِّلْ قَلُوصِي فِي الرِّكَابِ فَإِنَّهَا

سَتبرُدُ أَكْبَادًا وَتُبْكِي بَوَاكِيَا

وبَرَّدتُهُ بالتثقيل مبالغةٌ. انتهى

(3)

.

(عَلَيْهِمُ) متعلّق بـ "بَرَدَ"(الْمَاءُ) بالرفع على الفاعليّة، وقوله:(أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيدِ) في تأويل المصدر فاعل "أوشك"، أي أوشك تيمّمهم بالصعيد، و"أوشك" هنا تامّة لا تحتاج إلى خبر، وذلك أنها من أفعال المقاربة التي تنسخ المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر خبرًا لها، وتُسمّى ناقصةً، نحو: أوشك زيد أن يقوم، وتُستعمل أيضًا تامّة، وهي التي تكتفي بمرفوعها، نحو: أوشك أن يقوم زيد، وكهذا الحديث، ومثلها في ذلك "عسى"، و"اخلولق"، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

بَعْدَ "عَسَى""اخْلَوْلَقَ""أَوْشَكْ" قَدْ يَرِدْ

غِنًى بِـ "أَنْ يَفْعَلَ" عَنْ ثَانٍ فُقِدْ

(فَقَالَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (لِعَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (ألمْ تَسْمَعْ) قال في "الفتح": ظاهره أن ذكر أبي موسى لقصّة عمّار متأخّرٌ عن احتجاجه بالآية، ووقع في رواية للبخاريّ من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش أن احتجاجه بالآية متأخر عن احتجاجه بحديث عمّار رضي الله عنه، قال: ورواية حفص

(1)

1/ 544.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" 1/ 276.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 42 - 43.

ص: 456

أرجح؛ لأن فيها زيادة تدلّ على ضبط ذلك، وهي قوله: فَدَعنا من قول عمّار، كيف تصنع بهذه الآية؟. انتهى

(1)

. (قَوْلَ عَمَّار) بالنصب على المفعوليّة لـ "تسمع"(بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يقال: بعثه، وابتعثه بمعنى أرسله، فابتعث، وهو من المطاوع، ومنه بعثت الناقة: أثرتها، وبعثه من منامه: أي أنبهه، وبعث الله الموتى: أي نشرهم ليوم البعث، وانبعث في السير: أي أسرع فيه (فِي حَاجَةٍ) هي رعاية الإبل، ففي رواية النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه:"أتذكر يا أمير المؤمنين، حيث كنت بمكان كذا وكذا، ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنا أجنبنا"، وفي رواية المصنّف التالية:"أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريّة، فأجنبنا"، وفي رواية أحمد في "مسنده" من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت فأجنبتُ"(فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ) وفي رواية ابن أبي أبزى الآتية: "فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعّكت في التراب"(فَتَمَرَّغْتُ) أي تقلّبتُ، قال ابن الملقّن: التمرّغ في الشيء: التمعّك فيه، ويقال للموضع المتمرَّغ فيه: متمرَّغٌ، ومَرَاغ، ومَرَاغة. انتهى. (فِي الصَّعِيدِ) أي في التراب، كما في الرواية الأخرى (كَمَا تَمَرَّغُ) بحذف إحدى التاءين؛ تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}

[القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ فِيهِ

عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

أي تتمرّغ الدابّة، أي تتقلّب.

وفيه دليلٌ على أنْ عمّارًا رضي الله عنه كان عنده علم بأصل التيمّم، وإنما لا يعلم كيفيّته، وكأن عمّارًا رضي الله عنه استعمل القياس في هذه المسألة؛ لأنه لَمّا رأى أن التيمّم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء، رأى أن التيمّم عن الغسل يقع على هيئة الغسل

(2)

.

(الدَّابَّةُ) في الأصل كلُّ ماش على وجه الأرض، وقد أخرجها العرف عن هذا الأصل، فاستعملها أهل العراق في الفَرس خاصّةً، وأهل مصر في

(1)

"الفتح" 1/ 544.

(2)

"الفتح" 1/ 529.

ص: 457

الحمار، قال الجوهريّ: وقولهم: أكذب مَنْ دَبّ ودَرَج: أي أكذب الأحياء والأموات

(1)

.

(ثُمَّ أتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ) أي تيمّمه للجنابة بالتمرّغ، زاد في رواية النسائيّ:"فضحك"، وإنما ضحك تعجّبًا من فعله ذلك (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم معلّمًا له كيفيّة التيمّم المشروع في الجنابة ("إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ) بفتح أوله: أي يجزيك عن التمرّغ (أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا") فيه إطلاق القول على الفعل مجازًا، وقد تقدّم غير مرّة.

قال الحافظ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن الواجب في التيمّم هي الصفة المشروحة في هذا الحديث، والزيادة على ذلك لو ثبت بالأمر دلّ على النسخ، ولزم قبولها، لكن إنما وردت بالفعل، فتُحمل على الأكمل، وهذا هو الأظهر من حيث الدليل. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: خاطبه بـ "إنما" ليحصر له القدر الواجب، وهو أن يضرب الأرض بيديه، ثم يمسح وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح كفّيه، ولم يُختَلَف أن الوجه كلّه لا بدّ من استيعابه، واختَلَفوا هل الواجب أن يبلغ إلى المرفقين، أم يقتصر على الكوعين؟ وإنما يُستحبّ الإيصال إلى المرفقين، فإن اقتصر على الكوعين أجزأه، وهذا مذهب ابن القاسم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قول الحافظ: "فتُحمل على الأكمل" فيه نظر، وكذا قول القرطبيّ: "ثم يضرب ضربة أخرى

إلخ"، فيه نظر أيضًا، فمن أين له تكرار الضرب؟ فإن الثابت في الحديث الصحيح في كيفيّة التيمّم ضربة واحدة للوجه والكفين، فما زاد على هذا فليس عليه دليلٌ يصحّ الاعتماد عليه، فلا ينبغي القول باستحبابه، وسيأتي تحقيق القول فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(ثُمَّ) بيّن المعنى المراد بالقول المشار إليه بقوله: (ضَرَبَ بِيَدَيْهِ) وفي رواية النسائيّ: "بكفّيه"(الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً) زاد في رواية: "ثم نفخ فيهما"، وفي رواية:"ثم أدناهما من فيه"، وهو كناية عن النفخ، وفيهما إشارة إلى أنه

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 135 - 136.

(2)

"المفهم" 1/ 615.

ص: 458

كان نفخًا خفيفًا، وفي رواية:"تَفَلَ فيهما"، و"التَّفْلُ" قال أهل اللغة: هو دون الْبَزْق، والنَّفْثُ دونه.

قال الحافظ رحمه الله: وسياق هؤلاء يدلّ على أن التعليم وقع بالفعل، ولمسلم من طريق يحيى بن سعيد - يعني الرواية التالية - والإسماعيليّ من طريق يزيد بن هارون وغيره، كلهم عن شعبة أن التعليم وقع بالقول، ولفظهم:"إنما كان يكفيك أن تضرب الأرضَ بيدك"، زاد يحيى:"ثم تنفُخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك".

واستُدلّ بالنفخ على استحباب التخفيف للتراب، وعلى سقوط استحباب التكرار في التيمّم؛ لأن التكرار يستلزم عدم التحفيف

(1)

، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ مَسَحَ) صلى الله عليه وسلم (الشِّمَالَ) بكسر الشين: خلاف اليمين، وجمعها أَشْمُلٌ، مثلُ: ذِرَاع وأذرُع، وشمائل أيضًا

(2)

. (عَلَى الْيَمِينِ) ويقال أيضًا: الْيُمنى، وهي مؤنّثةٌ، وجمعها: أَيْمُنٌ، وأيمانٌ.

قال القرطبيّ رحمه الله: ومسحه الشمال على اليمين مراعاةٌ لحال اليمين حتى تكون هي المبدوء بها

(3)

.

(وَظَاهِرَ كفَّيْهِ) بالنصب عطفًا على "الشِّمالَ"، أي مسح ظاهر كفّيه، فهو من عطف المفصل على المجمل، فإن قوله:"الشمال على اليمين" فيه إجمال من حيث شموله لكلّ اليدين، ففصّله بأن المراد مسح ظاهر كفّ اليمين بالشمال.

و"الكفّ" مؤنّثةٌ وقد تُذكَّر، سُمّيت بذلك؛ لأنها تكُفّ الأذى عن البدن: أي تدفعه، وقيل: لأن بها تُضمّ الأشياء وتُجْمَع.

[فائدة]: في الإنسان عشرة أشياء أولها كاف: كُوعٌ، وكُرسوعٌ، وكفّ، وكَتِفٌ، وكَتَدٌ - بفتح التاء وكسرها -، وهو مجتمع الكتفين، وقيل: ما بين الكاهل والعنق، وكاهلٌ، وكُليةٌ

(4)

، وهو ما بين الكتفين، وكبِدٌ، وكَمَرةٌ، وهي

(1)

"الفتح" 1/ 529.

(2)

"المصباح" 1/ 323.

(3)

"المفهم" 1/ 615.

(4)

ويقال: الكلوة بالواو لغة لأهل اليمن، قال الأزهريّ: الكليتان للإنسان ولكل =

ص: 459

الحشفة، وكعبٌ، أفاده ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

وقد نظمت ذلك بقولي:

وَجَاءَ فِي الإِنْسَانِ عَشْرٌ تُبْتَدَا

أَوَّلُهَا بِالْكَافِ نِلْتَ الرَّشَدَا

كُوعٌ وَكُرْسُوعٌ وَكَفٌّ وَكَتِفْ

وَكَتَدٌ وَكَاهِلٌ مِنْهَا عُرِفْ

وَكُلْيَةٌ كَعْبٌ وَكَبْدٌ كَمَرَهْ

قَرَّبْتُهَا نَظْمًا لِقَوْمٍ بَرَرَهْ

(وَوَجْهَهُ) بالنصب أيضًا، أي ومسح وجهه أيضًا، والوجه: مأخوذ من المواجهة، ويقال له: الْمُحَيّا أيضًا

(2)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وكونه في هذه الرواية أخّر الوجه في الذكر، وكونه في الرواية الثانية قدّمه يدلّ على عدم ترتيب الواو. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: وقع في رواية للبخاريّ: "ثم مسح بهما ظهر كفّه بشماله، أو ظهر شماله بكفّه، ثم مسح بهما وجهه"، قال في "الفتح": كذا في جميع الروايات بالشكّ، وفي رواية أبي داود تحرير ذلك، من طريق أبي معاوية أيضًا، ولفظه:"ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله، على الكفين، ثم مسح وجهه".

وفيه الاكتفاء بضربة واحدة في التيمم، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء، واختاره.

وفيه أن الترتيب غير مُشْتَرَط في التيمم، قال ابن دقيق العيد: اختُلِف في لفظ هذا الحديث، فوقع عند البخاري بلفظ:"ثُمّ"، وفي سياقه اختصار، ولمسلم بالواو، ولفظه:"ثم مَسَحَ الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه"، وللإسماعيلي ما هو أصرح من ذلك، ولفظه من طريق هارون الحمّال، عن أبي معاوية:"إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفُضَهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك". انتهى

(4)

.

= حيوان، وهما لحمتان حمراوان لازقتان بعظم الصلب عند الخاصرتين، وهما منبت زرع الولد. اهـ. "المصباح" 2/ 540.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 136 - 137 ببعض تصرّف.

(2)

"الإعلام" 2/ 137.

(3)

"المفهم" 1/ 615.

(4)

"الفتح" 1/ 544.

ص: 460

[تنبيه آخر]: قال الكرمانيّ عند شرح رواية البخاريّ المذكورة: اعلم أن هذه الكيفيّة مشكلة من جهات:

الأول: مما ثبت من الطريق الآخر أنه ضربتان، وقال النوويّ: الأصحّ المنصوص ضربتان.

والثاني: من جهة الاكتفاء بمسح ظهر كفّ واحدة، وبالاتفاق مسح كلا ظهري الكفين واجبٌ، ولم يُجز أحد الاجتزاء بأحدهما.

والثالث: من حيث إن الكفّ إذا استُعمل ترابه في ظهر الشمال كيف مسح به الوجه، وهو صار مستعملًا؟.

والرابع: من جهة أنه لم يمسح الذراعين.

والخامس: من جهة عدم مراعاة الترتيب، وتقديم الكفّ على الوجه. انتهى.

قال العينيّ رحمه الله: هذه خمسة إشكالات أوردها، ثم تكلّف في الجواب عنها، ثم قال في آخره: هذا غاية وُسعنا في تقريره، ولعلّ عند غيرنا خير منه.

أقول - وبالله التوفيق -: ملخّص الجواب عن الأول بالمنع بأنا لا نسلّم أن هذا التيمّم كان بضربة واحدة.

قلت: منعه ممنوع؛ لأنه كان بضربة واحدة؛ لأنه صرّح فيه بأن الضربة الواحدة كافيةٌ، فحمل هذا على الجواز، وما ورد من الزيادة عليها على الكمال.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وما ورد

إلخ" فيه أن ما ورد لا يصحّ، فلا حاجة إلى حمله على الكمال، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

قال: وقوله: وقال النوويّ: الأصحّ المنصوص ضربتان اعتراض على الحديث بالمذهب، وهو غير صحيح.

وأجاب عن الثاني بأنه لا بدّ من تقدير: ثم ضَرَبَ ضربةً أُخرى، ومسح بهما يديه.

قلت: لا يحتاج إلى هذا التقدير؛ لأن أصل الفرض يقوم بضربة واحدة كما في الوضوء، على أن مذهب جمهور العلماء الاكتفاء بضربة واحدة، كذا

ص: 461

ذكره ابن المنذر، واختاره هو أيضًا، والبخاريّ أيضًا، فلذلك بوّب عليه، فقال:"باب التيمّم ضربةٌ".

وأجاب عن الثالث بما لا طائل تحته، والجواب السديد ملخّصًا: أن التراب لا يأخذ حكم الاستعمال، وهذا الحكم في الماء دون التراب.

وأجاب عن الرابع بمنع إيجاب مسح الذراعين، وأكّد ذلك بقوله: ولهذا قالوا: مسح الكفين أصحّ في الرواية، ومسح الذراعين أشبه بالأصول.

قلت: فعلى هذا الإشكال الرابع غير وارد من الأول.

وأجاب الخامس بمنع إيجاب الترتيب، كما هو مذهب الحنفيّة.

قلت: هذه استعانة برأي من هو مخالف رأيه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود لأبي موسى رضي الله عنهما (أَوَ لَمْ تَرَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (لَمْ يَقْنَعْ) أي لم يَرْضَ، وهو بفتح النون، مضارع قَنِعَ بكسرها، يقال: قَنِعْتُ به قَنَعًا، من باب تَعِبَ، وقَنَاعَةً: إذا رَضِيتَ به، وهو قَنِعٌ، وقَنُوعٌ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أقنعني

(2)

. (بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟) رضي الله عنه؛ أي لأنه ذكّره قضيّةً متعلِّقة به، فلم يذكرها.

قال القرطبيّ رحمه الله: لم يُنكر عمر على عَمَّار إنكارَ قاطعٍ بردّ الخبر؛ لكون عمّار غير ثقة، بل منزلةُ عمّار، وعِظَم شأنه ومكانته كلُّ ذلك معلوم، وإنما كان ذلك من عمر رضي الله عنه؛ لأنه لَمّا نَسَبه إليه، ولم يَذْكُره توقّف عمر، ولذلك قال له:"نولِّيك من ذلك ما تولَّيتَ"، أي ما تحمّلتَ عهدته مما ذكرته. انتهى بتصرّف

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "لم يقنع بقول عمّار" وجه عدم قناعته بقول عمّار هو أنه كان معه في تلك القضيّة، ولم يتذكّر عمر ذلك أصلًا، ولهذا قال لعمّار فيما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى:"اتّق الله يا عمّار"، أي فيما ترويه، وتثبّت فيه فلعلّك نسِيتَ، أو اشتبه عليك، فإني كنت معك، ولا أتذكّر شيئًا من هذا، ومعنى قول عمّار:"إن شئت لم أحدّث به": إن رأيتَ المصلحة

(1)

"عمدة القاري" 4/ 55.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 517.

(3)

"المفهم" 1/ 615.

ص: 462

في الإمساك عن التحديث به راجحةً على التحديث وافقتك وأمسكتُ، فإني قد بلّغته، ولم يبقَ عليّ حرج، فقال له عمر رضي الله عنه:"إنا نوليك ما تولّيتَ": أي لا يلزم من كوني لا أتذكّره أن لا يكون حقًّا في نفس الأمر، فليس لي منعك من التحديث به. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمّار

(2)

رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[27/ 824 و 825 و 826 و 827](368)، و (البخاريّ) في "التيمّم"(338 و 339 و 340 و 341 و 342 و 343 و 345 و 346 و 347)، و (أبو داود) في "الطهارة"(345 و 346 و 347)، و (الترمذيّ) فيها (144)، و (النسائيّ) فيها (1/ 170)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 63)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 159) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 265 و 319 و 320)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(269)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1303 و 1304 و 1305 و 1307)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 112)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 214)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 183)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(125)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(308)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(875 و 876 و 877 و 878 و 879 و 880 و 881)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(811 و 812 و 813)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة التيمّم للجنب، وبه قال العلماء كافّة، إلا ما حُكي

(1)

"عمدة القاري" 4/ 56.

(2)

هذا هو الصواب، وهو كون الحديث من مسند عمّار رضي الله عنه، وقد وقع لي سهو في شرح النسائيّ، حيث جعلته من مسند أبي موسى رضي الله عنه؛ فليُتنبّه.

ص: 463

عن عمر وابن مسعود، وإبراهيم النخعيّ، وقيل: إن الأولين رجعا، وقد تقدّم تحقيق القول في هذا قريبًا.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الضرب باليدين على الصعيد.

3 -

(ومنها): أنه دليل للمذهب الصحيح، وهو الاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): أن فيه دلالة على أنه يكفي المسح على الكفّين، ولهذا خاطبه بلفظ:"إنما"؛ ليحصر القدر المطلوب فيه، وسيأتي تحقيقه أيضًا - إن شاء الله تعالى -.

5 -

(ومنها): أن فيه أن من أُرسل في أمر عظيم ينبغي أن يتحفّظ، ولا يُشْهِر ما أُرسل فيه إذا رأى ذلك مصلحة، ويفعل كما فَعَل عمّار حيث لم يصرّح بالحاجة ما هي؟.

6 -

(ومنها): أن المتأوّل المجتهد لا إعادة عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمّارًا بالإعادة، وإن كان قد أخطأ في اجتهاده؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، قاله ابن الملقّن، وهو محلّ نظر؛ فليُتأمّل.

7 -

(ومنها): جواز الاجتهاد في حياته صلى الله عليه وسلم، فإن عمّارًا رضي الله عنه اجتهد في صفة التيمّم، وقد اختُلف فيه، والأصحّ جوازه مطلقًا، وقيل: لا يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز للغائب من حضرته، ولا يجوز لمن فيها

(1)

.

8 -

(ومنها): أن تقديمه في هذه الرواية مسح اليدين على الوجه يدلّ على عدم وجوب الترتيب في التيمّم.

9 -

(ومنها): جواز التيمّم بالمستعمل، حيث مسح وجهه بما مسح به كفّيه، وفيه خلاف، والأرجح الجواز؛ لما ذكرنا.

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث، ما نصّه: في تعليم المصطفى صلى الله عليه وسلم التيمّم، والاكتفاء فيه بضربة واحدة للوجه والكفّين أبين البيان بأن المؤدَّى به الفرض مرّةً جائزٌ أن يؤدّى به الفرض ثانيًا، وذلك أن

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 63.

ص: 464

المتيمّم عليه الفرض أن يُمِّم وجهه وكفّيه جميعًا، فلما أجاز صلى الله عليه وسلم أداء الفرض في التيمّم لكفّيه بفضل ما أدَّى به فرضَ وجهه صحّ أن التراب المؤدَّى به الفرض بعضو واحد جائز أن يؤدَّى به فرض العضو الثاني به مرّةً أخرى، ولَمّا صحّ ذلك في التيمّم صحّ ذلك في الوضوء سواءً. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

.

10 -

(ومنها): أن من فعل ما أُمر به بزيادة أنه يصحّ؛ لأن عمّارًا رضي الله عنه تمرّغ، فاكتفى بالتمرّغ من مسح كفّيه، ووجهه؛ لاندراج أعضاء التيمّم في التمرّغ.

11 -

(ومنها): أنه يُستفاد منه مراجعة أهل العلم فيما اجتهد فيه، فإن عمّارًا رضي الله عنه راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما اجتهد فيه.

12 -

(ومنها): أن العلماء ينبغي لهم بيان وجه الصواب لمن راجعهم دون تعنيف وتوبيخ بخطئه.

13 -

(ومنها): أن فيه البيان بالفعل؛ لأنه أبلغ من القول في التفهيم، كما بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمّار بالفعل.

14 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "فتمرّغت في الصعيد كما تمرّغ الدابّة"، كأنه استعمالٌ لقياس لا بُدّ فيه من تقدّم العلم بمشروعيّة التيمّم، وكأن عمّارًا لَمّا رأى أن الوضوء خاصّ ببعض الأعضاء، وكان بدله، وهو التيمّم خاصًّا وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعمّ جميع البدن عامًّا لجميع البدن.

وقال أبو محمد بن حزم الظاهريّ: في هذا الحديث إبطال القياس؛ لأن عمّارًا قدّر أن للمسكوت عنه من التيمّم للجنابة حكم الغسل للجنابة؛ إذ هو بدل منه، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط.

والجواب عما قال أن الحديث دلّ على بطلان هذا القياس الخاصّ، ولا يلزم من بطلان الخاصّ بطلان العامّ، والقائسون لا يعتقدون صحّة كلّ قياس،

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 81.

ص: 465

ثم في هذا القياس شيء آخر، وهو أن الأصل الذي هو الوضوء قد أُلغي فيه مساواة البدل له، فإن التيمّم لا يعمّ جميع أعضاء الوضوء، وصار مساواة البدل للأصل مُلْغًى في محلّ النصّ، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع.

بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلًا على صحّة أصل القياس، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك كذا وكذا" يدلّ على أنه لو كان فَعَلَهُ لكفاه، وذلك دليلٌ على صحّة قولنا: لو كان فعله لكان مصيبًا، ولو كان فَعَلَه لكان قائسًا للتيمّم للجنابة على التيمّم للوضوء، على تقدير أن يكون اللمس المذكور في الآية ليس هو الجماعَ؛ لأنه لو كان عند عمّار هو الجماعَ لكان حكم التيمّم مبيّنًا في الآية، فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرّغ، فإذن فعله ذلك يتضمّن اعتقاد كونه ليس عاملًا بالنصّ؛ بل بالقياس، وحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كان يكفيه التيمّم على الصورة المذكورة، مع ما بيّنّا من كونه لو فَعَل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنصّ. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

.

وكتب الصنعانيّ رحمه الله على قوله: "فإذن فعله ذلك

إلخ"، ما نصّه: أقول: تمرّغه قد يتضمّن أنه فعله اعتمادًا على القياس؛ إذ لو عَمِل بالنصّ لما جاز أعضاء التيمّم؛ لأن النصّ قد بيّن كمّيّة الأعضاء التي تُطهَّر بالتراب في جنابة ووضوء، فلمّا تمرّغ دلّ على أنه قاس الجنابة على الحدث الأصغر في أنه يرفعها التراب كما يرفعه، وألحق التراب بالماء في عموم البدل، فأقرّ صلى الله عليه وسلم القياس الأول، ونفى الثاني.

ويَحْتَمِل أنه قد عَلِم الحكم، وهو أن التراب يرفع الجنابة من الآية، وحَمَل الملامسة على الجماع، وحَمَل قوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] على أنه بيان لكمّيّة الأعضاء في تيمّم الوضوء وكيفيّته، وأنه أُحيل بيان كيفيّته وكمّيّته عن الجنابة على القياس على الماء، فَعَمَّ بالتمرّغ البدن قياسًا للتراب على الماء بجامع أنه يطهّر مثله، فأبطل صلى الله عليه وسلم هذا القياس، وأبان له أن الحكم في ذلك في الوضوء والغسل واحدٌ، وأن النصّ قد شَمِلَ الأمرين، وأنه أخطأ في القياس مع وجود النصّ، وعلى كلّ تقدير لم تتمّ لأبي محمد الحجة

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 431 - 432 بنسخة الحاشية.

ص: 466

بالحديث على بطلان القياس من حيث هو، وإبطاله صلى الله عليه وسلم له ليس إلا لاختلاله، والمفهوم اعتباره كما سبقت الإشارة إليه. انتهى كلام الصنعاني رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة التيمّم:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في كيفية التيمم:

فقالت طائفة: يبلغ به الوجه واليدين إلى الآباط، هكذا قال الزهري.

وقالت طائفة: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، هذا قول ابن عمر، والحسن، والشعبيّ، وسالم، ورُوي ذلك عن جابر.

وقال النخعيّ: أعجب إليّ أن يبلغ به إلى المرفقين، وهذا قول مالك، والليث، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وسفيان، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

وقال أبو ثور: ضربتين أحب إليّ.

قال: ومن حجة بعض القائلين بهذا القول أحاديث ثلاثة:

[أحدها]: حديث نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر إلى ابن عباس في حاجة، فكان من حديثه يومئذ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بال، قال: فمر عليه رجل، فسلّم عليه، فلم يرد عليه السلام، حتى ضرب بيديه على الحائط، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح بهما ذراعيه، ثم رد عليه السلام.

[والحديث الثاني]: رواه الأعرج، عن أبي الصِّمّة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تيمم، فمسح وجهه وذراعيه.

[والحديث الثالث]: ما رواه الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جدّه، عن أسلع، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأصابتني جنابة، فقال:"يا أسلع قُمْ، فارحل لي"، فقلت: أصابتني جنابة، فسكت، فنزلت آية التيمم، فأراني التيمم، فضرب بيديه، فمسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما.

وقالت طائفة: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الرسغين، رُوي هذا القول عن عليّ.

(1)

"العدّة حاشية العمدة" 1/ 432 - 433.

ص: 467

وقالت طائفة: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهذا قول عطاء، ومكحول، والشعبيّ، ورُوي ذلك عن ابن المسيّب، والنخعيّ، وبه قال الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.

واحتجت هذه الفرقة بحُجَج، فأعلى ما احتَجَّت به الأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الدالة على صحة هذا القول، كحديث عمّار رضي الله عنه هذا المتّفق عليه.

قال ابن المنذر رحمه الله: وأما الأخبار التي رُويت عن عمار التي فيها ذكر اختلاف أفعالهم حين نزلت آية التيمم قبل أن يأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُعَلِّمهم صفة التيمم مما فعلوه عند نزول الآية احتياطًا، فلما جاؤوه علّمهم، فقال لعمار:"إنما كان يكفيك هذا"، وفي قوله:"إنما كان يكفيك هذا"، دليل على أن الفعل الذي كان منهم كان قبل أن يُعْلِمهم، والدليل على صحة هذا القول أن عمارًا عَلَّمهم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في ولايته أيام عمر على الكوفة التيمم ضربة للوجه والكفين.

ومما احتجت به هذه الفرقة أنهم قد أجمعوا على أن عليه في التيمم أن يمسح بوجهه وكفيه، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فثبت فرض ما أجمعوا عليه بالكتاب، واختلفوا فيما زاد على الوجه والكفين، ولا يجب الفرض باختلاف، ولا حجة مع قائله، وفي تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه صفة التيمم، دليلٌ على معنى ما أراد الله تعالى بقوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]؛ لأنه المبين عن الله معنى ما أراد، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقد بَيَّن لَمّا قال لعمار:"إنما يكفيك هذا" أن الذي فرض الله مسح الوجهين والكفين.

وقد احتَجَّ مكحول بحجة أخرى، قال: لَمَّا قال تعالى في الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، وقال في آية التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، ولم يستثن إلى المرافق، ثم قال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، قال مكحول: فإنما تُقْطَع يد السارق الكفّ من الْمَفْصِل.

قال ابن المنذر رحمه الله: قد ذكرنا معاني الأخبار التي فيها ذكر تيممهم قبل أن يأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعليمه إياهم، فأما الأخبار الثلاثة التي احتَجَّ بها مَن رأى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فمعلولة كلها، لا يجوز أن يُحْتَجَّ بشيء منها، فمنها حديث محمد بن ثابت، ولم يرفعه غيره،

ص: 468

وقد دَفَع غيرُ واحد من أهل العلم حديثه، قال يحيى بن معين: محمد بن ثابت ليس بشيء، وهو الذي رَوَى حديث نافع، عن ابن عمر في الضربتين يُضَعَّف، وقال البخاريّ: محمد بن ثابت، أبو عبد الله البصريّ في حديثه عن نافع، عن ابن عمر في التيمم، خالفه أيوب، وعبيد الله، وابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر فعله، فسَقَط أن يكون هذا الحديث حجةً؛ لضعف محمد في نفسه، ومخالفة الثقات له، حيث جعلوه من فعل ابن عمر.

وأما حديث إبراهيم بن أبي يحيى، فقد دفعه جماعة، نَهَى عنه مالك، وشَهِد عليه يحيى بن معين وابن أبي مريم بالكذب، وقال يحيى بن سعيد: كنا نتهمه بالكذب، وتركه ابن المبارك، وتكلم فيه أحمد، قال: كان يأخذ حديث الناس، فيجعله في كتبه، وقال يحيى بن معين: إبراهيم ليس بثقة كذّاب رافضيّ، وقد كثر كلام المتكلمين في إبراهيم.

وأما حديث الربيع بن بدر، فهو إسناد مجهول؛ لأن الربيع لا يُعْرَف برواية الحديث، ولا أبوه، ولا جده، والأسلع غير معروف، فالاحتجاج بهذا الحديث يَسْقُط من كل وجه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "يكفيك الوجه والكفّان"، ما نصّه: ويستفاد من هذا اللفظ أن ما زاد على الكفين ليس بفرض، كما تقدم، واليه ذهب أحمد، وإسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن خزيمة، ونقله ابن الجهم وغيره عن مالك، ونقله الخطابيّ عن أصحاب الحديث، وقال النوويّ: رواه أبو ثور وغيره عن الشافعيّ في القديم، وأنكر ذلك الماورديّ وغيره، قال: وهو إنكار مردود؛ لأن أبا ثور إمام ثقة، قال: وهذا القول، وإن كان مرجوحًا - أي في المذهب - فهو القويّ في الدليل. انتهى كلامه في "شرح المهذب"، وأجاد في المقال.

وقال في "شرح مسلم" في الجواب عن هذا الحديث: إن المراد به بيان صورة الضرب للتعليم، وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التيمم.

وتُعُقِّب بأن سياق القصة يدلّ على أن المراد به بيان جميع ذلك؛ لأن

(1)

"الأوسط" 2/ 47 - 54.

ص: 469

ذلك هو الظاهر، من قوله:"إنما يكفيك"، وأما ما استَدَلَّ به مَن اشترط بلوغ المسح إلى المرفقين، من أن ذلك مشترط في الوضوء، فجوابه أنه قياس في مقابلة النصّ، فهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه مَن لم يشترط ذلك بقياس آخر، وهو الإطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النصّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه في "الفتح" من الردّ على من اشترط بلوغ المسح إلى المرفقين مستدلًّا بالقياس بأن ذلك قياس فاسد؛ لمعارضته النصّ تحقيق نفيس جدًّا.

وقال قبل ذلك عند قول البخاريّ: "بابٌ التيممُ للوجه والكفين"، ما نصّه: أي هو الواجب المجزئ، وأَتَى بذلك بصيغة الجزم، مع شهرة الخلاف فيه؛ لقوّة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يَصِحَّ منها سوى حديث أبي جُهيم وعمّار رضي الله عنهما، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم، فورد بذكر اليدين مُجْمَلًا

(1)

، وأما حديث عمار، فورد بذكر الكفين في "الصحيحين"، وبذكر المرفقين في "السنن"، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع ففيهما مقال، وأما رواية الآباط، فقال الشافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكل تيمم صحّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أَمَر به، ومما يُقَوِّي رواية "الصحيحين" في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار رضي الله عنه كان يُفتي بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابيّ المجتهد. انتهى ما في "الفتح"

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في المسألة أن الراجح قول من قال: إن التيمّم بضربة واحدة للوجه والكفّين فقط، ولا يُشرع المجاوزة إلى المرفقين؛ لعدم صحّة الدليل على ذلك، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

سيأتي حديث أبي جهيم قريبًا.

(2)

"الفتح" 1/ 530.

ص: 470

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[825]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَثنَا عَبْدُ الْوَاحِد، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا"، وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إِلَى الْأَرْض، فَنَفَضَ يَدَيْه، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)، وله أكثر من (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ

إلخ) الضمير لعبد الواحد، يعني أن عبد الواحد ساق القصّة التي جرت بين عمّار، وعمر بن الخطّاب، ثم بين أبي موسى، وعبد الله بن مسعود، نحو ما ساقها أبو معاوية، إلا أنه قال: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ".

وقوله: (وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ) فاعل "ضرب" ضمير عبد الواحد، كما بيّنته رواية أبي عوانة في "مسنده"، ولفظه: "وضرب عبد الواحد بيده الحائط مرّة واحدةً، فحكى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم مسح عبد الواحد يديه جميعًا

".

وقوله: (فَنَفَضَ يَدَيْهِ) أي حرّكهما، هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"ثم نفخ فيهما"، يقال: نفضه نفضًا، من باب نصر: إذا حرّكه؛ ليزول عنه الغبار ونحوه، فانتفض: أي تحرّك لذلك، ونفضتُ الوَرَقَ من الشجرة نَفْضًا: أسقطته، والنَّفَضُ بفتحتين: ما تساقط، فَعَلٌ بمعنى مفعول، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الواحد هذه التي أحالها المصنّف على رواية أبي معاوية ساقها ابن حبّان في "صحيحه"(4/ 130)، فقال:

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 618.

ص: 471

(1305)

أخبرنا عمر بن محمد الهمدانيّ، قال: حدثنا بشر بن معاذ العَقَديّ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود: لو أن جُنُبًا لم يجد الماء شهرًا لم يُصَلِّ؟ قال عبد الله: لا، قال أبو موسى: أما تذكر حين قال عمار بن ياسر لعمر: يا أمير المؤمنين، ألا تتقي الله؟ ألا تذكر حين بعثني وإياك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإبل فأصابتني جنابة، فتمعكت في التراب، فلما رجعت إلى رسول الله أخبرته، فقال رسول الله:"إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"، وضرب بيده إلى الأرض، ومسح وجهه وكفيه؟ قال عبد الله: لا جَرَم ما رأيت عمر قَنِعَ بذلك، قال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة النساء: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [43]؟ فقال عبد الله: إنا لو رَخَّصنا لهم في ذلك، يوشك إذا بَرَد على جلد أحدهم الماء أن يتيمم، قال الأعمش: فقلت لشقيق: أما كان لعبد الله غير ذلك؟ قال: لا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[826]

(

) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ -، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَني الْحَكَمُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَجُلًا أتى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبْنَا، فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَل، وَأَمَّا أنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفيْكَ"؟ فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللهَ يَا عَمَّارُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ.

قَالَ الْحَكَمُ: وَحَدَّثَنِيهِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيه، مِثْلَ حَدِيثِ ذَرٍّ. قَالَ: وَحَدَّثَني سَلَمَةُ، عَنْ ذَرٍّ، فِي هَذَا الإسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَ الْحَكَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ).

ص: 472

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ، صاحب حديث، من صغار [10](ت سنة بضع و 250) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) البصريّ الإمام الحجة الناقد الْجِهْبذ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام العلم الحجة الناقد الجِهْبذ القدوة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دَلَّسَ [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدَّم في "المقدّمة" 1/ 1.

5 -

(ذَرّ) بن عبد الله بن زُرَارة الْمُرْهبيّ - بضمّ الميم، وسكون الراء، وكسر الهاء - الْهَمْدانيّ، أبو عُمَر الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [6].

رَوَى عن عبد الله بن شداد بن الهاد، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وسعيد بن جبير، والمسيِّب بن نَجَبَة، ويُسَيع الحضرميّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عُمر، والأعمش، ومنصور، والحكم بن عُتيبة، وزُبيد الياميّ، وسلمة بن كُهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد: ما بحديثه بأسٌ، وقال ابن معين، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال أبو داود: كان مرجئًا، وهَجَره إبراهيم النخعيّ، وسعيد بن جبير للإرجاء، وذكر أبو مِخْنَف، عن عُمر بن ذَرٍّ أن أباه شَهِد مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة (80)، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل الكوفة، وكان يَقُصّ، وقال البخاريّ: صدوق في الحديث، وكذا قال الساجيّ، وزاد: كان يرى الإرجاء، ووثقه ابنُ نمير، وقال أحمد بن حنبل: لم يسمع من عبد الرحمن بن أبزى.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

ص: 473

6 -

(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى) - بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زاي، مقصورًا - الْخُزاعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وعن ابن عباس، وواثلة، وروى عنه جعفر بن أبي المغيرة، وذَرّ بن عبد الله، وطلحة بن مُصَرِّف، وعَزْرة بن عبد الرحمن، وقتادة، وعبدة بن أبي لبابة، وزُبيد الياميّ، وسلمة بن كُهيل، وقيل: بينهما ذَرّ بن عبد الله، وحبيب بن أبي ثابت، والصحيح أن بينهما ذرّ بن عبد الله، والحكم بن عتيبة، وعطاء بن السائب، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: قال أبو زرعة: روايته عن عثمان مرسلةٌ، وقال أحمد بن حنبل: هو حسن الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

7 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الرحمن بن أبزى الخزاعيّ، مولى نافع بن عبد الحارث، مختَلَف في صحبته، استخلَفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة أيام عمر، وقال لعمر: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، ثم سكن الكوفة.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وعمار، وأُبي بن كعب، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه سعيد، وعبد الله بن أبي الْمُجالد، والشعبيّ، وأبو مالك غَزْوان الغِفَاريّ، وأبو إسحاق السبيعيّ، وغيرهم، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال ابن أبي داود: لم يُحَدِّث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من التابعين، إلا ابن أَبْزَى، وقال البخاريّ: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وصَلَّى خلفه، وقال ابن عبد البر: استعمله عليّ على خُراسان، وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أحداث الأسنان، وممن جزم بأن له صحبةً خليفةُ بن خياط، والترمذيّ، ويعقوب بن سفيان، وأبو عروبة، والدارقطني، والْبَرْقيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم، وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن أبي الْمُجالد أنه سأل عبد الرحمن بن أبزى، وابن أبي أوفى عن السلف، فقالا: كنا نُصيب المغانم مع النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث، وقال ابن سعد: أخبرنا أبو عاصم، أنا شعبة، عن

ص: 474

الحسن بن عمران، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، أنه صلَّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان إذا خفض لا يكبر.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بما ذُكر أن الأرجح ثبوت الصحبة لعبد الرحمن بن أبزى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديث واحد فقط برقم (368).

8 -

(سَلَمَةُ) بن كُهَيل الْحَضْرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

و"عمّار" رضي الله عنه تقدّم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من الحكم.

3 -

(ومنها): أن رواية الحكم عن ذرّ من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن الحكم من الطبقة الخامسة، وذرًّا من السادسة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ ذَرٍّ) بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء (عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ) تقدّم آنفًا أن الأرجح أنه صحابيّ رضي الله عنه (أَن رَجُلًا) قال في "الفتح" لم أقف على تسميته، وفي رواية الطبرانيّ أنه من أهل البادية، وفي رواية للبخاريّ:"أن عبد الرحمن بن أبزى شَهِدَ ذلك"(أتى عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه في خلافته (فَقَالَ: إِني أَجْنَبْتُ) أي صِرتُ ذا جنابة (فَلَمْ أَجِدْ مَاءً) أي للغسل (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (لَا تُصَلِّ) زاد في رواية: "حتى تجد الماء"(فَقَالَ عَمَّارٌ) أي ابن ياسر مذكّرًا له حيث خالف فتواه السنّة (أَمَا) أداة عرض، كـ "ألا"، ويَحتَمل أن تكون الهمزة للاستفهام، و"ما" نافية (تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أنا وَأنْتَ)"إذ" ظرف متعلّق بـ "تذكر"، وهو مضاف إلى الجملة الاسميّة، أي ألا تذكر وقت كوننا (فِي سَرِيَّةٍ) بفتح، فكسر: فَعِيلة بمعنى

ص: 475

فاعلةٍ، وهي القطعة من الجيش، سُمّيت بذلك؛ لأنها تسري في خُفْيةٍ، والجمع سَرَايَا، وسَرِيّات، مثلُ عطيّة وعطيّات، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "اللسان": "السّريّة": ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، وقيل: هي من الخيل نحو أربعمائة. وفي "التهذيب": وأما السريّة: من سَرَايَا الجيش، فإنها فَعِيلة بمعنى فاعلة، سُمّيت سَريّةً؛ لأنها تَسري ليلًا في خُفية؛ لئلا يَنْذرَ بهم العدوّ، فيحذروا، أو يمتنعوا، يقال: سَرَّى قائد الجيش سَرِيَّةً إلى العدوّ: إذا جَرَّدها، وبَعَثها إليهم، وهو التسرية، وفي الحديث:"يَرُدّ مُتَسَرِّيهم على قاعدهم"، المتسرِّي: الذي يَخرُج في السريّة، وهي طائفة من الجيش يبلُغُ أقصاها أربعمائة، وجمعها السَّرَايَا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خُلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّرِيّ: أي النفيس، وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يُنَفَّذُون سِرًّا وخُفْيةً، وليس بالوجه؛ لأن لام السرّ راء، وهذه ياءٌ. انتهى

(2)

.

(فَأَجْنَبْنَا) أي أصابتنا جنابة (فَلَمْ نَجِدْ مَاءً) أي للاغتسال (فَأَمّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ) أي لعدم وجدانك الماء، مع اعتقاد عدم صحة التيمّم للجنب (وَأَمّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ) أي تَحَكَّكت، من قولهم: مَعَكَ الأديمَ: إذا حكّه، وقال الفيّوميّ: مَعَكته في التراب مَعْكًا، من باب نفع: دلكته به، ومَعّكته تمعيكًا، فتمعّك: أي مرّغته، فتمرّغ. انتهى

(3)

.

وفي الرواية الماضية: "فتمرّغت في الصعيد كما تمرغّ الدابّة"، وهو بمعناه.

(وَصَلَّيْتُ) زاد في رواية النسائيّ: "فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له"(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ) المراد من اليدين الكفّان، بدليل الرواية الأخرى:"وضرب بكفّيه الأرض"(ثُمَّ تَنْفُخَ) بضمّ الفاء، من باب نصر (ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكفَّيْكَ") هذا صريح في أن الذي يُجزئ في التيمّم مسح الوجه والكفّين فقط، وهو المذهب الراجح، كما أسلفنا تحقيقه في المسألة الرابعة من مسائل الحديث الماضي.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 275.

(2)

"لسان العرب" 14/ 383.

(3)

"المصباح" 2/ 576.

ص: 476

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (اتَّقِ اللهَ يَا عَمَّارُ) أي خَفِ الله تعالى فيما تروي، وتَثَبَّت فيه، فلعلّك نَسِيتَ، أو اشتبه عليك (قَالَ) عمّار رضي الله عنه (إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ) وفي الرواية الآتية من طريق النضر، عن شعبة:"قال عمّار: يا أمير المؤمنين إن شئتَ لِما جعل الله عليّ من حقّك لا أحدّث به أحدًا"، والمعنى: إن رأيتَ عدم تحديثي بذلك مصلحةً، لم أحدّث به؛ لأن طاعتك واجبة في غير المعصية.

قال النوويّ رحمه الله: ويحتمل أنه أراد: إن شئت لم أحدّث به تحديثًا شائعًا بحيث يشتهر في الناس، بل لا أحدّث به إلا نادرًا. انتهى

(1)

، وفيه بعدٌ، والله تعالى أعلم.

[فإن قلت]: كيف جاز لعمّار رضي الله عنه عدم التحديث مع أنه متيقِّنٌ في حفظه، ومن تيقَّنَ حفظ السنّة وجب عليه تبليغها، ولو منعه من تجب طاعته؟.

[أجيب]: بأن التبليغ حَصَلَ حينما ذَكَّرَ به عمر رضي الله عنه، مع وجود الحاضرين في مجلسه، فإذا أمسك بعد ذلك لا يكون كاتمًا للعلم، وتاركًا لامتثاله أمره صلى الله عليه وسلم بقوله:"بلّغوا عنّي ولو آية"، رواه البخاريّ، وقوله:"وليبلّغ الشاهد الغائب"، متّفقٌ عليه.

والحاصل أن السنّة بلّغها عمّار رضي الله عنه، وحفظها عمر، والقوم الحاضرون ذلك المجلس، ولذا نقلوها لمن بعدهما، كما في حديث الباب، والله تعالى أعلم.

(قَالَ الْحَكَمُ) بن عُتيبة بالسند الماضي، وليس معلّقًا (وَحَدَّثَنِيهِ) عطف على مقدّر، أي حدّثني ذرّ بهذا، وحدّثني سعيد (ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن (مِثْلَ حَدِيثِ ذَرٍّ) غرض الحكم بهذا أنه كما حدّثه ذرّ بن عبد الله بهذا الحديث عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، حدّثه أيضًا سعيد نفسه عن أبيه دون واسطة ذرّ.

قال في "الفتح": والظاهر أنه سمعه من ذرّ عن سعيد، ثم لَقِي سعيدًا، فأخذه عنه، وكأن سماعه له من ذرّ كان أتقن، ولهذا أكثر ما يجيء في

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 63.

ص: 477

الروايات بإثباته. انتهى

(1)

.

(قَالَ) القائل هو شعبة (وَحَدَّثَني سَلَمَةُ) بن كُهَيل (عَنْ ذَرٍّ، فِي هَذَا الإسْنَادِ الَّذِي ذَكرَ الْحَكَمُ) فيه حذف العائد، وهو جائز، كما قال في "الخلاصة":

..................................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ اوْ

وَصْفٍ كـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

والإسناد المشار إليه هو: عن ذرّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ) وفي رواية النسائيّ: "فقال: اتّق الله يا عمّار، فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت لم أذكره، قال: لا، ولكن نُوَلِّيك من ذلك ما تولّيتَ".

ومعنى: "نولّيك" من التولية: أي نجعلك واليًا على ما تصدّيتَ له من تبليغ هذا الحكم، ورضيته لنفسك، وذلك لأنه لم يَجزم بخطئه، ولم يتذكّر القصّة، فجوّز النسيان على نفسه، كما جوّز الْوَهم على عمّار، فليس له أن يُفتي به، بخلاف عمّار، حيث جزم به، فله التبليغ والفتوى به.

والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[827]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَم، قَالَ: سَمِعْتُ ذَرًّا، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: قَالَ الْحَكَمُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَجُلًا أتى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدْ مَاءً، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ شِئْتَ لِمَا جَعَلَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ حَقِّكَ، لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا، وَلَمْ يَذْكُرْ: حَدَّثَني سَلَمَةُ عَنْ ذَرٍّ).

(1)

"الفتح" 1/ 530.

ص: 478

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسَجُ التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) عن (82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: "عن ابن عبد الرحمن" هو: سعيد.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ) الفاعل ضمير النضر بن شُميل، وروايته هذه لم أجد من ساقها بتمامها.

والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[828]

(369) - (قَالَ مُسْلِم: وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عُمَيْرٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أقبَلْتُ أنا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَسَارٍ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْجَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأنصَارِيِّ، فَقَالَ أَبُو الْجَهْمِ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْه، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْه، حَتَّى أقبَلَ عَلَى الْجِدَار، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، ثُمَّ رَدَّ عليه السلام.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا أول الأحاديث المعلّقة في "صحيح مسلم"، وهي اثنا عشر موضعًا

(1)

، سننبّه عليها في مواضعها، وقد تقدّم البحث عنها مستوفًى في "شرح المقدّمة" في المسألة الثامنة عشرة التي ذكرت فيها رسالة

(1)

وقول من قال: إنها أربعة عشر موضعًا، كالنوويّ تبعًا لابن الصلاح وغيره فيه نظر؛ لأن ذلك بعدّ المكرّر؛ فتنبّه.

ص: 479

الحافظ رشيد الدين العطار التي بيّن فيها هذه المعلّقات أتمّ تبيين، فأجاد وأفاد رحمه الله

(1)

.

فهذا الحديث هكذا أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" هنا معلّقًا، وهو حديث صحيح، ثابت مُتَّصل في "صحيح البخاريّ" وغيره، من حديث الإمام الليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري الفقيه، عن جعفر بن ربيعة بن شُرَحبيل المصري، أخرجه الأئمة: البخاري، وأبو داود، والنسائي، في مصنفاتهم، متصلًا من حديثه:

فرواه البخاري عن يحيى بن عبد الله بن بكير المخزوميّ المصريّ عنه، وابن بكير هذا من شرط مسلم، فإنه احتج بحديثه، ورَوَى عن أبي زرعة الرازيّ، وعن غير واحد عنه.

ورواه أبو داود

(2)

، عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده، وعبد الملك هذا من ثقات المصريين، رَوَى عنه مسلم في "صحيحه" عدةَ أحاديث من روايته، عن أبيه، عن جده.

ورواه النسائي

(3)

عن الربيع بن سليمان، عن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، والربيع بن سليمان هذا هو المراديّ، صاحب الإمام الشافعي رحمه الله، مشهور من ثقات المصريين، وأكابرهم، والله تعالى أعلم.

ورجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الثبت الحجة الفقيه [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحبيل بن حَسَنَة الْكِنديّ، أبو شُرَحبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ) الأعرج، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

(1)

راجع: "شرح المقدّمة" 1/ 87 - 141.

(2)

في "سننه" رقم 329.

(3)

"المجتبى" 1/ 165 - 166.

ص: 480

4 -

(عُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاس) ويقال: مولى أم الفضل، وهو: عُمير بن عبد الله الهلاليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن مولاته، وعن ابنيها: عبد الله، والفضل، ابني العباس، وأبي جُهَيم بن الحارث بن الصِّمّة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة.

ورَوَى عنه الأعرج، وسالم أبو النضر، وإسماعيل بن رَجَاء الزُّبيديّ، وعبد الرحمن بن مِهْران.

قال ابن إسحاق: حدثني الأعرج، عن عُمير مولى ابن عباس، وكان ثقةً، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن سعد وغيره: مات بالمدينة سنة أربع ومائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب

(1)

حديثان فقط، هذا برقم (369)، وحديث (1123): "أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم

"، وأعاده بعده.

5 -

(أَبُو الْجَهْمِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأنصَارِيُّ) هكذا الرواية في مسلم "الجهم" بالتكبير، والصواب أنه بالتصغير، وهو: أبو جُهيم بن الحارث بن الصِّمَّة - بكسر الصاد المهملة، وتشديد الميم - ابن عمرو بن عَتِيك بن عمرو بن مَبْذُول بن عامر بن مالك بن النخار الأنصاريّ، وقيل في نسبه غير ذلك، وهو ابن أخت أُبَيّ بن كعب، قيل: اسمه عبد الله، وقال أبو حاتم: يقال: أبو جهم بن الحارث بن الصِّمَّة، ويقال: إنه الحارث بن الصِّمَّة.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه بِشْر بن سعيد الحضرميّ، وأخوه مسلم بن سعيد، وعُمير مولى ابن عباس، وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة، وصحح أبو حاتم كون الحارث اسم أبيه، لا اسمه، وقال ابن أبي حاتم: عبد الله بن جَهْم، أبو جُهَيم فَرَّق بينه وبين ابن الصِّمَّة، وفي "أُسْد الغابة" عن "الاستيعاب"، و"المعرفة": عبد الله بن جُهيم بن الحارث بن الصِّمّة

فذكره، جَعَل الحارث جدّه، "وهكذا قاله ابن مندَهْ، وكأنه أراد أن يجمع

(1)

بل ليس له عند البخاريّ، وأبي داود، والنسائيّ إلا هذان الحديثان فقط.

ص: 481

الأقوال المختلفة، ومع ذلك فما سلم، قاله في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (369)، وحديث (507): "لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي

".

[تنبيه]: أبو الْجُهيم هذا هو المشهور أيضًا في حديث المرور بين يدي المصلي، كما أشرنا إليه آنفًا، وهو غير أبي الجهم المذكور في حديث الْخَمِيصة والإنبجانية، ذلك بفتح الجيم، بغير ياء، واسمه عامر بن حُذيفة بن غانم القُرَشيّ الْعَدويّ، من بني عَديّ بن كعب، وسنوضحه في موضعه - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(قَالَ مُسْلِم) يحتمل أن يكون هذا من كلام الراوي عن مسلم، ويَحْتَمل أن يكون من كلام مسلم نفسِهِ.

(عَنْ عُمَيْرٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ سَمِعَهُ) الضمير الأول لعبد الرحمن بن هرمز، والثاني لعمير؛ أي سمع عبد الرحمن عُميرًا (يَقُولُ: أَقْبَلْتُ أَنَا) أكّد الضمير المتّصل بالمنفصل؛ ليعطف عليه ما بعده؛ لوجوب الفصل بالضمير، أو بأيّ فاصلٍ، كما قال في "الخلاصة":

وإنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَسَارٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أصول "صحيح مسلم"، قال أبو عليّ الغسّانيّ، وجميع المتكلمين على أسانيد مسلم:"قوله: عبد الرحمن" خطأٌ صريحٌ، وصوابه:"عبد الله بن يسار"، وهكذا رواه البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ، وغيرهم على الصواب، فقالوا:"عبد الله بن يسار"، قال القاضي عياض: ووقع في روايتنا "صحيح مسلم" من طريق السمرقنديّ، عن الفارسيّ، عن الْجُلُوديّ، عن عبد الله بن يسار، على الصواب، وهم أربعة إخوة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الملك، وعطاء،

(1)

4/ 505.

ص: 482

مولى ميمونة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(مَوْلَى مَيْمُونَةَ) بنت الحارث رضي الله عنه (زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة من "ميمونة"(حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْجَهْمِ) تقدّم آنفًا أن هذا غلطٌ، والصواب أبو جُهيم بالتصغير، وأما أبو الجهم مكبّرًا، فهو صاحب الأنبجانيّة، وهو قرشيّ، وهذا أنصاريّ، ويقال في كلّ منهما بالألف واللام، وبحذفهما، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ في "شرحه": وأما أبو الجهم - فبفتح الجيم، وبعدها هاء ساكنة - هكذا هو في مسلم، وهو غلط، وصوابه ما وقع في "صحيح البخاريّ" وغيره:"أبو الجهيم" بضم الجيم، وفتح الهاء وزيادة ياء، هذا هو المشهور في كتب الأسماء، وكذا ذكره مسلم في كتابه في أسماء الرجال، والبخاري في "تاريخه"، وأبو داود، والنسائيّ، وغيرهم، وكلّ من ذَكَره من المصنفين في الأسماء والكنى، وغيرهما، واسم أبي الجهيم عبد الله، كذا سماه مسلم في كتاب "الكنى"، وكذا سماه أيضًا غيره، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ) بكسر الصاد، وتشديد الميم (الأنصَارِيِّ، فَقَالَ أَبُو الْجَهْمِ) الصواب أبو جُهيم (أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ) أي من الموضع الذي يُعرف بهذا الاسم، وهو موضع معروف بالمدينة، وهو بفتح الجيم والميم، ويقال فيه:"بئر جمل" بالتنكير كما في "الصحيحين"، و"بئر الجمل" بالتعريف، كما عند النسائيّ، وهو موضع قريبٌ من المدينة، فيه مال من أموالها، قاله في "العمدة"

(4)

.

(فَلَقِيَهُ رَجُلٌ) والرجل هو أبو جهيم، كما صَرَّح به الشافعيّ، فقد روى البغويّ في "شرح السنّة" بإسناده عن الشافعيّ، عن إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن أبي جُهيم بن الصِّمَّة، قال:"مررت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يبول، فسلّمتُ عليه، فلم يرُدّ عليّ حتى قام إلى الجدار، فحتّه بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار، فمسح بها وجهه وذراعيه، ثم ردّ عليّ"، قال: هذا حديث حسنٌ. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 63.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 527.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 64.

(4)

"عمدة القاري" 4/ 15.

ص: 483

قال الجامع عفا الله عنه: في تحسينه نظرٌ؛ في سنده إبراهيم بن محمد، وهو متروك، وأبو الحويرث، متكلّم فيه، وفيه انقطاع بين الأعرج، وأبي جهيم، والصواب عن الأعرج، عن عمير مولى ميمونة، عن أبي جُهيم، راجع "الفتح"

(1)

.

(فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) أي على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ) سلامه، ويجوز في دال "يَرُدّ" الحركات الثلاث: الكسر، وهو الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين، والفتح؛ لخفّته، والضمّ لإتباع حركة الراء، أفاده في "العمدة"

(2)

. (حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ) الألف واللام فيه للعهد الخارجيّ؛ أي جدار هناك.

[فإن قلت]: كيف تيمّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجدار بغير إذن مالكه؟.

[أجيب]: بأنه محمول على أن هذا الجدار كان مباحًا، أو كان مملوكًا لإنسان يعرفه، ويعرف رضاه بذلك، فأدلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وتيمّم به؛ لعلمه بأن مالكه لا يكره ذلك، ويجوز مثل هذا، والحالة هذه لآحاد الناس، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولى، والله تعالى أعلم

(3)

.

وللدارقطنيّ من طريق ابن إسحاق، عن الأعرج:"حتى وضع يده على الجدار"، وزاد الشافعيّ - كما تقدّم -:"فحتّه بعصاه"، قاله في "الفتح"

(4)

.

قال الجامع: لكن سبق لك أنه بسند ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) ولفظ البخاريّ: "فمسح بوجهه ويديه"، وللدارقطنيّ من طريق أبي صالح، عن الليث:"فمسح بوجهه، وذراعيه"، وكذا للشافعيّ من رواية أبي الحويرث، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود، لكن خطّأ الحفّاظ رواية رفعه، وصوّبوا وقفه، وقد رواه مالك موقوفًا، وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جُهيم أيضًا بلفظ "يديه"، لا "ذراعيه"، فإنها شاذّة مع ما في أبي الحويرث، وأبي صالح من الضعف

(5)

.

(1)

1/ 527.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 23.

(3)

راجع: النوويّ 4/ 65، و"شرح الكرمانيّ على البخاريّ" 2/ 217.

(4)

1/ 527.

(5)

"الفتح" 1/ 527.

ص: 484

(ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ) أي على الرجل الْمُسَلِّم (السَّلَامَ) بالنصب على المفعوليّة، وفيه استحباب الطهارة لردّ السلام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي جهيم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "الحيض"[27/ 828](369)، و (البخاريّ) في "التيمّم"(337)، و (أبو داود) في "الطهارة"(329)، و (النسائيّ) فيها (1/ 165)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 169)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(805)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(888)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(814)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز التيمّم في الحضر، وقال النوويّ في "شرحه": هذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان عادمًا للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله، ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة، وبين أن يتسع، ولا فرق أيضًا بين صلاة الجنازة والعيد وغيرهما، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما، وحَكَى البغويّ من أصحابنا عن بعض أصحابنا أنه إذا خاف فوت الفريضة لضيق الوقت صلّاها بالتيمم، ثم توضأ وقضاها، والمعروف الأول. انتهى

(1)

.

وممن قال بجواز التيمّم في الحضر الإمام البخاريّ رحمه الله، فقد ترجم في "صحيحه":"باب التيمّم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الوقت"، وكذا الإمام النسائيّ رحمه الله، فقد ترجم في "سننه":"باب التيمّم في الحضر"، ثم

(1)

"شرح النووي" 4/ 64.

ص: 485

أوردا في الباب حديث أبي جهيم هذا، وفيه خلاف سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على جواز التيمّم على الحجر، وهو مذهب الحنفيّة، وهو الصحيح، ووجه الاستدلال أن حيطان المدينة مبنيّة بالحجارة السود، ولا يعترض ذلك بما سبق في رواية الشافعيّ رحمه الله:"فحتّه بعصاه"؛ لأنها رواية ضعيفة.

وقد أجاد العينيّ في الرد على الكرمانيّ، حيث قال: قد ثبت أنه حَتّ الجدار بالعصا، ثم تيمم، فقال العينيّ: قوله: "ثبت أنه حتّ

إلخ " ممنوع؛ لأن حتّ الجدار بالعصا رواه الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد، وهو حديث ضعيف، فإن قلت: حسنه البغويّ، قلت: كيف حسّنه، وشيخ الشافعيّ وشيخ شيخه ضعيفان، لا يُحتجّ بهما؟، قاله مالك وغيره، وأيضًا فهو منقطع؛ لأن ما بين الأعرج وأبي جهيم عُمير كما سبق من رواية البخاري وغيره، ونصّ عليه أيضًا البيهقيّ وغيره، وفيه علة أخرى، وهي زيادة حكّ الجدار، لم يأت بها أحد غير إبراهيم، والحديث رواه جماعة، وليس في حديث أحدهم هذه الزيادة، والزيادة إنما تقبل من ثقة. انتهى، وهو بحث جيّد

(1)

.

وقد تقدّم تحقيق المسألة مستوفًى في المسألة الثامنة في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): أنه استدلّ به الطحاويّ: على جواز التيمّم للجنازة عند خوف فواتها، وهو قول الكوفيين، والليث، والأوزاعيّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تيمّم لردّ السلام في الحضر؛ لأجل فوت الردّ، وإن كان ليس شرطًا، ومنع ذلك الشافعيّ وأحمد، وقول الأولين أظهر؛ لهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز التيمم للنوافل، والفضائل؛ كسجود التلاوة والشكر، ومسّ المصحف، ونحوها، كما يجوز للفرائض، قال النوويّ: وهذا مذهب العلماء كافّةً، إلا وجهًا شاذًّا منكرًا لبعض أصحابنا أنه لا يجوز التيمم إلا للفريضة، وليس هذا الوجه بشيء. انتهى.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 24 - 25.

ص: 486

5 -

(ومنها): أنه لا ينبغي، السلام على من يبول، وأن من سلّم عليه لا يستحقّ جوابًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ على الرجل حينما سلّم عليه، وإنما ردّ عليه بعد التيمّم من كريم أخلاق صلى الله عليه وسلم، ويؤيّد ذلك أنه قال في حديث جابر رضي الله عنه:"إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلّم عليّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرُدّ عليك"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز التيمّم في الحضر:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في التيمم في الحضر لغير المريض، وللمريض لا ماء بحضرته، ولو وصل إلى الماء لتوضأ، فقالت طائفة: إذا خاف فوات الصلاة، تيمم وصلى، وحَكَى ابن القاسم عن مالك، أنه سئل عمن في القبائل من أطراف الفُسْطاط، وخَشِي إن توضأ أن تَطلُع الشمس قبل أن يبلغ الماء، قال: يتيمم ويصلي، قال: وقد كان مرة من قوله: في الحضر يعيد إذا توضأ.

وسئل الأوزاعي عمن انتَبَهَ من نومته وغفلته وهو جنب، فأشفق إن اغتسل وتوضأ طلعت الشمس، أو غابت؟ قال: يتيمم، ويصلي الصلاة قبيل فوات وقتها، قال الوليد: فذكرت ذلك لإبراهيم بن محمد الفزاريّ، فأخبرني عن سفيان أنه قال: يتيمم ويصلي، قال الوليد: فذكرت ذلك لمالك، وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم، فقالوا: بل يغتسل، وإن طلعت عليه الشمس؛ لقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [النساء: 43]، فهذا واجد للماء، وكان في عذرٍ من نومه وغفلته ونسيانه معذورٌ بها.

وحَكَى الوليد ذلك عن الليث، وكان الحسن يقول في مريض بحضرته ماء، وحضرت الصلاة، وليس عنده من يناوله، وخَشِي فوت الوقت، قال: يتيمم، ويصلي.

وقال الوليد: ولا أعلم إلا أني سمعت أبا عمرو يقول: إذا لم يجد المقيم ماءً تيمم وصلى، ولا إعادة عليه إلا في الوقت، واحتَجَّ بحديث ابن عمر، أنه أقبل من الْجُرُف، فلما كان بالْمِرْبَد حضرته صلاة العصر، فنزل فتيمم وصلى العصر.

قال الجامع عفا الله عنه: لكن قوله: "ولا إعادة عليه إلا في الوقت" فيه

ص: 487

نظر؛ لأن الإعادة في الوقت مما لا دليل عليه، فقد احتَجّ بفعل ابن عمر رضي الله عنه، وابن عمر دخل المدينة، والشمس مرتفعةٌ، فلم يُعِد، كما ذكره البخاريّ في "صحيحه"، وسيأتي قريبًا.

قال: وقالت طائفة: لا يجوز للحاضر غير المريض التيمم بحالٍ، فإن فَعَل كانت عليه الإعادة، هذا قول الشافعيّ، وأبي ثور، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: قضيتُ الحاجة في بعض هذه الشِّعَاب، أتمسَّح بالتراب، وأصلي؟ قال: لا. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب التيمّم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوات الوقت"، وبه قال عطاء، وقال الحسن - في المريض عنده الماء، ولا يجد من يُناوله -: يتيمّم، وأقبل ابن عمر من أرضه بالْجُرُف، فحضرت العصر بمِرْبَد النَّعَم، فصلّى - أي بالتيمّم -

(2)

ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعةٌ، فلم يُعِد، ثم أورد حديث الباب. انتهى.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "الْمُحَلَّى": ويتيمم من كان من الحضر صحيحًا إذا كان لا يقدر على الماء، إلا بعد خروج وقت الصلاة، ولو أنه على شَفِير البئر، والدلو في يده، أو على شَفِير النهر، والساقية، والعين، إلا أنه يوقن أنه لا يُتِمُّ وضوءه أو غسله حتى يطلع أول قرن الشمس، وكذلك المسجون، والخائف.

ثم احتجّ بما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُضّلنا على الناس بثلاث"، فذكر فيها:"وجُعلت لنا الأرض مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء".

وبما أخرجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فُضِّلتُ على الأنبياء بستّ: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلت

(1)

"الأوسط" 2/ 30 - 31.

(2)

أخرجه الشافعيّ بذكر التيمّم، فقال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أقبل من الْجُرُف، حتى إذا كان بالْمِرْبَد تيمّم، فمسح وجهه، ويديه، وصلّى العصر

الحديث، راجع:"الفتح" 1/ 526.

ص: 488

لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الناس كافّةً، وخُتم بي النبييون".

فهذا عموم دخل فيه الحاضر والبادي.

[فإن قيل]: فإن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} الآية [النساء: 43]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تُقبل صلاة مَن أحدث حتى يتوضأ"، فلم يُبح عز وجل للجنب أن يقرب الصلاذ حتى يغتسل، أو يتوضأ إلا مسافرًا.

[قلنا]: نعم قال الله تعالى هذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرتم، وقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، فكانت هذه الآية زائدةً حكمًا، وواردة بشرع ليس في الآية التي ذكرتم، بل فيها إباحة أن يقرَب الصلاة الجنب دون أن يغتسل، وهو غير عابر سبيل، لكن إذا كان مريضًا لا يجد الماء، أو عليه فيه حرجٌ، وكانت هذه الآية أيضًا زائدةً حكمًا على الخبر الذي لفظه:"لا تُقْبَل صلاة مَن أحدث حتى يتوضأ"، ثم جاء الخبران اللذان ذكرنا بزيادة وعموم على الآيتين والخبرِ المذكورِ، فدخل في هذين الخبربن الصحيحُ المقيمُ إذا لم يجد الماء، وكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فرضٌ جمعُ بعضه إلى بعض، وكله من عند الله تعالى.

وقولنا هذا هو قول مالك، وسفيان، والليث.

وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: لا يتيمم الحاضر، لكن إن لم يقدر على الماء إلا حتى يفوت الوقت، تيمم وصلى، ثم أعاد، ولا بُدّ إذا وجد الماء.

وقال زفر: لا يتيمم الصحيح في الحضر البتةَ، وإن خرج الوقت، ولكن يصبر حتى يخرج الوقت، ويجد الماء، فيصلي حينئذ.

قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة، والشافعيّ فظاهر الفساد؛ لأنه لا يخلو أمرهما له بالتيمم والصلاة من أن يكونا أمراه بصلاة، هي فرض الله تعالى عليه، أو بصلاة لم يفرضها الله تعالى عليه، ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن قال مقلِّدُهما أمراه بصلاة هي فرض عليه، قلنا: فَلِمَ يعيدها بعد الوقت إن كان قد أدّى فرضه؟ وإن قالوا: بل أمراه بصلاة، ليست فرضًا عليه، أَقَرّا بأنهما ألزماه ما لا يلزمه، وهذا خطأ.

ص: 489

وأما قول زفر فخطأ؛ لأنه أسقط فرض الله تعالى في الصلاة في الوقت الذي أمر الله تعالى بأدائها فيه، وألزمه إياها في الوقت الذي حَرَّم الله تعالى تأخيرها إليه.

قال أبو محمد: والصلاة فرض مُعَلَّق بوقتط محدود، والتأكيد فيها أعظم من أن يجهله مسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم"، فوجدنا هذا الذي حضرته الصلاة هو مأمور بالوضوء وبالغسل، إن كان جنبًا، وبالصلاة، فإذا عجز عن الغسل والوضوء سقطا عنه، وقد نَصّ عليه السلام على أن الأرض طهور إذا لم يجد الماء، وهو غير قادر عليه، فهو غير باقٍ عليه، وهو قادر على الصلاة، فهي باقية عليه، وهذا بَيِّنٌ، والحمد لله رب العالمين. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه أبو محمد رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ.

والحاصل أن المذهب الراجح هو مذهب من قال بجواز التيمّم لمن كان في الحضر إذا فقد الماء، وخاف فوت الوقت، أو تعذّر عليه استعماله؛ لمرض، أو غيره، ثم إنه لا قضاء عليه لتلك الصلاة التي صلاها بذلك التيمّم؛ لسقوط الفرض عنه، حيث قام بأداء ما فرض الله عليه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[829]

(370) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا مَرَّ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبُولُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم في هذا الباب.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

(1)

"الْمُحلَّى" 2/ 17 - 18.

ص: 490

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

5 -

(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى الضحّاك بن عثمان، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالكوفيين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا) يحتمل أن يكون أبا جُهيم المذكور في الحديث الماضي، فقد أخرجه البغويّ في "شرح السنّة" من حديث أبي جهيم بن الصمّة، قال: "مررت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلّمت عليه، فلم يردّ عليّ

" الحديث، ولكن تقدّم أنه ضعيف، فيه ثلاث علل.

ويَحْتَمل أن يكون هو المهاجرَ بن قُنفُذ رضي الله عنه، فقد أخرج أبو داود في "سننه" عنه أنه أَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلَّم عليه، فلم يَرُدّ عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال:"إني كَرِهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر"، أو قال:"على طهارة"، وهو حديث صحيح.

ص: 491

(مَرَّ) أي اجتاز عليه، يقال: مرّ به مرًّا، ومُرُورًا، ويتعدّى بنفسه، كما قال ابن الأعرابيّ، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:

تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا

كَلَامُكُمُ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ

(وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "مَرّ"، والرابط الواو؛ لأن الجملة الاسميّة تُربط بالواو، كما تربط بالضمير، قال في "الخلاصة":

وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا

بِوَاوٍ اوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بهِمَا

أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم يبول (فَسَلَّمَ) ذلك الرجل عليه صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ يَرُدَّ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِ) أي على الرجل سلامه.

ثم إنه يَحْتَمل أنه أخّر الردّ حتى يتطهّر؛ لتعظيم اسم الله تعالى، ويؤيّد هذا ما سبق في رواية أبي داود:"ثم اعتذر إليه، فقال: إني كَرِهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر".

وَيحْتَمِلُ أنه تركه تأديبًا له، ويؤيّده ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" من طريق عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلًا مَرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسَلَّم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتني على مثل هذه الحالة، فلا تُسَلِّم عليّ، فإنك إن فعلت ذلك، لم أَرُدَّ عليك"، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عَقِيل، متكلّم فيه

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: ويحتمل أنه ترك الردّ أحيانًا، وأخّره أحيانًا على حسب اختلاف الناس في التأديب وغيره. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 829](370)، و (أبو داود) في "الطهارة"

(1)

وصحّح الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وذكر له متابعات، انظر:"الصحيحة" 1/ 334 - 335.

(2)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 149.

ص: 492

(16)

، و (الترمذيّ) فيها (90)، و (النسائيّ) فيها (1/ 35 - 36)، و (ابن ماجه) فيها (353)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(572 و 573)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(815)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): أنه يُستفاد من مجموع أحاديث الباب كراهة ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة، ولو كان واجبًا بحسب الأصل؛ كردّ السلام، وأن الْمُسَلِّم في هذا الحالة لا يستحق جوابًا، وأما ردّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فمن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نَهَى الرجل عن السلام عليه في مثل تلك الحال، وأنه إن سلّم عليه، فإنه لا يردّ عليه، كما تقدّم في رواية ابن ماجه.

قال النوويّ رحمه الله: وهذا مُتّفَقٌ عليه، قال أصحابنا: ويكره أن يُسَلِّم على المشتغل بقضاء حاجة: البول، والغائط، فإن سُلِّم عليه كُرِه له ردُّ السلام، قالوا: ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى بشيء من الأذكار، قالوا: فلا يُسَبِّح، ولا يُهَلِّل، ولا يرُدّ السلام، ولا يُشَمِّت العاطس، ولا يحمد الله تعالى إذا عَطَس، ولا يقول مثل ما يقول المؤذن، قالوا: وكذلك لا يأتي بشيء من هذه الأذكار في حال الجماع، وإذا عَطَس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يحرك به لسانه، وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر في حال البول والجماع، هو كراهة تنزيه، لا تحريم، فلا إثم على فاعله، وكذلك يكره الكلام على قضاء الحاجة، بأيّ نوع كان من أنواع الكلام، ويُسْتَثنى من هذا كله موضع الضرورة، كما إذا رأى ضريرًا يكاد أن يقع في بئر، أو رأى حيةً، أو عقربًا، أو غير ذلك يقصد إنسانًا، أو نحو ذلك، فإن الكلام في هذه المواضع ليس بمكروه، بل هو واجب، وهذا الذي ذكرناه من الكراهة في حال الاختيار هو مذهبنا، ومذهب الأكثرين، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وعطاء، وسعيد الجهنيّ، وعكرمة رضي الله عنهم، وحُكِي عن إبراهيم النخعيّ، وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس به، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 65.

ص: 493

(28) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجَسُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[830]

(371) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ

(1)

- قَالَ: حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ

(2)

، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنهُ لَقِيَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(3)

فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَة، وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْسَلَّ، فَذَهَبَ، فَاغْتَسَلَ، فَتَفَقَّدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ

(4)

: "أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَقِيتَني، وَأنا جُنُبٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سُبْحَانَ الله، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيَدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظ [8](ت 193) عن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

5 -

(حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ) هو: حُميد بن أبي حُميد الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، اختُلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقةٌ عابدٌ يُدلّس [5](ت 2 أو 143) وهو يصلّي عن (75)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا يحيى بن سعيد" بدون "يعني".

(2)

إثبات بكر بن عبد الله هنا هو الصواب؛ لما سيأتي قريبًا، وهو موجود في بعض النسخ - كما نبّه عليه الحافظ رحمه الله؛ فتنبّه.

(3)

وفي نسخة: "أنه لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

(4)

وفي نسخة: "فلما جاء قال".

ص: 494

6 -

(بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المزنيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ ثبت جليلٌ [5]

(1)

(ت 106)(خت م 4) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 82.

7 -

(أَبُو رَافِعٍ) نُفيعٌ الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شَرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه مات سنة (57 أو 58 أو 59) عن (78) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُدَاسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل، وفيه التحديث والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم نيسابوريّ، والثاني كوفيّ، وأبو هريرة مدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه قوله: "حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا" قال النوويّ رحمه الله: هذا قد يلتبس على بعض الناس، وليس فيه ما يوجب اللبس على من له أدنى اشتغال بهذا الفنّ، فإن غاية ما فيه أنه قدّم "حميد"، وكان هو الفاعل على الفعل، وهو "حدّثنا"، والغالب أنهم يقولون:"حدّثنا حميد"، فيجعلونه من باب الفعل والفاعل، فقال هو:"حميدٌ حدّثنا"، فجعله من باب المبتدأ والخبر، فـ"حُميدٌ" مبتد أ، وجملة "حدّثنا" خبره.

والحاصل أنه لا فرق بين تقديمه وتأخيره من حيث أصل المعنى؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: حميدٌ، عن بكر، عن أبي رافع.

(1)

هذا أولى مما في "التقريب"، فإنه جعله من الثالثة، والأول هو الظاهر؛ لأنه لم يلق إلا عبد الله بن عمر.

ص: 495

6 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي رَافِعٍ) هكذا في بعض نسخ "صحيح مسلم"، كما نبّه عليه الحافظ في "النكت الظراف"، وهو الصواب، ووقع في مُعظم النسخ:"عن حميد الطويل، عن أبي رافع"، قال النوويّ في "شرحه": هكذا هو في "صحيح مسلم"، في جميع النسخ

(1)

، قال القاضي عياض: قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: هذا الإسناد منقطع، إنما يرويه حميدٌ، عن بكر بن عبد الله الْمُزنيّ، عن أبي رافع، هكذا أخرجه البخاريّ، وأبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده"، وهذا كلام القاضي عن المازريّ، وكما أخرجه البخاريّ، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، كذلك أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وغيرهم من الأئمة، ولا يقدح هذا في أصل متن الحديث، فإن المتن ثابت على كل حال من رواية أبي هريرة، ومن رواية حذيفة رضي الله عنهما، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: تسمية هذا منقطعًا غير صحيح؛ لأن هذا مما سقط سهوًا من النّسّاخ، إما من مسلم، وهو بعيد، وإما ممن رواه عنه، وهو الأقرب، ولا شكّ في ذلك؛ لأن المنقطع إنما يكون قصدًا، كالمرسل وغيره، فهو من مقصود الراوي، لا من تصرّف النسّاخ.

ويدلّ على كون الإسقاط من المصنّف، أو ممن بعده أمور:

[الأول]: أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة أخرجه في "مصنّفه"(1/ 159) عن ابن عليّة، عن حُميد، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع، وكذلك رواه ابن ماجه في "سننه" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل ابن عليّة، عن حميد، عن بكر بن عبد الله

إلخ.

[الثاني]: أن أبا نعيم أخرجه في "مستخرجه" على "صحيح مسلم" (1/

(1)

هذا بالنسبة لما علمه النوويّ، وإلا فقد وقع على الصواب في بعضها؛ فتنبّه.

ص: 496

405 -

406) بذكر بكر

(1)

، ثم ذكر أن مسلمًا رواه عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد، وعن أبي بكر، عن إسماعيل ابن علية، جميعًا، عن حميد.

انتهى، ولم يُشِر إلى سقوط بكر من السند، فلو كان ساقطًا من سند المصنّف لنبّه عليه، كعادته.

[الثالث]: أن أبا عوانة أخرجه في "مسنده" الذي هو مُستخرَج على "صحيح مسلم" أيضًا، فقال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا مسدّدٌ، ثنا بشر بن المفضّل، قال: ثنا حميد الطويل، قال: حدّثني بكر بن عبد الله، عن أبي رافع

إلخ، ولم يُشِر إلى سقوط شيء من السند.

[الرابع]: أن الحافظ ابن حجر - وهو حَذَام الحفّاظ المحقّقين، ورأس المتقنين فيما ينقله، ويكتبه - كتب في "النكت الظراف على الأطراف"(10/ 385)، ما نصّه: سقط "بكر بن عبد الله" في السند عند مسلم في أكثر النسخ من مسلم، وثبت في بعضها من رواية بعض المغاربة، وكذا هي عندي بخطّ أبي الحسن المراديّ الراوي عن الْفَرَاوِيّ. انتهى كلام الحافظ في "نكته" رحمه الله.

[الخامس]: أن أبا مسعود الدمشقيّ، وخَلَفًا الواسطيّ ذكرا أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك؛ أي بذكر بكر بن عبد الله بين حميد، وأبي رافع، ذكر هذا ابن الملقّن في "شرح العمدة"

(2)

.

قال الجامع: فقد تبيَّن بما ذُكر أن هذا السند متّصلٌ، وليس فيه انقطاع من حيث الصناعة الحديثيّة، وإنما فيه إسقاط راو منه سهوًا، والظاهر أنه ممن بعد المصنّف؛ لما ذكرته من الأدلّة التي تقتضي أن مسلمًا رواه متّصلًا كما رواه البخاريّ، وأصحاب السنن الأربعة، وأحمد بن حنبل في "مسنده"، وغيرهم، بل ثبت في كتاب شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأثبته صاحبا المستخرجين على كتابه: أبو عوانة، وأبو نعيم، دون تنبيه على أي سقوط من مسلم.

(1)

وقع في النسخة في السند الأول: "عن أبي بكر"، وفي الثاني:"عن بُكير"، وكلاهما غلط من النسّاخ، والصواب:"عن بكر"؛ فتنبّه.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 6.

ص: 497

وبناء على ما صحّ في بعض النسخ أثبتّه هنا مخالفًا أكثر النسخ؛ لكونه سقط منها غلطًا؛ فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أنَّهُ لَقِيَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على الفاعليّة، ووقع في بعض النسخ:"أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فيكون منصوبًا على المفعوليّة (فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَة، وَهُوَ جُنُبٌ) جملة في محلّ نصب على الحال.

[تنبيه]: نقل ابن الملقّن في "شرح العمدة": قال الترمذيّ الحكيم في "علَقَةً": سُمّيت جنابةً؛ لأن ماء الرجل من ظهره، فإذا وصل إلى رحم المرأة، نزل الماء من ترائبها، يخرج من بين الصلب: يعني فَقَارَ الظهر، والترائب: يعني الصدر والثديين، فيختلط الماءان، فإن قضى الله من ذلك ولدًا جَمَد، وصار عَلَقَةً

إلى آخر ما أخبر الله تعالى، وإلّا غَلَب ماءُ الرجل ماء المرأة، فذهب كأنه لم يكن، وأكثر ما يكون ذلك من البرودة، وأما ما يصير به ولدًا، فيستوي الماءان في الرحم، وينزل ماء المرأة من ترائبها إلى بين جنبيها، ولو نزل ماؤها من ظهرها خرج لها شعر في وجهها كما يخرُج من الرجال، وأما الذي ينزل من المرأة من ترائبها الذي بين جنبيها، فإن كان ما ينزل من الجنب الأيمن أكثر وأغلب كان سعيدًا، واسع الرزق، حكيمًا يُشبه بالصفة أباه في اللون وغيره من الجسد، وإن كان الماء الذي ينزل إلى الجانب الأيمن أغلظ من الذي ينزل من الجانب الأيسر، كان الولد عامًا حكيمًا وسطًا في أمر الدنيا، وإن كان الماء الذي ينزل إلى الجانب الأيسر أغلب وأكثر، كان الولد شقيًّا موسّعًا عليه في الدنيا، وربما كان كافرًا، يشبه في الصفة واللون وغير ذلك في جسده أخواله، وإن كان الماء الذي ينزل إلى الجانب الأيسر أغلظ، كان الولد فاسقًا فاجرًا زانيًا فاحشًا متفحّشًا مقَتَّرًا عليه في الدنيا، يُروى ذلك عن عليّ رضي الله عنه.

فمن ذلك سُمّيت الجنابة جنابةً؛ لأن ماء الرجل إذا وصل إلى رحم المرأة نزل ماؤها إلى بين جنبيها، فيجتمع ثم ينزل إلى الرحم، ثم يَلحق بماء الرجل، قال: وقد قيل أيضًا: إنما سُمّيت الجنابة جنابةً؛ لقول حوّاء لَمّا جامعها آدم: وجدتُ لذّة ذلك بين جنبيّ إلى أن استقرّ ذلك فيّ. انتهى

(1)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 7 - 8.

ص: 498

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ما في هذه الحكاية من النكارة، والظاهر أنها من الإسرائيليّات، ولا يثبت عن عليّ رضي الله عنه ولا عن غيره، وإنما نقلته للتنبيه عليه، والذي صحّ لدينا مما في "الصحيحين" وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم:"وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة، نَزَع الولدَ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد"، لفظ البخاريّ، وفي لفظ لمسلم:"إذا علا ماؤها ماء الرجل، أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه"، ونحو ذلك، لا كما ذكره الترمذيّ الحكيم بسياقه الغريب، فلا تغترّ به، والله تعالى الهادي سواءَ السبيل.

(فَانْسَلَّ) أي ذهب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في خُفْية، قال في "اللسان": الانسلال: الْمُضيّ، والخروج من مَضِيق، أو زِحَامٍ، وانسَلَّ، وتسلَّل: انطلق في استخفاء، ويقال: انْسَل فلانٌ من بين القوم يَعْدُو: إذا خرج في خُفْيةٍ يَعْدُو. انتهى باختصار وتصرّف

(1)

.

ووقع عند البخاريّ: "فانخنست منه"، والانخناس: الانقباض والرجوع، وما قارب ذلك المعنى.

يقال: خَنَسَ يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، ومن الأول:"إذا ذَكَر الله خَنَسَ، وإذا غَفَلَ وسوس"

(2)

، ومن الثاني:"وخَنَسَ إبهامه"

(3)

، أي قبضها.

وقيل: إنه يقال: أخنسه في المتعدّي، حكاه صاحب "مجمع البحرين"

(4)

.

وقد رويت هذه اللفظة: "فانبجست منه" بالجيم، من الانبجاس، وهو

(1)

"لسان العرب" 11/ 338 - 339.

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 7/ 279، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 268، والبيهقيّ في "الشعب" 2/ 436، وضعّفه الحافظ في "الفتح" 8/ 742، والهيثميّ في "المجمع" 7/ 149، والألباني في "الضعيفة" رقم (367).

(3)

طرف من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن الشهر هكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة"، متّفق عليه.

(4)

هو الحسن بن محمد بن حيدر العدويّ العمريّ الصاغانيّ الحنفيّ المتوفّى سنة (650 هـ).

ص: 499

الاندفاع: أي اندفعتُ عنه، ويؤيّده قوله في حديث آخر:"فانسللت منه"، ورُوي أيضًا:"فانبخست منه"، من البخس، وهو النقص، وقد استُبْعِدت هذه الرواية، ووُجّهت على بُعدها بأنه اعتَقَد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسته صلى الله عليه وسلم، أو مصاحبته مع اعتقاد نجاسة نفسه، هذا أو معناه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَذَهَبَ) عطف تفسير و "انسلّ"(فَاغْتَسَلَ، فَتَفَقَّدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي طلبه ليجالسه، ويُحادثه، وفي رواية النسائيّ:"ففقده النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ومعناه: عَدِمه، يقال: فَقَدته فَقْدًا، من باب ضرب، وفُقْدانًا بالكسر والضمّ: عَدِمْتُهُ، فهو فَقِيد، ومفقودٌ، وافتقدته مثله، وتفقّدته: طلبته، أفاده في "المصباح" بزيادة عليه

(2)

.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد أبا هريرة رضي الله عنه بعدما أبصره عنده؛ لكونه ذهب يغتسل عن جنابته؛ لاعتقاده أنه نَجَسٌ بسببها، والله تعالى أعلم.

(فَلَمَّا جَاءَهُ) أي جاء أبو هريرة النبيّ صلى الله عليه وسلم من المكان الذي يغتسل فيه، وفي نسخة:"فلما جاء"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مستفهمًا له عن سبب تغيّبه عن حضرته الشريفة ("أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَقِيتَيي) بكسر القاف: أي صادفتني، يقال: لَقِيته ألقاه، من باب تَعِبَ لُقِيًّا بالضمّ، والأصلُ على فُعُول، فاجتمعت الواو والياء، فقُلبت الواو ياءً، ثمّ أُدغمت في الياء، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولقَاءً - بالكسر مع المدّ والقصر -، وكلُّ شيء استَقْبَل شيئًا، أو صادفه، فقد لَقِيه، ومنه لقاءُ البيت: وهو استقباله. انتهى من "المصباح" بإيضاح

(3)

.

(وَأنا جُنُبٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (فَكَرِهْتُ) بكسر الراء، يقال: كَرِهته، من باب تَحِبَ كُرْهًا بضمّ الكاف، وفتحها: ضدّ أحببته، فهو مكروه

(4)

. (أَنْ) بفتح الهمزة مصدريّة (أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ) وللبخاريّ: "وأنا على غير طهارة"، وإنما كره أبو هريرة رضي الله عنه مجالسته على تلك الحالة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لَقِيَ أحدًا من أصحابه ماسحه ودعا له، فقد

(1)

"إحكام الأحكام" 1/ 359 - 362 بنسخة "الحاشية".

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 478.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 558.

(4)

"المصباح" 2/ 532.

ص: 500

أخرج النسائيّ عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لَقِيَ الرجل من أصحابه ماسحه ودعا له

" الحديث.

فظنّ أنه سيفعل به ذلك، وهو على غير طهارة في ظنّه.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ) المراد به التعجّب من كون أبي هريرة اعتقد نجاسة نفسه بسبب الجنابة، وهذه اللفظة من المصادر الملازمة للنصب؛ كمعاذَ الله، وغُفْرانك، وشبههما، مما هو منصوب بفعل مقدّر، لا يجوز إظهاره.

ومعناه تنزيه الله، وبراءته عن النقصان الذي لا يليق بجلاله وكماله.

ويُستعمل مفردًا ومضافًا، فإذا أُفرد فمنهم من يُنوّنه، ومنهم من لا ينوّنه، فمن الأول قوله [من البسيط]:

سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا أُسَبِّحُهُ

وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ

ومن الثاني قوله:

أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

فمن ترك تنوينه جعله عَلَمًا، فمنعه من الصرف؛ للعلميّة وزيادة الألف والنون، ومَن نوّنه جعله نكرةً، وقيل: بل صرفه للضرورة، وأبعد من قال: إنه مقطوع عن الإضافة، ذكره ابن الملقن رحمه الله

(1)

.

(إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ) يقال: نَجِسَ الشيءُ - بالكسر - يَنْجَسُ - بالفتح - ونَجُسَ - بالضمّ - يَنْجُسُ، قاله القرطبيّ.

وقال النوويّ رحمه الله: يقال: بضمّ الجيم وفتحها لغتان، وفي ماضيه لغتان، نَجِسَ ونَجُسَ، بكسر الجيم وضمّها، فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع، ومَن ضمّها في الماضي ضمّها في المضارع أيضًا، هذا قياس مطّرِدٌ عند أهل العربيّة إلا أحرفًا مستثناةً من المكسور. انتهى

(2)

.

قال القرافيّ: وحقيقة النجاسة أنها عبارةٌ عن تحريم ملابسة المستقذرات، فهي حكم شرعيّ، راجع إلى الأحكام الخمسة، وهي التحريم، والاستقذار هو

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 13 - 14.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 67.

ص: 501

التنجيس عملًا بالمناسبة. انتهى

(1)

.

والمعنى هنا: إن المؤمن لا تصير ذاته نَجِسة بسبب هذا الحدث الذي حَلَّ في بدنه؛ لأنه وصفٌ حكميّ رَتَّبه الشارع على البدن، ولا يتأثّر به بدن المؤمن أكثر من الحكم عليه بالمنع مما تَمنع الجنابة منه شرعًا، فالمجالسة والمماسّة لا تدخل في جملة ما مُنِعَ لها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائلُ تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 830](371)، و (البخاريّ) في "الغسل"(283 و 285)، و (أبو داود) في "الطهارة"(231)، و (الترمذيّ) فيها (121)، و (النسائيّ) فيها (1/ 145)، و (ابن ماجه) فيها (534)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 173)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 382 و 471)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1259)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 13)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(96)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 189)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(773)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(816 و 817)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن بدن المسلم لا ينجس بحال من الأحوال، سواء كان جنبًا أو محدثًا، حيًّا أو ميتًا، وإن تنجّس بدنه أو بعض منه، فهي نجاسة عارضة تزول عنه، وكذا سؤره، وعَرَقُهُ، ولُعَابه، ودمعه.

2 -

(ومنها): بيان جواز مماسّة الجنب، ومجالسته.

3 -

(ومنها): أن ابن حزم استدلّ بمفهومه على نجاسة الكافر، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 15.

ص: 502

4 -

(ومنها): استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور المعظمة؛ لأن محلّ إنكاره صلى الله عليه وسلم على أبي هريرة رضي الله عنه قوله: "وأنا على طهارة"، لا قوله:"فكرهت أن أجالسك".

5 -

(ومنها): استحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات.

وقد استحبّ العلماء لطالب العلم أن يُحَسِّن حاله في حال مجالسة شيخه، فيكون متطهرًا متنظفًا بإزالة الشعور المأمور بإزالتها، وقَصِّ الأظفار، وإزالة الروائح الكريهة، والملابس المكروهة، وغير ذلك، فإن ذلك من إجلال العلم والعلماء، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): أن العالم إذا رأى من تابعه أمرًا يَخاف عليه فيه خلاف الصواب، سأله عنه، وإن لم يسأله، وبيّن له صوابه، وأوضح له حكمه.

7 -

(ومنها): استحباب استئذان التابع للمتبوع، إذا أراد أن يفارقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أين كنت؟ "، فأشار إلى أنه كان ينبغي له أن لا يفارقه حتى يعلمه.

8 -

(ومنها): جواز تأخير الجنب الاغتسالَ عن أول وقت وجوبه، وأن له أن ينصرف في حوائجه، وأموره قبل الاغتسال.

9 -

(ومنها): جواز التعجّب بـ "سبحان الله"، وأن ذلك لا يُعدّ سوء أدب مع التنزيه، وكأن في المعنى تذكيرًا لمن تُعُجّب من فعله المخالف بالرجوع إلى الله تعالى، وتنزيهه

(2)

.

15 -

(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله استدل به في "صحيحه" على طهارة عَرَق الجنب؛ لأن بدنه لا ينجس بالجنابة، فكذلك ما تَحَلَّب منه، وعلى جواز تصرُّف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل.

11 -

(ومنها): أن الإمام ابن حبان رحمه الله بَوَّبَ عليه في "صحيحه"، فقال: "الردُّ على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر، فنَوَى الاغتسال أن ماء البئر

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 66.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 16.

ص: 503

ينجس"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، وهل الكافر نجسٌ أم لا؟:

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، فأما الحيّ فطاهر بإجماع المسلمين حتى الجنين إذا ألقته أمه، وعليه رطوبة فرجها، قال بعض أصحابنا: هو طاهر بإجماع المسلمين، قال: ولا يجيء فيه الخلاف المعروف في نجاسة رطوبة فرج المرأة، ولا الخلاف المذكور في كتب أصحابنا في نجاسة ظاهر بيض الدجاج ونحوه، فإن فيه وجهين بناءً على رطوبة الفرج. هذا حكم المسلم الحيّ.

وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، وللشافعيّ فيه قولان: الصحيح منهما أنه طاهر، ولهذا غُسِل، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إن المسلم لا ينجس"، وذكر البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عباس تعليقًا:"المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا"، هذا حكم المسلم.

وأما الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم، هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير من السلف والخلف، وأما قول الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالمراد نجاسة الاعتقاد، والاستقذارُ، وليس المراد أن أعضاءهم نجسةٌ كنجاسة البول والغائط ونحوهما، فماذا ثبتت طهارة الآدميّ مسلمًا كان أو كافرًا، فعَرَقه ولعابه ودمعه طاهرات، سواء كان مُحدِثًا، أو جنبًا، أو حائضًا أو نفساء، وهذا كله بإجماع المسلمين.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بإجماع المسلمين" فيه نظر؛ لأن مذهب الظاهريّة نجاسة عين الكافر، فتنبّه.

قال: وكذلك الصبيان أبدانهم وثيابهم ولعابهم محمولة على الطهارة، حتى تُتَيَقَّن النجاسة، فتجوز الصلاة في ثيابهم، والأكل معهم من المائع، إذا غمسوا أيديهم فيه، ودلائل هذا كله من السنة والإجماع مشهورة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 465.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 66.

ص: 504

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: إن الكافر نجس العين، واحتجّ بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفّظه عن النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار.

وحجتهم أن الله تعالى أباح نكاح نساء الكتاب، ومعلوم أن عَرَقَهنّ لا يَسلَم منه مَن يُضاجعهنّ، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابيّة إلا مثلُ ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدلّ على أن الآدميّ الحيّ ليس بنجس العين؛ إذ لا فرق بين النساء والرجال، وأغرب القرطبيّ في "الجنائز" من "شرح مسلم"، فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعيّ، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الصنعانيّ رحمه الله: ذهب قوم إلى أنه ينجس بالموت، ويطهر بالغسل، وآخرون إلى أنه لا يطهّره الغسل، بل الغسل مجرّد تعبّد، وآخرون إلى أنه لا ينجس بالموت، بل هو طاهر، وهذا الأخير أظهر الأقوال، وألصقها بالصواب؛ لعدم الأدلّة على خلافه، إلا عمومات تحريم أكل الميتة، ولا ملازمة بين تحريم الأكل والنجاسة، فإنه يحرم أكله حيًّا، وهو طاهر الذات اتّفاقًا، والأصل بقاؤه بعد الموت على ما كان عليه قبله. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن الآدميّ طاهر مطلقًا، مسلمًا كان، أو كافرًا هو الحقّ؛ للأدلّة التي تقدّمت، وأقواها جواز نكاح الكتابيّات، وجواز أكل طعامهم، وربط النبيّ صلى الله عليه وسلم ثُمامة بن أُثال الحنفيّ في مسجد حين أُسِر، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب دخول المشرك المسجدَ"، فأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد"، متّفقٌ عليه.

ففيه دلالة واضحة على طهارته؛ إذ لو كان نجسًا لما أدخله المسجد، ولَأمَر الصحابة الذين ربطوه بغسل أعضائهم لمسّه.

(1)

1/ 465.

(2)

"العدّة" 1/ 364.

ص: 505

وأما آية {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فمحمولة على نجاسة الاعتقاد، كما تقدّم آنفًا؛ توفيقًا بين الأدلّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[831]

(372) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَحَادَ عَنْهُ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، قَالَ: "إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

5 -

(وَاصِل) بن حيّان الأحدب الأسديّ الكوفيّ، بيّاع السابريّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

6 -

(أَبُو وَائِل) شقيق بن سلمة المذكور في الباب الماضي.

7 -

(حُذَيْفَة) بن اليمان، واسمه حِسْل، أو حُسَيل الْعَبْسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالكوفيين، إلا أن حذيفة رضي الله عنه كان معظم مقامه بالمدائن.

ص: 506

وقوله: (فَحَادَ عَنْهُ) أي مال، وعدل، يقال: حاد عن الشيء يَحِيد حَيْدَةً وحُيُودًا: تَنَحَّى، وبَعُدَ، ويتعدّى بالحرف والهمزة، فيقال: حِدتُ به، وأحدته، مثلُ: ذهب، وذهبت به، وأذهبته، قاله في "المصباح"

(1)

.

والمعنى: أن حذيفة رضي الله عنه مال عن طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يصافحه على عادته صلى الله عليه وسلم، كما بينته رواية النسائيّ، فقد أخرج الحديث من طريق أبي بردة، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لَقِيَ الرجل من أصحابه ماسحه ودعا له، قال: فرأيته يومًا بُكْرَةً، فَحِدتُ عنه، ثم أتيته حين ارتفع النهار، فقال:"إني رأيتك، فَحِدت عنّي"، فقلت: إني كنت جنبًا، فخَشِيت أن تَمَسَّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن المسلم لا ينجس"، وتمام شرح الحديث يُعلم مما قبله.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 831](372)، و (أبو داود) في "الطهارة"(230)، و (النسائيّ) فيها (1/ 145)، و (ابن ماجه) فيها (535)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1258 و 1369 و 1370)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(775 و 776 و 777 و 778)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(818 و 819)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(29) - (بَابُ مَشْرُوعِيَّةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[832]

(373) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْبَهِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ").

(1)

"المصباح المنير" 1/ 158.

ص: 507

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ الملقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10](ت بعد 220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.

3 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

4 -

(أَبُوهُ) هو: زكريّا بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فَيْرُوز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

5 -

(خَالِدُ بْنُ سَلَمَةَ) بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو الْمِقْسَم الكوفيّ، مدنيّ الأصل المعروف بالفأفاء، ثقةٌ

(1)

[5].

رَوَى عن عبد الله الْبَهِيّ، وعيسى، وموسى ابني طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن المسيِّب، وأبي بردة بن أبي موسى، والشعبيّ، وغيرهم.

ورَوى عنه أولاده: عكرمة، ومحمد، وعبد الرحمن، والسفيانان، وشعبة، ومِسْعَر، وزائدة، وزكرياء بن أبي زائدة، وابنه يحيى بن زكريا، وحماد بن زيد، وغيرهم، وحَدَّث عنه عمرو بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهما أكبر منه.

قال البخاريّ عن ابن المدينيّ: له نحو عشرة أحاديث، وقال أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ: ثقة، وكذا قال ابن عمار، ويعقوب بن شيبة، والنسائيّ، وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه، وقال ابن عديّ: هو في عداد من يُجْمَع حديثه، ولا أرى بروايته بأسًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: هَرَب من الكوفة إلى واسط لَمّا ظهرت دعوة بني العباس، فقُتِل مع

(1)

هذا أولى من قول "التقريب": صدوقٌ؛ لأن الأئمة وثّقوه، ولم يضعّفه أحد، وكذا قوله: رُمي بالإرجاء والنصب لا يصحّ؛ لأنه من رواية محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف؛ فتنبّه.

ص: 508

ابن هُبَيرة، وقال محمد بن حميد، عن جرير: كان الفأفاء رأسًا في المرجئة، وكان يُبغِض عليًّا

(1)

، وقال يعقوب بن شيبة: يقال: إن بعض الخلفاء قَطَع لسانه ثم قتله، ذكره علي بن المديني يومًا فقال: قُتِل مظلومًا، وقال أبو داود، عن الحسن بن عليّ الخلال: سمعت يزيد بن هارون يقول: دَخَلت الْمُسَوِّدة واسط سنة (132) فنادى مناديهم بواسط: الناس آمنون إلا ثلاثة: العَوّام بن حَوْشَب، وعُمَر بن ذَرّ، وخالد بن سلمة المخزوميّ، فأما خالد فقُتل، وأما العَوّام فهَرَب، وكان يُحَرِّض على قتالهم، وكان عُمر بن ذَرّ يقُصّ بهم، ويُحَرِّض على قتالهم عندنا بواسط.

أخرج له البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

6 -

(الْبَهِيُّ) - بفتح الموحّدة، وكسر الهاء، وتشديد التحتانيّة - اسمه عبد الله، ويقال: اسم أبيه يسار، أبو محمد الكوفيّ، مولى مُصعَب بن الزبير، صدوقٌ يُخطئ [3].

رَوَى عن عائشة، وفاطمة بنت قيس، وأبي سعيد الخدريّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد خير الْهَمْدانيّ، وأبي عبد الله الصُّنَابحيّ، وعروة.

وروى عنه خالد بن سلمة، وأبو إسحاق السبيعيّ، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل السُّدّيّ، والعباس بن ذُريح، ووائل بن داود، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً معروفًا بالحديث، وقال أحمد في حديث زائدة، عن السُّديّ، عن الْبَهِيّ، حدثتني عائشة: كان عبد الرحمن بن مهديّ قد سمعه من زائدة، وكان يَدَع منه "حدثتني عائشة"، وينكره؛ يعني ينكر لفظة "حدثتني"، قال أحمد: والبهيّ سمع عائشة، ما أرى هذا شيئًا، إنما يروي عن عروة، وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: لا يُحْتَجُّ بالبهيّ، وهو مضطرب الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة.

(1)

هذا لم يثبت عنه إلا برواية محمد بن حميد الرازيّ، وهو ضعيف، فلا ينبغي الالتفات إليه؛ فتنبّه.

ص: 509

و"عُرْوَةُ" بن الزبير، و"عائشة" تقدّما قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى البهيّ، غير شيخه إبراهيم، فرازيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: خالد، عن البهيّ، عن عروة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ) أي كلّ أوقاته، فـ"على" بمعنى "في"، و"الأحيان" بالفتح جمع حين، وهو الوقت، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الحين": الزمان قَلَّ أو كَثُر، والجمع أحيان، قال الفرّاء: الحين حِينان: حينٌ لا يُوقَف على حدّه، والحين الذي في قوله تعالى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] ستة أشهر، قال أبو حاتم: وغَلِطَ كثيرٌ من العلماء، فجعلوا "حين" بمعنى "حيثُ"، والصواب أن يقال:"حيثُ" بالثاء المثلّثة ظرف مكان، و"حينٌ" بالنون ظرف زمان، فيقال: قُمتُ حيثُ قمتَ؛ أي في الموضع الذي قُمت فيه، واذهب حيثُ شِئتَ؛ أي إلى أيّ موضع شئتَ، وأما حين بالنون، فيقال: قمتُ حين قمتَ: أي في ذلك الوقت، ولا يقال: حيثُ خرج الحاجّ بالثاء المثلّثة.

وضابطه أن كلَّ موضع حَسُنَ فيه "أينَ"، و"أيٌّ" اختَصّ به حيثُ بالثاء، وكلُّ موضع حسُن فيه "إذا"، و"لَمّا" و"يومٌ"، و"وقت"، وشبهه اختَصَّ به "حينٌ " بالنون. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض، فالجمهور على

(1)

"المصباح المنير" 1/ 160.

ص: 510

تحريم القراءة عليهما جميعًا، ولا فرق عندنا بين آية وبعض آية، فإن الجميع يَحْرُم، ولو قال الجنب:"بسم الله"، أو "الحمد لله"، ونحو ذلك إن قَصَد به القرآن حَرُم عليه، وإن قَصَد به الذكر أو لم يَقصِد شيئًا، لم يحرُم، ويجوز للجنب والحائض أن يُجريا القرآن على قلوبهما، وأن ينظرا في المصحف، ويستحب لهما إذا أرادا الاغتسال أن يقولا:"بسم الله" على قصد الذكر.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة قراءة القرآن للجنب والحائض قد حقّقته في "شرح النسائيّ"، ورجّحت الجواز، وهو مذهب ابن عبّاس، وعكرمة، وسعيد بن المسيّب، والبخاريّ، والطبريّ، وابن المنذر، وحجتهم حديث عائشة رضي الله عنها هذا، وحجة من منع - وهم الجمهور - أحاديث كلها ضعيفة، وقد استوفيت بيانها هناك، فراجعه تستفد علمًا جمًّا

(1)

، والله تعالى أعلم.

قال: (واعلم): أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط، وفي حالة الجماع، وقد قدمنا بيان هذا قريبًا في آخر "باب التيمم"، وبيّنا الحالة التي تُسْتَثنى منه، وذكرنا هناك اختلاف العلماء في كراهته، فعلى قول الجمهور أنه مكروه يكون الحديث مخصوصًا بما سوى هذه الأحوال، ويكون معظم المقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى متطهرًا، ومحدثًا، وجنبًا، وقائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، وماشيًا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن عبد الهادي المقدسيّ في تعليقه على "علل ابن أبي حاتم": قال الحافظ أبو أحمد بن عديّ رحمه الله في "كتابه "الكامل" في ترجمة خالد بن سلمة الفأفاء: حدّثنا أبو عروبة، ثنا أبو كريب، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن الْبَهِيّ، عن عروة، عن عائشة: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه".

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 4/ 391 - 393.

ص: 511

رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي كُريب، ورواه أبو داود أيضًا عن أبي كريب، ورواه الترمذيّ عن أبي كريب، ومحمد بن عُبيد المحاربيّ، عن يحيى بن زكريّا، ورواه ابن ماجه عن سُويد بن سعيد، عن يحيى بن زكريّا، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي كريب، وعليّ بن مسلم، عن ابن أبي زائدة.

وقد روي من غير حديث يحيى، فرواه الإمام أحمد بن حنبل، عن الوليد بن القاسم، عن زكريّا، ورواه هارون بن معروف، عن إسحاق الأزرق، عن زكريا.

وقال ابن عديّ - بعد أن رواه -: وحديث يحيى بن زكريّا، عن أبيه، عن خالد يرويه عن خالد زكريّا بن أبي زائدة، ثم قال: ولخالد بن سلمة غيرُ ما ذكرت من الحديث، وهو في عِداد من يُجْمَعُ حديثه، وحديثه قليلٌ، ولا أرى برواياته بأسًا.

وقال الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ، ومحمد بن عبد الله بن عمّار، ويعقوب بن شيبة، والنسائيّ: خالد بن سلمة ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ يُكتب حديثه، وذكره أبو حاتم ابن حِبَان في كتاب "الثقات"، وقال البخاريّ، عن عليّ بن المدينيّ: له نحو عشرة أحاديث، وقال محمد بن حُميد الرازيّ، عن جرير: كان خالد بن سلمة الفأفاء رأسًا في المرجئة، وكان يُبغض عليًّا

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: سألتُ أبا زرعة عن حديث خالد بن سلمة، عن البهيّ، عن عروة، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كلّ أحيانه"، فقال: ليس بذاك، هو حديثٌ لا يُروى إلا من هذا الوجه، فذكرتُ قولَ أبي زرعة لأبي رحمه الله، فقال: الذي أرى أن يذكر الله على كلّ حال على الكنيف وغيره على هذا الحديث، والله أعلم وأحكم. انتهى

(2)

.

(1)

تقدّم أن هذا غير مقبول؛ لأنه من رواية محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، فلا يُقبل منه مثل هذا الجرح؛ فتنبّه.

(2)

تعليقة ابن عبد الهادي على علل ابن أبي حاتم ص 125 - 127.

ص: 512

قال الجامع عفا الله عنه: كلام أبي حاتم رحمه الله هذا يدلّ على أنه يصحّح هذا الحديث، حيث استنبط منه الحكم المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 832](373)، وعلّقه (البخاريّ) في "صحيحه"(1/ 407 و 2/ 114) وفي "الأذان"(2/ 114)، وأخرجه (أبو داود) في "الطهارة"(18)، و (الترمذيّ) في "الدعاء"(3384)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(302)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 70 و 153 و 278)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(257)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(802)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4699)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 90)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(274)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(578)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(819)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ جَوَازِ أَكْلِ الْمُحْدِثِ الطَّعَامَ، وَأنهُ لَا كَرَاهَةَ في ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[833]

(374) - (حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ يَحْيى: أَخْبَرَنَا

(1)

حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، وَقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثنَا حَمَّاد، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُويرِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الْخَلَاء، فَأُتيَ بِطَعَامٍ، فَذَكَرُوا لَهُ الْوُضُوءَ

(2)

، فَقَالَ:"أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ، فَأتوَضَّأَ؟ ").

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "فذُكِرَ له الوضوءُ".

ص: 513

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارِ) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْحُويرِثِ) ويقال: ابن أبي الْحُوَيرث مولى السائب، أبو يزيد المكيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه ابن جريج، وعمرو بن دينار.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كنيته أبو يزيد.

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، في "الشمائل"، والنسائيّ، وله عندهم هذا الحديث فقط، وكرّره المصنّف هنا أربع مرّات.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو، عن سعيد، وهو من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الرابعة.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال يحيى: أخبرنا

" إلخ، ومعنى ذلك أن شيخيه اختَلَفا في صيغ الأداء، فقال يحيى بن يحيى: "أخبرنا حماد بن زيد"، فعبّر بـ"أخبرنا"؛ لكونه سمعه من حمّاد بقراءة غيره عليه، ونسب حمادًا

ص: 514

إلى أبيه، وقال أبو الربيع:"حدّثنا حماد"، فعبّر بـ "حدّثنا"؛ لكونه سمعه من لفظه، وأيضًا لم ينسب حمادًا إلى أبيه، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُويرِثِ) وفي الرواية الآتية: "أنه سمعه من سعيد بن الحويرث"(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي الرواية التالية:"سمعت ابن عبّاس"(أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الْخلَاءِ) بالفتح، والمدّ، كالفضاء وزنًا ومعنًى، والخلاء أيضًا: الْمُتَوَضّأ

(1)

، ويقال: الخلاء في الأصل: الموضع الخالي، وسُمّي به موضع قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا يقصدون الموضع الخالي للحاجة، وخروجه صلى الله عليه وسلم من الخلاء مشعرٌ بأنه كان موضعًا مهيّأ لذلك، بحيث يدخل إليه صاحب الحاجة، ويخرج منه (فَأُتيَ بِطَعَامٍ) ببناء الفعل للمفعول، والتعبير بالفاء للإشارة إلى الترتيب والتعقيب، وعدم الفصل بين الخروج من الخلاء، والإتيان بالطعام بوضوء، وفي رواية أبي عوانة:"خرج من الخلاء، فأتي بعَرْقٍ، فأكل منه، ولم يتوضّأ"(فَذَكَرُوا لَهُ الْوُضُوءَ) وفي نسخة: "فذُكر له الوضوء" بالبناء للمفعول، وهو معطوف على محذوف؛ أي فأقبل على الطعام، فظنّوا أنه نسي أن يتوضّأ قبل أن يأكل، فذكروه له فقالوا:"يا رسول الله ألا تتوضّأ؟ "، وفي رواية:"إنك لم تَوَضّأ"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ) الكلام على الاستفهام، والأصل: أأريد أن أُصلّي (فَأتوَضَّأَ؟ ") والاستفهام للإنكار، بمعنى النفي؛ أي لا أريد أن أُصلّي، حتى أتوضّأ

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: الوضوء يكون لمن أراد الصلاة، وأنا لا أريد أن أصلي، الآن، والمراد بالوضوء الوضوء الشرعيّ، وحمله القاضي عياض على الوضوء اللغويّ، وجعل المراد غسل الكفين، وحَكَى اختلاف

(1)

"المصباح" 1/ 181.

(2)

راجع: "فتح المنعم" 2/ 419.

ص: 515

العلماء في كراهة غسل الكفين قبل الطعام، واستحبابه، وحَكَى الكراهة عن مالك، والثوريّ - رحمهما الله تعالى - والظاهر ما قدمناه أن المراد الوضوء الشرعيّ. انتهى كلام النوويّ، وهو تحقيقٌ حسن، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "فأتوضّأَ" منصوب بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 833 و 834 و 835 و 836](374)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3760)، و (الترمذيّ) فيها (1847) وفي "الشمائل"(187)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 107 و 108)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5208)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2835)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(766 و 767 و 768 و 769 و 770 و 771 و 772)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(820 و 821 و 822 و 823)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز أكل المحدث الطعامَ، وأنه لا كراهة في ذلك، قال النوويّ رحمه الله:(اعلم) أن العلماء مُجْمِعون على أن للمحدث أن يأكل، ويشرب، ويذكر الله سبحانه وتعالى، ويقرأ القرآن، ويُجامِع، ولا كراهة في شيء من ذلك، وقد تظاهرت على هذا كله دلائل السنة الصحيحة المشهورة، مع إجماع الأمة، وقد قدَّمنا أن أصحابنا رحمهم الله تعالى اختَلَفوا في وقت وجوب الوضوء: هل هو بخروج الحدث، ويكون وجوبًا مُوَسَّعًا، أم لا يجب إلا

ص: 516

بالقيام إلى الصلاة، أم يجب بالخروج والقيام؟ فيه ثلاثةُ أوجه، أصحها عندهم الثالث، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان أن الوضوء ليس على الفور، بل إنما يجب عند إرادة القيام إلى الصلاة مع الحدث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[834]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُويرِثِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ مِنَ الْغَائِطِ، وَأُتِيَ

(2)

بِطَعَام، فَقِيلَ لَهُ: ألَا تَوَضَّأُ؟ فَقَالَ: "لِمَ؟ أَأُصَلِّي

(3)

، فَأَتَوَضَّأ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الْهِلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة ثبتٌ حافظ فقيهٌ حجة، أثبت الناس في عمرو بن دينار، من كبار [8](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (فَجَاءَ مِنَ الْغَائِطِ)"الغائط" في الأصل: المطمئنّ الواسع من الأرض، والجمع غِيطان، وأَغْوَاط، وغُوطٌ، ثم أُطلق الغائط على الخارج الْمُسْتَقْذَر من الإنسان؛ كراهية لتسميته باسمه الخاصّ؛ لأنهم كانوا يَقضُون حوائجهم في المواضع الْمُطْمَئِنّة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسّعوا فيه حتى اشتقّوا منه، وقالوا: تَغَوّط الإنسان، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 69.

(2)

وفي نسخة: "فَأُتي" بالفاء.

(3)

وفي نسخة: "لم؟ أُصلي؟ " بهمزة واحدة.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 457.

ص: 517

وقوله: (ألَا تَوَضَّأُ؟) أصله "ألا تتوضّأ" حُذفت منه إحدى التاءين، كما سبق قريبًا، و"ألا" للعرض.

وقوله: (لِمَ؟) بكسر اللام، وفتح الميم، هي "ما" الاستفهاميّة حُذفت ألفها لكونها مجرورة بالحرف، كما قال في "الخلاصة":

وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وقوله: (أَأُصَلِّي) وفي نسخة: "أُصلّي" بهمزة واحدة، أي بحذف همزة الاستفهام، و"أُصلي" بإثبات الياء في آخره، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّمت مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[835]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُويرِث، مَوْلَى آلِ السَّائِب، أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ

(1)

: ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَائِط، فَلَمَّا جَاءَ قُدِّمَ لَهُ طَعَامٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ

(2)

، ألا تَوَضَّأُ؟ قَالَ:"لِمَ؟ أَلِلصَّلَاةِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ) يُعَدُّ في المكيين، واسم جدّه سوس، وقيل: سوسن - بزيادة نون في آخره - وقيل: بتحتانيّة بدل الواو فيهما، وقيل: مثل حُنين، صدوقٌ يُخطئ [8].

رَوَى عن إبراهيم بن ميسرة، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وأيوب بن موسى، وابن أبي نَجِيح، وعبد الله بن طاوس، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "يقول".

(2)

وفي نسخة: "قيل له: يا رسول الله".

ص: 518

ورَوَى عنه ابن المبارك، وعبد الوهاب الثقفيّ، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الرزاق، والهيثم بن جَميل، وموسى بن داود الضبيّ، ومعن بن عيسى، وسعيد بن سليمان الواسطيّ، وأبو مسهر، ومحمد بن سِنَان الْعَوَقيّ، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو نعيم، والقعنبيّ، وقتيبة بن سعيد، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما أضعف حديثه، وقال عباس الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ لا بأس به، وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حَدَّث من حفظه يخطئ، وإذا حَدَّث من كتابه فليس به بأس، وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحبّ إليّ من داود العطار في عمرو، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال حجاج بن الشاعر، عن عبد الرزاق: ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوريّ، وقال البخاريّ عن ابن مهديّ: كتبه صِحَاح، وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال الميمونيّ: ضعّفه أحمد على كلّ حال من كتاب وغير كتاب، وقال ابن حبان رحمه الله لَمّا ذكره في "الثقات": يخطئ، وقال العجليّ، وأبو داود: ثقةٌ، وقال الساجيّ: صدوقٌ يَهِم في الحديث، رَوَى عن عمرو بن دينار حديثًا يَحتجّ به القدرية، لم يروه غيره، فأحسبه اتُّهِم بالقدر لروايته، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به، وإن كان ابن عيينة أحبّ منه.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر له ابن عديّ أحاديث، وقال: له أحاديث حِسَان غرائب، وهو صالح الحديث، لا بأس به، ولم أر له حديثًا منكرًا.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديث واحد برقم (374).

والباقون تقدّموا قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 519

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[836]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ حُوَيْرِثٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى حَاجَتَهُ مِنَ الْخَلَاء، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَأَكَلَ وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً

(1)

. قَالَ: وَزَادَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِث، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَمْ تَوَضَّأْ، قَالَ:"مَا أَرَدْتُ صَلَاةً، فَأَتوَضَّأَ"، وَزَعَمَ عَمْرٌو، أَنَّهُ سَمِعَ

(2)

مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ) بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد بن الضحّاك الشيبانيّ، النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس، ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً) تقدّم أنه بفتح الميم، مضارع مسّ يَمَسّ، من باب تَعِبَ، ويجوز يَمُسّ بضمّ الميم، من باب نصر.

وقوله: (قَالَ: وَزَادَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) القائل: "وزادني" هو ابن جُريج، كما بيّنه الحافظ المزّي في "الأطراف"

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "فلم يمسّ ماءً".

(2)

وفي نسخة: "أنه سمعه".

(3)

راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 390.

ص: 520

وقوله: (إِنَّكَ لَمْ تَوَضَّأْ) أصله "لم تتوضّأ" بتاءين، فحُذفت إحداهما؛ تخفيفًا، كما تقدّم بيانه قريبًا.

وقوله: (فَأَتَوَضَّأَ) بالنصب بعد فاء السببيّة في جواب النفي، أي في قوله:"ما أردتُ صلاةً".

وقوله: (وَزَعَمَ عَمْرٌو) المراد بالزعم هنا القول المحقّق.

وقوله: (أَنَّهُ سَمِعَ) بحذف ضمير المفعول، ووقع في نسخة:"أنه سمعه" بإثباته؛ أي سمع هذا الحديث من سعيد بن الحويرث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

(31) - (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[837]

(375) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ يَحْيَى أَيْضًا: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، فِي حَدِيثِ حَمَّادٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ؛ وَفِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ، قَالَ: "اللَهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هُشَيْم) بن بشير بن القاسم بن دينار السَّلَميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 521

3 -

(أَنَس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الْخَزرجيّ، الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه فنيسابوريّ، وهشيم فواسطيّ.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو الخادم الشهير، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، وهو من المعمَّرين، جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (فِي حَدِيثِ حَمَّادٍ) جار ومجرور خبر مقدّم لقوله: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لقصد لفظه، فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ، يعني أن لفظ حديث حمّاد بن زيد، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَخَلَ الْخلَاءَ) " أي أراد دخول الخلاء، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية [النحل: 98]؛ أي إذا أردت قراءة القرآن، وذلك لأن اسم الله تعالى لا يُذكر بعد الدخول؛ لأنه مكروه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"إني كرهتُ أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر"، وهو حديث صحيح، كما تقدّم بيانه.

[تنبيه]: هذا التقدير - أعني قوله: "إذا أراد أن يدخل" - جاء مصرّحًا به في رواية أخرجها البخاريّ في "الأدب المفرد" قال: حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا

ص: 522

سعيد بن زيد

(1)

، حدّثنا عبد العزيز بن صُهَيب، قال: حدّثني أنس بن مالك، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال

فذكر مثل حديث الباب.

قال في "الفتح": وأفادت هذه الرواية تبيين المراد من قوله: "إذا دخل الخلاء"، أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده، وهذا في الأمكنة المعدّة لذلك بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطّال: رواية "إذا أتى" أعمّ؛ لشمولها. انتهى.

قال: والكلام هنا في مقامين:

[أحدهما]: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدَّة لذلك؛ لكونها تحضرها الشياطين، كما ورد في حديث زيد بن أرقم في "السنن"، أو يَشمَلُ حتى لو بال في إناء مثلًا في جانب البيت؟ الأصح الثاني، ما لم يَشْرَع في قضاء الحاجة.

[المقام الثاني]: متى يقول ذلك؟ فمن يَكرَه ذكر الله في تلك الحالة يُفَصِّل، أما في الأمكنة المعدَّة لذلك، فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع، كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور، وقالوا فيمن نسي: يَستعيذ بقلبه لا بلسانه، ومن يُجيز مطلقًا، كما نُقِل عن مالك، لا يَحتاج إلى تفصيل. انتهى

(2)

.

(وَفِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ) إعرابه كسابقه، يعني لفظ حديث هُشيم، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس رضي الله عنه هو:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ) بدل قول حمّاد: "دخل الخلاء"، و"الْكَنِيف" بفتح الكاف، وكسر

(1)

قال في "الفتح"(1/ 294): سعيد بن زيد المذكور في هذا السند، صدوقٌ، تَكَلَّم بعضهم في حفظه، وليس له في البخاري غير هذا الموضع المعلَّق، لكن لم ينفرد بهذا اللفظ، فقد رواه مسدد، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز مثله، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، وهو على شرط البخاريّ. انتهى.

(2)

"الفتح" 1/ 294.

ص: 523

النون: المراد به هنا الْمِرْحاضُ، و"الكنيف" في الأصل: الْحَظِيرةُ، والساتر، ويُسمّى التُّرْسُ أيضًا كَنِيفًا؛ لأنه يَستُرُ صاحبه، وقيل للْمِرْحاض: كَنِيفٌ؛ لأنه يَستُرُ قاضي الحاجة، والجمع كُنُفٌ، مثلُ نَذِيرٍ ونُذُرٍ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ) أصله يا الله، فحُذفت "يا" وعُوّض عنها الميم، وقد يُجمع بينهما في الشعر، كقوله [من الرجز]:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا

وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَالأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ يَا اللَّهُمَّ فِي قَرِيضِ

(إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) أي ألوذُ، وألتجئ إليك؛ من الْعَوذ، وهو عُودٌ يَلجأ إليه الحشيش في مَهَبّ الريح، وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: عُذتُ به أعوذ عَوْذًا وعِيَاذًا ومَعَاذًا: أي لجأت إليه، والْمَعَاذ: المصدر، والمكان، والزمان: أي لقد لَجَأتُ إلى مَلْجأ، ولُذتُ بِمَلاذٍ. انتهى

(2)

.

(مِنَ الْخُبْث، وَالْخَبَائِثِ") قال في "الفتح": "الْخُبُث" بضم المعجمة والموحدة، كذا في الرواية، وقال الخطابيّ: إنه لا يجوز غيره، وتُعُقَّب بأنه يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره، مما جاء على هذا الوجه، ككُتُب وكُتْب، قال النوويّ: وقد صَرَّح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، منهم أبو عبيدة، إلا أن يقال: إن ترك التخفيف أولى؛ لئلا يشتبه بالمصدر، و"الْخُبُث": جمع خَبِيث، و"الخبائث": جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم، قاله الخطابيّ، وابن حبان، وغيرهما. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": قال الخطابيّ: "الْخُبُثُ" بضم الخاء والباء: جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم، وعامة أصحاب الحديث يقولون:"الْخُبْث" مسكنة الباء، وهو غلطٌ، والصواب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 542.

(2)

"النهاية" 3/ 318.

(3)

"الفتح" 1/ 293.

ص: 524

مضمومة الباء، قال: وقال ذلك لأن الشياطين يحضرون الأخلية، وهي مواضع يُهْجَر فيها ذكر الله تعالى، فقَدَّم لها الاستعاذة؛ احترازًا منهم. انتهى.

وفيه نظر؛ لأن أبا عُبيد القاسم بن سلّام حَكَى تسكين الباء، وكذا الفارابيّ في "ديوان الأدب"، والفارسي في "مجمع الغرائب"، ولأن فُعُلًا بضمتين قد تُسَكَّن عينه؛ قياسًا، ككُتُب وكُتْب، فلعلّ مَن سكّنها سلك هذا المسلك.

وقال التُوربشتيّ: هذا مستفيض لا يسع أحدًا مخالفته، إلا أن يزعُم أن ترك التخفيف فيه أولى؛ لئلا يشتبه بالْخُبْث الذي هو المصدر.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وأما "الخبث" فبضم الباء وإسكانها، وهما وجهان مشهوران في رواية هذا الحديث، ونَقَل القاضي عياض رحمه الله أن أكثر روايات الشيوخ الإسكان، وقد قال الإمام أبو سليمان الخطابيّ رحمه الله:"الخبث" بضم الباء: جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، قال: يريد ذكران الشياطين وإناثهم، قال: وعامة المحدثين يقولون: الخبْث بإسكان الباء، وهو غَلَطٌ، والصواب الضم، هذا كلام الخطابيّ.

وهذا الذي غَلَّطهم فيه ليس بغَلَط، ولا يصح إنكاره جوازَ الإسكان، فإن الإسكان جائز على سبيل التخفيف، كما يقال: كُتْبٌ، ورُسْلٌ، وعُنْقٌ، وأُذْنٌ، ونظائره، فكلُّ هذا وما أشبهه جائز تسكينه بلا خلاف عند أهل العربية، وهو باب معروف من أبواب التصريف، لا يمكن إنكاره، ولعل الخطابيّ أراد الإنكار على مَن يقول: أصله الإسكان، فإن كان أراد هذا فعبارته موهمة.

وقد صَرَّح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنةٌ، منهم الإمام أبو عبيد إمام هذا الفن، والعمدة فيه.

واختلفوا في معناه، فقيل: هو الشرّ، وقيل: الكفر، وقيل: الخبث:

ص: 525

الشياطين، والخبائث: المعاصي، قال ابن الأعرابيّ: الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الْمِلَل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضارّ، والله أعلم،

وهذا الأدب مُجْمَع على استحبابه، ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

وقال في "العمدة": قال ابن الأنباريّ، وصاحب "المنتهى": الخبث: الكفر، ويقال: الشيطان، والخبائث: المعاصي، جمع خبيثة، ويقال: الخبث: خلاف طيب الفعل، من فجور وغيره، والخبائث: الأفعال المذمومة، والخصال الرديئة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 837 و 838](375)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(142) وفي "الدعوات"(6322) وفي "الأدب المفرد"(692)، و (أبو داود) في "الطهارة"(4 وه)، و (الترمذيّ) فيها (5 و 6)، و (النسائيّ) فيها (1/ 20) وفي "عمل اليوم والليلة"(74)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(298)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 1)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 99 و 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1407)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(28)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 95)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(186)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 216)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(824 وه 82 و 826)، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 269 - 270.

ص: 526

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة الاستعاذة عند إرادة الدخول في الخلاء، وقد أجمع أهل العلم على استحبابها، وسواء في ذلك البنيان والصحراء؛ لأن الشياطين تحضر تلك الأمكنة؛ إذ هي مواضع يُهجر فيها ذكر الله تعالى، فينبغي تقديم الاستعاذة تحصّنًا منهم.

2 -

(منها): بيان كون أماكن قضاء الحاجة تتمكن منها الشياطين، وقد أخرج أبو داود، وغيره بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذه الْحُشُوش مُحتَضَرةٌ، فإذا أتى أحدكم الخلاء، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث".

3 -

(ومنها): أن محلّ الاستعاذة عند إرادة الدخول، لا بعد الدخول؛ لرواية البخاريّ في "الأدب المفرد" التي قدّمناها، فلو نسي التعوّذ فدخل، فذهب ابن عبّاس وغيره إلى كراهة التعوّذ باللسان، وأجازه بعضهم، والأول أرجح؛ لما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر"، وهو حديث صحيح، وقد استوفيت المسألة في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان أن لفظ الاستعاذة أن يقول: "اللهمّ إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، وفي الرواية الآتية:"أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وفي رواية عند أبي داود:"فليتعوّذ بالله"، وهو يشمل كل ما يأتي به من أنواع الاستعاذة، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم معصومًا من الشيطان حتى من الموكّل به بشرط استعاذته منه، ومع ذلك فقد كان اللعين يَعْرض له، عَرَضَ له ليلة الإسراء، فدفعه بالاستعاذة، وعَرَض له في الصلاة، فشدّ وثاقه، ثم أطلقه، وكان يخصّ الاستعاذة في هذا الموضع بوجهين:

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 1/ 300 - 301.

ص: 527

[أحدهما]: أنه خلاء، وللشيطان بسنّة الله تعالى قدرة تسلط في الخلاء ما ليس له في الملأ، فقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب".

[الثاني]: أنه موضع قذر ينزّه ذكر الله عن جريانه على اللسان، فيغتنم الشيطان ذلك؛ لأن الذكر يطرده، فلجأ إلى الاستعاذة قبل ذلك؛ لتكون عصمة مانعة بينه وبين الشيطان حتى يخرج، ولتعليم أمته أيضًا. انتهى.

وقال في "الفتح": كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ؛ إظهارًا للعبوديّة، ويجهر بها؛ للتعليم، وقد روى العمريّ هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صُهيب بلفظ الأمر، قال:"إذا دخلتم الخلاء، فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، قال: ولم أرها في غير هذه الرواية. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: لم يُخرج المصنّف رحمه الله ما يقوله عند الخروج من الخلاء؛ لعدم صحّة ما ورد من ذلك، إلا ما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائيّ، وصححه الحاكم وغيره، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك".

وأما ما أخرجه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى، وعافاني"، فضعيف.

وكذا ما أخرجه الدارقطنيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: "الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني، وأمسك عليّ ما ينفعني".

وكذا ما أخرجه عن ابن عمر مرفوعًا: "الحمد لله الذي أذاقني لذّته، وأبقى عليّ قوته، وأذهب عني أذاه"، فكلّها ضعاف؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 1/ 294.

ص: 528

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[838]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، وعبد العزيز: هو ابن صُهيب.

وقوله: (وقال: أعوذ بالله) فاعل "قال" ضمير إسماعيل.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(11545)

حدثنا إسماعيل، حدثنا عبد العزيز، عن أنس، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال:"أعوذ بالله من الخبث والخبائث".

وقال الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه":

(298)

حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا إسماعيل ابن علية، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ نَوْمَ الْجَالِسِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[839]

(376) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَارِث، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز، عَنْ أَنَسٍ،

ص: 529

قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَجِيٌّ لِرَجُلٍ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ: وَنَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي الرَّجُلَ

(1)

، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبت حافظ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ رُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236)، وله بضع وتسعون سنة (م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

4 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

5 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهيب المترجم في الباب الماضي.

6 -

(أَنَس) بن مالك المترجم في الباب الماضي أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (38) من رباعيّات الكتاب، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "يناجي رجلًا".

ص: 530

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أي صلاة العشاء، كما بيّنته رواية ثابت الآتية (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَجِيٌّ لِرَجُلٍ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من "الصلاة"، والرابط الواو.

و"النّجِيّ": فعيلٌ بمعنى فاعل، وهو المناجي، ومعناه: مُسارٌّ له، والمناجاة: التحديث سرًّا، ويستوي فيه الواحد وغيره، فيقال: رجلٌ نَجِيٌّ، ورجلان نَجِيّ ورجال نَجِيّ، بلفظ واحد، قال الله تعالى:{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، وقال تعالى:{خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]

(1)

.

قال في "الفتح": ولم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشرّاح أنه كان كبيرًا في قومه، فأراد أن يتألّفه على الإسلام، ولم أقف على مستند ذلك، قيل: وَيحْتَمِل أن يكون مَلَكًا من الملائكة جاء بوحي من الله عز وجل، ولا يخفى بُعْدُ هذا الاحتمال. انتهى

(2)

.

(وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: "ونبيُّ الله

إلخ"؛ لقصد لفظه، فهو مبتدأ محكيّ (وَنَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي الرَّجُلَ) هكذا معظم النسخ بالتعريف، فاللام للعهد الحضوريّ؛ أي الرجل الحاضر في ذلك الوقت، ووقع في بعض النسخ: "يناجي رجلًا"، وهو الذي في "صحيح البخاريّ"، وزاد: "في جانب المسجد".

(فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ) هذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم جلس مع الرجل للمناجاة (حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ) وفي رواية إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن ابن عُليّة، عن عبد العزيز في هذا الحديث:"حتى نَعَسَ بعض القوم"، وكذا هو عند ابن حبّان من وجه آخر عن أنس رضي الله عنه، ولفظه:"أُقيمت الصلاة ذات يوم، فعَرَضَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فكلّمه في حاجة له هَوِيًّا من الليل، حتى نَعَس بعض القوم".

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 72 - 73.

(2)

"الفتح" 2/ 146.

ص: 531

وهو يدلّ على أن النوم المذكور لم يكن مستغرقًا، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 839 و 840 و 841 و 842](376)، و (البخاريّ) في "الأذان"(642 و 643)، و"الاستئذان"(6292)، و (أبو داود) في "الطهارة"(201)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(78 و 518)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(2/ 81)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1931)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 411)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 160 و 161 و 182 و 205 و 232)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2035)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 22)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(443)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1346 و 1347 و 1348)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(827 و 828 و 829 و 830)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز مناجاة الرجل بحضرة الجماعة، وإنما نُهِي عن ذلك بحضرة الواحد، فقد أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كانوا ثلاثةً، فلا يتناجى اثنان دون الثالث"، وأخرجا أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثةً، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن يُحْزنَهُ".

2 -

(ومنها): بيان كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، حيث كان يستجيب

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 146.

ص: 532

لكلّ من طلب حاجة، فقد قال الرجل له - بعد أن أقيمت الصلاة -:"لي حاجة"، فقام له، وناجاه طويلًا، فما أعظم خلقه الكريم، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): جواز تشاغل الإمام إذا عَرَضَت له حاجة بعدما تُقام الصلاة، ومثله غيره؛ إذ لا فرق في ذلك.

4 -

(ومنها): جواز الكلام بعد إقامة الصلاة، لا سيما في الأمور المهمة، ولكنه مكروه في غير المهمّ، قال صاحب "التلويح": فيه جواز الكلام بعد الإقامة، وإن كان إبراهيم، والزهريّ، وتبعهما الحنفيّة كرهوا ذلك، وقال مالك: إذا بَعُدت الإقامة، رأيتُ أن تعاد استحبابًا. انتهى.

وقال العينيّ: إنما كره الحنفيّة الكلام بين الإقامة والإحرام إذا كان لغير ضرورة، وأما إذا كان لأمر من أمور الدين فلا يُكره. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن فيه تقديمَ الأهمّ، فالأهمّ من الأمور عند ازدحامها، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما ناجاه بعد الإقامة في أمر مُهِمّ من أمور الدين، مصلحته راجحة على تقديم الصلاة.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على الردّ على من أطلق من الحنفيّة أن المؤذّن إذا قال: "قد قامت الصلاة" وجب التكبير على الإمام، قاله في "الفتح"

(2)

.

7 -

(ومنها): جواز تأخير الصلاة عن أول وقتها للحاجة.

8 -

(ومنها): بيان أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، وهذه هي المسألة المقصودة بهذا الباب، وسيأتي تحقيقها في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 158.

(2)

2/ 146.

ص: 533

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في انتقاض الوضوء بالنوم:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء فيها على مذاهب:

[أحدها]: أن النوم لا ينقض الوضوء على أيّ حال كان، وهذا محكيّ عن أبي موسى الأشعريّ، وسعيد بن المسيِّب، وأبي مِجْلَز، وحميد الأعرج، وشعبة.

[والمذهب الثاني]: أن النوم ينقض الوضوء بكل حال، وهو مذهب الحسن البصريّ، والمزنيّ، وأبي عبيد القاسم بن سلّام، وإسحاق بن راهويه، وهو قول غريب للشافعيّ، قال ابن المنذر: وبه أقول، قال: ورُوي معناه عن ابن عباس، وأنس، وأبي هريرة رضي الله عنهم.

[والمذهب الثالث]: أن كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بحال، وهذا مذهب الزهريّ، وربيعة، والأوزاعيّ، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

[والمذهب الرابع]: أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلين؛ كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد، لا ينتقض وضوؤه، سواءٌ كان في الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعًا أو مستلقيًا على قفاه انتقض، وهذا مذهب أبي حنيفة، وداود، وهو قول للشافعيّ غريب.

[والمذهب الخامس]: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، رُوي هذا عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

[والمذهب السادس]: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد، وروي أيضًا عن أحمد رحمه الله.

[والمذهب السابع]: أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة، وهو قول ضعيف للشافعيّ رحمه الله.

[والمذهب الثامن]: أنه إذا نام جالسًا ممكنًا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، سواء قلّ أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعيّ، وعنده أن النوم ليس حدثًا في نفسه، وإنما هو دليل

ص: 534

على خروج الريح، فإذا نام غير مُمَكِّن المقعدة غلب على الظن خروج الريح، فجَعَل الشرع هذا الغالب كالمحقَّق، وأما إذا كان مُمَكِّنًا، فلا يغلب على الظن الخروج، والأصل بقاء الطهارة، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذه المسألة يُستدلّ بها لهذه المذاهب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله لأن به تجتمع الأدلّة، وحاصله أن نوم الممكّن مقعدته من الأرض لا ينتقض، وإلا انتقض مطلقًا، قلّ نومه أو كثُر، في الصلاة أو خارجها.

وأدلّة هذا المذهب كثيرة، منها حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يُصلّون، ولا يتوضّئون".

وفي رواية أبي داود: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تَخْفِقَ رؤوسهم، ثم يصلّون، ولا يتوضّئون"، وإسناده صحيح.

وفي رواية لأبي داود، والبيهقيّ، وغيرهما:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يُصلّون، ولا يتوضّئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وفي رواية للبيهقيّ: "لقد رأيتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة، حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطًا، ثم يقومون فيُصلّون ولا يتوضّئون".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شُغل ليلةً عن العشاء، فأخّرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا".

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أَعْتَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى رقد الناس، واستيقظوا، ورَقَدوا، واستيقظوا"، رواهما البخاريّ في "صحيحه"، وظاهره أنهم صلَّوا بذلك الوضوء.

وروى مالك، والشافعيّ بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينام وهو

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 73 - 74.

ص: 535

جالسٌ، ثم يُصلّي ولا يتوضّأ"، وروى البيهقيّ وغيره معناه عن ابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي أُمامة رضي الله عنهم.

والحاصل أن أرجح المذاهب مذهب من قال: إن نوم الجالس الممكّن مقعدته لا ينقض الوضوء؛ للأدلّة المذكورة، وبهذا تجتمع الأدلّة في هذا الباب، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"

(1)

، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: اتَّفَقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر، أو النبيذ، أو البنج، أو الدواء، ينقض الوضوء، سواءٌ قَلَّ أو كثر، وسواء كان مُمَكِّن المقعدة أو غير ممكنها، قال أصحابنا: وكان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعًا؛ للحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غَطِيطه، ثم صلى ولم يتوضأ. انتهى.

[تنبيه آخر]: قال النوويّ أيضًا: قال الشافعيّ، والأصحاب: لا ينقض الوضوء بالنعاس، وهو السِّنَة، قالوا: وعلامة النوم أن فيه غلبة على العقل، وسقوط حاسة البصر، وغيرها من الحواسّ، وأما النعاس فلا يَغلِب على العقل، وإنما تفتر فيه الحواسّ من غير سقوطها، ولو شكّ هل نام أم نَعَسَ؟ فلا وضوء عليه، ويستحب أن يتوضأ، ولو تيقن النوم، وشَكّ هل نام ممكن المقعدة من الأرض أم لا؟ لم ينقض وضوؤه، ويستحب أن يتوضأ، ولو نام جالسًا، ثم زالت ألْيتاه أو إحداهما عن الأرض، فإن زالت قبل الانتباه انتَقَض وضوؤه؛ لأنه مَضَى عليه لحظةٌ وهو نائم، غير مُمَكِّن المقعدة، وإن زالت بعد الانتباه، أو معه، أو شَكّ في وقت زوالها لم ينتقض وضوؤه، ولو نام ممكّنًا مقعدته من الأرض، مستندًا إلى حائط أو غيره لم ينتقض وضوؤه، سواء كانت بحيث لو رُفِع الحائط لسقط، أو لم يكن، ولو نام مُحْتَبِيًا ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: أحدها: لا ينتقض كالمتربِّع، والثاني: - ينتقض

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 3/ 344 - 349.

ص: 536

كالمضطجع، والثالث: إن كان نَحِيف البدن بحيث لا تنطبق أليتاه على الأرض انتقض، وإن كان أَلْحَم البدن بحيث ينطبقان لم ينتقض، والله تعالى أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[840]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلًا، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاجِيه، حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَصَلَّى بِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو الْمُثَنَّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، أبو بِسطام الواسطيّ الإمام الحافظ الحجة الثبت الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (يَزَلْ) بفتح الزاي، مضارع زال، وأصله زَيِلَ؛ كتَعِبَ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وما زال يفعل كذا، ولا أزال أفعله لا يُتكلَّم به إلا بحرف النفي، والمراد به ملازمة الشيء، والحالُ الدائمةُ، مثلُ ما بَرِحَ وزنًا ومعنًى، وقد تكلّم به بعض العرب على أصله، فقال: ما زَيلَ زيدٌ يفعل كذا. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 73 - 74.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 261.

ص: 537

وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[841]

(

) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا

(2)

خَالِدٌ، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِث، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُونَ، ثُمَّ يُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّئُونَ، قَالَ: قُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: إِي وَاللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقة [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه" - بعد ذكر أسانيد الباب الثلاثة - ما نصّه: هذه الأسانيد الثلاثة رجالها بصريون كلهم

(3)

، وقد قدّمنا مرات أن شعبة واسطي بصريّ، وقد قدمنا بيان كون فَرُّوخ والد شيبان لا ينصرف للعجمة، وقد قدّمنا بيان الفائدة في قوله: وهو ابن الحارث، وأوضحنا ذلك في الفصول المتقدمة، وفي مواضع بعدها، وأما قوله: قلت: سمعته من أنس؟ قال: إي

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

فيه أن زهير بن حرب نسائيّ، ثم بغداديّ، اللهم إلا أن يريد أنه دخل البصرة للسماع من ابن عليّة وغيره، فليتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 538

والله، مع أنه قال أوّلًا: سمعتُ أنسًا، فأراد به الاستثبات، فإن قتادة رحمه الله كان من المدلسين، وكان شعبة رحمه الله من أشد الناس ذمًّا للتدليس، وكان يقول: الزنى أهون من التدليس، وقد تقرر أن المدلس إذا قال:"عن" لا يُحتجّ به، وإذا قال:"سَمِعت" احتُجّ به على المذهب الصحيح المختار، فأراد شعبة رحمه الله الاستثبات من قتادة في لفظ السماع، والظاهر أن قتادة عَلِم ذلك من حال شعبة، ولهذا حَلَف بالله تعالى، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: قوله: (إِي وَاللهِ) قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه": "إِي" بكسر الهمزة، وسكون الياء: حرف جواب بمعنى "نَعَم"، فيكون لتصديق الْمُخْبِر، ولإعلام الْمُستَخْبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد "قام زيد"، و"هل قام زيد؟ "، و"اضرب زيدًا"، ونحوهنّ، كما تقع "نَعَمْ" بعدهنّ، وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام، نحو {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم، وإذا قيل:"إي والله"، ثم أُسقطت الواو جاز سكون الياء، وفتحها، وحذفها، وعلى الأول فيلتقي ساكنان على غير حدّهما. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[842]

(

) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاء، فَقَالَ رَجُلٌ: لِي حَاجَةٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيه، حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ، أَوْ بَعْضُ الْقَوْم، ثُمَّ صَلَّوْا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 72.

(2)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 87.

ص: 539

2 -

(حَبَّانُ) بن هلال، أبو حَبِيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

3 -

(حَمَّاد) بن سَلَمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع 120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

وقوله: (أَوْ بَعْضُ الْقَوْمِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي.

وقوله: (ثُمَّ صَلَّوْا) زاد أبو نعيم في روايته: "ولم يذكر أنهم توضّئوا".

وشرح الحديث ومسائله تقدّمت في الحديث الأول، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء الثامن من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى بعد صلاة المغرب ليلة الخميس المبارك 3/ 5/ 1426 هـ الموافق 14/ أبريل - نيسان/2005 م.

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

ص: 540

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء التاسع مفتتحًا بـ (4) - (كِتَابُ الصَّلَاةِ) رقم الحديث [843](377).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 541