المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الخميس 16/ 3/ 1426 هـ أول - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الخميس 16/ 3/ 1426 هـ أول الجزء التاسع من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج، رحمه الله تعالى.

(4) - (كِتَابُ الصَّلَاةِ)

أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث الدالّة على أحكام الصلاة.

و"كتاب" يجوز رفعه، ونصبه، ويجوز جزه أيضًا على قلّة، وقد تقدّم توجيه ذلك كلّه في الكلام على "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ولَمّا فرغ من بيان أحاديث الطهارة التي هي من شروط الصلاة، شَرعَ يُبيِّن أحاديث الصلاة التي هي المشروطة، فلذا أخّرها عن الشرط؛ لأن شرط الشيء يَسبقه، وحكمه يَعقُبه، وقدّمها على الزكاة والصوم، وغيرهما؛ لكونها تالية الإيمان، وثانيته في الكتاب والسنّة، ولشدّة الاحتياج، وعمومه إلى تعلّمها؛ لكثرة وقوعها ودَوَرانها، بخلاف غيرها من العبادات

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا المقام مسائل:

(المسألة الأولى): في تعريف "الصلاة" لغةً وشرعًا:

(اعلم): أن "الصلاة" في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، أي ادعُ لهم، وفي الحديث في إجابة الدعوة:"وإن كان صائمًا، فليُصلّ"، أي فليَدْعُ لهم بالبركة.

وقال ابن الأثير رحمه الله: وقد تكرر في الحديث ذكر الصلاة، وهي العبادة

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 3.

ص: 5

المخصوصة، وأصلها في اللغة: الدعاء، فسُمّيت ببعض أجزائها، وقيل: أصلها في اللغة: التعظيم، وسُمِّيت الصلاة المخصوصة صلاةً؛ لما فيها من تعظيم الرب تعالى وتقدس، وقوله في التشهد:"الصلوات": أي الأدعية التي يُراد بها تعظيم الله هو مستحقُّها، لا تليق بأحد سواه، وأما قولنا:"اللهم صل على محمد"، فمعناه: عَظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وقيل: المعنى لَمّا أمرنا الله سبحانه بالصلاة عليه، ولن نبلغ قَدْرَ الواجب من ذلك أحلناه على الله، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد؛ لأنك أعلم بما يليق به.

وهذا الدعاء قد اختُلِف فيه، هل يجوز إطلاقه على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟،

والصحيح أنه خاصّ له، ولا يقال لغيره، وقال الخطابيّ: الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره صلى الله عليه وسلم، والتي بمعنى الدعاء والتبريك، تقال لغيره، ومنه:"اللهم صلِّ على آل أبي أوفى"، أي تَرَحَّم، وبَرِّكْ، وقيل فيه: إن هذا خاصّ له، ولكنه هو آثرَ به غيره، وأما سواه فلا يجوز له أن يخُصّ به أحدًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بعدم جواز الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام مما لا يؤيّده دليلٌ، بل الأدلّة على خلافه، كالحديث المذكور:"اللهم صلِّ على آل أبي أوفى"، وغيره، وحديث:"صلّى الله على زوجك"، وآية:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، ودعوى الخصوصيّة مما لا دليل عليها، فالحّق جوازها، إلا أن الأولى والشائع بين الأمة الصلاة على الأنبياء، والترضّي على الصحابة، والترحّم على غيرهم، فهذا من باب الأولويّة، لا من باب الوجوب؛ فتبصّر، وسيأتي تمام البحث في هذا في محلّه - إن شاء الله تعالى -، وبالله تعالى التوفيق.

وقال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: "الصلاة" في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]: أي ادع لهم، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعي أحدكم فليجب، وإن كان مفطرًا فليَطْعَم، وإن كان صائمًا فليصلّ"

(2)

.

قال الشاعر [من البسيط]:

تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْتُ مُرْتَحَلًا

يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا

(1)

"النهاية" 3/ 50.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في سننه (2/ 331).

ص: 6

عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي

نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْب الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا

وأما معناها شرعًا: فهي عبارة عن الأركان المعهودة، والأفعال المخصوصة، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: هي في الشرع: عبارةٌ عن الأفعال المعلومة، فإذا وَرَدَ في الشرع أمر بصلاة، أو حكمٌ مُعَلَّقٌ عليها انصَرَف بظاهره إلى الصلاة الشرعية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في الاختلاف في اشتقاق اسم "الصلاة" مم هو؟:

قال القاضي عياض رحمه الله: اختُلف في اشتقاقها، فقيل: هي مشتقّةٌ من الدعاء الذي اشتَمَلت عليه، وهو قول أكثر أهل العربيّة والفقهاء، وتسمية الدعاء صلاةً معروفٌ في كلام العرب.

وقيل: لأنها ثانية الشهادتين، وتاليتهما، كالْمُصَلِّي من السابق في الْحَلْبَة

(2)

.

وقيل: بل لأنه متتبّع فعل النبي صلى الله عليه وسلم كالمصلّي مع السابق، ولعلّ هذا في أول شَرْع الصلاة، وائتمامهم فيها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن هذا يضعُف في تسميتها في حقّه صلى الله عليه وسلم، وهو السابق.

وقيل: بل من الصَّلَوَين

(3)

، وهما عِرْقان من الرِّدْف، وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: وبه سُمّي الْمُصَلِّي من الخيل؛ لأن أنفه يأتي ملاصقًا صَلَوي السابق، قالوا: ومنه كُتِب بالواو في المصحف.

وقيل: بل من الرحمة، وتسميتها بذلك معروف في كلام العرب، ومنه صلاة الله على عباده، أي رحمته

(4)

.

وقيل: أصلها الإقبال على الشيء؛ تقرّبًا إليه.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 39.

(2)

اعتُرض هذا بأنه اشتقاق من الفرع.

(3)

قال النوويّ: هذا باطلٌ؛ لأن لام الكلمة في "الصلاة" واوٌ بدليل الصلوات، وفي صليت ياء، فكيف صحّ الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصليّة؟.

وتعقّبه العينيّ بأن اشتراط اتّفاق الحروف الأصليّة إنما هو في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر، قال: ولا ينافي قولهم: صَلَيتُ بالياء دون صَلَوتُ بالواو أن تكون واويّة؛ لأنهم يقلبون الواو ياءً إذا وقعت رابعة.

(4)

قد تقدّم اعتراض ابن القيّم رحمه الله تفسير الصلاة بالرحمة في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد.

ص: 7

وقيل: معناها اللزوم، من قولهم: صَلِيَ بالنار، وقيل: الاستقامةُ من قولهم: صَلَيتُ العودَ على النار: إذا قوّمته، والصلاة تُقيم العبد على طاعة ربّه، قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

وقيل: لأنها صِلَةٌ بين العبد وبين ربّه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله في "المفردات في غريب القرآن": قال كثير من أهل اللغة: "الصلاة": هي الدعاء، والتبريك، والتمجيد، يقال: صليت عليه: أي دعوت له، وزَكَّيتُ، قال: والصلاةُ التي هي العبادة المخصوصة، أصلها الدعاء، وسُمِّيت هذه العبادة بها كتسمية الشيء باسم بعض ما يتضمنه، والصلاة من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختَلَفت صورها بحسب شرعٍ، فشرعٍ، ولذلك قال:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

وقال بعضهم: أصل الصلاة من الصّلاء، قال: ومعنى صَلَّى الرجل: أي أنه أزال عن نفسه بهذه العبادة الصّلاء الذي هو نار الله الموقدة، وبناءُ صلّى كبناء مَرَّضَ لإزالة المرض، ويُسَمَّى موضع العبادة الصلاة؛ لذلك سميت الكنائس صلوات، كقوله:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40].

وكل موضع مَدَحَ الله تعالى بفعل الصلاة، أو حَثَّ عليه ذُكِر بلفظ الإقامة، نحو:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس: 87]، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الرعد: 22]، ولم يقل: المصلين إلا في المنافقين، نحو قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5]، {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54].

وإنما خَصَّ لفظ الإقامة تنبيهًا أن المقصود من فعلها توفية حقوقها وشرائطها، لا الإتيان بهيئتها فقط، ولهذا رُوِي أن المصلين كثير، والمقيمين لها قليل، وقوله:{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 43]، أي من أتباع النبيين، وقوله:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: 31] تنبيهًا أنه لم يكن ممن يصلي، أي

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 234، وقد أنكر بعضهم بعض هذه الاشتقاقات؛ لاختلاف لام الكلمة في بعض هذه الأقوال، فلا يصحّ الاشتقاق مع اختلاف الحروف، وأجاب بعضهم بأن الاختلاف إنما يضرّ في الاشتقاق الصغير، لا في الكبير، والأكبر.

ص: 8

يأتي بهيئتها فضلًا عمن يقيمها، وقوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً} [الأنفال: 35]، فتسميةُ صلاتهم مكاءً وتصدية تنبيهٌ على إبطال صلاتهم، وأن فعلهم ذلك لا اعتداد به، بل هم في ذلك كطيور تَمْكُو وتصدي. انتهى كلام الراغب رحمه الله في "مفردات ألفاظ القرآن"

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الصلاة الركوع والسجود، والجمع صلوات،

والصلاة: الدعاء والاستغفار، قال الأعشى [من المتقارب]:

وَصَهْبَاءَ طَاَفَ يَهُودِيُّهَا

وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ

وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا

وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ

قال: دعا لها أن لا تَحْمَضَ ولا تَفْسُدَ.

والصلاة من الله تعالى الرحمة، قال عديّ بن الرقاع [من الكامل]:

صَلَّى الإِلَهُ عَلَى امْرِيءٍ وَذَعْتُهُ

وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَزَادَهَا

وقال الراعي [من البسيط]:

صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمَنُ وَابْنَتِهَا

لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الأُخَرِ

وصلاة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم رَحْمَتُهُ له، وحُسْنُ ثنائه عليه، وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهمّ صلّ على آل فلان" فأتاه أبي بصدقته، فقال:"اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى"، متّفقٌ عليه.

قال الأزهريّ: هذه الصلاة عندي الرحمة، ومنه قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]، فالصلاة من الملائكة دعاء واستغفارٌ، ومن الله رحمة، وبه سُمِّيت الصلاة؛ لما فيها من الدعاء والاستغفار.

وفي الحديث: "التحيات، والصلوات"، قال أبو بكر: الصلوات معناها الترحم، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} : أي يترحمون، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم صل على آل أبي أوفى": أي ترحم عليهم.

وتكون الصلاة بمعنى الدعاء، وفي الحديث: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام

(1)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 492.

ص: 9

فليجب، فإن كان مفطرًا فليَطْعَم، وإن كان صائما فليصلِّ"

(1)

. قوله: "فليصلِّ": يعني فَلْيَدْعُ لأرباب الطعام بالبركة والخير، والصائم إذا أُكِل عنده الطعام صَلَّت عليه الملائكة، ومنه قوله:"مَن صلى عليّ صلاةً، صَلَّت عليه الملائكة عشرًا"

(2)

، وكل داع فهو مصلٍّ، ومنه قول الأعشى [من البسيط]:

عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي

إِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا

معناه أنه يأمرها بأن تدعوَ له مثل دعائها، أي تعيد الدعاء له، ويُروَى:"عليك مثلُ الذي صليت"، فهو ردٌّ عليها، أي عليك مثلُ دعائك، أي ينالك من الخير مثلُ الذي أردت بي، ودعوت به لي.

وقال أبو العباس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، فـ {يُصَلِّي}: يرحم، وملائكته يدعون للمسلمين والمسلمات.

ومن الصلاة بمعنى الاستغفار حديثُ سودة رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله، إذا مِتْنَا صَلَّى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا، فقال لها:"إن الموت أشدُّ مما تُقَدِّربن".

قال شَمِر: قولها: "صَلَّى لنا": أي استغفر لنا عند ربه، وكان عثمان مات حين قالت سودة ذلك.

وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] فمعنى الصلوات ههنا الثناء عليهم من الله تعالى، وقال الشاعر:

صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ

رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعُ

معناه: ترحم الله عليه، على الدعاء لا على الخبر.

وقال ابن الأعرابيّ: الصلاة من الله رحمةٌ، ومن المخلوقين: الملائكة والإنس والجنّ: القيامُ والركوعُ والسجودُ والدعاءُ والتسبيحُ، والصلاة من الطير والهوامّ: التسبيحُ.

وقال الزجاج: الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صَلَّى، واصطلى: إذا لَزِمَ، ومن هذا: مَن يُصْلَى في النار: أي يلزم النار.

(1)

تقدم في ص 6 أنه حديث صحيح.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود، (1/ 144)، و"النسائيّ"(2/ 25 و 3/ 50).

ص: 10

وقال أهل اللغة في الصلاة: إنها من الصَّلَوَيْن، وهما مكتنفا الذّنَب من الناقة وغيرها، وأوّلُ مَوْصِل الفخذين من الإنسان، فكأنهما في الحقيقة مكتنفا الْعُصْعُص، قال الأزهريّ: والقول عندي هو الأول، إنما الصلاة لزومُ ما فَرَضَ الله تعالى، والصلاة من أعظم الفرض الذي أُمِر بلزومه، والصلاة واحدة الصلوات المفروضة، وهو اسم يُوضَع موضع المصدر، تقول: صَلَّيتُ صلاةً، ولا تقل: تَصْلِيةً، وصَلَّيتُ على النبيّ

(1)

صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا الله عنه: لا شكّ في بعد كثير مما سبق في بيان اشتقاق الصلاة، والأقرب هو ما عليه أكثر العلماء، كما سبق في كلام القاضي أنها من صلّى بمعنى: دعا؛ لشهرة ذلك في كلام العرب وأشعارهم؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): (اعلم): أن الصلاة واجبة بالكتاب، والسنة، والإجماع؛ أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

وأما السنة فما رَوَى ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا"، مُتَّفَق عليه، وقد تقدّم في "كتاب الإيمان"، مع آي، وأخبار كثيرة أخرى.

وأما الإجماع، فقد أَجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في عدد الصلوات المفروضات:

(اعلم): أن الصلوات المكتوبات خمسٌ في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا لعارضٍ، من نذر أو غيره، هذا قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: الوتر واجبٌ؛ لما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قد زادكم صلاةً، وهي الوتر"، وهذا يقتضي وجوبه، وقال صلى الله عليه وسلم:"الوتر حقّ، فمن لم يوتر فليس منا"، رواه أبو داود.

(1)

راجع: "لسان العرب" 14/ 465.

ص: 11

واحتجّ الجمهور بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَرَض الله على أمتي خمسين صلاة

" فذكر الحديث إلى أن قال: "فرجعتُ إلى ربي فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديّ"، مُتَّفَقٌ عليه.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات، افترضهن الله على عباده، فمن جاء بهنّ، لم يَنقُص منهن شيئًا؛ استخفافًا بهنّ، فان الله جاعل له يوم القيامة عهدًا أن يدخله الجنة، ومن جاء بهنّ، وقد نقص منهن شيئًا، لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له"، حديث صحيح، رواه أبو داود، وغيره.

وعن طلحة بن عبيد الله، أن أعرابيًّا أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ماذا فَرَض الله عليّ من الصلاة، قال:"خمس صلوات"، قال: فهل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع شيئًا

" الحديث، متّفقٌ عليه.

والحاصل أن الحقّ أنه لا واجب من الصلوات إلا الخمس المكتوبات، إلا أن يكون بسبب؛ كالنذر، وقد تقدّم تحقيق القول في ذلك في "كتاب الإيمان"، مستوفًى، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال القاضي عياض رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم من الاختلاف في اشتقاق الصلاة - ما نصّه:

ثم تشعّبت مذاهب المتكلّمين والنظّار من الفقهاء في هذه الأسماء المستعملة في الشرعيّات؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وشبهها، هل هي منقولة عن موضوعها في اللغة رأسًا؟، وهذا بعيدٌ، ومؤدٍّ إلى أن العرب خُوطبت، وأُمرت بغير لغتها.

أو هي مبقاةٌ على مقتضاها في أصل اللغة، فالصلاة الدعاء، والصيام الإمساك، والحجّ القصد، وهكذا في سائرها، وهو المراد بها، والمفهوم منها، وغير ذلك مما أُضيف إليها من أقوال، وأفعال، غير داخل تحت الاسم، وهو مذهب القاضي أبي بكر.

أو هي واقعةٌ على أصول مسمّياتها، ثم أُطلق على ما انضاف إليها بحكم الاشتمال، أو الاستعارة لمشابهة معناها، وهو مذهب الأشياخ والمحقّقين من

ص: 12

متكلّمي أهل السنّة، وغيرهم من الفقهاء، وقد أطال المصنّفون في الأصول الكلام في هذا الباب، ومَدُّوا أطنابه، ومخالفة الجماهير من الموافقين والمخالفين جُرْأةٌ تامّةٌ، وجَسَارةٌ، وقولُ المرء لقول قيل يعتقد الصواب في خلافه غير بيّن وخسارة

(1)

، فالحقّ أحقّ أن يتّبع، لا سيّما بخلاف ليس في قاعدة دين، ومقالة تلوح بالحقّ اليقين، ولا تخرج عن مراد مشايخنا المحقّقين، وذلك أنه متى أُعطيت هذه الألفاظ من البحث حقّها وُجدت عند المخاطبين بها لأول ورودها من أهل الشريعة معروفة المعنى على ما جاءت به من أفعال مخصوصة، وعبارات مقرّرة إلا ما غيَّر الشرع فيها من بِدَع الجاهليّة، أو نَسَخ من شرائع مَن تقدّم من الكتابيّة

(2)

، لكن لا يبعُد أن أصل استعمال العرب لها في جاهليّتهم قبل ورود الشريعة كان على ما أشار إليه الأشياخ، إما من إيقاعها على المعنى الحقيقيّ في اللغة دون اعتبار المزيد فيها، على مذهب القاضي أبي بكر، أو على الجميع بحكم تشابه المعنى والاستعارة على ما ذهب إليه غيره، ثم استُعير استعمالهم لهذه الألفاظ عرفًا على جميع العبادات، فصارت كاللغة الصحيحة، والتسمية الموضوعة، فجاءهم الشرع، واستعمالُهم لها مفهوم عند جميعهم، فقد حقّقنا قطعًا بمطالعة السير، ومدارسة الأثر، واستقراء كلام العرب، وأشعارها أن الصلاة كانت عندهم معلومةً على هيئتها عندنا من أفعال، وأقوال ودعاء وخضوع وسجود وركوع، وقد تنصّر كثيرٌ منهم، وتهوّد، وتمجّس، وتقرّبوا بالصلوات والعبادات، وجاوروا أهل الديانات، وداخلوا أهل الملل، ووفَدَ أشرافهم على ملوكهم، وأَلِفَت قريش رحلةَ الشتاء والصيف إلى بلادهم، وثاقبوا ربّانيّيهم وأحبارهم، وشاهدوا رهبانيّتهم وشرائعهم، وثابر كثير منهم على بقايا عندهم من دين إبراهيم، وعرَفُوا السجود والركوع والصوم والحجّ والعمرة والاعتكاف، وحَجُّوا كلَّ عام، واعتمروا، واعتَكفوا، وحضُّوا على الصدقة، وصاموا عاشوراء، وفي

(1)

هكذا النسخة: "وقول المرء

إلى قوله: وخسارة"، وهي عبارة ركيكة، فلتحرّر، والله تعالى أعلم.

(2)

هكذا النسخة، ولعل الأولى "من أهل الكتاب"، والله أعلم.

ص: 13

الحديث: "كان عاشوراء يومًا تصومه الجاهليّة

" الحديث، متّفقٌ عليه، وقال عمر رضي الله عنه: "نذرت في الجاهليّة أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام

" الحديث، متّفقٌ عليه، وفي إسلام أبي ذرّ رضي الله عنه، وأنه صلّى قبل المبعث بثلاث سنين مع صواحبه، وأنه كان يتوجّه عشاء حيث يوجّهه الله.

ومن طالع أخبارهم، ودرس أشعارهم، عَلِمَ ذلك منهم ضرورةً، فجاء الشرع بالأمر بهذه العبادات، وهي عندهم معلومة، مفهوم المراد منها، من أن الصوم إمساك مخصوصٌ عن أفعال مخصوصة بالنهار دون الليل، والاعتكاف لزوم التعبّد والتبرّر بمكان مخصوص، والحجّ قصدٌ مخصوصٌ لبيت الله الحرام، يشتمل على وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، ودعاء، وذكر، وتبرّر، وأن الصدقة بذلُ المال للمحتاج، ثم سُمّيت زكاةً؛ لما فيها من زكاة المال ونمائه، أو زكاة صاحبه وتطهيره، كما قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فإن لم توجد تسمية الزكاة الشرعيّة قبلُ معروفةً، فالصدقة معروفةٌ، وقد قال الأعشى:

لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ

(1)

وَنَائِلُ

ومع هذا التقرير، فلا مجال للخلاف مع الإنصاف، وقد طالعت بهذا الرأي أهل التحقيق من شيوخي، فما رأيت منهم مُنصفًا ردّه.

ثم اختلف الأصوليّون، والفقهاء من أصحابنا وغيرهم في ورود هذه الألفاظ الشرعيّة، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فقيل: هي مجملةٌ تحتاج إلى بيان، وقيل: هي عامّة تُحمَل على العموم، إلا ما خَصّ منها الدليل، وقيل: تُحمل على أصل ما يتناوله اللفظ، واستقصاء هذا في علم الأصول. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القاضي تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وخلاصته أن الألفاظ الشرعيّة من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ،

(1)

مضارع أغبّ: إذا تأخّر.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 234 - 236.

ص: 14

ونحوها على وفق معانيها اللغويّة، وليست من باب النقل، ولا المجاز، وإنما هي معلومة للعرب في جاهليّتهم، فخاطبهم الشرع بما يعرفونه، غير أنه أضاف لهم من الشروط، والأركان والمندوبات بعض ما كانوا يُخلّون به، ونقص منها ما كانوا يفعلونه من الأفعال المنافية للشرع؛ كالشركيّات، والبدع، والخرافات، فهذّب لهم التوحيد، والعبادات الخالصة لله تعالى.

والحاصل أن ما ادّعاه كثيرون من أن الألفاظ الشرعيّة منقولة من اللغويّة، أو مجاز واستعارة، أو نحو ذلك ادّعاء لا ينبني على التحقيق، بل مجرّد تخمينات وظنون، فلا ينبغي الاشتغال بالبحث فيه، والتعمّق في إدراكه؛ لأنه مجرّد هذيان، والله تعالى المستعان.

وأما الخلاف في ورود الأوامر بالألفاظ الشرعيّة، هل هي مجملة

إلخ، فالحقّ أنها عامّة تُحمل على عمومها حتى يرد دليلٌ يخصّها، ويوضّح هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنها كانوا إذا سمعوا أمرًا في كتاب الله، أو في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يُبادرون إلى العمل به، ولا يبحثون هل له مخصّصات أم لا؟ إلى أن يبيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم المراد الخاصّ، فيقبلونه، فلما نزل قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] جعل عديّ بن حاتم رضي الله عنه الخيطين تحت وسادته، فجعل يأكل حتى يتبيّنا له، فبيّن له صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس المراد، بل هما بياض النهار وسواد الليل، وكذلك لما نزل قوله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] شقّ عليهم، فقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فبيّن لهم صلى الله عليه وسلم بأن الظلم هنا هو الشرك، وهكذا كانوا يحملون العمومات على ظواهرها إلى أن يأتي مخصّص، وكان النبيّ رحمه الله يقرّهم على فهمهم ذلك، ويبيّن لهم مخصصه إن اقتضى المقام ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) - (بَابُ بَدْءِ الأَذَانِ)

قال الجامع عفا الله عنه: فيه مسألتان:

(المسألة الأولى): في تعريف "الأذان" لغة وشرعًا:

(اعلم): أن "الأذان" بالفتح اسم من التأذين، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأَذَّن

ص: 15

المؤذِّنُ بالصلاة: أَعْلَمَ بها، قال ابن بَرِّيّ: وقولهم: أَذَّن العصرَ بالبناء للفاعل خطأٌ، والصواب أُذِّنَ بالعصر، بالبناء للمفعول مع حرف الصّلَة، و"الأذان" اسم منه، والْفَعَالُ بالفتح يأتي اسمًا من فَعَّلَ بالتشديد، مثلُ وَدَّع وَدَاعًا، وسَلَّمَ سَلَامًا، وكَلَّمَ كَلَامًا، وزَوَّجَ زَوَاجًا، وجَهَّزَ جَهَازًا. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": قال أهل اللغة: أصل الأذان الإعلام، والأذان للصلاة معروف، يقال فيه: الأذان، والأَذِين، والتأذين، قاله الهرويّ في "الغريبين". قال: وقال شيخي: الأَذِين: المؤذَّن: الْمُعْلِم بأوقات الصلاة، فَعِيل بمعنى مُفْعِل، قال الأزهريّ: يقال: أَذَّن المؤذن تأذينًا وأَذانًا: أي أعلم الناس بوقت الصلاة، فوُضِع الاسم موضع المصدر، قال: وأصله من الأَذَن، كأنه يُلْقي في آذان الناس بصوته ما يدعوهم إلى الصلاة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": "الأذانُ": لغةً الإعلام، قال الله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 3]، واشتقاقه من الأَذَنِ - بفتحتين - وهو الاستماع، وشرعًا: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. انتهى

(3)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الأذان: إعلام بوقت الصلاة، والأصل في الأذان الإعلام، قال الله عز وجل:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام، و {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] أي أعلمتكم، فاستوينا في العلم، وقال الحارث بن حلّزة [من الخفيف]:

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ

رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

أي أعلمتنا، والأذان الشرعيّ: هو اللفظ المعلوم المشروع في أوقات الصلوات للإعلام بوقتها. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): قال القاضي عياض رحمه الله: (اعلم): أن الأذان كلام جامعٌ لعقيدة الإيمان، مشتملٌ على نوعه من العقليات والسمعيات، فأوله إثبات

(1)

"المصباح المنير" (1/ 10.

(2)

"المجموع شرح المهذّب" 3/ 80 - 81.

(3)

"الفتح" 2/ 92.

(4)

"المغني"1/ 413.

ص: 16

الذات، وما يستحقه من الكمال، والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله:"الله أكبر"، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدِّها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد، المقدمة على كل وظائف الدين، ثم صَرَّح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد؛ لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدَّمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد، كملت العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل، ويجوز في حقه سبحانه وتعالى، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة، وجعلها عقب إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز، والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة، من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام، ثم كَرَّر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دَخَل فيه، وعظمة حق من يعبد، وجزيل ثوابه. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله، وهو من النفائس الجليلة، وبالله تعالى التوفيق

(1)

.

وقال في "الفتح": قال القرطبيّ وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثَنّى بالتوحيد، ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصةَ عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرف إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى الْمَعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا.

ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول، وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان.

(1)

راجع:. "إكمال المعلم" 2/ 253 - 254، و"المجموع" 3/ 80.

ص: 17

واختُلِف أيما أفضل: الأذان أو الإمامة؟ ثالثها إن عَلِم من نفسه القيامَ بحقوق الإمامة فهي أفضل، وإلا فالأذان، وفي كلام الشافعي ما يومئ إليه.

واختُلِف أيضًا في الجمع بينهما، فقيل: يكره، وفي البيهقي من حديث جابر مرفوعًا النهي عن ذلك، لكن سنده ضعيف، وصح عن عمر رضي الله عنه: لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذّنت، رواه سعيد بن منصور وغيره، وقيل: هو خلاف الأولى، وقيل: يستحبّ، وصححه النووي. انتهى

(1)

.

وسيأتي تمام البحث فيها في المسائل - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[843]

(377) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) حَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: حَدَّثنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَات، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسٍ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُود، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا، يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المعروف بابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ إمام [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) بن عثمان الْبُرْسَانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 254)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11]، (ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"الفتح" 2/ 92.

ص: 18

4 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام بن نافع الْحِميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل باب.

6 -

(هَارُونُ بْنَ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةُ [10](243) وقد ناهز (80)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

7 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور، أبو محمد المصِّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم المصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط بعد دخوله بغداد قبل موته [8](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

8 -

(نَافِعٌ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ) الْعَدويّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

9 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما المتوفّى سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، فرّق بينهم بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثاني ما أخرج لهما ابن ماجه، والثالث ما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له" أي سياق متن الحديث لهارون بن عبد الله، وأما إسحاق، ومحمد بن رافع، فروياه بمعناه.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، وأشدّ الناس اتّباعًا للسنّة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) أي مهاجرين من مكة (يَجْتَمِعُونَ) أي لأداء الصلاة جماعةً (فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ) بالحاء المهملة: أي يُقدّرون حينها؛ ليأتوا إليها، وهو من

ص: 19

التحيّن، من باب التفَعُّل الذي وُضِعَ للتكلّف غالبًا، وهو من الْحِين، وهو الوقت والزمن

(1)

. (وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ) ببناء الفعل للفاعل، و"أحدٌ" بالرفع تنازعه "ليس"، و"ينادي"، ويَحْتَمل أن يكون اسم "ليس" مؤخّرًا، وفاعل "ينادي" ضمير يعود إليه؛ لكونه مقدّمًا معنًى، وقيل: إن "ليس" هنا حرف نفي بمعنى "لا"، فلا اسم لها ولا خبر، وقيل: إن اسمها ضمير الشأن، وجملة "يُنادي بها أحد" خبرها.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "ليس يُنادَى بها" بالبناء للمفعول، فقال

ابن مالك رحمه الله: هذا شاهد على جواز استعمال "ليس" حرفًا، لا اسم لها، ولا خبر لها، أشار إليه سيبويه، ويَحْتَمِلُ أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر لها، قاله في "العمدة"

(2)

.

(فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ) أي في شأن وقت الصلاة، ثم بيّن الكلام الذي تكلّموا به بقوله:(فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا) بكسر الخاء، بصيغة الأمر، قال الحافظ رحمه الله: لم يقع لي تعيين المتكلّمين في ذلك، واختَصَر الجواب في هذه الرواية، ووقع لابن ماجه من وجه آخر، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استشار الناس لِمَا يجمعهم إلى الصلاة، فذكرُوا الْبُوقَ، فكرهه؛ من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس، فكرهه؛ من أجل النصارى".

وفي رواية رَبَاح بن عطاء، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس، عند أبي الشيخ، فقالوا: لو اتّخَذنا ناقوسًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك للنصارى"، فقالوا: لو اتّخذنا بُوقًا، فقال:"ذلك لليهود"، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال:"ذلك للمجوس".

(نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النّصَارَى) الناقوس: خشبةٌ طويلةٌ، تُضرب بخشبة أصغر منها، قاله ابن الأثير رحمه الله

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الناقوس: خشبةٌ طويلة يَضرِبُ بها النصارى إعلامًا للدخول في صلاتهم، ونَقَسَ نَقْسًا، من باب قتل: فَعَلَ ذلك. انتهى

(4)

.

(1)

"عمدة القاري"5/ 154.

(2)

"عمدة القاري"5/ 154.

(3)

"النهاية" 5/ 106.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 621.

ص: 20

وقال ابن منظور: والناقوس: مِضْرابُ النصارى الذي يضربونه لأوقات الصلاة، قال جرير [من البسيط]:

لَمَّا تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي

صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيسِ

وذلك أنه كان مُزْمِعًا سفرًا صبَاحًا، ويرْوَى:"وَنَقْسٌ بِالنَّوَاقِيسِ"، والنَّقْسُ: الضربُ بالناقوس، والنَّقْسُ: ضَرْبٌ من النواقيس، وهي الْخَشَبة الطويلةُ، والْوَبِيلةُ، والْوَبِيلُ: الخشبة القصيرة. انتهى.

(وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا) أي بل اتّخِذوا قرنًا (مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ) أي قرنًا يُنفَخ فيه، فيَخرُج منه صوتٌ يكون علامةً لأوقات الصلاة، كما كانت اليهود تفعله، وهذا القرن هو المسمَّى بالبُوق بضم الموحّدة.

ووقع في رواية البخاريّ: وقال بعضهم: "بل بُوقًا مثل قرن اليهود": أي قال بعضهم: اتّخِذوا بُوقًا بضئم الباء الموحّدة، وبعد الواو الساكنة قافٌ، وهو الذي يُنفخ فيه، قال في "الفتح": الْبُوقُ والقَرْن: معروفان، والمراد أن يُنفَخ فيه، فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شعار اليهود، ويُسمَّى أيضًا الشابُور بالشين المعجمة المفتوحة، والموحّدة المضمومة. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا) الهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على مقدَّر؛ أي أتقولون بموافقة اليهود والنصارى، ولا تبعثون رجلًا؟ وقال الطيبيّ رحمه الله: الهمزة إنكار للجملة الأولى؛ أي المقدَّر، وتقريرٌ للجملة الثانية حثًّا وبَعْثًا (يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟) ببناء الفعل للفاعل، والجملة صفة لـ"رجلًا".

قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعيّ، بل إخبار بحضور وقتها، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي مُحْتَمِلٌ، أو متعينٌ، فقد صحّ في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في سنن أبي داود، والترمذيّ، وغيرهما أنه رأى الأذان في المنام، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره به، فجاء عمر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ، لقد رأيت مثل الذي رأى

وذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه كان في

(1)

"الفتح" 2/ 96.

ص: 21

مجلس آخر، فيكون الواقع الإعلام أوّلًا، ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان، فشرعه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؛ إما بوحي، وإما باجتهاده صلى الله عليه وسلم على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، وليس هو عملًا بمجرّد المنام، هذا ما لا يُشَكّ فيه بلا خلاف. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون عبد الله بن زيد لَمّا أخبر برؤياه، وصدّقه النبيّ صلى الله عليه وسلم بادر عمر، فقال:"أوَلا تبعثون رجلًا ينادي"، أي يؤذِّن للرؤيا المذكورة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قُم يا بلال"، فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي الفصيحة، والتقدير: فافترقوا.، فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَصَّ عليه، فصدَّقه، فقال عمر.

وتعقّبه في "الفتح" بأن سياق حديث عبد الله بن زيد يخالف ذلك، فإن فيه أنه لَمّا قَصّ رؤياه على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"أَلْقِها على بلال، فليؤَذِّن بها"، قال: فسمع عمر الصوتَ، فخرج، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدلّ على أن عمر لم يكن حاضرًا لَمّا قَصّ عبد الله بن زيد رؤياه، والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة، كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك، والله أعلم.

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح إلى أبي عُمير بن أنس، عن عمومته من الأنصار، قالوا: اهتَمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يَجمَع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور وقت الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه

الحديث، وفيه ذَكَروا الْقُنْعَ بضم القاف، وسكون النون؛ يعني الْبُوقَ، وذكروا الناقوس، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مُهْتَمّ، فأُري الأذان، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان عمر رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما منعك أن تُخبرنا؟ "، قال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بلال قم، فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله"، ترجم له أبو داود بدء الأذان.

وقال أبو عمر بن عبد البر: رَوَى قصةَ عبد الله بن زيد جماعة من

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 76.

ص: 22

الصحابة بألفاظ مختلفة، ومعانٍ متقاربة، وهي من وجوه حسان، وهذا أحسنها.

قال الحافظ: وهذا لا يخالفه ما تقدم أن عبد الله بن زيد لَمّا قص منامه، فسمع عمر الأذان، فجاء فقال: قد رأيت؛ لأنه يُحْمَل على أنه لم يُخبر بذلك عقب إخبار عبد الله، بل متراخيًا عنه؛ لقوله:"ما منعك أن تخبرنا؟ " أي عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء، فدَلّ على أنه لم يخبر بذلك على الفور، وليس في حديث أبي عمير التصريح بأن عمر كان حاضرًا عند قَصّ عبد الله رؤياه، بخلاف ما وقع في روايته التي ذُكِر بها:"فسمع عمر الصوت، فخرج، فقال"، فإنه صريح في أنه لم يكن حاضرًا عند قص عبد الله، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح في معنى قول عمر رضي الله عنه: "أَوَلا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة" هو النداء المطلق، كقوله:"الصلاة جامعة"، ونحو ذلك، لا الأذان المعروف؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ رضي الله عنه: "يَا بِلَالُ، قُمْ، فَنَادِ بِالصَّلَاةِ") وفي رواية عند أبي عوانة: "فأذّن بالصلاة"، وفي رواية أبي نعيم:"يا بلال قم، فناد، فأذّن بالصلاة"، قال القاضي عياض وغيره: فيه حجة لشرع الأذان قائمًا، وكذا احتج به قبله ابن خزيمة، وابن المنذر، وتعقب ذلك النوويّ بأن المراد بقوله:"قُمْ" أي اذهب إلى موضع بارز، فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس، قال: وليس فيه تعرّض للقيام في حال الأذان. انتهى.

قال في "الفتح": وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الأرجح عكس ما قاله؛ لكونه أوفق لظاهر اللفظ، فأيّ دليل يدلّ على صرف "قم" عن ظاهره، حتى نرجّح ما قاله؟ فالحديث ظاهر في الدلالة على مشروعيّة القيام للأذان، فتبصّر.

والحاصل أن القيام للأذان سنّة ثابتة؛ للحديث المذكور، ولحديث

(1)

"الفتح" 2/ 96 - 97.

ص: 23

عبد الله بن زيد رضي الله عنه الذي رأى الأذان، قال: "يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلًا قائمًا، وعليه ثوبان أخضران

" الحديث

(1)

.

قال ابن المنذر رحمه الله: ولم يختلف أهل العلم في أن من السنّة أن يؤذّن وهو قائمٌ إلا من علّة، فإن كانت به علّة فله أن يؤذّن جالسًا، وروينا عن أبي زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رجله أصيبت في سبيل الله أنه أذّن وهو قاعد، وقال عطاء، وأحمد بن حنبل: لا يؤذّن جالسًا إلا من علّة، وكره الأذان قاعدًا مالكٌ، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي، وكان أبو ثور يقول: يؤذّن وهو جالسٌ من علّة وغير علّة، والقيام أحبّ إليّ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 843](377)، و (البخاريّ) في "الأذان"(604)، و (الترمذيّ) فيه (190)، و (النسائيّ) فيه (2/ 2 - 3)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1/ 456 - 457)، و (أحمد) في "مسنده"(6321)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(361)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 237)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 573)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(946)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(831 و 832)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ابتداء الأذان؛ لأن المراد بقوله: "قم يا بلال، فناد بالصلاة" النداء المعروف، وذلك بعد رؤيا عبد الله بن زيد رضي الله عنه الأذان، كما أسلفنا تقريره.

2 -

(ومنها): حرص الصحابة رضي الله عنهم على أداء الصلاة جماعةً، حيث إنهم كانوا يَجتمعون من غير أن يكون هناك أذان.

(1)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 28 بسند صحيح.

ص: 24

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة، دون الاقتصار على الظواهر، قاله ابن العربيّ، وعلى مراعاة المصالح، والعمل بها، وذلك أنه لَمّا شَقّ عليهم التبكير إلى الصلاة، فتفوتهم أشغالهم، أو التأخُّر عنها فيفوتهم وقت الصلاة، نظروا في ذلك.

4 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ التشاور في الأمور المهمة، وذلك مستحبّ في حقّ الأمة بالإجماع، قال النوويّ: واختَلَف أصحابنا هل كانت المشاورة واجبة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو كانت سنّةً كما في حقّبا؟ والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار، قال الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء، ومحقّقو أهل الأصول أن الأمر للوجوب.

5 -

(ومنها): أنه ينبغي للمتشاورين أن يقول كلّ منهم ما عنده من الرأي، ثم يفعل صاحب الأمر ما ظهرت له فيه المصلحة.

6 -

(ومنها): أنه لا حرج على أحد المتشاورين إذا أخبر بما أدَّى إليه اجتهاده، ولو خطأ.

7 -

(ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لعمر، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما.

8 -

(ومنها): أنه يجب مخالفة اليهود والنصارى، وغيرهم من أهل الملل المخالفة للإسلام فيما يستعملونه في عباداتهم، وعاداتهم الخاصّة بهم.

9 -

(ومنها): بيان شرف رؤيا المؤمن، وقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".

وأخرج البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".

وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة، إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له".

10 -

(ومنها): مراعاة المصالح والعمل بها، وذلك أنه لَمّا شقّ عليهم التبكير إلى الصلاة؛ لئلا تفوتهم أشغالهم أو التأخّر عنها؛ لئلا يفوتهم صلاتها جماعةً، نظروا في ذلك.

ص: 25

11 -

(ومنها): مشروعيّة القيام للأذان، على ما الراجح في قوله صلى الله عليه وسلم:"قم يا بلال"، وقال القاضي عياض صلى الله عليه وسلم: في الحديث حجة لشرع الأذان من قيام، وأنه لا يجوز الأذان قاعدًا، قال: وهو مذهب العلماء كافّةً إلا أبا ثور، فإنه جوّزه، ووافقه أبو الفرج المالكيّ.

وتعقّبه النوويّ، فقال: وهذا الذي قاله ضعيف لوجهين: أحدهما: أنّا قدمنا عنه أن المراد بهذا النداء الإعلام بالصلاة، لا الأذان المعروف، والثاني: أن المراد: قُمْ فاذهب إلى موضع بارز، فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس من البعد، وليس فيه تعرّض للقيام في حال الأذان، لكن يُحْتَجُّ للقيام في الأذان بأحاديث معروفة غير هذا.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن احتجاج القاضي بقوله: "قم يا بلال" على القيام ظاهرٌ، وقد احتجّ به قبله ابن المنذر في "الأوسط"

(1)

.

وكذا كون المراد من قوله: "فناد بالصلاة" الأذان المعروف هو الأظهر، كما أسلفنا تحقيقه، وأما قول عمر رضي الله عنه:"ينادي بالصلاة" فحمله على مطلق الإعلام هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

قال: وأما قوله: مذهب العلماء كافة أن القيام واجبٌ، فليس كما قال، بل مذهبنا المشهور أنه سنة، فلو أذّن قاعدًا بغير عذر صح أذانه، لكن فاتته الفضيلة، وكذا لو أذّن مضطجعًا مع قدرته على القيام صحّ أذانه على الأصح؛ لأن المراد الإعلام، وقد حَصَل، ولم يثبت في اشتراط القيام شيء، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

12 -

(ومنها): ما قيل: سبب تخصيص بلال رضي الله عنه بالنداء والإعلام هو ما جاء مبينًا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما في الحديث الصحيح، حديثِ عبد الله بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أَلْقِه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك"، قيل: معناه أرفع صوتًا، وقيل: أطيب، فيؤخذ منه استحباب كون المؤذن رفيع الصوت وحسنه، وهذا متفق عليه، قال أصحابنا: فلو وجدنا مؤذنًا حسن الصوت يَطلُب على أذانه رزقًا، وآخر يتبرع بالأذان، لكنه غير حسن

(1)

"الأوسط" 3/ 12.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 77.

ص: 26

الصوت، فأيهما يؤخذ؟ فيه وجهان؛ أصحهما يُرْزَق حسن الصوت، وهو قول ابن سريج، والله أعلم. انتهى.

وقال ابن المنذر رحمه الله بعد إخراجه حديث رؤيا عبد الله بن زيد للأذان - ما نصّه: ويدلّ هذا الحديث على أن من كان أرفع صوتًا أحقّ بالأذان؛ لأن النداء إنما جُعل لاجتماع الناس للصلاة، بَيَّنَ ذلك في قوله:"ألقها عليه، فإنه أندى صوتًا منك". انتهى

(1)

.

13 -

(ومنها): ما ذكره العلماء أن في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإسلام، وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة، وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم متى شُرع الأذان؟:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب بَدْء الأذان" وقوله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 58]، وقوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9].

فأشار بالآية الأولى إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن اليهود لَمّا سمعوا الأذان قالوا: لقد ابتدعت يا محمد شيئًا لم يكن فيما مضى، فنزلت:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} الآية.

وأشار بالآية الثانية أيضًا إلى أن الابتداء كان بالمدينة، وذلك لأن ابتداء الجمعة إنما كان بالمدينة.

قال في "الفتح": واختُلِف في السنة التي فُرض فيها، فالراجح أن ذلك كان في السنة الأولى، وقيل: بل كان في السنة الثانية، ورُوي عن ابن عباس أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية، أخرجه أبو الشيخ.

قال: وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ظاهر في أن الأذان إنما شُرع بعد الهجرة، فإنه نُفِيَ النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقًا، وقوله في آخره:"يا بلال قم، فناد بالصلاة" كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، وسياق حديثه يدلّ على ذلك، كما أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق محمد بن إسحاق،

(1)

"الأوسط" 3/ 13.

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 77.

ص: 27

قال: حدّثني محمد بن إبراهيم التيميّ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال: حدَّثني عبد الله بن زيد، فذكر نحو حديث ابن عمر، وفي آخره: فبينما هم على ذلك أُرِيَ عبد الله النداء، فذكر الرؤيا، وفيها صفة الأذان، لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التكبير، وإفراد الإقامة، وتثنية "قد قامت الصلاة"، وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها لرؤيا حقّ إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال، فألقها عليه، فإنه أندى صوتًا منك"، وفيه مجيء عمر، وقوله: إنه رأى مثل ذلك.

وقد أخرج الترمذيّ في ترجمة بدء الأذان حديث عبد الله بن زيد، مع حديث عبد الله بن عمر، وإنما لم يخرجه البخاريّ؛ لأنه على غير شرطه، وقد رُوِي عن عبد الله بن زيد من طُرُق، وحَكَى ابن خزيمة عن الذُّهليّ أنه ليس في طُرُقه أصح من هذه الطريق، وشاهده حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، مرسلًا، ومنهم من وصله عن سعيد، عن عبد الله بن زيد، والمرسل أقوى إسنادًا.

ووقع في "الأوسط" للطبراني أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، ووقع في "الوسيط" للغزاليّ أنه رآه بضعة عشر رجلًا، وعبارة الجيلي في "شرح التنبيه" أربعة عشر رجلًا، وأنكره ابن الصلاح، ثم النوويّ، ونقل مغلطاي أن في بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعةٌ، ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" بسند واهٍ قال: "أول من أذّن بالصلاة جبريل في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالًا، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال، فقال له: سبقك بها عمر".

قال الجامع عفا الله عنه: تبيّن بما سبق أن الراجح أن شرع الأذان كان بالمدينة، كما بيّنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث يدلّ على أن بدء الأذان إنما كان بعد أن هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأن صلاته بمكّة إنما كانت بغير نداء، ولا إقامة، وكذلك كان يُصلّي أوّل ما قَدِمَ المدينة

ص: 28

إلى أن رأى عبد الله بن زيد النداء في المنام بغير أذان ولا إقامة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: وردت أحاديث تدلّ على أن الأذان شُرع بمكة قبل الهجرة، منها للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: لما أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان، فنَزَل به، فعلَّمه بلالًا، وفي إسناده طلحة بن زيد، وهو متروك.

وللدارقطني في "الأطراف" من حديث أنس، أن جبريل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فُرِضت الصلاة، وإسناده ضعيف أيضًا.

ولابن مردويه من حديث عائشة، مرفوعًا:"لما أُسري بي أَذَّن جبريل، فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدَّمني فصليت"، وفيه من لا يُعْرَف.

وللبزار وغيره من حديث عليّ قال: لما أراد الله أن يُعَلّم رسوله الأذان، أتاه جبريل بدابة يقال لها: البراق، فركبها

فذكر الحديث، وفيه: إذ خرج ملك من وراء الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، وفي آخره: ثم أخذ الملك بيده، فأمَّ بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يُحمَل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة.

وأما قول القرطبيّ: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه، ففيه نظر؛ لقوله في أوله:"لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان"، وكذا قول المحب الطبريّ: يُحْمَل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغويّ، وهو الإعلام؛ ففيه نظر أيضًا؛ لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه.

والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فُرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر، ثم حديث عبد الله بن زيد. انتهى.

وقد حاول السهيليّ الجمع بينهما، فتكلّف وتعسَّف، والأخذ بما صَحّ

(1)

"الأوسط" 3/ 11.

ص: 29

أولى، فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابيّ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سماوات، وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابيّ المنام فقصّها، فوافقت ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه، فقال:"إنها لرؤيا حقّ"، وعَلِم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنةً في الأرض، وتَقَوَّى ذلك بموافقة عمر؛ لأن السكينة تنطق على لسانه، والحكمةُ أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره، والرفع لذكره بلسان غيره؛ ليكون أقوى لأمره، وأفخم لشأنه. انتهى ملخصًا.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في ردّه على القرطبيّ والسهيليّ هذه التكلّفات والتعسّفات؛ إذ هي تعب لا ينبني عليه أرب؛ إذ الجمع بين النصوص المختلفة إنما هو فرع عن صحّتها، فأما إذا كانت واهية كالأحاديث المذكورة هنا، فلا داعي إلى التكلّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: ومما كَثُر السؤال عنه، هل باشر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه؟ وقد وقع عند السهيليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَذَّن في سفر، وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبِلّة من أسفلهم، أخرجه الترمذيّ من طريق تدور على عمر بن الرّمَاح، يرفعه إلى أبي هريرة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وليس هو من حديث أبي هريرة، وإنما هو من حديث يعلى بن مرّة، وكذا جزم النوويّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذَّن مرة في السفر، وعزاه للترمذيّ، وقوّاه، ولكن وجدناه في "مسند أحمد" من الوجه الذي أخرجه الترمذيّ، ولفظه:"فأمر بلالًا، فأذّن"، فعُرف أن في رواية الترمذيّ اختصارًا، وأن معنى قوله:"أَذَّن" أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفةُ العالم الفلانيّ ألفًا، وإنما باشر العطاء غيره، ونُسب للخليفة؛ لكونه آمرًا به.

قال: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان: ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول، عن عبد الله بن الزبير، قال:"أُخِذ الأذانُ من أذان إبراهيم، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} الآية [الحج: 27]، قال: فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وما رواه أبو نعيم في "الحلية" بسند فيه مجاهيل:"إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أُهبط من الجنة". انتهى.

ص: 30

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأحاديث كلّها ضعاف لا ينبغي الاعتماد عليها، وإنما تُذكر للتنبيه؛ فتنبّه ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه آخر]: قد استُشكِل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعيّ.

وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أُمر بمقتضاها؛ ليَنظُر أيُقَرُّ على ذلك أم لا؟ ولا سيما لَمّا رأى نظمها يَبْعُد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام، وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق، وأبو داود في "المراسيل" من طريق عُبيد بن عمير الليثيّ، أحد كبار التابعين، أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي، وهذا أصح مما حَكَى الداوديّ، عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء شرع الأذان على لسان غير النبيّ صلى الله عليه وسلم التنويه بعلوّ قدره على لسان غيره؛ ليكون أفخم لشأنه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأذان:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله في كتابه "الأوسط": "ذكرُ الأمر بالأذان، ووجوبه"، قال الله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وقال تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} الآية [المائدة: 58].

قال: ولا نعلم أذانًا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا للصلاة المكتوبة، وقد ثَبَت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان والإقامة للمسافر، ثم أخرج بسنده عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم هو وصاحب له، فقال:"إذا سافرتما، فأذّنا ثم أقيما، وليؤمّكما أكبركما"، متّفقٌ عليه.

قال: فالأذان والإقامة واجبتان على كلّ جماعة في الحضر والسفر؛ لأن

ص: 31

النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان، وأَمْرُه على الفرض، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا محذورة أن يؤذّن بمكة، وأمر بلالًا بالأذان، وكل هذا يدلّ على وجوب الأذان.

وقد اختَلَف أهل العلم فيمن صلَّى بغير أذان ولا إقامة، فرُوي عن عطاء أنه قال فيمن نسي الإقامة: يعيد الصلاة، وبه قال الأوزاعيّ، ثم قال الأوزاعيّ فيمن نسي الأذان: يُعيد ما دام في الوقت، فإن مضى الوقت فلا إعادة، وكان يقول في الأذان والإقامة: يُجزئ أحدهما عن الآخر، وقد رُوي عن مجاهد أنه قال: من نسي الإقامة في السفر أعاد.

وقال مالك: إنما يجب النداء في مساجد الجماعة التي يُجمع فيها الصلاة.

وقالت طائفة: لا إعادة على من ترك الأذان والإقامة، وروينا عن الحسن أنه قال: من نسي في السفر فلا إعادة عليه، وكذلك قال النخعيّ، وقال الزهريّ وقتادة: من نسي الإقامة لم يُعِد صلاته، وقال مالك: لا شيء عليه إذا صلّى بغير إقامة، وإن تعمّد يستغفر الله، ولا شيء عليه، وقال أحمد، وإسحاق، والنعمان، وصاحباه في قوم صلَّوا بغير أذان ولا إقامة، قالوا: صلاتهم جائزة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا تُجزئ صلاة فريضةٌ في جماعة: اثنين فصاعدًا إلا بأذان وإقامة، سواء كانت في وقتها، أو كانت مقضيّة لنوم أو لنسيان، متى قُضيت، السفر والحضر سواء في كلّ ذلك، فإن صلّى شيئًا من ذلك بلا أذان ولا إقامة، فلا صلاة لهم، حاشا الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة، فإنمها يُجمعان بأذان لكلّ صلاة، وإقامة للصلاتين معًا؛ لأثر في ذلك.

ثم ذكر حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه المتقدّم، ثم قال: وما نعلم من لم ير ذلك فرضًا حُجّةً أصلًا، ولو لم يكن إلا استحلال رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء من لم يسمع عندهم أذانًا وأموالهم، وسبيهم لكفى في وجوب فرض ذلك،

(1)

"الأوسط" 3/ 24 - 25.

ص: 32

وهو إجماع متيقّنٌ من جميع من كان معه من الصحابة رضي الله عنهم بلا شك. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول بوجوب الأذان والإقامة هو الأرجح؛ للأدلة الكثيرة الواضحة في ذلك، وقد ذكرت كثيرًا منها في "شرح النسائيّ"

(2)

، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): الأصل في الأذان هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"

(3)

، فقال:

(499)

حدثنا محمد بن منصور الطُّوسيّ، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال: حدثني أبي، عبد الله بن زيد، قال: لَمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يُعْمَل؛ ليُضْرَب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يَحمِل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؛ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: "الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت، فقال: "إنها لرؤيا حقّ إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى

(1)

"المحلَّى" 3/ 122 - 125.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 7/ 667 - 668.

(3)

"سنن أبي داود" 1/ 135.

ص: 33

صوتًا منك"، فقمت مع بلال، فجعلت أُلقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحقّ يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد".

وأخرج ابن ماجه نحوه، وزاد: قال أبو عبيد

(1)

: فأخبرني أبو بكر الحكميّ أن عبد الله بن زيد الأنصاريّ قال في ذلك [من الخفيف]:

أَحْمَدُ اللهَ ذَا الْجَلَالِ وَذَا الإِكْـ

ـرَامِ حَمْدًا عَلَى الأَذَانِ كَثِيرَا

إِذْ أَتَانِي بِهِ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّـ

ـهِ فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرَا

فِي لَيَالي وَالَى بِهِنَّ ثَلَاثٍ

كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا

قال ابن المنذر رحمه الله بعد إخراج الحديث من طريق ابن إسحاق بسند أبي داود قال: وليس في أسانيد أخبار عبد الله بن زيد إسناد أصحّ من هذا الإسناد، وسائر الأسانيد فيها مقال. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في الأذان على غير طهارة: اختلفوا فيه على مذاهب:

فكرهت طائفة أن يؤذّن المؤذّن إلا طاهرًا، فممن قال ذلك عطاء، ومجاهد، والأوزاعيّ، وكان الشافعيّ يكره ذلك، ويقول: يجزيه إن فعل، وبه قال أبو ثور، وقال أحمد: لا يؤذّن الجنب، وإن أذّن على غير طهارة أرجو أن لا يكون به بأس، وقال إسحاق: إذا أذّن الجنب أعاد الأذان، وقال: لا يؤذّن إلا متوضئ.

ورخّصت طائفة في الأذان على غير وضوء، وممن رخّص في ذلك الحسن البصريّ، والنخعيّ، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وقال الثوريّ: لا

(1)

هو شيخ ابن ماجه محمد بن عُبيد بن ميمون المدنيّ، قال في "التقريب": صدوقٌ من العاشرة، مات سنة (251). انتهى. والحديث عند ابن ماجه حديث حسن، لكن الأبيات فيها انقطاع.

(2)

"الأوسط" 3/ 13.

ص: 34

بأس أن يؤذّن الجنب، وقال مالك: يؤذّن على غير وضوء، ولا يُقيم إلا على وضوء، وقال النعمان فيمن أذّن على غير وضوء وأقام: يجزيهم، ولا يعيدوا الأذان ولا الإقامة، وإن أذّن وهو جنبٌ أُحبّ أن يعيدوا، وإن صلَّوا أجزأهم، وكذلك إذا أقام، وهو جنب.

قال ابن المنذر رحمه الله رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: ليس على من أذّن وأقام وهو جنبٌ إعادة؛ لأن الجنب ليس بنجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم لا ينجس"، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كلّ أحيانه، والأذان على الطهارة أحبّ إليّ، وأكره أن يُقيم جنبًا؛ لأنه يُعَرِّض نفسه للتهمة، ولفوات الصلاة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في الكلام في الأذان:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في هذا، فرخّصت فيه طائفة، وممن رخّص فيه: الحسن البصريّ، وعطاء، وقتادة، وروينا عن سليمان بن صُرَد، وكانت له صحبة أنه كان يأمر بالحاجة له، وهو في أذانه، وكان عروة بن الزبير يتكلّم في أذانه.

واحتجّ بعض من رخّص في الكلام في الأذان بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم أخرج بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث، أن ابن عبّاس أمر مناديه يوم الجمعة في يوم مطير، فقال: إذا بلغت حيّ على الفلاح، فقل: ألا صلُّوا في الرحال، فقيل له: ما هذا؟ فقال: فعله من هو خير مني.

قال: وكان أحمد بن حنبل يرخّص في الكلام في الأذان، وذكر حديث سليمان بن صُرد رضي الله عنه، ثم أخرج بسند صحيح عن موسى بن عبد الله بن يزيد، أن سليمان بن صُرَد، وكانت له صحبةٌ، كان يؤذّن في العسكر، فأمر غلامه بالحاجة له، وهو في أذانه.

وكرهت طائفة الكلام في الأذان، وممن كره ذلك النخعيّ، وابن سيرين، والأوزاعيّ، وقال مالكٌ: لم نعلم أحدًا يُقتدى به تكلّم بين ظهراني أذانه، وقال

(1)

"الأوسط" 3/ 38.

ص: 35

الثوريّ: وإذا أذّن وأقام فلا يتكلّمنّ فيهما، ولا بأس أن يتكلّم بينهما، وقال الشافعيّ: أحبّ أن لا يتكلّم في أذانه، فإن تكلّم فلا يعيد، وقال إسحاق: لا ينبغي للمؤذّن أن يتكلّم في أذانه إلا كلامًا من شأن الصلاة، نحو: صلّوا في رحالكم، وقال النعمان ويعقوب ومحمد: لا يتكلّم في أذانه وإقامته، فإن تكلّم في أذانه وصلّى القوم، فصلاتهم تامّة، وقد روينا عن الزهريّ أنه قال: إذا تكلّم الرجل في الإقامة أعاد الإقامة.

قال ابن المنذر: أحسن ما قيل في هذا الباب الرخصة في الكلام في الأذان مما هو شأن الصلاة، كما قال إسحاق، وعلى ذلك يدلّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، فإن تكلّم بما ليس من الصلاة فهو مكروه، ولا يبطل أذانه، ولا إقامته؛ إذ لا حجّة على إبطالهما. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح أن لا يتكلّم في أثناء الأذان، كما هو حال بلال وغيره من مؤذّني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن تكلّم فلا شيء عليه؛ لعدم ورود ما يدلّ على المنع؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في أذان النساء:

قال ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في أذان النساء، وإقامتهنّ، فروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤذّن وتقيم، وعن وهب بن كيسان قال: سئل ابن عمر: هل على النساء أذان؟ فغضب، وقال: أنا أنهى عن ذكر الله؛ وحُكي عنه أنه قال: ليس على النساء أذان ولا إقامة، ولأن تقيم أحبّ إلينا.

وقالت طائفة: عليهنّ إقامة، روي ذلك عن عطاء، ومجاهد، والأوزاعيّ، وقال الأوزاعيّ: ليس علبهنّ أذان، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سئل: أتقيم المرأة؟ قال: نعم.

وقالت طائفة: ليس على النساء أذان ولا إقامة، كذلك قال أنس بن مالك، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال أنس: إن فعلن فهو ذِكرٌ.

وممن قال: ليس على النساء أذانٌ ولا إقامةٌ: سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، والنخعيّ، والزهريّ، والثوريّ، ومالكٌ، والشافعيّ،

(1)

"الأوسط" 3/ 43 - 45.

ص: 36

وأحمد، وأبو ثَوْر، والنعمان، ويعقوب، ومحمد، وقال ما لك: وإن أقامت فحسنٌ، وقال الشافعيّ: وإن جمّعن، وأذّنّ، وأقمن فلا بأس.

قال ابن المنذر: الأذان ذكرٌ من ذكر الله فلا بأس أن تؤذّن المرأة وتقيم، قال: وروينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا في هذا الباب، ثم أخرج بسنده حديث أم ورقة ابنة عبد الله بن الحارث الأنصاريّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، ويُسمّيها الشهيدة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤمّ في دارها، وكان لها مؤذّن

(1)

. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله من أنه لا بأس على المرأة أن تؤذّن وتقيم هو الحقّ عندي؛ لأن الأذان ذكر، وهي من أهل الذكر، ولم يَرِد نصّ ولا إجماع بنهيها عن ذلك، بل استحسنه كثير من أهل العلم، ويؤيّد ذلك قصّة أم ورقة رضي الله عنها، وأما حديث:"ليس على النساء أذانٌ ولا إقامة"، رواه البيهقيّ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فضعيفٌ مرفوعًا، وإنما هو موقوف، وعلى تقدير صحّته يكون معناه أنه لا يجب عليهنّ الأذان ولا الإقامة، كما يجب على الرجال، فلا ينافي الجواز.

والحاصل أن المرأة إن أذّنت وأقامت، فلا بأس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في الأذان والإقامة من صلّى في بيته:

اختلفوا فيمن صلّى في منزله منفردًا، فقالت طائفة: له أن يصلّي بغير أذان ولا إقامة، قال الأسود، وعلقمة: أتينا عبد الله في داره، فقال: قوموا فصلُّوا، قال: فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة، وعن ابن عمر قال: إذا كنت في قرية يؤذّن بها، ويقام أجزأك ذلك.

وهذا مذهب الشعبيّ، والأسود، وأبي مِجْلَز، ومجاهد، والنخعيّ، وعكرمة، وقال أحمد: إذا كان في مصر أجزأه أذان أهل المصر، وقال أبو

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه أحمد في "مسنده"(26022)، وأبو داود في "سننه"(591).

ص: 37

حنيفة: إذا صلّى وحده إن أذّن وأقام فحسنٌ، وإن اكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه، وكذا قال أبو ثور.

وقالت طائفة: يكفيه الإقامة، وبه قال: سعيد بن جبير، والأوزاعيّ، والحسن، وابن سيرين، وميمون بن مِهْران، ومالك بن أنس.

وقالت طائفة: تجزئ الإقامة إلا في الفجر، فإنه يؤذّن ويقيم، روي هذا عن ابن سيرين، والنخعيّ.

وقالت: إن صلّى بغير أذان وإقامة أعاد الصلاة، وتجزيه الإقامة، وهو قول عطاء.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: أحبّ إليّ أن يؤذّن ويقيم إذا صلّى وحده، ويجزيه إن أقام، وإن لم يؤذّن، ولو صلّى بغير أذان ولا إقامة لم يجب عليه إعادة، وإنما أحببت الأذان والإقامة للمصلّي وحده؛ لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة الأنصاريّ، ثم المازنيّ، عن أبيه، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدريّ قال له: إني أراك تُحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يَسْمَع مَدَى صوت المؤذِّن جنّ، ولا إنسٌ، ولا شيءٌ إلا شَهِد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد دلّ الحديث على أن الأذان ليس لاجتماع الناس فقط، بل لفضيلة الأذان أيضًا، وقد أمر صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث وابن عمّه رضي الله عنهما بالأذان والإقامة، ولا جماعة معهما

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح أن يؤذّن ويقيم من يصلّي وحده في بيته؛ لأن أدلّة مشروعيّة الأذان لم تشترط الجماعة، بدليل حديث أبي سعيد رضي الله عنه المذكور؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الأوسط" 3/ 58 - 60.

ص: 38

(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في الأذان والإقامة من صلّى في مسجد قد صُلّي فيه:

(اعلم): أنهم اختلفوا في الرجل يأتي إلى مسجد قد صلَّى فيه أهله، فقالت طائفة: يؤذّن ويُقيم، كذلك فَعَل أنس بن مالك رضي الله عنه، دخل مسجدًا قد صُلّي فيه، فأذّن وأقام وصلّى جماعةً، وكان سلمة بن الأكوع رضي الله عنه إذا فاتته الصلاة مع القوم أذّن وأقام، وقال سعيد بن المسيّب، والزهريّ: يؤذّن ويقيم، وقال قتادة: لا يأتيك من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا خيرٌ.

واختُلف في هذه المسألة عن الشافعيّ، فحَكى الزعفرانيّ عنه أنه قال: أذان المؤذّنين وإقامتهم كافيةٌ، وحَكَى الربيع عنه أنه قال: إذا دخل مسجدًا أقيمت فيه الصلاة أحببت له أن يؤذّن ويقيم في نفسه، وسئل أحمد عنه فقال: أليس كذا فعل أنس؟.

وقالت طائفة: يقيم، روي هذا عن طاوس، وعطاء، ومجاهد، وبه قال مالك، والأوزاعيّ.

وقالت طائفة: ليس عليه أن يؤذّن ولا أن يقيم، رُوي ذلك عن الحسن، والنخعيّ، وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: أذانه وإقامته أحبّ إليّ، وإن اقتصر على أذان أهل المسجد فصلّى، فلا إعادة عليه، ولا أحبّ أن يفوته فضل الأذان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي يظهر لي أن من أتى مسجدًا قد صلى فيه أهله، وتفرّقوا أن يؤذّن ويقيم، ولا يقتصر على الأذان الأول؛ لأنه لم يحضره؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): في اختلاف أهل العلم في أخذ الأجرة على الأذان:

قال ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فكرهت طائفة أخذ الأجرة على

(1)

"الأوسط" 3/ 60 - 62.

ص: 39

الأذان، وممن كره ذلك القاسم بن عبد الرحمن، وروي عن الضحّاك بن مزاحم، وقتادة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أحبّك في الله، فقال له ابن عمر: وأنا أُبغضك في الله، قال: سبحان الله أحبّك في الله، وتُبغضني في الله؟ فقال ابن عمر؛ إنك تأخذ على أذانك أجرًا.

وكره ذلك أصحاب الرأي، وقال إسحاق: لا ينبغي أن يأخذ على الأذان أجرًا.

ورخّص مالك في الأجر على الأذان، وقال: لا بأس به، وقال الأوزاعيّ: الإجارة في ذلك مكروهة، ولا بأس بأخذ الرزق من بيت المال على ذلك، ولم ير بأسًا بالمعونة على غير شرط.

وقال طائفة: لا يُرزق المؤذّن إلا من خمس الخمس، سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُرزق من غيره من الفيء، ولا من الصدقات، وهكذا قال الشافعيّ.

قال ابن المنذر بعد ذكر هذه الأقوال: لا يجوز للمؤذّن أخذ الأجر على أذانه؛ لحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، حيث أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ مؤذّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا

(1)

، قال: فإن أخذ مؤذن على أذانه أجرًا لم يسعه ذلك؛ لأن السنّة منعت منه، فإن صلّوا بأذان من أخذ على أذانه أجرًا فصلاتهم مجزئة؛ لأن الصلاة غير الأذان، وليست الإمامة كذلك، أخشى أن لا تجزئ صلاة من أمّ بجُعْل، كما رُوي عن الحسن أنه قال: أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله من عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان هو الأرجح عندي، لكن لو رُزق المؤذن من بيت المال دون المشارطة؛ لئلا تتعطّل المساجد، فالظاهر أنه لا مانع منه؛ لأنه ليس استئجارًا، وقد مال إلى هذا الشوكانيّ رحمه الله، وقد ذكرت المسألة بأتمّ مما هنا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(3)

، والله تعالى أعلم بالصوِاب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وأصحاب السنن.

(2)

"الأوسط" 3/ 62 - 64.

(3)

راجع: "ذخيرة العقبى" 8/ 273 - 276.

ص: 40

(2) - (بَابُ الأَمْرِ بِشَفْعِ الأَذَان، وَإِيتَارِ الإقَامَة، إِلَّا كَلِمَةَ الإِقَامَة، فَإِنَّهَا تُثَنَّى)

[844]

(378) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَام، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا

(1)

إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُليَّةَ، جَمِيعًا عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ؟ "أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأذَانَ، وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ". زَادَ يَحْيَى فِي حَدِيثِه، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَيُّوبَ، فَقَالَ:"إِلَّا الإِقَامَةَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ له اختياراتٌ في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ الحافظ الإمام، تقدّم قبل بابين أيضًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل باب.

5 -

(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) هو: خالد بن مِهْران، أبو الْمَنَازل

(2)

البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

6 -

(أَبُو قِلَابَةَ)

(3)

عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

7 -

(أَنَس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل، وفيه التحديث والإخبار، والعنعنة من صيغ الأداء.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

بضمّ الميم، وبالنون، وكسر الزاي، ولم يكن حذّاءً، وإنما كان يجلس في الحذّائين، وقيل في سببه غير ذا، قاله النوويّ 4/ 78.

(3)

بكسر القاف، وبالباء الموحّدة.

ص: 41

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني ما أخرج له أبو داود وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه أيضًا، فالأول بغداديّ، والثاني نيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: خالد، عن أبي قلابة، وتقدّم الكلام على أنس رضي الله عنه قريبًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: "أُمِرَ بِلَالٌ) ببناء الفعل للمفعول، هكذا في رواية الشيخين، وقد جاء مفسَّرًا في رواية النسائيّ من طريق عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، عن أبي قلابة، ولفظه:"عن أنس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أُمِر بلالٌ" هو بضم الهمزة، وكسر الميم: أي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، من الفقهاء وأصحاب الأصول، وجميع المحدثين، وشَذَّ بعضهم فقال: هذا اللفظ وشبهه موقوف؛ لاحتمال أن يكون الآمر غيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ، والصواب أنه مرفوعٌ؛ لأن إطلاق ذلك إنما ينصرف إلى صاحب الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا اللفظ قولُ الصحابيّ:"أُمِرنا بكذا"، و"نُهِينا عن كذا"، أو "أُمر الناسُ بكذا"، ونحوه، فكله مرفوعٌ، سواءٌ قال الصحابيّ ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بعد وفاته. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفتُ أنه جاء مفسّرًا في رواية النسائيّ، فلا محلّ للنزاع بعد ثبوته نصّا؛ لأن الرواية يفسّر بعضها بعضًا؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ) بفتح حرف المضارعة والفاء، من باب نَفَعَ، يقال: شَفَعت الشيءَ شَفْعًا: إذا ضممته إلى الفرد، يعني أن يأتي بألفاظ الأذان مرّتين مرّتين.

وهذا محمول على التغليب، وإلا فكلمة التوحيد في آخره مفردة، وكذا

ص: 42

التكبير في أوله على اختلاف الروايات في ذلك على ما يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -.

وقال في "الفتح": قال الزين ابن الْمُنَيِّر: وصفُ الأذان بأنه شَفْعٌ يفسره قوله: "مثنى مثنى"، أي مرتين مرتين، وذلك يقتضي أن تستوي جميع ألفاظه في ذلك، لكن لم يُخْتَلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة، فيحمل قوله:"مثنى" على ما سواها، وكأنه أراد بذلك تأكيد مذهبه في ترك تربيع التكبير في أوله، لكن من قال بالتربيع أن يَدَّعِيَ نظير ما ادَّعاه؛ لثبوت الخبر بذلك، وسيأتي في الإقامة توجيه يقتضي أن القائل به لا يَحتاج إلى دعوى التخصيص. انتهى

(1)

.

(وَيُوتِرَ الإقَامَةَ") بالنصب عطفًا على "يشفع"، أي وأُمر أن يوتر ألفاظ الإقامة؛ أي يأتي بها مرّةً مرّةً، والمراد أيضًا أغلبها، وإلا فالتكبير في أوّلها وآخرها يُثنَّى، وكذا جملة "قد قامت الصلاة"، كما بيّن استثناءه بقوله:

(زَادَ يَحْيَى) بن يحيى (فِي حَدِيثِهِ عَن) إسماعيل (ابْنِ عُلَيَّةَ) وقوله: (فَحَدَّثْتُ بِهِ أَيُّوبَ .. إلخ) مفعول به لقوله: "زاد"، محكيّ؛ لقصد لفظه، وقوله:"عن إسماعيل" متعلّق بحال من "يحيى"؛ أي حال كونه راويًا عن إسماعيل؛ أي بالسند السابق، فهو متّصلٌ، وليس معلّقًا، فتنبّه.

والمعنى أن يحيى بن يحيى زاد في آخر الحديث ناقلًا عن إسماعيل ابن عُليّة قولَهُ: "إلا الإقامة"، وفي رواية البخاريّ:"قال إسماعيل: فذكرته لأيوب، فقال: إلا الإقامة".

وقوله: (فَقَالَ) بيان وتوضيح لمعنى "زاد"(إِلَّا الإِقَامَةَ) أي إلا لفظ "قد قامت الصلاة"، قال في "الفتح": المراد بالنفي غير المراد بالمثبت؛ فالمراد بالمثبت، أي بقوله:"ويوتر الإقامة" جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفيّ خُصوص قوله:"قد قامت الصلاة"، كما سيأتي صريحًا، وحصل من ذلك جناس تامّ. انتهى.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ من طريق سماك بن عطيّة، عن أيوب،

(1)

"الفتح" 2/ 99.

ص: 43

عن أبي قلابة، عن أنس، قال:"أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة".

فقال في "الفتح": ادَّعَى ابنُ منده أن قوله: "إلا الإقامة" من قول أيوب غيرُ مسند، كما في رواية إسماعيل بن إبراهيم، وأشار إلى أن في رواية سماك بن عطية هذه إدراجًا، وكذا قال أبو محمد الأصيليّ: قوله: "إلا الإقامة" هو من قول أيوب، وليس من الحديث، وفيما قالاه نظر؛ لأن عبد الرزاق رواه عن معمر، عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مُفَسَّرًا، ولفظه:"كان بلال يُثَنِّي الأذان، ويوتر الإقامة إلا قوله: قد قامت الصلاة"، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والسراج في "مسنده"، وكذا هو في مُصَنَّف عبد الرزاق، وللإسماعيليّ من هذا الوجه:"ويقول: قد قامت الصلاة" مرتين، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل؛ لأنه إنما يتحصل منها أن خالدًا كان لا يذكُر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما رَوَى الحديث عن أبي قلابة، عن أنس، فكان في رواية أيوب زيادة من حافظ فتُقْبَلُ، والله أعلم.

وقد استُشكِل عدم استثناء التكبير في الإقامة، وأجاب بعض الشافعية بأن التثنية في تكبيرة الإقامة بالنسبة إلى الأذان إفراد، قال النوويّ: ولهذا يُسْتَحبّ أن يقول المؤذن كل تكبيرتين بنفس واحد.

قال الحافظ: وهذا إنما يتأتى في أول الأذان، لا في التكبير الذي في آخره، وعلى ما قال النوويّ ينبغي للمؤذن أن يُفْرِد كل تكبيرة من اللتين في آخره بنفس، ويَظْهَر بهذا التقرير ترجيح قول من قال بتربيع التكبير في أوله على من قال بتثنيته، مع أن لفظ الشفع يتناول التثنية والتربيع، فليس في لفظ حديث الباب ما يخالف ذلك، بخلاف ما يوهمه كلام ابن بطال، وأما الترجيع في التشهدين فالأصح في صورته أن يشهد بالوحدانية ثنتين، ثم بالرسالة ثنتين، ثم يرجع فيَشْهَد كذلك، فهو وإن كان في العدد مُرَبَّعًا، فهو في الصورة مُثَنَّى، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 2/ 99.

ص: 44

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 844 و 845 و 846 و 847](378)، و (البخاريّ) في "الأذان "(605 و 606 و 657)، و (أبو داود) فيه (558 و 509)، و (النسائيّ) فيه (2/ 3)، و (ابن ماجه) فيه (729 و 730)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2095)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1794)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 205)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 103)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 271)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(368)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1675 و 1676 و 1678)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 198)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 132 و 133)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 412 و 413)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(403)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(947 و 948 و 949 و 950 و 951 و 952 و 953 و 954 و 955 و 956 و 957 و 958)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(833 و 834)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الأذان شفع؛ أي في معظم ألفاظه، وإلا فالتكبير في أوله مربّع، وكلمة التوحيد في آخره مفردة.

2 -

(ومنها): بيان أن ألفاظ الإقامة مفردة، أي معظمها؛ لأن التكبير في أولها مثنّى، وكذا قوله:"قد قامت الصلاة"، فإنه أيضًا مثنّى.

3 -

(ومنها): أن هذا الحديث حجةٌ على الحنفيّة في زعمهم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أوّلًا، ثم نُسِخ بحديث أبي محذورة رضي الله عنه يعني الذي رواه أصحاب "السنن"، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخِّر عن حديث أنس رضي الله عنه، فيكون ناسخًا.

وتُعُقّب بأن في بعض طرُق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به.

وقد أنكر أحمد على من ادَّعَى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتَجَّ بأن

ص: 45

النبيّ صلى الله عليه وسلم رَجَع بعد الفتح إلى المدينة، وأقَرّ بلالًا على إفراد الإقامة، وعَلَّمه سَعْدَ الْقَرَظ، فأذَّن به بعده كما رواه الدارقطنيّ، والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد، وإسحاق، وداود، وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن رَبَّع التكبير الأول في الأذان، أو ثَنّاه، أو رَجَّع في التشهد، أو لم يرجِّع، أو ثنى الإقامة، أو أفردها كلها، أو إلا "قد قامت الصلاة"، فالجميع جائز، وعن ابن خزيمة إن رَبَّع الأذان، ورَجَّع فيه، ثَنَّى الإقامة، وإلا أفردها، وقيل: لم يقل بهذا التفصيل أحد قبله، والله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قيل: الحكمةُ في تثنية الأذان وإفراد الإقامة، أن الأذان لإعلام الغائبين، فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة، فإنها للحاضرين، ومن ثَمَّ استُحِبّ أن يكون الأذان في مكانٍ عالٍ، بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتَّلًا، والإقامة مُسْرَعَةً، وكُرِّر "قد قامت الصلاة"؛ لأنها المقصودة من الإقامة بالذات.

وهذا توجيهه ظاهرٌ، وأما قول الخطابيّ: لو سُوِّي بينهما لاشتبه الأمر عند ذلك، وفاتت صلاة الجماعة كثيرًا من الناس ففيه نظر؛ لأن الأذان يُستَحَبّ أن يكون على مكان عالٍ لتشترك الأسماع كما تقدم، فلا اشتباه، أفاده في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة الأذان:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في سنّة الأذان، فقال مالك والشافعيّ، ومن تبعهما من أهل الحجاز: الأذان أذان أبي محذورة، لم يختلفا في ذلك إلا في أول الأذان، فإن مالكًا يرى أن يقال:"الله أكبر الله أكبر" مرّتين، والشافعيّ يرى أن يكبّر المؤذّن في أول الأذان أربعًا:"الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر"، واتّفقا في سائر الأذان.

وحجّتهما في ذلك الأخبار التي رُويت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليمه أبا محذورة رضي الله عنه الأذان، وقال قائلهم: أَمرُ الأذان من الأمور المشهورة التي

(1)

"الفتح" 2/ 100 - 101.

(2)

"الفتح" 2/ 101.

ص: 46

يُستَغنَى بشهرتها بالحجاز، يتوارثونه قرنًا بعد قرن، يأخذه الأصاغر عن الأكابر، وليس يجوز أن يُعترَضَ عليهم في الأذان، وهو ينادى به بين أظهرهم في كلّ يوم وليلة خمس مرّات، ولو جاز ذلك لجاز الاعتراض عليهم في معرفة الصفا والمروة، ومنى، وعرفة، والمزدلفة، وموضع الوقوف بعرفة، مع أن الأذان كذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر وعمر، لا يختلف أهل الحرمين فيه، وغير جائز أن يُجعل اعتراض من اعترض من أهل العراق حجةً على أهل الحجاز، وكيف يجوز أن يكون الآخر حجةً على الأول، وعنه أَخَذَ العلمَ؟ وقد كان الأذان بالحجاز، ولا إسلام بالعراق، وحكاية أبي محذورة بعد خبر عبد الله بن زيد بزمان؛ لأنه يُخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّمه إياه عامَ حنين، والمتأخِّر هو الناسخ لما تقدَّم، والآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من الأول.

قال ابن المنذر: وقد كان أحمد بن حنبل يميل إلى أذان بلال، فقيل له: أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد؛ قال: أليس قد رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقرَّ بلالًا على أذان عبد الله بن زيد؟.

وقال بعضهم: هذا من أبواب الإباحة إن شاء المؤذّن أذّن كأذان أبي محذورة، وثنَّى الإقامة، وإن شاء أن يثنّي الأذان ويوتر الإقامة فَعَلَ؛ لأن الأخبار قد ثَبتت بذلك، قالوا: هذا مثل الوضوء، من شاء توضّأ ثلاثًا، ومن شاء توضّا مرتين مرّتين، وقد أجاب أحمد بمثل هذا المعنى، ووافقه عليه إسحاق، وقال أحمد: ثبت عن بلال وأبي محذورة أذانهما، وكلّ سنّة، فهما مستعملان جميعًا، والذي نختار أذان بلال.

فأما سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، فمذهبهم في الأذان أنه مثنى مثنى على حديث عبد الله بن زيد، وكذلك قولهم في الإقامة: إنها مثنى مثنى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح ما سبق عن الإمامين: أحمد وإسحاق بأن كلّ ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن زيد، وأبي

(1)

"الأوسط" 3/ 15 - 17.

ص: 47

محذورة سنّة، ينبغي العمل به في الأوقات المختلفة، ولكن الذي ينبغي المداومة عليه هو الأصحّ، فالأصحّ.

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: كلُّ هذه الوجوه جائزة مُجزئةٌ، لا كراهة فيها، وإن كان بعضها أفضل من بعض؛ لأنه قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعَمِل به أصحابه، فمن شاء رَبَّعَ التكبير، ومن شاء ثنّى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا "قد قامت الصلاة"، فإن ذلك مرّتان على كلّ حال، وهذا كما قيل في التشهّدات، والتوجيهات، ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان لنفسه أصحّ ما ورد، أو أن يأخذ بالزائد فالزائد، هذا خلاصة ما في الباب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله.

والحاصل أن الأولى أن يستعمل كلّ ما صحّ من كيفيّة الأذان والإقامة، ولا يقتصر على كيفيّة معيّنة؛ لأن بذلك يحصل العمل بكلّ ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخلافه لا يؤدّي إلى ترك العمل ببعض ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، فيعمل بهذا تارة، وبهذا تارة، ولكن يعمل في أكثر الأوقات بما هو الأصحّ رواية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تثنية الإقامة، وإفرادها:

اختلفوا في هذا على مذاهب:

فذهبت طائفة إلى أنها فرادى، فممن رُوي عنه ذلك: عروة بن الزبير، والحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز، وخالد بن معدان، ومكحول، ومالك، وأهل الحجاز، والأوزاعيّ، وأهل الشام، والشافعيّ، وأصحابه، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجّوا بحديث أنس رضي الله عنه المتّفق عليه:"أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة".

وقالت طائفة: الأذان والإقامة مثنى مثنى، وهو قول سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي.

قال ابن المنذر رحمه الله بعد حكايته الخلاف -: أما الأذان فعلى حديث أبي محذورة؛ لأن ذلك لم يزل يؤذَّن به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحرمين جميعًا، ثم لم يزل كذلك يؤذَّن به بمكة إلى اليوم، وكذلك

ص: 48

لم يزل ولد سعد القرَظ

(1)

يؤذّن به، ويذكرون أنه أذان بلال وسعد.

وأما الإقامة، فقد اختُلف فيها عنه، فرُوي عنه أنه كان يُفرد الإقامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، ورُوي أن إقامته كانت مئنى مثنى، فغير جائز أن يكون أبو محذورة انتقل عن تثنية الإقامة إلى إفرادها إلا وقد عَلِمَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإفراد الإقامة، أو رأى بلالًا بعد ذلك يُفرد الإقامة، فعَلِمَ أن ذلك ليس إلا عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فانتقل إليه، ثم اتّفاق ولد أبي محذورة، وولد سعد القرظ عليه، وحكايتهم ذلك عن جدّيهما سعد القرظ عن بلال دليلٌ على أن الأمر بعد الإقامة حادثٌ بعد التثنية، ولا يجوز أن يجتمع مثل هؤلاء على خلاف السنّة.

قال: ثم اختلف هؤلاء بعد اجتماعهم على إفراد الإقامة في قوله: "قد قامت الصلاة"، فولد أبي محذورة، وسائر مؤذّن مكة يقولون:"قد قامت الصلاة" مرّتين، وولد سعد القرظ يقولون:"قد قامت الصلاة" مرّةً واحدةً، وقد اختلفت الأخبار في ذلك، غير أن الأخبار التي تدلّ على صحّة مذهب أهل مكّة أثبتُّ، ثم أخرج حديث أنس صلى الله عليه وسلم المتقدّم، وفيه:"ويوتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة"، وأخرج أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى، والإقامة واحدة، غير أن يقول:"قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" مرّتين. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(3)

.

وقال في "الفتح": هذا الحديث - يعني حديث أنس رضي الله عنه المذكور - حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أوّلًا، ثم نُسِخ بحديث أبي محذورة؛ يعني الذي رواه أصحاب السنن، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس، فيكون ناسخًا.

(1)

قال في "الفاموس"(2/ 398): سعد القرظ الصحابيّ تَجِرَ فيه، فربِحَ، فلزمه، فأضيف إليه. انتهى.

(2)

قال في "الفتح"(2/ 100): وروى الدارقطنيّ، وحسّنه في حديث لأبي محذورة:"وأمره أن يُقيم واحدةً واحدةً". انتهى.

(3)

"الأوسط" 3/ 17 - 20.

ص: 49

وعورض بأن في بعض طُرُق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به.

وقد أنكر أحمد على من ادَّعَى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة، وأقرّ بلالًا على إفراد الإقامة، وعَلَّمه سعد القرظ، فأذَّن به بعده، كما رواه الدارقطنيّ والحاكم.

وقال ابن عبد البرّ: ذهب أحمد، وإسحاق، وداود، وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن رَبَّع التكبير الأول في الأذان، أو ثنّاه، أو رَجَّع في التشهد، أو لم يُرَجّع، أو ثَنَّى الإقامة، أو أفردها كلَّها، أو إلا "قد قامت الصلاة"، فالجميع جائز، وعن ابن خزيمة: إن رَبَّع الأذان، ورَجَّع فيه ثَنَّى الإقامة، وإلا أفردها، وقيل: لم يقل بهذا التفصيل أحدٌ قبله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من بيان المذاهب، وأدلّتها أن أرجح المذاهب مذهب من قال: إن الأمر فيه سعة، وكلّ ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز العمل به، فمن شاء ثنّى الإقامة، ومن شاء أفرد، وكلٌّ واسع - والحمد لله - وبهذا يجمع بين أخبار هذا الباب دون دعوى النسخ بلا بيّنة، لكن قدّمنا أن هذا لا ينافي أن يتخيّر الإنسان في معظم الأوقات ما هو أصحّ، وأقوى من هذه الأخبار حتى يعمل به أكثر؛ فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[845]

(

) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) أبو محمد البصريّ، ثقة [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

ص: 50

و"إسحاق" تقدّم في الباب الماضي، والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ

إلخ) بضم حرف المضارعة، وإسكان العين، من الإعلام: أي أن يجعلوا له علامةً يُعرف بها، وقال في "الفتح": وفي رواية كريمة: "بفتح أوله من العلم".

وقوله: (فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا) من التنوير: أي يُظهروا نُورَ نَارٍ.

وقوله: (أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا) الناقوس: خَشَبة تُضرب بخشبة أصغر منها، فيَخرُج منها صوتٌ، وهو من شِعَار النصارى.

وقوله: (وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ) احتجّ به من قال بإفراد قوله: "قد قامت الصلاة"، والحديث الذي قبله حجة عليه؛ لأن قوله:"إلا الإقامة" صريح في تكراره، فإن احتَجَّ بعمل أهل المدينة عُورض بعمل أهل مكّة، ومعهم الحديث الصحيح، قاله في "الفتح"

(1)

، وتمام شرح الحديث ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

[846]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، بِهَذَا الإِسْنَاد، لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا، بِمِثْلِ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنْ يُورُوا نَارًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت بعد 200) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(وُهَيْب) بن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ [7](ت 165) وقيل بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد خالد الحذّاء، عن أبي قِلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(1)

2/ 100.

ص: 51

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ) يعني أن حديث وُهيب مثل حديث عبد الوهّاب الثقفيّ.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لوُهيب.

وقوله: (أَنْ يُورُوا نَارًا) أي بضمّ حرف المضارعة، وسكون الواو، أي يوقدوا، ويُشعِلوا نارًا، يقال: أوريت النار: أي أشعلتها، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} [الواقعة: 71]، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "القاموس": وَرَى الزَّنْدُ، كوَعَى، ووَليَ وَرْيًا، وَوُرِيًّا، وَرِيَةً، فهو وَارٍ، وَوَرِيٌّ: خَرَجت ناره، وأوريته، ووَرّيته، واستوريته، ووَرْيَةُ النار، ورِيَتُها: ما تُورَى به، من خِرْقَة، أو حَطَبَةٍ. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية وُهيب هذه أخرجها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 272)، فقال:

(947)

حدثنا الحسن بن مكرم، قال: ثنا عَفّان، قال: ثنا وُهيب، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال:"لَمّا كَثُر الناس، ذكروا أن يجعلوا وقتَ الصلاة شيئًا يعرفونه، فذَكُروا أن يُنَوِّروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأُمِر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[847]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، قَالَا: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ عن (85) سنة (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 79.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 399.

ص: 52

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) هو الثقفيّ المذكور قبل حديث.

4 -

(أيّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار [5](ت 131) عن (65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 355.

وشرح الحديث ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(3) - (بَابُ صِفَةِ الأَذانِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[848]

(379) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِد، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: حَدَّثنَا مُعَاذٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَام، صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ، وَحَدَّثَني أَبِي

(1)

، عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَل، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ هَذَا الْأَذانَ: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَقُولُ

(2)

: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْن، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ"، زَادَ إِسْحَاقُ: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني أبي" بدون عاطف.

(2)

وفي نسخة: "ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرّتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرّتين".

ص: 53

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ تقدّم قبل حديثين.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) البصريّ، سَكَن اليمن، صدون رُبّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله، واسم أبيه سَنْبَر، بوزن جعفر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(عَامِر الْأَحْوَلُ) هو: عامر بن عبد الواحد، رَوَى عن مكحول، وأبي الصّدِّيق الناجيّ، وعمرو بن شُعيب، وعبد الله بن بُريدة، وشهر بن حَوْشب، وبكر بن عبد الله الْمُزَنيّ، وجماعة.

ورَوَى عنه شعبة، وهشام الدستوائيّ، وهمام، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان العطار، والحمادان، وعبد الله بن شَوْذب، وعبد الوارث، وهُشيم، وغيرهم.

قال أبو طالب، عن أحمد: ليس بقويّ، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس حديثه بشيء، وقال أبو داود: سمعت أحمد يضعفه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وقال ابن عديّ: لا أرى برواياته بأسًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عبد الصمد بن عبد الوارث: ثنا أبو الأشهب، ثنا عامر الأحول، عن عائذ بن عمرو المزنيّ، يُحَدِّث: "مَن عَرَض له شيء من هذا الرزق من غير مسألة

"، وهو شيخ آخر تابعيّ، قاله الحافظ المزيّ رحمه الله في "تهذيب الكمال".

وتعقّبه الحافظ في "تهذيب التهذيب": بأن في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، وتاريخ ابن أبي خيثمة ما يُبَيِّن لك أنه هو، فإنه قال: عامر الأحول، هو ابن عبد الواحد بصريّ، رَوَى عن عائذ بن عمرو، وأبي الصّدِّيق، وعمرو بن شعيب، ثم ساق كلام الناس فيه.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": سمعت أبا زكريّا يقول: عامر الأحول بصريّ، وهو ابن عبد الواحد، فهو كل عامر يروي عنه البصريون ليس غيره، ثنا أبو سلمة، ثنا أبو الأشهب، عن عامر بن عبد الواحد.

ص: 54

وقال أبو القاسم البغويّ في ترجمة عائذ بن عَمْرو: رَوَى عنه عامر بن عبد الواحد الأحول، ولا أحسبه أدركه.

وقال ابن حبان في ثقات التابعين: عامر بن عبد الواحد الأحول، يَرْوِي عن عائذ بن عَمْرو، ورَوَى عنه أبو الأشهب، ونَقَل العقيليّ، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس هو بالقويّ ضعيفٌ، وعن أبي بكر بن الأسود: سألت ابن عُلَيّة عن عامر بن عبد الواحد الأحول، فقال: سَلْ جَدَّك حميد بن الأسود، فسألته فوهّنه، وقال الساجيّ: يُحْتَمَلُ لصدقه، وهو صدوق. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الحافظ: أن عامرًا الأحول الذي رَوَى عن عائذ بن عمرو المزنيّ الصحابيّ، ولم يدركه، هو عامر الأحول المترجم هنا، وليس هو غيره؛ لأن كلام هؤلاء الأئمة يدلّ على هذا، والله تعالى أعلم.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنف، والأربعة، وليس له عند المصنّف في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

6 -

(مَكْحُولٌ) الشاميّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو أيّوب، ويقال: أبو مسلم الدمشقيّ، ثقة فقيهٌ، كثير الإرسال، مشهور [5].

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أُبي بن كعب، وثوبان، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وعائشة، وأم أيمن، وأبي ثعلبة الْخُشَني مرسلًا أيضًا، وعن أنس، وواثلة بن الأسقع، وأبي أمامة، ومحمود بن الربيع، وعبيد الله بن مُحيريز، وعنبسة بن أبي سفيان، وجبير بن نفير، وسليمان بن يسار، وشرحبيل بن السمط، وغيرهم.

ورَوَى عنه الأوزاعيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد الحمصي، وسليمان بن موسى، ويزيد بن يزيد بن جابر، ومحمد بن إسحاق، وآخرون.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال أبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، ولا أدري أدركه أم لا. وقال أبو حاتم: قلت لأبي مسهر: هل سمع مكحول من أحد من الصحابة؟ قال: من أنس، قلت: قيل: سمع من أبي هند، قال: من

ص: 55

رواه؟ قلت: حيوة عن أبي صخرة، عن مكحول أنه سمع أبا هند، فكأنه لم يلتفت إلى ذلك، فقلت له: فواثلة بن الأسقع؟ فقال: من يرويه؟ قلت: حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة، فكأنه أومى برأسه

(1)

. وقال الترمذيّ: سمع مكحول من واثلة، وأنس، وأبي هند الداريّ، ويقال: إنه لم يسمع من واحد من الصحابة إلا منهم. وقال النسائي: لم يسمع من عنبسة. وقال يحيى بن حمزة عن أبي وهيب الكلاعي، عن مكحول: عَتَقْتُ بمصر، فلم أَدَع فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أَرَى، ثم أتيت العراق والمدينة والشام، فذكر كذلك. وقال ابن زَبْر عن الزهري: العلماء أربعة، فذكرهم، فقال: ومكحول بالشام. وقال يونس بن بُكير عن ابن إسحاق: سمعت مكحولًا يقول: طُفت الأرض كلها في طلب العلم. وقال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاء العلمُ من الشام عن مكحول قبلناه. وقال مروان بن محمد عن سعيد: لم يكن في زمان مكحول أبصر منه بالفتيا. وقال عثمان بن عطاء: كان مكحول أعجميًا، وكلُّ ما قال بالشام قُبِل منه. وقال ابن عمار: كان مكحول إمام أهل الشام. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن خِراش: شامي صدوق، وكان يرى القدر. وقال مروان بن محمد، عن الأوزاعي: لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن، ومكحول، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل. وقال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال ابن سعد: قال بعض أهل العلم: كان مكحول من أهل كابُل، وكانت فيه لُكْنَة، وكان يقول بالقدر، وكان ضعيفًا في حديثه ورأيه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وكان ضعيفًا في حديثه"، هذا مما لا يُقبل، فإن مكحولًا مُجْمَعٌ على توثيقه وجلالته، إلا أنه طُعِن في رأيه، ولكنه تبرأ منه، فماذا عليه؟. فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال أبو داود: سألت أحمد: هل أَنكر أهل النظر على مكحول شيئًا؟

(1)

بقية كلام أبي حاتم كما في "الجرح والتعديل" 8/ 408: كأنه قَبِل ذلك.

ص: 56

قال: أنكروا عليه مجالسة علان

(1)

، ورموه به، فبرأ نفسه، بأن نَحّاه، وقال الجوزجاني: يتوهم عليه القدر، وهو ينتفي عنه. وقال يحيى بن معين: كان قدريًّا ثم رجع. وقال ابن حبان في "الثقات": ربما دلّس.

وقال ابن يونس: ذُكر أنه من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هُذيل من أهل مصر، فأعتقه، فسكن الشام، ويقال: كان من آل فارس، ويقال: كان اسم أبيه شهراب، وكان مكحول يُكنى أبا مسلم، وكان فقيهًا عالمًا، رأى أبا أُمامة، وأنسًا، وسمع من واثلة، يقال: تُوفي سنة ثماني عشرة ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتي عشرة، وفيها أرّخه دُحَيم وغير واحد. قال أبو مسهر: مات بعد سنة اثنتي عشرة، وعنه: مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة. وكذا قال الحسن بن محمد بن بكار بن بلال. وقال سليمان بن عبد الرحمن: مات سنة ثلاث عشرة. وقال ابن سعد: مات سنة ست عشرة. وعن عمر بن سعيد الدمشقي: سنة ثمان عشرة.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (379)، وحديث (982):"ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة"، و (1913):"رِباط يوم وليلة خير من صيام شهر، وقيامه"، و (1931):"فَكُلْهُ ما لم يُنْتِنْ".

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَيْرِيزِ) بن جُنادة بن وهب الْجُمَحيّ المكيّ، كان يتيمًا في حجر أبي محذورة رضي الله عنه بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقةٌ عابدٌ [3](ت 99) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

8 -

(أَبُو مَحْذُورَةَ) القُرَشيّ الْجُمَحيّ المكيّ المؤذِّن الصحابيّ المشهور، قيل: اسمه أوس، وقيل: سَمُرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان، واسم أبيه مِعْيَر - بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وفتح التحتانيّة - وقيل: عُمير بن لَوْذان بن وهب بن سعد بن جُمَح، وقيل: ابن لَوْذان بن ربيعة بن عُوَيج بن سعد بن جُمَح.

(1)

هكذا نسخة "تهذيب التهذيب""علّان" ولعله غيلان - بالغين المعجمة - وهو غيلان بن أبي غيلان المقتول في القدر، له ترجمة في "ميزان الاعتدال"(3/ 338)، فليُنظر ولْيُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 57

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه ابنه عبد الملك، وابن ابنه عبد العزيز بن عبد الملك على خلاف، وزوجته أم عبد الملك، وعبد الله بن مُحَيريز، والأسود بن يزيد النخعيّ، والسائب المكيّ، وأوس بن خالد، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وأبو سلمان المؤذّن.

قال الزبير: كان أحسن الناس أذانًا، وأنداهم صوتًا، قال له عمر يومًا وسمعه يؤذن: كِدتَ أن تنشق مُرَيطاؤك

(1)

، قال: وأنشدني عمي لبعض شعراء قريش [من الرجز]:

أَمَا وَرَبّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ

وَمَا تَلَا مُحَمَّدٌ مِنْ سُورَهْ

وَالنَّغَمَاتِ مِنْ أَبِي مَحْذُورَهْ

لأَفْعَلَنَّ فَعْلَةً مَذْكُورَهْ

وقال علي بن زيد بن صُوحان، عن أوس بن خالد: كنت إذا قَدِمت على أبي محذورة سألني عن رجل، وإذا قَدِمت على الرجل سألني عن أبي محذورة، فسألت أبا محذورة عن ذلك؟ فقال: كنت أنا وأبو هريرة وفلان في بيت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"آخركم موتًا في النار"، فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم مات ذلك الرجل، وقال ابن جرير وغيره: كان لأبي محذورة أخٌ يسمى أُنيسًا قُتل يوم بدر كافرًا، وقال الزبير بن بكار: أبو محذورة اسمه أوس بن مِعْيَر بن لَوْذان بن سعد جُمَح، من قال غير هذا فقد أخطأ، قال: وأخوه أُنيس قُتل يوم بدر كافرًا.

وقال ابن عبد البر: اتَّفَق الزبير، وعمه مصعب، وأبو إسحاق، والمسيبيّ على أن اسم أبي مَحْذُورة أوس، وهم أعلم بأنساب قريش، ومن قال في اسم أبي محذورة: سلمة، فقد أخطأ

(2)

.

قال ابن جرير: تُوُفِّي أبو محذورة بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة تسع وسبعين، وقال ابن حبان في الصحابة: ابنُ معير أبو محذورة مات بعد أبي هريرة، وقبل سمرة بن جندب ما بين ثمان وخمسين إلى ستين، ولّاه

(1)

"الْمُرَيْطَاء" كالْغُبَيْراء: ما بين السّرّة، أو الصدر إلى العانة، أو جِلدة رقيقة بينهما، أو عِرْقان يَعتمد عليهما الصائح، قاله في "القاموس" 2/ 385.

(2)

"الإصابة" 7/ 302.

ص: 58

النبيّ صلى الله عليه وسلم الأذان بمكة يوم الفتح، ونَقَل النوويّ عن ابن قُتيبة أن اسمه سليمان، واستغربه

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا حديث الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة، من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى مكحول، وهو وابن مُحيريز شاميّان، وأبو محذورة مكيّ، وإسحاق مروزيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز.

4 -

(ومنها): أن صحابيه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، له في الكتب الستّة، سوى البخاريّ حديث الأذان فقط

(2)

.

5 -

(ومنها): أن فيه قولَه: "صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ"، وهو مجرور صفة و"هشام"، ولا يُرفع صفة و "معاذ"، وقد صرّح مسلم: بأنه صفة و "هشام" في أواخر "كتاب الإيمان" في حديث الشفاعة

(3)

، وتقدّم هناك أنه يقال فيه أيضًا:"الدستواني" بالنون، وأنه منسوب إلى دَسْتَوَاء كُورة من كُور الأَهْوَاز، كان يبيع الثياب التي تُجْلَب منها، فنُسب إليها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ) أوس بن مِعْيَر على الصحيح رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ) صلى الله عليه وسلم (عَلَّمَهُ هَذَا الْأَذانَ) وفي رواية النسائيّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقعده، فألقى عليه الأذان حرفًا حرفًا"("اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هذا الحديث في "صحيح

(1)

"الإصابة" 7/ 302، و"تهذيب التهذيب" 12/ 243.

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 576 - 578.

(3)

راجع: شرح الحديث (91/ 485).

ص: 59

مسلم" في أكثر الأصول في أوله: "الله أكبر" مرتين فقط، ووقع في غير مسلم: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر" أربع مرات، قال القاضي عياض رحمه الله: ووقع في بعض طُرُق الفارسيّ في "صحيح مسلم" أربع مرات، وكذلك اختُلِف في حديث عبد الله بن زيد في التثنية والتربيع، والمشهور فيه التربيع، وبالتربيع قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، وبالتثنية قال مالك، واحتَجّ بهذا الحديث، وبأنه عَمَلُ أهل المدينة، وهم أعرف بالسنن، واحتَجَّ الجمهور بأن الزيادة من الثقة مقبولة، وبالتربيع عَمَلُ أهل مكة، وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم يُنْكِر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الرواية التي فيه تربيع التكبير عند مسلم هي التي ينبغي الاعتماد عليها، كما حقّق ذلك الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ، في كتابه "بيان الوهم والإيهام"، ودونك نصّه:

فيه بيان أن كلمات الأذان مثنى، وهو حديث ساقه مسلم من رواية عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن مُحيريز، عن أبي محذورة، من رواية هشام الدستوائيّ، عن عامر، رواها عنه ابنه معاذ، والصحيح عن عامر المذكور في هذا الحديث إنما هو تربيع التكبير في أول الأذان، كذلك رواه عن عامر المذكور جماعة، منهم: عفّان، وسعيد بن عامر، وحجّاج، ورواه عن هؤلاء الحسن بن عليّ، ذكر ذلك أبو داود عنه، وبذلك يصحّ فيه كون الأذان تسع عشرة كلمةً، يزيد عليها الأذان بالترجيع في الشهادتين.

وقد يقع في بعض روايات كتاب مسلم هذا الحديث مُربّعًا فيه التكبير، وهي التي ينبغي أن تُعَدَّ صحيحةً، وقد ساقه البيهقيّ في كتابه من رواية إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه هشام الدستوائيّ بالتكبير مربّعًا، ثم قال البيهقيّ: أخرجه مسلم في "الصحيح"، وإسحاق بن إبراهيم أحد من رواه عنه مسلم، فهو إذن مربّع فيه التكبير، فاعلم ذلك. انتهى كلام ابن القطّان رحمه الله

(2)

، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 81.

(2)

"بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام" 5/ 601 - 602.

ص: 60

[تنبيه]: قال الأزهريّ في "التهذيب": قول المصلّي "الله أكبر"، وكذلك قول المؤذّن، فيه قولان: أحدهما: أن معناه: الله كبيرٌ، فوُضع "أفعل" موضع "فَعِيل"، كقوله تعالى:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، معناه: وهو هَيِّنٌ عليه، ومثله قول مَعْن بن أَوْس [من الطويل]:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأَوْجَلُ

عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ

معناه: واني لوَجِلٌ.

وتقول العرب: المرء بأصغريه: أي بصغيريه، وهما قلبه ولسانه، فكذلك قوله: الله أكبر: أي كبير.

والقول الآخر: أن فيه إضمارًا، والمعنى: الله أكبر كبيرٍ، وكذلك الله الأعزّ؛ أي أعزّ عزيز، قال الفرزدق [من الكامل]:

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا

بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

معناه: أعزّ عزيز، وأطول طويل.

وقيل: معناه: الله أكبر من كلّ شيء؛ أي أعظم، فحُذف؛ لوضوح معناه، و"أكبر" خبر، والأخبار لا يُنكر حذفها، وقيل: معناه: الله أكبر من أن يُعرف كُنْهُ كبريائه وعَظَمته.

وإنما قُدّر له ذلك؛ لأن أفعل يلزم الألف واللام أو الإضافة، كالأكبر، وأكبر القوم، والراء في "أكبر" في الأذان والصلاة ساكنة، لا تضمّ؛ للوقف، فإذا وُصل بكلام ضُمّ. انتهى

(1)

.

(أَشْهَدُ) بفتح الهاء مضارع شَهِد، كعَلِمَ، قال في "القاموس": الشهادة: خبرٌ قاطعٌ، وقد شَهِدَ، كعَلِمَ، وكَرُمَ، وقد تُسَكَّن هاؤه، وشَهِده، كسَمِعه شُهُودًا: حضره، فهو شاهد، وجمعه شُهُودٌ، وشُهَّدٌ. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي أعلم وأُبيِّن، ومن ذلك: شهد الشاهد عند الحاكم، معناه: قد بيَّن له، وأعلمه الخبرَ الذي عنده،

(1)

راجع: "تهذيب اللغة" 10/ 214 - 215، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعيّ" ص 222 - 223، و"لسان العرب" 5/ 127.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 305.

ص: 61

وقال ابن منظور رحمه الله: "الشهادة": خبرٌ قاطعٌ، تقول منه: شَهِدَ الرجلُ على كذا، وربما قالوا: شَهْدَ الرجل بسكون الهاء للتخفيف، قاله الأخفش، وقولهم: أَشْهَدُ بكذا: أي أَحْلِف.

وقال أبو بكر بن الأنباريّ في قول المؤذن: "أشهد أن لا إله إلا الله": أعلم أن لا إله إلا الله، وأُبَيِّنُ أن لا إله إلا الله، قال: وقوله: "أشهد أن محمدًا رسول الله": أَعْلَمُ وأُبَيِّنُ أن محمدًا رسول الله، وقوله عز وجل {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] قال أبو عبيدة: معنى {شَهِدَ اللَّهُ} : قَضَى اللهُ أنه لا إله إلا هو، وحقيقته عَلِمَ اللهُ وبَيَّنَ الله، لأن الشاهد هو العالم الذي يُبَيِّن ما علمه، فالله قد دَلّ على توحيده بجميع ما خَلَق، فبَيَّن أنه لا يقدر أحد أن يُنشئ شيئًا واحدًا مما أنشأ، وشَهِدت الملائكة لِمَا عاينت من عظيم قدرته، وشَهِد أولو العلم بما ثبت عندهم، وتبَيَّن من خلقه الذي لا يَقدِر عليه غيره.

وقال أبو العباس: شَهِدَ الله: بَيَّن الله وأظهر، وشَهِدَ الشاهد عند الحاكم: أي بَيَّن ما يعلمه وأظهره، يدُلّ على ذلك.

وسأل المنذريُّ أحمدَ بن يحيى عن قول الله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فقال: كلُّ ما كان "شهد الله"، فإنه بمعنى عَلِمَ الله، قال: وقال ابنُ الأعرابيّ: معناه: قال الله، ويكون معناه: عَلِمَ الله، ويكون معناه: كَتَب الله، وقال ابنُ الأنباريّ: معناه: بَيَّن الله أن لا إله إلا هو. انتهى

(1)

.

وقال ابن باطيش

(2)

في "المغني": قوله: "أشهد": أصلها أنها خبر، وهي هنا خاصّ بالحال، وإن شاركه في لفظه المستقبل، لأن المتلفّظ به سَيُقطَع بإسلامه عقب قوله، ولو كان مستقبَلًا لما قُطع به، فإنه يكون وعدًا بالشهادة. انتهى

(3)

.

(أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) كرّر للتوكيد (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) أي

(1)

لسان العرب 3/ 239.

(2)

هو: عماد الدين أبو المجد إسماعيل بن أبي البركات بن باطيش الموصليّ (575 - 655 هـ) له كتاب "المغني في الإنباء عن غريب المهذّب والأسماء".

(3)

"المغني في الإنباء عن غريب المهذَّب والأسماء" 1/ 85 - 86.

ص: 62

أعلم وأبيّن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، والرسول فَعُولٌ بمعنى مفعول، يقال: أرسلتُ رسولًا: إذا بعثته برسالة يؤدّيها، ويجوز استعماله بلفظ واحد للمذكّر والمؤنّث، والمثنَّى، والمجموع، ويجوز التثنية، والجمع، فيُجمَعُ على رُسُلٍ بضمّتين، وإسكان السين لغةٌ، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

وقال أبو بكر بن الأنباريُّ في قول المؤذّن: "أشهد أن محمدًا رسول الله": أي أعلم، وأبيِّنُ أن محمدًا متابعٌ للإخبار عن الله عز وجل، والرسول معناه في اللغة: الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذًا من قولهم: جاءت الإبل رَسَلًا: أي متتابعةً، وقال أبو إسحاق النحويّ في قوله عز وجل حكايةً عن موسى وأخيه:{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]: معناه: إنا رِسالة ربّ العالمين؛ أي ذَوَا رسالة ربّ العالمين، وأنشد قول كُثَيِّر [من الطويل]:

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ

بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أراد: ولا أرسلتهم برسالة

(2)

.

وقال الجوهريّ: وأرسلتُ فلانًا، فهو مرسَلٌ، ورَسُولٌ، والجمع رُسْلٌ، ورُسُلٌ، والرسول أيضًا: الرسالة، قال [من الوافر]:

أَلَا أَبْلِغْ أَبَا عَمْرٍ ورَسُولًا

بأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ

وقوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] ولم يَقُل: رُسُلُ ربّ العالمين؛ لأن فَعُولًا وفَعِيلًا يستوي فيهما المذكّر والمؤنّث والواحد والجمع، مثلُ: عَدُو وصَدِيقٍ. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال ابن الأنباريّ: فُصَحَاءُ العرب، وأهل الحجاز ومن والاهم يقولون: أشهد أن محمدًا رسول الله، وجماعة من العرب يبدلون من الألف عينًا، فيقولون: أشهد عَنَّ. انتهى

(4)

.

(أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، ثُمَّ يَعُودُ) أي يرجع المؤذّن بهؤلاء الكلمات مزة أخرى رافعًا صوته، ويستفاد منه أن ما سبق كان بخفض الصوت، ويوضّح ذلك رواية أبي داود، فقد أخرجه بسند صحيح، عن محمد بن عبد الملك بن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 226.

(2)

"لسان العرب" 11/ 284.

(3)

"الصحاح" 4/ 1398.

(4)

"عمدة القاري" 5/ 159.

ص: 63

أبي محذورة، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت: يا رسول الله عَلِّمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدَّم رأسي، وقال:"تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

زاد في رواية: "قال: وعلمني الإقامة مرتين مرتين، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

فتبيّن بهذه الرواية أن المراد بالعود هنا أن يعود إلى رفع الصوت بعد خفضه، وهذا هو المسمّى بالترجيع، وهو أن يَخفض صوته بالشهادتين بعد الجهر بهما، وفيه خلاف مشهور، والحقّ أنه سنة ثابتةٌ، وسيأتي تحقيق ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) وفي نسخة: "ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرّتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرّتين"(حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ) معناه: تَعَالَوْا إلى الصلاة، وأَقْبِلُوا إليها، قالوا: وفُتِحَت الياء لسكونها، وسكون الياء السابقة الْمُدْغَمَة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال ابن منظور: وحَيَّ على الغداء والصلاة: ائتوها، فـ "حَيّ" اسم للفعل، ولذلك عُلِّق حرف الجر الذي هو "على" به، و"حَيَّهَلْ"، و"حَيَّهَلًا"، و"حَيَّهَلَا" منونًا وغيرَ منون كلُّه كلمةٌ يُسْتَحَثُّ بها، قال مزاحم [من الطويل]:

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 81.

ص: 64

بِحَيَّهَلًا يُزْجُونَ كُلَّ مَطِيَّةِ

أَمَامَ الْمَطَايَا سَيْرُهَا الْمُتَقَاذِفُ

قال بعض النحويين: إذا قُلت: حَيَّهَلًا، فنَوَّنتَ، قلت: حَثًّا، وإذا قلت: حَيَّهَلَا فلم تنوّن، فكأنك قلت: الْحَثَّ، فصار التنوين عَلَمَ التنكير، وتركه علم التعريف، وكذلك جميع ما هذه حاله من المبنيات، إذا اعتُقِد فيه التنكير نُوِّن، وإذا اعتُقِد فيه التعريف حُذِف التنوين، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَاحْكُمْ بِتَنْكِيرِ الَّذِي يُنَوَّنُ

مِنْهَا وَتَعْرِيفُ سِوَاهُ بَيِّنُ

وقال الجوهريّ: وقولهم: "حيَّ على الصلاة": معناه هَلُمَّ، وأَقْبِلْ، وفتُحِت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، كما قيل: ليت، ولعل، والعرب تقول: حيَّ على الثريد، وهو اسم لفعل الأمر

(1)

.

(حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ") أي هَلُمَّ إلى الفَوْز والنجاة، وقيل: إلى البقاء؛ أي أقبلوا على سبب البقاء في الجنة، والْفَلَحُ بفتح الفاء واللام لغة في الفلاح، حكاهما الجوهريّ وغيره، ويقال لِحَيَّ على كذا: الحيعلة، قال أبو منصور الأزهريّ: قال الخليل بن أحمد - رحمهما الله تعالى -: الحاء والعين لا يأتلفان في كلمة أصلية الحروف؛ لقرب مخرجيهما إلا أن يُؤَلَّفَ فعل من كلمتين، مثلُ: حَيَّ على، فيقال منه: حَيْعَلَ. انتهى.

وقال الأزهريّ رحمه الله: معنى "حيّ الفلاح": هَلُمّ، وعَجِّل إلى الفلاح، والفلاحُ: هو الفوز بالبقاء، والخلود في النعيم المقيم، ويقال للفائز: مُفْلح، وكل من أصاب خيرًا: مُفْلِح، وقال عُبيد بن الأبرص:

أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ يُدْرَكُ بِالـ

ـضَّعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ

أفلح يعني: ابْقَ بما شئت من حُمْقٍ أو كَيْسٍ، ويقال للسحور الذي يستعين به الصائم على صومه: فلاح وفَلَحٌ - أي بفتحتين -؛ لأنه سبب للبقاء. انتهى

(2)

.

(زَادَ إِسْحَاقُ) ابن راهويه شيخه الثاني في روايته لهذا الحديث (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ

(1)

"لسان العرب" 14/ 221 - 222.

(2)

"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعيّ" ص 220.

ص: 65

أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) يعني أن أبا غسّان اختصر الحديث، فانتهى عند قوله:"حيّ على الفلاح مرتين"، وأما إسحاق فأتمّه بذكر قوله:"الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي محذورة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 848](379)، و (أبو داود) في "الصلاة"(502)، و (الترمذيّ) فيه (192)، و (النسائيّ) فيها (2/ 4 - 5)، و (ابن ماجه) في "الأذان"(709)، و (أبو داود الطيالسيّ") في "مسنده"(1354)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 203)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 409)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 271)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(162)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(377)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1680 و 1681 و 1682)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 130 و 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 416)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(964 و 965)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(835)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(407)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 233)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صفة الأذان، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد سبق أنه وقع في أكثر نُسَخ "صحيح مسلم" بتثنية التكبير في أوله، ووقع في بعضها بالتربيع، وكذلك اختُلف في حديث عبد الله بن زيد بالتثنية والتربيع، والمشهور فيه التربيع.

وقد سبق أيضًا أن الأرجح جواز كلّ ذلك، لصحّة نقله، فمن شاء ربّع، وهو الأقوى رواية، ومن شاء ثنّى، وكذلك الإقامة، من شاء أفرد، ومن شاء ثنّى، إلا "قد قامت الصلاة"، فإنها تُثنَّى دائمًا.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الترجيع في الأذان، وفيه خلاف سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

ص: 66

3 -

(ومنها): بيان فضل أبي محذورة رضي الله عنه حيث لقّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وولّاه إياه في مكّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الترجيع:

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث حجة بينةٌ، ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع، وهو الْعَودُ إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت، بعد قولهما مرتين بخفض الصوت، وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يُشْرَع الترجيع؛ عملًا بحديث عبد الله بن زيد، فإنه ليس فيه ترجيع، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، والزيادة مقدَّمةٌ، مع أن حديث أبي محذورة هذا متأخرٌ عن حديث عبد الله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر، وانضمّ إلى هذا كلِّه عمل أهل مكة والمدينة، وسائر الأمصار، وبالله تعالى التوفيق.

قال: واختَلَف أصحابنا - يعني الشافعيّة - في الترجيع، هل هو ركن لا يصحّ الأذان إلا به، أم هو سنة، ليس ركنًا، حتى لو تركه صحّ الأذان، مع فوات كمال الفضيلة؟ على وجهين: والأصح عندهم أنه سنة، وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه، والصواب إثباته. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت أن الأرجح ما ذهب إليه جماعة من المحدّثين من التخيير؛ لصحّة كلّ من الترجيع وعدمه؛ كإفراد الإقامة، وتثنيتها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: احتجَّ الجمهور على مشروعية الترجيع وثبوته بروايات أبي محذورة رضي الله عنه، وهي نصوص صريحة فيه:

(فمنها): ما أخرجه المصنّف رحمه الله هنا.

(ومنها): ما رواه الترمذيّ (191) حدَّثنا بشر بن معاذ البصريّ، حدّثنا إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، قال: أخبرني أبي وجدّي جميعًا عن أبي محذورة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعده، وألقى عليه الأذان حرفًا حرفًا"، قال إبراهيم: مثل أذاننا، قال بشر: فقلت له: أَعِدْ عليّ، فوصف

ص: 67

الأذان بالترجيع، قال أبو عيسى: حديث أبي محذورة في الأذان حديث صحيح، وقد رُوي عنه من غير وجه، وعليه العمل بمكة، وهو قول الشافعي. انتهى.

(ومنها): ما رواه أبو داود في "سننه" عن أبي محذورة رضي الله عنه، وقد تقدّم قريبًا، وهو حديث صحيح، وهو نصّ صريح في أن الترجيع من سنة الأذان.

(ومنها): ما رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان، فقال: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حَيّ على الصلاة حي على الصلاة

" الحديث، وإسناده صحيح، فهذه الروايات كلها نصوص صريحة في ثبوت الترجيع ومشروعيته.

قال العلامة المباركفوريّ رحمه الله: وأجاب عن هذه الروايات من لم يقل بالترجيع بأجوبة كلها مخدوشة واهية جدًّا.

(فمنها): ما ذكره ابن الهمام في "فتح القدير"، فقال: رَوَى الطبراني في "الأوسط" عن أبي محذورة يقول: "ألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفًا حرفًا، الله أكبر

" إلخ، ولم يذكر ترجيعًا، فتعارضا فتساقطا، ويبقى حديث ابن عمر، وعبد الله بن زيد سالمًا عن المعارضة. انتهى.

ورَدَّه القارئ في "المرقاة شرح المشكاة" حيث قال: وفيه أن عدم ذكره في حديثٍ لا يُعَدّ معارضًا؛ لأن مَن حَفِظَ حجةٌ على من لم يحفظ، والزيادة من الثقة مقبولة، نعم لو صَرَّح بالنفي كان معارضًا مع أن المثبت مقدم على النافي. انتهى.

(ومنها): ما قال الطحاويّ: إنه يَحتَمِلُ أن الترجيع إنما كان لأن أبا محذورة لم يَمُدَّ بذلك صوته على ما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم منه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ارجع وامدُدْ من صوتك، هكذا اللفظ في هذا الحديث. انتهى.

وهذا التأويل مردودٌ، فإنه وقع في رواية أبي داود:"ثم ارجع، فَمُدَّ من صوتك " بزيادة لفظ "ثُمَّ"، ولفظه هكذا: "قل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله

ص: 68

أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، مرتين مرتين، قال: ثم ارجع، فَمُدّ من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله

" إلخ.

فمعنى قوله: "ثم ارجع، فمد من صوتك"، أي اخفض صوتك بالشهادتين مرتين مرتين، ثم ارجع، فمُدَّ من صوتك وارفعه بهما مرتين مرتين، يدلّ عليه رواية أبي داود التي ذكرناها قبل هذا بلفظ: "تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا الله

" إلخ، والروايات بعضها يُفَسِّر بعضًا.

ويرد هذا التأويل أيضًا ما رواه الترمذي بإسناد صحيح عن أبي محذورة، بلفظ:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمةً".

(ومنها): ما ذكره أبو زيد الدبوسي في "الأسرار"، وتبعه بعض شُرّاح "الهداية" من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بذلك لحكمة رُويت في قصته، وهي أن أبا محذورة كان يُبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام بغضًا شديدًا، فلما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَرَكَ أذنه، وقال له:"ارجع وامدُد بها من صوتك"؛ لِيُعلَم أنه لا حياء من الحقّ، أو ليزيد محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير الشهادتين.

ورَدّه العينيّ حيث قال: هذا ضعيف، فإنه خفض صوته عند ذكر اسم الله تعالى أيضًا بعد أن رفع صوته بالتكبير، ولم ينقل في كتب الحديث أنه عَرَك أذنه. انتهى.

(ومنها): ما قال ابن الجوزيّ في "التحقيق" من أن أبا محذورة كان كافرًا قبل أن يُسْلِم، فلما أسلم، ولقّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم الأذان، أعاد عليه الشهادة وكرَّرها؛ لتَثبُت عنده ويحفظها، ويكررها على أصحابه المشركين، فلما كرّرها عليه ظنّها من الأذان. انتهى.

(ومنها): ما قال صاحب "الهداية" من أن ما رواه كان تعليمًا، فظنه ترجيعًا، وقد ذكر الحافظ الزيلعيّ في "نصب الراية" هذه الأقوال، وقال: هذه الأقوال متقاربة في المعنى، ثم ردَّها، فقال: ويردُّها لفظ أبي داود، قلت: يا

ص: 69

رسول الله عَلِّمني سنة الأذان، وفيه:"ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، تَخْفِض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بها"، فجعله من سنة الأذان، وهو كذلك في "صحيح ابن حبّان"، و"مسند أحمد". انتهى.

وكذلك ردّ هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في "الدراية".

قال المباركفوريّ رحمه الله: ولردّ هذه الأقوال وجوهٌ أخرى:

(منها): أن فيها سوء الظن بأبي محذورة رضي الله عنه، ونسبة الخطأ إليه من غير دليل.

(ومنها): أن أبا محذورة رضي الله عنه كان مقيمًا بمكة مؤذِّنًا لأهلها إلى أن تُوُفِّي، وكانت وفاته سنة تسع وخمسين، وكلُّ مَن كان في هذه المدة بمكة من الصحابة، ومن التابعين كانوا يسمعون تأذينه بالترجيع، وكذلك يَسمَع كل مَن يَرِد مكة في مواسم الحج، وهي مَجْمَع المسلمين، فلو كان ترجيع أبي محذورة غير مشروع، وكان من خطئه لأنكروا عليه، ولم يُقِرُّوه على خطئه، ولكن لم يثبت إنكار أحد من الصحابة وغيرهم على أبي محذورة في ترجيعه في الأذان، فظهر بهذا بطلان تلك الأقوال، وثَبَت أن الترجيع من سنة الأذان، بل ثبت إجماع الصحابة على سنيته على طريق الحنفية فتفكر. قال: وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في كتابنا "أبكار المنن في نقد آثار السنن"

(1)

.

واستُدِلّ من لم يقل بمشروعية الترجيع بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله

" الحديث.

قيل: يستفاد من هذا الحديث أن الأذان ليس فيه الترجيع.

وتُعُقِّب بأنه يستفاد منه أيضًا أن الأذان ليس فيه تربيع التكبير، ولا تثنية باقي الكلمات، فما هو الجواب عنهما هو الجواب عن الترجيع.

واستُدِلّ أيضًا بحديث عبد الله بن زيد، قال ابن الجوزيّ في "التحقيق":

(1)

راجع: "أبكار المنن"(ص 84 - 87).

ص: 70

حديث عبد الله بن زيد هو أصل في التأذين، وليس فيه ترجيع، فدَلَّ على أن الترجيع غير مسنون. انتهى.

وقد عرفت جوابه في كلام النووي.

وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": كَرِهَ قوم أن يقال في أذان الصبح: "الصلاة خير من النوم"، واحتَجُّوا في ذلك بحديث عبد الله بن زيد في الأذان، وخالفهم في ذلك آخرون، فاستحبوا أن يقال ذلك في التأذين للصبح بعد الفلاح، وكان الحجة لهم في ذلك أنه وإن لم يكن ذلك في حديث عبد الله بن زيد، فقد عَلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك، فلما عَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبا محذورة، كان زيادةً على ما في حديث عبد الله بن زيد، ووجب استعمالها. انتهى كلام الطحاويّ.

قال المباركفوريّ رحمه الله: فكذلك يقال: إن الترجيع وإن لم يكن في حديث عبد الله بن زيد، فقد علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك، فلما علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبا محذورة كان زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد، فوجب استعماله.

وقال صاحب "بذل المجهود" تحت حديث أبي محذورة ما لفظه: وهذا الحديث يُحتَجُّ به على سنية الترجيع في الأذان، وبه قال الشافعيّ، ومالك؛ لأنه ثابت في حديث أبي محذورة، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم، مشتمل على زيادة غير منافية، فيجب قبولها، وهو أيضًا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد؛ لأن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر، ويرجّحه أيضًا عمل أهل مكة والمدينة. انتهى.

وقال صاحب "العرف الشذيّ" ما لفظه: واستمر الترجيع في مكة إلى عهد الشافعيّ، وكان السلف يشهدون موسم الحج كلَّ سنة، ولم ينكر أحد. انتهى.

قال المباركفوريّ: والأمر كما قالا، ولكنهما مع هذا الاعتراف لم يقولا بسنية الترجيع في الأذان، فأما صاحب "بذل المجهود"، فأجاب عن حديث أبي محذورة بأن الترجيع في أذانه لم يكن لأجل الأذان، بل كان لأجل التعليم، فانه كان كافرًا، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهادتين برفع الصوت لترسخا

ص: 71

في قلبه، كما تدل عليه قصته المفَصَّلة، فظن أبو محذورة أنه ترجيع، وأنه في أصل الأذان. انتهى.

قلت: وهذا الجواب مردود كما عرفت آنفًا، ثم قال صاحب "البذل" مستدلًّا على عدم سنية الترجيع، ما لفظه: وقد رَوَى الطبراني في "معجمه الأوسط" عن أبي محذورة أنه قال: "ألقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفًا حرفًا: الله أكبر الله أكبر

" إلى آخره، لم يذكر فيه ترجيعًا. انتهى.

قلت: وأجاب عن هذه الرواية في "نصب الراية"، فقال بعد ذكر هذه الرواية: وهذا معارِض للرواية المتقدمة التي عند مسلم وغيره، ورواه أبو داود في "سننه"، حدثنا النُّفَيليّ، ثنا إبراهيم بن إسماعيل، فذكره بهذا الإسناد، وفيه ترجيع - انتهى.

ثم قال: وأيضًا يدل على عدم الترجيع ما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة. انتهى.

قلت: قد تقدّم الجواب عن هذه الرواية فتذكر، ثم هذه الرواية إن دلت على عدم الترجيع، فتدل أيضًا على عدم تثنية الإقامة، فعليهم أن يقولوا بعدم تثنيتها أيضًا.

وأما صاحب "العرف الشذيّ، فقال: إن رَجَّع الحنفيّ في الأذان، ففي "البحر" أنه يباح، ليس بسنة ولا مكروه، وعليه الاعتماد، وقال: الحقّ ثبوت الترجيع، ووجه الرجحان لنا في عدم الترجيع أن بلالًا استمر أمره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تعليمه عليه السلام الأذان أبا محذورة وبعده. انتهى.

قلت: قد استَمَرّ الترجيع أيضًا من حين تعليمه عليه السلام الأذان بالترجيع أبا محذورة إلى عهد الشافعيّ كما اعترف هو به.

فحاصل الكلام أنه ليس لإنكار سنية الترجيع في الأذان وجه، إلا التقليدُ، أو قلة الاطلاع. انتهى كلام المباركفوريّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

(1)

"تحفة الأحوذيّ"(1/ 503 - 506)، و"أبكار المنن في نقد آثار السنن"(ص 84 - 88).

ص: 72

خلاصته أن أدلّة ثبوت الترجيع واضحة كالشمس في رابعة النهار، حتى اعترف بها المعارضون لها من متعصّبي الحنفيّة، إلا أن التعصّب أعماهم، فتكلّفوا التأويلات الزائفة، قاتل الله التعصّب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في عدد كلمات الأذان:

ذهب الشافعيّة وطائفة من العلماء إلى أن الأذان تسع عشرة كلمةً، واحتجّوا بحديث أبي محذورة رضي الله عنه المذكور في الباب، وقالوا: العمل به مقدّم لأن فيه زيادةً، وزيادة الثقة مقبولة، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقّنه إياه بنفسه.

وذهب أبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد بن حنبل إلى أنه خمس عشرة كلمة، واحتجّوا بحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

وذهب مالك إلى أنه سبع عشرة كلمة؛ لعدم التربيع في أوله.

قال العلامة ابن رشد رحمه الله في كتابه "بداية المجتهد":

اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة:

[إحداها]: تثنية التكبير فيه، وتربيع الشهادتين، وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة، مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع، وهو أن يُثَنِّي الشهادتين أوّلًا خفيًّا، ثم يُثَنِّيهما مرةً ثانية، مرفوعَ الصوت.

[والصفة الثانية]: أذان المكيين، وبه قال الشافعيّ، وهو تربيع التكبير الأول، والشهادتين، وتثنية باقي الأذان.

[والصفة الثالثة]: أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول، وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة.

[والصفة الرابعة]: أذان البصريين، وهو تربيع التكبير الأول، وتثليث الشهادتين، و"حي على الصلاة"، و"حي على الفلاح"، يبدأ بـ "أشهد أن لا إله إلا الله" حتى يصل إلى "حي على الفلاح"، ثم يُعِيد كذلك مرة ثانية، أعني الأربع كلمات تبعًا، ثم يعيدهن ثالثةً، وبه قال الحسن البصريّ، وابن سيرين.

والسبب في اختلاف هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك، واختلاف اتّصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يَحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضًا يحتجون

ص: 73

بالعمل المتصل عندهم بذاك، وكذلك الكوفيون، والبصريون، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله.

أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز، فرُوي من طُرُق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد الأنصاريّ، وتربيعه أيضًا عن أبي محذورة من طُرُق أُخَر، وعن عبد الله بن زيد، قال الشافعيّ: وهي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة، وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك، فرُوي من طريق أبي قُدامة، قال أبو عمر: وأبو قدامة عندهم ضعيف.

وأما الكوفيون فبحديث ابن أبي ليلى

(1)

، وفيه أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلًا، قام على خُرْم حائط

(2)

، وعليه بُرْدان أخضران، فأذَّن مثنى، وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بلال فأذّن مثنى وأقام مثنى، والذي أخرجه البخاريّ في هذا الباب، إنما هو من حديث أنس فقط، وهو أن بلالًا أُمِر أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا "قد قامت الصلاة"، فإنه يثنيها، وأخرج مسلم عن أبي محذورة، على صفة أذان الحجازيين.

ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن هذه لا على إيجاب واحدة منها، وأن الإنسان مخير فيها. انتهى كلام ابن رشد رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن ما ذهب إليه أحمد وداود، وهو مذهب كثير من أهل الحديث وهو التخيير في ذلك هو الحقّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في عدد كلمات الإقامة:

ذهب الشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة، كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها، ولفظ "قد قامت

(1)

حديث ابن أبي ليلى أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه".

(2)

في "القاموس": خُرْم الأَكَمَة بالضمّ: منقطعها. اهـ.

(3)

"بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" 1/ 105 - 106.

ص: 74

الصلاة"، فإنها تثنّى، واستدلّوا بحديث أنس المتقدّم، وغيره.

وذهب الحنفيّة، والثوريّ، وابن المبارك، وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان، مع زيادة "قد قامت الصلاة" مرّتين، واستدلّوا بحديث عبد الله بن زيد، فقد وقع في بعض روايته بلفظ:"كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعًا شفعًا في الأذان والإقامة"، وأعلّه الترمذيّ بالانقطاع بين عبد الرحمن بن أبي ليلى، وبين عبد الله بن زيد، والأصحّ أنه صحيح؛ لأن ابن أبي ليلى قال: حدّثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

فذكره، فهو متّصل بلا ريب، وقال الحافظ رحمه الله: وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائيّ وغيره. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما سبق -: إذا عرفت هذا تبيّن لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها؛ لما أسلفناه، وأحاديث إفراد الإقامة، وإن كانت أصحّ منها؛ لكثرة طرقها، وكونها في "الصحيحين"، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم مع تأخّر تاريخ بعضها، كما عرّفناك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأحسن مما قاله الشوكاني ما قدّمناه من أن العمل بالحديثين هو الصواب؛ لصحّتهما، فيعمل بالإفراد تارةً، وبالتثنية أخرى، لكن يعمل في أكثر الأوقات بما هو الأقوى، والأرجح، وهو الإفراد، فهذا أحسن من دعوى النسخ أو غيره، فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التثويب:

اختَلَفوا فيه، فذهبت طائفة إلى مشروعيّته، وممن قال به ابن عمر، والحسن البصريّ، وابن سيرين، والزهريّ، ومالك، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، قاله ابن المنذر، وزاد ابن قُدامة: الأوزاعيّ.

قال ابن المنذر: وقد كان الشافعيّ يقول به إذ هو بالعراق، قال: وهو الظاهر المعمول به في مسجد الله، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَكَى عنه البُويطيّ أنه كان يقول به، وقال في "كتاب الصلاة": ولا أُحبّ التثويب في الصبح، ولا

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 106 - 108.

ص: 75

في غير هذا؛ لأن أبا محذورة لم يَحْكِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمره بالتثويب، فأكره الزيادة في الأذان، وأكره التثويب بعده.

قال ابن المنذر رحمه الله: وما هذا إلا سهوٌ منه ومنسيٌّ، حيث كتب هذه المسألة؛ لأنه حَكَى ذلك في الكتاب العراقيّ عن سعد القَرَظ، وعن أبي محذورة، ورَوَى ذلك عن عليّ.

قال: وخالف النعمان، فاستحسن التثويب بين الأذان والإقامة، يقول:"حي على الصلاة" مرّتين، "حيّ على الفلاح" مرّتين، وخالف ما ثبت عن مؤذّني رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أنهم كانوا يثوّبون في نفس الأذان قبل الفراغ منه.

قال: وبالأخبار التي رويناها عن بلال، وأبي محذورة نقول، ولا أرى التثويب إلا في أذان الفجر خاصّةً، يقول بعد قوله:"حيّ على الفلاح": "الصلاة خيرٌ من النوم" مرّتين. انتهى كلام ابن المنذر ملخّصًا

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب"

(2)

: يكره التثويب في غير الصبح، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وحُكي عن النخعيّ أن التثويب سنة في كلّ الصلوات كالصبح، وحُكي عن الحسن بن صالح أنه استحبّه في أذان العشاء أيضًا؛ لأن بعض الناس قد ينام عنها.

وحجة الأولين حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، متّفقٌ عليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال وأدلّتها أن الأرجح استحباب التثويب في أذان الفجر بقوله بعد الحيعلتين: "الصلاة خير من النوم" مرّتين؛ لصحّة الخبر بذلك.

وأما ما أحدثه الناس من نحو قولهم: الصلاة يرحكم الله، أو ما يسمّونه بالترحيب في الفجر، أو غير ذلك، فإن هذا كلّه من البدع المنكرة، يجب إزالته على من يستطيع.

(1)

راجع: "الأوسط" 3/ 21 - 24.

(2)

راجع: "المجموع" 3/ 97 - 98.

ص: 76

وكذا زيادة "حيّ على خير العمل"؛ لأنه لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ: وروى البيهقيّ فيه شيئًا موقوفًا على ابن عمر، وعليّ بن الحسن رضي الله عنهم. قال البيهقيّ رحمه الله: لم تثبت هذه اللفظة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنحن نكره الزيادة في الأذان. انتهى

(1)

.

وخلاصة القول: إن التثويب بـ "الصلاة خيرٌ من النوم" سنّةٌ ثابتةٌ في أذان الفجر، وما عدا ذلك من أنواع التثويبات، وكذا قولُ "حيّ على خير العمل" فمما لا أصل له فيما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي الحذَر، والتحذير منه، والإنكار على من يفعله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في بيان أغلاط المؤذّنين:

(اعلم): أنه يجب الاحتراز عن الأغلاط التي يرتكبها معظم المؤذّنين، وهي كثيرة:

[أولها]: مدّ الهمزة من "أشهد"، فيخرج إلى الاستفهام.

[ثانيها]: مدّ الباء من "أكبر"، فينقلب المعنى إلى جمع كَبَر، وهو الطبل.

[ثالثها]: الوقف على "إله"، ويبتدئ بـ "إلا الله"، قال ابن الملقّن: فهو كفر، وفيه نظر.

[رابعها]: إدغام الدال من "محمد" صلى الله عليه وسلم في الراء من "رسول الله"، وهو لحن خفيّ عند القرّاء.

[خامسها]: ترك النطق بالهاء من "الصلاة"؛ لأنه يصير دعاء إلى النار.

[سادسها]: أن يُبدل هاء "الصلاة" حاء.

نبّه على هذه الأخطاء العلامة ابن الملقّن رحمه الله في "الإعلام"

(2)

، وزاد غير هذا تركته؛ إذ لم يُعجبني، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "السنن الكبرى" للبيهقيّ 1/ 424 - 425.

(2)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 429 - 430.

ص: 77

(4) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[849]

(380) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيٌّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5](ت سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقيان تقدّما قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، وبتشدّده في اتّباع السنّة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنَانِ) يعني بالمدينة، وفي وقت واحد، وقد كان أبو محذورة أيضًا مؤذنًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-

ص: 78

بمكة، وسعد القرظ أَذَّن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء مرّات، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤذّنان" يعني في وقت واحد، وإلا فقد كان له غيرهما؛ أذّن له أبو محذورة بمكّة، ورتّبه لأذانها، وسعد الْقَرَظ

(2)

أذّن للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، وقال له:"إذا لم تر بلالًا، فأذِّن"

(3)

، وأذّن له الصُّدائيّ، وقال:"إن أخا صداء أذّن، فهو يقيم"

(4)

. انتهى

(5)

.

وقوله: (بِلَالٌ) بالرفع على البدليّة من "مؤذّنان"، وهو بلال بن رَبَاح، وهو ابن حَمَامة، وهي أمه، من السابقين الأولين، مات رضي الله عنه بالشام سنة (7 أو 18) وقيل: سنة (20)، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643.

وقوله: (وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) بالرفع عطفًا على "بلالٌ"، وقوله:(الْأَعْمَى) نعتٌ له.

وهو: عمرو بن زائدة، ويقال: عمرو بن قيدس بن زائدة، ويقال: زياد بن الأصم، وهو جُنْدُب بن هَرِم بن رواحة بن حُجْر بن عبد بن مَعيص بن عامر بن لُؤَيّ العامريّ، المعروف بابن أمّ مكتوم الأعمى، مؤذِّن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمه عبد اللَّه، والأول أكثر وأشهر، وهو قرشيّ عامريّ، أسلم قديمًا، وهاجر قبل مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُكرمه، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرّة، وشَهِد القادسيّة، وقُتل بها شهيدًا في خلافة عمر رضي الله عنهما، وكان معه اللواء يومئذ، وهو الأعمى المذكور في القرآن، في {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} ، واسم أمه عاتكة بنت عبد اللَّه المخزوميّة، وزعم بعضهم أنه وُلد أعمى، فكُنيت أمه أم مكتوم؛ لانكتام نور بصره، والمعروف أنه عَمِي بعد بدر بسنتين.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 81.

(2)

تقدّم سبب تلقيبه بالقرظ أنه كان تَجِرَ فيه، فربِحَ، فلزمه، فأضيف إليه.

(3)

قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد": رواه الطبرانيّ في "الكبير"، وفيه عبد الرحمن بن سعد بن عمّار، وهو ضعيف. انتهى.

(4)

ضعيف، أخرجه أبو داود (514)، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقيّ، ضعيف.

(5)

"المفهم" 2/ 11.

ص: 79

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كذا قال في "الفتح"(2/ 119) وتعُقّب بأن سورة {عَبَسَ} مكيّة، كما هو مذكور في كتب التفاسير، وقد وُصف فيها بالأعمى، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الواقديّ: رجع من القادسية إلى المدينة، فمات بها، ولم يُسمَع له بذكر بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وزِرّ بن حُبيش، وأبو رَزِين الأسديّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطيةُ بن أبي عطية، وأبو الْبَخْتريّ الطائيّ، ولم يدركه، وذكره ابن حبان في الصحابة في العبادلة، فقال: كان اسمه الْحُصين، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه، ومنهم من زعم أن اسمه عمرو، ومن قال: هو عبد اللَّه بن زائدة، فقد نسبه إلى جدّه، وقال ابن سعد: أما أهل المدينة فيقولون: اسمه عبد اللَّه، وأما أهل العراق فيقولون: اسمه عمرو، ثم اتفقوا على نسبه، فقالوا: ابن قيس بن زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة، يصلي بالناس في عامة غزواته، وقال أبو أحمد الحاكم: قُتل شهيدًا بالقادسية.

أخرج له أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله عندهم حديث عدم الرخصة من يسمع النداء، وله ذكر في "الصحيحين".

[تنبيه]: هذا الحديث هنا مختصرٌ، وقد ساقه المصنّف بتمامه في "كتاب الصيام"، فقال:

(1092)

حدّثنا ابن نمير، حدّثنا أبي، حدّثنا عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤذِّنان: بلالٌ، وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن بلالًا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا، حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم"، قال: ولم يكن بينهما إلا أن يَنْزِل هذا، ويَرْقَى هذا. انتهى، وسيأتي تمام شرحه هناك -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

ص: 80

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 849 و 850](380) وفي "الصيام"(1092)، و (البخاريّ) في "الأذان"(617)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(187)، و (النسائيّ) في "الأذان"(637)، و (أحمد) في "مسنده"(5428 و 24346)، و (الدارميّ) في "سننه"(1165)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(969)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(836 و 837 و 838 و 839)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد، يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر عند طلوعه، كما كان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما يفعلان ذلك.

قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثةً، وأربعةً، فأكثر بحسب الحاجة، وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعةً للحاجة عند كثرة الناس، قالوا: ويستحب أن لا يزاد على أربعة إلا لحاجة ظاهرة، قالوا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدًا، فالمستحب أن لا يؤذنوا دَفْعَةً واحدةً، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء به أُقرع بينهم، وإن ضاق الوقت، فإن كان المسجد كبيرًا أذَّنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقًا وقفوا معًا، وأذّنوا، وهذا إذا لم يؤدّ اختلاف الأصوات إلى تهويش، فإن أدَّى إلى ذلك لم يُؤَذِّن إلا واحد، فإن تنازعوا أُقرع بينهم، وأما الإقامة فإن أذَّنُوا على الترتيب، فالأول أحقّ بها إن كان هو المؤذن الراتب، أو لم يكن هناك مؤذن راتب، فإن كان الأول غير المؤذن الراتب، فأيهما أولى بالإقامة؟ فيه وجهان لأصحابنا أصحهما أن الراتب أولى؛ لأنه منصبه، ولو أقام في هذه الصور غير من له ولاية الإقامة اعتُدَّ به على المذهب الصحيح المختار الذي عليه جمهور أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: لا يُعْتَدّ به، كما لو خطب بهم واحد، وأَمَّ بهم غيره، فلا يجوز على قول، وأما إذا أذَّنوا معًا، فإن اتّفقوا على إقامة واحد، وإلا فيُقْرَع، قال أصحابنا رحمهم الله: ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد، وقال بعض أصحابنا: لا بأس أن

ص: 81

يقيموا معًا إذا لم يؤدِّ إلى التهويش. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": استحباب أذان واحد بعد واحد، -أي كما كان يفعله مؤذّنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأما أذان اثنين معًا فمنع منه قوم، ويقال: إن أول من أحدثه بنو أميّة، وقال الشافعيّة: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): جواز وصف الإنسان بعيب فيه؛ للتعريف، أو مصلحة تترتب عليه، لا على قصد التنقيص، وهذا أحد وجوه الغيبة المباحة، وهي ستة مواضع يباح فيها ذكر الإنسان بعيبه ونقصه، وما يَكْرَهه، وقد نظمتها بقولي:

يَا طَالِبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ

اعْلَمْ هَدَاكَ اللَّهُ لِلْفَضِيلَهْ

أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا

مُحَرَّم قَطْعًا بِنَصِّ يُتْلَى

لَكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ

أُبِيحَ عَدَّهَا أُولُو التَّرْجِيحِ

فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمِ

وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ

وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْق أَوْ بِدَعْ

بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ

وَعَرِّفَنْ بِلَقَب مَنْ عُرِفَا

بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا

وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا

تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأَذَى

وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ

تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ

وقد تقدّمت هذه الأبيات، وإنما أعدتها تذكيرًا؛ لطول العهد بها، وسيأتي الكلام أيضًا في "كتاب النكاح" عند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فصُعْلُوكٌ. . . "، وفي حديث:"إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيح. . . "، وفي حديث:"بئس أخو العشيرة. . . "، وفي مواضع أخرى من الكتاب -إن شاء اللَّه تعالى- وباللَّه تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): جواز كون الأعمى مؤذّنًا، إذا كان معه بصيرٌ يرشده للأوقات

(3)

، وسيأتي في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 83.

(2)

"الفتح" 2/ 120.

(3)

وكذا إذا كان عنده من الساعات الحديثة التي يستعملها المكفوفون في هذه الأيام تغنيه عن المرشد من الناس؛ فتنبّه.

ص: 82

5 -

(ومنها): جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت، وفيه خلاف، والأرجح الجواز؛ لقصّة ابن أم مكتوم رضي الله عنه.

6 -

(ومنها): أنه يُستفاد جواز شهادة الأعمى، قال الإمام البخاريّ في "كتاب الشهادات" من "صحيحه":"باب شهادة الأعمى، وأمره، ونكاحه، وإنكاحه، ومبايعته، وقبوله في التأذين وغيره". انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): جواز العمل بخبر الواحد.

8 -

(ومنها): جواز الاعتماد على الصوت دون الرواية إذا كان عارفًا به، وإن لم يُشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة؛ لاحتمال الاشتباه.

9 -

(ومنها): جواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك، واحتيج إليه.

10 -

(ومنها): جواز الأذان قبل طلوع الفجر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[850]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْقَاسِمُ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه التيميّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، فقيه، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

2 -

(عَائِشَة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث عبيد اللَّه، عن نافع المتقدّم؛ يعني عبيد اللَّه بن عمر روى هذا الحديث بإسنادين: إسناد نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناد القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، فالحديث ثابت عنهما جميعًا.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 312 بنسخة "الفتح".

ص: 83

[تنبيه]: رواية عبد اللَّه، عن القاسم التي أحالها المصنّف هنا، أخرجها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 5) فقال:

(837)

حدثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا عبيد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بشر، ثنا عبيد اللَّه بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا. انتهى.

وسيأتي شرح الحديث مستوفًى في "كتاب الصيام" -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(5) - (بَابُ جَوَازِ أَذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ يُرْشِدُهُ لِلْوَقْتِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[851]

(381) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ مَخْلَدٍ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَعْمَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ البَجَليّ مولاهم، أبو الهيثم الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213)(خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

4 -

(هِشَام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه،

ص: 84

ربّما دلّس [5](ت 5 أو 14)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّمت في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى خالد، فأخرج له أبو داود في "مسند مالك".

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ، عن خالته: هشام، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) تقدّم أن الأصحّ أن اسمه عمرو بن قيس بن زائدة (يُؤَذِّنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَعْمَى) فيه جواز أذان الأعمى، قال النوويّ رحمه الله: أذان الأعمى صحيحٌ، وهو جائز بلا كراهة إذا كان معه بصيرٌ، كما كان بلال وابن أمّ مكتوم، قال أصحابنا: ويكره أن يكون الأعمى مؤذِّنًا وحده. انتهى.

وقال الإمام البخاريّ في "صحيحه": "باب أذان الأعمى إذا كان له من يُخبره"، قال في "الفتح": أي بالوقت؛ لأن الوقت في الأصل مبنيّ على المشاهدة، وعلى هذا القيد يُحمَل ما روى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن الزبير، وغيرهما أنهم كَرِهوا أن يكون المؤذِّن أعمى، وأما ما نقله النوويّ عن أبي حنيفة، وداود أن أذان الأعمى لا يصحّ، فقد تعقّبه السروجيّ بأنه غلط على أبي حنيفة. نعم، في "المحيط" للحنفيّة أنه يُكره.

ص: 85

انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 851 و 852](381)، و (أبو داود) في "الصلاة"(535)، و (أحمد) في "مسنده"(24346)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(978 و 979)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(838 و 839)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الباب الماضي، وللَّه الحمد والمنّة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[852]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن سالم بن عبد اللَّه بن عمر المدنيّ، صدوقٌ، من كبار [8](ت 153)(م د س) تقدم في "الطهارة" 33/ 682.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عبد اللَّه بن جَمِيل بن عامر بن حِذْيَم بن سَلامان بن رَبِيعة بن سعد بن جُمَح الْجُمَحيّ، من ولد عامر بن حِذْيَم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، قاضي بغداد، صدوقٌ، له أوهامٌ [8].

(1)

"الفتح" 2/ 118.

ص: 86

رَوَى عن أبي حازم بن دينار، وهشام بن عروة، وسُهيل بن أبي صالح، وعبد الرحمن بن القاسم، وعبيد اللَّه بن عمر، وموسى بن عُلَيّ بن رَبَاح، وغيرهم.

ورَوَى عنه الليث بن سعد، وهو من أقرانه، وابن وهب، وسُرَيج بن النعمان، وإسحاق الفَرْويّ، ومحمد بن عيسى بن الطباع، ولُوَين، وعلي بن حُجْر، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس، وحديثه مقارِب، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: لَيِّنُ الحديث، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال الساجيّ: يروي عن هشام وسهيل أحاديث لا يُتابَع عليها، وقال ابن عديّ: له غرائب، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يَهِمُ في الشيء بعد الشيء، فيَرْفَع موقوفًا، ويَصِل مرسلًا، لا عن تعمّد، ووثقه ابن نُمَير، وموسى بن هارون، والعِجْليّ، والحاكم أبو عبد اللَّه، ونقل ابن الجوزيّ عن أبي حاتم: لا يُحتَجّ به، وقال ابن حبّان: يروي عن عبد اللَّه بن عمر وغيره من الثقات أشياء موضوعةً، يتخايل إلى من سمعها أنه كان المتعمد لها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في كلام ابن حبّان هذا نظرٌ لا يخفى، فسعيد بن عبد الرحمن قد وثّقه جلّ الأئمة كما سمعتَ، ولم يطعن فيه بالوضع أحد إلا هو، فلا تغترّ به، فابن حبّان إلى جانب تساهله في توثيق المجاهيل معروف بالتشدّد أيضًا في تضعيف الثقات؛ فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال أبو حسان الزياديّ وغيره: مات سنة (176) وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.

أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(هِشَام) هو ابن عروة المذكور قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

[تنبيه]: رواية يحيى بن عبد اللَّه، وسعيد بن عبد الرحمن هذه أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 6)، فقال:

ص: 87

(839)

وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا عبد اللَّه

(1)

بن وهب، ثنا يحيى بن عبد اللَّه، وسعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كان ابن أم مكتوم، يؤذن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أعمى". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(6) - (بَابُ الإِمْسَاكِ عَنِ الإِغَارَةِ عَلَى قَوْمٍ فِي دَارِ الْكُفْرِ إِذَا سُمِعَ فِيهِمُ الأَذَانُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[853]

(382) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ- عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْفِطْرَةِ"، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ"، فَنَظَرُوا، فَإِذَا هُوَ رَاعِي مِعْزًى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الحافظ الناقد، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت

(1)

وقع في النسخة: "عبيد اللَّه" مصغّرًا، وهو تصحيف؛ فتنبّه.

ص: 88

الناس في ثابت، تغيّر حفظه في آخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع و 120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير، مات سنة رضي الله عنه (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وحمّاد بن سلمة روى له البخاريّ حديثًا في الرقاق، وعلّق له أيضًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، وقد دخل البصرة للأخذ عن مشايخها، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ) بضم أوله وكسر ثانيه، من الإغارة رباعيًّا، يقال: أغار على الْعَدُوِّ: إذا هَجَمَ عليهم في ديارهم، وأوقع بهم، وأغار الفرسُ إغارةً، والاسم الْغَارة، مثلُ أطاع إطاعةً، والاسم الطاعة: إذا أسرع في الْعَدْوِ، وأغار القومُ إغارةً: أسرعوا في السير، ومنه قولهم:"أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ"، أي حتى ندفع للنحر، ثم أُطلقت الغارة على الخيل الْمُغِير، وبه سُمِّي الرجل، ومنه الْمُغيرة بن شُعْبة، ويقال: شَنُّوا الغارةَ: أي فرّقوا الْخَيلَ، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الغارة، والإغارة: عبارة عن الهجوم على العدوّ صُبْحًا من غير إعلام لهم. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يُغير" جيء بصيغة المضارع؛ ليفيد الاستمرار لبيان عادته ودَأْبِهِ، فهو كقوله تعالى:{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} [العاديات: 3]،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 456.

(2)

"المفهم" 2/ 10.

ص: 89

و"الإغارة": كَبْسُ القوم

(1)

على غفلة، وهي بالليل أولى، ولعلّ تأخيرها

(2)

إلى الفجر لاستماع الأذان. انتهى

(3)

.

(إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ) ظرف متعلّق بـ "يُغِيرُ"، و"طَلَعٍ" بفتح اللام، يقال: طَلَع الكوكب، والشمسُ طُلُوعًا، من باب قَعَدَ، ومَطْلِعًا بفتح اللام وكسرها: إذا ظَهَرَ؛ كاطَّلَع، وكلّ ما بدا لك من عُلْوٍ، فقد طَلَعَ عليك، وطَلَعَ على الأمر طُلُوعًا: عَلِمه، كاطّلعه على افتعله، وتطلّعه، وطَلَعَ فلانٌ علينا، كمَنَعَ، ونَصَرَ: أتانا، كاطّلَعَ، وطَلَعَ عنهم: غاب، ضدٌّ، أفاده في "القاموس"

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أفاد ما تقدّم أن طلع الفجر، إذا ظهر، من باب قَعَدَ، وأما طلع علينا فلان، بمعنى: أتانا، فهو من بابي منع ونصر؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وإنما كان صلى الله عليه وسلم يُغير عند طلوع الفجر؛ ليعلم أنهم مسلمون أو كفّار؛ لأنهم إن كانوا مسلمين، فسيُصلّون صلاة الصبح، فلا يستحقّون الإغارة، وإلا تركوها، فيستحقّونها، ولذا أتبعه بقوله:(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ) أي يطلب سماعه، ويتوجّه بسمعه إلى صوت المؤذّن؛ ليتأكّد من حالهم (فَإِنْ سَمِعَ) بكسر الميم، يقال: سَمِعَ كَعَلِمَ سَمْعًا بالفتح، ويُكسَرُ، أو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وسَمَاعًا وسَمَاعَةً، وسَمَاعِيَةً، وتَسَمَّعَ، واسَّمَّعَ، قاله في "القاموس"

(5)

.

وقال في "المصباح": سَمِعته، وسمعت له سَمْعًا، وتسمَّعتُ، واستمعتُ كلُّها يتعدّى بنفسه، وبالحرف بمعنًى، واستمع لِمَا كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، وسَمِعَ يكون بقصد وبدونه. انتهى

(6)

.

(أَذَانًا أَمْسَكَ) أي عن الإغارة بسبب الأذان؛ لأنه تبيّن كونهم مسلمين أو مسالمين.

(1)

أي: هُجُومهم.

(2)

الأولى إسقاط لفظة "لعلّ" لأن هذا ظاهر الحديث، فلا يحتاج إليها، فتأمل.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 914.

(4)

"القاموس المحيط" 3/ 59 بزيادة من "المصباح" 2/ 378.

(5)

"القاموس المحيط" 3/ 40.

(6)

"المصباح المنير" 1/ 289.

ص: 90

وقال الطيبيّ رحمه الله: أقام الأذان موضع الضمير؛ إشعارًا بأن من حقّ الأذان، وكونه من الدين الأمانُ، وأن لا يُتَعَرَّضَ أهله، ولا يُغار عليهم. انتهى.

وحاصل ذلك أن القوم الذين سُمع منهم الأذان إما أن يكونوا مسلمين أو مسالمين للمسلمين، وذلك بأن يقع بينهم وبين المسلمين الصلح بتركهم المسلمين بين أظهرهم يقيمون شعائر دينهم، فإذا كانوا كذلك وجب الكفّ عنهم، وإلا حقّ للمسلمين أن يقاتلوهم، كما قال:(وَإِلَّا) أي وإن لم يسمع الأذان (أَغَارَ) أي هَجَم على تلك البلدة، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: أي كان صلى الله عليه وسلم يتثبّت فيه، ويحتاط في الإغارة حَذَرًا عن أن يكون فيهم مؤمنٌ، فيُغير عليه غافلًا عنه، جاهلًا بحاله. انتهى.

[تنبيه]: "إلا" هذه ليست من أدوات الاستثناء، وإنما هي "إن" الشرطيّة أدغمت في لام "لا" النافية، فكُتبت باللام، وإنما نبّهت عليه؛ لأن بعض المغفّلين يظنّها "إلا" الاستثنائيّة، فيسأل عن المستثنى، والمستثنى منه، بل رأيت بعضهم وقع في مثل هذا.

قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغني اللبيب": ليست من أقسام "إلا" التي في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} ، وإنما هذه كلمتان "إن" الشرطيّة، و"لا" النافية، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في "شرح التسهيل" من أقسام "إلا". انتهى

(1)

.

(فَسَمِعَ) الفاء فصيحيّة، أي ولَمّا كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستمع الأذان قبل الإغارة استمع، فسمِع (رَجُلًا) لم أَرَ من سمّى الرجل، ولا في أيّ غزوة كانت قصّته؟، فيحتمل أن تكون في غزوة خيبر، كما هو نصّ رواية البخاريّ الآتية، ويحتمل أن تكون في غيرها، واللَّه تعالى أعلم.

(يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْفِطْرَةِ") متعلّق بفعل مقدَّر؛ أي أوقعتها على الفطرة، أو بخبر لمبتدأ مقدّر، أي أنت أو هو

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ص 84.

ص: 91

كائنٌ على الفطرة، أي الدين، أو السنّة، أو الإسلام الذي فطر اللَّه تعالى الناس عليه، كما قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30].

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "على الفطرة": أي أنت، أو أوقعتها على الفطرة، والثاني أولى؛ ليطابق قوله:"خَرَجتَ"، يعني أوقعتها على الفطرة التي فُطِر الناسُ عليها، ثم قوله بعد ذلك:"خرجتَ من النار" بعد استماعه كلمة التوحيد إشارة إلى استمراره على تلك الفطرة، وعدم تصرّف الوالدين فيه بالشرك. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "على الفطرة": أي على الإسلام؛ إذ كان الأذان شِعَارهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار؛ لأنه كان فَرْقَ ما بين بلد الكفر، وبلد الإسلام. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَالَ) أي ذلك الرجل (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ") بصيغة الماضي، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه":"حَرُمَ على النار"

(3)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: وهذا قاله إما تفاؤلًا، وإما قطْعًا؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم صدق، ووعدُ اللَّه حقّ. انتهى

(4)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: هو نحو الأدلّة القاضية بأنّ من قال: لا إله إلا اللَّه دخل الجنّة، وهي مطلقةٌ مقيَّدة بعدم المانع؛ جمعًا بين الأدلّة. انتهى

(5)

.

(فَنَظَرُوا) أي الصحابة الذين حضروا هذه الواقعة (فَإِذَا هُوَ) أي الرجل المؤذّن، و"إذا" هنا هي الْفُجَائيّة (رَاعِي مِعْزًى) وفي رواية ابن حبّان:"فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية، أدركته الصلاة، فنادى بها"

(6)

.

و"الْمِعْزَى": بكسر الميم منوَّنًا، وهو بمعنى المعز، وهو اسم جنس، وواحد المِعْزى ماعزٌ، وهو خلاف الضأن، وقال الفيّوميّ رحمه الله:"الْمَعْزُ": اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة شاةٌ، وهي

(1)

"الكاشف" 3/ 914.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 249.

(3)

راجع: "الإحسان" 4/ 550.

(4)

راجع: "الكاشف" 3/ 914.

(5)

راجع: "المرعاة" 2/ 367.

(6)

راجع: "الإحسان" 4/ 550.

ص: 92

مؤنّثةٌ، وتُفتَح العين، وتُسكَّنُ، وجمع الساكن أَمْعُزٌ، ومَعِيزٌ، مثلُ عَبْدٍ، وأَعْبُدٍ وعَبِيدٍ، والْمِعْزَى ألفها للإلحاق، لا للتأنيث، وهذا يُنوّن في النكرة، ويُصغَّرُ على مُعَيْزٍ، ولو كانت الألف للتأنيث لم تُحذف، والذّكَرُ ماعِزٌ، والأُنثى ماعِزَةٌ. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: حديث أنس رضي الله عنه هذا عدّه صاحب "أفراد مسلم" من أفراده، والحقّ أنه متّفقٌ عليه، فقد أخرجه المصنّف رحمه الله هنا من رواية ثابت عنه، مختصرًا على قصّة الأذان، وأخرجه البخاريّ في "كتاب الأذان""باب ما يُحْقَنُ بالأذان من الدماء"، من رواية حُميد عنه، مطوّلًا، لكنه لم يذكر قصّة الراعي، ودونك نصّه:

(610)

حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا غزابنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يُصْبِح وينظر، فإن سمع أذانًا كَفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلًا، فلما أصبح، ولم يسمع أذانًا رَكِبَ، ورَكِبتُ خلف أبي طلحة، وإن قدمي لَتَمَسُّ قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد واللَّه محمد والخميسَ، قال: فلما رآهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّه أكبر اللَّه أكبر، خَرِبت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] ". انتهى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 853](382)، و (البخاريّ) في "الأذان"(610)، و (الترمذيّ) في "السير"(1618)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 132 و 229 و 241 و 253 و 270)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(399 و 400)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1665)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 405)،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 575.

ص: 93

و (أبو عوانة) في "مسنده"(980 و 981 و 982)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(840)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة الأذان من يُصلّي وحده، قال النوويّ رحمه الله: احتُجّ به في أن الأذان مشروع للمنفرد، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهبنا ومذهب غيرنا. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أنه دليل على أن الأذان يَمنع الإغارة على أهل ذلك الموضع؛ لأنه دليل على إسلامهم، أو مسالمتهم للمسلمين، ولذلك ترجم عليه الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فقال:"باب ما يُحْقَنُ بالأذان من الدماء".

3 -

(ومنها): أن النطق بالشهادتين يكون إسلامًا، وإن لم يكن باستدعاء ذلك منه، وهذا هو الصواب، وفيه خلاف تقدّم بحثه مستوفًى في أوائل "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): أنه دليل على جواز الحكم بالدليل؛ لكونه صلى الله عليه وسلم كفّ عن القتال بمجرّد سماع الأذان.

5 -

(ومنها): أن فيه الأخذَ بالاحتياط في أمر الدماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كفّ عنهم في تلك الحالة مع احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة.

6 -

(ومنها): ما قال الخطّابيّ رحمه الله: فيه بيان أن الأذان شِعارٌ لدين الإسلام، فلو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه. انتهى. قال في "الفتح": وهذا أحد أقوال العلماء كما تقدّم، وهو أحد الأوجه في المذهب، وأغرب ابن عبد البرّ، فقال: لا أعلم فيه خلافًا، وأن قول أصحابنا: من نَطَقَ بالتشهّد في الأذان حُكِم بإسلامه إلا إذا كان عيسويًّا، فلا يَرِد عليه مطلق حديث الباب؛ لأن العيسويّة طائفة من اليهود حدَثَت في آخر دولة بني أُميّة، فاعترفوا بأن محمدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن إلى العرب فقط، وهم منسوبون إلى رجل يقال له: أبو عيسى، أحدث لهم ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 84.

(2)

راجع: "الفتح" 2/ 107 "كتاب الأذان" رقم (610).

ص: 94

7 -

(ومنها): ما قال التيميّ رحمه الله: إنما يُحقن الدم بالأذان؛ لأن فيه الشهادة بالتوحيد، والإقرار بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا من بلغته الدعوة، وكان يُمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان؛ ليعلم أكان الناس مجيبين للدعوة أم لا؟؛ لأن اللَّه تعالى وعده إظهار دينه على الدين كلّه، وكان يَطمع في إسلامهم، ولا يلزم اليوم الأئمة أن يكفّوا عمن بلغته الدعوة لكي يسمع أذانًا؛ لأنه قد عُلِم غائلتهم للمسلمين، فينبغي أن تُنتهز الفُرْصة فيهم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(7) - (بَابُ أَمْرِ مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَسْأَلُ لَهُ الْوَسِيلَةَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[854]

(383) - (حَدَّثَنِي

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا سَمِعْتُمُ النَّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226) على الأصحّ (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين الحجة الفقيه [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن شهاب الزهريّ الإمام الحجة الحافظ الفقيه، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 170.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 95

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثيُّ) الْجُنْدعيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقة [3](ت 5 أو 107)، وقد جاوز (80)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخلها للأخذ عن مالك.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عطاء.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثيِّ) وفي رواية ابن وهب، عن مالك ويونس، عن الزهريّ أن عطاء بن يزيد أخبره، أخرجه أبو عوانة.

[فائدة]: اختُلِف على الزهريّ في إسناد هذا الحديث، وعلى مالك أيضًا، لكنه اختلاف لا يَقْدَح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، أخرجه النسائيّ، وأبن ماجه، وقال أحمد بن صالح، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذيّ: حديث مالك، ومن تابعه أصحّ، ورواه يحيى القطان، عن مالك، عن الزهريّ، عن السائب بن يزيد، أخرجه مسدد في "مسنده" عنه، وقال الدارقطنيّ: إنه خطأ، والصواب الرواية الأولى، وفيه اختلاف آخر، دون ما ذُكِر لا نطيل به، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 2/ 108 "كتاب الأذان" رقم (613).

ص: 96

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) قال الصنعانيّ رحمه الله: أي نداء المؤذّن، يدلّ عليه رواية:"إذا سمعتم النداء"، وقيّده البرماويّ بما إذا سمعتم قول المؤذّن، أو صوت المؤذّن، فيعمّ الأذان والإقامة، غير أنه يقول عند قوله:"قد قامت الصلاة" أقامها اللَّه وأدامها، قال الصنعانيّ: وفيه بُعد. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أما قوله: "فيعمّ الأذان والإقامة"، فهو الظاهر من الحديث؛ إذ الإقامة يُطلق عليها الأذان، كقوله صلى الله عليه وسلم:"بين كلّ أذانين صلاة"، فيقول من سمع المؤذّن يقيم ما يقول.

وأما قوله: "أقامها اللَّه، وأدامها" فمما لا دليل عليه، واللَّه تعالى أعلم.

ثم ظاهره اختصاص الإجابة بمن يَسْمَع، حتى لو رأى المؤذِّن على الْمَنَارة مثلًا في الوقت، وعَلِم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعدٍ، أو صَمَمٍ لا تُشْرَع له المتابعة؛ لأن المتابعة معلّقة بالسماع، والحديث صريح باشتراطه، وقياسًا على العاطس، فإنه لا يُشرع إلا من يسمع تحميده، قاله النوويّ في "شرح المهذب"

(1)

.

(فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ)"مثلَ" منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولوا قولًا مثل ما يقول، أو مفعول مطلق على النيابة؛ لأن الصفة إذا قامت مقام الموصوف المحذوف تُعرَب مفعولًا مطلقًا، وكلمة "ما" مصدريّةٌ، أي مثلَ قول المؤذّن، أو موصولة، والعائد محذوف؛ أي مثل الذي يقوله.

و"الْمِثْلُ": هو النظير، يقال: مِثْلٌ -بكسر، فسكون- ومَثَلٌ -بفتحتين- ومَثِيلٌ -بفتح، فكسر- مثل: شِبْهٍ، وشَبَهٍ، وشَبِيهٍ، والمماثلة بين الشيئين: اتّحادهما في النوع؛ كزيد وعمرو في الإنسانيّة، أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": في الحديث دليلٌ على أن لفظ "المثل" لا يقتضي المساواة من كل جهة؛ لأن قوله: "مثل ما يقول" لا يُقْصَد به رفع الصوت المطلوب من المؤذّن، كذا قيل، وفيه بحثٌ؛ لأن المماثلة وقعت في القول، لا في صفته. والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك، أن المؤذن مقصوده

(1)

"المجموع" 3/ 127.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 118.

ص: 97

الإعلام، فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر اللَّه، فيَكْتَفِي بالسر، أو الجهر لا مع الرفع، نعم لا يَكفيه أن يُجْرِيه على خاطره من غير تلفظ؛ لظاهر الأمر بالقول.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "إن مقصود المؤذّن الإعلام"، فيه نظر؛ بل الصواب أن مقصوده ذكر اللَّه تعالى مع الإعلام، فهو جامع بينهما، بخلاف المجيب، فإن مقصوده مجرّد الذكر؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأغرب ابن الْمُنَيِّر، فقال: حقيقة الأذان جميع ما يصدُر عن المؤذن، من قول، وفعل، وهيئة.

وتُعُقِّب بأن الأذان معناه: الإعلام لغةً، وخَصَّه الشرع بألفاظ مخصوصة، في أوقات مخصوصة، فإذا وُجدت وُجِد الأذان، وما زاد على ذلك من قول، أو فعل، أو هيئة، يكون من مكملاته، ويوجد الأذان من دونها، ولو كان على ما أَطْلَق لكان ما أُحْدِث من التسبيح قبل الصبح، وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغةً ولا شرعًا. انتهى

(1)

.

(الْمُؤَذِّنُ") قال في "الفتح": ادَّعَى ابن وضاح أن قول "المؤذن" مُدْرَج، وأن الحديث انتهى عند قوله:"مثل ما يقول".

وتُعُقِّب بأن الإدراج لا يَثْبُت بمجرد الدعوى، وقد اتَّفَقَت الروايات في "الصحيحين"، و"الموطأ" على إثباتها، ولم يُصِب صاحب "العمدة" في حذفها. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 854](383)، و (البخاريّ) في "الأذان"(611)، و (أبو داود) في "الصلاة"(522)، و (الترمذيّ) فيها (208)،

(1)

"الفتح" 2/ 93.

(2)

"الفتح" 2/ 109.

ص: 98

و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 23)، و (ابن ماجه) فيه (720)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 67)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 227)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1842 و 1843)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 53 و 78 و 90)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(411)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1686)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 143)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(986 و 987 و 988)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(841)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 408)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(419)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بإجابة المؤذّن من سمعه، واختُلف هل الأمر للوجوب، وهو الأصحّ، أم للاستحباب، وهو قول الجمهور؛ وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): أن ظاهر قوله: "مثل ما يقول" يقتضي أن يقول مثل ما يقوله من الأذان، وإليه ذهب بعضهم، والصحيح ما عليه الجمهور، وهو استثناء الحيعلتين؛ لأن حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا عامّ، وحديث معاوية رضي الله عنه الآتي خاصّ، والخاصّ مقدَّم على العامّ، فيُخصّص به.

وقال في "الفتح": ظاهر قوله: "مثل ما يقول" أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديثُ عمر

(1)

، وحديث معاوية

(2)

يدلان على أنه يُستثنى

(1)

سيأتي بعد حديث.

(2)

هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(612)

حدثنا معاذ بن فَضَالة، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن طلحة، أنه سمع معاوية يومًا، فقال مثله إلى قوله:"وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه".

(613)

حدثنا إسحاق بن راهويه، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام، عن يحيى نحوه، قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا أنه قال لما قال: "حي على الصلاة" قال: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، وقال: هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول.

ص: 99

من ذلك "حيّ على الصلاة"، و"حي على الفلاح"، فيقول بدلهما:"لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، كذلك استدل به ابن خزيمة، وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يَحْتَمِل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارةً كذا، وتارةً كذا.

وحَكَى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول، أن الخاصّ والعامّ إذا أمكن الجمع بينهما، وجب إعمالهما، قال: فَلِمَ لا يقال: يُستَحَبّ للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجهٌ عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يَشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يَحصُل من المؤذّن، فَعُوِّض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة.

ولقائل أن يقول: يَحْصُل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة، إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن، ومن نفسه، ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم:"سَمِع اللَّه من حمده"، كما سيأتي في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الاقتصار على الحوقلة في إجابة الحيعلتين هو الصواب؛ لأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فقولوا مثل ما يقول" فُسّر بحديث عمر ومعاوية رضي الله عنهما، فالحقّ أن يُعمَل بالتفسير؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: معنى الحيعلتين: هَلُمّ بوجهك، وسريرتك إلى الهدى عاجلًا، والفوز بالنعيم آجلًا، فناسب أن يقول: هذا أمرٌ عظيمٌ لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وَفَّقني اللَّه بحوله وقوته.

ومما لُوحِظت فيه المناسبة ما نَقَل عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: حُدِّثت أن الناس كانوا يُنصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة، فلا يقول شيئًا إلا قالوا مثله، حتى إذا قال:"حي على الصلاة" قالوا: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، وإذا قال:"حي على الفلاح"، قالوا:"ما شاء اللَّه". انتهى. وإلى هذا صار بعض الحنفية، ورَوَى ابن أبي شيبة مثلَهُ عن عثمان، ورُوي عن سعيد بن

ص: 100

جبير قال: يقول في جواب الحيعلة: سمعنا وأطعنا. ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى، قيل: لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل: هما والتكبير، وقيل: يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل: مهما أَتَى به مما يدلّ على التوحيد والإخلاص كفاه، وهو اختيار الطحاوي.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا أورد هذه الأقوال في "الفتح"، ومن الغريب أنه لم يتعقّبها، مع أن كلّها مخالف لما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه بيّن ما يقوله السامع، ولا يوجد شيء مما ذكره أصحاب هذه الأقوال في بيانه صلى الله عليه وسلم، فهي أقوال وآراء لا أثارة عليها من علم فلا ينبغي الالتفات إليها، وإنما تُذكر للمعرفة والتعجّب، وعلى العاقل التقيّد بما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قولًا، أو فعلًا، فقد أمرنا بذلك، وحثّنا عليه، فقد أخرج أحمد، وأبو داود وغيرهما بسند صحيح، من حديث العِرْباض بن سارية رضي الله عنه الطويل، وفيه:"فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

قال: وحَكَوا أيضًا خلافًا، هل يُجيب في الترجيع أو لا؟، وفيما إذا أذَّن مؤذن آخر، هل يُجيبه بعد إجابته للأول أو لا؟ قال النوويّ: لم أر فيه شيئًا لأصحابنا، وقال ابن عبد السلام: يُجيب كل واحد بإجابة؛ لتعدد السبب، وإجابةُ الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة، فإنهما سواء؛ لأنهما مشروعان. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بإجابته في الترجيع هو الأرجح عندي إذا كان يسمعه؛ لأن ظاهر النصّ يشمله، وكذا القول بإجابة المؤذّنين كلّهم كما قال ابن عبد السلام: هو الأرجح أيضًا؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أنه إنما قال: "مثل ما يقول"، ولم يقل: مثل ما قال؛ ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة، مثل كلمتها، والصريح في ذلك ما رواه النسائيّ، من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت، وأصرح منه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الآتي، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استُحِبّ له التدارك إن لم يطل الفصل، قاله النووي في "شرح المهذَّب" بحثًا، وقد قالوه فيما إذا كان له عذرٌ كالصلاة.

ص: 101

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة؛ عملًا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يَقْصِد المخاطبة، وقيل: يؤخر الإجابة حتى يفرغ؛ لأن في الصلاة شُغْلًا، وقيل: يجيب إلا في الحيعلتين؛ لأنهما كالخطاب للآدميين، والباقي من ذكر اللَّه، فلا يُمنَع، لكن قد يقال: من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يُمنَع؛ لأنها من ذكر اللَّه، قاله ابن دقيق العيد، وفَرَّق ابن عبد السلام في "فتاويه" بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب؛ بناءً على وجوب موالاتها، وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استَأْنَف، وهذا قاله بحثًا، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة، بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت، كذا أطلقه كثير منهم، ونَصَّ الشافعي في "الأم" على عدم فساد الصلاة بذلك، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي القول بعدم الإجابة في الصلاة هو الأرجح؛ لما أخرجه الشيخان عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فيَرُدّ علينا، فلما رَجَعنا من عند النجاشيّ، سلَّمنا عليه فلم يرُدّ علينا، فقلنا: يا رسول اللَّه، كنا نسلِّم عليك في الصلاة، فترد علينا؟ فقال:"إن في الصلاة لشُغْلًا".

ومعلوم أن السلام ذكرٌ، وردّه آكد من إجابة الأذان، فيدلّ على أن الإجابة في حال الصلاة غير مشروعة؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): ما قال في "الفتح": استُدِلّ به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، قالوا: إلا في كلمتي الإقامة، فيقول:"أقامها اللَّه وأدامها"، وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يُفَرَّق بأن الأذان إعلام عامّ فيَعْسُر على الجميع أن يكونوا دُعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام خاصّ، وعدد من يسمعها محصور، فلا يعسُر أن يدعو بعضهم بعضًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "فيقول: أقامها اللَّه، وأدامها" تقدّم أنه مما لا دليل عليه، وأما ما أخرجه أبو داود: أن بلالًا أَخَذ في الإقامة، فلما أن قال:"قد قامت الصلاة"، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أقامها اللَّه وأدامها"، فإنه حديث

ص: 102

ضعيف

(1)

، لا يصلح للاحتجاج به، فالصواب أن يقول مثل ما يقول المقيم:"قد قامت الصلاة"؛ كما هو ظاهر النصّ؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

6 -

(ومنها)؛ ما قال الشوكانيّ رحمه الله: والظاهر من الحديث التعبّد بالقول مثل ما يقول المؤذّن، وسواء كان المؤذّن واحدًا، أو جماعةً، قال القاضي عياض: وفيه خلاف بين السلف، فمن رأى الاقتصار على الإجابة للأول احتجّ بأن الأمر لا يقتضي التكرار، ويلزمه على ذلك أن يكتفي بإجابة المؤذّن مرّةً واحدةً في العمر. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

7 -

(ومنها): ما قيل: إنه يستحبّ أن يتابع عقب كلّ كلمة، لا معها، ولا يتأخّر عنها؛ عملًا بظاهر الفاء التعقيبيّة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم:"فقولوا"، وهو مذهب الشافعيّ، وللمالكيّة في ذلك ثلاثة أقوال، ثالثها للباجيّ إن كان في شُغل من ذكر ونحوه عجَّل، وإن كان متفرِّغًا قارنه، ذكره ابن الملقّن رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله هو الأرجح؛ لظهور حجته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة المؤذّن:

(اعلم): أنهم اختلفوا في إجابته بالقول، فذهبت طائفة إلى وجوبه؛ لظاهر الأمر، وحَكَى ذلك الطحاويّ عن قوم من السلف، وبه قالت الحنفيّة، وأهل الظاهر، وابن وهب من المالكيّة.

وذهب الجمهور إلى استحبابه، واستُدِلَّ لهم بحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سَمِع مؤذّنًا، فلما كَبَّر قال:"على الفطرة"، فلما تشهّد، قال:"خرجت من النار"، قالوا: فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن، عَلِمنا أن الأمر بذلك للاستحباب.

(1)

أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (528) بسند ضعيف؛ لجهالة بعض رواته.

(2)

"نيل الأوطار" 2/ 123.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 471.

ص: 103

ورُدّ بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله، ولم ينقله الراوي؛ اكتفاءً بالعادة، ونَقَلَ القولَ الزائدَ، وباحتمال أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، بذلك، قيل: ويَحْتَمِل أن يكون الرجل لم يَقْصِد الأذان.

وردّ هذا الأخير بأن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن مذهب القائلين بالوجوب هو الأرجح؛ لظاهر الأمر، وهو للوجوب ما لم يَصرفه صارف، وقد عرفت أنه لا صارف له هنا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[855]

(384) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، وَغَيْرِهِمَا، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ

(2)

، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ

(3)

، حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ

(4)

").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَيْوَةُ)

(5)

بن شُريح بن صَفْوان التُّجيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

(1)

"الفتح" 2/ 110.

(2)

وفي نسخة: "ابن العاصي".

(3)

وفي نسخة: "فمن سأل اللَّه لي الوسيلة".

(4)

وفي نسخة: "حلَّت عليه الشفاعة".

(5)

بفتح أوّله، وسكون التحتانيّة، وفتح الواو.

ص: 104

2 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) واسم أبيه مِقْلاص الْخُزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

3 -

(كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ) بن كعب بن عديّ التنوخيّ، أبو عبد الحميد المصريّ، صدوقٌ [5].

رَأَى عبد اللَّه بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيديّ، ورَوَى عن أبي الخير، مَرْثَد بن عبد اللَّه الْيَزَنيّ، وبلال بن عبد اللَّه بن عمر، وسالم أبي النضر، وعبد الرحمن بن جبير المصريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه حيوة بن شُريح، وسعيد بن أبي أيوب، وعمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، ويحيى بن أيوب، وحرملة بن عمران التجيبي، والليث بن سعد، وآخرون.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: مات سنة (127) فيما يقال، وقال يحيى بن بكير: مات سنة ثلاثين ومائة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (384)، وحديث (442):"لا تمنعوا النساء حظوظهنّ من المساجد. . . "، و (1645):"كفّارة النذر كفّارة اليمين".

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ) العامريّ المصريّ المؤذّن، ثقةٌ عالمٌ بالفرائض [3](ت 97) وقيل بعدها (م د ت س) تقدم في "الإيمان" 93/ 505.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) السَّهميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرّة على الأصحّ بالطائف (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقيان تقدّما قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: كعب، عن عبد الرحمن بن جبير.

ص: 105

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العبادلة الأربعة الفقهاء، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حَيْوَةَ) بن شُرَيح (وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ) اسمه مِقْلاص (وَغَيْرِهِمَا) هو ابن لهيعة، وإنما أبهمه لضعفه، وهكذا يصنع البخاريّ، والنسائيّ يقرنانه بغيره، ويُبهمانه مثله، وقد جاء منصوصًا عليه عند أبي داود في "سننه"، حيث أخرجه بسند المصنّف، ولفظه (523): حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا ابن وهب، عن ابن لَهِيعة، وحَيْوَة، وسعيد بن أبي أيوب، عن كعب بن علقمة. . . إلخ.

(عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ) مولى نافع بن عمرو القرشيّ، قال الحافظ المزيّ رحمه الله في "تهذيب الكمال": وقد خلط بعضهم ترجمة عبد الرحمن بن جُبير هذا بترجمة عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، والصواب التفريق بينهما، كما ذكرنا. انتهى

(1)

. وقال الترمذيّ رحمه الله: قال محمد -يعني البخاريّ-: عبد الرحمن بن جبير هذا قُرَشيّ مصريّ مدنيّ، وعبد الرحمن بن جبير بن نُفير شاميّ. انتهى

(2)

.

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) ووقع في بعض النسخ: "ابن العاصي" بالياء، وهو الغالب في الاستعمال، وإن كان الأول هو الذي اشتهر على الألسنة، وتقدّم البحث في هذا مستوفًى.

(أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ) أي صوته، أو أذانه (فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ) وتقدّم قريبًا أن الراجح أنه مقيّد بما عدا الحيعلتين، فإنه يقول عندهما:"لا حول ولا قوّة إلا باللَّه"؛ جمعًا بين الأحاديث.

وأما ما استحسنه بعضهم من استثناء "الصلاة خير من النوم"، فيقول بدله:"صدَقت وبررت، وبالحقّ نطقت"، وكذا يقول في الإقامة عند قوله:"قد قامت الصلاة": "أقامها اللَّه، وأدامها"، فمما لا يصحّ له دليلٌ يُعتمد عليه، بل

(1)

"تهذيب الكمال" 17/ 33.

(2)

راجع: "الجامع" للترمذيّ رقم (3547).

ص: 106

هو استحسان من قائله، فلا ينبغي الالتفات إليه؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ) أتى بـ "ثُمّ" إشارة إلى أن الصلاة تكون بعد الفراغ من الإجابة (فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو ضمير تفسّره جملة بعده، وهي هنا قوله:(مَنْ) شرطيّة مبتدأ (صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً) أي واحدةً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا) أي بسببها (عَشْرًا) أي عشر صلوات.

ومعنى صلاة اللَّه على عبده: ثناؤه على العبد عند الملائكة، كما حكاه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، وقيل: رحمته، كما نقله الترمذيّ في "جامعه" عن الثوريّ، وغير واحد من أهل العلم، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": وقد يقال: لا منافاة بين القولين

(1)

، وضعّف العلامة ابن القيّم القول الثاني، وبالغ في تضعيفه والردّ عليه بأوجه كثيرة

(2)

، وقد تقدّم تحقيق ذلك، مع أبحاث كثيرة في "شرح المقدّمة" عند قول المصنّف:"وصلّى اللَّه على محمد خاتم النبيين"، فراجعه تستفد

(3)

، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: ينبغي أن تكون الصلاة بالصيغة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، وهي الصلاة الإبراهيميّة، ولا ينبغي لعاقل أن يشتغل بغيرها، ولها صيغ مختلفة، وسيأتي للمصنّف رحمه الله بعضها في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.

ولا ينبغي أيضًا أن يرفع صوته، كما يفعله بعض المبتدعة في بعض البلدان، حيث يرفعون أصواتهم بعد الأذان على المنارة؛ فإن ذلك من البدع التي حذّر منها النبيّ صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي) أمر من سأل يسأل بالهمزة على النقل، والحذف، والاستغناء، أو من سال بالألف المبدلة من الهمزة، أو الواو، أو الياء، قاله القاري

(4)

. (الْوَسِيلَةَ) بفتح الواو، وكسر السين المهملة، فَعِيلة بمعنى مفعولة، قال التوربشتيّ رحمه الله: هي في الأصل ما يُتوسَّل به إلى الشيء، ويُتقَرَّبُ به إليه،

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 3/ 503.

(2)

راجع: "جلاء الأفهام" ص 82.

(3)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 223 - 233.

(4)

راجع: "المرقاة" 2/ 350.

ص: 107

وجمعها وَسَائل، وإنما سُمِّيت تلك المنزلة من الجنّة بها؛ لأن الواصل إليها يكون قريبًا من اللَّه سبحانه وتعالى، فائزًا بلقائه، مخصوصًا من بين سائر الدرجات بأنواع الكرامات. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: "الوسيلة": المنزلة عند الملك، والوسيلة الدرجة، والوسيلة القربة، ووَسَلَ فلانٌ إلى اللَّه وَسِيلةً: إذا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّب به إليه، والواسل: الراغب إلى اللَّه، قال لَبِيد [من الطويل]:

أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ

بَلَى كُلُّ ذِي رَأْيٍ إِلَى اللَّهِ وَاسِلُ

وتوسل إليه بوَسِيلة: إذا تقرَّب إليه بعمل، وتوسل إليه بكذا تقرب إليه بِحُرْمة آصِرَةٍ تُعْطِفه عليه، والوسيلة: الْوُصْلةُ والْقُرْبَى، وجمعها الوسائل، قال اللَّه تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57].

وقال الجوهريّ: الوسيلةُ: ما يُتَقَرَّب به إلى الغير، والجمع الْوُسُلُ، والْوَسَائل، والتوسيل، والتوسل واحد، وفي حديث الأذان:"اللَّهم آت محمدًا الوسيلة"، هي في الأصل: ما يُتَوَصَّل به إلى الشيء، ويُتَقَرَّب به، والمراد به في الحديث: القرب من اللَّه تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي منزلة من منازل الجنة، كما جاء في الحديث. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أولى التفاسير للوسيلة هنا أنها منزلة من منازل الجنّة؛ لحديث الباب؛ لأن خير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّهَا) أي الوسيلة (مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ) أي من منازلها، وهي أعلاها، وأغلاها على الإطلاق (لَا تَنْبَغِي) أي لا تصلح، ولا تتيسّر، قال الزجّاج: يقال: انبغى لفلان أن يفعل كذا: أي صَلَح له أن يفعل كذا، وكأنه قال: طَلَبَ فِعْلَ كذا، فانطلب له: أي طاوعه، ولكنّهم اجتزءوا بقولهم: انبغى، وانبغى الشيء: تيسّرَ وتسهّل، وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]: أي ما يتسهّل له ذلك؛ لأنا لم نعلّمه الشعر، وقال ابن الأعرابيّ: وما ينبغي له: وما يصلح له. انتهى

(3)

. (إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ) يعني أنه لا تصلح

(1)

راجع: "المرقاة" 2/ 350.

(2)

"لسان العرب" 11/ 725.

(3)

"لسان العرب" 14/ 77.

ص: 108

ولا تتيسّر تلك المنزلة إلا لعبد واحد من جميع عباد اللَّه تعالى.

(وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) قال الطيبيّ رحمه الله: قيل: "هو" خبرُ "أكون" وُضع موضع "إياه"، ويَحْتَمِل أن لا يكون "أنا" للتأكيد، بل يكون مبتدأ، و"هو" خبره، والجملة خبر "أكون"، ويُمكن أن يقال: إن هذا الضمير وُضِع موضع اسم الإشارة؛ أي أكون ذلك العبدَ، كما في قول رؤبة [من الرجز]:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

(1)

قيل له: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والْبَلَق، فقل: كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك. انتهى

(2)

.

وإنما قال صلى الله عليه وسلم: "وأرجو"؛ تواضعًا؛ لأنه إذا كانت تلك المنزلة الرفيعة لا تكون إلا لواحد، فلا يكون ذلك الواحد إلا هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفضل الجمع.

وقال في "المنهل": وقال ذلك قبل أن يوحى إليه أنه صاحبها، ويَحْتَمِل أنه قاله بعد أن أُوحي إليه بها، فيكون ذلك تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، وأمره للأمة بسؤال الوسيلة بعدُ لزيادة الرفعة والمقام، كبقيّة الدعاء له، ولتنال الأمة الأجر على الدعاء له. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأرجو" قال هذا صلى الله عليه وسلم قبل أن يبان له أنه صاحبها؛ إذ قد أخبر أنه يقوم مقامًا لا يقومه أحدٌ غيره، ويَحمَد اللَّه بمحامد لم يُلهمها أحد غيره، ولكن مع ذلك فلا بدّ من الدعاء فيها، فإن اللَّه تعالى يزيده بكثرة دعاء أمته رِفْعةً كما زاده بصلاتهم، ثم إنه يرجع ذلك عليهم بنيل الأجور، ووجوب شفاعته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

(فَمَنْ) شرطيّة أيضًا (سَأَلَ لِي) أي لأجلي (الْوَسِيلَةَ) المذكورة، فـ "أل" فيه للعهد الذكريّ؛ للقاعدة المشهورة أن المعرفة إذا أُعيدت معرفةً كانت عين الأولى، قال السيوطيّ في "عقود الجمان" [من الرجز]:

(1)

"التوليع": استطالة البلَق، و"البَلَق" محرّكةً: بياض وسواد، و"البهق" بوزنه: بياض رقيق بسبب سوء مزاج العضو، أفاده في "ق".

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 912.

(3)

"المفهم" 2/ 13.

ص: 109

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ

إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ

تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ

تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ

شَاهِدُهَا الَّذِي رَويْنَا مُسْنَدَا

"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدَا

وَنَقَضَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ

وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قلت معلّقًا عليه:

قُلْتُ وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذْ ذِي تُحْمَلُ

عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ تُسْتَعْمَلُ

وفي بعض النسخ: "فمن سأل اللَّه لي الوسيلة"(حَلَّتْ لَهُ) وفي بعض النسخ: "عليه"(الشَّفَاعَةُ") أي استحقّها، ووجبت له، أو نزلت عليه، يقال: حَلَّ يَحُلّ بالضمّ: إذا نزل، واللام بمعنى "على"، كما في بعض النسخ، ووقع عند الطحاويّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"وجبت له"، ولا يجوز أن تكون "حلّت" من الْحِلّ مقابل الحرمة؛ لأنها لم تبهن قبل ذلك محرّمة، قاله في "الفتح".

وقال السنديّ رحمه الله: قد يقال: بل لا تحلّ إلا من أُذن له، فيُمكن أن يُجعل الحلّ كنايةً عن حصول الإذن في الشفاعة له. انتهى.

واستشكل بعضهم جعل ذلك ثوابًا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين.

وأُجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، كإدخال الجنّة بغير حساب، وكرفع الدرجات، فيُعطي كلّ أحد ما يناسبه.

ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مُخلصًا مستحضرًا إجلالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا من قَصَد بذلك مجرّد الثواب، ونحو ذلك، وهو تحكُّم غير مرضيّ، ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

3/ 114.

ص: 110

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 855](384)، و (أبو داود) في "الصلاة"(523)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3614)، و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 25 - 26)، وفي "عمل اليوم والليلة"(45)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 226)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 168)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(418)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1690 و 1691 و 1692)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 410)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(ص 44)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(421)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(983 و 984 و 985)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(842)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الأمر بإجابة المؤذّن، وقد تقدّم الخلاف، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟ مع ترجيح أنه للوجوب.

2 -

(ومنها): الأمر بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الإجابة، وظاهر الأمر أيضًا للوجوب؛ إذ لا صارف له عنه.

3 -

(ومنها): الأمر بسؤال الوسيلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وحكمه كسابقه.

4 -

(ومنها): بيان معنى الوسيلة، ويبان علوّ شأنها، حيث لا تصلح إلا لعبد واحد.

5 -

(ومنها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث اختصّ بتلك المنزلة الرفيعة.

6 -

(ومنها): بيان أن من سأل اللَّه تعالى الوسيلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وجبت له الجنّة.

7 -

(ومنها): البشارة من سأل الوسيلة له صلى الله عليه وسلم أنه يموت على حسن الخاتمة؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا من مات على الإسلام، فإذا وجبت له الجنة، عُلِم أنه ممن له البشرى بحسن الختام، اللهم أحسن ختامنا بمنّك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين آمين.

ص: 111

8 -

(ومنها): بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، حيث طلب من أمته الدعاء له بتلك المنزلة، مع أنها ستكون له.

9 -

(ومنها): تحقيق معنى قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} حيث إن من صلّى عليه واحدةً صلّى اللَّه عليه عشرًا، ومن سأل له الوسيلة وجبت له الجنّة، إلى غير ذلك مما تناله الأمة من تضاعف الدرجات، ورفع المقامات، فكلّه رحمة صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): أن فيه جواز إفراد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عن السلام من غير كراهة؛ لهذا الحديث، وإليه ذهب كثيرون، وقال بعضهم: يكره إفرادها عنه، وهو ضعيف، وقد أسلفنا تحقيقه في "شرح المقدّمة" فراجعه تستفد.

11 -

(ومنها): ما قال المهلّب رحمه الله: في الحديث الحضّ على الدعاء في أوقات الصلوات؛ لأنه حال رجاء الإجابة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[856]

(385) - (حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الَرَّحْمَنِ بْنِ إِسَافٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ").

ص: 112

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ الثَّقَفِيُّ) هو: محمد بن جَهْضَم بن عبد اللَّه الثقفيّ، البصريّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ [10].

رَوَى عن إسماعيل بن جعفر المدنيّ، ومحمد بن طلحة بن مُصَرِّف، وابن عيينة، وأبي معشر المدنيّ، والهذيل بن بلال، ويزيد بن عطاء الواسطيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه إسحاق بن منصور الْكَوْسَج، ويحيى بن محمد بن السَّكَن، وعبد القدوس بن محمد الْحَبْحَابيّ، وعباس بن عبد العظيم الْعَنْبَريّ، وعبد العزيز بن معاوية القرشيّ، ومحمد بن يونس الكُدَيميّ، وآخرون.

قال أبو زرعة: صدوقٌ لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (385)، وحديث (925):"يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟. . . "، و (2233):"نَهَى عن قتل الْجِنَّان التي تكون في البيوت. . . ".

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، لا بأس به [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.

5 -

(خُبَيْبُ

(1)

بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسَافٍ) بكسر الهمزة، ويقال أيضًا: يساف -بالياء- الأنصاري، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

6 -

(حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) الْعُمَريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

7 -

(أَبُوهُ) هو: عاصم بن عمر بن الخطاب العَدَويّ، أبو عُمَر، ويقال:

(1)

بضم الخاء المعجمة، مصغّرًا.

ص: 113

أبو عَمْرو المدنيّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمه جَمِيلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، ثقة [2].

رَوَى عن أبيه، وعنه ابناه: حفصُ وعبيدُ اللَّه، وعروة بن الزبير، قال الزبير: كان من أحسن الناس خُلُقًا، وكان عبد اللَّه بن عمر يقول: أنا وأخي عاصم لا نُسابُّ الناسَ، قال: وكان عمر طَلَّق أمه، فتزوجها يزيد بن جارية، فولدت له ابنه عبد الرحمن، فرَكِبَ عمر إلى قباء، فوجد ابنه عاصمًا يَلْعَب مع الصبيان، فحمله بين يديه، فأدركته جدته الشَّمُوس بنت أبي عامر، فنازعته إيّاه حتى انتهى إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: خَلِّ بينها وبينه، فما راجعه وأسلمه لها، رَوَى ذلك غير واحد من علمائنا.

قال: ورَوَى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم، قال: زَوَّجني أبي، فأنفق عليّ شهرًا، ثم أرسل إليّ بعدما صلَّى الظهر، فدخلتُ عليه، فحَمِد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إني كنت أرى هذا المال يحلّ لي، وهو أمانةٌ عندي إلا بحقّه، وما كان قطّ أحرم عليّ منه حين وَلِيتُهُ، فعاد أمانتي، وقد أنفقت عليك شهرًا من مال اللَّه، ولستُ زائدك عليه، وقد أعنتك بثُمُن مالي، فبِعْهُ، ثم قُم في السوق إلى جنب رجل من قومك، فإذا صفق بسلعة، فاستشركه، ثم بع وكُلْ، وأنفق على أهلك.

وقال السريّ بن يحيى، عن محمد بن سيرين، قال: قال فلانٌ، وسَمَّى رجلًا: ما رأيت رجلًا من الناس إلا لا بُدَّ أن يَتَكَلَّم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر.

قال ابن حبان: مات بالرَّبَذَة، وقال الواقديّ: تُوُفّي سنة سبعين، وكذا قال علي ابن المديني، وأَرَّخه مُطَيَّن سنة (73)، وذكره جماعة ممن أَلَّف في الصحابة، وفي "تاريخ البخاري" خاصمت أمه أباه فيه إلى أبي بكر، وله ثمان سنين، وقال ابن الْبَرْقيّ: وُلِد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَرْوِ عنه شيئًا، وقال أبو أحمد العسكريّ وغيره: وُلد في السنة السادسة من الهجرة، وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات وله سنتان

(1)

.

(1)

"تهذيب الكمال" 13/ 520 - 527، و"تهذيب التهذيب" 2/ 257 - 258.

ص: 114

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (385)، وحديث (1100):"إذا أقبل الليل، وأدبر النهار، وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم".

8 -

(جَدُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل بن عبد العزَّى بن رِيَاح بن عبد اللَّه بن قُرْط بن رَزَاح القرشيّ الْعَدويّ، أَمير المؤمنين، جمّ المناقب، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (23)، وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل، وشيخه مروزيّ، وأبو جعفر بصريّ، خراسانيّ الأصل.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: خبيب، عن حفص، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، عن جدّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله في "كتاب الاستدراك": هذا الحديث رواه الدَّرَاوَرْديّ وغيره مرسلًا، وقال الدارقطنيّ أيضًا في "كتاب العلل": هو حديث متصلٌ، وصله إسماعيل بن جعفر، وهو ثقةٌ حافظٌ، وزيادته مقبولةٌ، وقد رواه البخاريّ ومسلم في "الصحيحين"، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي قاله الدارقطنيّ في "كتاب العلل" هو الصواب، فالحديث صحيحٌ، وزيادة الثقة مقبولةٌ، وقد سَبَق مثال هذا في الشرح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول النوويّ رحمه الله: وزيادة الثقة مقبولةٌ، قد أسلفنا أن هذا المذهب سلكه النوويّ، وقبله ابن حبّان، وابن حزم، وغيرهما، وهو مذهب غير مرضيّ على إطلاقه، بل زيادة الثقة إنما تُقبل حسب القرائن التي تحتفّ بها، ولذا ترى الدارقطنِيّ يقرّر في حديث أن زيادة الثقة مقبولة

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 86.

ص: 115

كهذا الحديث، وفي حديث آخر نظيره يقرّر أن هذه الزيادة لا تقبل، وهكذا غيره من محققي النقّاد يسلكون هذا المسلك، وما ذاك إلا لأن قبول زيادة الثقة، وردّها تحتاج إلى النظر فيها حسب القرائن، فلا تُقبل على الإطلاق، ولا تردّ على الإطلاق، وقد قدّمت تحقيق هذا في "شرح المقدّمة" عند كلام الإمام مسلم على زيادة الثقة، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

شرح الحديث:

(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إذا" شرطيّة، وقوله:"فقال" عطفٌ على الشرط، وجزاء الشرط قوله:"دخل الجنّة"، والمعطوفات بـ "ثمّ" مقدّرات بحرف الشرط والفاء، ويجوز أن يكون "فقال" جوابًا للشرط، وكذا قال في المعطوفات. انتهى

(1)

. (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) لم يذكر الأربع اكتفاءً بذكر الاثنين منها، ومن ثَمّ ذكر واحدًا من الاثنين فيما بعدُ، وفيه دليلٌ أنه يستحبّ للمؤذّن أن يقول كلّ تكبيرتين بنفس واحد

(2)

. (فَقَالَ أَحَدُكُمُ) عطف على الشرط (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ) عطف على "قال" الأوّلِ، قال الطيبيّ رحمه الله: المعطوفات بثُمّ مقدَّرات بحرف الشرط والفاء، أي إذا قال المؤذِّن:(أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ) أي فقال أحدكم، فحُذف اختصارًا

(3)

. (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي لا حِيلةَ في الخلاص من موانع الطاعة، ولا قُوّة على فعلها إلا بتوفيق اللَّه تعالى.

وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: الحال لما يختصّ به الإنسان وغيره من الأمور المعتبرة في نفسه وجسمه أو ما يتّصل به، والحول: ما له من القوّة في أخذ هذه الأحوال، ومنه قيل:"لا حول ولا قُوّة إلا باللَّه".

وقال الطيبيّ رحمه الله: إن الرجل إذا دُعي بالحيعلتين كأنه قيل له: أقبِلْ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 912.

(2)

"المرعاة" 2/ 264.

(3)

"المرعاة" 2/ 264.

ص: 116

بوجهك، وشَرَاشِرك على الْهُدَى عاجلًا، وعلى الفلاح آجلًا، أجاب بأن هذا أمرٌ عظيمٌ، وخطْبٌ جسيم، وهي الأمانة التي عُرِضَت على السموات والأرض، فَأَبَيْنَ أن يَحْملنها، وأشفقن منها، فكيف أحملها مع ضعفي، وتشتّت أحوالي؟ ولكن إذا وفّقني اللَّه بحوله وقوّته لعلّي أقوم بها. انتهى.

(ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) معنى "حَيّ على كذا": أي تَعَالَوْا إليه، و"الفلاح": الْفَوْز والنجاة، وإصابة الخير، قالوا: وليس في كلام العرب كلمة أجمع للخير من لفظة "الفلاح"، وتَقْرُب منها "النصيحة"، وقد سبق بيان هذا في حديث:"الدينُ النصيحة"، فمعنى "حيّ على الفلاح": أي تَعالَوْا إلى سبب الفوز والبقاء في الجنة، والخلود في النعيم، و"الفَلاح"، و"الْفَلَحُ": تُطلِقهما العرب أيضًا على البقاء

(1)

.

(قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) وإنما أفرد صلى الله عليه وسلم الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كلّ نوع منها مثنًّى كما هو المشروع؛ لقصد الاختصار، قاله في "المرعاة"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: قال كلَّ نوع من هذا مُثَنَّى، كما هو المشروع، فاختصر صلى الله عليه وسلم من كل نوع شطره؛ تنبيهًا على باقيه. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللَّه" يجوز فيه خمسة أوجه لأهل العربية مشهورة:

[أحدهما]: لا حولَ ولا قُوّةَ بفتحهما بلا تنوين.

[والثاني]: فتح الأوّل، ونصب الثاني منونًا.

[والثالث]: رفعهما منونين.

[والرابع]: فتح الأول، ورفع الثاني منونًا.

[والخامس]: عكسه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأوجهُ هي التي أشار إليها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، حيث قال:

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 87.

(2)

"المرعاة" 2/ 365.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 86.

ص: 117

وَرَكِّبِ الْمُفْرَدَ فَاتِحًا كَـ "لَا

حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ" وَالثَّانِي اجْعَلَا

مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا أَوْ مُرَكَّبَا

وَإِنْ رَفَعْتَ أَوَّلًا لَا تَنْصِبَا

قال الْهَرَويّ: قال أبو الهيثم: الحول: الحركة، أي لا حركة ولا استطاعةَ إلا بمشيئة اللَّه، وكذا قال ثعلب وآخرون، وقيل: لا حولَ في دفع شرٍّ، ولا قوة في تحصيل خير، إلا باللَّه، وقيل: لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمته، ولا قُوّة على طاعته إلا بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وحَكَى الجوهريّ لغةً غريبةً ضعيفةً، أنه يقال:"لا حَيْلَ، ولا قوة إلا باللَّه" بالياء، قال: والحيل والحول بمعنًى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: لغة غريبة ضعيفة، فيه نظر؛ لأن الحول والحيل بالواو والياء لغتان معروفتان، اللَّهمّ إلا إذا أراد خُصُوصَ هذا التركيب.

قال المجد رحمه الله في "القاموس": و"الْحَوْلُ"، و"الْحَيْلُ"، و"الْحِوَلُ"، كعِنَبٍ، و"الْحَوْلَةُ"، و"الْحِيلَةُ"، و"التحويل"، و"الْمحَالَةُ"، و"الْمَحَالُ"، و"الاحتيال"، و"التّحَوُّلُ"، و"التّحَيُّلُ": الْحِذْقُ وجَوْدَةُ النظر، والقدرةُ على التصرّف. انتهى كلام المجد

(2)

.

وهكذا أثبت هذا كلّه في "الجامع"، و"المنتهى"، و"الموعب"، و"المخصص"، و"المحكم"، ذكره في "العمدة"

(3)

.

فقد ثبت بهذا أن الْحَيْلَ بالياء لغة فصيحة، مثلُ الحول بالواو، وليست ضعيفةً، كما زعمه النوويّ؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال الأزهريّ والأكثرون: يقال في التعبير عن قولهم: "لا حول، ولا قوة إلا باللَّه": الْحَوْقَلة، وقال الجوهريّ: الحولقة، فعلى الأول، وهو المشهور الحاء والواو من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم اللَّه تعالى، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، والأول أولى؛ لئلا يُفْصَل بين الحروف.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 87.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 363.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 121.

ص: 118

ومثل "الحولقةِ""الحيعلةُ" في "حي على الصلاة"، "حي على الفلاح"، "حي على كذا"، و"البسملة" في "بسم اللَّه"، و"الحمدلة"، في "الحمد للَّه"، و"الهيللة"، في "لا إله إلا اللَّه"، و"السبحلة"، في "سبحان اللَّه".

وقال المطرزيّ في "كتاب اليواقيت" وفي غيره: إن الأفعال التي أُخذت من أسمائها سبعة، وهي: بَسْمَل الرجل: إذا قال: "بسم اللَّه"، وسَبْحَل: إذا قال: "سبحان اللَّه"، وحَوْقل: إذا قال: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، وحَيْعَل: إذا قال: "حي على الفلاح"، ويجيء على القياس حَيْصَل: إذا قال: "حي على الصلاة"، ولم يُذْكَر، وحَمْدل: إذا قال: "الحمد للَّه"، وهَيْلل: إذا قال: "لا إله إلا اللَّه"، وجَعْفل: إذا قال: "جُعِلت فداءك"، زاد الثعالبيّ الطَّبقلة: إذا قال: "أطال اللَّه بقاءك"، والدَّمْعزة: إذا قال: "أدام اللَّه عزك".

وقال القاضي عياض: قوله: الحيصلة على قياس الحيعلة غير صحيح، بل الحيعلة تُطْلَق على "حي على الصلاة"، و"حي على الفلاح"، كلها حيعلة، ولو كان على قياسه في الحيصلة، لكان الذي يقال في "حي على الفلاح": الحيفلة بالفاء، وهذا لم يُنقَل، وإنما الحيعلة من قولهم:"حي على كذا"، فكيف وهو باب مسموعٌ، لا يقاس عليه؟ وانظر قوله: جَعْفل في: "جُعِلتُ فداك"، لو كان على قياس الحيعلة، لقال: جَعْلف؛ إذ اللام مُقدَّمة على الفاء، وكذلك الطبقلة تكون اللام على القياس قبل القاف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ومن المسموع أيضًا سَمْعَلَ: إذا قال: السلام عليكم، وهَيْلَلَ: إذا قال: لا إله إلا اللَّه، وبَعْثَرَ، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)} [الانفطار: 4] أي بُعِث موتاها، وأثير ترابها، ومن المولّد الْفَذْلكة، من قولهم: فذلك العدد كذا وكذا، والْبَلكفة، من قولهم: بلا كيف.

والنحتُ أن يُختصر من كلمتين، فأكثر كلمة واحدة

(2)

.

وقد نظمت هذه الكلمات المنحوتة بقولي:

النَّحْتُ قَدْ وَرَدَ فِي أَفْعَالِ

مَسْمُوعَةٍ فَلْتَحْفَظَنْ مَقَالِي

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 252.

(2)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 4.

ص: 119

بَسْمَلَ سَبْحَلَ كَذَاكَ هَلَّلَا

حَوْقَلَ حَيْعَلَ يَلِيهِ حَمْدَلَا

طَبْلَقَ دَمْعَزَ كَذَاكَ جَعْفَلَا

هَيْلَلَ بَعْثَرَ يَلِيهِ سَمْعَلَا

وَاسْتَعْمَلَ الْمُوَلَّدُونَ بَلْكَفَا

كَذَاكَ فَذْلَكَ بِهَذَا يُكْتَفَى

(ثُمَّ قَالَ) أي المؤذّن (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ) أي فقال أحدكم (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ) أي المؤذّن (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ) أي فقال أحدكم (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وقوله: (مِنْ قَلْبِهِ) قيدٌ للكل، ويحتمل أن يكون للأخير، والأول هو الأظهر، وهو متعلّق بحال مقدّر؛ أي حال كون ذلك القول ناشئًا من قلبه، والمراد أنه قال ذلك بلسانه، مع اعتقاده بقلبه، وإخلاصه فيه (دَخَلَ الْجَنَّةَ) قال القاضي عياض رحمه الله ما حاصله: إنما حصل له ذلك؛ لأن في حكايته لما قال المؤذن التوحيدَ والإعظامَ، والثناءَ على اللَّه تعالى، والاستسلامَ لطاعته، وتفويضَ الأمور إليه بقوله عند الحيعلتين:"لا حول، ولا قوّة إلا باللَّه"؛ إذ هي دعاء وترغيب من سمعها، فإجابتها لا تكون بلفظها، بل بما يُطابقها من التسليم والانقياد، بخلاف إجابة غيرها من الثناء، والشهادتين فبحكايتها، وإذا حَصَل هذا للعبد، فقد حاز حقيقة الإيمان، وجِمَاعَ الإسلام، واستوجب الجنّة بفضل اللَّه تعالى، وكذلك الحديث الآتي في القول عند أذان المؤذّن:"رَضِيتُ باللَّه ربًّا. . . " الحديث قد تضمّن مثلَ هذا من التصريح بحقيقة الإيمان، والاعتراف بقواعده. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وإنما وُضِع الماضي موضع المستقبل؛ لتحقّق الموعود. انتهى؛ أي فهو على حدّ قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} الآية [النحل: 1]، وقوله:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية [الأعراف: 44]، والمراد أنه يدخل الجنّة دخولًا أوّليًّا، من غير سبق عذاب، وإلا فكلّ مؤمن لا بدّ له من دخولها، وإن سبقه عذاب بحسب جُرْمه إذا لم يعف اللَّه عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 253.

ص: 120

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 856](385)، و (أبو داود) في "الصلاة"(527)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(417)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1685)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 144)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 408 و 409)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(424)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(993 و 994)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(843)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة إجابة المؤذّن.

2 -

(ومنها): أن إجابته تكون إثر قول المؤذّن؛ لقوله: "فقال أحدكم" بالفاء التعقيبيّة، فلا ينبغي أن يؤخّر إجابة كلّ كلمة، بل يبادره عقبها.

3 -

(ومنها): بيان فضل الإجابة، وهو أنه سبب لدخول الجنّة.

4 -

(ومنها): الحثّ على الإخلاص؛ لقوله: "من قلبه"، فلا يحصل هذا الثواب العظيم، إلا إذا أخلص نيّته للَّه عز وجل.

5 -

(ومنها): أن إجابة الحيعلتين تكون بالحوقلة، لا بهما، وقد تقدّم تحقيق الخلاف مستوفًى، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[857]

(386) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الْحُكَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ الْحُكَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاعرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ

ص: 121

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالإِسْلَامٍ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ"، قَالَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: وَأنَا أَشْهَدُ"، وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ: "وَأَنَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7](ت 170)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(الْحُكَيْمُ

(1)

بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيُّ) المطّلبيّ، نزيل مصر، صدوقٌ [4](ت 118)(م 4) تقدم في "الطهارة" 4/ 555.

5 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنىّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

6 -

(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف صيغتي أدائهما، فالأول قال:"أخبرنا الليثٌ"؛ لكونه سمع قارئًا يقرأ عليه، والثاني قال:"حدّثنا"؛ لأنه سمعه من لفظه مع غيره، وأيضًا اختلفا في إدخال "أل" على "ليث".

2 -

(ومنها): مسلسلٌ بالمصريين، إلى عامر، وهو وأبوه مدنيّان، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل مصر.

(1)

بضمّ أوله، مصغّرًا.

ص: 122

3 -

(ومنها): رواية تابعيّ عن تابعيّ: الْحُكيم، عن عامر، ورواية الابن، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه "الْحُكيم"، بضم الحاء، وفتح الكاف، مصغّرًا، وقد تقدّم في "شرح المقدّمة" أن كلّ ما في "الصحيحين" فهو حَكِيم بالفتح، مكبّرًا، إلا اثنين:"الْحُكيم هذا، ورُزَيق بن حُكيم"؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ) شرطيّةٌ (قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ) أي يسمع قوله: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه"، هذا هو الظاهر، وقال القاري رحمه الله: قوله: "حين يسمع المؤذّن": أي صوته، أو أذانه، أو قوله، وهو الأظهر، وهو يَحْتَمِلُ أن يكون المراد به حين يسمع تشهّده الأول أو الأخير، وهو قوله آخر الأذان:"لا إله إلا اللَّه"، وهو أنسب، ويُمكن أن يكون معنى يسمع: يُجيب، فيكون صريحًا في المقصود، وأن الثواب المذكور مرَتَّبٌ على الإجابة بكمالها مع هذه الزيادة، ولأن قوله بهذه الشهادة في أثناء الأذان ربّما يفَوِّته الإجابة في بعض الكلمات الآتية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأولى والأظهر أنه يقوله حين يسمع قوله: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه"، يؤيّده روايةُ:"وأنا أشهد. . . إلخ" بالعطف؛ إذ هو معطوف على قول المؤذّن: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه"، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.

(أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وفي رواية النسائيّ: "وأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه"(وَحْدَهُ) منصوب على الحال، بتأويله بنكرة، كما قال في "الخلاصة":

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"

أي حال كونه منفردًا في ألوهيّته، وقوله:(لَا شَرِيكَ لَهُ) أي في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله (وَ) أشهد (أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ)

(1)

"المرقاة" 2/ 355.

ص: 123

قدّمه؛ إظهارًا للعبوديّة، وتواضعًا للربوبيّة (وَرَسُولُهُ) قاله تحدّثًا بالنعمة، وفيهما إشارة إلى الردّ على اليهود والنصارى حيث يعتقدون الألوهيّة لبعض الأنبياء، والإضافة فيهما للاختصاص، قال القاري: والمراد بهما الفرد الكامل الموصوف بهما (رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا) منصوب على التمييز؛ أي من حيث ربوبيّته، وجميع قضائه وقدره، وقيل: منصوب على الحال، أي حال كونه مربّيًا، ومالكًا، وسيّدًا، ومصلحًا (وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) أي بجميع ما أرسل به إلينا، وبلّغه لنا، من الأمور الاعتقاديّة وغيرها، وإعرابه كإعراب سابقه، وكذا ما بعده.

(وَبِالْإِسْلَامِ) أي بجميع أحكام الإسلام من الأوامر والنواهي (دِينًا) أي اعتقادًا، أو انقيادًا، وقال ابن الملك: جملة "رضيتُ. . . إلخ" استئنافيّة، يعني استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ما سبب شهادتك؟ فقال: "رضيت باللَّه. . . إلخ"(غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) ببناء الفعل للمفعول، وهو جواب "من" الشرطيّة، قيل: المراد به الصغائر، قيل: هو يَحْتَمِل أن يكون إخبارًا، وأن يكون دعاء، والأول هو الظاهر المعوّل عليه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "غُفر له ذنبه" ظاهره أنه يعمّ ما تقدّم وما تأخّر، وقد صرّح به في رواية أبي عوانة في "مسنده"، ولفظه:"غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، فقال له رجلٌ: يا سعد بن أبي وقّاص: ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؟ قال: هكذا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول". انتهى

(1)

.

(قَالَ) محمد (ابْنُ رُمْحٍ) شيخه الأول في هذا السند (فِي رِوَايَتِهِ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: "وَأَنَا أَشْهَدُ") أي فزاد قوله: "وأنا"(وَلَمْ يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ: "وَأَنَا") بل اقتصر على قوله: "أشهد. . . إلخ"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة"(1/ 283 - 284).

ص: 124

[تنبيه]: هذا الحديث مما استدركه الحاكم على الشيخين، فأخرجه في "مستدركه"(1/ 203) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، وهو الطريق الذي أخرجه منه مسلم، وهذا عجيبٌ، وأعجب منه تقرير الذهبيّ له على ذلك

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 857](386)، و (أبو داود) في "الصلاة"(525)، و (الترمذيّ) فيها (210)، و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 26)، وفي "عمل اليوم والليلة"(73)، و (ابن ماجه) في "الأذان"(721)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 226)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(422)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1693)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 145)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 410)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(995 و 996)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(844)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(8) - (بَابُ فَضْلِ الأَذَانِ، وَبَيَانِ هَرَبِ

(2)

الشَّيْطَانِ عِنْدَ سَمَاعِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[858]

(387) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُوهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

(1)

راجع: "المرعاة" 2/ 368.

(2)

بفتحتين، من باب طلب، ويقال أيضًا: هُرُوبًا، من باب قعد، أفاده في "المصباح" 2/ 637.

ص: 125

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدَةُ) بن سُليمان الكِلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

3 -

(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن طلحة بن عُبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6].

رَوَى عن أبيه، وأعمامه، وابني عميه: إبراهيم بن محمد بن طلحة، ومعاوية بن إسحاق بن طلحة، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، ومجاهد بن جبر، وغيرهم.

ورَوَى عنه السفيانان، وعبد اللَّه بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، وشريك، وأبو أسامة، وعبدة بن سليمان، ويحيى القطان، ووكيع، وغيرهم.

قال علي ابن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان: لم يكن بالقوي، وعمر بن عثمان أحب إلي منه. وقال أحمد: صالح الحديث، وهو أحب إلي من بريد بن أبي بردة، بُريد له أحاديث مناكير، وطلحة إنما أنكر عليه حديث:"عصفور من عصافير الجنة". وقال ابن معين: ثقة، وقَدّمه على أخيه إسحاق. وقال يعقوب بن شيبة، والعجلي: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال أبو زرعة، والنسائي: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، حسن الحديث، صحيح الحديث. وقال صالح بن أحمد عن أبيه، والحاكم، عن الدارقطني: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة أيضًا: لا بأس به، في حديثه لين. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وأمه أم أبان بنت أبي موسى الأشعري. وقال الساجيّ: صدوق، لم يكن بالقوي. وقال ابن عدي: رَوَى عنه الثقات، وما برواياته عندي بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يُخطئ.

وقال ابن معين: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. وقال ابن حبان: مات سنة (6)، قال: وقد قيل: إنه رأى ابن عمر، وليس عليه اعتماد. وقال

ص: 126

الفلاس: وُلد سنة (61) هو، والأعمش، وهشام بن عروة، وعمر بن عبد العزيز.

أخرج له الجماعة سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم (387) و (514) و (793) و (1154) وأعاده بعده، و (2154) و (2452) و (2662) و (2767).

4 -

(عَمُّهُ) هو: عيسى بن طلحة بن عبيد اللَّه التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 8/ 570.

5 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صَخْر بن حَرْب بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن الأموي، أسلم يوم الفتح، وقيل قبل ذلك، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وأخته أم حبيبة.

ورَوَى عنه جرير بن عبد اللَّه البجلي، والسائب بن يزيد الكندي، وابن عباس، ومعاوية بن حُدَيج، ويزيد بن جارية، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وأبو إدريس الخولاني، وسعيد بن المسيب، وقيس بن أبي حازم، وعيسى بن طلحة، وأبو مِجْلَز، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جبير بن مطعم، وآخرون.

وَلَّاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد، فأقرّه عثمان مدة ولايته، ثم ولي الخلافة، قال ابن إسحاق: كان معاوية أميرًا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وقال يحيى بن بكير عن الليث: تُوفّي في رجب لأربع ليال بقين منه سنة ستين، وقال الوليد بن مسلم: مات في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة ونصفًا، وقيل: مات سنة تسع وخمسين، وقيل: مات وهو ابن ثمان وسبعين. وقيل: ابن ست وثمانين.

أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (130) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بخمسة، وله في هذا الكتاب ستة عشر حديثًا

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وهذا هو الذي أثبته في برنامج الحديث أن له في "صحيح مسلم"(16) حديثًا، وهو مخالف لما قبله، والظاهر أن هذا الاختلاف لأجل التكرار، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 127

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى طلحة، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى طلحة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ) عيسى بن طلحة الآتي في السند التالي، أنه (قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما (فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُوهُ إِلَى الصَّلَاةِ) أي طلب منه الإقبال إليها، يقال: دعوت زيدًا: إذا ناديته، وطلبت إقباله، ودعا المؤذّن الناس إلى الصلاة، فهو داعي اللَّه، والجمع دُعاةٌ، وداعون، مثل: قاضٍ، وقُضاةٍ، وقاضين

(1)

. (فَقَالَ مُعَاوِيَةُ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا) منصوب على التمييز، وهو بفتح الهمزة: جمع عُنُق، بضمّتين.

[تنبيه]: اختُلِف في معنى "أعناقًا" على أقوال:

فقيل: معناه أكثر الناس تَشَوُّفًا إلى رحمة اللَّه تعالى؛ لأن المتشوِّف يُطيل عنقه إلى ما يتطلع إليه، فمعناه كثرةُ ما يرونه من الثواب.

وقال النضر بن شُمَيل: إذا أَلْجم الناسَ العرقُ يوم القيامة طالت أعناقهم؛ لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق.

وقيل: معناه أنهم سادة ورؤساء، والعرب تَصِفُ السادة بطول العنق، قال الشاعر [من البسيط]:

يُشَبِّهُونَ سُيُوفًا فِي صَرَائِمِهِمْ

وَعُولِ أَنْصِبَةِ الأَعْنَاقِ وَاللِّمَمِ

وقيل: معناه: أكثر أتباعًا، وقال ابن الأعرابيّ: معناه: أكثر الناس أعمالًا، وفي الحديث:"يَخْرُجُ من النار عُنُقٌ. . . "

(2)

، ويقال: لفلان عُنُقٌ من الخير؛ أي قِطعة منه.

(1)

راجع: "المصباح" 1/ 194.

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد، والترمذيّ، ولفظه: "يخرج عُنُقٌ من النار يوم القيامة، له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان يَنطِق يقول: إني وُكِّلتُ بثلاثة: =

ص: 128

قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم إِعناقًا بكسر الهمزة: أي إسراعًا إلى الجنة، وهو من سَيْر الْعَنَق، و"الْعَنَق" بفتح العين والنون: ضَرْبٌ من السير، ومنه حديث:"لا يزال الرجل مُعْنِقًا ما لم يُصِب دمًا حَرَامًا"

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال البغويّ في "شرح السنّة": قال ابن الأعرابيّ: معناه: أكثرهم أعمالًا يقال: لفلان عُنُقٌ من الخير، أي قطعة، وقال غيره: أكثرهم رجاءً؛ لأن من رجا شيئًا طال إليه عُنُقه، فالناس يكونون في الكرب، وهم في الرَّوح يَشْرَئِبُّون لهم في دخول الجنّة، وقيل: معناه الدنوّ من اللَّه عز وجل، وقيل: أراد أنه لا يُلجمهم الْعَرَق، فإن الناس يوم القيامة يكونون في الْعَرَق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى كعبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حِقْويه، ومنهم من يُلْجِمه العَرَقُ، وقيل: معناه أنهم يكونون رؤوسًا يومئذ، والعرب تصف السادة بطول العنق، وقيل: الأعناق: الجماعات، يقال: جاءني عُنُق من الناس؛ أي جماعة، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]؛ أي جماعاتهم، ولذلك لم يَقُل: خاضعات، ومعنى الحديث: أن جمع المؤذّنين يكونون أكثر، فإن من أجاب دعوته يكون معه. انتهى كلام البغويّ رحمه الله

(3)

.

وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": العرب تصف باذلَ الشيء الكثير بطول اليد، ومتأمّل الشيء الكثير بطول العنق، فقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤذّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة" يريد أطولهم أعناقًا لتأمّل الثواب، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لنسائه:"أسرعكنّ بي لُحوقًا أطولكنّ يدًا"، أراد كثرة الصدقة، فكانت زينب أولهنّ لُحوقًا به صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت كثيرة الصدقة، وليس يريد بقوله هذا أن

= بكل جبار عَنِيد، وبكل مَن دعا مع اللَّه إلهًا آخر، وبالمصورين".

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"(4270).

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 91 - 92، و"المفهم" 2/ 15.

(3)

"شرح السنّة" 2/ 277 - 278.

ص: 129

المؤذّنين هم أكثر الناس تأمّلًا للثواب في القيامة، بل هذا مما حُذفت كلمة "من"، أي من أطولهم أعناقًا، فحُذفت "من"، ونظائر هذا في الكلام كثيرة. انتهى بتصرّف واختصار

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أقرب المعاني هو الأول، وهو أنه كناية عن كونهم أكثر الناس تَشَوُّفًا إلى رحمة اللَّه تعالى؛ لأن المتشوِّف يُطِيل عنقه إلى ما يتطلع إليه، فمعناه كثرةُ ما يرونه من الثواب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") ظرف لـ "أطول"، وخصّه لأنه يوم استيفاء الجزاء، كما قال عز وجل:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 185]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 858 و 859](387)، و (ابن ماجه) في "الأذان"(725)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1862)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 225)، و (أحمد)(4/ 95 - 98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1669)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 432)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 736)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(415)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(971 و 972 و 973)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(845 و 846)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 557 - 558.

ص: 130

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[859]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو عَامِرِ) عبد الملك بن عَمْرو الْقَيسيّ الْعَقَديّ البصريّ، ثقة [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبتٌ إمام حجة، من رءوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[860]

(388) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ، حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ"، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّوْحَاءِ؟ فَقَالَ: هِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ سِتَةٌ وَثَلَاثُونَ مِيلًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239) عن (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

ص: 131

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ورعٌ، لكنه يدلّس (5)(ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

6 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

7 -

(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والإخبار، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال إسحاق. . . إلخ" وذلك لبيان اختلاف شيوخه في صيغ الأداء؛ لاختلاف كيفيّة تحمّلهم، فإسحاق قال:"أخبرنا" حيث سمعه بقراءة القارئ على جرير، وقال قتيبة، وعثمان:"حدّثنا"؛ لكونهما سمعاه من لفظه، وقوله:"جرير" مرفوع على الفاعليّة، تنازعه "أخبرنا"، و"حدّثنا".

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي سفيان.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) أي الأذان والإقامة، كما يأتي مفسّرًا في الحديث التالي (ذَهَبَ) أي ولّى مدبرًا (حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ") بفتح الراء، وسكون الواو، بعدها حاء مهملة ممدودة (قَالَ سُلَيْمَانُ) هو الأعمش (فَسَأَلْتُهُ)

ص: 132

أي أبا سفيان (عَنِ الرَّوْحَاءِ؟) أي مقدار بُعد الرَّوْحاء من المدينة (فَقَالَ: هِيَ) أي الروحاء (مِنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِيلًا) هكذا رواية المصنّف، وابن خزيمة، ووقع عند ابن حبّان في "صحيحه"

(1)

: "هي من المدينة على سبعة وثلاثين ميلًا"، ووقع في "مصنّف ابن أبي شيبة، ومسند أحمد"، و"مستخرجي أبي عوانة

(2)

، وأبي نعيم"

(3)

بلفظ: "وهي من المدينة ثلاثون ميلًا".

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْمِيل" بالكسر عند العرب مقدار مَدَى البصر من الأرض، قاله الأزهريّ، وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، وعند الْمُحْدَثين أربعة آلاف ذراع، والخلاف لفظيّ؛ لأنهم اتّفقوا على أن مقداره ستّ وتسعون ألف إِصْبَع، والإصبَعُ ستّ شُعَيرات، بطنُ كلِّ واحدة إلى الأخرى، ولكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون إِصْبعًا، والْمُحْدَثون يقولون: أربع وعشرون إصبَعًا، فإذا قُسِم الميل على رأي القدماء كلّ ذراع اثنين وثلاثين كان المتحَصِّل ثلاثة آلاف ذراع، وإن قُسِم على رأي الْمُحْدَثين أربعًا وعشرين كان المتحصِّل أربعة آلاف ذراع.

و"الْفَرْسَخ" عند الكلّ ثلاثة أميال، وإذا قُدِّر الميل بالْغَلَوات، وكانت كلُّ غَلْوَةٍ أربعمائة ذراع، كان ثلاثين غَلْوَةً، وإن كان كلُّ غَلْوة مائتي ذراع كان ستّين غَلْوةً.

ويقال للأعلام الْمَبنيّة في طريق مكّة: أميالٌ؛ لأنها بُنِيت على مقادير مَدَى البصر من الميل إلى الميل، وإنما أُضيف إلى بني هاشم، فقيل: الميل الهاشميّ؛ لأن بني هاشم حدَّدوه، وأعلموه. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(4)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 549 رقم (1664).

(2)

"مسند أبي عوانة" 1/ 278 رقم (974).

(3)

"المستخرج" 2/ 9 رقم (847).

(4)

"المصباح المنير" 2/ 588.

ص: 133

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 860 و 861](388)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 228 - 229)، و (أحمد) في "مسنده"(316 و 336)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(393)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1664)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1895)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(974)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(847)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 432)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(414)، وفوائده تأتي قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[861]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمّد بن أبي شيبة، الكوفيّ، أخو عثمان المذكور في السند الماضي، ثقة حافظ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش الماضي، وهو: عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية هذه أخرجها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"(1/ 207)، فقال:

(2373)

حدثنا أبو بكر

(2)

، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا" دون "هاء".

(2)

هو ابن أبي شيبة، والقائل:"حدثنا" أبو بكر تلميذه.

ص: 134

سفيان، عن جابر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا نادى المؤذِّن هَرَب الشيطان، حتى يكون بالرَّوحاء، وهي ثلاثون ميلًا من المدينة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[862]

(389) - (حَدَّثنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَحَالَ لَهُ ضُرَاطٌ

(2)

، حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ، فَوَسْوَسَ، فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا سَكَتَ، رَجَعَ فَوَسْوَسَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا قبل سند.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: زُهير، فما أخرج له الترمذيّ، وإسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا" بالواو.

(2)

وفي نسخة: "وله ضراط" بالواو.

ص: 135

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ)"أل" فيه للعهد، والمراد شيطان الجنّ (إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) أي إذا أذِّن لأجل الصلاة (أَحَالَ) أي ذهب وولّى هاربًا، قال ابن الأثير رحمه الله: معنى أحال: تحوّل من موضعه، وقيل: هو بمعنى طَفِقَ، وأخذ، وتهيّأ لفعله. انتهى. (لَهُ ضُرَاطٌ) وفي نسخة:"وله ضراط" بالواو، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، و"الضُّرَاط" بالضمّ: اسم من ضَرِط يَضْرِطُ، من بابي تَعِبَ، وضَرَبَ، ضَرِطًا، مثل: كَتِفٍ، وفَخِذٍ

(1)

، وهو ريحٌ له صوتٌ، يخرُج من دُبُر الإنسان وغيره

(2)

. (حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ) علّة للضراط، أي إنما يفعل ذلك؛ ليشغل نفسه عن سماع الأذان؛ لئلا يشهد للمؤذّن يوم القيامة (فَإِدا سَكَتَ) أي المؤذّن عن أذانه بانتهائه منه (رَجَعَ) أي الشيطان (فَوَسْوَسَ) أي حدّثه بما لا ينفعه، قال في "القاموس":"الْوَسواس": الشيطان، و"الوسوسةُ": حديث الشيطانِ بما لا نفع فيه، ولا خير؛ كالوِسواس بالكسر، والاسم بالفتح، وقد وَسْوَس له، وإليه. انتهى

(3)

.

وقال في "المصباح": "الْوَسْوَاسُ": بالفتح اسم، من وَسْوسَت إليه نفسه: إذا حدّثته، وبالكسر مصدرٌ، وَوَسْوَسَ متعدّ بـ "إلى"، وقوله تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] اللام بمعنى "إلى"، فإن بُني للمفعول قيل: مُوَسْوَسٌ إليه، مثل {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، و"الوَسْوَاس" بالفتح مرضٌ يَحْدُثُ من غلبة السَّوْداء، يَختلِط معه الذهن، ويقال لما يَخْطُرُ بالقلب من شَرّ، ولما لا خير فيه: وَسْوَاسٌ. انتهى

(4)

.

(فَإِذَا سَمِعَ) الشيطان (الْإِقَامَةَ ذَهَبَ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ) الضمير للمقيم المفهوم من "الإقامة"، أي لئلا يسمع صوت المقيم (فَإِذَا سَكَتَ) المقيم عن الإقامة بانتهائه منها (رَجَعَ) الشيطان (فَوَسْوَسَ") وفي الرواية الآتية: "حتى

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 361.

(2)

"المنهل العذب المورود" 4/ 175.

(3)

"القاموس المحيط" 2/ 257.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 658.

ص: 136

يخطر بين المرء ونفسه، يقول له: اذكر كذا، واذكر كذا لِما لم يكن يذكر من قبلُ حتى يظلّ الرجل ما يدري كم صلَّى؟ "، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه، وستأتي مسائله بعد حديثين -إن شاء اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[863]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ حُصَاصٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ) أبو الحسن الْعَسْكريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م د ق) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الْمُزنيّ مولاهم الطحّان الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) هو أبو صالح المذكور في السند الماضي.

وقوله: (وَلَهُ حُصَاصٌ) بضمّ الحاء المهملة، وصادين مهملتين: أي ضُراط كما الرواية السابقة، وقيل: الْحُصَاص شدّة العدو، قالهما أبو عبيدة، والأئمة من بعده، وتمام شرح الحديث، ومسائله ستأتي بعد حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني" بلا عاطف.

ص: 137

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[864]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ- حَدَّثنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: أَرْسَلَني أَبِي إِلَى بَني حَارِثَةَ، قَالَ: وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا، أَوْ صَاحِبٌ لَنَا، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الْحَائِطِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي، فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّكَ تَلْقَ هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا، فَنَادِ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ، وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيْشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ بْنَ زُريعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبتٌ [8](182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(رَوْح) بن القاسم التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سُهَيْل) بن أبي صالح، أنه (قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ) بالحاء المهملة: قبيلة من الأنصار (قَالَ: وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا) جملة في محلّ نصب على الحال، والغلام: الابن الصغير، وجمع القلّة غِلْمَةٌ بالكسر، وجمع الكثرة

ص: 138

غِلْمان، ويُطلق الغلام على الرجل مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخ باعتبار ما يئول إليه

(1)

، (أَوْ صَاحِبٌ لَنَا)"أو" للشكّ من الراوي (فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ) أي داخل بستان (بِاسْمِهِ، قَالَ) سهيل (وَأَشْرَفَ) بالهمز، يقال: أشرف على الشيء: إذا اطَّلَع عليه (الَّذِي مَعِي) في محلّ رفع على الفاعليّة (عَلَى الْحَائِطِ) أي ليتعرّف على الذي ناداه (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي) أي ذكرت ما وقع لذلك الغلام من ندائه من الحائط (فَقَالَ) أبوه (لَوْ شَعَرْتُ) بفتح العين المهملة، وضمّها، يقال: شَعَرتُ بالشيء؛ كنصَرَ، وكَرُمَ شِعْرًا، وشَعْرًا، وشِعْرةً مثلَّثةً، وشُعُورًا، إذا عَلِمَ به، وفَطِنَ له، وعَقَلَه

(2)

. (أنَّكَ تَلْقَ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، مضارع لَقِيه، من باب تَعِبَ، لُقِيًّا على فُعُول، ولُقًى بالضمّ، مع القصر، ولِقَاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استقبل شيئًا أو صادفه، فقد لَقِيهُ

(3)

، وقوله:(هَذَا) مفعول به لـ "تَلْقَ"، وهو إشارة إلى ما وقع له من مناداة صاحبه من الحائط (لَمْ أُرْسِلْكَ) أي خوفًا عليك أن تُصاب بمرض بسبب الفزع من سماع الصوت (وَلَكِنْ إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا) أي دون أن ترى صاحبه (فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) أي لكونه من الشيطان (فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ) أي أُذِّن بها (وَلَّى) بتشديد اللام، من التولِّي، وهو الإدبار، والهُرُوب (وَلَهُ حُصَاصٌ") جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، و"الْحُصَاصُ"، كالضُّرَاط وزنًا ومعنى، وقال في "القاموس": الْحُصَاص بالضمّ: أن يُصِرَّ الحمار بأذُنيه، ويَمْصَعَ بذنبه، والضُّرَاطُ، وشِدّةُ الْعَدْوِ. انتهى

(4)

. وتمام شرح الحديث ومسائله تأتي في الحديث التالي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[865]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نُودِيَ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 452.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 59.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 558.

(4)

"القاموس" 2/ 298.

ص: 139

لِلصَّلَاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ

(1)

، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا، وَاذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي

(2)

كَمْ صَلَّى؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ)

(3)

هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام المدنيّ، نزيل عَسْقلان، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان الْقُرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا، إلا أنه دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبو الزناد، عن الأعرج.

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله، وقد أشار إليه السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

(1)

وفي نسخة: "وله ضُراطٌ" بالواو.

(2)

وفي نسخة: "لا يدري".

(3)

بكسر الحاء المهملة، بعدها زاي.

ص: 140

وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ

سَعِيدٍ أوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ

عَنْ أَعْرَجٍ وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا

أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَا

6 -

(ومنها): أن أبا الزناد لقبٌ بصورة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، كما مرّ آنفًا.

7 -

(ومنها): أن صحابيّه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي أُذّن لأجل الصلاة، وفي الرواية الماضية:"بالصلاة" بالباء، قال في "الفتح": ويمكن حملهما على معنى واحد

(1)

، وقال في "العمدة": تكون الباء للسببيّة، كما في قوله تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، أي بسبب ذنبه، وكذلك المعنى هنا بسبب الصلاة، ومعنى التعليل قريب من معنى السبب. انتهى

(2)

.

وقال العراقيّ رحمه الله: "النداء" بكسر النون وضمها، لغتان، الأولى أشهر وأفصح، وهو الأذان وقوله:"للصلاة"، و"بالصلاة"، كلاهما صحيح، يقال: نودي للصلاة، وبالصلاة، وإلى الصلاة، قال اللَّه تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، وقال تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]. انتهى

(3)

.

(أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) الإدبار: نقيض الإقبال، يقال: دَبَرَ الرجلُ، وأدبر: إذا ولَّى، أَفاده في "القاموس"

(4)

، وفي "المصباح": أدبر الرجل: إذا ولَّى، أي صار ذا دُبُرٍ، ودَبَرَ النهارُ دُبُورًا، من باب قَعَدَ: إذا انصَرَمَ، وأدبر بالألف مثلُهُ، ودَبَرَ السهم دُبُورًا، من باب قَعَدَ أيضًا: خَرَج من الْهَدَف، فهو دابر. انتهى

(5)

.

وقال العراقيّ رحمه الله: الظاهر أن المراد هنا جنس الشيطان، فلا يختص

(1)

"الفتح" 2/ 101.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 163.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 197.

(4)

راجع: "القاموس" 2/ 26.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 189.

ص: 141

ذلك بواحد من الشياطين دون واحد، والشيطانُ كلُّ عات مُتَمرِّد، سواء كان من الجنّ أو الإنس، أو الدوابّ، لكن المراد هنا شياطين الجنّ خاصةً، ويحتمل أن يختص ذلك بالشيطان الأكبر، وهو إبليس لعنه اللَّه. انتهى

(1)

.

(لَهُ ضُرَاطٌ) جملة اسمية وقعت حالًا بدون واو، ووقع في بعض النسخ:"وله ضراط" بالواو، والجملة الحاليّة تُربط بالضمير، أو بالواو، أو بهما، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" مبيّنًا ذلك:

وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ

كَـ "جَاءَ زَيْدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ"

وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ

حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا

لَهُ الْمُضَارِعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا

وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا

بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا

قال القاضي عياض رحمه الله: يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه جسم مُتَغَذّ يصح منه خروج الريح، ويَحْتَمِل أنها عبارة عن شِدّة نِفَاره، ويقويه رواية مسلم المتقدّمة:"له حُصَاص" بمهملات مضموم الأول، فقد فسره الأصمعي وغيره بشدة العدو.

وقال الطيبيّ رحمه الله: شَبَّهَ شَغْلَ الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يَملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضُرَاطًا؛ تقبيحًا له. انتهى

(2)

.

وقال العراقيّ رحمه الله: ويَحْتمل أنها عبارة عن الاستخفاف. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الاحتمالات التي ذكروها من حمل الضُّرَاط هنا على التشبيه أو غيره، غير صحيحة، والصواب أنه على الحقيقة، كما هو الاحتمال الذي ذكره عياض أوّلًا، فأيّ مانع منع من ذلك، وأيُّ داع إلى صرف ظاهر النصّ عنه، وما ذكره في "الفتح" من تقوية رواية مسلم:"وله حُصَاص" ليس كما قال؛ لأن أهل اللغة فسّروا الْحُصَاص بالضُّراط، فهما بمعنى، وتفسير الأصمعي، لا ينافيه؛ لأنه يعدو مع ضُراطه، فهو مما يقوّي

(1)

"طرح التثريب" 2/ 203.

(2)

"الفتح" 2/ 85.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 202.

ص: 142

الظاهر، لا خلافه، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) علّة للضُّرَاط، إنما يفعل ذلك؛ ليَشْغَلَ نفسه عن سماع الأذان؛ لئلا يشهد للمؤذّن يوم القيامة؛ لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يسمع مَدَى صوت المؤذن جنّ، ولا إنسٌ، ولا شيءٌ إلا شَهِدَ له يوم القيامة"، قال أبو سعيد: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقيل: "حتى" غاية لإدباره، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما لِيَشْتَغِل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا، كما يفعله السفهاء، ويَحْتَمِل أن لا يتعمد ذلك، بل يحصل له عند سماع الأذان شدّة خوف، يَحْدُثُ له ذلك الصوتُ بسببها، ويَحْتَمِل أن يتعمد ذلك؛ ليقابل ما يناسب الصلاة، من الطهارة بالحدث. انتهى

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: كُرّرت "حتى" في هذا الحديث خمس مرّات؛ أولاهنّ، والرابعة، والخامسة بمعنى "كي"، والثانية، والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيّتين، وليستا للتعليل. انتهى

(3)

.

(فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ) ببناء الفعل للمفعول، و"التأذين" بالرفع نائب فاعله، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى المنادي المدلول عليه بـ "نُودي"، و"التأذينَ" منصوب على المفعوليّة.

والقضاء يأتي لمعانٍ كثيرةٍ، وهو هنا بمعنى الفراغ، تقول: قَضَيْتُ حاجتي: أي فَرَغْتُ منها، أو بمعنى الانتهاء، قاله في "العمدة"

(4)

.

وقال في "الفتح": واستُدِلَّ به على أنه كان بين الأذان والإقامة فَصْلٌ،

(1)

"عمدة القاري" 5/ 163 - 164.

(2)

"الفتح" 2/ 102.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 910.

(4)

"عمدة القاري" 5/ 164.

ص: 143

خلافًا لمن شَرَط في إدراك فضيلة أول الوقت أن يَنطبِق أول التكبير على أول الوقت. انتهى

(1)

.

(أَقْبَلَ) أي جاء الشيطان، فوسوس، كما تقدّم في الرواية السابقة (حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) أي أُقيم لها، ففي الرواية السابقة:"فإذا سمع الإقامة".

قال العراقيّ رحمه الله: "التثويب" بالتاء المثناة، ثم المثلثة، المراد به ههنا إقامة الصلاة، ويدلّ لذلك قوله في رواية لمسلم:"فإذا سمع الإقامة"، ولا يمكن أن يكون المراد بالتثويب هنا قول المؤذن:"الصلاة خير من النوم" مرتين، وإن كان يُسَمَّى تثويبًا؛ لأمرين:

[أحدهما]: أن هذا خاصّ بأذان الصبح، والحديث عامّ في كل أذان.

[والثاني]: أن الحديث دلّ على أن هذا التثويب يتخلل بينه وبين الأذان فصلٌ، يَحْضُر فيه الشيطان، والتثويب الذي في الصبح لا فصل بينه وبين الأذان، بل هو في أثنائه.

وأصل التثويب أن يجيء الرجل مُسْتصرِخًا، فَيُلَوِّح بثوبه؛ لِيُرَى ويشتهر، فسُمِّي الدعاء تثويبًا لذلك، وكل داع مُثَوِّب، وقيل: إنما سُمِّي تثويبًا، من ثاب يثوب: إذا رَجَعَ، فالمؤذن رجع بالإقامة إلى الدعاء للصلاة، قال عبد المطلب بن هاشم، وهو بالمدينة عند أخواله بني النجّار [من الوافر]:

فَحَنَّتْ نَاقَتِي فَعَلِمْتُ أَنِّي

غَرِيبٌ حِينَ ثَابَ إِلَيَّ عَقْلِي

وقال غيره [من الخفيف]:

لَوْ رَأَيْنَا التَّأْكِيدَ خُطَّةَ عَجْزٍ

مَا شَفَعْنَا الأَذَانَ بِالتَّثْوِيبِ

(2)

قال ابن عبد البر رحمه الله: لفظ التثويب مأخوذ من ثاب الشيءُ يثوب: إذا رجع، كأن المقيم للصلاة عاد إلى معنى الأذان، فأَتَى به، ويقال: ثَوَّبَ الداعي: إذا كَرَّر دعاءه إلى الحرب، قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه[البسيط]:

فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ أَوْجُهُهُمْ

لَا يَنْكُلُونَ إِذَا مَا ثَوَّبَ الدَّاعِي

وقال حُذيفة في معناه [من الوافر]:

(1)

"الفتح" 2/ 102.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 197 - 198.

ص: 144

لَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ

إِذَا الدَّاعِي الْمُثَوِّبُ قَالَ يَا لَا

ويقال: ثاب إلى الرجل عقله، وثاب إلى المريض جسمه: أي عاد إلى حاله. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إذا ثُوِّبَ" بضم المثلثة، وتشديد الواو المكسورة، قيل: هو من ثاب: إذا رَجَع، وقيل: من ثَوَّب: إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإقامة، وبذلك جزم أبو عوانة في "صحيحه"، والخطابيّ، والبيهقيّ، وغيرهم، قال القرطبيّ: ثُوِّب بالصلاة: إذا أقيمت، وأصله أنه رَجَع إلى ما يُشْبِه الأذان، وكلُّ مَن رَدَّد صوتًا فهو مثوب، ويدلّ عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فإذا سمع الإقامة ذهب".

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، وحَكَى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وزعم أنه تفرد به، لكن في "سنن أبي داود" عن ابن عمر أنه كَرِه التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدلّ على أن له سلفًا في الجملة، ويَحْتَمِل أن يكون الذي تفرد به القول الخاصّ.

وقال الخطابيّ: لا يَعْرِف العامة التثويب إلا قول المؤذن في الأذان: "الصلاةُ خير من النوم"، لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة، واللَّه أعلم. انتهى.

(أَدْبَرَ) أي ذهب الشيطان؛ لئلا يسمع الإقامة (حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ) وفي الرواية السابقة: "فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع، فوسوس"(حَتَّى يَخْطِرَ) بضم الطاء، قال عياض: كذا سمعناه من أكثر الرواة، وضبطناه عن الْمُتْقِنين بالكسر، وهو الوجه، ومعناه: يوسوس، وأصله من خَطَرَ البعير بذنبه: إذا حَرَّكه، فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن السلوك والمرور: أي يَدْنُوَ منه، فيمر بينه وبين قلبه، فَيَشْغَله عما هو فيه، وبهذا

(1)

"الاستذكار" 4/ 52 - 53.

ص: 145

فسّره الشارحون لـ "الموطّأ"، فقال الباجيّ: معناه: أنه يحول بين المرء وبين ما يريد من نفسه، من إقباله على صلاته، وإخلاصه، وبالأول فسّره الخليل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وضَعَّف الحجري في "نوادره" الضم مطلقًا، وقال: هو يَخْطِر بالكسر في كل شيء. انتهى

(2)

.

(بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه، يعني أنه يحول بينه وبين الإقبال على الصلاة، والإخلاص فيها، وقال في "العمدة": وبهذا التفسير -يعني تفسير النفس بالقلب- يحصل الجواب عما قيل: كيف يُتصوّر خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ وقد يُجاب بأن يكون تمثيلًا لغاية قربه منه. انتهى

(3)

.

[فائدة]: "المرء": الإنسان، وفيه سبع لغات: فتح الميم، وضمها، وكسرها، وتَغَيُّرها باعتبار إعراب اللفظة، فإن كانت مرفوعة فالميم مضمومة، وإن كانت منصوبة فالميم مفتوحة، وإن كانت مجرورة فالميم مكسورة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، امرؤ بزيادة همزة الوصل مع ضم الراء في سائر الأحوال، ومع فتحها في سائر الأحوال، ومع تغيرها باعتبار حركات الإعراب، حكاهن في "الصحاح"، إلا اللغة الثالثة والرابعة، فحكاهما في "المحكم"، وأنشد قول أبي خِرَاش [من الطويل]:

جَمَعْتُ أُمُورًا يُنْفِذُ الْمِرْأَ بَعْضُهَا

مِنَ الْحِلْمِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَبِ الضَّخْمِ

وقال: هكذا رواه السكّريّ بكسر الميم، وزعم أن ذلك لغة هُذَيل. انتهى.

ويُثَنَّى، فيقال: المرءان، ولا جمع له من لفظه، كما ذكره صاحبا "الصحاح"، و"المحكم"، وقال في "المشارق": والجمع مَرْءُون، ومنه في الحديث:"أيها المرءون"، وذكر صاحب "النهاية" تبعًا للهرويّ حديثَ الحسن:"أحسنوا ملأكم أيها المرءون"، وقال: هو جمع المرء، قال: ومنه قول رؤبة

(1)

"طرح التثريب" 2/ 198.

(2)

"الفتح" 2/ 102.

(3)

"عمدة القاري" 5/ 112.

ص: 146

لطائفة رآهم: أين يريد المرءون؟ قال في "الصحاح": وبعضهم يقول: هذه مرأة صالحةٌ، ومَرَةٌ أيضًا بترك الهمز، وتحريك الراء بحركتها، وهذه امرَأة مفتوحة الراء على كل حال. انتهى

(1)

.

(يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا، وَاذْكُرْ كَذَا) هكذا الرواية هنا بالعطف مكرّرًا، وكذا في رواية للبخاريّ، ووقع في رواية له:"اذكر كذا، اذكر كذا" بدون عطف، وسيأتي للمصنّف في "أبواب السهو" من طريق عبد ربّه بن سعيد، عن الأعرج زيادة:"فَهَنّاه، ومنّاه، وذكّره من حاجته ما لم يذكر"(لِمَا) بكسر اللام، و"ما" موصولة، والجارّ والمجرور متعلّق بـ "اذكُر" على سبيل التنازع، وقوله:(لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) صلة "ما"، و"يذكُر" مبنيّ للفاعل، أي للأمر الذي نسيه المصلّي (مِنْ قَبْلُ) بالبناء على الضم؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي من قبل دخوله في الصلاة.

قال في "الفتح": ومن ثَمّ استنبط أبو حنيفة رحمه الله للذي شكا إليه أنه دَفَنَ مالًا، ثم لم يَهتد لمكانه أن يُصلّي، ويَحرص أن لا يُحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا، ففعل، فذكر مكان المال في الحال.

قيل: خَصَّه بما يَعْلَم دون ما لا يَعْلَم؛ لأنه يميل لما يَعْلَم أكثر؛ لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه لأعمّ من ذلك، فيُذَكِّرُهُ بما سَبَق له به عِلْمٌ؛ ليشتغل باله به، وبما لم يكن سبق له؛ ليوقعه في الفِكْرة فيه، وهذا أعمّ من أن يكون في أمور الدنيا، أو في أمور الدين؛ كالعلم، لكن هل يَشْمَل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك؛ لأن غرضه نقص خشوعه، وإخلاصه بأيّ وجهٍ كان. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا جعل في "الفتح" التفكّر في معاني الآيات التي يقرؤها، ونحو ذلك من هذا القسم الذي هو من وسوسة الشيطان، وفيه نظر لا يخفى، فكيف يُعدّ هذا منه، وهو من روح الصلاة، ومن مقصدها الأعظم؟ لأن ذلك هو الذي يَحمله على الخشوع والخضوع والإخلاص، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن من الغافلين، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 198 - 199، وقد أطال البحث في هذا في "لسان العرب"، فراجعه في مادّة "مرئ".

ص: 147

(حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) كذا للجمهور بالظاء المشالة المفتوحة، يقال: ظلّ الرجل يفعل كذا يَظَلّ، من باب تَعِبَ ظُلُولًا: إذا فعله نَهارًا، قال الخليل: لا تقول العرب: ظلّ، إلا لعمل يكون بالنهار، قاله الفيّوميّ

(1)

.

ومعنى "يَظَلّ" في الأصل اتِّصاف الْمُخْبَر عنه بالخبر نهارًا، لكنها هنا بمعنى يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58]، وقيل: بمعنى يبقى، ويدوم.

ووقع عند الأصيلي في "صحيح البخاري": "يَضِلّ" بكسر الضاد المعجمة، من باب ضرب، من الضلال؛ أي يَنْسَى، ومنه قوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]، أو بفتحها، من باب تَعِبَ: أي يُخطئ، ومنه قوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، والمشهور الأول، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال العراقيّ رحمه الله في "شرح التقريب": المشهور في الرواية: "حتى يَظلّ الرجل إن يدري كم صلَّى؟ "، بفتح الظاء من "يَظَلّ"، وكسر "إن"، فـ "يَظَلّ" إحدى نواسخ الابتداء، ترفع الاسم، وتنصب الخبر.

ومعناها في الأصل اتصاف الْمُخْبَر عنه بالخبر نهارًا، وهي هنا بمعنى يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} الآية [النحل: 58]، وقيل: بمعنى يبقى ويدوم، و"إِنْ" نافيةٌ، ويدلّ على ذلك قوله في رواية البخاريّ:"لا يَدْرِي"، وفي رواية مسلم:"ما يدري"، والثلاثة حروف نفي.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: الرواية في "أَنْ" ههنا عند أكثرهم بالفتح، فيكون حينئذ بمعنى لا يدري، وكذلك رواه جماعة عن مالك بهذا اللفظ:"حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى؟ "، بكسر الهمزة، فمعناه: ما يدري كم صلى؟، و"إن" بمعنى "ما" كثير، وقيل. يظلّ ها هنا بمعنى يبقى لا يدري كم صلّى؟، وأنشدوا [من الطويل]:

ظَلِلْتُ رِدَائِي فَوْقَ رَأْسِيَ قَاعِدَا

أَعُدُّ الْحَصَى مَا تَنْقَضِي عَبَرَاتِي

انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 386.

(2)

2/ 103.

(3)

"الاستذكار" 4/ 53.

ص: 148

واعترضه بعضهم فيما قاله في "أن" المفتوحة، فقال: وهذا غير صحيح، لأن "أن" لا تكون نفيًا، ولا أعلم أحدًا من النحويين حَكَى ذلك، والوجه في هذه الرواية:"أَنْ يَدْريَ" بفتح الياء من "يَدْري"، وتكون "أَنْ" هي الناصبة للفعل، ويكون "يضل" بضاد غير مشالة، من الضلال الذي هو الْحَيْرة، كما يقال: ضَلّ عن الطريق، فكأنه قال: يَحار الرجل، ويَذْهَل عن أن يدري كم صلى؟، فتكون "أن" في موضع نصب بسقوط حرف الجر.

ويجوز أن يكون من الضلال الذي يراد به الخطأ، فتكون الضاد مكسورة، كقوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، وتكون "أَنْ" في موضع نصب على المفعول الصحيح؛ لأن "ضَلَّ" التي بمعنى أخطأ لا يَحتاج تعديها إلى حرف الجر، قال طَرَفَةُ [من الطويل]:

وَكَيْفَ يَضِلُّ الْقَصْدَ وَالْحَقُّ وَاضِحٌ

وَللْحَقِّ بَيْنَ الصَّالِحِينَ سَبِيلُ

قال: ولو رُوِي: حتى يُضِلَّ الرجلَ أَنْ يدريَ كم صلى؟، لكان وجهًا صحيحًا يريد به حتى يُضِلّ الشيطانُ الرجلَ عن دراية كم صلى؟، ولا أعلم أحدًا رواه كذا، لكنه لو رُوي لكان وجهًا صحيحًا في المعنى، غير خارج عن مراده صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال العراقيّ: وما أدري ما وجه تفرقة ابن عبد البر بين "لا"، و"ما"، فجَعَل رواية الفتح بمعنى "لا"، ورواية الكسر بمعنى "ما"، مع أن "لا"، و"ما" بمعنًى واحدٍ، ثم إنه -أعني ابن عبد البر- لا يَعْرِف قوله:"يظل" إلا بالظاء المشالَة، ولا يتجه مع ذلك في "إن" إلا الكسر، ولا يتجه فيها الفتح إلا مع الضاد الساقطة، كما حكيناه عن بعضهم، وهي رواية.

وقال القاضي عياض: حَكَى الداوديّ أنه رُوي "يضلّ" بالضاد، بمعنى ينسى ويذهب وَهْمُهُ، قال اللَّه تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

وما حكيته عن ابن عبد البر من ضبطه "أَنْ" هنا بالفتح وافقه عليه الأصيليّ، فضبطها بالفتح في "صحيح البخاريّ"، وما حَكَيته عن المعترض عليه ذكره أيضًا لقاضي عياض، فقال: ولا يصح تأويل النفي، وتقدير "لا" مع الفتح، وإنما يكون بمعنى "ما"، والنفي مع الكسر، قال: وفتحها لا يصحّ إلا

ص: 149

على رواية مَن رَوَى "يَضلّ" بالضاد، فتكون "أن" مع الفعل بعدها بتأويل المصدر مفعولَ "يضلّ"، أي يجهل درايته، وينسى عدد ركعاته. انتهى.

قال وليّ الدين: وما ذكره ابن عبد البر من أنّ أكثرهم على الفتح، مُعارَضٌ بنقل القاضي عياض أن أكثرهم على الكسر، وهو المشهور المعروف، وما حكاه والدي عن ابن عبد البر أنه قال: الوجه "حتى يَضلّ الرجل أن يدري" بفتح "أن" الناصبة، وبالضاد المكسورة، لم أره في كلامه، إنما تَعَرَّض بفتح الهمزة في "أن"، ولم يذكر كون الضاد ساقطة، هذا هو الذي وَقَعْتُ عليه في "الاستذكار"، و"التمهيد"، فإما أن يكون الشيخ وَقَف على هذا الكلام في موضع آخر، وإما أن يكون خَرَّج على ما ذكره ابن عبد البر في فتح همزة "أَنْ" أن يكون يَضلّ بالضاد الساقطة، وألزمه ذلك؛ إذ لا يمكن مع فتح الهمزة أن يكون يظل بالظاء المشالة. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(مَا يَدْرِي) وفي نسخة: "لا يدري"، وهي عند البخاريّ (كَمْ صَلَّى؟ ") وفي الرواية التالية:"إن يدري كيف صلّى؟ "، وفي رواية للبخاريّ في "بدء الخلق" من "صحيحه"، من وجه آخر عن أبي هريرة:"حتى لا يدري أثلاثًا صلى، أم أربعًا؟ "، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 862 و 863 و 864 و 865 و 866](389)، وفي "المساجد ومواضع السجود"(389)، و (البخاريّ) في "الأذان"(608)، وفي "السهو"(1222 و 1231)، و"بدء الخلق"(3285)، و (أبو داود) في "الصلاة"(516)، و (الترمذيّ) فيها (397)، و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 21 - 22)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 69)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3462)، و (أبو

(1)

"طرح التثريب" 2/ 199 - 201.

ص: 150

داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2345)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 229)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 411 و 460 و 503 و 504 و 522)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 273 و 350 و 531)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(392)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(16 و 1662 و 1663)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(975 و 976 و 977)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(848 و 849 و 850 و 851 و 852 و 854 و 855)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 432)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 374 و 375)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 274)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل التأذين، وعظم قدره، حيث إن الشيطان يهرُبُ منه، ولا يهرب عند قراءة القرآن في الصلاة التي هي أفضل الأحوال، بدليل قوله:"فإذا قُضِي التثويب أقبل"، ويكفي هذا في فضل الأذان.

2 -

(ومنها): أن الشيطان يتأذّى منه، فلا يستطيع سماعه.

3 -

(ومنها): أن الشيطان له تسلّط على الإنسان بالوسوسة حتى في حال الصلاة، وأنه شديد الحرص على إلحاق الضرر به، فيجب الحذَر منه.

4 -

(ومنها): أن للشيطان ضُرَاطًا على حقيقته، كما تقدّم تحقيقه؛ لأنه ثبت أنه يأكل ويشرب، فلا حاجة إلى ما تكلّفه بعضهم بتأويله.

5 -

(ومنها): أن الإقامة يقال لها: التثويب، وهي مشروعة، وما تقدّم من كون التثويب بدعة، كما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما هو ما أحدثه الناس بين الأذان والإقامة من قولهم: حي على الصلاة، حيّ على الفلاح، ونحو ذلك.

6 -

(ومنها): أن التفكّر في الصلاة، والسهو فيها لا يُبطلها، وهو مجمع عليه.

7 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على استحباب رفع الصوت بالأذان، فإنه ذَكَر فيه أنه إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان، وله ضُراط إلى غاية لا يسمع فيها الأذان، فدَلّ على أنه كلما زاد في رفع صوته زاد الشيطان في الإبعاد، ولا شك في استحباب فعل الأمور التي تبعد الشيطان وتطرُده، وقد دلّ هذا الحديث على أن زيادة الرفع زيادة له في الإبعاد، إلا أنه يَحْتِمل أن يقال: قوله: "حتى لا يسمع التأذين" ليس غايةً للإبعاد في الإدبار، بل غاية للزيادة في الضُّرَاط.

ص: 151

والمراد أنه يقصد بما يفعله من ذلك تصميم أذنه عن سماع صوت المؤذن، لكن يدلّ على زيادته في الإبعاد ما تقدّم للمصنّف في هذا الباب من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة، ذهب حتى يكون مكان الرَّوْحَاء".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أسلفنا أن الأقرب كون الضراط لعدم سماعه الأذان، على أنه لا مانع من اجتماع الأمرين في حصول الضراط، واللَّه تعالى أعلم.

8 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال عن المهلب: فيه من الفقه أن مَن نَسِي شيئًا، وأراد أن يتذكره فَلْيُصَلِّ، ويُجْهِد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لا بدّ أن يحاول تَسْهِيتَهُ، وإذكاره أمور الدنيا؛ ليصدّه عن إخلاص نيته في اورة.

وقد رُوِي عن أبي حنيفة أن رجلًا دَفَن مالًا، ثم غاب عنه سنين كثيرةً، ثم قَدِم فطلبه، فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة، فأعلمه بما دار له، فقال له: صَلِّ في جوف الليل، وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تُجْرِ على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عَرِّفني بأمرك، ففعل ذلك، فذَكَرَ في الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة، فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه: من أين دللته على هذا يرحمك اللَّه؟ فقال: استدللت من هذا الحديث، وعلمتُ أن الشيطان سيرضى أن يصالحه بأن يُذَكِّره موضع ماله، ويمنعه الإخلاص في صلاته، فعَجِب الناس من حسن انتزاعه واستدلاله. انتهى كلامه.

9 -

(ومنها): ما قاله العراقيّ رحمه الله: هل يتوقف هروب الشيطان من الأذان على كونه أذانًا شَرعيًّا مستجمعًا للشروط، واقعًا في الوقت، مقصودًا به الإعلام بدخول وقت الصلاة، أو يهرُب من الإتيان بصورة الأذان، وإن لم يوجد فيه ما تقدَّم؟ الأقرب عندي الأول، وكلام أبي صالح السمّان راوي الحديث عن أبي هريرة -يعني الحديث المذكور قبل هذا الحديث- يدل على أنه فهم الثاني.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما فهمه أبو صالح هو الأظهر؛ لظاهر النصّ، ويؤيّد ذلك الأثران التاليان، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 152

ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه، ولكن للجن سَحَرَةً كسَحَرَة الإنس، فإذا خشيتم شيئًا من ذلك، فأَذِّنوا بالصلاة.

وقال مالك بن أنس: استُعْمِل زيدُ بن أسلم على مَعْدن بني سليم، وكان معدنًا لا يزال يصاب فيه الناس من الجنّ، فلما وَليَهم شَكَوا ذلك إليه، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا، فارتفع ذلك عنهم، فهم عليه حتى اليوم، قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم. انتهى.

10 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أنه كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يفصل بين الأذان والإقامة بزمن، وذلك دليلٌ على أنه لا يُشتَرط في تحصيل فضيلة إيقاع الصلاة في أول وقتها انطباق أولها على أول الوقت؛ إذ لو كان كذلك لَمَا واظبوا على ترك هذه الفضيلة، وهذا هو الصحيح المعروف، وقيل: لا يَحصُل ذلك إلا بأن ينطبق أول التكبيرة على أول الوقت، وهو شاذٌّ، وهذا الحديث يدلّ على خلافه، قاله في "شرح التقريب"

(1)

.

11 -

(ومنها): أن الجنّ يسمعون أصوات بني آدم، قاله العينيّ.

12 -

(ومنها): ما قيل: إنه يُشبه أن يؤخذ منه الزجر عن خروج الإنسان من المسجد بعد أن يؤذّن فيه؛ لئلا يكون مشابهًا للشيطان الذي يفز عند سماع الأذان.

13 -

(ومنها): ما قيل أيضًا: يؤخذ من التصريح بلفظ الضراط أن استحباب الكناية عما يُستقبح سماعه إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى التصريح به، وإلا بأن ترتّب عليه مصلحة؛ كالتقبيح والتنفير المرادين من هذا الحديث، فلا بأس به، فتنبّه.

14 -

(ومنها): أنه قد يُستَدَلُّ به على أن الأذان أفضل من الإمامة، وهو الذي صححه النوويّ، خلافًا للرافعيّ، فإنه صحح تفضيل الإمامة، وعن أحمد روايتان، قال العراقيّ: وفي المسألة لأصحابنا وجه ثالثٌ، وهو أنه إن قام بحقوق الإمامة، كانت أفضل من الأذان، وإلا فهو أفضل، قال به أصحابنا:

(1)

"طرح التثريب" 2/ 204.

ص: 153

أبو علي الطبريّ، والقاضيان: ابن كَجٍّ، والحسين، والمسعوديّ، ويوافقه قول الشافعي رحمه الله: أُحِبّ الأذان؛ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمؤذنين"

(1)

، وأكره الإمامة؛ للضمان، وما على الإمام فيها، وإذا أَمَّ انبغى أن يتقيَ، ويؤدي ما عليه في الإمامة، فإن فعل رجوت أن يكون أحسن حالًا من غيره. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التفصيل الذي ذكره الإمام الشافعيّ رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجّته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في علّة هروب الشيطان عند سماع الأذان:

قال في "الفتح": اختَلَف العلماء في المعنى في إدبار الشيطان وهروبه عند سماع الأذان، فقال المهلب: إنما يهرب -واللَّه أعلم- من اتّفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد، وإقامة الشريعة، كما يَفعَل يوم عرفة لِمَا يَرَى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد للَّه تعالى، وتنزل الرحمة، فييأس أن يرُدّهم عما أعلنوا به من ذلك، ويوقن بالخيبة بما تفضل اللَّه تعالى عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية اللَّه ومضادته أمره، فلا يملك الحدَث لِمَا حصل له من الخوف. انتهى، وذكر القاضي عياض نحوه.

وقيل: إنما أدبر عند الأذان؛ لئلا يسمعه، فيضطَرّ إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَسمَع مَدَى صوت المؤذن جنّ، ولا إنس، ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة"، رواه البخاريّ، وهذا قد حكاه النوويّ عن العلماء، وهو مبني على أن الكافر يدخُل في هذه الشهادة، وهو الصحيح، وحَكَى القاضي عياض قولًا أن الكافر لا يدخل في هذه الشهادة؛ لأنه لا شهادة له، وقال: لا يقبل هذا من قائله؛ لما جاء في الآثار من خلافه.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"، ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامنٌ، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين".

(2)

راجع: "طرح التثريب" 2/ 203.

ص: 154

قال ابن عبد البر: إنما يفعل ذلك لِمَا يلحقه من الذُّعْر والخزي عند ذكر اللَّه، وذكرُ اللَّه تعالى في الأذان تَفْزَع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر؛ لما فيه من الجهر بالذكر، وتعظيم اللَّه تعالى فيه، وإقامة دينه، فيدبر الشيطان؛ لشدّة ذلك على قلبه. انتهى.

وقال بعضهم: سبب إدباره عِظَم أمر الأذان؛ لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد، وإظهار شعار الإسلام وإعلانه، وقيل: ليأسه من الوسوسة عند الإعلان بالتوحيد، وقيل: لأنه دعاء إلى الصلاة التي فيها السجود الذي امتنع من فعله لَمّا أُمر به، قال ابن بطال: وليس بشيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه إذا قُضِي التثويب أقبل يُذَكِّره ما لم يَذكُر، يَخْلِط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التي فيها السجود أولى لو كان كما زعموا. انتهى.

قال القاضي عياض: ولا يلزم هذا الاعتراض؛ إذ لَعَلَّ نِفَاره إنما كان من سماع الأمر والدعاء بذلك، لا من رؤيته ليغالط نفسه أنه لم يسمع دعاءً، ولا خالف أمرًا.

قال العراقيّ: أحسنُ ما ذكره القاضي عياض في جواب اعتراض ابن بطال أن نفرته عند الأذان إنما هو تصميم على مخالفة أمر اللَّه، واستمرار على معصيته، وعدم الانقياد إليه، والاستخفاف بأوامره، فإذا دعا داعي اللَّه فَرَّ منه وأعرض عنه، واستخفّ به، فإذا حضرت الصلاة حضر مع المصلين، غير مشارك لهم في الصلاة، بل ساعيًا في إبطالها عليهم، وهذا أبلغ في المعصية والاستخفاف مما لو غاب عن الصلاة بالكلية، فصار حضوره عند الصلاة من جنس نفرته عند الأذان، ومن مَهْيَعٍ واحد، ومقصوده. بالأمرين الاستخفاف بأوامر اللَّه تعالى، وعدم الانقياد إليها، كما ذكرته، واللَّه أعلم. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم: "وقيل: إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق، وإقامة الشريعة.

واعتُرِض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 201 - 202.

ص: 155

وأُجيب بأن الإعلان أخصّ من الاتفاق، فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة مثلًا، ولهذا قال لعبد اللَّه بن زيد: ألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك؛ أي أقعد في المدّ والإطالة والإسماع؛ ليعم الصوت، ويطول أمد التأذين، فيكثر الجمع، ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدميّ عن إقامة الصلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها، أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ، وقد ييأس عن أن يردّهم عما أَعلنوا به، ثم يرجع لِمَا طُبع عليه من الأذى والوسوسة.

وقال ابن الجوزيّ: على الأذان هيبة يشتدّ انزعاج الشيطان بسببها؛ لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة، وقد ترجم عليه أبو عوانة:"الدليلُ على أن المؤذِّن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء؛ لتباعد الشيطان منه"، وقيل: لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ، هي من أفضل الذكر، لا يزاد فيها ولا يُنقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفرّ من سماعها، وأما الصلاة فلِمَا يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن الخبيث من المفرِّط، فلو قُدِّر أن المصلي وَفّى بجميع ما أُمر به فيها لم يقربه إذا كان وحده، وهو نادرٌ، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله، فإنه يكون أندر، أشار إليه ابن أبي جمرة رحمه الله. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وردت في فضل الأذان أحاديثُ كثيرة، ذكر البخاريّ بعضها في مواضع أخرى، واقتصر على هذا هنا؛ لأن هذا الخبر تَضَمَّن فضلًا لا يُنال بغير الأذان، بخلاف غيره من الأخبار، فإن الثواب المذكور فيها يُدرَك بأنواع أخرى من العبادات. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[866]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،

(1)

"الفتح" 2/ 103 - 104.

(2)

"الفتح" 2/ 104.

ص: 156

عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَيْفَ صَلَّى؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، ثقة عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّه) بن كامل، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقة [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لهمّام.

وقوله: (إِنْ يَدْرِي كَيْفَ صَلَّى؟) قال النوويّ: بكسر همزة "إِنْ"، قال القاضي عياض: ورُوي بفتحها، قال: وهي رواية ابن عبد البرّ، وادَّعَى أنها رواية أكثرهم، وكذا ضبطه الأصيليّ في كتاب البخاريّ، والصحيح الكسر. انتهى.

وقال في "الفتح": "إن يدري" بكسر همزة "إن"، وهي نافيةٌ بمعنى "لا"، وحَكَى ابن عبد البرّ عن الأكثر في "الموطّأ" فتح الهمزة، ووجَّهَهُ بما تعقّبه عليه جماعة، وقال القرطبيّ: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد، فتكون "أن" مع الفعل بتأويل المصدر، ومفعول "يَضَلّ""أن" بإسقاط حرف الجرّ، أي يضلّ عن درايته، وينسى عن عدد ركعاته، وهذا أيضًا فيه بُعْدٌ. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 2/ 17.

ص: 157

(9) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ، مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَفِي الرَّفْعِ مِنْهُ، لَا فِي الرَّفْعِ منَ السُّجُودِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[867]

(390) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ، وَإذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شُعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، مصنّف [10](ت 227) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

3 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الْهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقة ثبتٌ حافظ حجّة، من رءوس [8](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.

6 -

(سَالِم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

7 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

ص: 158

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ستة من الشيوح، قَرَن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الخمسة، وهم من عدا محمد بن نمير.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين من الزهريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، من الصحابة رضي الله عنهم، روى (2630) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِم) بن عبد اللَّه (عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، أنه (قَالَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ) وفي رواية ابن جريج التالية: "إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حَذْوَ منكبيه، ثم كبّر"، فدلّ على أن الرفع يتقدّم التكبير، ويخالفه ما يأتي من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه بلفظ: "إذا صلّى كبّر، ثم رفع يديه"، ويُجمع بينهما بأنه فعل هذا، وفعل هذا فيحمل على اختلاف الأوقات، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(حَتَّى يُحَاذِيَ) الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يعود الضمير على الرفع المفهوم من قوله:"رَفَعَ"، أي حتى يحاذي الرفع منكبيه، وفي حديث وائل بن حجر عند أبي داود وغيره:"حتى حاذتا أذنيه"، قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(مَنْكِبَيْهِ) منصوب على المفعوليّة، وهو غاية للرفع، يعني أنه يرفع يديه حتى ينتهي بهما إلى مقابلة منكبيه.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 257.

ص: 159

"والْمَنْكِب" بفتح الميم، وكسر الكاف، بينهما نون ساكنة: مجمع عظم الْعَضُد والكتف.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى تكونا مقابلتين لمنكبيه.

وبهذا أخذ الشافعيّ، والجمهور، وذهب أبو حنيفة إلى حديث مالك بن الْحُويرث رضي الله عنه الآتي في الباب:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه، حتى يحاذي بهما أذنيه. . . "، وفي رواية:"حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، قال الحافظ رحمه الله: ورُجّح الأول؛ لكون إسناده أصحّ. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجحُ هو العمل بهما؛ لصحّتهما، وإمكان العمل بهما، فيعمل تارةً بهذا، وتارة بهذا، فلا حاجة للترجيح؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذّر العمل بالدليلين، وقد أمكن هنا؛ فتبصّر، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثامنة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(وَقَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ) أي ورفع يديه أيضًا قبل ركوعه، وفي رواية ابن جريج:"فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك"(وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ) أي ورفع أيضًا عند رفع رأسه من الركوع، وفي رواية البخاريّ:"ثم إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فعل مثل ذلك"، وفي حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه الآتي:"وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: سمع اللَّه لمن حمده، فعل مثلَ ذلك"(وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) وفي رواية ابن جريج: "ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود"، وفي رواية للبخاريّ:"ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، قال في "الفتح": وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثانية، والرابعة، والتشهّدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضًا، لكن بدون تشهّد؛ لكونه غير واجب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن التشهّد الأول واجب، كما هو مذهب أحمد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دام عليه، وسجد للسهو لَمّا تركه، وسيأتي تمام البحث فيه -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال: وإذا قلنا باستحباب جِلسة الاستراحة -أي وهو الحقّ- لم يدلّ هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثانية، والرابعة، لكن قد روى يحيى القطّان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا هذا الحديث، وفيه:

ص: 160

"ولا يرفع بعد ذلك"، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب" بإسناد حسن، وظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، وسيأتي إثبات ذلك في موطن رابع، وهو الرفع إذا قام من الركعتين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما سبق أن رفع اليدين ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في أربعة مواضع: عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام للثالثة، وقد ثبت الرفع أيضًا عند السجود من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، وسيأتي البحث فيه مستوفًى -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [9/ 867 و 868 و 869](390)، و (البخاريّ) في "الأذان"(735) وفي "جزء رفع اليدين"(ص 7)، و (أبو داود) في "الصلاة"(742)، و (الترمذيّ) فيها (237)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 122)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(858)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 75)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2518)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 71)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 234 و 235)، و (أحمد) في "مسنده"(4526 و 15173 و 15177 و 23088)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 285)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(456)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1861 و 1864 و 1868 و 1877)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1572 و 1573 و 1574 و 1575 و 1576 و 1577 و 1578 و 1579)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(856 و 857 و 858 و 859)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 223)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 69)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(559)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(178)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13111 و 13112)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 46.

ص: 161

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وبهذا قال جمهور العلماء.

2 -

(ومنها): كون الرفع حذو المنكبين، وسيأتي في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه حذو الأذنين، وسيأتي الجمع بينهما -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): استحباب الرفع أيضًا عند الركوع، وعند الرفع منه، وخالف في ذلك الحنفيّة، وبعض العلماء، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

4 -

(ومنها): أنه يدلّ على عدم مشروعيّة الرفع في السجود، لكن صحّ ذلك في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، وسيأتي الجمع بينهما في المسألة الحادية عشرة -إن شاء اللَّه تعالى-.

5 -

(ومنها): أن قوله في الرواية الآتية: "ثمّ كبّر" فيه إثبات تكبيرة الإحرام، وقد اختَلَف العلماء في حكمه، وسيأتي -إن شاء اللَّه تعالى- تحقيقه في "المسألة الرابعة عشرة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في رفع اليدين في الصلاة:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: في هذا الحديث رفع اليدين في هذه المواطن الثلاثة: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وبه قال أكثر العلماء من السلف والخلف.

قال ابن المنذر رحمه الله: رَوَينا ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدريّ، وابن الزبير، وأنس بن مالك.

وقال الحسن البصريّ: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رءوسهم من الركوع، كأنها المراويح.

ورُوي ذلك عن جماعة من التابعين، وجماعة ممن بعدهم، وقال الأوزاعيّ: ما اجتمع عليه علماء الحجاز والشام والبصرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في هذه المواطن الثلاثة.

ص: 162

قال ابن المنذر: وهو قول الليث بن سعد، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه ابن وهب عن مالك، وبه نقول. انتهى.

وقد حكاه عن مالك أيضًا أبو مصعب، وأشهب، والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم، وجزم به الترمذيّ عن مالك، وقال البخاريّ: يُرْوَى عن عِدّة من أهل الحجاز، والعراق، والشام، والبصرة، واليمن، أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع، ورفع الرأس منه، منهم سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، والنعمان بن أبي عياش، والحسن، وابن سيرين، وطاوس، ومكحول، وعبد اللَّه بن دينار، ونافع، وعبيد اللَّه بن عمر، والحسن بن مسلم، وقيس بن سعد، وغيرهم عدّة كثيرة. انتهى.

قال البيهقي رحمه الله: وقد رَوَيناه عن أبي قلابة، وأبي الزبير، ثم عن مالك، والأوزاعيّ، والليث، وابن عيينة، ثم عن الشافعيّ، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد اللَّه بن المبارك، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، وعدّة كثيرة من أهل الآثار بالبلدان.

وقالت طائفة: لا يرفع يديه فيما سوى الافتتاح، وهو قول سفيان، وأبي حنيفة، وأصحابه، والحسن بن صالح بن حيّ، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، قال ابن عبد البر: وتَعَلَّق بهذه الرواية عن مالك أكثر المالكيين.

وقال الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة": وهو المشهور عند أصحاب مالك، والمعمول به عند المتأخرين منهم. انتهى.

وقال محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم في رفع اليدين، قال محمد: والذي آخذ به أن أرفع على حديث ابن عمر.

ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" الرفع في تكبيرة الإحرام فقط عن عليّ، وابن مسعود، والأسود، وعلقمة، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وخيثمة، وقيس بن أبي حازم، وأبي إسحاق السبيعيّ، وحكاه عن أصحاب عليّ، وابن مسعود، وحكاه الطحاويّ عن عمر، وذكر ابن بطال أنه لم يُخْتَلف عنه في ذلك، وهو عجيب، فإن المعروف عنه الرفع في المواطن الثلاثة.

ص: 163

وقال أبو العباس القرطبيّ بعد أن ذكر أن هذا هو مشهور مذهب مالك: إن الرفع في المواطن الثلاثة هو آخر أقواله، وأصحّها، والمعروف مِن عمل الصحابة، ومذهب كافة العلماء، إلا مَن ذُكِر. انتهى، وكذا قال الخطابيّ: إنه قول مالك في آخر أمره.

وقال محمد بن نصر المروزيّ: لا نعلم مصرًا من الأمصار تركوا بأجمعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة، إلا أهل الكوفة، فكلهم لا يرفع إلا في الإحرام.

وقال ابن عبد البرّ: لم يُرْوَ عن أحد من الصحابة ترك الرفع عند كل خفض ورفع، ممن لم يُخْتَلف عنه فيه إلا ابن مسعود وحده، ورَوَى الكوفيون عن عليّ مثل ذلك، وروى المدنيون عنه الرفع من حديث عبيد اللَّه بن أبي رافع. انتهى.

وذَكَر عثمان بن سعيد الدارميّ أن الطريق عن عليّ في ترك الرفع واهية.

وقال الشافعيّ في رواية الزعفرانيّ عنه: ولا يثبت عن عليّ وابن مسعود، ولو كان ثابتًا عنهما لا يثبته

(1)

أن يكون رآهما مرة أغفلا رفع اليدين، ولو قال قائل: ذهب عنهما حفظ ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحفظه ابن عمر، لكانت له الحجة. انتهى.

ورَوَى البيهقيّ في "سننه" عن وكيع قال: صليت في مسجد الكوفة، فإذا أبو حنيفة قائم يصلي، وابن المبارك إلى جنبه يصلي، فإذا عبد اللَّه يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، وأبو حنيفة لا يرفع، فلما فرغوا من الصلاة، قال أبو حنيفة لعبد اللَّه: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تكثر رفع اليدين، أردت أن تطير؟، فقال له عبد اللَّه: يا أبا حنيفة، قد رأيتك ترفع يديك حين افتتحت الصلاة، فأردت أن تطير؟ فسكت أبو حنيفة، قال وكيع: ما رأيت جوابًا أحضر من جواب عبد اللَّه لأبي حنيفة.

ورَوَى البيهقي أيضًا عن سفيان بن عيينة، قال: اجتمع الأوزاعيّ والثوريّ بمنى، فقال الأوزاعيّ للثوريّ: لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن هذا تصحيف من قوله:"لأَشْبَهَ"، أو نحو ذلك، فتأمل.

ص: 164

فقال الثوريّ: حدثنا يزيد بن أبي زياد، فقال الأوزاعيّ، أروي لك عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعارضني بيزيد بن أبي زياد، ويزيد رجل ضعيف الحديث، وحديثه مخالف للسنة؟، قال: فاحمارّ وجهُ سفيان، فقال الأوزاعيّ: كأنك كَرِهتَ ما قلت؟ قال الثوريّ: نعم، فقال الأوزاعيّ: قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحقّ؟ قال: فتبسم الثوريّ لَمّا رأى الأوزاعي قد احتدّ. انتهى ما قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: احتج القائلون باستحباب رفع اليدين في الصلاة بالأحاديث الكثيرة عن العدد الكثير من الصحابة، حتى قال الشافعيّ: رَوَى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يُرْوَ حديث قط بعدد أكثر منهم.

وقال البخاريّ في "جزء رفع اليدين": رَوَى الرفعَ تسع عشرة نفسًا من الصحابة، وسرد البيهقيّ في "السنن"، وفي "الخلافيات" أسماء مَن رَوَى الرفع نحوًا من ثلاثين صحابيًّا، وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنّة العشرة المشهود لهم بالجنة، فمن بعدهم من أكابر الصحابة، قال البيهقيّ: وهو كما قال، قال الحاكم، والبيهقيّ أيضًا: ولا يُعلَم سنّة اتَّفَق على روايتها العشرة، فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنّة.

ورَوَى ابن عساكر في "تاريخه" من طريق أبي سلمة الأعرج، قال: أدركت الناس كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع، قال البخاريّ في الجزء المذكور: قال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم، ولم يَسْتَثنِ أحدًا منهم، قال البخاريّ: ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه لم يرفع يديه، وجمع العراقي عَدَد من رَوَى رفع اليدين في ابتداء الصلاة، فبلغوا خمسين صحابيًّا، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة.

قال الحافظ في "الفتح": وذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل، أنه تتبع مَن رواه من الصحابة رضي الله عنهم، فبلغوا خمسين رجلًا.

واحتَجَّ من قال بعدم الاستحباب بحديث جابر بن سمرة عند مسلم، وأبي

(1)

راجع: "طرح التثريب" 2/ 252 - 253.

ص: 165

داود، قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شُمْس؟ اسكنوا في الصلاة".

وأجيب عن ذلك بأنه وَرَدَ على سبب خاصّ، فإن مسلمًا رواه أيضًا من حديث جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"علامَ تومئون بأيديكم، كأنها أذناب خيل شُمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه، من عن يمينه، ومن عن شماله".

ورُدّ هذا الجواب بأنه قصر للعام على السبب، وهو مذهب مرجوح، كما تقرر في الأصول.

وهذا الردُّ مُتَّجِهٌ لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا متواترًا، كما تقدم، وأقل أحوال هذه السنّة المتواترة أن تَصْلُح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب، أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر، وربما نازع في هذا بعضهم، فقال: قد تقرر عند بعض أهل الأصول أنه إذا جُهِل تاريخ العام والخاص اطُّرِحَا، وهو لا يَدري أن الصحابة قد أجمعت على هذه السنّة بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهم لا يُجمِعون إلا على أمر فارقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه، على أنه قد ثبت من حديث ابن عمر عند البيهقيّ أنه قال بعد أن ذَكَر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الاعتدال: فما زالت تلك صلاته حتى لقي اللَّه تعالى.

وأيضًا المتقرر في الأصول بأن العامّ والخاصّ إذا جُهِل تاريخهما وَجَب البناء، وقد جعله بعض أئمة الأصول مُجمعًا عليه، كما في "شرح الغاية"، وغيره.

ورُبّما احتَجّ بعضهم بما رواه الحاكم في "المدخل" من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: "مَن رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له"، وربما رواه ابن الجوزيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحو حديث أنس، وهو لا يشعر أن الحاكم قال بعد إخراج حديث أنس: إنه موضوع، وقد قال في "البدر المنير": إن في إسناده محمد بن عكاشة الكرمانيّ، قال الدارقطنيّ: يضع الحديث، وابن الجوزيّ جعل حديث

ص: 166

أبي هريرة المذكور من جملة الموضوعات. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر مذاهب العلماء، وأدلتهم في حكم رفع اليدين في الصلاة أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور، وهو استحباب الرفع مطلقًا.

والحاصل أن رفع اليدين عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وفي القيام للثالثة، هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهما من المحقّقين، وهو الحقّ الذي تؤيّده الدلائل الواضحة كالشمس في رابعة النهار، وليس للمخالفين دليلٌ يصلح للاعتماد عليه، بل هي ضعاف، وعلى تقدير صحّتها تُحمل على أنه ترك الرفع في بعض الأوقات؛ لبيان الجواز.

وأما الاحتجاج بحديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما المذكور، فمن الغرائب؛ فإن جلّ من أنكر الرفع في الركوع؛ كالحنفيّة، أثبت الرفع في الافتتاح، فهلّا يدخل في هذا النهي، فما كان جوابًا عنه، فهو جواب هنا بلا فرق؛ فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وعمدة العنيد.

وقد أجاد الشيخ عبيد اللَّه المباركفوريّ في كتابه "المرعاة شرح المشكاة" في هذا البحث، فراجعه

(2)

تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): الذي دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أنه صلى الله عليه وسلم فعل الرفع في المواطن الثلاثة، ولا دلالة له على وجوب ذلك، ولا على استحبابه، فإن الفعل مُحْتَمِلٌ لهما، والأكثرون على الاستحباب، وقيل بالوجوب، وسنوضح ذلك:

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح، واختلفوا فيما سواها. انتهى.

وتعقّبه وليّ الدين العراقيّ رحمه الله، فقال: وفي حكايته الإجماع نظر من وجهين:

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 10 - 12.

(2)

راجع: "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 3/ 14 - 47.

ص: 167

[أحدهما]: أن بعض العلماء يقول بوجوبه، وقد قال النوويّ بعد ذلك بأسطر: أجمعوا أنه لا يجب شيء من الرفع، وحُكِي عن داود إيجابه عند تكبيرة الإحرام، وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سَيّار السّيّاريّ من أصحابنا أصحاب الوجوه. انتهى.

قال وليّ الدين: وحكاه القاضي حسين من أصحابنا في "تعليقه" عن أحمد بن حنبل، وقال ابن عبد البرّ: كلُّ من رأى الرفع، وعَمِل به من العلماء لا يبطل صلاة مَن لم يرفع إلا الحميديّ، وبعض أصحاب داود، ورواية عن الأوزاعيّ، ثم حَكَى عن الأوزاعيّ أنه ذَكَرَ الرفع في المواطن الثلاثة، فقيل له: فإن نَقَصَ من ذلك؟ قال: ذلك نقص من صلاته، ثم قال ابن عبد البرّ: وقول الحميديّ، ومن تابعه شذوذٌ عن الجمهور، وخطأٌ لا يَلْتَفِت إليه أهل العلم. انتهى.

وحَكَى الطحاويّ إيجابه عند الركوع، والرفع منه، والقيام من السنن عن قوم، واعترضه البيهقيّ، وقال: لا نعلم أحدًا يوجب الرفع، وحَكَى صاحب "المفهم" عن بعضهم وجوب الرفع كلّه، وقال ابن حزم في "المحلى": ورفع اليدين للتكبير من الإحرام في أول الصلاة فرض، لا تجزئ الصلاة إلا به، ثم قال: وقد رُوي ذلك عن الأوزاعيّ، وهو قول بعض من تقدم من أصحابنا. انتهى.

فقد ثبت بذلك وجود الخلاف في وجوب الرفع في تكبيرة الإحرام، بل في وجوب الرفع كله.

[ثانيهما]: أن بعضهم لا يَستَحِبّ الرفع عند تكبيرة الإحرام، وهو رواية عن مالك، حكاها عنه ابن شعبان، وابن خُويز منداد، وابن القصّار، ولهذا حَكَى ابن عبد البرّ الإجماع على جواز الرفع عند تكبيرة الإحرام، وكأنه عَدَل عن حكاية الإجماع على الاستحباب إلى الجواز؛ لهذه القولة، لكنها رواية شاذّةٌ، لا مُعَوَّل عليها. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من استحباب

(1)

"طرح التثريب" 2/ 255 - 256.

ص: 168

الرفع مطلقًا هو الأرجح، وأما القول بالإيجاب فليس عليه دليلٌ يُعتمد عليه، وغاية ما استدلّوا به حديث:"صلُّوا كما رأيتموني أصلّي"، متّفق عليه، وهذا استدلال غير صحيح؛ لاستلزامه وجوب جميع أفعال الصلاة، بحيث لا يوجد فيها شيء من المستحبّات، وهذا لا يقولون به؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "إذا افتتح الصلاة رفع يديه" ظاهره أنه إنما رفع يديه بعد فراغ التكبير؛ لأن افتتاح الصلاة هو التكبير، ولا أعلم أحدًا قال به، ويَحْتَمِل أن معناه أنه شَرَع في الرفع عند الشروع في التكبير، فأتي بالرفع والتكبير مقترنين، وهذا مذهب سنحكيه، وحملُ الحديث عليه أولى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل يتعيّن الحمل المذكور؛ لأن رواية ابن جريج التالية صريحة في ذلك، ولفظها:"إذا قام إلى الصلاة، رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثمّ كبّر"، وفي رواية لأبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبّر وهما كذلك"، فهذا صريح في تقديم رفع اليدين على التكبير؛ لعطفه بـ "ثُمّ"، فيكون معنى قوله في هذه الرواية:"إذا افتتح الصلاة": إذا أراد أن يفتتحها، واللَّه تعالى أعلم.

قال وليّ الدين: وقد اختَلَف العلماء في هذه المسألة، ولأصحابنا فيها خمسة أوجه:

[أحدها]: أنه يرفع غير مكبر، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين، وينهيه مع انتهائه.

[والثاني]: يرفع غير مكبر، ثم يكبر ويداه قارّتان، ثم يرسلهما، ويدل له رواية أبي داود المتقدم ذكرُها.

وذَكَر الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" أن هذا القول ينسب إلى رواية ابن عمر. قال: والرواية التي في "الصحيحين" ظاهرها مخالف له، وكأن الشيخ رحمه الله لم يستحضر رواية أبي داود هذه التي ذكرناها.

ص: 169

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل رواية المصنّف من طريق ابن جُريج بلفظ: "ثمّ يكبّر" ظاهرة أيضًا.

[والثالث]: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ويُنهيهما معًا، وصححه النوويّ في "شرح المهذَّب"، و"التحقيق"، وقال في "شرح الوسيط" المسمى بـ "التنقيح": إنه الأصح، وقول الجمهور، ونَصَّ عليه الشافعي في "الأم".

[والرابع]: يبتدئهما معًا، وينهي التكبير مع انتهاء الإرسال.

[والخامس]: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء، فإن فَرَغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس تمّم الباقي، وإن فَرَغ منهما حَطّ يديه، ولم يستدم الرفع، وصححه النووي في بقية كتبه تبعًا لنقل الرافعيّ له عن ترجيح الأكثرين، وقال الغزالي في "الوسيط": قال المحققون: ليس هذا اختلافًا، بل صحت الروايات كلُّها، فلنقبل الكلّ، ولنجوِّزها على نسق واحد، وتبع في ذلك الإمام

(1)

، فإنه حَكَى عن والده أن الكيفيات كلَّها على السواء، وأقره عليه، هذا تفصيل مذهبنا.

وقال ابن شاس في "الجواهر" من المالكيّة: وإذا شرع في التكبير رفع يديه معه، على المعروف من المذهب، وقال صاحب "الهداية" من الحنفيّة، في شرحه لقوله في "البداية": ويرفع يديه مع التكبير: هذا اللفظ يشير إلى اشتراط المقارنة، وهو المرويّ عن أبي يوسف، والمحكيّ عن الطحاويّ، والأصح أنه يرفع أوّلًا، ثم يكبّر؛ لأن في فعله نفي الكبرياء عن غير اللَّه، والنفي مقدم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواءً"، قال في "الفتح": هو ظاهرُ قوله في حديث الباب: "يرفع يديه إذا افتتح الصلاة"، وفي رواية شعيب:"يرفع يديه حين يكبّر"، فهذا دليل المقارنة.

وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم، ففي حديث الباب عنده من رواية ابن جريج وغيره، عن ابن شهاب، بلفظ: "رَفَعَ يديه، ثم

(1)

هو إمام الحرمين.

(2)

"طرح التثريب" 256 - 257.

ص: 170

كبر"، وفي حديث مالك ابن الحويرث عنده: "كبّر، ثم رفع يديه".

وفي المقارنة، وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عند الشافعيّة المقارنة، ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع، ويرجح الأول حديث وائل بن حجر، عند أبي داود بلفظ:"رفع يديه، مع التكبير"، وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صححه النووي في "شرح المهذب"، ونقله عن نَصّ الشافعيّ، وهو المرجح عند المالكية، وصحح في "الروضة" تبعًا لأصلها أنه لا حدّ لانتهائه، وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الأصح يرفع، ثم يكبّر؛ لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير اللَّه، والتكبير إثبات ذلك له، والنفي سابق على الإثبات، كما في كلمة الشهادة، وهذا مبنيّ على أن الحكمة في الرفع ما ذُكِر. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: ويبتدئ رفع يديه مع ابتداء التكبير، ويكون انتهاؤه مع انقضاء تكبيره، ولا يَسبق أحدهما صاحبه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن الجمهور يرون الرفع مقارنًا للتكبير، وهو المرجّح عند المالكيّة، والشافعيّة، والحنبليّة، وهو مذهب الإمام البخاريّ رحمه الله.

وذهب بعضهم إلى تقديم الرفع على التكبير، وهو مذهب الحنفيّة، وإليه ذهب الإمام النسائيّ رحمه الله، حيث قال في "سننه":"باب رفع اليدين قبل التكبير".

وعندي أن هذا من المخيَّر فيه، فيجوز الرفع مقارنًا للتكبير، وقبله وبعده؛ لصحّة الأحاديث بذلك كلّه، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق ابن جريج بلفظ:"رفع يديه ثمّ كبّر"، صريحة في المقارنة، وحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه الآتي بلفظ:"إذا كبّر، ثم رفع يديه" صريحٌ في تقديم التكبير على الرفع، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه عند أبي داود بلفظ:"رفع يديه مع التكبير" صريحٌ في المقارنة.

وهذا الذي اخترته من حمل أحاديث الباب على التخيير والإباحة هو

(1)

"الفتح" 2/ 255 - 256.

(2)

"المغني" 2/ 138.

ص: 171

الذي ذهب إليه أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"

(1)

.

والحاصل أن الأحاديث المذكورة كلّها صحاح، فالأولى والأحسن العمل بكلّها في الأوقات المختلفة، فلا حاجة إلى الترجيح؛ لأنه إنما يُصار إليه عند تعذّر العمل بالروايات كلّها، وهنا ليس كذلك، فالجمع أولى؛ فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكمة رفع اليدين في الصلاة:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفت عبارات العلماء في الحكمة في رفع اليدين، فقال الشافعيّ رحمه الله: فعلته إعظامًا للَّه تعالى، واتباعًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: هو استكانةٌ، واستسلامٌ، وانقياد، وكان الأسير إذا غُلِب مَدّ يديه إعلامًا باستسلامه، وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا، والإقبال بكليته على صلاته، ومناجاة ربه -كما تضمن ذلك قوله:"اللَّه أكبر"، فتَطابَقَ فعله وقوله-، وقيل: إشارة إلى دخوله في الصلاة، وهذا الأخير يختص بالرفع لتكبيرة الإحرام، وقيل غير ذلك، وفي أكثرها نظر، واللَّه أعلم. انتهى.

وهذا المعنى الأخير وهو الإشارة إلى دخوله في الصلاة، قد ذكره الحنفية مع زيادة فيه، وهو إعلام الأصمّ ونحوه بذلك، وذكره أيضًا المهلَّب من المالكية، وذكر الحنفية أيضًا في رفع اليدين معنى آخر، وهو الإشارة إلى نفي الكبرياء عن غير اللَّه تعالى، وقال أبو العباس القرطبيّ: قيل: فيه أقوالٌ أنسَبُها مطابقةُ قوله: "اللَّه أكبر" لفعله، وقال ابن عبد البرّ: معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوعٌ، واستكانةٌ، وابتهالٌ، وتعظيم للَّه عز وجل، واتباعٌ لسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعض العلماء: إنه من زينة الصلاة، ثم حَكَى عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: لكل شيء زينةٌ، وزينة الصلاة التكبير، ورفع الأيدي فيها، وعن النعمان بن أبي عيّاش قال: كان يقال: لكل شيء زينةٌ، وزينة الصلاة التكبير، ورفع الأيدي عند الافتتاح، وحين تريد أن تركع،

(1)

راجع: "المسند" 1/ 424 - 425.

ص: 172

وحين تريد أن ترفع، وقال عقبة بن عامر: له بكل إشارة عشر حسنات، بكل أصبع حسنة

(1)

، ورَوَى البيهقيّ في "سننه" عن الربيع بن سليمان، قال: قلت للشافعيّ: ما معنى رفع اليدين عند الركوع؟ فقال: مثل معنى رفعهما عند الافتتاح، تعظيم اللَّه، وسنةٌ متبعةٌ، يرجى فيها ثواب اللَّه عز وجل، ومثل رفع اليدين على الصفا والمروة وغيرهما. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أقربها ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله، نفعله إعظامًا للَّه تعالى، واتباعًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة رفع اليدين:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في ذلك، فأَخَذ بحديث ابن عمر الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال بحديث وائل ناس من أهل العلم، وقال بعض أصحاب الحديث: المصلي بالخيار، إن شاء رفع يديه إلى المنكبين، وإن شاء إلى الأذنين، قال ابن المنذر: وهذا مذهب حسنٌ، وأنا إلى حديث ابن عمر أميل. انتهى.

وأخذ بحديث وائل في ذلك سفيان الثوريّ، والحنفية، وقال البيهقيّ: فاذا اختلفت هذه الروايات، فإما أن يؤخذ بالجميع، فيخيَّر بينهما، وإما أن تترك رواية مَن اختَلَفت الرواةُ عليه، ويؤخذ برواية من لم يُختَلف عليه، يعني رواية الرفع إلى المنكبين، قال الشافعيّ رحمه الله: لأنها أثبت إسنادًا، وأنها حديثُ عددٍ، والعدد أولى بالحفظ من واحد. انتهى.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: اختَلَفت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كيفية رفع اليدين في الصلاة، فرُوي عنه أنه كان يرفع يديه ما فوق أذنيه مع رأسه، ورُوي عنه أنه كان يرفع يديه حذو أذنيه، وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه، وروي عنه أنه كان يرفعهما إلى صدره، وكلها آثار معروفة مشهورة، وأثبت ما

(1)

قال الشوكانيّ: وهذا له حكم الرفع؛ لأنه مما لا مجال للاجتهاد فيه. انتهى.

قال الجامع: لكن هذا يحتاج ثبوت نقله، فإنه لم يُذكر بسنده حتى نعلم صحته، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 173

في ذلك حديث ابن عمر هذا، وفيه حذو منكبيه، وعليه جمهور التابعين، وفقهاء الأمصار، وأهل الحديث، وقد رَوَى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه، وفي غير الإحرام دون ذلك قليلًا، وكل ذلك واسع حسنٌ، وابن عمر رَوَى الحديث، وهو أعلم بمخرجه وتأويله، وكلُّ ذلك معمول به عند العلماء. انتهى.

وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: في صفة الرفع ثلاثة أقوال: قيل: حذو الصدر، وقيل: حذو المنكب، وقيل: حذو الأذن، فأما حِيَال الصدر فليس بشيء، وأما حيال المنكب والأذن، فقد رُوي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "الصحيح"، والجمع بينهما أن تكون أطراف الأصابع بإزاء الأذنين، وآخر الكف بإزاء المنكبين، فذلك جمع بين الروايتين.

وقال النووي في "شرحه": المشهور من مذهبنا، ومذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث يحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه، فهذا معنى قولهم: حذو منكبيه، وبهذا جمع الشافعي رحمه الله بين روايات الحديث، فاستحسن الناس ذلك منه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في هذا الجمع الذي ذكروه عندي نظر؛ لأنه إن صحّت هذه الكيفيّة رواية، فذاك، وإلا فيكون خروجًا عن الكيفيّتين الثابتتين في الأحاديث الصحيحة.

فالحقّ العمل بالكيفيّتين في أوقات مختلفة؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطحاويّ: إنما كان الرفع إلى المنكبين في حديث ابن عمر وقت كانت يداه في ثيابه، بدليل قوله في حديث وائل بن حجر:"فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه"، وفيه:"ثم أتيته من العام المقبل، وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيه"، وأشار شريك إلى صدره. انتهى.

واعترضه البيهقيّ بأنه قد ورد في حديث وائل الرفع إلى المنكبين أيضًا، وهو أولى لموافقته بقية الروايات، قال: مع أنه قد يستطاع الرفع في الثياب إلى الأذنين، وفي زعمه إلى المنكبين، ولم يرفعهما في روايته إلا إلى صدره،

ص: 174

فكيف حَمَلَ سائر الأخبار على خبره، وليس فيه ما حملها عليه؟. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن اختلاف الآثار في هذا الباب يُحْمَل على التوسيع والتخيير، فالمصلّي مُخيَّرٌ في الرفع إلى المنكبين في بعض الأحيان، وحِيَال الأذنين في بعضها، لكن الرفع إلى المنكبين يكون أكثر؛ لكونه أقوى، ولأن ابن عمر رضي الله عنهما عبّر بـ "كان" المقتضية للاستمرار، فيدلّ على أن أكثر أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم كان الرفعَ إلى المنكبين، فالكلّ واسعٌ حسنٌ، كما تقدّم عن الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قال الحافظ رحمه الله: لم يَرِد ما يدلّ على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفيّة يرفع الرجل إلى الأذنين، والمرأة إلى المنكبين؛ لأنه أستر لها. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال أصحابنا الشافعية: لا فرق في منتهى الرفع بين الرجل والمرأة، وقال الحنفية: يرفع الرجل إلى الأذنين، والمرأة إلى المنكبين؛ لأنه أستر لها، ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أم الدرداء أنها كانت ترفع يديها حذو منكبيها، وعن الزهريّ: ترفع المرأة يديها حذو منكبيها، وعن عطاء بن أبي رباح، وحماد بن أبي سليمان، أنهما قالا: ترفع المرأة يديها في الصلاة حذو ثدييها، وعن حفصة بنت سيرين، أنها رفعت يديها في الصلاة حذو ثدييها، وقال عطاء بن أبي رباح: إن للمرأة هيئة ليست للرجال، وإن تركت ذلك فلا حرج. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون المرأة تخالف الرجل في صفة الرفع في الصلاة مما لا دليل عليه، فالراجح ما ذهب إليه الشافعيّة من عدم الفرق بينهما في ذلك.

والحاصل أن المرأة ترفع كما يرفع الرجل؛ لأن النصوص الواردة في ذلك عامّة لهما، حتى يأتي نصّ يفرّق بينهما، ولم نجده؛ فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "طرح التثريب" 2/ 258 - 259.

(2)

"الفتح" 2/ 461.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 259 - 260.

ص: 175

(المسألة العاشرة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ذكر الإمام أحمد بن حنبل، عن شيخه سفيان بن عيينة، أن أكثر ما كان يقول في هذا الحديث:"وبعدما يرفع رأسه من الركوع"، وأنه قال مرة:"وإذا رفع رأسه من الركوع"، والذي رواه غير الإمام أحمد، عن ابن عيينة:"وإذا رفع رأسه من الركوع"، كذلك رواه مسلم في "صحيحه" عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وعَمْرو الناقد، وزهير بن حرب، ومحمد بن عبد اللَّه بن نُمير، ورواه الترمذيّ عن قتيبة، وابن أبي عمر، والفضل بن الصَّبّاح البغدادي، ورواه النسائيّ عن قتيبة، ورواه ابن ماجه عن عليّ بن محمد، وهشام بن عمار، وأبي عمر حفص بن عمر الضرير المقرئ، كلهم، وهم اثنا عشر، عن ابن عيينة، بلفظ:"وإذا رفع رأسه من الركوع"، ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، بلفظ:"وبعد الركوع"، ومعنى الرواية المشهورة: وإذا أراد الرفع، أو إذا شرع فيه، وبهذا قال الشافعيّة، فذكروا أن ابتداء رفع اليدين يكون مع ابتداء رفع الرأس، ويدل له قوله في رواية لأبي داود:"ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما، حتى يكونا حذو منكبيه"، فهي دالّة على أن قوله:"رفع" معناه: أراد الرفع، ويمكن أن تُرَدّ إليها رواية أحمد الأخرى بأن يكون معنى قوله:"وبعدما يرفع رأسه من الركوع": بعدما يَشْرَع في رفع رأسه، فتتفق الروايات كلها، على أن رفع اليدين مقارن لرفع الرأس من الركوع. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): قوله: "ولا يرفعهما بين السجدتين"، وفي رواية ابن جريج:"ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود"، ولفظ البخاريّ:"ولا يفعل ذلك في السجود".

قال وليّ الدين رحمه الله: وهو أعم؛ لتناوله النزول للسجدة الأولى، ورفع الرأس من السجدة الثانية، وكذا قوله في لفظ آخر:"ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، قال: وَوَهَّم بعضهم راوي اللفظ الأول، وهو قوله:"بين السجدتين"، وصَوَّب بقية الألفاظ؛ لعمومها.

وقال الدارقطنيّ في "غرائب مالك": إن قول بُنْدَار: "بين السجدتين" وَهَم، وقول ابن سنان:"في السجود" أصحّ.

ص: 176

ويعارض هذه الألفاظ قوله في رواية للطبرانيّ من حديث ابن عمر أيضًا: "كان يرفع يديه إذا كبر، وإذا رفع، وإذا سجد"، وفي "سنن ابن ماجه" من حديث أبي هريرة:"وحين يركع، وحين يسجد"، ولأبي داود:"وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك"، وله من حديث وائل:"وإذا رفع رأسه من السجود"، وللنسائيّ من حديث مالك بن الحويرث:"وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده"، ولأحمد من حديث وائل:"كلما كبر، ورفع، ووضع، وبين السجدتين"، ولابن ماجه من حديث عُمير بن حبيب:"مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة"، وللطحاويّ من حديث ابن عمر:"كان يرفع يديه في كل خفض، ورفع، وركوع، وسجود، وقيام وقعود، وبين السجدتين".

وذكر الطحاويّ أن هذه الرواية شاذّةٌ، وصححها ابن القطان، والدارقطنيّ في "العلل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"يرفع يديه في كل خفض ورفع"، وقال: الصحيح "يكبر"، وصحح ابن حزم، وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع، وأعله الجمهور، وقد ذكر والدي رحمه الله هذه الروايات كلها في الأصل في النسخة الكبرى.

فتمسَّك الأئمة الأربعة بالروايات التي فيها نفي الرفع في السجود؛ لكونها أصحّ، وضعفوا ما عارضها كما تقدم، وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف.

وأخذ آخرون بالأحاديث التي فيها الرفع في كل خفض ورفع، وصححوها، وقالوا: هي مثبتةٌ، فهي مقدمة على النفي، وبه قال ابن حزم الظاهريّ، وقال: إن أحاديث رفع اليدين في كل خفض ورفع متواترة، توجب يقين العلم، ونَقَلَ هذا المذهب عن ابن عمر، وابن عباس، والحسن البصريّ، وطاوس، وابنه عبد اللَّه، ونافع مولى ابن عمر، وأيوب السختيانيّ، وعطاء بن أبي رباح، وقال به ابن المنذر، وأبو علي الطبريّ من الشافعيّة، وهو قول عن مالك، والشافعيّ، فَحَكَى ابنُ خُوَيز منداد عن مالك روايةَ أنه يرفع في كل خفض ورفع، وفي أواخر البويطيّ: يرفع يديه في كل خفض ورفع، ورَوَى ابن أبي شيبة الرفع بين السجدتين عن أنس، والحسن، وابن سيرين. انتهى كلام

ص: 177

وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنّفه": حدثنا الثَّقفيّ، عن حميد، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كان يرفع يديه في الركوع والسجود"، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، قال: كان الحسن يفعله، قال: حدثنا ابن فُضيل، عن عاصم بن كليب، عن محارب بن دِثار، عن ابن عمر، قال: رأيته يرفع يديه في الركوع والسجود، فقلت له: ما هذا؟ فقال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين كبر، ورفع بيديه

(2)

.

قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس، أنه كان يرفع يديه بين السجدتين.

قال: نا أبو أسامة، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى.

قال: نا ابن عُلَيّة، عن أيوب، قال: رأيت نافعًا وطاوسًا يرفعان أيديهما بين السجدتين.

قال: نا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن الحسن، وابن سيرين أنهما كانا يرفعان أيديهما بين السجدتين.

قال: نا ابن علية، عن أيوب، قال: رأيته يفعله. انتهى كلام ابن أبي شيبة رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أنه صحّ رفع اليدين في السجود عن جماعة من السلف، كما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد أخرج النسائي بسنده عن سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وهشام الدستوائيّ، ثلاثتهم عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه، "أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه".

وقال أبو عوانة في "مسنده": حدّثنا السائغ بمكة، قال: ثنا عفّان، قال:

(1)

"طرح التثريب" 2/ 261 - 262.

(2)

"مصنّف ابن أبي شيبة" 1/ 213.

(3)

"مصنّف ابن أبي شيبة" 1/ 243.

ص: 178

ثنا همّام، قال: أنبأنا قتادة، بإسناده:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حِيَال أُذنيه في الركوع، والسجود". انتهى

(1)

.

وخلاصة القول: إن حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه بزيادة الرفع في السجود صحيح دون شكّ، فمن ادّعى فيه شذوذًا، أو غيره، فقد جازف، وقال بغير برهان.

وقد صحّ أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه، كما أسلفناه من رواية ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، وأخرجه ابن حزم في "المحلّى"

(2)

من طريق ابن أبي شيبة.

والحاصل أن قول من قال باستحباب رفع اليدين في السجود هو الراجح؛ لصحّة دليله، ولكن مثل هذه السنّة يُعمل بها أحيانًا؛ لأن أحاديث النفي صحيحة أيضًا، فيُجمع بينها وبين أحاديث الإثبات بحمل أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في بعض الأوقات، فبهذا تجتمع الأحاديث، ويمكن العمل بكلّها، من غير تفريط، ولا إفراط، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): في حكم رفع اليدين عند القيام من الركعتين:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قد يُستَدَلُّ بقوله: "ولا يرفعهما بين السجدتين" على أنه كان يرفع يديه في القيام من الركعتين؛ لأنه لو اقتصر على الرفع في المواطن الثلاثة المتقدم ذكرُها، لَمْ يكن للنفي في السجود معنًى؛ لوجود النفي في غير السجود أيضًا، فدلّ النفي عن السجود على ثبوت الرفع في غير المواطن الثلاثة، وما هو إلَّا القيام من الركعتين، ويدل لذلك قوله في "صحيح البخاري" من رواية عبد الأعلى، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر:"وإذا قام من الركعتين، رفع يديه، ويرفع ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

وقال أبو داود: الصحيح قول ابن عمر، ليس بمرفوع، ورَجَّح الدارقطنيّ الرفع، فقال: إنه أشبه بالصواب، ويوافقه أيضًا قوله في حديث أبي حميد الساعدي، في عشرة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ثم إذا قام من الركعتين كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 427 رقم (1590).

(2)

راجع: "المحلّى" 4/ 92.

ص: 179

افتتاح الصلاة"، رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم.

وقال الخطابيّ: هو حديث صحيحٌ، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، ولم يذكره الشافعيّ، والقول به لازم على أصله في قبول الزيادات.

وحَكَى البيهقيّ، عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، أنه كان إذا قام من الركعتين رفع يديه، ثم قال بعد ذلك: ورفع اليدين عند القيام من الركعتين سنة، وإن لَمْ يذكره الشافعيّ، فإن إسناده صحيح، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم رَوَى عن الشافعيّ قوله: إذا وجدتم في كتابي بخلاف سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقولوا بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودَعُوا ما قلت.

وقال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة": اقتَصَر الشافعيّ على الرفع في هذه الأماكن الثلاثة، وقد ثبت الرفع عند القيام من الركعتين، وقياس نظره أن يُسَنَّ الرفع في ذلك المكان أيضًا؛ لأنه كما قال بإثبات الرفع في الركوع، والرفع منه؛ لكونه زائدًا على مَن روى الرفع في التكبير قط، وجب أيضًا أن يثبت الرفع عند القيام من الركعتين؛ لأنه زائد على من أثبت الرفع في هذه الأماكن الثلاثة، والحجة واحدة في الموضعين، وأول رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا، والصواب -واللَّه أعلم- استحباب الرفع عند القيام من الركعتين؛ لثبوته في الحديث، أما كونه مذهبًا للشافعيّ؛ لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أو ما هذا معناه، ففي ذلك نظرٌ. انتهى.

وقولهم: إن الشافعيّ لَمْ يذكر الرفع عند القيام من الركعتين فيه نظر، فإن الشافعي قال في حديث أبي حميد، وبهذا نقول، وفيه رفع اليدين إذا قام من الركعتين.

قال البيهقيّ في "المعرفة": هو مذهب الشافعيّ؛ لقوله: وبه أقول، ولقوله: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، ولذلك حكاه النوويّ عن نَصّ الشافعيّ، وقال: إنه الصحيح، أو الصواب، وأطنب في ذلك في "شرح المهذَّب"، واعتمد البخاريّ رواية ابن عمر هذه، وبوَّب عليها في "صحيحه":"باب رفعِ اليدين إذا قام من الركعتين"، وقال ابن بطال: الرفع عند القيام زيادةٌ في هذا الحديث، على ما رواه ابن شهاب، عن سالم فيه، يجب قبولها لمن يقول

ص: 180

بالرفع، وليس في حديث ابن شهاب ما يدفعها، بل فيه ما يثبتها، وهو قوله:"وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين"، فدليله أنه كان يفعلها في كل خفض ورفع، ما عدا السجود، وقال البخاريّ في "كتاب رفع اليدين": ما زاده ابن عمر، وعليّ، وأبو حميد، في عشرة من الصحابة رضي الله عنهم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا قام من الركعتين"، كله صحيح؛ لأنهم لَمْ يَحْكُوا صلاةً واحدةً، ويختلفون فيها، مع أنه لا اختلاف في ذلك، وإنما زاد بعضهم، والزيادة مقبولة من الثقة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن الحقّ قول من قال باستحباب رفع اليدين عند القيام من الركعتين؛ لصحّة الحديث بذلك؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ما ذكره والدي رحمه الله في الأصل في النسخة الكبرى" من أن رفع اليدين رُوي من حديث خمسين من الصحابة، ذكره أيضًا في شرح "ألفيته"، فقال: وقد جَمعتُ رواته، فبلغوا نحو الخمسين، لكن ابن عبد البر في "التمهيد" اقتصر على ثلاثة عشر، والسِّلَفيّ قال: رواه سبعة عشر، ومن عَلِمَ حجة على من لَمْ يعلم، وقوله: إن منهم العشرةَ سبقه إليه غير واحد، فقال البيهقيّ: سمعت الحاكم أبا عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الحافظ يقول: لا نعلم سنةً اتَّفَقَ على روايتها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة، ثم العشرة الذين شَهِد لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجنة، فمن بعدهم من أكابر الصحابة، على تفرقهم في البلاد الشاسعة، غير هذه السنة، قال البيهقيّ: وهو كما قال أستاذنا أبو عبد اللَّه، وقال الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد في "الإلمام": جزمه ليس بجيِّد، فإنّ الجزم إنما يكون مع الصحة، ولعله لا يصح عن جملة العشرة.

قال وليّ الدين: ولذلك أتى والدي رحمه الله بصيغة التمريض، فقال: رُوي، وممن ذَكَر أن حديث رفع اليدين رواه العشرة عبدُ الرحمن بن محمد بن منده، في كتاب له سماه "المستخرج من كتب الناس"، لكن في تخصيص الحاكم

(1)

"طرح التثريب" 2/ 263 - 264.

ص: 181

والبيهقيّ رواية العشرة بحديث رفع اليدين نظر، فقد شاركه في ذلك حديث:"مَنْ كَذَب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، ذكر غير واحد أنه رواه العشرة، فحَكَى ابن الجوزي في مقدمة "الموضوعات" عن أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفرايينيّ، أنه ليس في الدنيا حديث اجتَمَع عليه العشرة غيره.

وحَكَى ابن الصلاح ذلك عن بعض الحفاظ، ولعله أراد هذا، وفي هذا الحصر نظر أيضًا؛ لما عَرَفت، وقد شاركهما في ذلك حديثُ مسح الخفين، فقد رواه أكثر من ستين من الصحابة، ومنهم العشرة، كما ذكره عبد الرحمن بن منده في "المستخرج من كتب الناس". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال في معرِض الردّ على من ادّعَى عدم وجود المتواتر، أو عزّته:

وَبَعْضُهُمْ قَدِ ادَّعَى فِيهِ الْعَدَمْ

وَبَعْضُهُمْ عِزَّتَهُ وَهْوَ وَهَمْ

بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ كَثِيرُ

وَفِيهِ لِي مُؤَلَّفٌ نَضِيرُ

خَمْسٌ وَسَبْعُونَ رَوَوْا "مَنْ كَذَبَا"

وَمِنْهُمُ الْعَشْرَةُ ثُمَّ انْتَسَبَا

لَهَا حَدِيثُ "الرَّفْعِ لِلْيَدَيْنِ"

وَ"الْحَوْضِ" و"الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ"

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حكم تكبيرة الإحرام: قال النوويّ رحمه الله: تكبيرة الإحرام واجبة عند مالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلماء كافّة، من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم رضي الله عنهم إلَّا ما حكاه القاضي عياض، وجماعة عن ابن المسيِّب، والحسن، والزهريّ وقتادة، والحكم، والأوزاعيّ أنه سنة ليس بواجب، وأن الدخول في الصلاة يكفي فيه النية، قال: ولا أظنّ هذا يصح عن هؤلاء الأعلام مع هذه الأحاديث الصحيحة، مع حديث عليّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مفتاح الصلاة الطُّهُور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، وهو حديث صحيح

(2)

.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 264.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود 1/ 16، والترمذيّ 1/ 8، وابن ماجة 1/ 101.

ص: 182

ولفظة التكبير "اللَّه أكبر"، فهذا يجزئ بالإجماع، قال الشافعيّ: ويجزي "اللَّه الأكبر"، لا يجزي غيرهما، وقال مالك: لا يجزئ إلَّا "اللَّه أكبر"، وهو الذي ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوله، وهذا قول منقولٌ عن الشافعيّ في القديم، وأجاز أبو يوسف "اللَّه الكبير"، وأجاز أبو حنيفة الاقتصار فيه على كل لفظ فيه تعظيم اللَّه تعالى، كقوله: الرحمن أكبر، أو اللَّه أجلّ، أو أعظم، وخالفه جمهور العلماء من السلف والخلف. انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: "إذا قمت إلى الصلاة، فكبّر"، وجاء الحديث عنه أنه قال:"مفتاح الصلاة الطَّهُور، وإحرامها التكبير"، وجاءت الأخبار من وجوه شتّى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه افتتح الصلاة بالتكبير، وأجمع أهل العلم على أن من أحرم للصلاة بالتكبير أنه داخل فيها.

وممن رأى أن التكبير افتتاح للصلاة عبد اللَّه بن مسعود، وطاوس، وأيوب، وسفيان الثوريّ، وما لك بن أنس، والشافعيّ، وأبو ثور، وإسحاق، وعليه عوامّ أهل العلم في القديم والحديث، لا يختلفون أن السنّة أن تُفتَتَحَ الصلاة بالتكبير.

وكان الحكم يقول: إذا ذَكَر اللَّه مكان التكبير يُجزيه.

واختَلَف أصحاب الرأي في هذه المسألة، فحَكَى يعقوب، عن النعمان أنه قال في الرجل يفتتح الصلاة بـ "لا إله إلَّا اللَّه": يجزيه، وإن افتتح بـ "اللهم اغفر لي" لَمْ تجزه الصلاة، قال: وهو قول محمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: تجزيه إذا كان يُحسن التكبير.

ثم قال ابن المنذر بعد الاختلافات: والأخبار الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب مُستغنًى بها عما سواها، ولا معنى لقول أُحْدِثَ مخالفًا للسنن الثابتة، ولِمَا كان عليه الخلفاء الراشدون المهديّون، وسائر المهاجرين والأنصار، وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفقهاء المسلمين في القديم والحديث.

وقد أجمع أهل العلم، لا اختلاف بينهم أن الرجل يكون داخلًا في

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 96 - 97.

ص: 183

الصلاة بالتكبير، متّبعًا للسنّة إذا كبّر لافتتاح الصلاة، وقد اختلفوا فيمن سبّح مكان التكبير لافتتاح الصلاة، وغير جائز أن تنعقد صلاة عقدها مصلّيها بخلاف السنّة.

واختلفوا في الرجل يفتتح الصلاة بالفارسيّة، فكان الشافعيّ وأصحابه يقولون: لا يجزئ أن يكبّر بالفارسيّة إذا أحسن العربيّة، وهكذا قال يعقوب ومحمد: إن ذلك لا يجزيه إلَّا أن يكون ممن لا يُحسن العربيّة، وقال النعمان: إن افتتح الصلاة بالفارسيّة، وقرأ بها، وهو يُحسن العربيّة أجزأه.

قال ابن المنذر: لا يجزيه؛ لأن ذلك خلاف ما أمر اللَّه به، وخلاف ما علّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمته، وما عليه جماعات أهل العلم، لا نعلم أحدًا وافقه على مقالته هذه، ولا يكون قارئًا بَالفارسيّة القرآن أبدًا؛ لأن اللَّه تعالى أنزله قرآنًا عَربيًّا، فغير جائز أن يُقرأ بغير ما أنزل اللَّه تعالى. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر من أقوال أهل العلم، وأدلّتهم أن الحقّ إيجاب لفظ التكبير للدخول في الصلاة؛ لأنه الثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، بل جاء بصيغة الأمر، والأمر للوجوب، وأما القائلون بإجزاء غيره من الألفاظ، فليس عندهم حجة، وإنما هو مجرّد قياس، فلا يجوز الالتفات إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[868]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ:"كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى تَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ").

(1)

راجع: "الأوسط" 3/ 75 - 78.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 184

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ، يُدلّس، ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ)"الْحَذْوُ" -بفتح الحاء المهملة، وسكون الذال المعجمة-: المقابل، و"المنكب" -بفتح الميم، وكسر الكاف، بينهما نون ساكنة-: مجمع عظم العضد والْكَتِف، وتمام شرح الحديث ومسائله تقدّمت فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[869]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ، وَهُوَ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ

(1)

، عَنْ عُقَيْلٍ (ع) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ، رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى تَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عُمير، سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9](ت ببغداد سنة 205)(خ م ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(عُقَيْل) بن خالد الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ) -بضمّ القاف، وسكون الهاء، ثم زاي- المروزيّ، ثقة [11](ت 262) من أفراد المصنّف، تقدّم في "المقدّمة" 5/ 32.

(1)

وفي نسخة: "ليث".

ص: 185

5 -

(سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) المروزيّ، أبو سليمان، ويقال: أبو أيوب المؤدّب، ثقةٌ حافظ، كان يُوَرِّق لابن المبارك، من كبار [10].

رَوَى عن ابن المبارك، وأبي حمزة السُّكَّريّ.

ورَوَى عنه إسحاق بن راهويه، ومحمد بن عبد اللَّه بن قُهْزاذ، وأحمد بن أبي رجاء الْهَرَويّ، وأحمد بن سعيد الرِّباطيّ، وعلي بن خشرم، وعبدة بن عبد الرحيم المروزيّ ومحمد بن أسلم الطوسيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: من جِلَّة أصحاب ابن المبارك، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أحمد بن منصور المروزيّ: حدثنا بنحو من عشرة آلاف حديث من حفظه، وقال: هل يمكن أحدًا منكم أن يقول غَلِطتُ في شيء؟ وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: قال محمد بن الليث: مات سنة ست وتسعين ومائة، وقيل: مات سنة (203)، وقيل: سنة (4) حَكَى الأقوال الثلاثة ابن حبان، وجزم بالأول، وقال أبو رجاء، محمد بن حمدويه في "تاريخ مرو": كان وَرّاقًا لابن المبارك، وهو من ثقات أصحابه، مات سنة (203).

أخرج له البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (390)، وحديث (1086):"الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا. . . "، و (2629):"من ابتُلي من البنات بشيء. . . ".

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن المبارك بن واضح المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، عالم، جواد، مجاهدٌ، جُمِعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 32.

7 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) الضمير لعُقَيل، ويونس.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي إسناد الزهريّ السابق، وهو عن سالم بن عبد اللَّه، أن ابن عمر. . . إلخ.

ص: 186

[تنبيه]: رواية الليث، عن عُقيل التي أشار إليها هنا أخرجها أبو نُعيم في "مستخرجه" (2/ 12) فقال:

(858)

حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث بن سعد، حدثني عُقَيل، عن الزهريّ، عن سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن عمر، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، ثم كبّر، وإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود". انتهى.

وأما رواية عبد اللَّه بن المبارك، عن يونس، فأخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(736)

حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد اللَّه، قال: أخبرنا يونس، عن الزهريّ، أخبرني سالم بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع اللَّه لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[870]

(391) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُويرِثِ، إِذَا صَلَّى كَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ تقدّم أول الباب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

ص: 187

3 -

(خَالِد) بن مِهْرَان الحذّاء، تقدّم قريبًا في الأذان.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد اللَّه بن زيد بن عَمْرو، تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) -بالتصغير- ابن حُشَيش بن عوف بن جُنْدَع، أبو سليمان الليثيّ الصحابيّ، وقيل في نسبه غير ذلك، نزل البصرة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه أبو قِلابة الْجَرْميّ، وأبو عطية، مولى بني عُقَيل، ونصر بن عاصم الليثيّ، وسَوّار الْجَرْميّ، قال الحافظ: ذكر ابن عبد البر أنه تُوُفّي سنة أربع وتسعين، وتبعه على ذلك ابن طاهر وغيره، وفيه نظر، بل لا يصح ذلك؛ لاتفاقهم على أن آخر من مات بالبصرة من الصحابة أنس بن مالك، حتى إن ابن عبد البرّ ممن صرَّحَ بذلك، والظاهر أن ذلك تصحيف، وأن وفاته سنة أربع وسبعين، بتقديم السين، وهو الذي في كتاب أبي عليّ بن السكن، بخط من يوثق به، وبه جزم الذهبيّ في "مختصره". انتهى

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (391) وأعاده بعده، وحديث (674):"ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم. . . "، وأعاده بعده.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: خالد الحذّاء، عن أبي قلابة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلَّا نحو ستّة أحاديث فقط، راجع "تحفة الأشراف"(8/ 5 - 10)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 10/ 12.

ص: 188

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بكسر القاف، عبد اللَّه بن زيد بن عَمْرو الْجَرْميّ (أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُويرِثِ) بالتصغير رضي الله عنه (إِذَا صَلَّى) أي إذا أراد أن يدخل في الصلاة (كَبَّرَ) أي قال: اللَّه أكبر، قال النوويّ رحمه الله: والحكمة في ابتداء الصلاة بالتكبير، افتتاحها بالتنزيه، والتعظيم للَّه تعالى، ونعته بصفات الكمال، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ) فيه أن الرفع بعد التكبير، وتقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رفع يديه، ثم كبّر، واختلف العلماء في التوفيق بينهما، والراجح أنه يُحْمَل على اختلاف الأوقات، فيدلّ على جواز الأمرين، كما أسلفت تحقيقه؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وزاد في رواية أبي عوانة، عن قتادة التالية:"حتى يُحاذي بهما أُذنيه"، وفي رواية سعيد، عن قتادة:"حتى يُحاذي بهما فُروع أذنيه".

(وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ) زاد في رواية أبي عوانة: "حتى يُحاذي بهما أُذنيه"، وفيه أن الرفع يكون قبل الركوع، لا بعده (وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ) وفي رواية أبي عوانة:"وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: سمع اللَّه لمن حَمِده فعل مثل ذلك"(وَحَدَّثَ) أي مالك بن الْحُوَيرث (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا) أي من التكبير، والرفع في هذه المواضع، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث مالك بن الْحُوَيرث رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 870 و 871 و 872](391)، و (البخاريّ) في "الأذان"(737)، وفي "جزء رفع اليدين"(ص 6 و 17 و 18)، و (أبو داود) في "الصلاة"(745)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 123)، و (ابن ماجه) في

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 97.

ص: 189

"الصلاة"(859)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1510)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1863 و 1872)، و (أحمد) في "مسنده"(15046 و 19626)، و (الدارميّ) في "سننه"(1223)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1587 و 1588 و 1589 و 1590)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(860 و 861 و 862)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[871]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذَيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلِ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبتٌ يدلّس، رأس الطبقة [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(نَصْرُ بْنُ عَاصِمِ) بن عمرو بن خالد بن حِزَام بن سعد بن وَدِيعة بن مالك بن قيس بن عامر بن ليث الليثيّ البصريّ، ثقةٌ، رُمي برأي الخوارج، وصحّ رجوعه [3].

رَوَى عن عمر بن الخطاب، ومالك بن الحويرث الليثيّ، وأبي بكرة، وأبي معاوية الليثيّ، والمستورد التيميّ.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 190

ورَوَى عنه حميد بن هلال، وقتادة، وعمران بن حُدير، وبشر بن الشعثاء، وبشر بن عبيد، وأبو سعيد البقال.

ذَكَره خليفة في الطبقة الثانية من قُرّاء أهل البصرة، قال أبو داود: كان خارجيًّا، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال سهل بن محمود، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار: جلست أنا والزهريّ إلى نصر بن عاصم، فلما قُمت من عنده قال: إن هذا ليقلع العربية تقليعًا.

قال خليفة: مات بعد الثمانين، وقال المرزباني في "معجم الشعراء": كان على رأي الخوارج، ثم تركهم، وأنشد له [من الكامل]:

فَارَقْتُ نَجْدَةَ وَالَّذِينَ تَزَرَّقُوا

وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَشِيعَةَ الْكَذَّابِ

في أبيات، وفي "طبقات ابن سعد": رَوَى عن أبيه، وله صحبة.

أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث فقط.

و"مالك بن الحويرث" تقدّم، وكذا شرح الحديث وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[872]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَنَّهُ رَأَى نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(سَعِيد) بن أبي عَرُوبة، واسمه مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 156)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

ص: 191

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة الماضي، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الْحُويرث رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة التي أحالها المصنّف هنا أخرجها النسائيّ بسند المصنّف، فقال في "سننه":

(1085)

أخبرنا محمد بن المثني، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد

(1)

، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث أنه "رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه". انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ إِثْبَاتِ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ، وَرَفْعِ فِي الصَّلَاةِ، إِلَّا رَفْعَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَيَقُولُ فِيهِ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[873]

(392) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ

(2)

، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

هكذا وقع في "السنن الكبرى" للنسائي، ووقع في "المجتبى""عن شعبة" بدل "عن سعيد"، وكذلك أخرجه ابن حزم في "المحلّى"(4/ 92) من طريق المصنّف، وقد رجّح العلامة أحمد محمد شاكر: كونه سعيدًا فيما كتبه على "المحلّى"، وكنت خالفته فرجّحت في شرحي على "المجتبى" كونه شعبة، ولكن الآن ترجّح لي أن الصواب معه؛ لأن مسلمًا أخرجه هنا كذلك؛ فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "بِهِمْ".

ص: 192

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 423.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ) أي كلّما نزل من القيام إلى الركوع، أو السجود، وكلما ارتفع من السجود إلى الجلوس، أو القيام، أو من الجلوس إلى القيام.

وقال في "الفتح": هذا عامّ في جميع الانتقالات في الصلاة، لكن خُصّ منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شُرع فيه التحميد. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه ومسائله تأتي في الحديث التالي، وإنما أخرتها إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[874]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْمَثْنَى بَعْدَ الْجُلُوسِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ

(1)

"الفتح" 2/ 316.

ص: 193

المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: اسمه كنيته، وكنيته أبو عبد الرحمن، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المخزوميّ، أحد الفقهاء السبعة المشهورين من التابعين بالمدينة المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

[تنبيه]: قوله: "عن أبي بكر بن عبد الرحمن" كذا هو هنا من رواية ابن جُريج، عن ابن شهاب، وكذا هو في رواية عُقيل التالية، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وفي رواية مالك المختصرة التي قبل هذا، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وكذا هو في رواية يونس المطوّلة الآتية بعد حديث: عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وكذا من رواية معمر، عن ابن شهاب، عند السرّاج، وليس هذا الاختلاف قادحًا، بل الحديث عند ابن شهاب عنهما جميعًا، ولذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، قال:"أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة. . . " الحديث

(1)

.

(أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ) فيه التكبير قائمًا، وهو بالاتّفاق في حقّ القادر (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على مقارنة التكبير للحركة، وبسطه عليها، فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع، ويمدّه حتى يَصِلَ إلى حدّ الراكع. انتهى.

وتعقّبه في "الفتح"، فقال: دلالته على البسط الذي ذكره غير ظاهرة. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 318.

(2)

"الفتح" 2/ 318.

ص: 194

وعبارة النوويّ في "شرحه": هذا دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات، وبسطه عليها، فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع، ويمدّه حتى يَصِلَ حد الراكعين، ثم يشرع في تسبيح الركوع، ويبدأ بالتكبير حين يشرع في الْهُوِيّ إلى السجود، ويمدّه حتى يضع جبهته على الأرض، ثم يشرع في تسبيح السجود، ويبدأ في قوله:"سمع اللَّه لمن حمده" حين يشرع في الرفع من الركوع، ويمدّه حتى ينتصب قائمًا، ثم يشرع في ذكر الاعتدال، وهو "ربنا لك الحمد. . . " إلى آخره، ويَشْرَع في التكبير للقيام من التشهد الأول حين يشرع في الانتقال، ويمدّه حتى ينتصب قائمًا، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة إلَّا ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وبه قال مالك: إنه لا يكبر للقيام من الركعتين حتى يستوي قائمًا، ودليل الجمهور ظاهر الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي الذي قاله النوويّ من أنه يمدّ التكبير حتى تتمّ الحركة ليس في حديث الباب ما يدلّ عليه، كما أشار إليه صاحب "الفتح" آنفًا، وإنما يدلّ على أن التكبير يقارن هذه الانتقالات، فيُستحبّ أن ينتقل من ركن إلى ركن مصاحبًا للذكر المسنون فيه، وأما أن يمدّه حتى يَصِل إلى الركن الذي يليه فمما لا دليل عليه، بل ربّما يؤدّي إلى إخراج الحرف عن المدّ المطلوب فيه، فتبصّر.

وقال الصنعانيّ رحمه الله في "حاشية العمدة": ظاهر قوله: يُكبّر حين كذا، وحين كذا أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن، وأما القول بأنه يمدّ التكبير حتى يُتمّ الحركة، فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه، ولا نقصان عنه. انتهى.

وقال صاحب "المنهل": وعلى تسليم ما قاله النوويّ في مدّ التكبير إلى انتهاء حركات الانتقال، فينبغي للمصلّي أن يُسرع بحركات الانتقال، ويُراعي عدم مدّ لفظ الجلالة أزيد من حركتين، فإنه مدّ طبيعيّ، وقد اتّفق القرّاء على أنه لا يجوز مدّه أزيد من حركتين، خلافًا لبعضهم من مبالغتهم في هذا المدّ

(1)

"شرح النووي" 4/ 99.

ص: 195

إلى ستّ حركات، أو أكثر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله صاحب "المنهل" من الإسراع في الانتقالات فيه نظر لا يخفى؛ لأن الإسراع مخلّ بالطمأنينة، ومخالف للسنة؛ لأن السنّة في الانتقالات وغيرها كونها على سكون وطمأنينة، كما تدلّ عليه الأحاديث الصحيحة، فلا ينبغي ذلك للمصلّي؛ لأنه ربّما يؤدّي ترك الطمانينة إلى بطلان الصلاة، كما سيأتي في حديث المسيء صلاته؛ فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ) فيه دليلٌ على أن التسميع ذكر القيام من الركوع، و"الصُّلْب" بضمّ الصاد المهملة، وسكون اللام: كلُّ ظهر له فَقَارٌ، وتُضمّ اللام للاتباع، قاله في "المصباح"

(2)

.

وقال في "القاموس": "الصُّلْبُ" بالضمّ، وكَسُكَّرٍ، وأَمِيرٍ: الشديد، صَلُبَ؛ كَكَرُمَ، وسَمِعَ صَلابةً، وصَلَّبَ تصليبًا، وصَلّبته أنا، وبالضمّ، وبالتحريك: عظْمٌ من لدن الكاهل إلى الْعَجْبِ؛ كالصَّالِيبِ، جمعه: أَصْلُبٌ، وأصلابٌ، وصِلْبَةٌ. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: استُفيد من عبارتي "المصباح"، و"القاموس" أن "الصُّلْب" هنا يُضبط بضمّ، فسكون، وبضمّتين، وبفتحتين، وهو معنى التحريك المذكور في "القاموس"؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) فيه دليلٌ على أن التحميد ذكر الاعتدال (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي) أي بفتح الياء: مضارع هَوَى: إذا سقط، وهَبَطَ، يقال: هَوَى يهوي، من باب ضرب هُوِيًّا، بضمّ الهاء، وفتحها، وزاد ابن القوطيّة: هَوَاءً بالمدّ: سقط من أعلى إلى أسفل، قاله أبو زيد وغيره، قال الشاعر [من الوافر]:

هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ

يُروى بالفتح، والضمّ، واقتصر الأزهريّ على الفتح، وهَوَى يَهْوِي أيضًا

(1)

"المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 5/ 272.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 345.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 93.

ص: 196

هُويًّا بالضمّ لا غير: إذا ارتفع، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "القاموس": هَوَى يَهْوِي هَوِيًّا بالفتح، والضمّ، وهَوَيَانًا: سقط من عُلو إلى سُفْل، أو الْهَوِيّ بالفتح للإصعاد، والْهُويّ بالضمّ للانحدار. انتهى باختصار

(2)

.

والمناسب هنا معنى الانحدار؛ فتنبّه.

(سَاجِدًا) حال من الفاعل، وفيه أن التكبير ذكر الْهَوِيّ، فيبتدئ به حين يشرع في النزول بعد الاعتدال (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) أي من السجود (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ) أي السجود الثاني (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) أي من السجود الثاني (ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ) أي الذي تقدّم ذكره من الأذكار (فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، حَتَّى يَقْضِيَهَا) أي حتى يُتمّ صلاته، يقال: قضى فلانٌ صلاته: أي فرغ منها، قاله في "اللسان"

(3)

.

وقال في "المصباح": قَضَيتُ الحجِّ والدّينَ: أَدَّيته، قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} الآية [البقرة: 200] أي أدّيتموها، فالقضاء هنا بمعنى الأداء، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} الآية [الجمعة: 10]، أي أدّيتموها، واستَعْمَل العلماء القضاء في العبادة التي تُفعَل خارج وقتها المحدود شرعًا، والأداءَ إذا فُعِلت في الوقت المحدود، وهو مخالف للوضع اللغويّ، لكنه اصطلاحٌ للتمييز بين الوقتين. انتهى

(4)

.

(وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْمَثْنَى) أي من الثنتين، وفي رواية البخاريّ:"ويكبّر حين يقوم من الثنتين"، وهو معنى قوله الآتي في حديث عمران رضي الله عنه:"وإذا نَهَضَ من الركعتين"(بَعْدَ الْجُلُوسِ) أي لقراءة التشهّد الأول، وهذه الرواية مفسّرة للرواية المختصرة التي قبل هذه الرواية، بلفظ:"فيكبّر كلما خفض، ورَفَعَ"(ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أي بعد أن يُصلّي بهذه الكيفيّة، كما تُرشد إليه رواية أبي سلمة الآتية، وأوضح منها ما أخرجه البخاريّ، من طريق شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 643.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 404.

(3)

"لسان العرب" 15/ 187.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 506 - 507.

ص: 197

هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة، كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع اللَّه لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد، ثم يقول: اللَّه أكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين، ويفعل ذلك في كل ركعة، حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إن كانت هذه لصلاته، حتى فارق الدنيا. انتهى

(1)

.

(إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي سلمة الآتية: "وفإذا قضاها، وسلّم، أقبل على أهل المسجد، فقال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 873 و 874 و 875 و 876 و 877 و 878](392)، و (البخاريّ) في "الأذان"(785 و 789 و 795 و 803)، و (أبو داود) في "الصلاة"(836)، و (النسائيّ) فيها (2/ 235)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 76)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 81)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2485)، (وابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 241)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 452 و 502)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(191)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(579)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1766 و 1767 و 1797)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 67)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1591 و 1592 و 1593 و 1594)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(864 و 865 و 866 و 867 و 868)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه" برقم (803) 2/ 338 بنسخة "الفتح".

ص: 198

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة التكبير في الصلاة في كل خفض ورفع، إلَّا في رفعه من الركوع، فإنه يقول فيه:"سمع اللَّه لمن حمده"، قال النوويّ: وهذا مُجْمَع عليه اليوم، ومن الأعصار المتقدمة، وقد كان فيه خلافٌ في زمن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلَّا للإحرام، وبعضهم يزيد عليه بعض ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والظاهر أن هؤلاء لَمْ يبلغهم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم استقر العمل على ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، ففي كل صلاة ثُنائية إحدى عشرة تكبيرة، وهي تكبيرة الإحرام، وخمسٌ في كل ركعة، وفي الثُّلاثية سبع عشرة تكبيرةً، وهي تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرُّباعيّة اثنتان وعشرون تكبيرةً، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرةً

(1)

.

2 -

(ومنها): مشروعيّة التكبير للركوع، وهو مستحبّ عند الجمهور، وأوجبه بعضهم، وسيأتي ترجيحه -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): بيان أن الذكر المشروع في الرفع من الركوع أن يقول: "سمع اللَّه لمن حَمِده، ربّنا ولك الحمد"، وسيأتي تحقيق الخلاف، هل يستوي فيه الإمام والمأموم والمنفرد، أم لا؟ -إن شاء اللَّه تعالى-.

4 -

(ومنها): بيان أنه يَشرَع في التكبير حين يَشرَع في القيام من التشهّد الأول؛ لقوله: "وحين يقوم من المثنى"، وهو مذهمب العلماء كافّةً، إلَّا ما روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وبه قال مالك: إنه لا يكبّر للقيام من الركعتين حتى يستوي قائمًا، ويردّه ظاهر هذا الحديث، كما بيّنّاه آنفًا.

5 -

(ومنها): العناية بإظهار السنّة التي أهملها الناس؛ تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للعالم بها الناسي لها.

6 -

(ومنها): فضل أبي هريرة رضي الله عنه، وشدّة حرصه على بيان السنّة التي هُجرت، وإحيائها، ونشرها بين الناس.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 98.

ص: 199

7 -

(ومنها): أنه يستفاد من قول عمران رضي الله عنه: "لقد ذَكَّرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم " الإشارة إلى ما قدمناه، من أنه كان هُجِرَ استعمال التكبير في الانتقالات لدى كثير من عوامّ الناس، وإن كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عالمين بها، وقائمين بنشرها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تكبيرات الانتقالات:

قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن تكبيرة الإحرام واجبة، وما عداها سنةٌ لو تركه صحت صلاته، لكن فاتته الفضيلة، وموافقة السنة، هذا مذهب العلماء كافّة، إلَّا أحمد بن حنبل رحمه الله في إحدى الروايتين عنه، أن جميع التكبيرات واجبةٌ. ودليل الجمهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَّم الأعرابيّ الصلاة، فعلّمه واجباتها، فذكر منها تكبيرة الإحرام، ولم يذكر ما زاد، وهذا موضع البيان ووقته، ولا يجوز التأخير عنه. انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ولم يذكر ما زاد" غير صحيح، بل ذكر كل تكبيرات الانتقالات، وبيّنها كما بيّنت ذلك في "شرح النسائيّ"، فالحقّ ما نُقل عن أحمد رحمه الله، من وجوبها؛ فتبصّر.

وحَكَى الإمام الترمذيّ رحمه الله مشروعيّة التكبير في كل خفض ورفع عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، قال: وعليه عامّة الفقهاء والعلماء.

وحكاه ابن المنذر رحمه الله عن أبي بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وقيس بن عُباد، والشعبيّ، وأبي حنيفة، والثوريّ، والأوزاعيّ، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، وهو قول عوامّ أهل العلم من علماء الأمصار، وفي الأخبار الثابتة التي رويناها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجّة وكفاية.

قال: وقد روينا عن غير واحد من أهل العلم أنهم نقصوا التكبير، ولا حجة في أحد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولعلّ من ذكرنا عنهم أنهم نقصوا التكبير، إما أن يكونوا غفلوا أو كبّروا، فلم يُؤَدَّ عنهم، أو يكونوا دفعوا ذلك، فغير جائز دفع ما ثبتت به الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمن ذكرنا ذلك عنه من

ص: 200

أصحابه بقول أحد

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله من ثبوت تكبيرات الانتقالات هو الحقّ الذي لا مَحِيد عنه، فقد صحّت أحاديث كثيرة في هذا الباب، فلا التفات إلى أَيِّ رأَي، وإلى أيّ مذهب خالف؛ فتبصّر.

وقد أشبعت البحث في ذلك في "شرح النسائيّ"، ورجّحت القول بوجوب تكبيرات الانتقالات، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبعض العلماء؛ لظهور أدلّته، وقوّة حجته، فراجعه تستفد

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[875]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(3)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي أَشْبَهُكُمْ

(4)

صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، إلَّا أبا بكر، وأبا هريرة، فقد ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ. . . إلخ) الضمير لعُقيل؛ يعني أن عقيلًا روى هذا الحديث عن ابن شهاب مثل رواية ابن جريج السابقة، إلَّا أنه لَمْ يذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه:"إني أشبهكم. . . " إلخ.

[تنبيه]: رواية عُقيل هذه أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1)

راجع: "الأوسط" 3/ 135 - 136.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 13/ 43 - 46.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(4)

وفي نسخة: "لأشبهكم".

ص: 201

(789)

حدثنا يحيى بن بكرٍ، قال: حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أنه سمع أبا هريرة، يقول:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول سمع اللَّه لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد -قال عبد اللَّه بن صالح، عن الليث: ولك الحمد-، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس". انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[879]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ حِينَ يَسْتَخْلِفُةُ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ، إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ. . . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِي حَدِيثِهِ: فَإِذَا قَضَاهَا وَسَلَّمَ، أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ قَالَ

(1)

: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النجاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون تقدّموا في الباب.

(1)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 202

وقوله: (كَانَ حِينَ يَسْتَخْلِفُهُ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ) أي جعله خليفته في الصلاة، و"مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، ولّي الخلافة في آخر سنة (64 هـ) ومات في رمضان سنة (65 هـ) وله (3 أو 61) سنة، ولا تثبت له صحبة.

والظاهر أن استخلافه لأبي هريرة رضي الله عنه حينما كان أميرًا على المدينة؛ لأنه كان أمير معاوية رضي الله عنه عليها.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ) الضمير ليونس بن يزيد الأيليّ؛ يعني أن يونس روى هذا الحديث عن ابن شهاب، نحو رواية ابن جريج السابقة، وفيه أن ألفاظهما فيها اختلاف، كما أشار إليه بقوله:"وَفِي حَدِيثِهِ: فَإِذَا قَضَاهَا وَسَلَّمَ. . . إلخ".

[تنبيه]: رواية يونس هذه أخرجها الحافظ أبو نعيم رحمه الله، في "مستخرجه"، فقال:

(866)

حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن بن قُتيبة، ثنا حرملة بن يحيي، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة كان حين يستخلفه مروان على المدينة، إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر، ثم يكبر حين يركع، وإذا رفع رأسه من الركعة قال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يَهْوِي ساجدًا، ثم يكبر حين يقوم من الثنتين بعد التشهد، ثم يفعل ذلك حتى يقضي صلاته، فإذا قضاها وسلم، أقبل على أهل المسجد، فقال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[877]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ

ص: 203

يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ، كُلَّمَا رَفَعَ وَوَضَعَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا التَّكْبِيرُ؟ قَالَ

(1)

: إِنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الْجَمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 12/ 226.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدِّمَشقيّ، ثقةٌ لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه الإمام، ثقةٌ حافظ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطاليّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس، ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 424.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (كُلَّمَا رَفَعَ وَوَضَعَ) هو بمعنى ما سبق: "كلّما خفض، ورفع"، أي في جميع الانتقالات، ولكن خُصّ منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنّ المشروع فيه التسميع والتحميد، لا التكبير، فتنبّه.

وقوله: (إِنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي هذه الصلاة التي اشتملت على هذا التكبير في كل رفع ووضع هي الصلاة التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّيها حتى فارق الدنيا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[878]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-

(2)

عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ).

(1)

وفي نسخة: "فقال".

(2)

وفي نسخة: "يعقوب بن عبد الرحمن".

ص: 204

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد اللَّه بن عَبْدٍ القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(سُهَيْل) بن أبي صالح المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والحديث تقدّم شرحه ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[879]

(393) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى). التميميّ تقدّم في الباب.

2 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثَعْلب البزّار المقرئ البغداديّ، له اختيارات في القراءة، ثقةٌ [10](229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضَميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(غَيْلَانُ) بن جرير الْمِعْوليّ الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 598.

ص: 205

5 -

(مُطَرِّف) بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

6 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْن) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصحب، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني تفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخيه أيضًا؛ فالأول نيسابوريّ، والثاني بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُطَرِّف) بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير رحمه الله، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا) أكّد به الضمير المتّصل؛ ليعطف عليه ما بعده، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، والظرف متعلّق بـ "صلَّيتُ".

قيل: استُدِلّ به على أن موقف الاثنين يكون خلف الإمام، خلافًا لمن قال: يجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله.

وتعقّبه في "الفتح"، فقال: وفيه نظرٌ؛ لأنه ليس فيه أنه لَمْ يكن معهما غيرهما. انتهى.

[تنبيه]: صلاة عليّ رضي الله عنه هذه كانت بالبصرة، ففي رواية البخاريّ من طريق أبي العلاء، عن مطرّف، عن عمران بن حُصين قال: "صلّى مع عليّ رضي الله عنه-

ص: 206

بالبصرة. . . "، قال في "الفتح": يعني بعد وقعة الجمل، وكذا رواه سعيد بن منصور، من رواية حميد بن هلال، عن عمران، ووقع لأحمد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن غيلان: بالكوفة، وكذا لعبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، وغير واحد، عن مُطَرِّف، فيَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع منه بالبلدين. انتهى

(1)

.

(فَكَانَ) عليّ رضي الله عنه (إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ) من باب قَعَدَ: أي قام (مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ) أي شرع في القيام منهما (كَبَّرَ) قال في "الفتح": قد ذكره في رواية أبي العلاء بصيغة العموم -أي بقوله: "كان يكبّر كلّما رَفَعَ، وكلّما وَضَعَ"- وخصّه هنا بذكر السجود، والرفع منه، والنهوض من الركعتين فقط، ففيه إشعار بأن هذه المواضع الثلاثة هي التي كان تُرِكَ التكبير فيها حتى تذَكَّرها عمران بصلاة عليّ رضي الله عنهما.

(فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ) وفي رواية للبخاريّ: "فلما قضى الصلاة"(قَالَ) مطرّف (أَخَذَ عِمْرَانُ) بن حُصينٍ رضي الله عنهما (بيَدِي) إنما أخذ بيده تنبيهًا له على ما سيُلقيه إليه (ثُمَّ قَالَ) عمران رضي الله عنه (لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا) يعني عليًّا رضي الله عنه (صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا) وفي رواية للبخاريّ: "لقد ذكّرني هذا"(صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) فيه إشارة إلى أن تكبيرات الانتقالات كانت مهجورةً عند بعض الأئمة في ذلك الوقت، وقد روى أحمد، والطحاويّ بإسناد صحيح، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: ذَكّرنا عليٌّ صلاةً كنا فصليها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إما نسيناها، وإما تركناها عمدًا.

وأخرج الإمام أحمد من وجه آخر، عن مُطَرِّف قال: قلنا -يعني لعمران بن حصين-: يا أبا نُجيد -هو بالنون والجيم مصغرًا-: مَن أوّلُ من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفّان حين كَبِرَ، وضَعُف صوته، وهذا يَحْتَمِل إرادة ترك الجهر.

ورَوَى الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أول من ترك التكبير معاوية.

(1)

"الفتح" 2/ 315.

ص: 207

ورَوَى أبو عبيد أنّ أول من تركه زياد، وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زيادًا تركه بترك معاوية، وكأن معاوية تركه بترك عثمان.

وقد حَمَل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، ويُقوّيه ما أخرجه البخاريّ من طريق فُلَيح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبو سعيد -يعني الخدريّ- فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين، وقال: هكذا رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد الإسماعيليّ في آخره:"فلما انصرف، قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر، فقال: إني واللَّه ما أبالي، اختَلَفت صلاتكم، أم لَمْ تَخْتَلف؟، إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هكذا يصلّي".

قال في "الفتح": والذي يظهر أن الاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير، والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أميّة يُسرّونه

(1)

.

لكن حَكَى الطحاويّ أن قومًا كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، قال: وكذلك كانت بنو أمية تفعل، وروى ابن المنذر نحوه عن ابن عمر، وعن بعض السلف أنه كان لا يكبر سوى تكبيرة الإحرام، وفرّق بعضهم بين المنفرد وغيره، ووجَّهه بأن التكبير شُرع للإيذان بحركة الإمام، فلا يحتاج إليه المنفرد، لكن استقرّ الأمر على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصلّ، فالجمهور على ندبية ما عدا تكبيرة الإحرام، وعن أحمد، وبعض أهل العلم بالظاهر يجب كلّه

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن الحقّ ما قاله الإمام أحمد، ومن معه، من إيجاب تكبيرات الانتقالات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به المسيء صلاته، وأمره للوجوب، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 354 - 355.

(2)

راجع: "الفتح" 2/ 315 - 316.

ص: 208

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 879](393)، و (البخاريّ) في "الأذان"(784 و 786 و 826)، و (أبو داود) في "الصلاة"(835)، و (النسائيّ) فيها (2/ 204 و 3/ 2)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 428 و 429 و 432 و 445 و 444)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(581)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1593)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(869)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة تكبيرات الانتقالات، وقد تقدّم أن الراجح القول بوجوبها؛ لقوّة أدلّته.

2 -

(ومنها): بيان أن بعض الأئمة في عهد السلف كانوا قد ضَيَّعوا بعض الأفعال التي ثبتت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ تأوّلًا، أو جهلًا بها.

3 -

(ومنها): بيان فضل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث كان يحفظ سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويَعمَل بها، ويُحييها في وقت تركها فيه كثير من الناس جهلًا بها، حتى كان كثير من العوامّ ينكرون على من يفعلها؛ لخفائها عليهم بسبب قلّة من يعمل بها.

4 -

(ومنها): ما قال ناصر الدين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع، أن المكلف أُمِر بالنية أوَّل الصلاة، مقرونةً بالتكبير، وكان من حقّه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأُمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية. انتهى

(1)

.

وقيل: الحكمة في شرعيّة تكرار التكبير تنبيه المصلّي على أن اللَّه سبحانه وتعالى الذي قام بين يديه يناجيه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، فلا ينبغي شغل القلب عن مناجاته بشي من الأشياء، بل ينبغي الإقبال عليه بالقلب والقالب، والخضوع، والخشوع فيها؛ تعظيمًا له سبحانه وتعالى، وطلبًا لمرضاته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 315 - 316.

ص: 209

(11) - (بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[880]

(394) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم قبل بابين.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الشهير، تقدّم قبل باب.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ) بن سُرَاقة بن عمرو الْخَزْرجيّ، أبو نعيم، أو أبو محمد المدنيّ الصحابيّ الصغير (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

7 -

(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الْخَزرجيّ، أبو الوليد الصحابيّ الشهير المدنيّ، مات رضي الله عنه سنة (34) وله (72)، وقيل غير ذلك، دُفن بقبرص بالشام، وقيل: ببيت المقدس (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو في معنى الرباعيّات؛ لأن محمودًا وعبادة صحابيّان، فهما بمنزلة راوٍ واحد، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

ص: 210

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثالث ما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ رضي الله عنهما.

5 -

(ومنها): أن عبادة رضي الله عنه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وهو أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، وشهد العقبتين، وشهد بدرًا، وآخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مَرْثد الْغَنَويّ، وجّهه عمر رضي الله عنه إلى الشام قاضيًا ومعلِّمًا، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فِلَسطين، وهو أول من ولي القضاء بها، وله من الحديث (180) حديثًا، اتفق الشيخان على ستّة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بآخرين، قال محمد بن كعب الْقُرَظيّ: جمع القرآن في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ، وعبادة، وأُبيّ، وأبو أيّوب، وأبو الدرداء رضي الله عنهم

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ) وفي رواية صالح بن كيسان الآتية: عن ابن شهاب، أن محمود بن الربيع أخبره، أن عبادة بن الصامت أخبره، ووقع في رواية الحميديّ عن سفيان: حدثنا الزهريّ، سمعت محمود بن الربيع، ولابن أبي عُمَر، عن سفيان بالإسناد، عند الإسماعيليّ: سمعت عُبادة بن الصامت، قال في "الفتح": وبهذا التصريح بالإخبار يندفع تعليل مَن أعلّه بالانقطاع؛ لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلًا، وهي رواية ضعيفة عند الدارقطنيّ. انتهى

(2)

.

(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) معناه: يَصِل الراوي بهذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 3/ 184 - 185.

(2)

"الفتح" 2/ 486.

ص: 211

[تنبيه]: قوله: "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم" من صيغ الرفع حكمًا، ومثله قولهم:"يرفعه"، و"ينميه"، و"روايةً"، و"يرويه"، و"يُسنده"، و"يأثُرُه"، ونحو ذلك، وإلى ذلك أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَهَكَذَا يَرْفَعُهُ يَنْمِيهِ

رِوَايَةً يَبْلُغْ بِهِ يَرْوِيهِ

وهذه الألفاظ وأمثالها مرفوعة حكمًا، بلا خلاف بين أهل العلم، كما صرّح به النوويّ، واقتضاه كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، قال الحافظ السخاويّ: يدلّ لذلك مجيء بعض المكنيّ به بالتصريح، ففي بعض الروايات لحديث:"الفطرة خمس": "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكما جاء هنا في الرواية التالية بلفظ:"عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا صلاة. . . " إلخ.

والسبب الحامل للراوي على عدوله عن التصريح بقول الصحابيّ: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك إلى أن يعبّر بقوله:"يبلغ به"، أو "ينميه"، أو "يرويه"، أو نحوها مع تحقّقه بأن الصحابيّ رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كونه يشكّ في صيغة الرفع بعينها، هل هي "سمعتُ"، أو "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، أو "نبيّ اللَّه"، أو "حدّثني"، أو نحوها؟ وهو ممن لا يرى الإبدال، أو طلبًا للتخفيف، أو لورعه حيث رواه بالمعني، أو نحو ذلك

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

("لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ") زاد الحميديّ، عن سفيان:"فيها"، كذا في "مسنده"، وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميديّ، أخرجه البيهقيّ، وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيليّ، ولِقُتيبة، وعثمان بن أبي شيبة، عند أبي نعيم، في "المستخرج"، وهذا يُعَيِّن أن المراد القراءة في نفس الصلاة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال العلامة السنديّ رحمه الله في "حاشية النسائيّ"(2/ 137):

قوله: "لا صلاة لمن لَمْ يقرأ بفاتحة الكتاب": ليس معناه: لا صلاة لمن

(1)

راجع: شرحي لألفية السيوطيّ المسمّى "إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفية الأثر" 1/ 127 - 129.

(2)

2/ 486.

ص: 212

لَمْ يقرأ بفاتحة الكتاب في عمره قطّ، أو لمن لم يقرأ في شيء من الصلوات قطّ، حتى لا يقال: لازم الأول افتراض الفاتحة في عمره مرةً، ولو خارج الصلاة، ولازم الثاني افتراضها مرةً في صلاة من الصلوات، فلا يلزم منه الافتراض لكل صلاة، وكذا ليس معناه: لا صلاة لمن ترك الفاتحة، ولو في بعض الصلوات؛ إذ لازمه أنه بترك الفاتحة في بعض الصلوات تفسد الصلوات كلها، ما تُرِك فيها، وما لَمْ يترك فيها؛ إذ كلمة "لا" لنفي الجنس، ولا قائل به، بل معناه: لا صلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة من الصلوات التي لم يُقرأ فيها، فهذا عمومٌ محمول على الخصوص، بشهادة العقل، وهذا الخصوص هو الظاهر المتبادر إلى الأفهام، من مثل هذا العموم، وهذا الخصوص لا يضرّ بعموم النفي للجنس؛ لشمول النفي بعدُ لكل صلاة تُرك فيها الفاتحة، وهذا يكفي في عموم النفي.

ثم قد قَرَّروا أن النفي لا يُعْقَل إلَّا مع نسبةٍ بين أمرين، فيقتضي نفيُ الجنس أمرًا مستندًا إلى الجنس؛ ليتعقل النفي مع نسبته، فإن كان ذلك الأمر مذكورًا في الكلام فذاك، وإلا يُقَدَّر من الأمور العامّة؛ كالكون، والوجود، أما الكمال، فقد حَقَّق المحقق الكمال

(1)

ضعفه؛ لأنه مخالف للقاعدة، لا يصار إليه إلَّا بدليل، والوجود في كلام الشارع يُحمَل على الوجود الشرعيّ دون الحسيّ، فمُفاد الحديث نفي الوجود الشرعيّ للصلاة التي لم يُقرَأ فيها بفاتحة الكتاب، وهو عين نفي الصحة، وما قال أصحابنا -يعني الحنفيّة-: إنه من حديث الآحاد، وهو ظنيّ، لا يفيد العلم، وإنما يوجب العمل، فلا يلزم منه الافتراض، ففيه أنه يكفي في المطلوب، أنه يوجب العمل ضرورةَ أنه يوجب العمل بمدلوله، لا بشيء آخر، ومدلوله عدم صحة صلاةٍ لَمْ يُقْرَأ فيها بفاتحة الكتاب، فوجوب العمل به يوجب القول بفساد تلك الصلاة، وهو المطلوب.

فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يُقْرَأ فيها بفاتحة الكتاب.

نعم يمكن أن يقال: قراءة الإمام قراءة المقتدي، كما ورد به بعض الأحاديث، فلا يلزم بطلان صلاة المقتدي إذا ترك الفاتحة، وقرأها الإمام.

(1)

أراد به الكمال ابن الهمام، صاحب "فتح القدير شرح الهداية" في الفقه الحنفيّ.

ص: 213

بقي أن الحديث يوجب قراءة الفاتحة في تمام الصلاة، لا في كل ركعة، لكن إذا ضُمّ إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"وافْعَلْ في حلاتك كلها" للأعرابي المسيء صلاته، يَلزَم افتراضها في كل ركعة، ولذلك عَقَّب هذا الحديث بحديث الأعرابي في "صحيح البخاريّ"، فلله دره ما أدَقّه -وكذلك مسلم هنا حيث أتى به في هذا الباب-، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه العلامة السنديّ الحنفيّ: من بطلان صلاة من لَمْ يقرأ بفاتحة الكتاب فيها؛ عملًا بالأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيره، تحقيقٌ نفيس جدًّا، وهو يدلّ على إنصافه، وبُعده عن التعصّب المذهبيّ الذي يُغطّي كثيرًا من الحقّ، وهذا أمر نادر عند المذهبيين، ولا سيّما الذين ينتسبون إلى مذهبه الحنفيّ، فإن هذه المسألة، وأشباهها قد زلّ فيها قدم كثير ممن يُظنّ فيهم البراعة، والتقدّم في المذهب، بل وفي سائر المعلوم، أمثال الطحاويّ من المتقدّمين، وأمثال العينيّ من المتأخّرين، فلا تغترّ بما يموّهون به في ردّ هذا النصّ الصريح:"لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، هداني اللَّه وإياك سبيل الصواب.

غير أن مما يُستدرك من كلام السنديّ قوله: "نعم يمكن أن يقال: قراءة الإمام قراءة المقتدي. . . إلخ"، فإنه غير مقبول؛ لأن الأحاديث الواردة التي أشار إليها غير ثابتة، فلا تصلح لتخصيص عموم هذا الحديث الصحيح:"لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، وعلى تقدير صحّتها تُحمَل على ما عدا الفاتحة؛ عملًا بالاستثناء المذكور في الحديث الصحيح:"فلا تفعلوا إلَّا بأم القرآن. . . "، وسيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقال القاضي عياض: قيل: يُحْمَل على نفي الذات وصفاتها، لكن الذات غير منتفية، فيُخَصّ بدليل خارج، ونوزع في تسليم عدم نفي الذات على الإطلاق؛ لأنه إن ادَّعَى أن المراد بالصلاة معناها اللغويّ، فغير مسلَّم؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على عُرْفه؛ لأنه المحتاج إليه فيه؛ لكونه بُعِث لبيان الشرعيات، لا لبيان موضوعات اللغة، وإذا كان المنفيّ الصلاة الشرعية،

(1)

راجع: "حاشية السنديّ على سنن النسائيّ" 2/ 137 - 138.

ص: 214

استقام دعوى نفي الذات، فعلى هذا لا يَحتاج إلى إضمار الإجزاء، ولا الكمال؛ لأنه يؤدي إلى الإجمال، كما نُقِل عن القاضي أبي بكر وغيره، حتى مال إلى التوقُّف؛ لأن نفي الكمال يُشْعِر بحصول الإجزاء، فلو قُدِّر الإجزاء منتفيًا لأجل العموم قُدِّر ثابتًا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته، فيتناقض، ولا سبيل إلى إضمارهما معًا؛ لأن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة، وهي مندفعة بإضمار فرد، فلا حاجة إلى أكثرَ منه، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد.

قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا الأخير نظرٌ؛ لأنا إن سلمنا تعذّر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة، وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى. ويؤيده رواية الإسماعيليّ من طريق العباس بن الوليد النَّرْسيّ، أحد شيوخ البخاريّ عن سفيان بهذا الإسناد، بلفظ:"لا تُجزئ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وتابعه على ذلك زياد بن أيوب، أحد الأثبات، أخرجه الدارقطنيّ، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهما.

ولأحمد من طريق عبد اللَّه بن سَوَادة الْقُشَيريّ، عن رجل عن أبيه، مرفوعًا:"لا تُقْبَل صلاة لا يُقرَأ فيها بأم القرآن".

وقد أخرج ابن خزيمة، عن محمد بن الوليد القرشيّ، عن سفيان، حديث الباب بلفظ:"لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب"، فلا يمتنع أن يقال: إن قوله: "لا صلاة" نفي بمعنى النهي: أي لا تُصَلُّوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب.

ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم، عن عائشة، مرفوعًا:"لا صلاة بحضرة الطعام"، فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ:"لا يُصَلِّي أحدكم بحضرة الطعام"، أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره، عن يعقوب بن مجاهد، عن ابن أبي عتيق

(1)

، وابن حبان، من طريق حسين بن عليّ وغيره،

(1)

وقع في "الفتح""عن القاسم"، وهو غلط؛ لأن مسلمًا ما أخرجه من طريق =

ص: 215

عن يعقوب به، وأخرج له ابن حبان أيضًا شاهدًا من حديث أبي هريرة، بهذا اللفظ.

وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحنفيةُ، لكن بَنَوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطًا في صحة الصلاة؛ لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة، والذي لا تتم الصلاة إلَّا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث، فيكون واجبًا يأثم من يتركه، وتجزئ الصلاة بدونه.

قال الحافظ: وإذا تقرر ذلك لا ينقضي عجبي، ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم، وترك الطمأنينة، فيصلي صلاةً يريد أن يتقرب بها إلى اللَّه تعالى، وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها؛ مبالغةً في تحقيق مخالفته لمذهب غيره. انتهى

(1)

.

قال الجامح عفا اللَّه عنه: وأنا لا ينقضي عجبي من كثير ممن ينتسب إلى المذهب الحنفيّ في ترك الطمأنينة، والاستعجال في الصلاة، فكأن الإمام أبا حنيفة أمرهم بهذا الاستعجال، وعدم الطمأنينة في الصلاة، والمعروف أن الخلاف بين أبي حنيفة وغيره في فرضيّة الطمأنينة، وسنيّتها، لا في أصل مشروعيّتها، فأبو حنيفة كسائر الأئمة يقول بمشروعيّة الاطمئنان، وإنما يخالف غيره في عدم بطلان الصلاة بتركه، فكأن عوام الحنفيّة فهموا من مذهبه أنه قائل باستحباب الاستعجال، وهذا هو واقع لسان حالهم، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

= القاسم، وإنما أخرجه من طريق عبد إللَّه بن أبي عتيق، وإنما القاسم له قصّة في الحديث، وسيأتي هذا في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.

(1)

"الفتح" 2/ 282 - 283.

ص: 216

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 880 و 881 و 882 و 883](394)، و (البخاريّ) في "الأذان"(756)، و (أبو داود) في "الصلاة"(822 و 823 و 824)، و (الترمذيّ) فيها (311)، و (النسائيّ) فيها (2/ 137 و 138)، و (ابن ماجه) فيها (837)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2623)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 360)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 75)، و (الحميديّ) في "مسنده"(386)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 314 و 321)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 283)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(185)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(488)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1782 و 1785 و 1786 و 1792 و 1848 و 1893)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 38 و 164 و 374 و 375)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 78)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1664 و 1665 و 1666 و 1667)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(870 و 871 و 872)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 215)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 321)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(576)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب قراءة الفاتحة في كل الصلوات، على كل مصلٍّ؛ إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا؛ لهذا الحديث، وفيه خلاف سنحققه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): أن فيه تسمية هذه السورة بـ "فاتحة الكتاب"، وفيه ردّ على من منع ذلك، وزعم أن أم الكتاب اسم للوح المحفوظ، فلا يُسمّى به غيره، قال النوويّ: وهو غلط، وهو كما قال؛ لأن هذا الحديث يبطل زعمه.

قال النوويّ رحمه الله في "المجموع"

(1)

: لفاتحة الكتاب عشرة أسماء، حكاها الإمام أبو إسحاق الثعلبي وغيره:

[أحدها]: فاتحة الكتاب، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تسميتها بذلك، قالوا: سميت به؛ لأنه يفتتح بها المصحف، والتعلم، والقراءة

(1)

راجع: "المجموع شرح المهذّب" 3/ 286 - 287.

ص: 217

في الصلاة، وهي مفتتحة بالحمد الذي يفتتح به كلُّ أمر ذي بال، وقيل: لأن الحمد فاتحة كل كتاب.

[الثاني]: سورة الحمد؛ لأن فيها الحمد.

[الثالث، والرابع]: أم القرآن، وأم الكتاب؛ لأنَّها مقدمة في المصحف، كما أن مكة أم القري، حيث دُحِيت الدنيا من تحتها، وقيل: لأنَّها مجمع المعلوم والخيرات، كما سُمِّي الدماغ أمّ الرأس؛ لأنه مجمع الحواس والمنافع، قال ابن دريد: الأم في كلام العرب الراية ينصبها الأمير للعسكر، يفزعون إليها في حياتهم وموتهم، وقال الحسن بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنَّها إمام لجميع القرآن، تقرأ في كل ركعة، وتُقدَّم على كل سورة، كأم القرى؛ لأهل الإسلام، وقيل: سميت بذلك؛ لأنَّها أعظم سورة في القرآن، ثبت في "صحيح البخاريّ" عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد"، فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؛ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته".

[الخامس]: الصلاة؛ للحديث الصحيح الآتي في هذا الباب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي. . . " الحديث.

[السادس]: السبع المثاني؛ للحديث الصحيح الذي ذكرناه قريبًا، سميت بذلك؛ لأنَّها تُثَنَّى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة.

[السابع]: الوافية بالفاء؛ لأنَّها لا تُنقَص، فيقرأ بعضها في ركعة، وبعضها في أخري، بخلاف غيرها.

[الثامن]: الكافية؛ لأنَّها تكفي عن غيرها، ولا يكفى عنها غيرها.

[التاسع]: الأساس، رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[العاشر]: الشفاء، فيه حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في رقيته اللديغ بها، وهو في "صحيح البخاري".

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، بناءً على أن الركعة الواحدة تسمى صلاةً لو تجردت.

ص: 218

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن قراءتها في ركعة واحدة من الرباعية مثلًا يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة، والأصل أيضًا عدم إطلاق الكل على البعض؛ لأن الظهر مثلًا كلها صلاة واحدة حقيقةً، كما صرح به في حديث الإسراء حيث سَمَّى المكتوبات خمسًا، وكذا حديث عبادة:"خمس صلوات كتبهنّ اللَّه على العباد"، وغير ذلك، فإطلاق الصلاة على ركعة منها يكون مجازًا.

قال الشيخ ابن دقيق العيد: وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في ركعة واحدة منها، فإن دلّ دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدمًا. انتهى.

وقال بمقتضى هذا البحث الحسن البصريّ، رواه عنه ابن المنذر بإسناد صحيح.

ودليل الجمهور في إيجابها في كل ركعة قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: "وافعل ذلك في حلاتك كلها" بعد أن أمره بالقراءة، وفي رواية لأحمد وابن حبان:"ثم افعل ذلك في كل ركعة".

قال في "الفتح": ولعل هذا هو السر في إيراد البخاريّ له عقب حديث عبادة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وكذلك يدلّ فعل مسلم هنا حيث أورده في هذا الباب؛ فتنبّه.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، سواء أسرّ الإمام أم جهر؛ لأن صلاته صلاة حقيقةً، فتنتفي عند انتفاء القراءة.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: إلَّا إن جاء دليلٌ يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم، فيقدّم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لَمْ يجئ دليلٌ صحيح يعارض هذا العموم، بل الذي جاء نصّ في إيجابها على المأموم مطلقًا، وذلك ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " قالوا: نعم، قال:"لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، فتنبّه.

قال الحافظ رحمه الله: واستَدَلّ مَن أسقطها عن المأموم مطلقًا كالحنفية

ص: 219

بحديث: "من صلى خلف إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعللَّه الدارقطنيّ وغيره.

واستَدَلّ من أسقطها عنه في الجهرية، كالمالكية بحديث:"وإذا قرأ فأنصتوا"، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، ولا دلالة فيه؛ لإمكان الجمع بين الأمرين، فيُنصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام، ويقرأ إذا سكت، وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم؛ لئلا يوقعه في ارتكاب النهي، حيث لا يُنصت إذا قرأ الإمام.

وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاريّ في "جزء القراءة"، والترمذيّ، وابن حبان، وغيرهما، من رواية مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثَقُلَت عليه القراءة في الفجر، فلما فرغ قال:"لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم، قال:"فلا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، والظاهر أن حديث الباب مختصر من هذا، وكأنّ هذا سببه، واللَّه أعلم.

وله شاهد من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عند أبي داود، والنسائيّ، ومن حديث أنس رضي الله عنه عند ابن حبان.

ورَوَى عبد الرزاق، عن سعيد بن جبير، قال: لا بُدّ من أم القرآن، ولكن مَن مَضَى كان الإمام يسكت ساعةً قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بهذا الحديث الصحيح أنه لا بُدّ للمأموم من قراءة الفاتحة مطلقًا، سواء كانت الصلاة جهريّة، أم سريّةً، فتبصر؛ ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القراءة في الصلاة:

ذهب العلماء كافّةً إلى وجوبها، ولا تصح الصلاة إلَّا بها، قال النوويّ: ولا خلاف فيه إلَّا ما حكاه القاضي أبو الطيب، ومتابعوه عن الحسن بن صالح، وأبي بكر الأصم أنهما قالا: لا تجب القراءة، بل هي مستحبة،

(1)

"الفتح" 2/ 283 - 284.

ص: 220

واحتُجّ لهما بما رواه أبو سلمة، ومحمد بن عليّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى المغرب، فلم يقرأ، فقيل له؟ فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حَسَنًا، قال: فلا بأس، رواه الشافعي في "الأم"، وغيره، وعن الحارث الأعور أن رجلًا قال لعليّ رضي الله عنه: إني صليت، ولم أقرأ، قال: أتممت الركوع والسجود؟ قال: نعم، قال: تمّت صلاتك، رواه الشافعيّ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: القراءة سنة، رواه البيهقيّ.

واحتج الجمهور بالأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب، ولا معارض لها.

وأما الأثر عن عمر رضي الله عنه فجوابه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه ضعيف؛ لأن أبا سلمة، ومحمد بن عليّ لم يدركا عمر.

والثاني: أنه محمول على أنه أسرّ بالقراءة.

والثالث: أن البيهقيّ رواه من طريقين موصولين، عن عمر رضي الله عنه أنه صلى المغرب، ولم يقرأ فأعاد، قال البيهقيّ: وهذه الرواية موصولة موافقة للسنة في وجوب القراءة، وللقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان.

وأما الأثر عن عليّ رضي الله عنه فضعيف أيضًا؛ لأن الحارث الأعور متّفقٌ على ضعفه، وترك الاحتجاج به.

وأما الأثر عن زيد رضي الله عنه، فقال البيهقيّ وغيره: مراده أن القراءة لا تجوز إلَّا على حسب ما في المصحف، فلا تجوز مخالفته، وإن كان على مقاييس العربية، بل حروف القراءة سنة متبعة؛ أي طريق يُتَّبَعُ، ولا يُغَيَّر، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب القراءة في الصلاة، وأنها لا تصحّ بدونها هو الحقّ، وأن الأقوال المخالفة لهذا إما غير صحيحة عمن نُسبت إليه، وإما شاذّة لا يُلتفت إليها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة:

(1)

"المجموع" 3/ 285 - 286.

ص: 221

ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، إلى أن الفاتحة متعينة لا تصح صلاة القادر عليها إلَّا بها، وقد حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وخَوّات بن جُبير، والزهريّ، وابن عون، والأوزاعيّ، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

وقال أبو حنيفة: لا تتعين الفاتحة، لكن تستحب، وفي رواية عنه: تجب، ولا تشترط، ولو قرأ غيرها من القرآن أجزأه، وفي قدر الواجب ثلاث روايات عنه: إحداها: آية تامة، والثانية: ما يتناوله الاسم، قال الرازيّ: وهذا هو الصحيح عندهم، والثالثة: ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد.

واحتُجَّ لأبي حنيفة بقول اللَّه تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته:"كَبِّرْ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، متّفقٌ عليه، وبحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب أو غيرها"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلَّا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب".

قالوا: فدلّ على أن غيرها يقوم مقامها، قالوا: ولأن سور القرآن في الحرمة سواء، بدليل تحريم قراءة الجميع على الجنب، وتحريم مس المحدث المصحف.

واحتج الجمهور بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المذكور في الباب: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، متّفقٌ عليه.

فإن قالوا: معناه: لا صلاة كاملة، قلنا: هذا خلاف الحقيقة، وخلاف الظاهر، والسابق إلى الفهم، فلا يُقْبَل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاةً لَمْ يقرأ فيها بأم الكتاب، فهي خِدَاجٌ"، يقولها ثلاثًا، أي غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. . . " الحديث.

ص: 222

وعن عبادة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجزئ صلاة لا يَقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب"، رواه الدارقطنيّ. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول في هذه المسألة -مسألةِ فرضيّة قراءة الفاتحة على كل مصلٍّ، وعدم إجزاء غيرها عنها- أن الحقّ هو ما ذهب إليه الجمهور، من فرضيّتها، وعدم إجزاء غيرها عنها؛ لكون أدلّتهم واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ومن خالفهم ما أتى بدليل له نَفَاقٌ في سوق المناظرة، بل أتوا بما هو أوهن من بيت العنكبوت، حيث ردُّوا الأحاديث الصحيحة بمجمل آية:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} التي بيانها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي قال اللَّه تعالى له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقد بيّنها بأنها الفاتحة، حيث قال:"لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، متّفقٌ عليه، وقال أيضًا:"لا تُجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، رواه ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما".

قال الحافظ أبو حاتم بن حبّان البُسْتيّ رحمه الله في "صحيحه" ما حاصله: إن خطاب الكتاب قد يستقلّ بنفسه في حالة دون حالة حتى يُستَعمل على عموم ما ورد الخطاب فيه، وقد لا يستقلّ في بعض الأحوال حتى يُستَعمل على كيفيّة اللفظ المجمل الذي هو مطلق الخطاب في الكتاب، دون أن تُبيّنها السنن، وسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها مستقلّة بنفسها، لا حاجة بها إلى الكتاب، المبيِّنةُ لمجمل الكتاب، والمفسِّرةُ لِمُبهمه، قال اللَّه تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فأخبر جلّ وعلا أن المفسِّر لقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وما أشبهها من مجمل الألفاظ في الكتاب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومُحالٌ أن يكون الشيء المفسِّر له الحاجة إلى الشيء المجمل، وإنما الحاجة تكون للمجمل إلى المفسِّر، ضدَّ قول من زعم أن السنن يجب عَرْضُها على الكتاب، فأتى بما لا يوافقه الخبر، ويَدفَع صحّته النظر. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وأيضًا ردّوها بالروايات الضعيفة، كحديث: "من كان له إمام فقراءة

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 92.

ص: 223

الإمام له قراءة"، وأمثاله مما لا يثبتُ، ولا يصلح لمعارضة هذه الأحاديث الصحيحة، فقد تبيّن بذلك الحقّ الذي لا خفاء ولا لبس فيه، وقد أشبعت هذا البحث في "شرح النسائيّ"

(1)

، وكذلك البحث في وجوب القراءة في كلّ ركعة، وأن الحقّ هو الوجوب، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[881]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(2)

أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْتَرِئْ

(3)

بِأُمِّ الْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عَمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المصريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، المصريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (لِمَنْ لَمْ يَقْتَرِئْ) وفي نسخة: "لمن لا يقترئ"، وهو افتعال من القراءة.

وقوله: (بِأُمّ الْقُرْآنِ) سمّيت به؛ لكونها أصلًا ومنشأ له، إما لمبدئيّتها له، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على اللَّه عز وجل، والتعبّد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الْحِكَم النظريّة، والأحكام العمليّة

(4)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 11/ 278 - 286 و 319 - 327.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(3)

وفي نسخة: "لمن لا يقترئ".

(4)

"المرعاة" 3/ 108.

ص: 224

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه ومسائله تقدّمت في شرح الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[882]

(. . .) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَن مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ، الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرِهِمْ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الْخَلالُ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغارها [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [4](ت 130 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يقال: مَجَّ الشرابَ من فيه: إذا رمى به، وقال أهل اللغة: المجّ: إرسال الماء من الفم مع نَفْخ، وقيل: لا يكون مجًّا حتى تُبَاعِد به، وكذلك مجّ لُعابه، والمجاجة، والمجاج: الريق الذي تَمُجُّه من فيك، ومجاجة الشيء أيضًا عُصارته، ويقال: إن المطر مجاج الْمُزْن،

ص: 225

والعسلَ مجاج النحل، والمجاج أيضًا: اللبن؛ لأن الضرع يَمُجّه، والتركيب يدلّ على رمي الشيء، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (فِي وَجْهِهِ) أي في وجه محمود.

وقوله: (مِنْ بِئْرِهِمْ) وفي رواية البخاريّ: "من دلو"، وفي رواية له:"من دلو كانت في دارهم"، وفي رواية النسائيّ:"من دلو مُعلَّق"، ولا تعارض بينها؛ لأنه يُتأول بأن الماء أُخذ بالدلو من البئر التي كانت في دارهم، فتناوله النبيّ صلى الله عليه وسلم من الدلو بفيه، ثمّ مجّه على وجهه.

وهذا منه صلى الله عليه وسلم من باب التبريك له، والمداعبة واللطف، حيث إنه صغير، ففي رواية البخاريّ:"عَقَلتُ من النبيّ صلى الله عليه وسلم مَجّةً مجّها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو".

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه ومسائله تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[833]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

(2)

، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ:"فَصَاعِدًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم أول الباب.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الْكِسّيّ، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 108.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا إسحاق".

ص: 226

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد الزهريّ السابق، وهو عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت.

وقوله: (وَزَادَ: فَصَاعِدًا) يعني أن معمرًا زاد في روايته لهذا الحديث في آخره لفظة "فصاعدًا"، أي قال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا".

مسائل تتعلّق بهذه الزيادة:

أعني قوله: "فصاعدًا".

(المسألة الأولى): رواية معمر هذه أخرجها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 450)، فقال:

(1665)

حدّثنا الدّبَريّ، عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمّ القرآن فصاعدًا". انتهى.

(المسألة الثانية): في الكلام على هذه الزيادة:

(اعلم): أن هذه الزيادة صحيحة، أخرجها المصنّف هنا بهذا السند، وأخرجها النسائيّ عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به، وأبو داود عن قتيبة، وأحمد بن عمرو بن السرح، كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهريّ به، وأحمد في "مسنده"(5/ 322)، والبيهقيّ في "الكبرى"(2/ 374)، والبغويّ في "شرح السنة"(576 و 577).

وقد ادّعى ابن حبّان في "صحيحه"

(1)

أنه تفرّد بها معمر، عن الزهريّ، دون أصحابه.

ورُدّ عليه: بأن سفيان بن عيينة تابعه عليها، كما مرّ آنفًا من رواية أبي داود.

والحاصل أن هذه الزيادة صحيحة، كما أثبتها المصنّف هنا، وأما محاولة صاحب "المرعاة" في تضعيفها، وطوّل في ذلك نفسه، فمما لا يُلتفت إليه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبّان" 5/ 87.

ص: 227

(المسألة الثالثة): في معنى قوله: "فصاعدًا"، وإعرابها:

فأما معناها: فزائدًا على الفاتحة؛ يعني أنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن، فما زاد عليها، على حدّ قولهم: اشتريته بدرهم، فصاعدًا.

وأما إعرابها، فهي منصوبة على الحال، وهي من الأحوال التي يجب حذف عاملها وصاحبها، وهي كل حال تُفهِم ازديادًا، أو نَقصًا بتدريج، ويجب اقترانها بالفاء، أو بـ "ثُمَّ"، كقولهم: اشتريته بدرهم فصاعدًا، وتصدّقتُ بدينار فسافلًا، فـ "صاعدًا" و"سافلًا" حالان، عاملهما وصاحبهما محذوفان وجوبًا، والتقدير: فذهب الثمن صاعدًا، وذهب المتصدَّق به سافلًا، هكذا حقّقه شُرَّاح "الخلاصة" عند قولها:

وَالْحَالُ قَدْ يُحْذَفُ مَا فِيها عَمِلْ

وَبَعْضُ مَا يُحْذَفُ ذِكْرُهُ حُظِلْ

وقال سيبويه: وقالوا: أخذته بدرهم فصاعدًا حذفوا الفعل؛ لكثرة استعمالهم إياه، ولأنهم أَمِنُوا أن يكونا على الباء؛ لأنك لو قلت: أخذته بصاعد كان قبيحًا؛ لأنه صفة، لا يكون في موضع الاسم، كأنه قال: أخذته بدرهم، فزاد الثمن صاعدًا، أو فذهب صاعدًا، ولا يجوز أن تقول: وصاعدًا؛ لأنك لا تريد أن تخبر أن الدرهم مع صاعد ثمن لشيء، كقولك: بدرهم وزيادة، ولكنك أخبرت بأدنى الثمن، فجعلته أَوّلًا، ثم قرّرت شيئًا بعد شيء؛ لأثمان شَتّي، قال: ولم يُرَد فيها هذا المعني، ولم يُلْزِمِ الواوُ الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر، و"صاعد" بدل من زاد ويزيد، و"ثُمّ" مثل الفاء، إلَّا أن الفاء أكتر في كلامهم.

وقال ابن جني: "وصاعدًا" حال مؤكّدة، ألا ترى أن ترى أن تقديره: فزاد الثمن صاعدًا، ومعلوم أنه إذا زاد الثمن لم يكن إلَّا صاعدًا. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم قراءة ما زاد على الفاتحة:

قال في "الفتح": واستُدِلّ بقوله: "فصاعدًا" على وجوب قدر زائد على الفاتحة.

(1)

راجع: "لسان العرب" 3/ 253 - 254.

ص: 228

وتُعُقّب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاريّ في "جزء القراءة": هو نظير قوله: "تُقْطَع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وادَّعَى ابن حبان، والقرطبيّ، وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها، وفيه نظر؛ لثبوته عن بعض الصحابة، ومن بعدهم، في رواه ابن المنذر وغيره، ولعلهم أرادوا أن الأمر استقرّ على ذلك، وسيأتي في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت، ومن زاد فهو أفضل"، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين، لم يقرأ فيهما إلَّا بفاتحة الكتاب"

(1)

.

وقال النوويّ في "شرح المهذّب"(3/ 343):

قراءة السورة بعد المفاتحة سنة، فلو اقتصر على الفاتحة أجزأته الصلاة، وبه قال مالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وكافة العلماء، إلَّا ما حكاه القاضي أبو الطيب، عن عثمان بن أبي العاص الصحابي رضي الله عنه، وطائفةٍ أنه تجب مع الفاتحة سورة، أقلها ثلاث آيات، وحكاه صاحب "البيان" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويُحتَجّ لى بأنه المعتاد من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تظاهرت به الأحاديث الصحيحة، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي".

ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"، وظاهره الاكتفاء بها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"في كل صلاة يُقرأ فما أسمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنّا أخفينا، وإن لم تَزِد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير لك"، رواه متّفقٌ عليه.

واستَدَلّ البيهقيّ وغيره في هذه المسألة بهذا الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولا دلالة فيه لمسألتنا، فإن الصحابة رضي الله عنهم لا يُحتَجّ على بعضهم بقول بعض، وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى ركعتين، ولم يقرأ فيهما إلَّا بفاتحة الكتاب"، رواه بإسناد ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال المجامع عفا اللَّه عنه، ما ذهب إليه الجمهوو من عدم وجوب ما زاد على الفاتحة هو الحقّ عندي؛ لقوّة حجّته، فقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح،

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 284.

ص: 229

عن جابر ذكر قصةَ معاذ، قال: وقال -يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم للفتى: "كيف تصنع يا ابن أخي، إذا صليت؟ " قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، وأسال اللَّه الجنة وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك، ولا دندنة معاذ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني ومعاذًا حول هاتين، أو نحو هذا. . . "، الحديث.

فقد أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفتى في قوله: "أقرأ بفاتحة الكتاب"، ولم يأمره بالزيادة، فدلّ على أن الزيادة على الفاتحة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبةً لبيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم للفتى.

والحاصل أن الراجح عدم وجوب ما زاد على الفاتحة؛ لما ذُكر؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[884]

(395) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ صَلَّى صَلَاةً، لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ -ثَلَاثًا- غَيْرُ تَمَامٍ"، فَقِيلَ

(1)

لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ

(2)

، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَى عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".

(1)

وفي نسخة: "قيل".

(2)

زاد في نسخة: "فنصفها لي، ونصفها لعبدي".

ص: 230

قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنِي بِهِ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرِيضٌ فِي بَيْتِهِ، فَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أول الباب.

3 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من العلاء.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعىّ، والابن عن أبيه: العلاء، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ صَلَّى)"من" شرطية؛ أي إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا (صَلَاةً) نكرة في سياق الشرط، فتعمّ؛ أي جهرتةً كانت، أو سرّيّةً، فريضةً، أو نافلة (لَمْ يَقْرَأْ) بالبناء للفاعل (فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ) أي فاتحة الكتاب، وسميت الفاتحة بأم القرآن؛ لأنَّها فاتحته، كما سميت مكة أم القرى؛ لأنَّها أصلها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: سُمّيت أمّ الكتاب؛ لأنَّها أصله، أي هي محيطة بجميع علومه، فهي منها، وراجعة إليها، ومنها سُمّيت الأم أُمًّا؛ لأنَّها أصل النسل، والأرض في قوله:

ص: 231

فَالأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا

فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُولَدُ

ومنه قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} [القارعة: 9]، وقوله:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، ولا معنى لكراهة من كَرِهَ تسميتها بأمّ القرآن، مع وجود ذلك في الحديث. انتهى

(1)

.

(فَهِيَ خِدَاجٌ) بكسر الخاء المعجمة: أي ناقصة نقصَ فساد وبُطلان.

قال النوويّ رحمه الله: "الْخِداج" بكسر الخاء المعجمة، قال الخليل بن أحمد، والأصمعيّ، وأبو حاتم السجستانيّ، والْهَرَويّ، وآخرون: الخداج: النُّقصان، يقال: خَدَجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج، وإن كان تامّ الخلق، وأخدجته: إذا ولدته ناقصًا، وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي الْيُدَيَّة: مُخْدَج اليد؛ أي ناقصها، قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: "خداج": أي ذات خداج، وقال جماعة من أهل اللغة: خَدَجت، وأخدجت: إذا ولدت لغير تمام

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الخِداج: النقصان، يقال: خَدَجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوانه، وإن كان تامّ الخلق، وأخدجته: إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل، وإنما قال:"فهي خداجٌ"، والْخِدَاج مصدر على حذف مضاف: أي ذاتُ خِداج، أو يكون قد وصفها بالمصدر نفسه؛ مبالغةً، كقوله:

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

(3)

وقال الخطّابيّ رحمه الله: معنى: خِدَاج: ناقصة نقص فساد وبُطلان، تقول العرب: أخدجت الناقة: إذا ألقت ولدها، وهو دمٌ لَمْ يستبن خَلْقه، فهي مُخدَج، والْخِداج اسم مبنيّ منه. انتهى

(4)

.

وقال البخاريّ رحمه الله في "جزء القراءة" له: قال أبو عبيد: أخدجت الناقة: إذا أسقطت، والسقط ميتٌ لا يُنتفع به. انتهى.

قال صاحب "المرعاة": والمراد من إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل، وإن تمّ خَلْقه إسقاطها، والسقط ميت، لا يُنتفع به كما عَرَفت، فظهر من هذا

(1)

"المفهم" 2/ 26.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 151.

(3)

"النهاية" 2/ 12 - 13.

(4)

"معالم السنن" 1/ 203.

ص: 232

كلّه أن المراد من قوله: "خِدَاجٌ" نُقصان الذات، أعني نقصان الفساد، والبطلان، ويدلّ عليه ما رواه البيهقيّ في "كتاب القراءة" له عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تُجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، قال: قلت: فإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي، وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسيّ، قال البيهقيّ: رواه ابن خزيمة، عن محمد بن يحيى، محتجًّا به على أن قوله في سائر الروايات:"فهي خِداجٌ" المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه. انتهى.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من الفقه إيجاب القراءة بالفاتحة في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لَمْ يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خِداج، والخِداج النقصان والفساد، من ذلك قولهم: أخدجت الناقة: إذا ولدت قبل تمام وقتها، وقبل تمام الخِلقة، وذلك نتاجٌ فاسدٌ، وقال الأخفش: خَدَجت الناقة: إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت: إذا قذفت به قبل وقت الولادة، وإن كان تامّ الخلق، وقد زعم من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة أن قوله:"خِداج" يدلّ على جواز الصلاة؛ لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة، وهذا تحكّم فاسدٌ، والنظر يوجب في النقصان أن لا تجوز معه الصلاة؛ لأنَّها صلاة لم تتمّ، ومن خرج من صلاته قبل أن يُتمّها فعليه إعادتها تامّة كما أُمر، ومن ادّعَى أنَّها تجوز مع إقراره بنقصها، فعليه الدليل، ولا سبيل له إليه من وجه يلزم. انتهى

(1)

.

(ثَلَاثًا) أي قال ذلك ثلاث مرّات، وقوله:(غَيْرُ تَمَامٍ") بالرفع عطفُ بيان لخداج، أو بدل منه، وقيل: تأكيد، قال الزرقانيّ رحمه الله: فهو حجة قويّة على وجوب قراءتها في كلّ صلاة. انتهى.

وقال صاحب "المرعاة": هذا يدلّ على تعيّن الفاتحة في الصلاة، وأنه لا يجزئ غيرها عنها، ولا يقوم مقامها قراءة غيرها من القرآن؛ لأن لفظ التمام يُستعمل في الإجزاء، ويُطلَق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمّ الحقيقة إلَّا به، ففيه دليلٌ على كون الفاتحة من أجزاء الصلاة وأركانها. انتهى

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار" 4/ 193.

(2)

"المرعاة" 3/ 111 - 112.

ص: 233

(فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ) القائل هو أبو السائب الراوي للحديث عنه في الرواية التالية، ففي رواية النسائيّ من طريقه:"فقلت: يا أبا هريرة إني أكون أحيانًا وراء الإمام"(إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ؟) أي نكون في بعض الأوقات مقتدين بالإمام، فهل علينا من حرج إن لم نقرأ بها؟ (فَقَالَ) أبو هريرة، وفي رواية النسائيّ:"فغمز ذراعي، وقال: اقرأ بها يا فارسيّ في نفسك"(اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ) معناه: اقرأ بفاتحة الكتاب سرًّا في نفسك، قال البيهقيّ رحمه الله في "كتاب القراءة": المراد أن يتلفّظ بها سرًّا دون الجهر بها، ولا يجوز حمله على ذكرها بقلبه دون التلفّظ بها؛ لإجماع أهل اللسان على أن ذلك لا يُسمّى قراءةً، ولإجماع أهل العلم على أن ذكرها بقلبه دون التلفّظ بها ليس بشرط ولا مسنون، فلا يجوز حمل الخبر على ما لا يقول به أحدٌ، ولا يساعده لسان العرب. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: اقرأها سرًّا بحيث تُسمِع نفسك، وأما ما حمله عليه بعض المالكية وغيرهم، أن المراد تدبر ذلك وتذكّره فلا يُقْبَل؛ لأن القراءة لا تُطلق إلَّا على حركة اللسان، بحيث يُسمِع نفسه، ولهذا اتفقوا على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه، من غير حركة لسانه، لا يكون قارئًا مرتكبًا لقراءة الجنب المحرمة. انتهى

(1)

.

وفي رواية أبي عوانة: "فقلت لأبي هريرة: فإني أسمع قراءة القرآن؛ فغمزني بيده، فقال: يا فارسيّ، أو ابن الفارسيّ اقرأ بها في نفسك"، وفي رواية البخاريّ في "جزء القراءة":"قلت: يا أبا هريرة، كيف أصنع إذا كنت مع الإمام، وهو يجهر بالقراءة؟ قال: ويلك يا فارسيّ اقرأ بها في نفسك"، وكذلك في رواية البيهقيّ في "كتاب القراءة".

فظهر بهذه الروايات أن أبا هريرة كان يُفتي بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، سريّة كانت، أو جهريّةً، وفي إفتائه بهذا دلالة واضحةٌ على أن حديثه:"من صلّى صلاةً لَمْ يقرأ بأم القرآن، فهي خِداجٌ"، باقٍ على عمومه، شاملٌ للإمام والمأموم والمنفرد؛ لأن راوي الحديث

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 103.

ص: 234

أعرف بالمراد منه، قاله المباركفوريّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنِّي) الفاء للتعليل، أي إنما أمرتك بقراءتها سرًّا؛ لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا استدلال من أبي هريرة رضي الله عنه على ما أفتى به من قراءة المأموم الفاتحة وراء الإمام، وأنه لا يُعذر في تركها، وانتقال من دليل إلى دليل آخر؛ تقوية للأدلة، ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن اللَّه سبحانه وتعالى سمّى الفاتحة صلاةً، وقسمها بينه وبين عبده نصفين، فمن لم يقرأها في صلاته كان غير مصلّ، فلا بدّ لكلّ مصلّ أن يقرأها، إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا، واللَّه تعالى أعلم.

(يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ) بصيغة المتكلّم (الصَّلَاةَ) منصوب على المفعوليّة، وأراد بالصلاة الفاتحة، كما يدلّ عليه تمام الحديث، وسُمّيت صلاةً؛ لأن الصلاة لا تصحّ إلَّا بها، ففيه إطلاق اسم الكلّ على الجزء، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"الحجِّ عرفة"

(2)

.

وقال الخطَّابيّ رحمه الله: يريد بالصلاة القراءة، يدلّ على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد به:"إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول اللَّه: حَمِدني عبدي. . . " إلى آخر السورة، وقد تُسمّى القراءة صلاةً؛ لوقوعها في الصلاة، وكونها جزءًا من أجزائها، كقوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قيل: معناه القراءة، وقال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، أراد صلاة الفجر، فسمَّى الصلاة قرآنًا، والقرآن صلاةً؛ لانتظام أحدهما بالآخر.

يدلّ على صحّة ما قلناه قوله: (بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ) والصلاة خالصة للَّه، لا شِرْك فيها لأحد، فعُلم أن المراد به القراءة.

وحقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى، لا إلى متلوّ اللفظ، وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء، ونصفها مسألة ودعاء، وقسم الثناء ينتهي

(1)

راجع: "أبكار المنن" ص 139.

(2)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "الجامع"(3/ 237)، والنسائيّ 5/ 256.

ص: 235

إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وهو تمام الشطر الأول من السورة، وباقي الآية، وهو قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} من قسم الدعاء والمسألة، ولذلك قال:"وهذه بيني وبين عبدي".

ولو كان المراد به قسم الألفاظ والحروف لكان النصف الأخير يزيد على الأول زيادة بيّنةً، فيرتفع معنى التعديل والتنصيف، وإنما هو قسمة المعاني، كما ذكرته لك، وهذا كما يقال: نصف السنة إقامة، ونصفها سفر، يريد به انقسام أيام السنة مدة للسفر، ومدّة للإقامة، لا على سبيل التعديل والتسوية بينهما حتى يكونا سواء، لا يزيد أحدهما على الآخر، وقيل لشريح: "كيف أصبحت؟ قال: أَصبحت، ونصف الناس عليّ غِضَاب، يريد أن الناس محكوم له، ومحكوم عليه، فالمحكوم عليه غضبان عليَّ؛ لاستخراجي الحقّ منه، وإكراهي إياه عليه، وكقول الشاعر [من الطويل]:

إِذَا مُتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَينِ شامِتٌ

بِمَوْتِي وَمُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُ

انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

زاد في نسخة: "فنصفها لي، ونصفها لعبدي"، ومعنى قوله:"فنصفهما لي". أن نصف الفاتحة خاصّ بي، وهو الثلاث الآياتِ الأُوَلُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله: "ونصفها لعبدي": أي أن نصفها الآخر خاصّ به، وهو قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6). . . .} إلى آخر السورة.

والإضافة في قوله: "عبدي" إضافة تشريف وتكريم، حيث تحقّق بصفات، العبوديّة، والقيام بحقوق الربوبيّة، وشهود آثارهما، وأسوارهما في صلاته التي هي معراج الأرواح، ورُوح الأشباح، وغَرْس تجلّيات الأسرار التي يتخلّى بها العبد عن الأغيار.

ولَمَّا كان وصف العبوديّة غايةَ الكمال؛ إذ به ينصرف الإنسان من الخلق إلى الحقّ وَصَفَ اللَّه تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم في مقام الكرامة، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} الآية [الإسراء: 1]،

(1)

"معالم السنن" 1/ 388 - 389.

ص: 236

وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} الآية [الفرقان: 1]، وقال:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10]

(1)

.

(وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) هذا وعده من اللَّه سبحانه وتعالى لعبده أن يُجيب دعاءه، ووعده لا يُخلَف، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ) هذا بيان للصلاة التي قسمها اللَّه عز وجل بينه وبين عبده، وبيان لمعنى القسمة لها، فذكر صلى الله عليه وسلم ما يقوله اللَّه تعالى عند قراءة العبد كلَّ آية منها، وأعلم العبد أنه يسمع قراءته، وحمده، وثناءه، وتمجيده إياه، ودعاءه، ورغبته إليه، حضًّا للعبد على الخشوع عند قراءة هذه السورة المختصّة بهذه المعاني الجليلة التي لا تكاد تجتمع في غيرها من السور.

وفيه حجةٌ لمن قال: إن البسملة ليست من الفاتحة، ولو كانت منها لبدأ بها، وذكر فضلها معها، كما ذكر فضل كل آية منها، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.

({الْحَمْدُ لِلَّهِ}) اتّفق القرّاء السبعة على ضمّ الدال، وهو مبتدأ وخبر، ورُوي عن سفيان بن عيينة، ورؤبة بن الحجاج أنهما قرءا بالنصب، وهو على إضمار فعل، وقرأ ابن أبي عَبْلة بضمّ الدال واللام؛ إتباعًا للثاني الأولَ، وله شواهد، لكنه شاذّ، وعن الحسن وزيد بن عليّ بكسر الدال؛ إتباعًا للأول الثانيَ.

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: معنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر للَّه خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما بَرَأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يُحيط بعددها غيره أحد في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذّاهم به نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبّههم علء، ودعاهم إليه من الأسباب المؤدّية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربّنا الحمد على ذلك كلّه أوَّلًا وآخرًا.

قال رحمه الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يُثنوا عليه فكأنه قال: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} .

(1)

"المنهل العذب المورود" بتصرف 5/ 248.

ص: 237

قال: وقد قيل: إن قول القائل: "الحمد للَّه" ثناء عليه بأسمائه الحسني، وصفاته الْعُلَي، وقوله:"الشكر للَّه" ثناء عليه بنعمه وأياديه.

ثم شَرَع في ردّ ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلًّا من الحمد والشكر مكان الآخر، وقد نقل السلميّ هذا المذهب أنَّها سواء عن جعفر الصادق، وابن عطاء من الصوفيّة، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما:"الحمد للَّه" كلمة كل شاكر.

وقد استدلّ له القرطبيّ بصحّة قول القائل: "الحمد للَّه شُكرًا".

واعترض ابن كثير على قول ابن جرير بأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخّرين أن الحمد هو الثناء على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدّية، والشكر لا يكون إلَّا على المتعدّية، ويكون بالجنان واللسان والأركان. . . إلى آخر كلامه

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي في اعتراض ابن كثير على كلام ابن جرير نظر؛ لأن ابن جرير نقل ذلك عن المتقدّمين، كابن عبّاس، وجعفر الصادق، فكيف يُردّ عليه بما اشتهر عند المتأخّرين؟، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

({رَبُّ الْعَالَمِينَ}) أي مالك الخلائق أجمعين، الواحد: عالم، وهو اسم يجمع أشياء مختلفة، ومن جَعَل {الْعَالَمِينَ} الجنّ والإنس، جعل العالم جمعًا لأشياء متّفقة، قاله الأزهريّ رحمه الله

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: و"الربّ": المالك المتصرّف، ويُطلق في اللغة على السيّد، وعلى المتصرّف للإصلاح، وكلُّ ذلك صحيح في حقّ اللَّه تعالى، ولا يُستعمل الربّ لغير اللَّه تعالى، بل بالإضافة، تقول: ربّ الدار كذا، وأما الربّ فلا يقال: إلَّا للَّه عز وجل، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم.

و"العالمين": جمع عالم، وهو كل موجود سوى اللَّه عز وجل، والعالم لا واحد له من لفظه، والعوالم: أصناف المخلوقات في السموات، وفي البرّ والبحر، وكلّ فرد منها وجِيلٍ يُسمّى عالَمًا أيضًا. انتهى.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 24.

(2)

"شرح غريب ألفاظ الشافعيّ" ص 228.

ص: 238

(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَني عَبْدِي) أي أثنى عليّ بصفات كمالي وجلالي.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وقوله تعالى: "حمدني عبدي، وأثنى عليّ، ومجّدني" إنما قاله؛ لأن التحميد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، ويقال: أثنى عليه في ذلك كلّه، ولهذا جاء جوابًا لـ "الرحمن الرحيم"؛ لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية. انتهى.

(وَإِذَا قَالَ) العبد: ({الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}) صفتان من صفات اللَّه عز وجل، ولا يوصف بـ "الرحمن" غير اللَّه تعالى، وأما "الرحيم" فجائز أن يقال: فلانٌ رحيمٌ، وهو أبلغ من الراحم، قاله الأزهريّ رحمه الله.

وقال ابن كثير رحمه الله: هما اسمان مشتقّان من الرحمة على وجه المبالغة، و"رحمن" أشدّ مبالغةً من "رَحيم"، وفي كلام ابن جرير ما يُفهم منه حكاية الاتّفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدلّ على ذلك، وزعم بعضهم أنه غير مشتقّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: والدّليل على أنه مشتقّ ما أخرجه الترمذيّ، وصحّحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"قال اللَّه تعالى: أنا الرحمن خَلَقتُ الرحم، وشققتُ لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، قال: وهذا نصّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، قال: "وإنكار العرب لاسم الرحمن؛ لجهلهم باللَّه، وبما وجب له.

وقال أيضًا: ثم قيل: هما بمعنى واحد، كنَدْمَان ونَدِيم، قاله أبو عُبيد، وقيل: ليس بناءُ فعلان كفَعِيل، فإن فعلان لا يقع إلَّا على مبالغة الفعل، نحو رجل غضبان للرجل الممتلئ غضبًا، وفَعِيلٌ قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو عليّ الفارسيّ:"الرحمن" عامّ في جميع أنواع الرحمة، يختصّ به اللَّه تعالى، و"الرحيم" إنما هو من جهة المؤمنين، قال اللَّه تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]

(1)

.

وقال أيضًا: وَصَفَ نفسه تعالى بعدَ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ لأنه لَمّا كان في اتصافه بـ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ترهيبٌ قَرَنه بـ {الرَّحْمَنِ

(1)

"تفسير القرطبيّ" 1/ 106.

ص: 239

الرَّحِيمِ}؛ لما تضمن من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49، 50]، وقال:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعلم المؤمن ما عند اللَّه من العقوبة ما طمع بجنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قَنِطَ من جنته أحدٌ". انتهى

(1)

.

(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي) أي حيث اعترف لي بعموم الإنعام على خلقي.

(وِإذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}) أي يوم الجزاء بالثواب للطائعين، والعقاب للعاصين، وهو يوم القيامة، وخَصَّ يوم الدين بالذكر؛ لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلَّا للَّه تعالى.

وقال القرطبيّ: الدين: الجزاء، والحساب، والطاعة، والعبادة، والملك. انتهى.

و {مَالِكِ} اسم فاعل صفة للَّه تعالى، ولا يقال: إن اسم الفاعل إضافته لفظيّة، فلا تفيده التعريف، فكيف توصف المعرفة بالنكرة؟؛ لأن محلّ كون إضافته لفظيّةً إذا كان للحال، أو الاستقبال، فإن قُصد به المضيّ، أو الدوام كما هنا، فإضافته حقيقيّة، فتوصف به المعرفة.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قرأ بعض القرّاء "مَلِك"، وقرأ الآخرون {مَالِكِ} ، وكلاهما صحيح، متواترٌ في السبع. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قرأ محمد بن السميفع بنصب "مالكَ"، وفيه أربِع لغات: مالك، ومَلِكٌ، ومَلْكٌ، مخففة من مَلِك، ومَلِيك، قال الشاعر [من الوافر]:

وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ

عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا

وقال آخر [من الكامل]:

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 139.

ص: 240

فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ الْمَلِيكُ فَإِنَّمَا

قَسَمَ الْخَلَائِقَ بَيْنَنَا عَلَّامُهَا

"الخلائق": الطبائع التي جُبِل الإنسان عليها، ورُوي عن نافع إشباع الكسرة في ملك، فيقرأ ملكي على لغة من يُشبع الحركات، وهي لغة للعرب ذكرها الْمُهْدَويّ، وغيره.

قال: واختَلَف العلماء أيُّما أبلغ: مَلِك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ذكرهما الترمذيّ.

فقيل: ملك أعمّ، وأبلغ من مالك؛ إذ كلُّ مَلِك مالك، وليس كل مالك مَلِكًا، ولأن أمر الملِك نافذ على المالك في مِلْكه حتى لا يتصرف إلَّا عن تدبير الملك، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، وقيل: مالك أبلغ؛ لأنه يكون مالكًا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرُّفًا وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك. . . إلى آخر ما ذكره القرطبيّ من الأقوال

(1)

.

(قَالَ) اللَّه عز وجل (مَجَّدَنِي عَبْدِي) أي عظّمني، وأثنى عليّ بصفات الجلال، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مجّدني": أي اعتقد شَرَفي، ونَطَقَ به، والمجدُ نهاية الشرف، وهو الكثير صفات الكمال، والمجد: الكثرة، ومنه قوله:

في كل شجر نارٌ، واسمه الْمَرْخُ والْعَفَارُ: أي كثُر نارهما. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ مَرَّةً) أي قال الراوي بدل قوله: "مجّدني عبدي"، ثم يحتمل أن يكون أبا هريرة رضي الله عنه، أو غيره (فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي) أي سلَّم أموره إليّ، قال القرطبيّ رحمه الله: أي يقول هذا، ويقول هذا، غير أن فوَّض أقلّ ما يقوله، وليس شكًّا، وهو مطابق لقوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؛ لأنه تعالى هو المنفرد في ذلك اليوم بالملك؛ إذ لا تبقى دعوى لِمُدَّعٍ. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: وقوله: "وربما قال: فَوَّض إليّ عبدي"، وجه مطابقة هذا لقوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أن اللَّه تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، وبجزاء العباد، وحسابهم، والدين الحسابُ، وقيل: الجزاء، ولا دعوى لأحدٍ في ذلك اليومِ ولو مجازًا، وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازيّ ويدَّعي

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 139 - 140.

(2)

"المفهم" 2/ 26 - 27.

ص: 241

بعضهم دعوى باطلة، وهذا كله ينقطع في ذلك اليوم، هذا معناه، وإلا فاللَّه سبحانه وتعالى هو المالك، والْمَلِك على الحقيقة للدارين، وما فيهما، ومن فيهما، وكلُّ مَن سواه مربوبٌ له عبدٌ مُسَخَّرٌ، ثم في هذا الاعتراف من التعظيم والتمجيد، وتفويض الأمر ما لا يخفى. انتهى.

(فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}) أي نخضع، ونتذلّل لك، وقرأ السبعة بتشديد الياء من {إِيَّاكَ} ، وقرأ عمر بن فائد بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذّة مردودة؛ لإن "إيَا" ضوء الشمس، وقرأ بعضهم "أَيّاك" بفتح الهمزة، وتشديد الياء، وقرأ بعضهم "هِيّاك" بالهاء بدل الهمزة.

قال القرطبيّ رحمه الله: رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين؛ لأنه من أوّل السورة إلى هنا خبر عن اللَّه تعالى، وثناءٌ عليه، و {نَعْبُدُ} معناه: نُطيع، والعبادة: الطاعة والتذلّل، وطريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مُذلَّلًا للسالكين، قاله الهرويّ.

ونُطق المكلّف به إقرار بالربوبيّة، وتحقيق لعبادة اللَّه تعالى؛ إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. انتهى.

وقال ابن كثير رحمه الله: والعبادة في اللغة من الذّلّ، يقال: طريقٌ مُعَبَّدٌ: أي مُذلَّلٌ، وفي الشرع: عبارة عما يَجمع كمال المحبّة والخضوع والخوف. انتهى.

({وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}) أي نسألك العون، وهو بفتح النون في قراءة الجميع إلَّا يحيى بن وَثّاب، والأعمش، فإنهما كسراها، وهي لغة بني أسد، وربيعة، وبني تميم: أي نطلُبُ العون والتأييد والتوفيق.

وقُدّم المفعول، وهو "إيّاك"، وكُرّر؛ للاهتمام والحصر؛ أي لا نعبد إلَّا إياك، ولا نتوكّل إلَّا عليك، وهذا كمال الطاعة، والدينُ كلّه يرجع إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة:{إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فالأوّل تبرّؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوّة، وتفويض إلى اللَّه عز وجل، قاله ابن كثير رحمه الله.

وقال أبو جعفر الطبريّ رحمه الله: تأويل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : لك اللَّهمّ نخشع، ونَذِلّ، ونستكين؛ إقرارًا لك يا ربّنا بالربوبيّة، لا لغيرك.

ومعنى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : وإياك ربّنا نستعين على عبادتنا إياك، وطاعتنا لك، وفي أمورنا كلّها، لا أحد سواك؛ إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره

ص: 242

بمعبوده الذي يعبده، من الأوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا، مخلصين لك العبادة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في هذه الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، ووجه حسنه فيها أن الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تجديدًا لنشاط السامع، وكان أكثر إيقاظًا للإصغاء إليه.

وألطف من ذلك أن العبد إذا ذكر الحقيقَ بالحمد عن قلب حاضر يجد من نفسه مُحرّكًا للإقبال عليه، وكلما أجرى عليه صفةً من تلك الصفات العظام قَوِيَ ذلك المحرّك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمة تلك الصفات المفيدة أنه مالك الأمر كلّه يوم الجزاء، فحينئذ يوجب الإقبال عليه، والخطاب بتخصيصه بغاية الخضوع، والاستعانة في المهمّات، أفاده بعض المحقّقين

(2)

.

(قَالَ) اللَّه عز وجل (هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي) وفي رواية أبي داود: "فهذه بيني وبين عبدي"، وفي رواية النسائيّ:"فهذه الآية بيني وبين عبدي"، وإنما كانت بين اللَّه عز وجل وبين عبده؛ لأن بعضها تعظيم للَّه تعالى، وهو:{وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وبعضها استعانة للعبد بربّه عز وجل على أموره، وهو:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وقال القرطبيّ: وإنما قال اللَّه تعالى هنا: "هذا بيني وبين عبدي"؛ لأنَّها تضمّنت تذلّل العبد للَّه، وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمّن تعظيم اللَّه تعالى وقدرته على ما طلب منه. انتهى

(3)

.

(وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ) هذا وعد من اللَّه تعالى لعبده أن يعطيه ما سأله من العون على أموره. (فَإِذَا قَالَ) العبد ({اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}) قراءة الجمهور بالصاد، وقُرئ:"السراط" بالسين، وقُرئ بالزاي، قال الفرّاء: وهي لغة بني عُذْرة، وبني كُليب.

قال القرطبيّ رحمه الله: {اهْدِنَا} دعاءٌ ورغبةٌ من المربوب إلى الربّ،

(1)

"تفسير الطبريّ" 1/ 69.

(2)

هو العلامة محمد بن عبد الرحمن القزوينيّ، صاحب "تلخيص المفتاح" في علوم البلاغة 1/ 471 - 475 بنسخة حاشية الدسوقيّ.

(3)

"المفهم" 2/ 27.

ص: 243

والمعنى: دُلّنا على الصراط المستقيم، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أُنسك وقُربك، قال بعض العلماء: فجعل اللَّه عز وجل عُظْمَ الدعاء، وجملته موضوعًا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي؛ لأن هذا الكلام قد تكلّم به ربّ العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلّم به.

وفي الحديث: "ليس شيء أكرم علي اللَّه من الدعاء"

(1)

، وقيل: المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك، وقيل: الأصل فيه الإمالة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]: أي مِلْنا، وخرج صلى الله عليه وسلم في مرضه يُهادى بين رجلين: أي يتمايل، ومنه الهديّة؛ لأنَّها تُمال من ملك إلى ملك، ومنه الْهَدْيُ للحيوان الذي يُساق إلي الحرم.

فالمعنى: مِلْ بقلوبنا إلى الحقّ.

وقال الفضيل بن عياض: الصراط المستقيم: طريق الحجّ، وهذا خاصّ، والعموم أولى.

وقال محمد ابن الحنفيّة: هو دين اللَّه الذي لا يُقبَل من العباد غيره.

وقال عاصم الأحول، عن أبي العالية: الصراط المستقيم: هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، قال عاصم: فذكرت للحسن، فقال: صدق ونصح. انتهى كلام القرطبيّ باختصار

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لمَّا تقدم الثناءُ علي المسؤول تبارك وتعالى، ناسب أن يُعَقَّب بالسؤال، كما قال:"فنصفُها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل"، وهذا أكمل أحوال السائل أن يَمْدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ؛ لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد اللَّه إليه؛ لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه، كما قال موسي عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 147.

ص: 244

لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وقد يتقدمه مع ذلك وصف مسؤول، كقول ذي النون:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول، كقول الشاعر [من الوافر]:

أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي

حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ

إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا

كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

والهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق، وقد تُعَدَّى الهداية بنفسها كما هنا:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، فتَضَمَّن معنى ألهمنا، أو وفِّقنا، أو ارزقنا، أو أعطنا، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، أي بَيَّنّا له الخير والشر، وقد تُعَدَّى بـ "إلى"، كقوله تعالى:{اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121]، {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]، وذلك بمعني الإرشاء والدلالة، وكذلك قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقد تُعَدَّى باللام، كقول أهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]: أي وفَّقَنا لهذا، وجعلنا له أهلًا.

وأما الصراط المستقيم، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا، على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وحصذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الْخَطَفَى [من الوافر]:

أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ

إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط، فتستعمله في كل قول وعمل وُصِف باستقامة، أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوَجَّ باعوجاجه.

ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة للَّه تعالى، وللرسول صلى الله عليه وسلم، فرُوي أَنَّه كتاب اللَّه، وقيل: هو الإسلام، وقيل: الحقُّ قال: وهذا أشمل، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، وذَكَرَ ما تقدّم في كلام القرطبيّ، إلَّا قول فضيل: إنه طريق الحجّ.

ثم قال: وكلّ هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة، فإن من اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم، واقتدى باللذين من بعده: أبي بكر وعمر، فقد اتّبع الحقّ، ومن اتّبع

ص: 245

الحقّ، فقد اتّبع الإسلام، ومن اتّبع الإسلام، فقد اتّبع القرآن، وهو كتاب اللَّه، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحة، يُصدّق بعضها بعضًا، وللَّه الحمد.

وقال ابن جرير أيضًا: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أعني {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أن يكون مَعْنِيًّا به: وَفِّقْنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم؛ لأن مَن وُفّق لما وُفّق له مَن أنعم اللَّه عليه من النبيين والصديقين والشهداء، فقد وُفِّق للإسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمر اللَّه به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكل عبد للَّه صالح، وكلُّ ذلك من الصراط المستقيم.

[فإن قيل]: فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت، من صلاة وغيرها، وهو مُتَّصِفٌ بذلك؟، فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟.

[فالجواب]: أن لا، ولولا احتياجه ليلًا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده اللَّه تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى اللَّه تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء اللَّه، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يُمِدَّه بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد مَن وَفَّقه اللَّه تعالى لسؤاله، فإنه تعالى قد تكفل باجابة الداعي إذا دعاه، ولا سيما المضطرّ المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية [النساء: 136].

فقد أَمر الذين آمنوا بالإيمان، وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال الْمُعِينة على ذلك، واللَّه أعلم.

وقال تعالى آمرًا لعباده المؤمنين أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

ص: 246

فمعنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} استَمِرَّ بنا عليه، ولا تَعْدِلْ بنا إلى غيره. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

.

وقوله: ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}) مُفَسَّرٌ للصراط المستقيم، وهو بدلٌ منه عند النُّحَاة بدل الشيء من الشيء، كقولك: جاءني زيد أبوك، ويجوز أن يكون عطف بيان، واللَّه أعلم.

ومعناه: أَدِمْ هدايتنا، فإن الإنسان قد يَهْدِي إلى الطريق، ثم يقطع به، وقيل: هو صراط آخر، ومعناه: العلم باللَّه عز وجل، والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد.

[تنبيهات]:

(الأول): في {عَلَيْهِمْ} عشر لغات، قرئ بعامتها "عليهُم" بضم الهاء وإسكان الميم، و"عليهِم" بكسر الهاء وإسكان الميم، و"عليهِمي" بكسر الهاء والميم، وإلحاق ياء بعد الكسرة، و"عليهمو" بكسر الهاء، وضم الميم، وزيادة واو بعد الضمة، و"عليهمو" بضم الهاء والميم كلتيهما، وإدخال واو بعد الميم، و"عليهم" بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب، غير مَحْكيّة عن القراء، "عليهُمي" بضم الهاء وكسر الميم، وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصريّ عن العرب، و"عليهُم" بضم الهاء وكسر الميم، من غير زيادة ياء، و"عليهِم" بكسر الهاء وضم الميم، من غير إلحاق واو، و"عليهِم" بكسر الهاء والميم، ولا ياء بعد الميم، وكلها صواب، قاله ابن الأنباريّ.

(الثاني): اختَلَف الناس في الْمُنْعَم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]، فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد، وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال.

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 30.

ص: 247

(الثالث): في هذه الآية ردّ على القدريّة، والمعتزلة، والإمامية؛ لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في حدور أفعاله منه، طاعةً كانت أو معصية؛ لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في هذه الآية؛ إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر إليهم، والاختيار بيدهم دون ربهم، لَمَا سألوه الهداية، ولا كرّروا السؤال في كل صلاة، وكذلك تضرّعهم إليه في دفع المكروه، وهو ما يناقض الهداية، حيث قالوا:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فكما سألوه أن يَهديهم سألوه أن لا يُضِلَّهم، وكذلك يدعون، فيقولون:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية [آل عمران: 8]، ذكره القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: ({غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}) قرأ الجمهور بجرّ {غَيْرِ} على النعت، قال الزمخشريّ: وقُرئ بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب، ورُويت عن ابن كثير، وذو الحال الضمير في {عَلَيْهِمْ} ، والعامل {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ممن تقدم وصفُهُم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، والطاعة للَّه ورسله، وامتثال أوامره، وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ، وعَدَلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فَقَدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحقّ، وأكّد الكلام بـ "لا"؛ ليدُلّ على أن ثَمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقة اليهود والنصارى.

وقد زعم بعض النحاة أن {غَيْرِ} ها هنا استثنائية، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم، وليسوا منهم، وما أوردناه أولى؛ لقول الشاعر [من الوافر]:

كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ

يُقَعْقَعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ

أي كأنك جمل من جمال بني أقيش، فحَذَف الموصوفَ، واكتَفَى بالصفة؛ وهكذا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: أي غير صراط المغضوب عليهم اكتَفَى

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 148 - 149.

ص: 248

بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دَلَّ عليه سياق الكلام، وهو قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .

ومنهم من زعم أن {لَا} في قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} زائدة، وأن تقدير الكلام عنده غير المغضوب عليهم والضالين، واستشهد ببيت العجاج [من الرجز]:

فِي بِئْرِ لَا حُورٍ

(1)

سَرَى وَمَا شَعَرْ

أي في بئر حور، والصحيح ما قدمناه، ولهذا رَوَى أبو عُبيد القاسم بن سلام في كتاب "فضائل القرآن" عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ:"غير المغضوب عليهم وغير الضالين"، وهذا إسناد صحيح، وكذلك حَكَى عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه، من أنه إنما جيء بـ "لا" لتأكيد النفي؛ لئلا يُتَوَهَّم أنه معطوف على {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وللفرق بين الطريقتين؛ لِيُجْتَنَب كل واحد منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحقّ، والعمل به، واليهود فَقَدُوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى؛ لأن مَن عَلِم، وترك استحقّ الغضب، بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا، لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لَمْ يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحقّ ضَلُّوا، وكلٌّ من اليهود والنصارى ضالّ مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، كما قال تعالى عنهم: {مَنْ

(1)

قال في "اللسان"(4/ 217): الْحَوْرُ: الرجوع عن الشيء، وإلى الشيء، حار إلى الشيء، وعنه حَوْرًا، ومَحَارًا، ومَحَارةً، وحُؤُورًا: رجع عنه، وإليه، وقال العَجَاج:

فِي بِئْرِ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ

أراد في بئرٍ لا حُؤُورٍ، فأسكن الواو الأولي، وحذفها؛ لسكونها، وسكون الثانية بعدها. انتهى.

ص: 249

لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال تعالى عنهم:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار، قاله ابن كثير رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلِفَ في المغضوب عليهم والضالين من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصاري، وجاء ذلك مفسرًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، والترمذي في "جامعه"، وشَهِد لهذا التفسير أيضًا قوله سبحانه في اليهود:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]، وقال:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6]، وقال في النصارى:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وقيل: المغضوب عليهم المشركون، والضالين المنافقون.

وقيل: المغضوب عليهم هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، والضالين عن بركة قراءتها، حكاه السلمي في "حقائقه"، والماوردي في "تفسيره"، وليس بشيء، قال الماوردي: وهذا وجه مردود؛ لأن ما تعارضت فيه الأخبار، وتقابلت فيه الآثار، وانتشر فيه الخلاف لَمْ يجز أن يُطْلَق عليه هذا الحكم.

وقيل: المغضوب عليهم باتّباع البدع، والضالين عن سنن الهدى.

قال القرطبيّ: وهذا حسنٌ، وتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح التفاسير -كما قال القرطبيّ- هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وغيرهما، من حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه، فما فسّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُقدّم عليه غيره؛ لأنه تفسير من قال اللَّه تعالى له:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة مهمّة]: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الصحيح من مذاهب العلماء أنه يُغْتَفَر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء؛ لقرب مخرجيهما، وذلك أن

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 249.

ص: 250

الضاد مخرجها من أول حافة اللسان، وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان، وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلًّا من الحرفين من الحروف المجهورة، ومن الحروف الرِّخْوَة، ومن الحروف الْمُطْبَقَة، فلهذا كلِّه اغتُفِرَ استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، وأما حديث:"أنا أفصح مَن نطق بالضاد"، فلا أصل له. انتهي، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) اللَّه تعالى (هَذَا لِعَبْدِي) أي الكلام خاصّ بعبدي؛ لأنه دعاء بالتوفيق إلى صراط من أنعم اللَّه عليهم من النبيين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، والعصمة من صراط من غَضِبَ اللَّه عليهم، ولعنهم، وجَعَل منهم القِرَدَة والخنازير، وصراط من أضلّوا كثيرًا، وضلُّوا عن سواء السبيل.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله تعالى: "فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6). . .} إلى آخر السورة، فهذا لعبدي"، هكذا هو في "صحيح مسلم"، وفي غيره:"فهؤلاء لعبدي"، وفي هذه الرواية دليل على أن {اهْدِنَا} وما بعده إلى آخر السورة ثلاث آيات، لا آيتان، وفي المسألة خلافٌ، مبنيّ على أن البسملة من الفاتحة أم لا؟ فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنَّها من الفاتحة، وأنها آية {اهْدِنَا} وما بعده آيتان، ومذهب مالك وغيره ممن يقول: إنها ليست من الفاتحة، يقول:{اهْدِنَا} وما بعده ثلاث آيات، وللأكثرين أن يقولوا: قوله: "هؤلاء"، المراد به الكلمات، لا الآيات، بدليل رواية مسلم:"فهذا لعبدي"، وهذا أحسن من الجواب بأن الجمع محمول على الاثنين؛ لأن هذا مجاز عند الأكثرين، فيحتاج إلى دليل على صرفه عن الحقيقة إلى المجاز. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مسألة كون الاثنين أقلّ الجمع قد استوفيت بحثه في "التحفة المرضيّة"، وشرحها "المنحة الرضيّة" في الأصول، ورجّحت أنه الحقّ، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وأما مسألة كون البسملة من الفاتحة، أم لا؟ فسيأتي البحث عنه مستوفًى بعد بابين -إن شاء اللَّه تعالى-.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 104.

ص: 251

(وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ") هذا وعدٌ من اللَّه تعالى الكريم أن يُجيب عبده بإعطاء ما سأل، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9].

فهنيئًا للعبد الموفّق لهذا الفضل العظيم {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، اللهم اجعلنا هداة مهديين، مخير ضالَّين، ولا مضلّين، آمين.

(قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة، والظاهر أنه بالسند السابق، وليس معلّقًا، واللَّه تعالى أعلم.

(حَدَّثَنِي بِهِ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ) أي على العلاء (وَهُوَ مَرِيضٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من المجرور، وقوله:(فِي بَيتِهِ) متعلّق بـ "مريض"، أو بـ "دخلتُ"، أو بحال مقدَّر (فَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنْهُ) أي عن هذا الحديث.

وغرض المصنّف بهذا: تأكيد اتّصال السند ببيان سماع سفيان من شيخه العلاء؛ لأنه كان في الرواية السابقة بالعنعنة، وتأكيد ذلك السماع ببيان مكانه، والحالة التي كان هو محليها حينما حدّثه به، وهي كونه مريضًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 884 و 885 و 886](395)، و (أبو داود) في "الصلاة"(821)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2953)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(909)، و"الكبرى" في "فضائل القرآن"(18012) و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(838)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 84 - 85)، و (أبو داود الطيالسيّ) في (2561)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2767)، و"أحمد) في "مسنده" (2/ 250 و 285 و 487) (وابن خزيمة) في "صحيحه" (502)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (1784 و 1788 و 1789 و 1794 و 1795)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (1/ 215)، و"مشكل الآثار" (2/ 23)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (2/ 39 و 166 و 167)، و (البغويّ) في

ص: 252

"شرح السنّة"(578)، (أبو عوانة) في "مسنده"(1673 و 1674 و 1675 و 1676 و 1677 و 1678 و 1679 و 1680)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(873 و 874 و 875 و 876 و 877)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب قراءة الفاتحة على كلّ مصلٍّ، إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا، وقد تقدَّم البحث فيه قريبًا مستوفًى، فراجعه.

2 -

(ومنها): بيان عظم شأن الفاتحة، حتى سمّاها اللَّه تعالى بالصلاة، قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها لا تصح إلَّا بها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة" ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة.

3 -

(ومنها): المراد بقسمة الفاتحة نصفين قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد للَّه تعالى، وتمجيد، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال، وطلبٌ، وتضرعٌ وافتقارٌ.

4 -

(ومنها): أنه احتَجّ القائلون بأن البسملة ليست من الفاتحة بهذا الحديث، قال النوويّ رحمه الله: وهو من أوضحَ ما احتَجّوا به، قالوا: لأنَّها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أولها ثناء، أول {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، وثلاث دعاء، أولها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، والسابعة متوسطة، وهي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قالوا: ولأنه سبحانه وتعالى قال: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. . . "، فلم يذكر البسملة، ولو كانت منها لذكرها.

قال: وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن يقول: إن البسملة آية من الفاتحة بأجوبة:

[أحدها]: أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة، لا إلى الفاتحة، هذا حقيقة اللفظ.

[والثاني]: أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة.

[والثالث]: معناه: فإذا انتهى المعبد في قراءته إلى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى ما في هذه الأجوبة من التكلّفات،

ص: 253

والحقّ أن قول من قال: إن البسملة ليست آية من الفاتحة هو الظاهر؛ لوضوح أدلّته، وسيأتي تمام البحث في هذا بعد بابين -إن شاء اللَّه تعالى-.

5 -

(ومنها): بيان عناية اللَّه تعالى بعبده، حيث مدحه بسبب حمده، وثنائه، وتمجيده، ووَعَده أن يُعطيه ما سأل.

6 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: اشتَمَلت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات، على حمد اللَّه، وتمجيده، والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى، المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيدَه إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرُّؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية، تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك، أو نظير، أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه، حتى يَقْضِي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسية يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم، في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، واشتَمَلت أيضًا على الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يُحْشَروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم، والضالون.

وما أحسن ما جاء من إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . . .} الآية [المجادلة: 14]، وكذلك إسناد الضلال إلى مَن قام به، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره، كما قال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، وقال:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)} [الأعراف: 186]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية، ومن حَذَا حَذْوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك، ويفعلونه، ويحتجون على بدعتهم بمتشابهٍ من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحًا في الردّ عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغيّ.

وقد ورد في الحديث الصحيح: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه

ص: 254

فأولئك الذين سَمَّى اللَّه فاحذروهم"، يعني في قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، فليس بحمد اللَّه لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء لِيَفْصِل الحقّ من الباطل، مُفَرِّقًا بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض، ولا اختلاف؛ لأنه من عند اللَّه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[885]

(. . .) - (حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنسٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجِ، أَخْبَرَنِي

(2)

الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَا السَّائِبِ، مَوْلَى بَنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنِ هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن صَلَّى صَلَاةً، فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ" بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَفِي حَدِيثِهِمَا:"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، يقال: اسمه عبد اللَّه بن السائب، ثقة [3](م 4) تقدم "الطهارة" 29/ 664.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، سوى "الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، و"أَبِي هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه فتقدّما في السند الماضي.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفيَانَ) يعني أن أنس بن مالك، وابن جُريج حدّثا عن العلاء بن عبد الرحمن بمثل حديث سفيان بن عيينة عنه المذكور قبلهما.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ. . . إلخ) يعني أن

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 28 - 29.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 255

في حديث أنس، وابن جريج زيادة على حديث سفيان، وهي قوله:"فنصفها لي، ونصفها لعبدي".

[تنبيه]: أما رواية مالك التي أحالها هنا على رواية سفيان بن عيينة، فأخرجها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(909)

أخبرنا قتيبة، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا السائب، مولى هشام بن زُهْرة، يقول: سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاةً لَمْ يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِداج، هي خِداج، هي خِداجٌ، غير تمام"، فقلت: يا أبا هريرة، إني أحيانًا أكون وراء الإمام، فغَمَز ذراعي، وقال: اقرأ بها يا فارسيّ في نفسك، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"يقول اللَّه عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل"، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اقرءوا، يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول اللَّه عز وجل: حَمِدني عبدي، يقول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يقول اللَّه عز وجل: أثنى عليّ عبدي، يقول العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يقول اللَّه عز وجل: مَجّدني عبدي، يقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل". انتهى.

وأما رواية ابن جريج، فأخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7502)

حدثنا عبد الرزاق، قال: ابن جريج قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، أن أبا السائب، مولى هشام بن زُهْرة أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاةً لَمْ يقرأ فيها بأبي القرآن، فهي خِداج، هي خِداج، غير تمام"، قال أبو السائب لأبي هريرة: إني أكون أحيانًا وراء الإمام؟ قال أبو السائب: فغمز أبو هريرة ذراعي، فقال: يا فارسي اقرأها في نفسك، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"قال اللَّه عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل"، قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا،

ص: 256

يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فيقول اللَّه: حَمِدَني عبدي، ويقول العبد:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فيقول اللَّه: أثنى عليّ عبدي، فيقول العبد:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فيقول اللَّه: مَجّدني عبدي، وقال: هذه بيني وبين عبدي، يقول العبد:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: أجدها لعبدي، ولعبدي ما سأل، قال: يقول عبدي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، يقول اللَّه عز وجل: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[886]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ أَبِي، وَمِنْ أَبِي السَّائِبِ، وَكَانَا جَلِيسَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً، لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَهِيَ خِدَاجٌ" لا يَقُولُهَا ثَلَاثًا، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ) -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر القاف-: نسبة إلى ناحية من اليمن، تسمّى مَعْقِر، أبو الحسن، نزيل مكة، مقبول [11].

رَوَى عن النضر بن محمد، وإسماعيل بن عبد الكريم بن مَعْقِل بن مُنَبِّه.

ورَوَى عنه مسلم، والمفضَّل بن محمد الْجَنَديّ، ومحمد بن إسحاق بن العباس الفاكهيّ المكيّ، كان حيًّا سنة (255)، وذكر عبد الغنيّ في ترجمته أنه رَوَى عن سعيد بن بَشِير، وقيس بن الربيع، وهو وَهَمٌ، فإنه لَمْ يدركهما، وإنما رَوَى عن النضر عنهما، وقال اللالكائيّ: يُكْنَى أبا أحمد.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (395)، وحديث (832):"أرسَلَني بِصِلَةِ الأرحام. . . "، و (2362): "ما تصنعون؟

ص: 257

قالوا: كنا نصنعه. . . "، و (2501): "نعم، قال: عندي أحسن العرب، وأجمله، أم حبيبة. . . ".

2 -

(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن موسى الْجُرَشيّ

(1)

، أبو محمد اليماميّ، مولى بني أميّة، ثقةٌ، له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

3 -

(أَبُو أُوَيسٍ) عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ المدنيّ، قريب مالك وصِهْره، صدوقٌ يَهِم [7](ت 167)(م 4) تقدم في "الإيمان" 73/ 391.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) يعني أن حديث أبي أويس بمثل حديث سفيان، ومالك، وابن جريج.

[تنبيه]: رواية أبي أويس هذه أخرجها الإمام البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(2/ 375)، فقال:

(3767)

وأخبرنا أبو نصر، أحمد بن عليّ بن أحمد القاضي، من أصله، ثنا أبو بكر محمد بن المؤمَّل بن الحسن بن عيسى الماسَرْجِسيّ، ثنا الفضل بن محمد الشعرانيّ، ثنا إسماعيل بن أبي أُويس، حدثني أبي، عن العلاء، أنه قال: سمعت من أبي، ومن أبي السائب جميعًا، وكانا جليسي أبى هريرة رضي الله عنه قالا: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى صلاةً، لَمْ يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خِداج، فهي خِداج

(2)

، غير تمام"، قال: قلت: يا أبا هريرة إني أكون أحيانًا وراء الإمام، فغَمَز ذراعي، وقال: يا فارسيّ اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "-يعني- يقول اللَّه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول عبدي:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يقول اللَّه: حَمِدني عبدي، فيقول:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فيقول اللَّه: أثنى عليّ عبدي، يقول عبدي:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

(1)

بجيم مضمومة، وشين معجمة. اهـ. "ت".

(2)

هكذا مرّتين، وعند المصنّف ثلاثًا، ولعله سقط من النساخ لـ "سنن البيهقيّ"، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 258

يقول اللَّه: مَجَّدني عبدي، وهذه الآية بيني وبين عبدي، يقول عبدي:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فهذه الآية بيني وبينه، وآخر السورة لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول عبدي:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6). . .} " إلى آخر السورة. انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[887]

(396) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا أَعْلَنَ

(1)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَنَّاهُ لَكُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ) الأزديّ، أبو محمد، ويقال: أبو شهيد البصريّ، مولى قُرَيبة، ثقةٌ ثبتٌ [5].

أدرك أبا الطُّفيل، وأرسل عن الزبير بن العوام، وأنس، وسعيد بن المسيب، وعُبيد بن عُمير، ورَوَى عن الحسن بن ثابت، وابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار، وعطاء بن أبي رباح، وابن المنكدر، وميمون بن مهران، وأبي إسحاق السَّبيعيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وحماد بن سلمة، ويزيد بن زُريع، وابن عُليّة، وبشر بن المفضَّل، وابنه إبراهيم بن حبيب، وأبو أسامة، وروح بن عبادة، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "فما أعلن لنا".

(2)

وفي نسخة: "أخفينا لكم".

ص: 259

قال أحمد: كان ثبتًا ثقةً، وهو عندي يقوم مقام يونس، وابن عون، وكان قليل الحديث، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو أسامة: كان من رُفَعاء الناس، وإنما رَوَى مائة حديث، وقال عليّ ابن المدينيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء اللَّه- وقال العجليّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال الآجريّ: قيل لأبي داود: أيما أحبّ إليك: هشام بن حسان، أو حبيب بن الشهيد؛ فقال: حبيب، وحَكَى ابن شاهين في "الثقات" أن شعبة قال لإبراهيم: لَمْ يكن أبوك أقلهم حديثًا، ولكنه كان شديد الاتّقاء، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال أبو داود، عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: مات سنة (145)، وهو ابن (66) سنةً، وزاد علي ابن المدينيّ، عن إبراهيم: أن ذلك كان في ذي الحجة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا (396)، وحديث (955):"صلى على قبر"، و (1232):"جَمَعَ بينهما، بين الحجِّ والعُمرة"، و (2427):"نعم، فحملنا، وتركك".

4 -

(عَطَاء) بن أبي رَبَاح، واسمه أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد الفقيه المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

أبو هريرة تقدّم قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: حبيبٌ، عن عطاء.

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حَبيبِ بْنِ الشَّهِيدِ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً) أي ابن أبي رَبَاح (يُحَدِّثُ عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) هكذا رواية أبي أسامة،

ص: 260

عن حبيب بن الشهيد مرفوعة، وقد أنكر الدارقطنيّ على مسلم، وقال: إن المحفوظ عن أبي أُسامة وقفه، كما رواه أصحاب ابن جُريج، وكذا رواه أحمد، عن يحيى القطّان، وأبي عُبيدة الحدّاد كلاهما عن حبيب المذكور موقوفًا، وأخرجه أبو عوانة من طريق يحيى بن أبي الحجّاج، عن ابن جُريج كرواية الجماعة، لكن زاد في آخره:"وسمعته يقول: لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، وظاهر سياقه أن ضمير "سمعته" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعًا، بخلاف رواية الجماعة. نعم، قوله:"ما أسمعنا"، و"ما أخفى عنّا" يُشعر بأن جميع ما ذكره متلقًّى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون للجميع حكم الرفع، قاله في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

("لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ") وفي رواية البخاريّ، من طريق ابن جريج، عن عطاء:"في كل صلاة يُقرأ" ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية النسائيّ:"كلُّ صلاة يُقرأ فيها".

هذا نصّ صريح في وجوب قراءة القرآن في الصلاة، وقد تقدّم تمام البحث فيه في المسألة الرابعة في شرح حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فراجعه تستفد.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَمَا) موصولة: أي الذي (أَعْلَنَ) وفي نسخة: "أعلن لنا"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي جهر لنا صلى الله عليه وسلم من القراءة (أَعْلَنَّاهُ لَكُمْ) أي جهرنا فيه حتى تسمعوه، وفي رواية ابن جريج الآتية:"فما أسمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسمعناكم"(وَمَا أَخْفَاهُ) أي الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم من القراءة (أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ) وفي نسخة: "أخفينا لكم"، واللام بمعنى "من"، وفي رواية ابن جريج الآتية:"وما أخفى منّا أخفينا منكم"، وزاد في رواية ابن جريج:"فقال له رجل: إن لَمْ أزد على أم القرآن؟ فقال: إن زدت عليها، فهو خيرٌ، وإن انتهيت إليها أجزأت عنك"، وفي رواية حبيب المعلّم الآتية:"ومن قرأ بأمّ الكتاب، فقد أجزأت عنه، ومن زاد فهو أفضل".

وفيه استحباب قراءة السورة، أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول

(1)

"الفتح" 2/ 295.

ص: 261

الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مرفوعًا من أفراد المصنّف رحمه الله، وأما الموقوف الآتي، فمتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 887 و 888 و 889](396)، و (البخاريّ) في "الأذان"(772)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 163)، و (الحميديّ) في "مسنده"(990)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2743)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 273 و 285 و 348 و 487)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1668 و 1669 و 1670 و 1671 و 1672)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(878 و 879 و 880)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1781 و 1853)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 208)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 61)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب القراءة في كل صلاة، على كلّ مصلٍّ، إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا، وسواء كانت الصلاة فريضةً، أو نافلة، سرّيّة، أو جهريّة.

2 -

(ومنها): أن قوله: "ومن قرأ بأم الكتاب، أجزأت عنه، ومن زاد فهو أفضل"، فيه دليل لوجوب الفاتحة، وأنه لا يجزئ غيرها عنها، فمن لم يقرأ بها لَمْ تصحّ صلاته، وهو شاهد لحديث عبادة رضي الله عنه المتقدّم، أفاده في "الفتح".

3 -

(ومنها): مشروعيّة الجهر بالقراءة في ركعتي الصبح والجمعة، والأوليين من المغرب والعشاء، وعلى الإسرار في الظهر والعصر، وثالثة المغرب، والأخريين من العشاء، قال النوويّ رحمه الله: وعلى هذا أجمعت الأمة، واختلفوا في العيد، والاستسقاء، ومذهبنا الجهر فيهما، وفي نوافل الليل، قيل: يجهر فيها، وقيل: بين الجهر والإسرار، ونوافل النهار يُسِرّ بها،

ص: 262

والكسوف يُسرّ بها نهارًا، ويجهر ليلًا، والجنازة يسر بها ليلًا ونهارًا، وقيل: يجهر ليلًا، ولو فاته صلاة ليليّة، كالعشاء، فقضاها في ليلة أخرى جَهَر، وإن قضاها نهارًا، فوجهان الأصحّ يسرّ، والئاني يجهر، وإن فاته نهاريّة، كالظهر، فقضاها نهارًا أسرّ، وإن قضاها ليلًا فوجهان الأصح يجهر، والثاني يسرّ، وحيث قلنا: يجهر أو يسر فهو سنة، فلو تركه صحت صلاته، ولا يسجد للسهو عندنا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

4 -

(ومنها): استحباب قراءة السورة، أو آيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور، وسيأتي اختلاف العلماء في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم ما زاد على الفاتحة:

قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب السورة بعدها، وهذا مُجْمَع عليه في الصبح، والجمعة، والأوليين من كل الصلوات، وهو سنة عند جميع العلماء، وحَكَى القاضي عياض: عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة، وهو شاذّ مردود، وأما السورة في الثالثة والرابعة، فاختَلَف العلماء، هل تستحب أم لا؟ وكره ذلك مالك رحمه الله، واستحبّه الشافعي رحمه الله في قوله الجديد دون القديم، والقديم هنا أصحّ، وقال آخرون: هو مُخَيَّر، إن شاء قرأ، وإن شاء سَبَّحَ، وهذا ضعيف، وتستحب السورة في صلاة النافلة، ولا تستحب في الجنازة على الأصح؛ لأنَّها مبنية على التخفيف.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ من عدم استحباب قراءة السورة في الجنازة، محلُّ نظر، فقد أخرج النسائيّ بسند صحيح، عن طلحة بن عبد اللَّه، قال: صلّيت خلف ابن عبّاس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهَرَ حتى أسمعنا، فلما فرَغ أخذت بيده، فسألته؟ فقال: سنّةٌ وحقّ. انتهى

(1)

.

فدلّ على أنّ قراءة السورة مع الفاتحة سنة؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ولا يزاد على الفاتحة إلَّا التأمين عقبها، ويستحب أن تكون السورة

(1)

راجع: "المجتبى" 4/ 75، و"الكبرى" 2/ 448.

ص: 263

في الصبح والأوليين من الظهر من طوال المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساطه، وفي المغرب من قصاره.

واختلفوا في تطويل القراءة في الأولى على الثانية، والأشهر عندنا أنه لا يستحب، بل يُسَوَّى بينهما، والأصح أنه يطول الأولى؛ للحديث الصحيح:"وكان يطول في الأولى ما لا يطول في الثانية"، متّفق عليه.

ومن قال بالقراءة في الأخريين من الرباعية يقول: هي أخف من الأوليين، واختلفوا في تقصير الرابعة على الثالثة، واللَّه أعلم.

وحيث شُرِعت السورة فتركها فاتته الفضيلة، ولا يسجد للسهو، وقراءة سورة قصيرة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، ويقرأ على ترتيب المصحف، ويكره عكسه، ولا تبطل به الصلاة.

ويجوز القراءة بالقراءات السبع، ولا يجوز بالشواذّ، وإذا لَحَن في الفاتحة لحنًا يُخِلّ المعني، كضم تاء {أَنْعَمْتَ} ، أو كسرها، أو كسر كشاف {إِيَّاكَ} ، بطلت صلاته، وإن لَمْ يُخِلّ المعنى، كفتح الباء من {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ونحوه كُرِه، ولم تبطل صلاته، ويجب ترتيب قراءة الفاتحة، وموالاتها، ويجب قراءتها بالعربية، ويحرم بالعجمية، ولا تصح الصلاة بها، سواء عَرَف العربية أم لا، وبشترط في القراءة، وفي كل الأذكار إسماع نفسه، والأخرس ومن في معناه يُحَرِّك لسانه وشفتيه بحسب الإمكان، ويجزئه، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[888]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فِي كُلِّ الصَّلَاةِ يَقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا

(1)

مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ لَمْ أَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: إِنْ زِدْتَ عَلَيْهَا

(1)

وفي نسخة: "أخفيناه".

ص: 264

فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا، أَجْزَأَتْ عَنْكَ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

كلهم تقدّموا في هذا الباب، غير زُهير، فتقدّم قبل باب، و"عمرو الناقد": هو ابن محمد، و"إسماعيل بن إبراهيم": هو ابن عليّة، و"ابن جُريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، و"عطاء": هو ابن أبي رَبَاح.

وقوله: (فِي كُلِّ الصَّلَاةِ يَقْرَأُ) وفي الرواية التالية: "في كل صلاة قراءة"، وفي رواية النسائيّ:"كلُّ صلاة يُقرأ فيها"؛ يعني أن كل ركعة، أو كل صلاة سرّيّة كانت، أو جهريّة تجب القراءة فيها.

فقوله: "في كلّ صلاة" متعلّق بـ "يُقرأ"، وهو بالبناء للمفعول.

وأراد أبو هريرة رضي الله عنه بهذا بيان وجوب القراءة في جميع ركعات كلّ الصلاة، فرضًا كانت أو نفلًا، منفردًا كان المصلّي، أو إمامًا، أو مأمومًا، وأشار بقوله:"فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ. . . إلخ" إلى أن هذا ثابتٌ عنه صلى الله عليه وسلم، وأصرح منه الرواية السابقة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة إلَّا بقراءة".

وقوله: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) قال صاحب "تنبيه المعلم": لا أعرفه. انتهى

(2)

.

وقوله: (إِنْ لَمْ أَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ؟) جواب "إن" محذوف: أي فهل يجزيني؟، أو فما الحكم؟.

وقوله: (وَإِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا) أي اكتفيت بقراءتها، ولم تزد عليها غيرها، وبقيّة مباحث الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[889]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ

(3)

-، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فِي كُلِّ صَلَاةٍ

(1)

وفي نسخة: "أجزأتك".

(2)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 121.

(3)

وفي نسخة: "نا يزيد بن زريع".

ص: 265

قِرَاءَةٌ، فَمَا أَسْمَعَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَاهُ مِنْكُمْ، وَمَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ

(1)

، فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَمَنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَزِيدُ بْنَ زُرَيْعٍ) الحافظ المثبت البصريّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(حَبِيب الْمُعَلِّمُ) أبو محمد البصريّ، مولى مَعْقِل بن يسار، وهو حبيب بن أبي قُرَيبة، واسمه زائدة، ويقال: حبيب بن زيد، ويقال: ابن أبي بَقِيّة، صدوقٌ [6].

رَوَى عن عطاء بن أبي رَبَاح، والحسن، ومحمد بن سيرين، وعمرو بن شعيب، وهشام بن عروة، وأبي الْمُهَزِّم التميميّ.

ورَوَى عنه حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، ويزيد بن زُريع، ومرحوم بن عبد العزيز العطار، وعبد الوهاب الثقفيّ.

قال عمرو بن عليّ: كان يحيى لا يُحَدِّث عنه، وكان عبد الرحمن يحدِّث عنه، وقال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة: ثقة، وقال أحمد: ما أحتجّ بحديثه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، مات سنة (130).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (396)، وحديث (1256):"ما منعكِ أن تكوني حججتِ معنا؟. . . "، و (1311):"نزله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه. . . ".

والباقيان تقدّما فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[890]

(397) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ

(1)

وفي نسخة: "فمن قرأ بأم القرآن".

ص: 266

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ "السَّلَامَ

(1)

، قَالَ:"ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ الرَّجُلُ، فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَعَلَيْكَ السَّلَامُ"، ثُمَّ قَالَ:"ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، عَلِّمْنِي، قَالَ:"إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِن رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِن سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فرّوخ القطّان التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5](ت سنة بضع 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) الْمَقْبُريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه تغيّر قبل موته بأربع سنين [3](ت 120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(أَبُوهُ) كيسان أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، مولى أمّ شَريك، ثقةٌ ثبتٌ 21، (ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

وفي نسخة: "فردّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه السلام".

ص: 267

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان.

4 -

(ومنها): أن شيخه هو أحد الأئمة التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: عبيد اللَّه، عن سعيد، عن أبيه.

6 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه: سعيد، عن كيسان.

7 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن سعيد المقبريّ (عَنْ أَبِيهِ) قال الدارقطنيّ رحمه الله: خالف يحيى القطان أصحاب عبيد اللَّه كلهم في هذا الإسناد، فإنهم لَمْ يقولوا:"عن أبيه"، ويحيى حافظٌ، قال: فيُشْبه أن يكون عبيد اللَّه حدّث به على الوجهين، وقال البزار: لَمْ يُتَابَعْ يحيى عليه، ورَجَّح الترمذيّ رواية يحيى.

قال الحافظ: لكل من الروايتين وجهٌ مرجِّحٌ، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ، وأما الرواية الأخرى فللكثرة، ولأن سعيدًا لَمْ يوصف بالتدليس، وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثَمّ أخرج الشيخان الطريقين، فأخرج البخاري طريق يحيى في "باب أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي لا يُتمّ ركوعه بالإعادة"، وفي "باب وجوب القراءة"، وأخرج في "الاستئذان" طريق عبد اللَّه بن نُمَير، وفي "الإيمان والنذور" طريق أبي أسامة، كلاهما عن عبيد اللَّه، ليس فيه "عن أبيه"، وأخرجه مسلم من رواية الثلاثة.

وللحديث طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة، أخرجها أبو داود، والنسائيّ من رواية إسحاق بن أبي طلحة، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن عَجْلان، وداود بن قيس، كلهم عن عليّ بن يحيى بن

ص: 268

خَلاد بن رافع الزُّرَقيّ، عن أبيه، عن عمه، رفاعة بن رافع، فمنهم من لم يسم رفاعة، قال: عن عمّ له بدريّ، ومنهم من لم يقل:"عن أبيه"، ورواه النسائيّ، والترمذيّ من طريق يحيى بن عليّ بن يحيى، عن أبيه، عن جدّه، عن رفاعة، لكن لَمْ يقل الترمذيّ:"عن أبيه"، وفيه اختلاف آخر نذكره قريبًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ) أي النبويّ (فَدَخَلَ رَجُلٌ) وفي رواية ابن نُمير الآتية: "أن رجلًا دخل المسجد، فصلّي، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ في ناحية المسجد"، وفي رواية النسائيّ، من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه:"بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ، ونحن حوله إذ دخل رجلٌ. . . " الحديث.

[تنبيه]: هذا الرجل الداخل هو خلاد بن رافع، جدُّ عليّ بن يحيى، راوي الخبر، بَيَّنه ابن أبي شيبة، عن عبّاد بن العوّام، عن محمد بن عمرو، عن عليّ بن يحيى، عن رفاعة، أن خلادًا دخل المسجد، ورَوَى أبو موسى في "الذَّيل" من جهة ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن عليّ بن يحيى بن عبد اللَّه بن خلاد، عن أبيه، عن جدِّه، أنه دخل المسجد. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه أمران: زيادة عبد اللَّه في نسب عليّ بن يحيى، وجَعْلُ الحديث من رواية خلاد جدِّ عليّ، فأما الأول فَوَهَمٌ من الراوي عن ابن عيينة، وأما الثاني فمن ابن عيينة؛ لأن سعيد بن منصور قد رواه عنه كذلك، لكن بإسقاط عبد اللَّه، والمحفوظ أنه من حديث رفاعة، كذلك أخرجه أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، وابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، كلاهما عن محمد بن عجلان.

وأما ما وقع عند الترمذيّ: "إذ جاء رجل كالبدويّ، فصلي، فأخفّ صلاته"، فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد؛ لأن رفاعة شَئهَه بالبدويّ؛ لكونه أخفّ الصلاة، أو لغير ذلك. انتهى

(1)

.

(فَصَلَّى) زاد النسائيّ من رواية داود بن قيس: "ركعتين"، وفيه إشعار بأنه

(1)

"الفتح" 2/ 324.

ص: 269

صلى نَفْلًا، والأقرب أنَّها تحية المسجد، وفي رواية النسائيّ المذكورة:"وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُه في صلاته"، زاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة:"ولا نَدْرِي ما يَعِيب منها؟ "، وفي رواية من طريق الليث، عن ابن عجلان:"يَرْمُقُهُ، ونحن لا نشعر"، وهذا محمول على حالهم في المرة الأولى، وهو مختصر من الذي قبله، كأنه قال:"ولا نشعر بما يعيب منها"، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ جَاءَ) أي الرجل الذي صلّى (فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من طريق أبي أسامة: "فجاء، فسلّم"، وهي أولى؛ لأنه لَمْ يكن بين صلاته ومجيئه تَرَاخٍ (فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ) وفي نسخة:"فردّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه السلام"، وفي رواية للبخاريّ في "الاستئذان" من طريق ابن نمير:"فقال: وعليك السلام".

قال في "الفتح": وفي هذا تعقّب على ابن الْمُنَيِّر حيث قال: فيه أن الموعظة في وقت الحاجة أهمّ من ردّ السلام، ولعله لَمْ يردّ عليه السلام تأديبًا على جهله، فيؤخذ منه التأديب بالهجر وترك السلام. انتهى.

قال الحافظ: والذي وقفنا عليه من نسخ "الصحيحين" ثبوت الردّ في هذا الموضع وغيره، إلَّا الذي في "الإيمان والنذور" عند البخاريّ، وقد ساق الحديث صاحب "العمدة" بلفظ الباب إلَّا أنه حذف منه:"فرَدَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فلعل ابن الْمُنيِّر اعتمد على النسخة التي اعتمد عليها صاحب "العمدة". انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْجِعْ، فَصَلِّ) وفي رواية ابن عجلان: "أَعِدْ صلاتك"(فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ") الفاء للتعليل؛ أي لأنك لَمْ تصلِّ، أي لَمْ تُوجِدْ حقيقة الصلاة المطلوبة منك شرعًا، فهو نفي للحقيقة؛ لانتفاء الطُّمانينة التي هي ركن من أركانها، أو أن المراد لَمْ تصحّ صلاتك، فيكون النفي راجعًا للصفة؛ خلافًا لمن قال: إنه نفيٌ للكمال؛ لأن النفي يتوجّه للحقيقة إذا أمكن كما هنا، وإلا يتوجّه لأقرب صفة للحقيقة؛ كالصحّة، لا الكمال

(3)

.

(1)

"الفتح" 2/ 324.

(2)

المصدر السابق.

(3)

راجع: "المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 5/ 300.

ص: 270

وقال القاضي عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ، وهو مبنيّ على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء، وهو الظاهر، ومَن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يأمره بعد التعليم بالإعادة، فدَلّ على إجزائها، وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكية، وهو المهلَّب ومن تبعه، وفيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة، فسأله التعليم، فعلَّمه، فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية، أشار إلى ذلك ابن الْمُنَيِّر رحمه الله

(1)

.

(فرَجَعَ الرَّجُلُ) المسيء في صلاته؛ ليصلّي مرّة أخرى (فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى) أي مثل صلاته الأولى بلا طُمأنينة، ولا اعتدال (ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَعَلَيْكَ السَّلَامُ"، ثُمَّ قَالَ: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وفي رواية ابن نُمير عند البخاريّ: "فقال في الثالثة، أو في التي بعدها"، وفي رواية أبي أسامة:"فقال في الثانية، أو الثالثة"، وتترجح الأولى؛ لعدم وقوع الشك فيها، ولكونه صلى الله عليه وسلم كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه غالبًا، قاله في "الفتح".

[تنبيه]: قد استُشكِل تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم له على صلاته، وهي فاسدة على القول بأنه أخلّ ببعض الواجبات، وأجاب المازريّ: بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا، أو غافلًا، فيتذكره، فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ، بل من باب تحقّق الخطأ، وقال النوويّ رحمه الله نحوه، قال: وإنما لَمْ يُعَلّمه أولًا؛ ليكون أبلغ في تعريفه، وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر، وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لَمْ يَفُتْهُ، فرأى إيقاظ الفِطنة للمتروك.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقًا، بل لا بدّ من انتفاء الموانع، ولا شك أن في زيادة قبول المتعلِّم لما يُلْقَى إليه بعد تكرار فعله، واستجماع نفسه، وتوجه سؤاله مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 325.

ص: 271

إلى التعليم، لا سيّما مع عدم خوف الفوات، إما بناءً على ظاهر الحال، أو بوحي خاصّ.

وقال التُّورِبِشْتيّ رحمه الله: إنما سكت عن تعليمه أَوّلًا؛ لأنه لَمّا رَجَع لَمْ يستكشف الحال من مَوْرِد الوحي، وكأنه اغتَرَّ بما عنده من العلم، فسكت عن تعليمه زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استَبْهَم عليه، فلما طَلَب كشف الحال من مَوْرِده أرشد إليه. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: لكن فيه مناقشةٌ؛ لأنه إن تَمّ له في الصلاة الثانية والثالثة، لَمْ يتم له في الأولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأه لَمّا جاء أول مرّة بقوله:"ارجع، فصَلِّ فإنك لَمْ تصلّ"، فالسؤال وارد على تقريره له على الصلاة الأولى، كيف لَمْ يُنكِر عليه في أثنائها، لكن الجواب يَصلَح بيانًا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أنه إنما لَمْ يُنكر عليه أثناء الصلاة، بل أخّره إلى أن انتهى منها؛ ليتبيَّن له جميع ما يُخطئ فيه؛ إذ لو أنكر عليه في الوسط، وعلّمه وأعاد ربّما أخطأ في غيره، فيحتاج إلى تعليمه، ويتسلسل، ولا يقال: إذا تبيّن له ذلك في المرّة الأولى، فلماذا ردّه ثانيًا وثالثًا؛ لأنا نقول: إن ذلك للزجر له، حيث أقدم على الإعادة من غير أن يتعلّم منه صلى الله عليه وسلم، فعاقبه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، عَلِّمْنِي) وفي رواية البخاريّ: "فما أُحسِن غيره، فعلِّمني"، وفي حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه:"والذي أنزل عليك الكتاب، لقد جَهَدتُ، فعلِّمني وأَرِني"، وفي لفظ:"لقد جهدتُ، وحَرَصْتُ، فأَرِني وعلِّمني"، وفي رواية:"والذي أكرمك يا رسول اللَّه، لقد جهدتُ، فعلّمني"، وفي رواية:"فقال الرجل: فأرني وعلّمني فإنما أنا بشرٌ، أُصيب وأُخطئ، فقال: أَجَلْ".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم معلِّمًا له ("إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ) وفي رواية عبد اللَّه بن نُمَير التالية: "إذا قمت إلى الصخلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر"، وفي حديث رفاعة:"فتوضأ كما أمرك اللَّه، ثم تشهد، وأقم"، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة، عند النسائيّ: "إنها لَمْ تتم صلاة أحدكم، حتى يسبغ

ص: 272

الوضوء، كما أمره اللَّه، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح رأسه، ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر اللَّه، ويَحْمَده، ويُمَجِّده"، وعند أبي داود: "ويُثْنِي عليه"، بدل: "ويمجِّده".

وقال صاحب "المرعاة": وفي رواية الطبرانيّ لحديث رفاعة: "ثم يقول: اللَّه أكبر"، وهي تبيّن أن المراد من التكبير خصوص هذا اللفظ، فلا يصحّ افتتاح الصلاة إلَّا بلفظ "اللَّه أكبر"، دون غيره من الأذكار، خلافًا لأبي حنيفة، فإنه يقول: يجزئ بكلّ لفظ يدلّ على التعظيم، وهذا نظرٌ منه إلى المعنى، وأن المقصود التعظيم، فيحصل بكلّ ما دلّ عليه، والحقّ ما ذهب إليه مالك، وأحمد، من تعيّن التكبير، وتخصيص لفظ "اللَّه أكبر".

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الحديث يعيِّن التكبير، ويتأيّد ذلك بأن العبادات محلّ التعبّدات، ويكثر ذلك فيها، فالاحتياط فيها اتّباع اللفظ.

وأيضًا فالخصوص قد يكون مطلوبًا، أعني خصوص التعظيم بلفظ "اللَّه أكبر"، وهذا لأن رُتَب هذه الأذكار مختلفة كما تدلّ عليه الأحاديث، فقد لا يتأدّى برتبة ما يُقصد من أخري، ونظيره الركوع، فإنا نفهم أن المقصود منه التعظيم بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعًا آخر -أي ولو كان سجودًا- لَمْ يجزه، ويتأيّد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بلفظ:"اللَّه أكبر"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال في "الفتح": لَمْ تَختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأما رفاعة ففي رواية إسحاق بن أبي طلحة:"ويقرأ ما تيسر من القرآن، مما علّمه اللَّه"، وفي رواية يحيى بن عليّ:"فإن كان معك قرآن فأقرأ، وإلا فاحمد اللَّه، وكبّره، وهلله"، وفي رواية محمد بن عمرو، عند أبي داود:"ثم اقرأ بأمّ القرآن، أو بما شاء اللَّه"، ولأحمد وابن حبّان من هذا الوجه:"ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت"، ترجم له ابن حبان بـ "بابُ فرض المصلي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة"

(2)

.

(1)

راجع: "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 3/ 5.

(2)

"الفتح" 2/ 325.

ص: 273

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيَّن بمجموع هذه الروايات أن معنى قوله هنا: "ما تيسّر" هي الفاتحة؛ لأن الرواية يُفسّر بعضها بعضًا، فلا مُتمسّك لمن استدلّ به على عدم فرضيّة قراءة الفاتحة؛ فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا) حال مؤكّدة، وقيل: مقيّدة، وفي رواية أحمد المذكورة:"فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدُد ظهرك، وتمكَّن لركوعك"، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة:"ثم يكبر، فيركع حتى تطمئن مفاصله، ويَسترخي".

(ثُمَّ ارْفَعْ) أي رأسك من الركوع (حَتَّى تَعْتَدِلَ) أي تستوي (قَائِمًا) وفي رواية ابن نمير عند ابن ماجه: "حتى تطمئنّ قائمًا"، رواها ابن أبي شيبة عنه، وقد ساق المصنّف إسنادها بعد هذا، ولكن لَمْ يسق لفظها، فهو على شرطه، وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن أبي أُسامة، وهو في "مستخرج أبي نُعيم" من طريقه، وكذا أخرجه السرّاج عن يوسف بن موسي، أحد شيوخ البخاريّ عن أبي أسامة.

قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: فثبت ذكر الطُّمانينة في الاعتدال على شرط الشيخين، ومثله في حديث رفاعة عند أحمد، وابن حبّان، وفي لفظ لأحمد:"فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها"، وعُرِف بهذا أن قول إمام الحرمين:"في القلب من إيجابها -أي الطُّمأنينة في الرفع من الركوع- شيءٌ؛ لأنَّها لَمْ تذكر في حديث المسيء صلاته" دالّ على أنه لَمْ يَقِفْ على هذه الطرق الصحيحة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا) وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة: "ثم يكبر، فيسجد حتى يمكِّن وجهه، أو جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي".

(ثُمَّ ارْفَعْ) أي رأسك من السجود (حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا) أي بعد السجدة الأولى، وهي حال مؤسِّسة، وفي رواية إسحاق المذكورة:"ثم يكبر، فيركع حتى يستوي قاعدًا على مقعدته، ويُقيم صُلْبه"، وفي رواية محمد بن عمرو:

(1)

المصدر السابق.

ص: 274

"فإذا رفعت رأسك، فاجلِسْ على فخذك اليسرى"، وفي رواية إسحاق:"فإذا جلست في وسط الصلاة، فاطمئنّ جالسًا، ثم افتَرِشْ فخذك اليسري، ثم تشهد".

(ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ) أي جميع ما ذُكر من الأقوال والأفعال، إلَّا تكبيرة الإحرام، فإنها مخصوصة بالركعة الأولى؛ لما عُلِم شرعًا من عدم تكرارها، وقيل: التقدير: ثم افعل ذلك؛ أي ما ذُكر مما يمكن تكريره، فخرج نحو تكبيرة الإحرام

(1)

. (فِي صَلَاِتِكَ) أي ركعات صلاتك (كُلِّهَا") بالجرّ توكيدٌ لـ "صلاتك"، أي في كلّ صلاتك، فرضها، ونفلها على اختلاف أوقاتها، وأسمائها.

وفي رواية محمد بن عمرو: "ثم اصنَعْ ذلك في كل ركعة وسجدة"، وفي حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه عند النسائيّ:"فإذا صنعتَ ذلك، فقد قضيتَ صلاتك، وما انتقصتَ من ذلك، فإنما تنقصه من صلاتك"، وفي رواية له:"فإذا أتممت صلاتك على هذا، فقد تمّت، وما انتقصت من هذا، فإنما تنقُصُه من صلاتك".

[تنبيه]: وقع في رواية عبد اللَّه بن نُمَير عند البخاريّ في "الاستئذان" بعد ذكر السجود الثاني: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا"، وقد قال بعضهم: هذا يدلّ على إيجاب جِلْسة الاستراحة، ولم يقل به أحد، وأشار البخاريّ إلى أن هذه اللفظة وَهَمٌ، فإنه عَقَّبَهُ بأن قال: قال أبو أسامة في الأخير: "حتى تستوي قائمًا".

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يُحْمَل إن كان محفوظًا على الجلوس للتشهد، ويُقَوّيه رواية إسحاق المذكورة قريبًا، وكلام البخاريّ ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نُمَير، لكن رواه إسحاق ابن راهويه في "مسنده" عن أبي أسامة كما قال ابن نُمير بلفظ:"ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا، ثم افعل ذلك في كل ركعة"، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، وقال: كذا قال إسحاق

(1)

"المرعاة" 3/ 7.

ص: 275

ابن راهويه، عن أبي أسامة، والصحيح رواية عبيد اللَّه بن سعيد أبي قُدَامة، ويوسف بن موسي، عن أبي أُسامة، بلفظ:"ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا"، ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي في تضعيف رواية إسحاق، عن أبي أسامة نظرٌ؛ لأنه لَمْ ينفرد بها، بل تابعه عبد اللَّه بن نُمير عند البخاريّ، فلا وجه لتضعيفها، وأما دلالتها على وجوب جِلْسة الاستراحة، فظاهرٌ، إلَّا أنّ له صارفًا، وهو ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من تركه جِلسة الاستراحة في بعض الأحيان، كما يأتي في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 890 و 891](397)، و (البخاريّ) في "الأذان"(757 و 793)، و"الاستئذان"(6251 و 6252 و 6667)، و (أبو داود) في "الصلاة"(856)، و (الترمذيّ) فيها (303)، و (النسائيّ) فيها (2/ 124)، و (ابن ماجه) فيها (1060)، (وأحمد) في "مسنده"(3/ 437)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(590)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1890)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1609 و 1610)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(881)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 88 و 117 و 122 و 126)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(552)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن هذا الحديث حديث جليلٌ، يُعْرَف عند العلماء بحديث المسيء صلاته، يشتمل على فوائد كثيرةٍ، قال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": فيه أربعون مسألةً، ثم سَرَدَها (1/ 340 - 431)، وقد أطال غيره من الشرّاح أيضًا الكلام فيه؛ كابن دقيق العيد في "إحكام الإحكام"(2/ 2 - 12)، والحافظ في "الفتح"(3/ 432 - 434)، والعينيّ في "عمدة القاري" (6/ 15 -

ص: 276

20)، والشوكانيّ في "نيل الأوطار"(2/ 157 - 161)، وقد لَخّصْتُ في هذا الشرح خلاصة تحقيقاتهم، فاستفد منه، وباللَّه تعالى التوفيق.

2 -

(ومنها): بيان وجوب القراءة في كلّ ركعة من الصلوات مطلقًا، فرضًا كانت أو نَفْلًا.

3 -

(ومنها): بيان وجوب تكبيرة الإحرام، وأنه لا يجوز الدخول في الصلاة إلَّا به، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في محلّه بحمد اللَّه تعالى وتوفيقه.

4 -

(ومنها): وجوب الإعادة على من أخلّ بشيء من واجبات الصلاة.

5 -

(ومنها): بيان أن الشروع في النافلة ملزمٌ، لكن يَحتَمِل أن تكون تلك الصلاة كانت فريضة.

6 -

(ومنها): أن فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

7 -

(ومنها): الرفق بالجاهل، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص المقاصد.

8 -

(ومنها): طلب المتعلِّم من العالم أن يعلِّمه ما يجهله من أمر دينه، ولا سيّما الصلاة.

9 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، ولطف المعاشرة.

10 -

(ومنها): أن فيه تكرار السلام وردّه، وإن لَمْ يخرج من الموضع، إذا وقعت صورة انفصال.

11 -

(ومنها): ما قيل: إن القيام في الصلاة ليس مقصودًا لذاته، وإنما يُقْصَد للقراءة فيه، وفيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال حينما سأله عمران بن حصين في عن صلاة المريض؟:"صلّ قائمًا، فإن لَمْ تستطع، فقاعدًا، فإن لَمْ تستطع فعلى جنب"، فإنه يدلّ على أن القيام في الصلاة فرض إلَّا للعاجز؛ فتنبّه.

12 -

(ومنها): جلوسُ الإمام في المسجد، وجلوس أصحابه معه.

13 -

(ومنها): التسليم للعالم، والانقياد له، والاعتراف بالتقصير، والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ.

ص: 277

14 -

(ومنها): ما قيل: إن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن، لا ما زادته السنة، فيندب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قيل، وفيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن الراجح أن آية الوضوء مجملة بيّنتها، وفسّرتها السنة القوليّة والفعليّة، فقد تقدّم وجوب أشياء ليست في الآية؛ كالمضمضة والاستنشاق، وغيرهما، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

15 -

(ومنها): جواز تأخير البيان في المجلس للمصلحة.

16 -

(ومنها): أن فيه حجةً على من أجاز القراءة بالفارسية؛ لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنًا، قاله القاضي عياض رحمه الله.

17 -

(ومنها): أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر، يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له، وإن لم يسأله عنه، ويكون من باب النصيحة، لا من الكلام فيما لا يعنيه، وموضع الدلالة منه كون الرجل قال: علّمني؛ أي الصلاة، فعلّمه الصلاة ومقدماتها.

18 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

19 -

(ومنها): أنه استدلّ بقوله: "ثم اقرأ ما تيسّر" من قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة، وتُعُقّب بأن معنى ما تيسّر هي الفاتحة؛ لأنه جاء في رواية صحيحة قوله:"ثم اقرأ بأم القرآن"، فتبيّن أنها هي المرادة بقوله:"ما تيسّر"، فتبصّر بالإنصاف.

20 -

(ومنها): أن فيه دلالة على وجوب قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين؛ لقوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها"، وعليه الجمهور، وهو الحقّ؛ لظاهر النصّ، واللَّه تعالى أعلم.

21 -

(ومنها): أنه اشتهر الاستدلال به على وجوب ما ذكر فيه، وعلى عدم وجوب ما لم يذكر فيه، وفيه تفصيل سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

22 -

(ومنها): جواز الحلف باللَّه تعالى، أو بصفة من صفاته.

ص: 278

23 -

(ومنها): أن فيه الردّ على من زعم عدم وجوب الطمأنينة؛ لأنه زيادة على النصّ؛ لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود، فيصدُق بغير طمأنينة، فالطمأنينة زيادة، والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تُعتبر.

ورُدّ عليه بأنها ليست زيادةً، ولكنها بيان للمراد بالسجود المأمور به شرعًا، وأنه مخالف للسجود اللغويّ؛ إذ هو مجرّد وضع الجبهة، فبيّنت السنّة أن السجود الشرعيّ ما كان بالطمأنينة، ويؤيّد ذلك أن الآية نزلت تأكيدًا لوجوب السجود، وكان صلى الله عليه وسلم ومن معه يصلّون قبل ذلك، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي بغير طمأنينة

(1)

.

24 -

(ومنها): أنه قيل: يُستَدَلّ بهذا الحديث على عدم وجوب الإقامة، ودعاء الافتتاح، ورفع اليدين في الإحرام وغيره، ووضع اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقال، وتسبيحات الركوع والسجود، وهيئات الجلوس، ووضع اليد على الفخذ، والقعود، ونحو ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: وهو في مَعْرِض المنع؛ لثبوت بعض ما ذُكِر في بعض الطرُق. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن الراجح وجوب الأذان والإقامة؛ وكذا تكبيرات الانتقالات؛ لوضوح أدلّتها، وسيأتي حكم باقي المسائل في أماكنها اللائقة بها -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الطمأنينة في الصلاة:

ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب الطمأنينة في الصلاة، واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة، وصَرّح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاويّ كالصريح في الوجوب عندهم، فإنه ترجم "مقدار الركوع والسجود"، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله:"سبحان ربي العظيم ثلاثًا في الركوع، وذلك أدناه"، قال: فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع والسجود،

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 327.

ص: 279

لا يجزئ أدنى منه، قال: وخالفهم آخرون، فقالوا: إذا استوى راكعًا، واطمأنّ ساجدًا أجزأ، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال صاحب "المرعاة" رحمه الله: استُدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلّ، فإنك لم تصلّ" للشافعيّ، وأبي يوسف، والجمهور على أن تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض، قالوا: إن قوله هذا صريحٌ في كون التعديل من الأركان، بحيث إن بفوته تفوّت الصلاة، وإلا لم يقل:"لم تصلّ"، فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع رضي الله عنه لم يكن ترك ركنًا من الأركان المشهورة، وإنما ترك التعديل والاطمئنان كما تدلّ عليه رواية ابن أبي شيبة، فعُلم أن تركه مبطل للصلاة.

قال: الحديث فيه ردّ صريح على أبي حنيفة ومحمد، فإن المشهور من مذهبهما أن تعديل الأركان ليس بفرض، بل هو واجب، واستُدلّ لهما بقوله تعالى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] بأن الركوع والسجود لفظ خاصّ، معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، فمطلق الْمَيَلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضيّة التعديل الثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم:"لم تُصلّ" لا يجوز إلحاقها بالقرآن، لا على سبيل البيان، ولا على سبيل تقييد إطلاق القرآن.

أما الأول: فلأن البيان لا يكون إلا للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وأما الثاني: فلأن تقييد إطلاق القرآن نسخ، وهو لا يجوز بخبر الواحد، ولَمّا لم يجز إلحاق ما ثبت بهذا الحديث بالثابت بالقرآن في مرتبته، ولم يمكن ترك خبر الواحد بالكليّة أيضًا قلنا: ما ثبت بالكتاب، وهو مطلق الركوع والسجود يكون فرضًا؛ لأنه قطعيّ، وما ثبت بهذا الخبر الظنيّ الثبوت

يكون واجبًا؛ مراعاةً لمنزلة كلّ من الكتاب والسنّة.

ورُدّ هذا الاستدلال بأن النصّ ليس بمطلق، بل مُجملٌ، فإن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعيّ؛ لأنه قد تقرّر أن أمثال

(1)

"الفتح" 2/ 327.

ص: 280

هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعيّة، إلا أن يمنع مانعٌ، ولا مانع هاهنا.

ولأن من وضع الجبهة إلى غير القبلة، أو على غير وضوء، فهو ساجدٌ لغةً، وليست هذه السجدة معتبرةً في الشرع، ومعنى الركوع والسجود الشرعيّ غير معلوم، فهو يحتاج إلى البيان، فحديث أبي هريرة رضي الله عنه وما وافقه بيان ذلك النصّ المجمل، وبيان الفرض المجمل يجوز بخبر الواحد، أي يكون فرضًا في مرتبة المجمل.

قال الشيخ عبد الحليم اللكنويّ الحنفيّ في "حاشية نور الأنوار" -بعد ذكر نحو ما تقدّم من تقرير استدلال الحنفيّة-: ولو سلّمنا أن النصّ مطلق، فنقول: إن هذا الحديث ليس بخبر الواحد، بل هو حديث مشهور، تلقّته الأمة بالقبول، ورواه أئمة الحديث بأسانيد كثيرة، والزيادة على الكتاب بالخبر المشهور جائزة. انتهى.

وقال -بعد ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: هذا الحديث دالّ على أن تعديل الركوع والسجود فرضٌ، والقومة، والجِلسة ركنان، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفى الصلاة بفواتها.

وإن زللت بما قال بعض السابقين من أن في آخر الحديث المذكور -يعني حديث رفاعة- زيادة تدلّ على توقّف صحّة الصلاة عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا فعلت ذلك، فقد تمّت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئًا، انتقَصْتَ من صلاتك"، فسمّاها صلى الله عليه وسلم صلاةً، والباطلة ليست بصلاة، وأيضًا وصفها بالنقص، والباطلة إنما توصف بالانعدام، فعُلم أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإعادة إنما كان لتقع الصلاة على غير كراهة، لا لفساد صلاة ذلك الرجل، ثَبَّتُّك أن معنى هذه الزيادة: إن فعلت ما بيّنتُ من التعديل على الكمال، فقد صلّيت صلاةً تامّةً، وإن نقصت من التعديل شيئًا من النقصان مع بقاء أصل التعديل -كما يدلّ عليه لفظ "نقصت"- فقد نقصت من صلاتك بقدر نقصان التعديل، فالإخلال بالتعديل رأسًا يوجب الفساد.

فإن غلبك جنود الوهم بأن القومة والجلسة ليستا بمقصودتين، وإنما

ص: 281

شُرِعتا للفصل بين الركوع والسجود، فلا يكونان ركنين، بل الركن هو المقصود، وهو الركوع والسجود.

فعارضها بعسكر الفكر بأن هذا رأي في مقابلة النصّ المذكور، فلا يُسمع، كذا أفاده بحر العلوم، أنار اللَّه برهانه. انتهى كلام الشيخ عبد الحليم اللكنويّ.

وما نقله عن بعض السابقين قد ردّه أيضًا العينيّ بأن للخصم أن يقول: إنما سمّاها صلاةً بحسب زعم المصلّي، كما تدلّ عليه الإضافة، على أنه ورد في بعض الروايات:"وما نقصت شيئًا من ذلك"، أي مما ذُكر سابقًا، ومنه الركوع والسجود أيضًا، فيلزم أن تُسمّي ما لا ركوع فيها أو لا سجود فيها أيضًا صلاةً بعين التقرير المذكور، وإذ ليس، فليس. انتهى.

وقال بعض الحنفيّة في الجواب عن حديث أبي هريرة: إن هذا الحديث لا يدلّ على فرضيّة التعديل، بل على عدم فرضيّته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الأعرابيّ حتى فرغ من صلاته، ولو كان ما تركه ركنًا لفسدت صلاته، فكان المضيّ بعد ذلك من الأعرابيّ عَبَثًا، فلا يحلّ له صلى الله عليه وسلم أن يتركه، فكان تركه دالًا على أن صلاته جائزة، إلا أنه ترك الإكمال، فأمره بالإعادة؛ زجرًا عن هذه العادة.

وردّه العينيّ في "البناية" بأن للخصم أن يقول: كانت صلاته فاسدةً، ولذا أمره بالإعادة، وقال له:"لم تصلّ" وإنما تركه عليه لأنه ربّما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة، ولم يُنكر عليه؛ لأنه كان من أهل البادية، كما شَهِدت به رواية الترمذيّ بلفظ:"إذ جاء رجلٌ كالبدويّ"، ومن المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظة، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء، وكان المقام مقام التعليم.

وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على صلاته ابتداء، وأمره بالإعادة على ما ادّعوه. انتهى.

قال صاحب "المرعاة" بعد ذكر ما تقدّم: فإذا عرفت هذا كلّه ظهر لك أن ما ذهب إليه الجمهور -أي من فرضيّة الاطمئنان- هو الحقّ، وما ذهب إليه الحنفيّة ليس لهم عليه دليلٌ صحيح، بل حديث أبي هريرة رضي الله عنه حجة صريحة عليهم. انتهى. وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، لا يَحتاج إلى التعليق عليه، والزيادة

ص: 282

عليه لمن سلك سبيل الإنصاف، وجانب تقليد الأعمى، وطريق الاعتساف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذُكر فيه، وعلى عدم وجوب ما لم يُذكَر.

أما الوجوب فلتعلُّق الأمر به، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب، بل لكون الموضع موضع تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذُكر، ويتقوى ذلك بكونه صلى الله عليه وسلم ذَكَر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي، وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة، فدلّ على أنه لم يَقصُر المقصود على ما وقعت به الإساءة فقط.

فإذا تقرّر هذا، فكلُّ موضع اختَلَف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وكلُّ موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسّك به في عدم وجوبه؛ لكونه غير مذكور في هذا الحديث على ما تقدّم من كونه موضع تعليم، وقد ظهرت قرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات، وكلّ موضع اختُلف في تحريمه، فلنا أن نستدلّ بهذا الحديث على عدم تحريمه؛ لأنه لو حرّم لوجب التلبّس بضدّه، فإن النهي عن الشيء أمرٌ بأحد أضداده، ولو كان التلبّس بالضدّ واجبًا لذُكر ذلك على ما قرّرناه، فصار من لوازم النهي الأمرُ بالضدّ، ومن الأمر بالضدّ ذكره في الحديث على ما قرّرناه، فإذا انتفى الأمر بالضدّ انتفى ملزومه، وهو النهي عن ذلك الشيء.

فهذه الثلاث الطرق يمكن الاستدلال بها على شيء كثير من المسائل المتعلّقة بالصلاة، إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاثَ وظائف:

[أحدها]: أن يَجْمَع طرق هذا الحديث، ويُحصِي الأمور المذكورة فيه، ويأخذ بالزائد فالزائد، فإن الأخذ بالزائد واجب.

[وثانيها]: إذا قام دليلٌ على أحد أمرين، إما الوجوب، أو عدم الوجوب، فالواجب العمل به، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا في باب النفي يجب التحرّز فيه أكثر، فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين، فيَعْمَل به.

ص: 283

قال: وعندنا أنه إذا استُدلّ على عدم وجوب شيء بعد ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر، فالمقدّم صيغة الأمر، وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليلٌ على عدم الوجوب، وتُحْمَل صيغة الأمر على الندب، لكن عندنا أن ذلك أقوى؛ لأن عدم الوجوب متوقّف على مقدّمة أخرى، وهو أن عدم الذكر في الرواية يدلّ على عدم الذكر في نفس الأمر، وهذه غير المقدّمة التي قرّرناها، وهو أن عدم الذكر يدلّ على عدم الوجوب؛ لأن المراد ثَمّة أن عدم الذكر في نفس الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يدلّ على عدم الوجوب، فإنه موضع بيان، وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدلّ على عدم الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان لذُكِر، أو بأن الأصل عدمه، وهذه المقدّمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب.

وأيضًا فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة، فيُعمل بها.

قال: وهذا البحث كلّه بناءٌ على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها، والمخالف يُخرجها عن حقيقتها بدليل عدم الذكر، فيَحتاج الناظر المحقّق إلى الموازنة بين الظنّ المستفاد من عدم الذكر في الرواية، وبين الظنّ المستفاد من كون الصيغة للوجوب، والثاني عندنا أرجح.

[وثالثها]: أن يستمرّ على طريقة واحدة، ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر، فيَتَثَعلب نظره، وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالًا واحدًا، فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

.

وقد علّق العلامة الشوكانيّ رحمه الله على قوله: "فالمقدّم صيغة الأمر إذا جاءت في حديث آخر"، فقال: وأما قوله: "إنها تقدّم صيغة الأمر إذا جاءت في حديث آخر"، واختياره لذلك من دون تفصيل، فنحن لا نوافقه، بل نقول: إذا جاءت صيغة أمرٍ قاضيةٌ بوجوب زائد على ما في هذا الحديث، فإن كانت متقدِّمةً على تاريخه كان صارفًا لها إلى الندب؛ لأن اقتصاره في التعليم على

(1)

"إحكام الأحكام" 2/ 358 - 366 بنسخة الحاشية "العدّة".

ص: 284

غيرها، وتركه لها من أعظم المشعِرات بعدم وجوب ما تضمنته؛ لما تقرّر من أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وإن كانت متأخرةً عنه، فهو غير صالح لصرفها؛ لأن الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتًا فوقتًا، وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة وغيره، أعني الصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة، والشهادتين؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقتصر عليها في مقام التعليم، والسؤال عن جميع الواجبات، واللازمُ باطلٌ فالملزوم مثله.

وإن كانت صيغة الأمر الواردة بوجوب زيادة على هذا الحديث غير معلومة التقدّم عليه، ولا التأخر، ولا المقارنة، فهذا محلّ الإشكال، ومقام الاحتمال، والأصل عدم الوجوب، والبراءة منه حتى يقوم دليل يوجب الانتقال عن الأصل والبراءة، ولا شك أن الدليل المفيد للزيادة على حديث المسيء إذا التبس تاريخه محتمل لتقدمه عليه وتأخره، فلا يَنهَض للاستدلال به على الوجوب.

وهذا التفصيل لا بُدّ منه، وترك مراعاته خارج عن الاعتدال إلى حدّ الإفراط أو التفريط؛ لأن قصر الواجبات على حديث المسيء فقط، وإهدار الأدلة الواردة بعده تخيُّلًا لصلاحيته لصرف كل دليل يَرِدُ بعده دالًا على الوجوب سدٌّ لباب التشريع، وردّ لما تجدّد من واجبات الصلاة، ومنعٌ للشارع من إيجاب شيء منها، وهو باطل؛ لما عَرَفت من تجدد الواجبات في الأوقات.

والقول بوجوب كلِّ ما ورد الأمر به من غير تفصيل يؤدِّي إلى إيجاب كلّ أقوال الصلاة وأفعالها التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم من غير فرق بين أن يكون ثبوتها قبل حديث المسيء أو بعده؛ لأنها بيان للأمر القرآنيّ، أعني قوله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وهو باطلٌ؛ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم.

وهكذا الكلام في كل دليل يقضي بوجوب أمر خارج عن حديث المسيء ليس بصيغة الأمر، كالتوعّد على الترك، أو الذمّ لمن لم يفعل، وهكذا يُفَصَّل في كل دليل يقتضي عدم وجوب شيء، مما اشتَمَل عليه حديث المسيء، أو

ص: 285

تحريمه إن فرضنا وجوده. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا.

وقد أشبعت البحث في هذا الحديث فيما كتبته على النسائيّ، فاستفد منه ما تبقّى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[891]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَةٍ، وَسَاقَا الْحَدِيثَ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَزَادَا فِيهِ:"إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَسْبغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم قبل ثلاثة أحاديث.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل ثلاثة أحاديث.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5، وهو: والد محمد الراوي عنه هنا.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (وَسَاقَا الْحَدِيثَ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ) الضمير في "ساقا" لأبي أسامة، وعبد اللَّه بن نمير.

[تنبيه]: فائدة سوق هذا الإسناد بيان الاختلاف على عبيد اللَّه، فإن يحيى بن سعيد القطّان أدخل في روايته والد سعيد المقبريّ بينه وبين أبي

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 298.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 11/ 106 - 126.

ص: 286

هريرة، وخالفه أبو أسامة، وعبد اللَّه بن نمير، فروياه عن سعيد، عن أبي هريرة، وقد تقدّم أن كلا الطريقين محفوظان، فإن يحيى إمام حافظ معتمد عليه، كما سبق تحقيق ذلك في شرح الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية أبي أسامة، وعبد اللَّه بن نُمير، ساقهما البخاريّ في "صحيحه"، فأما رواية أبي أسامة فأخرجها في "الأيمان والنذور"، فقال:

(6667)

حدثني إسحاق بن منصور، حدثنا أبو أسامة، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، أن رجلًا دخل المسجد، فصلى ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد، فجاء، فسلم عليه، فقال له:"ارجع، فصل؛ فإنك لم تصلّ"، فرجع، فصلى، ثم سلّم، فقال:"وعليك، ارجع، فصل؛ فإنك لم تصل"، قال في الثالثة: فأعلمني، قال:"إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".

وأما رواية عبد اللَّه بن نُمير، فأخرجها في "الاستئذان"، فقال:

(6251)

حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد اللَّه بن نمير، حدثنا عبيد اللَّه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلى، ثم جاء، فسلم عليه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"وعليك السلام، ارجع، فصلّ؛ فإنك لم تصلّ"، فرجع، فصلى، ثم جاء، فسلّم، فقال:"وعليك السلام، فارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ"، فقال في الثانية، أو في التي بعدها: علّمني يا رسول اللَّه، فقال:"إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 287

(12) - (بَابُ نَهْي الْمَأْمُومِ عَنْ جَهْرِهِ بِالْقِرَاءَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[892]

(398) - (حَدَّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)"، فَقَالَ رَجُلٌ: أنَا، وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكّة، ثقةٌ مصنّفٌ، كان لا يتراجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10](ت 227) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى) الْحَرَشيّ، أبو حاجب البصريّ قاضيها، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [3] مات فَجْأةً في الصلاة سنة (93)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

6 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، مات رضي الله عنه ستة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.

ص: 288

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من قتادة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن زُرارة.

5 -

(ومنها): أن فيه قتادة من المدلّسين، وقد عنعنه هنا، لكنّه صرّح بالسماع في الرواية التالية، فزالت تهمة التدليس، على أن شعبة رواه عنه، وهو لا يروي عن المدلّسين إلا ما صرّحوا فيه بالسماع، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ) هكذا في هذه الرواية بالشكّ، وكذا هو عند النسائيّ من هذا الوجه، وفي رواية شعبة، عن قتادة التالية:"صلّى الظهر" بدون شك، وهي رواية أبي داود، والنسائيّ (فَقَالَ:"أيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي) وفي الرواية التالية: "فجعل رجلٌ يقرأ خلفه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، فلَمّا انصرف قال:"أيّكم قرأ؟، أو أيكم القارئ؟ "" (بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}؟ ") الباء للتعدية؛ لأن قرأ يتعدّى بنفسه، وبالباء، قال الفيّوميّ:"قرأتُ أمَّ الكتاب، وبأمّ الكتاب، يتعدّى بنفسه، وبالباء". انتهى

(1)

. وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} مجرور بالباء محكيّ؛ لقصد لفظه (فَقَالَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى

(2)

. (أَنَا) مبتدأ خبره محذوف: أي أنا القارئ (وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ) يعني أنه لم يقصد بقراءتها منازعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتشويش عليه، وإنما أراد أن يكتسب الأجر بقراءتها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم منكرًا عليه ("قَدْ عَلِمْتُ) وفي الرواية التالية:"قد ظننت"، وهو بمعناه؛ لأن ظنّ يأتي بمعنى عَلِم، وأيقن، كما في قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ. . .} الآية [البقرة: 249](أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا") أي نازعني السورة المذكورة.

وأراد صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الإنكار على الرجل في جهره بالقراءة، حيث أسمعه، فخلط عليه، لا في أصل القراءة؛ لأن الجهر هو الذي تقع به

(1)

"المصباح المنير" 2/ 502.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 121.

ص: 289

المخالجة والمنازعة، وهذا الإنكار محمول على ما سوى الفاتحة، كما هو الظاهر من الحديث؛ إذ محل الإنكار قراءة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، لا الفاتحة، وأيضًا صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم باستثنائها، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فثقُلت عليه القراءة، فلما انصرف قال:"إني لأراكم تقرءون وراء إمامكم؟ " قالوا: نعم واللَّه يا رسول اللَّه، إنا لنفعل هذا، قال:"فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، وهذا حديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الكلام على قراءة الفاتحة، فراجعه تستفد.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام الإنكار عليه، والإنكار في جهره، أو رفع صوته، بحيث أسمع غيره، لا عن أصل القراءة، بل فيه أنهم كانوا يقرؤون بالسورة في الصلاة السريّة، وفيه إثبات قراءة السورة في الظهر للإمام والمأموم، وهذا الحكم عندنا، ولنا وجه شاذّ ضعيفٌ أنه لا يقرأ المأموم السورة في السريّة كما لا يقرؤها في الجهرية، وهذا غلطٌ؛ لأنه في الجهرية يؤمر بالإنصات، وهنا لا يسمع، فلا معنى لسكوته من غير استماع، ولو كان في الجهرية بعيدًا عن الإمام، لا يسمع قراءته، فالأصح أنه يقرأ السورة؛ لما ذكرناه. انتهى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 892 و 893 و 894](398)، و (البخاريّ) في "جزء القراءة"(ص 91 - 92)، و (أبو داود) في "الصلاة"(828 و 829)، و (النسائيّ) فيها (2/ 140 و 3/ 247)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 357 و 375)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2799)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(851)، و (الحميديّ) في "مسنده"(835)، و (أحمد) في "مسنده" (4/

ص: 290

426 و 431)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 207)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 519 و 525)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1845 و 1846 و 1847)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 405)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1693 و 1694 و 1695)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(882 و 883 و 884)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 162)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم القراءة خلف الإمام:

قال النوويّ رحمه الله في "المجموع": مذهبنا وجوبُ قراءة الفاتحة على المأموم، في كل الركعات من الصلاة السرية والجهرية، هذا هو الصحيح عندنا كما سبق، وبه قال أكثر العلماء.

قال الترمذيّ في "جامعه": القراءة خلف الإمام هي قول أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين، قال: وبه يقول مالك، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقال ابن المنذر: قال الثوريّ، وابن عيينة، وجماعة من أهل الكوفة: لا قراءة على المأموم، وقال الزهريّ، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: لا يقرأ في الجهرية، وتجب القراءة في السرية، وقال ابن عون، والأوزاعيّ، وأبو ثور، وغيره من أصحاب الشافعيّ: تجمب القراءة على المأموم في السرية والجهرية.

وقال الخطابيّ: قالت طائفة من الصحابة رضي الله عنهم: تجب على المأموم، وكانت طائفة منهم لا تقرأ، واختَلَف الفقهاء بعدهم على ثلاثة مذاهب، فذكر المذاهب التي حكاها ابن المنذر، وحَكَى الإيجاب مطلقًا عن مكحول، وحكاه القاضي أبو الطيب، عن الليث بن سعد، وحَكَى العبدريّ عن أحمد أنه قال: يُستحبّ له أن يقرأ في سكتات الإمام، ولا يجب عليه، فإن كانت جهرية، ولم يسكت لم يقرأ، وإن كانت سريّة استُحبت الفاتحة وسورة، وقال أبو حنيفة: لا تجب على المأموم، ونقل القاضي أبو الطيب، والعبدريّ عن أبي حنيفة أن قراءة المأموم معصيةٌ.

والذي عليه جمهور المسلمين القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية.

قال البيهقيّ: وهو أصح الأقوال على السنة، وأحوطها، ثم رَوَى

ص: 291

الأحاديث فيه، ثم رواه بأسانيده المتعددة عن عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي سعيد الخدريّ، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وهشام بن عامر، وعمران، وعبد اللَّه بن مُغَفَّل، وعائشة رضي الله عنهم، قال: ورويناه عن جماعة من التابعين، فرواه عن عروة بن الزبير، ومكحول، والشعبيّ، وسعيد بن جبير، والحسن البصريّ رحمهم الله.

واحتج الجمهور في إيجاب القراءة خلف الإمام بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن"، متّفقٌ عليه، فإنه عامّ في كل مصلّ، ولم يثبت تخصيصه بغير المأموم بمخَصِّص صريح، فبقي على عمومه.

وبحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال:"لعلكم تقرأون وراء إمامكم؟ "، قلنا: نعم هَذًّا يا رسول اللَّه، قال:"لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، رواه أبو داود، والترمذيّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ، وقال الدارقطنيّ: إسناده حسن، وقال الخطابيّ: إسناده جيّد، لا مطعن فيه.

[فإن قيل]: هذا الحديث من رواية محمد بن إسحاق بن يسار، عن مكحول، ومحمد بن إسحاق مدلّس، والمدلِّس إذا قال في روايته:"عن" لا يُحتجّ به عند جميع المحدثين.

[فجوابه]: أن الدارقطنيّ، والبيهقيّ روياه بإسنادهما، عن ابن إسحاق، قال: حدَّثني مكحول بهذا، فذكره، قال الدارقطنيّ في إسناده: هذا إسناد حسنٌ.

وقد عُلِم من قاعدة المحدثين، أن المدلس إذا رَوَى حديثه من طريقين، قال في إحداهما:"عن"، وفي الأخرى:"حدَّثني"، أو "أخبرني" كان الطريقان صحيحين، وحُكِم باتصال الحديث، وقد حصل ذلك هنا.

ورواه أبو داود من طُرُق، وكذلك الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وفي بعضها: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعض الصلاة التي يُجهَر فيها بالقراءة، فقال:"لا يقرأنّ أحد منكم إذا جهرت بالقراءة، إلا بأم القرآن"، قال البيهقي عقب هذه الرواية:

ص: 292

والحديث صحيحٌ، عن عبادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله شواهد، ثم رَوَى أحاديث شواهد له.

واحتج البيهقيّ وغيره بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِدَاج"، وقد تقدّم للمصنّف، وتقدّم البحث فيه مستوفًى.

والجواب عن الأحاديث التي احتج بها القائلون بإسقاط القراءة بها أنها كلّها ضعيفة، وليس فيها شيء صحيحٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف، وبعضها مرسلٌ، وبعضها في رواته ضعيف، أو ضعفاء

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ الذي لا مرية فيه، والذي دلّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة وجوب القراءة خلف الإمام مطلقًا، سواء كانت الصلاة سرّيّةً، أو جهريّة، وقد استوفيت هذا البحث، ملخّصًا كلام المحقّقين في ذلك، في "شرح النسائيّ"

(2)

، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[893]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى، يُحَدِّثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:"أَيُّكُمْ قَرَأَ -أَوْ- أَيُّكُمُ الْقَارِئُ؟ "، فَقَالَ

(3)

رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ:"قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

راجع: "المجموع" 3/ 321 - 327.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 11/ 319 - 325.

(3)

وفي نسخة: "قال".

ص: 293

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بغُنْدَر، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت الناقد، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون تقدّموا في المسند الماضي.

[تنبيه]: في هذا الإسناد فائدة، وهي أن قتادة: مدلِّس، وقد قال في الرواية الأولى:"عن"، والمدلِّس لا يحتج بعنعنته، إلا أن يَثْبُت سماعه لذلك الحديث ممن عنعن عنه في طريق آخر، وقد حصل ذلك التصريح في هذا الإسناد، أفاده النوويّ رحمه الله، وقد نبّهت عليه في لطائف الإسناد السابق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[894]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ

(1)

، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ، وَقَالَ:"قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم قبل بابين.

(1)

وفي نسخة: "عن سعيد بن أبي عروبة".

ص: 294

4 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) هو: سعيد بن أبي عروبة مِهْران، تقدّم قبل بابين أيضًا.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

وقوله: (وَقَالَ: "قَدْ عَلِمْتُ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: رواية إسماعيل، عن ابن أبي عروبة هذه، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19028)

حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الظهر، فلما سلّم قال:"أيكم قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}؟ "، فقال رجل من القوم: أنا، فقال:"قد علمت أن بعضكم خالجنيها". انتهى.

وأما رواية ابن أبي عديّ، عن ابن أبي عروبة فساقها الإمام أبو داود عن شيخ المصنّف، فقال:

(829)

حدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فلما انفتل قال:"أيكم قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}؟ " فقال رجل: أنا، فقال:"علمت أن بعضكم خالجنيها". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: لَا يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[895]

(399) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَذَثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أنسٍ، قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}).

ص: 295

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلّهم تقدّموا في الباب الماضي، إلا أنسًا رضي الله عنه، فتقدّم قبل أبواب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين.

4 -

(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة، وكلاهما بصريّان، وماتا في عام واحد سنة (252)، وكانا كفرسي رهان.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو الخادم الشهير، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وأحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وكان من المعمّرين، فقد عاش أكثر من مائة سنة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأ) وقولُه: ({بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}) منصوب على المفعوليّة لـ "يقرأ" محكيّ.

قال النوويّ رحمه الله: استَدَلَّ بهذا الحديث من لا يرى البسملة من الفاتحة، ومن يراها منها، ويقول: لا يَجهر، ومذهب الشافعي رحمه الله، وطوائف من السلف والخلف، أن البسملة آية من الفاتحة، وأنه يُجهَر بها حيث يُجهَر بالفاتحة، واعتمد أصحابنا، ومن قال بأنها آية من الفاتحة أنها كتبت في المصحف بخط المصحف، وكان هذا باتفاق الصحابة، وإجماعهم على أن لا يثبتوا فيه بخط القرآن غير القرآن، وأجمع بعدهم المسلمون كلهم في كل الأعصار إلى يومنا، وأجمعوا أنها ليست في أول براءة، وأنها لا تكتب فيها، وهذا يؤكد ما قلناه. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 296

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [13/ 895 و 896 و 897 و 898](399)، و (البخاريّ) في "الأذان"(743)، و (أبو داود) في "الصلاة"(782)، و (الترمذيّ) فيها (246)، و (النسائيّ) فيها (2/ 135)، و (ابن ماجه) فيها (813)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 81)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2598)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 75)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1199)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 111 و 3/ 101)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 283)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(182)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(491 و 497)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1798 و 1799 و 1800 و 1803)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1656 و 1657 و 1658 و 1659)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(885 و 886 و 887)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 202)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 51 - 52)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3/ 54)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف الرواة في هذا الحديث:

قد حقّق الحافظ: هذا الاختلاف، فأجاد، وأفاد، ودونك عبارته:

وقد اختَلَف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث، فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ:"كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "، ورواه آخرون عنه بلفظ:"فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ ببسم اللَّه الرحمن الرحيم"، كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسيّ، ومحمد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عُمَر الدُّوريّ

(1)

، شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة.

ولا يقال: هذا اضطراب من شعبة؛ لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين.

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعلّ الصواب:"الحوضي"؛ لأن البخاريّ رواه عن أبي عمر الحوضي، لا الدُّوريّ؛ فتنبّه.

ص: 297

فأخرجه البخاريّ في "جزء القراءة"، والنسائيّ، وابن ماجه"، من طريق أيوب، وهؤلاءِ، والترمذيُّ، من طريق أبي عوانة، والبخاريّ في "جزء القراءة"، وأبو داود، من طريق هشام الدستوائيّ، والبخاريّ فيه، وابن حبان من طريق حماد بن سلمة، والبخاري فيه، والسّرّاج من طريق همام، كلهم عن قتادة، باللفظ الأول.

وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعيّ، عن قتادة بلفظ:"لم يكونوا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وقد قَدَحَ بعضهم في صحته بكون الأوزاعيّ رواه عن قتادة مكاتبةً، وفيه نظرٌ، فإن الأوزاعيّ لم ينفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدَّوْرقيّ، والسرّاج عن يعقوب الدَّوْرقيّ، وعبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه السلميّ، ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة بلفظ:"فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس، قال: نحن سألناه.

لكن هذا النفي محمول على ما قدَّمناه أن المراد أنه لم يَسمع منهم البسملة، فيَحْتَمِل أن يكونوا يقرءونها سرًّا، ويؤيده رواية مَن رواه عنه بلفظ:"فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، كذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عند النسائيّ، وابن حبان، وهمامٌ عند الدارقطنيّ، وشيبانُ عند الطحاويّ وابنِ حبان، وشعبةُ أيضًا من طريق وكيع عنه، عند أحمد، أربعتهم عن قتادة.

ولا يقال: هذا اضطراب من قتادة؛ لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك.

فرواه البخاريّ في "جزء القراءة"، والسرّاج، وأبو عوانة في "صحيحه" من طريق إسحاق بن أبي طلحة، والسرّاج من طريق ثابت البنانيّ، والبخاريّ فيه من طريق مالك بن دينار، كلهم عن أنس، باللفظ الأول.

ورواه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق إسحاق أيضًا، وابن خزيمة من طريق ثابت أيضًا، والنسائيّ من طريق منصور بن زاذان، وابن حبان من طريق أبي قِلابة، والطبرانيّ من طريق أبي نَعَامة، كلهم عن أنس، باللفظ النافي للجهر.

ص: 298

فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حملُ نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان:"فلم يُسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وأصرح من ذلك رواية الحسن، عن أنس، عند ابن خزيمة بلفظ:"كانوا يُسِرُّون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب؛ كابن عبد البرّ؛ لأن الجمع إذا أمكن تَعَيَّن المصير إليه.

وأما مَن قَدَح في صحته بأن أبا سلمة سعيدَ بن يزيد سأل أنسًا عن هذه المسألة، فقال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه، ولا سألني عنه أحد قبلك، ودعوى أبي شامة أن أنسًا سئل عن ذلك سؤالين، فسؤال أبي سلمة، هل كان الافتتاح بالبسملة، أو الحمدلة؟ وسؤال قتادة، هل كان يبدأ بالفاتحة، أو غيرها؟، قال: ويدلّ عليه قول قتادة في "صحيح مسلم": "نحن سألناه". انتهى، فليس بجيِّد؛ لأن أحمد روى في "مسنده" بإسناد "الصحيحين" أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسيّ عن شعبة، ولم يبيّن مسلم صورة المسألة، وقد بيّنها أبو يعلى، والسرّاج، وعبد اللَّه بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها، عن أبي داود، أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر، من طريق أبي جابر، عن شعبة، عن قتادة، قال:"سألت أنسًا: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ فقال: صليت وراء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فظهر اتّحاد سؤال أبي سلمة وقتادة، وغايته أن أنسًا أجاب قتادة بالحكم، دون أبي سلمة، فلعله تذكّره لما سأله قتادة، بدليل قوله في رواية أبي سلمة: ما سألني عنه أحدٌ قبلك، أو قاله لهما معًا، فحفظه قتادة دون أبي سلمة، فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع.

وإذا انتهى البحث إلى أن مُحَصَّل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه، فمتى وُجِدت رواية فيها إثبات الجهر قُدِّمت على نفيه، لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي؛ لأن أنسًا يبعد جدًّا أن يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم مُدَّة عشر سنين، ثم يصحب أبا بكر وعمر

ص: 299

وعثمان خمسًا وعشرين سنةً، فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعتَرَف بأنه لا يحفظ هذا الحكم، كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرًا، ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التحقيق من الحافظ رحمه الله حسنٌ جدًّا، إلا قوله:"فتيعيّن الأخذ بحديث الجهر"، فإن الأولى، بل المتعيّن في مثل هذا سلوك طريق الجمع بالعمل بالحديثين، بحمل حديث الجهر على بعض الأوقات؛ لأن العمل بالحديثين معًا إذا أمكن أولى من إلغاء أحدهما بالترجيح، ولو سلكنا مسلك الترجيح لكان حديث أنس رضي الله عنه أولى به؛ لقوّته، وصراحته.

والحاصل أن طريق الجمع بحمل حديث الجهر على بعض الأحيان أولى وأرجح مما قاله الحافظ، وهو الذي سلكه الحُذّاق من فقهاء المحدّثين، كالنسائيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، فكلّهم بوّبوا لقراءة البسملة، وأوردوا حديث الباب، وبوّبوا لتركها أيضًا، وأوردوا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه النسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، من طريق سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأمّ القرآن، حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فقال: آمين، فقال ابناس: آمين، ويقول كلما سجد: اللَّه أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: اللَّه أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ

(1)

، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في الجهر بالبسملة:

قال الإمام البغويّ رحمه الله: ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم

(1)

حديث صحيح رواه النسائيّ 2/ 134، وابن خزيمة في "صحيحه"(499)، وابن حبان في "صحيحه"(1797)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 232.

ص: 300

إلى ترك الجهر بالتسمية، بل يُسرّ بها، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وغيرهم، وهو قول إبراهيم النخعيّ، وبه قال مالك، والثوريّ، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

وذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة، والسورة جميعًا، وبه قال من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عبّاس، وأبو الزبير، وهو قول سعيد بن جُبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإليه ذهب الشافعيّ، واحتجّوا بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، أخرجه الترمذيّ، وقال: وليس إسناده بذاك

(1)

. انتهى

(2)

.

ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في هذا البحث، وأنا أنقله، وإن كان فيه طول؛ لكونه تحقيقًا بالغًا، ودونك نصّ "الفتاوى الكبرى":

(مسألة): في حديث نعيم المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأم الكتاب، حتى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال:"آمين"، وقال الناس:"آمين"، ويقول كلما سجد:"اللَّه أكبر"، فلما سَلَّم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان المعتمر بن سليمان يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل فاتحة الكتاب وبعدها، ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أَبِي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا حديث ثابت في الجهر بها، وذكر الحاكم أبو عبد اللَّه أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، فهل يُحْمَل ما قاله أنس، وهو: أصليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يذكر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " على عدم السماع، وما التحقيق في هذه المسألة، والصواب؟.

(الجواب): الحمد للَّه رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر، فهو صريح، لا يحتمل هذا التأويل، فإنه قد رواه مسلم في "صحيحه"، فقال فيه: "صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون

(1)

وقال العقيليّ: ولا يصحّ في الجهر بالبسملة حديث.

(2)

راجع: "شرح السنّة" 3/ 54 - 55.

ص: 301

بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة، ولا في آخرها"، وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع، واللفظ الآخر الذي في "صحيح مسلم": "صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال: يصلي بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فهذا نَفَى فيه السماعَ، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرًا، ولا يسمع أنس، لوجوه:

[أحدها]: إن أنسًا إنما رَوَى هذا ليبين لهم ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله؛ إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع، إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع، فلو لم يكن ما ذكره دليلًا على نفي ذلك، لم يكن أنس ليروي شيئًا لا فائدة لهم فيه، ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم.

[الثاني]: أن مثل هذا اللفظ صار دالًّا في العرف على عدم ما لم يدرك، فإذا قال: ما سمعنا، أو ما رأينا، لِمَا شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك، ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه، وهذا يظهر بالوجه.

[الثالث]: وهو أن أنسًا كان يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم من حين قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن مات، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويَصحَبه حضرًا وسفرًا، وكان حين حج النبيّ صلى الله عليه وسلم تحت ناقته، يسيل عليه لعابها، أفيمكن مع هذا القرب الخاصّ، والصحبة الطويلة أن لا يسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بها، مع كونه يجهر بها؟ هذا مما يُعلم بالضرورة بطلانه في العادة، ثم إنه صَحِب أبا بكر وعمر وعثمان، وتولى لأبي بكر وعمر ولايات، ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون، وهو لا يسمع ذلك، فتبيّن أن هذا تحريف لا تأويل، لو لم يُرْوَ إلا هذا اللفظ، فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها، وهو يُفَصِّل هذه الرواية الأخرى، وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأوّل قوله:"يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " أنه أراد السورة، فإن قوله:"يفتتحون {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها" صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية، لا بسورة الفاتحة

ص: 302

التي أولها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.

وأيضًا فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة، وهو من العلم الظاهر العامّ الذي يعرفه الخاصّ والعامّ، كما يعلمون أن الركوع قبل السجود، وجميع الأئمة غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا، ليس في نقل مثل هذا فائدة، ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس، وهم قد سألوه عن ذلك، وليس هذا مما يُسأل عنه، وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش، وخلفاء بني أمية، وبني الزبير، وغيرهم ممن أدركه أنس، كانوا يفتتحون بالفاتحة، ولم يشتبه هذا على أحد، ولا شكّ، فكيف يُظَنّ أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه؟ وإنما مَثَلُ ذلك أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاتي الظهرين، أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين دون الأخيرتين.

ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في "الصحيح" أيضًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2). . .} إلى آخره، وقد رُوي يفتتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وهذا صريح في إرادة الآية.

لكن مع هذا ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرًا؛ لأنه رَوَى: "فكانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وهذا إنما نَفَى هنا الجهر، وأما اللفظ الآخر "لا يذكرون"، فهو إنما يَنفي ما يمكنه العلم بانتفائه، وذلك موجود في الجهر، فإنه إذا لم يُسمَع مع القرب عُلِم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها، فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة، يمكن فيها القراءة سرًّا، ولهذا استدلّ بحديث أنس على عدم القراءة من لم يَرَ هناك سكوتًا، كمالك وغيره، لكن قد ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول اللَّه، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال:"أقول كذا وكذا. . ." إلى آخره.

وفي "السنن" من حديث عمران، وأُبَيّ، وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة، وفيها أنه كان يستعيذ، وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسًا أن ينفي

ص: 303

قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرًّا يسمى سكوتًا، كما في حديث أبي هريرة، فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها؛ أي جهرًا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد.

ويؤيد هذا حديث عبد اللَّه بن مغفل الذي في "السنن" أنه سمع ابنه جهر بها، فأنكر عليه، وقال: يا بُنَيّ إياك والْحَدَثَ، وذكر أنه صلى خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم يكونوا يجهرون بها، فهذا مطابق لحديث أنس، وحديث عائشة اللذين في "الصحيح".

وأيضًا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة، ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه، ويُمَثَّل هذا بكذب دعوى الرافضة في النصّ على علي في الخلافة، وأمثال ذلك.

وقد اتَّفَق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة؛ كأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ شيئًا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة، يرويها الثعلبيّ، والماورديّ، وأمثالهما في التفسير، أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يُميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميراء

(1)

.

وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء مَن لم يعز في كتابه حديثًا إلى البخاريّ إلا حديثًا في البسملة، وذلك الحديث ليس في البخاريّ، ومَن هذا

(1)

لعله يشير إلى ما يُروى: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"، يريد عائشة، وهو مما لا يصحّ، قال الحافظ في "الفتح": لم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا الحديث. يعني حديث قصّة لعب الحبشة بحرابهم في المسجد، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنهما:"يا حميراء، أتحبّين أن تنظري إليهم؟. . ." الحديث، راجع:"آداب الزفاف" للشيخ الألباني ص 200.

ص: 304

مبلغ علمه في الحديث، كيف يكون حالهم في هذا الباب؟ أو يرويها مَن جمع هذا الباب، كالدارقطنيّ، والخطيب، وغيرهما، فإنهم جَمَعُوا ما رُوي، وإذا سئلوا عن صحتها، قالوا بموجب علمهم، كما قال الدارقطنيّ لما دخل مصر، وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها، فجمعها، فقيل له: هل فيها شيء صحيحٌ؟ فقال: أما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف.

وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك، فذكر حديثين: حديث معاوية لَمّا صلى بالمدينة، وقد رواه الشافعي رحمه الله قال: حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن خُثيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره، أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة، فجهر فيها بأم القرآن، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين، من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة، أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} للسورة التي بعد أم القرآن، وكبّر حين يهوي ساجدًا.

وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني ابن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن معاوية قدم المدينة، فصلى بهم، ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يكبر إذا خفض، وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم، والأنصار: أي معاوية، سرقت الصلاة. . . وذكره.

وقال الشافعيّ: أنبأنا يحيى بن سُليم، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خُثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جدّه، عن معاوية، والمهاجرين والأنصار بمثله، أو مثل معناه، لا يخالفه، وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول، وهو في كتاب إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جدّه، عن معاوية، وذكر الخطيب أنه أقوى ما يُحتجّ به، وليس بحجة كما يأتي بيانه.

فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح، ولا صريح فضلًا أن يكون فيها أخبار مستفيضة، أو متواترة امتنع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ، ثم لا يُنْقَل.

ص: 305

[فإن قيل]: هذا معارَضٌ بترك الجهر بها، فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ثم هو مع ذلك ليس منقولًا بالتواتر، بل قد تنازع فيه العلماء، فكما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه، ثم لم ينقل نقلًا قاطعًا، بل وقع فيه النزاع.

[قيل: الجواب عن هذا من وجوه]:

[أحدها]: أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة، ويجب نقله شرعًا، هو الأمور الوجودية، فأما الأمور العدمية فلا خبر لها، ولا ينقل منها إلا ما ظُنّ وجوده، أو احتيج إلى معرفته، فيُنقَل للحاجة، ولهذا لو نَقَل ناقل افتراض صلاة سادسة، أو زيادة على صوم رمضان، أو حجًّا غير حج البيت، أو زيادة في القرآن، أو زيادة في ركعات الصلاة، أو فرائض الزكاة، ونحو ذلك لقطعنا بكذبه، فإن هذا لو كان لوجب نقله نقلًا قاطعًا عادةً وشرعًا، وإن عَدَم النقل يدلّ على أنه لم يُنقل نقلًا قاطعًا عادةً وشرعًا، بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله، أنه لم يكن.

وقد مثّل الناس ذلك بما لو نَقَل ناقل أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر، ولم يُصَلّ الجمعة، أو أن قومًا اقتتلوا في المسجد بالسيوف، فإنه إذا نَقَل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة، وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال، ولا غيره من الأمور العدمية.

يُوَضِّح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعاذة، واستدلّت الأمة على عدم جهره بذلك، وإن كان لم ينقل نقلًا عامًّا عدم الجهر بذلك، فبالطريق الذي يُعلَم عدم جهره بذلك يُعلَم عدم جهره بالبسملة.

وبهذا يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل، وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها، فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة، فأما الأذان والإقامة فقد نُقِل فعل هذا وهذا، وأما القنوت فإنه قَنَت تارةً، وترك تارةً، وأما الجهر فإن الخبر عنه أمر وجوديّ، ولم يُنقَل فيدخل في القاعدة.

[الوجه الثاني]: أن الأمور العدمية لَمّا احتيج إلى نقلها نُقِلت، فلما

ص: 306

انقرض عصر الخلفاء الراشدين، وصار بعض الأئمة يجهر بها؛ كابن الزبير ونحوه، سأل بعض الناس بقايا الصحابة، كأنس، فرَوَى لهم أنس ترك الجهر بها، وأما مع وجود الخلفاء، فكانت السنة ظاهرةً مشهورةً، ولم يكن في الخلفاء مَن يجهر بها، فلم يُحتَج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى يُنقَل.

[الثالث]: أن نفي الجهر قد نُقِل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديث أبي هريرة، والجهر بها لم يُنقل نقلًا صحيحًا صريحًا مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحقّ بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية.

وهذه الوجوه مَن تدبرها، وكان عالِمًا بالأدلة القطعية، قَطَع بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها، بل ومن لم يتدرَّب في معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضًا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيحٌ صريحٌ، فكيف يمكن بعد هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها؟ ولم تنقل الأمة هذه السنة، بل أهملوها وضَيَّعُوها، وهل هذه إلا بمثابة أن يَنقُل ناقل أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة؟ كما كان فيهم مَن يجهر بالبسملة.

ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان يجهر بالفاتحة، كذلك نعلم بالاضطرار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالبسملة، كما كان يجهر بالفاتحة، ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانًا، أو أنه كان يجهر بها قديمًا، ثم تَرَك ذلك، كما رَوَى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن جبير، ورواه الطبرانيّ في "معجمه"، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بمكة، فكان المشركون إذا سمعوها سَبُّوا الرحمن، فترك الجهر فما جهر بها حتى مات، فهذا محتمل.

وأما الجهر العارض فمثل ما في "الصحيح" أنه كان يجهر بالآية أحيانًا، ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله:"ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، ومثل جهر عمر بقوله:"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك"، ومثل جهر ابن عمر، وأبي هريرة بالاستعاذة، ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة؛ ليعلموا أنها سنة.

ويمكن أن يقال: جَهْرُ مَن جهر بها من الصحابة، كان على هذا الوجه؛ ليعرفوا أن قراءتها سنة، لا لأن الجهر بها سنة، ومن تدبر عامة الآثار الثابتة

ص: 307

في هذا الباب، عَلِم أنها آية من كتاب اللَّه، وأنهم قرأوها لبيان ذلك، لا لبيان كونها من الفاتحة، وأن الجهر بها سنة، مثل ما ذكر ابن وهب في "جامعه"، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، عن ابن أسلم، وابن شهاب مثله بغير هذا الحديث، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفتتح القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن، فإن اللَّه أنزلها، قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان.

وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا صلى جَهَر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فإذا قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قال:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهريّ، وهو أعلم أهل زمانه بالسنة، يُبَيِّن حقيقة الحال، فإن العمدة في الآثار في قراءتها، إنما هي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وقد عُرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك، وكذلك غيره رضي الله عنهم، ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يَروي الجهر بها ليس معه حديث صريح؛ لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة، مكذوبة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما يتمسك بلفظ محتمل، مثل اعتمادهم على حديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة المتقدم، وقد رواه النسائيّ، فإن العارفين بالحديث يقولون: إنه عمدتهم في هذه المسألة، ولا حجة فيه، فإن في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها، فإن في "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يقول اللَّه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال اللَّه: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مَجّدني عبدي، أو قال: فَوَّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قال: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل".

وقد رَوَى عبد اللَّه بن زياد بن سليمان -وهو كذاب- أنه قال في أوله:

ص: 308

"فإذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: ذكرني عبدي"، ولهذا اتَّفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة، وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث لَبَّسوا بها على الناس دينهم.

ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين؛ كسفيان الثوريّ أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر، ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة.

ولهذا ذهب أبو عليّ بن أبي هريرة، أحد الأئمة من أصحاب الشافعيّ إلى ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين، كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعيّ إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع، فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة، ولا من القراءة المقسومة، وهو على نفي القراءة مطلقًا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر، فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ أم القرآن، وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم، وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يُصَدِّق ذلك، فإنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاةً، لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، فهي خداج"، فقال له رجل: يا أبا هريرة، أنا أحيانا أكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسيّ، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"قال اللَّه -تعالى-: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. . ." الحديث.

وهذا صريح في أن أمّ القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة هي القراءة المقسومة التي ذكرها، مع دلالة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة، فيكون أبو هريرة، وإن كان قرأ بها قرأ بها استحبابًا لا وجوبًا، والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة، قولٌ لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، وغيرهم من الأئمة المشهورين، ولا أعلم به قائلًا، لكن هي من الفاتحة، وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابًا لا وجوبًا، وعلى هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها، كان

ص: 309

جهره بها أولى أن يثبت دليلًا على أنه ليعرّفهم استحباب قراءتها، وأن قراءتها مشروعة كما جَهَر عمر بالاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ونحو ذلك، ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة، وإن لم يُجهر بها، وحينئذ فلا يكون هذا مخالفًا لحديث أنس الذي في "الصحيح"، وحديثِ عائشة الذي في "الصحيح"، وغير ذلك.

هذا إن كان الحديث دالًا على أنه جهر بها، فإن لفظه ليس صريحًا بذلك من وجهين:

[أحدهما]: أنه قال: قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ أم القرآن، ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرًّا، ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه، فإن قراءة السرّ إذا قويت يسمعها مَن يلي القارئ، ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها، وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورة، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وهي قراءة سرّ، كيف وقد بيّن في الحديث أنها ليست من الفاتحة؛ فأراد بذلك وجوب قراءتها فضلًا عن كون الجهر بها سنةً فإن النزاع في الثاني أضعف.

[الثاني]: أنه لم يُخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأها قبل أم الكتاب، وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنه أَمّن، وكَبّر في الخفض والرفع، وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة، فيكون أشبههم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه التي فعل فيها ما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتركوه هم، ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته مثل صلاته من كل وجه، ولعل قراءتها مع الجهر أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة، وكان أولئك لا يقرأونها أصلًا، فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن كان غيره ينازع في ذلك.

وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه، فيُعْلَم أوّلًا أن تصحيح الحاكم وحده، وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا، فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم؟ وقد اتَّفق أهل العلم في الصحيح على خلافه، ومن له أدنى خِبْرة في الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه، فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من

ص: 310

التساهل والتسامح في باب التصحيح، حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذيّ، والدارقطنيّ، وأمثالهما بلا نزاع، فكيف بتصحيح البخاريّ ومسلم؟ بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمة، وأبي حاتم بن حبان البستيّ، وأمثالهما، بل تصحيح الحافظ أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسيّ في "مختاراته" خير من تصحيح الحاكم، فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب، عند من يعرف الحديث، وتحسين الترمذيّ أحيانًا يكون مثل تصحيحه، أو أرجح، وكثيرًا ما يصحح الحاكم أحاديث يُجْزَم بأنها موضوعة لا أصل لها، فهذا هذا

(1)

.

والمعروف عن سليمان التيميّ وابنه معتمر، أنهما كانا يجهران بالبسملة، لكن نقلُهُ عن أنس هو المنكر، كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك؛ حتى إن شعبة سأل قتادة عن هذا، قال: أنت سمعت أنسًا يذكر ذلك؟ قال: نعم، وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر، ونقْلُ شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة، وأرفع درجات الصحيح عند أهله؛ إذ قتادة أحفظ أهل زمانه، أو من أحفظهم، وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم.

وهذا مما يُرَدُّ به قول من زعم أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله:"يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها، فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث، وألفاظ رواياتهم الصريحة التي لا تَقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تَحْتَمِل المجازفة، أو أنه مكابِرٌ صاحب هَوًى يتبع هواه، ويَدَع مُوجَبَ العلم والدليل.

ثم يقال: هَبْ أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه، وأبوه عن أنس، وأنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا مُجْمَل، ومُحْتَمِلٌ؛ إذ ليس يمكن أن يَثْبُت كل حكم جزئيّ من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن صوابه "فكذا هذا"، واللَّه أعلم.

ص: 311

الزمان، وتعدد الإسناد، لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حقّ الضبط إلابنقل مفصَّل لا مجمل، وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، والأعمش، وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعيّ وذويه، وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود، ونحوهما، وهم أخذوها عن ابن مسعود، وابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد أجلُّ رجالًا من ذلك الإسناد، وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وأمثالهم من فقهاء الكوفة، فهل يجوز أن يُجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع؟ فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.

ونظير هذه احتجاجُ بعضهم على الجهر بأن أهل مكة، من أصحاب ابن جريج، كانوا يجهرون، وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جريج، وهو أخذها عن عطاء، وعطاء، عن ابن الزبير، وابن الزبير، عن أبي بكر الصديق، وأبو بكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن الشافعيّ رحمه الله أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جريج، كسعيد بن سالم القَدّاح، ومسلم بن خالد الزنجيّ، لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة، تنازع الناس فيها.

ولئن جاز ذلك ليكوننّ مالك أرجح من هؤلاء، فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجلّ قدرًا، وأعلم بالسنة، وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة، وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمرّ بالمدينة، فقالوا: هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الأئمة، وهَلُمّ جَرًّا، ونقلهم لصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نقلٌ متواترٌ كلهم شَهِدوا صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشدّ محافظةً على السنة، وأشدّ إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية، وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا، ولا يمكن

ص: 312

أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة، بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة، لا تتعلق بأمر ملكهم، وما يتعلق بذلك من الأهواء، وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض، وهذه الحجة إذا احتَجّ بها المحتج لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوى منها، فإنه لا يشكّ مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها، والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهي ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يذهب ذاهب قطّ إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة، وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم، هل هو حجة أم لا؟ نزاعًا لا يقصر عن عمل غيرهم، وإجماع غيرهم إن لم يزد عليه.

فتبيّن دفع ذلك العمل عن سليمان التيميّ، وابن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة، لو لم يكن المنقول نقلًا صحيحًا صريحًا عن أنس يخالف ذلك، فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت، من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت، وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله؟.

ومثل هذا أيضًا يُظْهِر ضعفَ حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة، فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة، وأول السورة، حتى عاد يعمل ذلك، فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطنيّ قال: إسناده ثقات، وقال الخطيب: هو أجود ما يُعتَمد عليه في هذه المسألة، كما نقل ذلك عنه نصر المقدسيّ، فهذا الحديث يُعْلَم ضعفه من وجوه:

[أحدها]: أنه يُروَى عن أنس أيضًا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يردّ هذا.

[الثاني]: أن مدار ذلك الحديث على عبد اللَّه بن عثمان بن خُثيم، وقد ضعفه طائفة، وقد اضطربوا في روايته إسنادًا ومتنًا كما تقدم، وذلك يبين أنه غير محفوظ.

[الثالث]: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع، أو سوء الحفظ.

ص: 313

[الرابع]: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة، لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.

[الخامس]: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة، والراوي لها أنس، وكان بالبصرة، وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها، ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته، وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك، والناقل ليس من هؤلاء، ولا من هؤلاء.

[السادس]: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة، لكان هذا أيضًا معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية، بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، بل الأوزاعيّ مذهبه فيها مذهب مالك، لا يقرأها سرًّا ولا جهرًا.

فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل، لا حقيقة له، وإما مُغَيَّر عن وجهه، وأن الذي حدَّث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده، وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذًّا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس، وعن أهل المدينة، وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذًّا ولا معللًا، وهذا شاذّ معللٌ إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.

والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها، ووجوب قراءتها، إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن، وأن الصحابة جَرَّدوا القرآن عما ليس منه، والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بلا حقّ، كقولهم: القرآن لا يثبت إلا بقاطع، ولو كان هذا قاطعًا لكفر مخالفه، وقد سلك أبو بكر بن الطيب الباقلانيّ وغيره هذا المسلك، وادَّعَوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعيّ في كونه جعل البسملة من القرآن، معتمدين على هذه الحجة، وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا، فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.

والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يُقطَع بكونها من القرآن، حيث كتبت كما قَطَعتم بنفي كونها ليست منه، ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون

ص: 314

القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام اللَّه، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام اللَّه الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يكتبوا فيه ما ليس من كلام اللَّه.

فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت، فكفِّروا النافي.

قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن، فكفِّروا منازعكم، وقد اتَّفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب، مع دعوى كثير من الطائفتين القطع بمذهبه، وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيًّا عند شخص يجب أن يكون قطعيًّا عند غيره، وليس كل ما ادَّعت طائفة أنه قطعيّ عندها يجب أن يكون قطعيًّا في نفس الأمر، بل قد يقع الغلط في دعوى المدعي القطع في غير محل القطع، كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله وغير ذلك من أحواله، كما قد يغلط الحسّ الظاهر في مواضع.

وحينئذ فيقال: الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط:

الطرف الأول قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، كما قال مالك، وطائفة من الحنفية، وكما قاله بعض أصحاب أحمد، مدعيًا أنه مذهبه، أو ناقلًا لذلك رواية عنه.

والطرف المقابل له قول من يقول: إنها من كل سورة آية، أو بعض آية، كما هو المشهور من مذهب الشافعيّ ومن وافقه، وقد نُقل عن الشافعيّ أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة، وإنما يُستفتح بها في السور تبركًا بها، وأما كونها من الفاتحة فلم يثبت عنه فيه دليل.

والقول الوسط: إنها من القرآن حيث كُتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في أول كل سورة، وكذلك تتلى آية منفردة في أول كل سورة، كما تلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم" كما في قوله:"إن سورة من القرآن، هي ثلاثون آيةً، شَفَعت لرجل حتى غُفِر له، وهي سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] "، رواه أهل السنن، وحسنه الترمذيّ.

وهذا القول قول عبد اللَّه بن المبارك، وهو المنصوص الصريح عن

ص: 315

أحمد بن حنبل، وذكر أبو بكر الرازيّ أن هذا مقتضى مذهب أبي حنيفة عنده، وهو قول سائر مَن حَقَّق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها جَمْعٌ من مقتضى الأدلة، وكتابتها سطرًا مفصولًا عن السورة.

ويؤيِّد ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَعْرِف فصل السورة حتى تنزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . رواه أبو داود

(1)

، وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان، هما روايتان عن أحمد:

[أحدهما]: إنها من الفاتحة دون غيرها، تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.

[والثاني]: وهو الأصح لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وأن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور، والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول لا تخالفه، وحينئذ الخلاف أيضًا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:

[أحدها]: إنها واجبة وجوب الفاتحة، كمذهب الشافعيّ وأحمد في إحدى الروايتين، وطائفة من أهل الحديث، بناءً على أنها من الفاتحة.

[والثاني]: قول من يقول قراءتها مكروهة سرًّا وجهرًا، كما هو المشهور من مذهب مالك.

[والقول الثالث]: إن قراءتها جائزةٌ بل مستحبةٌ، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وأكثر أهل الحديث، وطائفةٌ من هؤلاء يُسَوِّي بين قراءتها وترك قراءتها، ويخير بين الأمرين، معتقدين أن هذا على إحدى القراءتين، وذلك على القراءة الأخرى، ثم مع قراءتها هل يُسَنّ الجهر أو لا يسن؟ على ثلاثة أقوال:

قيل: يسنّ الجهر بها، كقول الشافعيّ ومن وافقه، وقيل: لا يسنّ الجهر بها، كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي، وفقهاء الأمصار، وقيل: يخير بينهما، كما يروى عن إسحاق، وهو قول ابن حزم وغيره، ومع هذا فالصواب أن ما لا يجهر به قد يُشْرَع الجهر به لمصلحة راجحة، فيشرع للإمام

(1)

حديث صحيح، رواه أبو داود (1/ 209).

ص: 316

أحيانًا لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا، ويسوغ أيضًا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة؛ خوفًا من التنفير عما يصلُح، كما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم بناءَ البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخَشِي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم عليه السلام، وقال ابن مسعود رضي الله عنه لَمّا أكمل الصلاة خلف عثمان، وأَنكر عليه الربيع، فقال له في ذلك، فقال: الخلاف شرّ، ولهذا نصّ الأئمة؛ كأحمد وغيره على ذلك في البسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول؛ مُراعاةً ائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك، واللَّه أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه شيخ الإسلام رحمه الله تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيس.

وحاصله ترجيح كون البسملة آيةً من القرآن، أُنزلت للفصل بين السُّوَرِ، وتكرّرت بعددها، وليست آيةً من الفاتحة، ولا من غيرها، وأنها يقرأ بها في الصلاة، وأن الأفضل الإسرار بها، ومع ذلك يجوز في بعض الأحيان الجهر بها، كتعريف الناس بسنّيّتها، أو لنحو ذلك، كقصد ائتلافهم، وهذا هو الذي تجتمع به الأدلة في هذا الباب، فتمسّك به، فإنه منهج سليم، ورأي قويم، واللَّه تعالى الهادي إلى الصراط المستقيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[896]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ

(2)

، وَزَادَ: قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، نَحْنُ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ).

(1)

"الفتاوى الكبرى" 1/ 88 - 104.

(2)

وفي نسخة: "بهذا الإسناد".

ص: 317

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في المسند الماضي.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ) وفي نسخة: "بهذا الإسناد"، فـ "في" هنا بمعنى الباء.

وقوله: (وَزَادَ: قَالَ شُعْبَةُ. . . إلخ) فاعل "زاد" ضمير أبي داود، وفائدة قول شعبة لقتادة: أسمعته. . . إلخ أن يصرِّح له بسماعه من أنس؛ فينتفي عنه ما يُخاف من إرساله؛ لتدليسه، وقد سبق البحث عن هذا غير مرّة.

[تنبيه]: رواية أبي داود هذه لم أر من ساقها بتمامها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[897]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ

(1)

، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، كانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تبَارَكَ اسْمُكَ

(2)

، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ".

وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفِي أَوَّلِ قِراءَةٍ

(3)

، وَلَا فِي آخِرِهَا).

(1)

وفي نسخة: "عن عبدة بن أبي لبابة".

(2)

وفي نسخة: "وتبارك اسمك" بالعاطف.

(3)

وفي نسخة: "في أول القراءة".

ص: 318

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) -بكسر الميم، وسكون الهاء- الْجَمّال -بالجيم- أبو جعفر، ثقة حافظٌ [10](ت 239) أو في التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو أول 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الأوزاعيّ الفقيه، ثقةٌ جليل إمام [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(عَبْدَةُ) بن أبي لبابة الأسدي الغَاضِرِيّ مولاهم، يقال: مولى قريش، أبو القاسم البزّاز الكوفي الفقيه، نزيل دمشق، ثقة [4].

رَوَى عن ابن عمر، وابن عمرو، وزِرّ بن حُبيش، وأبي وائل، ومجاهد، وهلال بن يساف، وورّاد كاتب المغيرة، وغيرهم، وأرسل عن عمر.

ورَوَى عنه ابن أخته الحسن بن الْحُرّ، وحبيب بن أبي ثابت، ومات قبله، والأعمش، وابن جريج، والأوزاعي، وشعبة، والثوريّ، وغيرهم.

قال الميموني عن أحمد: لقي ابن عمر بالشام، وقال ابن سعد: كان من فقهاء أهل الكوفة. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان يُكنى أبا القاسم، كناه مكحول. وقال الأوزاعي: لم يَقْدَم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة، والحسن بن الحرّ، وكانا شريكين. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة من ثقات أهل الكوفة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن خِراش: ثقة. وقال علي ابن المديني، عن ابن عيينة: جالست عبدة بن أبي لبابة سنة ثلاث وعشرين ومائة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: من ثقات أهل الكوفة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال: جالسه ابن عيينة ثلاثًا وعشرين سنة كذا قال، والصواب ما تقدّم أنه جالسه سنة ثلاث وعشرين ومائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المسائل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا (399)، و (593) وأعاده بعده، و (762) وكرره أربع مرّات، و (790) و (2716).

5 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفَيل بن عبد العزّى القرشيّ العدويّ، أمير

ص: 319

المؤمنين رضي الله عنه جمّ المناقب، استُشهد في ذي الحجة سنة (23) وولي عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقيان ذُكرا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، والمقصود هنا سند أنس رضي الله عنه، وأما سند عمر بن الخطّاب، فليس مقصودًا؛ لأنه إنما ساقه كما سمعه من شيخه، لا لإدخاله في أصول كتابه؛ لأن فيه انقطاعًا بين عبدة وعمر رضي الله عنه، كما سيأتي البحث فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه محمد بن مهران، فقد تفرّد به هو والبخاريّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدَةَ) وفي نسخة: "عن عبدة بن أبي لُبابة"(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغَسّانيّ: هكذا أتى عند مسلم: "عن عبدة أن عمر" مرسلًا -يعني أن عبدة، وهو ابن أبي لبابة لم يسمع من عمر- قال: وفي نسخة ابن الْحَذّاء: "عن عبدةَ أن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب"، وهو وَهَمٌ، والصواب:"أن عمر"، وكذلك في نسخة أبي زكريّا الأشعريّ، عن ابن ماهان، قال: وكذلك رُوي عن أبي أحمد الْجُلُوديّ.

قال: ثم ذكر مسلم بعد هذا عن الأوزاعيّ، عن قتادة، عن أنس، قال: صلّيتُ خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ، وهذا هو المقصود في الباب، وهو حديث متصلٌ. انتهى كلام الغسانيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيس، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 809.

ص: 320

قال النوويّ رحمه الله بعد كلام الغسّانيّ هذا، ما نضه: والمقصود أنه عَطَف قوله: "وعن قتادة" على قوله: "عن عبدة"، وإنما فعل مسلم هذا؛ لأنه سمعه هكذا، فأدّاه كما سمعه، ومقصوده الثاني المتصل، دون الأول المرسل، ولهذا نظائر كثيرة في "صحيح مسلم" وغيره، ولا إنكار في هذا كلّه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: أتقن الحافظ أبو عليّ فيما ذكره هنا، ولفظه: في كتاب مسلم بعد قوله في الحديث من قول عمر: "ولا إله غيرك": "وعن قتادة أنه كتب إليه يُخبره عن أنس أنه حدّثه. . ." الحديث، فعطف قوله:"وعن قتادة" على قوله في المسند الأول: "حدّثنا الأوزاعيّ، عن عبدة"، فلما أكمل ذلك الحديث المرسل، قال:"وعن قتادة" يعني أن الأوزاعيّ الذي قال أوّلًا: "عن عبدة" قال أيضًا: "وعن قتادة"، فجاء به كالحديث الواحد كما سمعه ابن مهران من الوليد، ولم يَفصِله مما قبله، والمراد هذا الآخر، مع ما في الأول من التنبيه على مذهب من رأى ذلك، وإن كان مرسلًا موقوفًا، فليس على مسلم فيه دَرْكٌ؛ إذ هو بعض حديثٍ شرطُهُ في باقيه، فأكمل بعض الفائدة بذكره على نصّه دون تعقّب عليه، ثم جاء بعد ذلك أيضًا بحديث الأوزاعيّ، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس مثله. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(كَانَ يَجْهَرُ) أي للتعليم، ففيه أن للإمام أن يجهر بمثل هذا إذا أراد التعليم (بِهَؤُلَاءِ) اسم إشارة للجمع، مطلقًا مذكّرًا أو مؤنّثًا، للعقلاء وغيرهم، ومن غيرهم ما هنا؛ لأنه إشارة إلى "الكلمات"، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله [من الكامل]:

ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللَّوَا

وَالْعَيْشَ بعْدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ

وفيه لغاتٌ: المدّ، وهي لغة أهل الحجاز، وبه جاء القرآن الكريم، وهو مبنيّ على الكسر، والقصر، وهي لغة بني تميم

(3)

، وقوله:(الْكَلِمَاتِ) نعتٌ، أو بدل، أو عطف بيان لـ "هؤلاء"، كما قال بعضهم:

(1)

"شرح النوويّ " 4/ 111 - 112.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 289.

(3)

راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" مع "حاشية الخضريّ" 1/ 91 - 92.

ص: 321

مُعَرَّفٌ بَعْدَ إِشَارَةٍ بِـ "أَلْ"

يُعْرَبُ نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلْ

ثم بيّن المشار إليه بقوله: (يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ) قال الأزهريّ رحمه الله: معناه: أُسبّحك؛ أي أنزّهك عما يقول الظالمون فيك، و"سُبحان" مصدر أريد به الفعل. انتهى.

وقال في "اللسان": "التسبيح": التنزيه، و"سبحان اللَّه": معناه تنزيهًا للَّه من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيه اللَّه تعالى عن كلّ ما لا ينبغي له أن يوسف به، ونصبه أنه في موضع فعل على معنى تسبيحًا له، تقول: سبَّحتُ اللَّه تسبيحًا له؛ أي نَزّهته تنزيهًا.

وقال الزجاج في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] قال: منصوب على المصدر، والمعنى: أُسَبِّح اللَّه تسبيحًا، قال: و"سبحان" في اللغة تنزيه اللَّه عز وجل عن السوء، قال ابن شُمَيل: رأيت في المنام كأنّ إنسانًا فَسّر لي "سبحان اللَّه"، فقال: أما ترى الفرس يَسْبَحُ في سرعته؟ وقال: "سبحان اللَّه": السرعة إليه، والخفة في طاعته، وجماع معناه: بُعْدُهُ تبارك وتعالى عن أن يكون له مِثْلٌ، أو شريكٌ، أو نِدٌّ، أو ضِدٌّ، قال سيبويه: زعم أبو الخطاب أن "سبحان اللَّه" كقولك: براءةَ اللَّه؛ أي أُبَرِّئ اللَّه من السوء براءةً.

وقيل: قوله: "سبحانك" أي أُنَزِّهُك يا رب من كلّ سوء، وأُبَرِّئك.

ورَوى الأزهريّ بإسناده أن ابن الكَوَّاء سأل عليًّا -رضوان اللَّه تعالى عليه- عن "سبحان اللَّه"، فقال: كلمة رضيها اللَّه لنفسه، فأوصى بها، والعرب تقول: سبحان من كذا: إذا تعجبت منه، وزعم أن قول الأعشى في معنى البراءة أيضًا:

أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

أي براءةً منه، وكذلك تسبيحه تبعيده.

وبهذا استُدِلّ على أن "سبحان" معرفة؛ إذ لو كان نكرةً لانصرف، ومعنى هذا البيت أيضًا: العَجَبُ منه؛ إذ يفخر، قال: وإنما لم يُنَوَّن؛ لأنه معرفة، وفيه شِبْهُ التأنيث، وقال ابن بَرِّيّ: إنما امتنع صرفه؛ للتعريف وزيادة الألف والنون، وتعريفه كونه اسمًا علمًا للبراءة، كما أن "نَزَالِ" اسمٌ عَلَمٌ للنزول،

ص: 322

و"شَتَّانَ" اسم عَلَمٌ للتفرُّق، قال: وقد جاء في الشعر "سبحانٌ" منونةً نكرةً، قال أمية [من البسيط]:

سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ

وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ

وقال ابن جني: "سبحان" اسمٌ علَمٌ لمعنى البراءة والتنزيه، بمنزلة "عثمان"، و"عِمران"، اجتمع في "سبحان" التعريف والألف والنون، وكلاهما علة تمنع من الصرف. انتهى المقصود من "اللسان" باختصار

(1)

.

(اللَّهُمَّ) أصله "يا أللَّه"، حذفت منه حرف النداء، وعُوّض عنها "أل"، ولا يُجمع بينهما إلا في الشعر، كما قال في "الخلاصة":

وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ "يَا" وَ"أَلْ"

إِلَّا مَعَ "اللَّه" وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ

وَالأَكْثَرُ "اللَّهُمَّ" بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ "يَا اللَّهُمَّ" فِي قَرِيضِ

(وَبِحَمْدِكَ) قيل: الواو للحال، والتقدير: ونحن متلبسون بحمدك، وقيل: زائدة، والجارّ والمجرور حال؛ أي متلبّسين بحمدك، أفاده السنديّ.

وقال القاري رحمه الله: الباء للملابسة، والواو زائدة، وقيل: الواو بمعنى "مع"؛ أي أُسبّحك مع التلبّس بحمدك، وحاصله نفي الصفات السلبيّة، وإثبات النعوت الثبوتيّة، أو بحمدك سبّحتك؛ أي اعتقدت نزاهتك، حال كوني متلبّسًا بالثناء عليك، أو بسبب ثناء الجميل عليك اعتقدت نزاهتك، ويصحّ أن يكون صفةً لمصدر محذوف، كقوله تعالى:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]؛ أي أسبّحك تسبيحًا مقيّدًا بشكرك؛ إذ كلُّ حمد من المكلّف يستجلب نعمةً متجدّدة، ويستصحب توفيقًا إلهيًّا.

كما قال الشاعر [من الطويل]:

إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةً

عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ

فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ

وَإِنْ طَالَتِ الأَيَّامُ وَاتَّسَعَ الْعُمْرُ

فَإِنْ مَسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا

وَإِنْ مَسَّ بالضَّرَّاءِ عَقَّبَهَا الأَجْرُ

وقال الخطّابيّ: أخبرني ابن خلّاد، قال: سأَلت الزجّاج عن الواو في قوله: "وبحمدك"، فقال: معناه: سبحانك اللَّهمّ، وبحمدك سبّحتك.

(1)

راجع: "لسان العرب" 2/ 471.

ص: 323

قال الطيبيّ رحمه الله: قول الزجّاج يَحْتَمِلُ وجهين:

[أحدهما]: أن تكون الواو للحال.

[وثانيهما]: أن تكون لعطف جملة فعليّة على مثلها؛ إذ التقدير: أنزّهك تنزيهًا، وأسبّحك تسبيحًا مقيّدًا بَشكرك، وعلى التقديرين "اللهم" معترضةٌ، والباء في "بحمدك" إما سببيّةٌ، والجارّ والمجرور -أعني "بحمدك"- إما متعلّق بفعل مقدّر، أو إلصاقيّة، والجارّ والمجرور حال من فاعله. انتهى

(1)

بتصرّف.

(تَبَارَكَ اسْمُكَ) وفي نسخة: "وتبارك اسمك" بالعاطف، قال التوربشتيّ:"تبارك" تفاعل من البركة، وهي الكثرة والاتّساع، ومعناه: تعالى، وتعظّم، وكثرت بركاته في السماوات والأرض؛ إذ به تقوم، وبه تُستنزل الخيرات، وفي كتاب اللَّه عز وجل:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1]، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وكلّ ذلك تنبيه على اختصاصه عز وجل بالخيرات الإبداعيّة، والبركات المتوالية. انتهى

(2)

.

وقال القاري: أي كثُرت بركة اسمك؛ إذ وُجد كلّ خير من ذكر اسمك، وقيل: تعاظم ذاتك، أو هو على حقيقته؛ لأن التعاظم إذا ثبت لأسمائه تعالى، فأولى لذاته، نظير قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]. انتهى.

(وَتَعَالَى جَدُّكَ)"تعالى": تفاعل من العلوّ، والجدّ هنا: العظمة؛ أي عَلَت عظمتك على عظمة كلّ أحد، وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى "تعالى جدُّك": علا جلالك وعظمتك. انتهى

(3)

.

(وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ") أي لا معبود بحقّ سواك، واللَّه تعالى أعلم.

(وَعَنْ قَتَادَةَ) عطف على قوله: "عن عبدة"، فهو من رواية الأوزاعيّ أيضًا (أنَّه) أي قتادة (كَتَبَ إِلَيْهِ) أي إلى الأوزاعيّ (يُخْبِرُهُ) جملة حاليّة من فاعل "كتب"(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أنَّهُ) أي أنسًا رضي الله عنه (حَدَّثَهُ) أي حدّث قتادَةَ، وقوله:(قَالَ) تفسيرٌ لـ "حدّثه" (صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ،

(1)

راجع: "المرقاة" 2/ 537 - 538، و"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 991 - 992.

(2)

"الكاشف" 3/ 992.

(3)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 244.

ص: 324

وَعُثْمَانَ) وقع ذكر عثمان في هذه الرواية، من طريق الأوزاعيّ، وكذلك في رواية عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عند البخاريّ في "جزء القراءة"، وكذا في رواية حجاج بن محمد، عن شعبة، عند أبي عوانة وهو في رواية شيبان النحويّ، وهشام الدستوائيّ، كما أشار إليه في "الفتح"

(1)

.

(فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} برفع {الْحَمْدُ} على الحكاية، والمعنى: يبدءون بقراءة هذه الجملة، أي لا يقدّمون البسملة عليها، كما أوضحه بقوله: (لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ) وفي نسخة: "في أول القراءة (وَلَا فِي آخِرِهَا) هذا صريح، في أنهم كانوا لا يقرءون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول سورة الفاتحة، ولا في أول سورة غيرها، وهذا المعنى هو الأوضح.

وقيل: معنى قوله: "فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " أنهم يقدّمون هذه السورة على غيرها في القراءة، قال الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد إخراج الحديث: قال الشافعيّ رحمه الله: إنما معنى الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي أنهم كانوا يبتدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرءون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وكان الشافعيّ يرى أن يُبدأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وأن يُجهر بها إذا جهر بالقراءة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح التفسير للحديث هو الأول كما أسلفته آنفًا، وهو أن معناه أنهم يبتدءون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وأما تفسير الثاني فينافيه قوله:"لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفي أول القراءة، ولا في آخرها"؛ فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَدَحَ بعضهم في صحة هذه الرواية بكون الأوزاعيّ رواها عن قتادة مكاتبةً.

(1)

"الفتح" 2/ 267.

(2)

"جامع الترمذيّ" 2/ 59 بنسخة "التحفة الأحوذيّ".

ص: 325

وتُعُقِّب بأنّ الأوزاعيّ لم ينفرد بها، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدَّوْرقيّ، والسرّاج عن يعقوب الدَّوْرقيّ، وعبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه السلميّ، ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة بلفظ:"فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، قال شعبة:"قلت لقتادة: سمعته من أنس؟، قال: نحن سألناه"، قاله في "الفتح"

(1)

.

وأيضًا بكون المكاتبة من طرق التحمّل الصحيحة، كما هو موضّح في كتب أهل الاصطلاح، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ

يَغِيبُ أَوْ يَحْضرُ أَوْ يَأْذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا

فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

والكلام على المسائل المتعلّقة بالحديث تقدّم في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[898]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلهم تقدّموا في المسند الماضي، غير واحد، وهو:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ابن أخي أنس بن مالك لأمه، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

[تنبيه]: رواية إسحاق بن أبي طلحة هذه أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 23) فقال:

(887)

حدثنا محمد بن الحسن اليقطينيّ، ثنا محمد بن خُزيم، ثنا هشام بن عمّار، ثنا الوليد بن مسلم (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا

(1)

2/ 266.

ص: 326

عبدان، ثنا هشام، ودُحَيم، قالا: ثنا الوليد بن مسلم، قالا: ثنا الأوزاعيّ، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك، يقول:"كنا نصلي خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فيستفتحون بأم القرآن فيما يُجْهَر به". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، سِوَى بَرَاءَةَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[899]

(400) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ

(1)

، عَنْ أَنَسٍ

(2)

، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلَى آنِفًا

(3)

سُورَة"، فَقَرَأَ: بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ " فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ

(4)

، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ"

(5)

.

زَادَ ابْنُ حُجْرٍ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ:"مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ").

(1)

وفي نسخة: "عن المختار بن فُلفل".

(2)

وفي نسخة: "عن أنس بن مالك".

(3)

وفي نسخة: "نَزَلت عليّ آنفًا".

(4)

وفي نسخة: "هو حوضي".

(5)

وفي نسخة: "ما أحدثوا بعدك".

ص: 327

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصِل، ثقةٌ، له غرائبُ بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) مولى عمرو بن حُريث، ثقة [4](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

5 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد في هذا الكتاب، وهو (39) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أنهم ما بين مروزيّ، ثم بغداديّ، وهو شيخه ابن حُجْر، وكوفيين، وهو أبو بكر، وعليّ بن مسهر، وبصريين، وهما: المختار، وأنس.

3 -

(ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وأحد المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه، وفي نسخة:"عن أنس بن مالك"، أنه (قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال الجوهريّ رحمه الله: "بينا" فَعْلَى، أشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، و"بينما" زيدت عليها "ما"، والمعنى واحد، تقول: بينا نحن نَرْقُبه أتانا، أي أتانا بين أوقات رقبتنا إياه، والجُمَل مما تُضاف إليها أسماء الزمان، كقولك: أتيتك زمنَ الحجّاج أميرٌ، ثم حذف المضاف الذي هو "أوقات"، وولي الظرف الذي هو "بين" الجملة التي أُقيمت مقام المضاف إليها، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الآية [يوسف: 82]، وكان الأصمعيّ يخفض ما بعد

ص: 328

"بينا" إذا صلح في موضعه "بين"، ويُنشد قول أبي ذُؤيب بالكسر [من الكامل]:

بَيْنَا تَعَنُّقِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ

يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ

وغيره يرفع ما بعد "بينا"، و"بينما" على الابتداء والخبر. انتهى كلام الجوهريّ رحمه الله

(1)

.

وقد تقدّم البحث في "بينا" و"بينما" مستوفًى غير مرّة، وباللَّه تعالى التوفيق.

(ذَاتَ يَوْمٍ)"ذات" مقحمةٌ، أي يومًا من الأيّام، وقال الزمخشريّ: هو من إضافة المسمّى إلى الاسم (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أي بيننا، وفي رواية عليّ بن حجر:"بين أظهرنا في المسجد"، يقال: هو نازلٌ بين ظهرَيْهم، وبين ظهرانيهم، وبين أظهُرهم: أي بينهم، قال ابن الأثير رحمه الله:"فأقاموا بين ظهرانيهم، وبين أظهرهم"، قد تكررت هذه اللفظة في الحديث، والمراد أنهم أقاموا بينهم، على سبيل الاستظهار، والاستناد إليهم، وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيدًا، ومعناه أن ظهرًا منهم قُدّامهُ، وظهرًا منهم وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرهم، ثم كَثُرَ حتى استُعْمِل في الإقامة بين القوم مطلقًا. انتهى كلام ابن الأثير

(2)

.

(إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً) أي نام نَوْمةً خفيفةً، يقال: أغفيتُ إغفاءً، فأنا مُغْفٍ: إذا نِمْتَ نومةً خفيفة، قال ابن السكّيت وغيره: ولا يقال: غَفَوتُ، وقال الأزهريّ: كلام العرب أغفيتُ، وقَلَّما غَفَوتُ، قاله الفيّوميّ

(3)

.

(ثُمَّ رَفَع رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا) أي حال كونه ضاحكًا قليلًا، يقال: بَسَمَ بَسْمًا، من باب ضَرَبَ: ضَحِكَ قليلًا من غير صوت، وابتسم، وتبسّم كذلك، ويقال: هو دون الضحك، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي: أيّ شيء جعلك ضاحكًا؟ (قَالَ: "أُنْزِلَتْ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"نَزَلَتْ"، (عَلَى آنِفًا) أي قريبًا، وهو بالمدّ، ويجوز القصر في لغة قليلة، وقد قرئ به في السبع

(5)

، وقال في

(1)

"الصحاح" 5/ 1683.

(2)

"النهاية" 3/ 166.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 450.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 49.

(5)

"شرح النوويّ" 4/ 113.

ص: 329

"اللسان": وقال الزجاج في قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]: معنى {آنِفًا} من قولك: استأنف الشيءَ إذا ابتدأه، وقال ابن الأعرابيّ:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} : أي مُذْ ساعة. انتهى

(1)

. (سُورَةٌ) بالرفع على أنه نائب فاعل "أُنزلت"(فَقَرَأَ) صلى الله عليه وسلم (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}) قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله: قراءة العامّة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} بالعين، وقرأ الحسن وطلحة بن مُصَرِّف:"أنطيناك" بالنون، وروته أم سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي لغة في العطاء، أنطيته: أعطيته.

والكوثر: فَوْعَلٌ من الكثرة، مثلُ النَّوْفَل، والْجَوْهَر، من الجهر، والعرب تسمّي كلّ شيء كثير في العدد والقدر والخطَر كَوْثَرًا، قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر، أي بمال كثير، والكوثر من الرجال: السيد الكثيرُ الخيرِ، قال الْكُمَيت [من الطويل]:

وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ

وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَا

والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع، والكوثر من الغبار: الكثيرُ، وقد تكوثر: إذا كَثُرَ، قال الشاعر [من الطويل]:

أَبَوْا أَنْ يُبِيحُوا جَارَهُمْ لِعَدُوِّهِمْ

وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ الْمَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرَا

({فَصَلِّ لِرَبِّكَ}) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النهر الذي وُعِدته، فأخلص لربّك صلاتك المكتوبة والنافلة، ({وَانْحَرْ}) أي اذبَحْ نُسُكك، قال ابن عبّاس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، والحسن: يعني بذلك نحر البُدن ونحوها، وكذا قال غير واحد من السلف، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير اللَّه، والذبح على غير اسمه، وقيل: المراد وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت النحر، يُروَى هذا عن عليّ رضي الله عنه، ولا يصحّ، وعن الشعبيّ مثله، وعن أبي جعفر الباقر، يعني رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وقيل: استقبل بنحرك القبلة، وعن عطاء الخراسانيّ: ارفع صُلْبك بعد الركوع، واعتَدِلْ، وأبرِز نحرك -يعني به الاعتدال-.

(1)

"لسان العرب" 9/ 15.

ص: 330

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكلّ هذه الأقوال غريبة جدًّا، والصحيح القول الأول، وهو أن المراد بالنحر ذبح المناسك.

وقال إمام المفسّرين ابن جرير الطبريّ رحمه الله: والصواب قول من قال: إن معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلّها لربك خالصًا، دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان؛ شُكرًا له على ما أعطاك من الكرامة، والخير الذي لا كفاء له، وخصّك به. انتهى.

قال ابن كثير رحمه الله: وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظيّ وعطاء. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

({إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]) أي إن مبغضك يا محمد، ومُبْغِض ما جئت به من الهدى والحقّ، والبرهان الساطع، والنور المبين، هو الأبتر الأقلّ الأذلّ المنقَطِع ذِكْرُهُ.

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة: نزلت في العاص بن وائل، وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومَان قال: كان العاص بن وائل إذا ذَكَر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: دَعُوه، فإنه رجل أبتر، لا عَقِب له، فإذا هلك انقطع ذِكْره، فأنزل اللَّه هذه السورة، وقال شَمِر بن عطية: نزلت في عُقبة بن أبي مُعَيط، وقال ابن عباس أيضًا وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة من كفار قريش.

وقال البزّار: حدثنا زياد بن يحيى الحسانيّ، حدثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى إلى هذا الْمُنصَبِر الْمُنْبَتِر

(1)

من قومه يزعم أنه خير منّا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السِّدانة، وأهل السِّقاية؟ فقال: أنتم خير منه، قال فنزلت:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} ، هكذا رواه البزار، وهو إسناد صحيح.

وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الْمُنْصَبر": الذي لا عَقِب له، و"الْمُنْبَتِرُ": الذي لا ولد له.

ص: 331

فذهب أبو لهب إلى المشركين، فقال: بُتِرَ محمد الليلةَ، فأنزل اللَّه في ذلك:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} .

وعن ابن عباس: نزلت في أبي جهل، وعنه:{إِنَّ شَانِئَكَ} يعني عَدُوَّك.

قال ابن كثير رحمه الله: وهذا يَعُمّ جميع من اتَّصَف بذلك، ممن ذُكِر وغيرهم. وقال عكرمة: الأبتر الفرد، وقال السُّدّيّ: كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بُتِر، فلما مات أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا: بُتِرَ محمد، فأنزل اللَّه:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} .

قال ابن كثير رحمه الله: وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره، وحاشا، وكلّا، بل قد أبقى اللَّه ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رِقَاب العباد مستمرًّا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر والمعاد، صلوات اللَّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم موضّحًا لهم معنى ما أنزل اللَّه عليه (أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ ") أي أتعلمون أيُّ شيء معنى الكوثر الذي أعطانيه اللَّه عز وجل؟ (فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) بمعناه وحقيقته، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّهُ) أي الكوثر (نَهْرٌ) -بفتح النون، وسكون الهاء-: الماء الجاري المتَّسِعُ، والجمع: نُهُرٌ -بضمّتين- وأَنْهُرٌ، و"النَّهَرُ"-بفتحتين- لغة، والجمع: أنهار، مثلُ سَبَب وأَسْباب

(2)

.

(وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل وفي رواية النسائيّ: "وعدنيه ربي في الجنّة" (عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ) وفي نسخة: "هو حوضي" بالإضافة إلى ياء المتكلّم، قال الفيّوميّ: حَوْضُ الماءِ، جمعه أَحْوَاضٌ، وحِيَاضٌ، وأصل حِيَاض الواوُ، لكن قُلِبت ياءً؛ للكسرة قبلها، مثلُ ثواب وأثواب وثيَاب. انتهى

(3)

.

(تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي تحضره؛ لتشرب منه، أو تبلغُه، وتوافيه، وهو: بفتح أوله، وكسر ثانيه، مضارع وَرَدَ، يقال: وَرَد زيدٌ علينا وُرُودًا: إذا

(1)

تفسير ابن كثير 4/ 560.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 627.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 156.

ص: 332

حضَرَ، وورد البعير وغيره الماءَ يَرِدهُ وُرُودًا: إذا بلَغَهُ ووافاه من غير دخول، وقد يحصُلُ دخول فيه، والاسم: الْوِرْد بالكسر، وأوردته الماءَ، فالْوِرْدُ: خلافُ الصَّدَر، والإيراد: خلاف الإصدار، والْمَوْرِدُ، مثلُ مَسْجد: موضع الورود، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

(آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ) مبتدأ وخبر على حذف مضاف، أي عددُ آنيته عددُ النجوم، قال القاري في "شرح المشكاة" بعدما ذَكَر هذا: وفي بعض النسخ بالنصب على نزع الخافض، وهو الأظهر، أي بعدد نجوم السماء. انتهى.

و"الآنية" بالمدّ: جمع إناء، ويُجمع أيضًا على الأواني، والمراد بالآنية: الْكِيزانُ والأباريقُ التي أُعِدَّت للشرب منها.

وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو الآتي في "الفضائل": "وكيزانه كنجوم السماء"، وفي حديث ابن عمر الآتي فيه أيضًا:"فيه أباريق كنجوم السماء"، وفي حديث أبيّ ذر الآتي أيضًا:"والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم وكواكبها"، وفي حديث أنس الآتي فيه أيضًا:"تُرى فيه أباريق الذهب والفضّة كعدد نجوم السماء"، وفي حديث جابر بن سمرة الآتي فيه أيضًا:"كأن الأباريق فيه النجوم"، وفي حديث أبي هريرة المتقدّم في "الطهارة":"ولآنيته أكثر من عدد النجوم"، وفي رواية النسائيّ:"آنيته أكثر من عدد الكواكب".

قال النوويّ رحمه الله: المختار الصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره، وأنها أكثر عددًا من نجوم السماء، ولا مانع عقليّ ولا شرعيّ يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء".

وقال القاضي عياض: هذا إشارة إلى كثرة العدد وغايتِهِ الكثيرةِ، من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَضَعُ العصا عن عاتقه"، وهو باب من المبالغة معروف في الشرع واللغة، ولا يُعَدّ كذبًا إذا كان المخبَرُ عنه في حَيِّز الكثرة والعِظَم، ومَبْلَغِ الغاية في بابه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، قال: ومثله كلَّمته ألف مرة، ولقيته مائة كَرّة، فهذا جائز إذا كان كثيرًا، وإلا فلا. انتهى كلام القاضي، قال

(1)

"المصباح" 2/ 654.

ص: 333

النوويّ: والصواب الأول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله من تصويبه كون الحديث على ظاهره وأن المراد منه أن عدد آنية حوضه صلى الله عليه وسلم أكثر من عدد نجوم السماء حسنٌ جدًّا؛ لأنه ظاهر النصوص، ولا داعي لصرفها عن ظاهرها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ) ببناء الفعل للمفعول: أي يُنتزَعُ، ويُقتَطَع من بينهم، قال في "المصباح": خَلَجتُ الشيءَ خَلْجًا، من قتل: انتزعته، واختلجتُهُ مثله، وخالجته: نازعته، واختلج العضو: اضطرب. انتهى

(2)

.

(فَأَقُولُ: رَبِّ) بحذف حرف النداء، وهو جائز، كما قال الحريريّ في "ملحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

وقال في "الخلاصة":

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وفي رواية النسائيّ: "يا ربّ"، (إِنَّهُ) أي إن هذا الْمُختَلَج (مِنْ أُمَّتِي) أي فينبغي أن يشرب من حوضي، (فَيَقُولُ) أي اللَّه سبحانه وتعالى (مَا) نافية (تَدْرِي) أي لا تعلم (مَا أَحْدَثَتْ) أي أمتك، وفي نسخة:"ما أحدثوا"(بَعْدَكَ") أي بعد مفارقتك لهم بالموت، أي من المخالفات لسنّتك، والابتداع في دينك.

وهذا فيه وعيد شديد لمن يُخالف سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويبتدع في دينه بأهوائه ما لم يأذن به اللَّه تعالى، حيث إنه يُطرد عن ورود حوضه صلى الله عليه وسلم الذي من شرب منه مرّةً لا يظمأ بعده أبدًا، وهذا هو الخسران المبين، فيا خسارة المبتدعين، ويا هلاك المتمرّدين المنحرفين بابتداع ما لم يأذن به اللَّه تعالى من الدين، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

[تنبيه]: اختُلف في المراد بالذين يذادون عن حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم على أقوال:

(1)

"شرح النووي" 15/ 55 - 57.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 177.

ص: 334

[أحدها]: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالْغُرّة والتحجيل، فيناديهم النبيّ صلى الله عليه وسلم للسِّيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مما وُعِدت بهم، إن هؤلاء بَدَّلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.

[والثاني]: أن المراد من كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدّ بعده، فيناديهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء؛ لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدُّوا بعدك.

[والثالث]: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البِدَع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يُقْطَع لهؤلاء الذين يُذادون بالنار، بل يجوز أن يذادوا عقوبةً لهم، ثم يرحمهم اللَّه سبحانه وتعالى، فيدخلهم الجنة بغير عذاب، قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أن يكون لهم غُرّة وتحجيل، ويَحْتَمِل أن يكون كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده، لكن عَرَفَهم بالسيما.

وقال الإمام الحافظ أبو عُمَر بن عبد البر: كلُّ مَن أحدث في الدين، فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظَّلَمة المسرفون في الْجَوْر، وطَمْس الحقّ، والمعلنون بالكبائر، قال: وكلُّ هؤلاء يُخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنُوا بهذا الخبر. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وقد تقدّم البحث مستوفًى في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(زَادَ) عليّ (ابْنُ حُجْرٍ) أي على رواية أبي بكر بن أبي شيبة (فِي حَدِيثِهِ) أي فيما حدّث به عن عليّ بن مُسْهِر (بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ) الزيادة قوله: "في المسجد"؛ لأن قوله: "بين أظهرنا" مذكور في رواية أبي بكر بن أبي شيبة أيضًا (وَقَالَ) أي عليّ بن حجر أيضًا ("مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ") أي بدل قول أبي بكر: "ما أحدثت بعدك"، والضمير فيه لأمته، وأما في "أحدث" فللعبد المختَلَج، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 3/ 136 - 137.

ص: 335

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 899 و 900](400)، و (أبو داود) في "الصلاة"(784)، و (النسائيّ) فيها (2/ 133 - 134)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 602)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 102 و 126 و 217 و 240 و 245 و 290)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1654 و 1655)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(888)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 64)، وفي "البعث والنشور"(ص 110)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3/ 49 و 50)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن البسملة في أوائل السور من القرآن، وهو مقصود المصنّف بإدخال الحديث هنا، ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أُنزلت عليّ سورة"، ثم بيّن أن البسملة من جملة السورة، فدلّ على أنه ينبغي قراءتها معها.

2 -

(ومنها): جواز النوم في المسجد؛ لأن هذه القصّة وقعت في المسجد، كما بينته رواية عليّ بن حجر المذكورة.

3 -

(ومنها): جواز نوم الإنسان بحضرة أصحابه.

4 -

(ومنها): جواز التبسّم، وهو من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الترمذيّ: بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه قال:"ما كان ضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا تبسُّمًا"، وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة"، حيث قال:

لَمْ يُرَ ضَاحِكًا بِمِلْءِ فِيهِ

ضَحِكُهُ تَبَسُّمٌ يُبْدِيهِ

5 -

(ومنها): أنه إذا رأى التابع من متبوعه تبسّمًا أو غيره مما يقتضي حدوث أمر يُستَحَبّ له أن يسأل عن سببه.

6 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ الحوض، وبيان سعته، وكثرة آنيته، والإيمان

ص: 336

به واجب، وسيأتي بسطه حيث ذكر المصنّف رحمه الله أحاديثه في آخر الكتاب -إن شاء اللَّه تعالى-.

7 -

(ومنها): بيان كثرة عناية اللَّه تعالى بنبيّه صلى الله عليه وسلم، وكمال فضله عليه، كما قال تعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

8 -

(ومنها): بيان تفسير الكوثر الذي أعطاه اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التفسير الذي يجب تقديمه على سائر التفاسير الآتية في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

9 -

(ومنها): أن الحديث دليل واضح لقول من قال: إن هذه السورة مدنيّة؛ لأن أنسًا رضي الله عنه حضر نزولها، كما بيّنه بقوله:"بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا. . ." الحديث، وهو قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد، وقيل: مكيّةٌ، وهو قول ابن عباس، والكلبيّ، ومقاتل، كما عزاه إليهم القرطبيّ في "تفسيره"، والأول أقوى؛ لظهور حجته، واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): الوعيد الشديد لمن بدّل سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم وابتدع في دينه ما لم يأذن به اللَّه، حيث إنه يُطرَد عن هذا الحوض الذي يسع أمته صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك اليوم الشديد العطش، نسألك اللهمّ أن تجعلنا ممن يلزم سنة نبيّك صلى الله عليه وسلم، ويجتنب الابتداع في شريعته حتى نرد حوضه، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تفسير الكوثر الذي أُعطيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه على سبعة عشر قولًا:

(الأول): أنه نهر في الجنّة.

(الثاني): حوضه صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء.

(الثالث): النبوّة، والكتاب، قاله عكرمة.

(الرابع): القرآن، قاله الحسن.

(الخامس): الإسلام، حكاه المغيرة.

(السادس): تيسير القرآن، وتخفيف الشرائع، قاله الحسين بن الفضل.

ص: 337

(السابع): كثرة الأصحاب، والأمّة، والأشياع، قاله أبو بكر بن عيّاش، ويمان بن رئاب.

(الثامن): أنه الإيثار، قاله ابن كيسان.

(التاسع): رفعة الذكر، حكاه الماورديّ.

(العاشر): نور في قلبك دلّك عليّ، وقطعك عما سواي.

(الحادي عشر): الشفاعة.

(الثاني عشر): معجزات الربّ، هُدي بها أهلُ الإجابة لدعوتك، حكاه الثعلبيّ.

(الثالث عشر): هو: لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه، قاله هلال بن يساف.

(الرابع عشر): الفقه في الدين.

(الخامس عشر): الصلوات الخمس.

(السادس عشر): هو العظيم من الأمر، قاله ابن إسحاق.

(السابع عشر): ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه اللَّه إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جُبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنّة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنّة من الخير الذي أعطاه اللَّه إياه.

قال القرطبيّ رحمه الله: أصحّ هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابتٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصًّا في الكوثر، وسمع أنس رضي الله عنه قومًا يتذاكرون الحوض، فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يَتَمَارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلّي امرأة منهنّ إلا سألت اللَّه أن يسقيها من حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وفي حوضه يقول الشاعر:

يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ مَنْ يُدَانِيكَا

وَأَنْتَ حَقًّا حَبِيبُ بَارِيكَا

قال: وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زيادةً على حوضه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

قال في "الفتح"(13/ 299): أخرج نحوه أبو يعلى بسند صحيح. انتهى.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 20/ 216 - 218.

ص: 338

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أصحّ الأقوال في تفسير الكوثر هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث، وهو أنه نهر في الجنّة، وعده اللَّه تعالى إياه، وهو لا ينافي تفسيره بالحوض، فإن الكوثر يصبّ في الحوض، كما بينته الروايات الأخرى، وأما ما ذُكر في الأقوال الأخرى، وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أُعطيه، لكن كونه هو المراد من الآية المذكورة غير صحيح، فلا ينبغي الالتفات إليه، ويُعتذر عن الذين أقدموا في ذكره تفسيرًا للآية بأنهم لم يبلغهم ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يمكن لأحد أن يجترئ في تفسير آية خلاف تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي وَكَلَ اللَّه تعالى بيان القرآن إليه، فقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، فهو الأعلم بمراد اللَّه سبحانه وتعالى، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[900]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنسً بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِغْفَاءَةً، بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ:"نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ حَوْضٌ"

(1)

، وَلَمْ يَذْكُرْ:"آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) عن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضَّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفى، صدوق، رمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

والباقيان تقدّما في المسند الماضي.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف، كسابقه، وهو (40) من

(1)

وفي نسخة: "عليه حوضي".

ص: 339

رباعيّات الكتاب، وشيخه أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ: "آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ") هكذا قال المصنّف رحمه الله، وهذه الرواية بإسقاط هذه الجملة، لم أجدها، والظاهر أن المصنّف وقعت له هكذا، وإلا فالروايات التي اطّلعت عليها فيها ما سيأتي في التنبيه التالي.

[تنبيه]: رواية ابن فُضيل هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "كتاب السنّة" من "سننه"، فقال:

(4747)

حدثنا هَنّاد بن السّريّ، حدثنا محمد بن فُضيل، عن المختار بن فُلْفُل، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: أغفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، فرفع رأسه متبسمًا، فإما قال لهم، هاما قالوا له: يا رسول اللَّه لِمَ ضَحِكْتَ؟ فقال: "إنه أنزلت عليّ آنفًا سورةٌ"، فقرأ:"بسم اللَّه الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} "، حتى ختمها، فلما قرأها، قال:"هل تدرون ما الكوثر؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة، وعليه خير كثير، عليه حوضٌ تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب".

وأخرجها أيضًا في "كتاب الصلاة"، فقال:

(784)

حدثنا هناد بن السَّرِيّ، حدثنا ابن فُضيل، عن المختار بن فُلْفُل، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُنزلت عليّ آنفًا سورةٌ، فقرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} " حتى ختمها، قال:"هل تدرون ما الكوثر؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة".

ففي الرواية الأولى ذكر "آنيته عدد الكواكب"، والثانية مختصرة، حُذف منها:"وعليه خير كثير. . . إلخ"، وكلاهما مخالف لما أشار إليه المصنّف رحمه الله.

وأخرجها أيضًا أحمد في "مسنده"، فقال:

(11558)

حدثنا محمد بن فُضيل، عن المختار بن فُلْفُل، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: أغفى النبيّ صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، فرفع رأسه متبسمًا، إما قال لهم، وإما قالوا له: لِمَ ضَحِكتَ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه أنزلت عليّ آنفًا

ص: 340

سورة"، فقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} " حتى ختمها، قال: "هل تدرون ما الكوثر؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: "هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، يَرِد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُخْتَلج العبد منهم، فأقول: يا رب، إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". انتهى.

وهذه أيضًا مخالفة لما أشار إليه المصنّف؛ كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَوَضْعِهِمَا فِي السُّجُودِ عَلَى الأَرْضِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ)

[تنبيه]: ترجم النوويّ رحمه الله وتبعه الشرّاح هنا بقوله: (بَابُ وَضْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ تَحْتَ الصَّدْرِ فَوْقَ سُرَّتِهِ، وَوَضْعِهِمَا فِي السُّجُودِ عَلَى الأَرْضِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ) وهذا هو الذي أشرت إليه في المقدّمة بأن بعض تراجم الشرّاح -كالنوويّ- ليست كما ينبغي؛ إذ يترجمون على حسب مذهبهم، لا على حسب ما اقتضاه الحديث المذكور في الباب، فهنا الحديث لا يدلّ على كون الوضع تحت الصدر وفوق السرّة، وإنما هذا جار على ما يراه النووي في مذهبه، فالأولى إسقاط هذا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[901]

(401) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، حَدَّثنَا عَفَّانُ، حَدَّثنَا هَمَّامٌ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، حَدَّثَنِي

(1)

عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، وَمَوْلًى لَهُمْ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رفَعَ يَدَيْهِ حِينَ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 341

دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، وَصَفَ هَمَّامٌ حِيَالَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(هَمَّام) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ) -بضمّ الجيم، وتخفيف الحاء المهملة- الأوديّ، أو الإياميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أنس، وزياد بن عِلاقة، وعطاء بن أبي رَبَاح، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، ونافع مولى ابن عمر، وأبي حازم الأشجعيّ، وعبد الجبار بن وائل بن حُجْر، وغيرهم.

وروى عنه ابنه إسماعيل، وشعبة، وإسرائيل، وهمام، وعمران القطان، والسفيانان، وزهير بن معاوية، وشَريك النخعيّ، وعبد الوارث بن سعيد، وجماعة.

قال أبو طالب، عن أحمد: محمد بن جُحَادة من الثقات، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوقٌ ثقةٌ، محلُّه محل عمرو بن قيس الملائيّ، وقال محمد بن حُميد الرازيّ، عن جرير: رأيته وكان زاهدًا يلبس الْخُلْقان يغسلها، وقال في موضع: نظيف الثياب، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان لا يأخذ عن كل أحد، وأثنى عليه، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في طبقة أتباع التابعين: كان عابدًا ناسكًا، مَن زَعَم أنه سمع من أنس بن مالك، فقد وَهِم، تلك الروايات ينفرد بها يحيى بن

ص: 342

عقبة بن أبي العيزار، وهو وَاهٍ، وقال العجليّ، وعثمان بن أبي شيبة: ثقةٌ، زاد عثمان: لا بأس به، وقال يعقوب بن سفيان: من ثقات أهل الكوفة، وقال أبو عوانة: كان يغلو في التشيع، نقله عنه العقيليّ، واللَّه أعلم.

قال القرّاب: إنه مات سنة إحدى وثلاثين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا وحديث (1321):"نُقَلِّدُ الشاءَ، فنرسل بها، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حلال. . .".

5 -

(عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِل) بن حُجْر الْحَضْرميّ الكوفيّ، أبو محمد، ثقةٌ، لكنه أرسل عن أبيه [3].

رَوَى عن أبيه، وعن أخيه علقمة، وعن مولى لهم، وعن آل بيته، وعن أمه أم يحيى، وقيل: لم يسمع من أبويه.

وروى عنه ابنه سعيد، والحسن بن عبد اللَّه النخعيّ، ومحمد بن جُحَادة، وأبو إسحاق السبيعيّ، وفِطْر بن خَلِيفة، ومسعر بن كِدَام، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثبتٌ، ولم يسمع من أبيه شيئًا، وقال أبو داود، عن ابن معين: مات وهو حمل، وقال رَقَبَة بن مَصْقَلة: سمعت طلحة بن مُصَرِّف يقول: ما بالكوفة رجلان يزيدان على محمد بن سُوقة وعبد الجبار بن وائل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وقال غيره: وُلد بعد موت أبيه، قال الحافظ المزيّ: وهذا القول ضعيف جدًّا، فإنه قد صح أنه قال: كنت غلامًا لا أعقل صلاة أبي، ولو مات أبوه وهو حمل لم يقل هذا القول، ونص أبو بكر البزار على أن القائل:"كنت غلامًا لا أعقل صلاة أبي" هو علقمة بن وائل، لا أخوه عبد الجبار، وقال الترمذيّ: سمعت محمدًا يقول: عبد الجبار لم يسمع من أبيه، ولا أدركه، وقال ابن حبان في "الثقات": من زعم أنه سمع أباه فقد وَهِمَ؛ لأن أباه مات وأمه حامل به، وقال البخاريّ: لا يصح سماعه من أبيه، مات أبوه قبل أن يولد، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء اللَّه تعالى، قليل الحديث، ويتكلمون في روايته عن أبيه، ويقولون: لم يلقه، وبمعنى هذا قال أبو حاتم، وابن جرير الطبريّ، والجريريّ، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب ابن شيبة، والدارقطنيّ، والحاكم، وقبلهم ابن المدينيّ، وآخرون.

ص: 343

أخرج له المصنّف والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

6 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِل) بن حُجْر الْحَضْرميّ الكوفيّ، صدوقٌ [3](ي م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

7 -

(وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ) -بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم- ابن سعد بن مسروق الحضرميّ الصحابيّ الجليل، وكان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، مات رضي الله عنه في ولاية معاوية رضي الله عنه تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من محمد بن جُحادة، وشيخه نسائيّ، ثم بغداديّ، والباقيان بصريّان.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: محمد بن جُحادة، عن عبد الجبّار، عن علقمة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الأخ عن أخيه، عن أبيهما: عبد الجبّار، عن علقمة، عن أبيه رضي الله عنه.

[تنبيه]: قال في "التقريب": لم يسمع علقمة من أبيه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال، وهو قول ابن معين، وقد خالفه الأكثرون، فأثبتوا سماعه، فممن أثبته الإمام البخاريّ، فقد قال في "التاريخ الكبير" (4/ 41): سمع أباه، والترمذيّ في "جامعه"، فقال في "باب ما جاء في المرأة إذا استُكرهت على الزنا": علقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبّار بن وائل، وعبد الجبّار لم يسمع من أبيه، وأثبته أيضًا ابن حبّان فقال في "الثقات" (5/ 209): علقمة سمع من أبيه.

وقد وقع التنصيص بسماعه عند المصنّف، فسيأتي في "كتاب الحدود": وحدّثنا عبيد اللَّه بن معاذ العنبريّ، حدّثنا أبي، حدّثنا أبو يونس، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل حدّثه أن أباه حدّثه، قال:"إني لقاعد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث.

وتقدّم أنه أخرج له عن أبيه في "كتاب الإيمان"(64/ 370) في الأصول،

ص: 344

وكذا يأتي له في مواضع في الأصول، فلولم يثبت عنده أنه سمع منه لما أخرج له في الأصول.

ووقع أيضًا تصريحه بالسماع عند النسائيّ في "المجتبى"(2/ 194) قال: أخبرنا سُويد بن نصر، أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك، عن قيس بن سُليم العنبريّ، حدثني علقمة بن وائل، حدّثني أبي، قال:"صلّيت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث، وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه أيضًا البخاريّ في "جزء رفع اليدين" قال: حدّثنا أبو نُعيم الفضل بن دُكين، أنبأنا قيس بن سُليم العنبريّ، قال:"سمعت علقمة بن وائل بن حُجر، حدّثني أبي. . ." الحديث.

والحاصل أن الصحيح سماع علقمة من أبيه، ولم ينف سماعه منه إلا ابن معين فيما أظنّ كما قاله في "الميزان"(3/ 108)، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، وَمَوْلًى لَهُمْ) لا يُعرف، كما نبّه عليه صاحب التنبيه"

(1)

، ولكن لا يضرّ إبهامه؛ لأنه متابع لعلقمة، فتنبّه. (أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِيهِ) الضمير لعبد الجبّار، ويحتمل أن يكون لعلقمة، والأول أوضح (وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) -بضمّ، فسكون- (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل؛ لأن "رأى" هنا بصريّة، فتتعدّى إلى مفعول واحد (حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ) الظرف متعلّق بـ "رَفَع"، وقوله:(كَبَّرَ) جملةٌ حاليّة إما من فاعل "رأى"، فتكون من الأحوال المترادفة، أو من فاعل "رَفَعَ"، فتكون من الأحوال المتداخلة.

(وَصَفَ هَمَّامٌ) أي ابن يحيى الراوي عن محمد بن جُحادة (حِيَالَ أُذُنَيْهِ) بكسر الحاء المهملة: أي قُبالتهما، ويقال: قعد حِيَاله، وبحيَاله: أي بإزائه

(2)

.

فقوله: "وصف همام" من كلام عفّان بن مسلم أدخله بين المتعاطفين

(1)

"تنبيه المعلم" ص 122.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" 3/ 364.

ص: 345

-أعني قوله: "كبّر"، "ثم التحف"-؛ لبيان وصف شيخه همام كيفيّة الرفع.

يعني أن همّامًا بيّن كيفيّة رفع يديه بكونهما مقابلَ أذنيه، وفيه أن رفع اليدين يكون بمقابلة الأذنين.

وفي رواية النسائيّ من طريق عبد الجبّار بن وائل، عن أبيه:"رفع يديه حتى تكاد إبهاماه تحاذي شحمتي أذنيه"، وفي لفظ:"فلما كبر رفع يديه أسفل من أذنيه"، وفي رواية أبي داود:"رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبّر".

وقد تقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حذو منكبيه، وتقدّم أن الأحسن في الجمع بينه وبين حديث وائل هذا الحمل على اختلاف الأوقات، وأنه يجوز أن يعمل بهما في أوقات مختلفة.

وقد جمع الإمام الشافعيّ رحمه الله بوجه آخر، وهو أن يرفع يديه حذو منكبيه بحيث تُحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه، ويؤيّد جمعه هذا رواية أبي داود المذكورة.

قال النوويّ رحمه الله: وأما صفة الرفع، فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه بحيث تُحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه، فهذا معنى قولهم: حذو منكبيه، وبهذا جمع الشافعيّ رحمه الله بين روايات الأحاديث، فاستحسن الناس ذلك منه. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ) بالبناء للفاعل: أي تغطّى به، يقال: لَحَفه، كمنعه: غطّاه باللِّحَاف ونحوه، والتحف به: تغطَّى، واللِّحَاف ككتاب: ما يُلْتَحَف به

(2)

.

(ثُمَّ وَضَعَ) صلى الله عليه وسلم (يَدَهُ الْيُمْنَى) أي كفّه اليمنى، ففيه إطلاق الكلّ وإرادة الجزء، كما في قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} الآية [البقرة: 19] أي أناملهم (عَلَى الْيُسْرَى) أي على كفّ يده اليسرى (فَلَمَّا أَرَادَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَرْكَعَ، أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا) أي ليمكنه تمام الرفع إلى حيال أذنيه؛ لأنه لا يمكنه ذلك مع الالتحاف (ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"،

(1)

" شرح النووي" 4/ 95.

(2)

راجع: "القاموس" 3/ 194 - 195.

ص: 346

رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ) أي أراد أن يسجد (سَجَدَ بَيْنَ كفَّيْهِ) أي وضع جبهته بين كفّيه، ففيه استحباب السجود بين الكفّين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 901](401)، و (أبو داود) في "الصلاة"(723)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 317)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1596)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(889)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1862)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 61)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 291)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في حكمه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها؛ لقوله: "كَبَّرَ، ثم التَحَف".

3 -

(ومنها): استحباب رفع يديه عند الدخول في الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه.

4 -

(ومنها): استحباب كشف اليدين عند الرفع، ووضع الجبهة بينهما في السجود.

5 -

(ومنها): مشروعيّة التكبير في الدخول في الصلاة، وهو فرض، لا تصحّ الصلاة إلا به عند الجمهور، وتقدّم بيان الخلاف في ذلك في محلّه.

6 -

(ومنها): مشروعيّة التكبير للركوع، والتسميع في الرفع منه.

7 -

(ومنها): ما قاله العلماء: الحكمة في وضع اليدين إحداهما على

ص: 347

الأخرى أنه أقرب إلى الخشوع ومنعهما من العبث

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله ما حاصله: قد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأخذ شماله بيمينه إذا دخل في الصلاة، وكذا نقول.

وممن رأى أن توضع اليمنى على اليسرى في الصلاة: مالك بن أنس، وأحمد، وإسحاق، وحُكي ذلك عن الشافعيّ، وقال أصحاب الرأي: يُستحبّ أن يعتمد بيده اليمنى على اليسرى، وهو قائم في الصلاة.

وقد روينا عن غير واحد من أهل العلم أنهم كانوا يُرسلون أيديهم في الصلاة إرسالًا، ولا يجوز إغفال من أغفل استعمال السنّة، أو نسيها، أو لم يعملها حجةً على من علمها وعمل بها.

فممن روينا عنه أنه كان يرسل: عبد اللَّه بن الزبير، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وابن سيرين، ورُوي أنّ سعيد بن جبير رأى رجلًا يصلي واضعًا إحدى يديه على الأخرى، فذهب ففرّق بينهما. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في "الموطأ"، ولم يَحْك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة.

ومنهم من كره الإمساك، ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يُمسك معتمدًا؛ لقصد الراحة. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"(20/ 74): لم تَختلف الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، ولا أعلم عن أحد من الصحابة في

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 4/ 115.

(2)

"الأوسط" 3/ 92 - 93.

(3)

"الفتح" 2/ 464 - 465.

ص: 348

ذلك خلافًا إلا شيءٌ رُوي عن ابن الزبير أنه كان يرسل يديه إذا صلى، وقد روي عنه خلافه، وعلى هذا جمهور التابعين، وأكثر فقهاء المسلمين، من أهل الرأي والأثر.

فأما اختلاف الفقهاء في هذا الباب: فذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه، والليثُ بن سعد إلى سَدْل اليدين في الصلاة، قال مالك: وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة إنما يُفْعَل ذلك في النوافل من طول القيام، قال: وتركه أحب إلي، هذه رواية ابن القاسم عنه، وقال عنه غير ابن القاسم: لا بأس بذلك في الفريضة والنافلة، وهي رواية المدنيين عنه.

وقال الليث: سدل اليدين في الصلاة أحب إلي إلا أن يطيل القيام فَيَعْيَا، فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى، قال عبد الرزاق: رأيت ابن جريج يصلي في إزار ورداء مسدلًا يديه.

وقال الأوزاعيّ: من شاء فَعَل، ومن شاء تَرَك، وهو قول عطاء.

وقال سفيان الثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهم، والحسن بن صالح، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود بن عليّ، والطبريّ: يضع المصلي يمينه على شماله في الفريضة والنافلة، وقالوا كلهم: وذلك سنة مسنونةٌ.

قال الشافعيّ: عند الصدر، ورُوي عن علي بن أبي طالب أنه وضعهما على صدره، وعن طاوس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشدُّهما على صدره، وهو في الصلاة.

وقال الثوريّ، وأبو حنيفة، وإسحاق: أسفل السُّرَّة، وروي ذلك عن عليّ، وأبي هريرة، والنخعيّ، ولا يثبت ذلك عنهم، وهو قول أبي مِجْلَز، وقال أحمد بن حنبل: فوق السرة، وهو قول سعيد بن جبير، قال أحمد بن حنبل: وإن كانت تحت السرة فلا بأس به.

قال أبو عمر رحمه الله: قد ذكرنا أن الصحابة لم يُرْوَ عن أحد منهم في هذا الباب خلاف لِمَا جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه.

ورُوي عن الحسن رحمه الله وإبراهيم أنهما كانا يرسلان أيديهما في الصلاة،

ص: 349

وليس هذا بخلاف؛ لأن الخلاف كراهية ذلك، وقد يُرسل العالم يديه لِيُري الناسَ أن ليس ذلك بحتم واجب.

وقد ذكر ابن أبي شيبة عن جرير، عن مغيرة، عن أبي مَعْشَر، عن إبراهيم قال: لا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وذَكَر عن عمر بن هارون، عن عبد اللَّه بن يزيد قال: ما رأيت سعيد بن المسيِّب قابضًا يمينه على شماله في الصلاة، كان يرسلهما، وهذا أيضًا يَحْتَمِل ما ذكرنا.

وذَكَر عن يحيى بن سعيد، عن عبد اللَّه بن الْعَيْزار قال: كنت أطوف مع سعيد بن جبير، فرأى رجلًا يصلي واضعًا إحدى يديه على الأخرى، هذه على هذه، وهذه على هذه، فذهب ففرّق بينهما ثم جاء، وهذا يَحْتَمل أن يكون رأى يُسْرَى يديه على يمينه، فانتزعها على نحو ما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صنعه بابن مسعود، وقد رُوي عن سعيد بن جبير ما يُصَحِّح هذا التأويل؛ لأنه ثبت عنه أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى في صلاته فوق السُّرّة.

فهذا ما رُوي عن بعض التابعين في هذا الباب، وليس بخلاف؛ لأنه لا يثبت عن واحد منهم كراهيةٌ، ولو ثبت ذلك ما كانت فيه حجةٌ؛ لأن الحجة في السنة لمن اتبعها، ومن خالفها فهو محجوج بها، ولا سيما سنةٌ لم يثبت عن واحد من الصحابة خلافها. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن المذهب الصحيح هو ما عليه الجمهور، من مشروعيّة وضع اليمنى على اليُسرى في الصلاة؛ لوضوح أدلّته، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في محلّ وضع اليدين في الصلاة:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه على مذاهب:

(1)

"التمهيد" 20/ 74 - 76.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 11/ 136 - 140.

ص: 350

(الأول): مذهب الحنفيّة، قالوا: يضع الرجل تحت السرّة، والمرأة على الصدر.

(الثاني): مذهب المالكيّة، والمشهور عن مالك فيه الإرسال، وقيل عنه: يضع تحت الصدر وفوق السرّة، وعنه التخيير بين الوضع والإرسال.

(الثالث): مذهب الشافعيّة، والذي ذكره الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ" أن يضع فوق السرّة، وقيل: يضع على الصدر، وقيل: تحت السرّة.

(الرابع): مذهب الحنبليّة، والمشهور عن أحمد: أنه يضع تحت السرّة، وعنه: تحت الصدر، وعنه: التخيير بينهما.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح هذه الأقول قول من قال: إنه يضع على الصدر؛ لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه المذكور في الباب، فقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، بلفظ:"صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره".

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح عن قبيصة بن هُلْب، عن أبيه، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، وعن يساره، ورأيته يضع هذه على صدره، ووصف يحيى اليمنى على اليسرى فوق المفصل.

وأخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن طاوس قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشُدُّ بينهما على صدره، وهو في الصلاة"، وهو مرسل صحيح، والمرسل حجة إذا اعتضد، وهنا قد عضده حديثا وائل وهُلْب المذكوران.

والحاصل أن الصحيح أن يضع يمينه على شماله على الصدر، وأما ما عدا ذلك من الأقوال، فأدلّتها كلّها معلولة لا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة.

وقد استوفيت ذكره مع مناقشتها في "شرح النسائيّ"

(1)

، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 11/ 140 - 150.

ص: 351

(16) - (بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[902]

(402) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَال الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ للَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ للَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مَخْلَد الحنظليّ ابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد اللَّه السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقة مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

ص: 352

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال إسحاق: أخبرنا. . . إلخ"، ومعناه أن شيوخه اختلفوا في صيغ الأداء؛ لاختلاف كيفيّة تحمّلهم، وذلك أن إسحاق أخذه عن جرير سماعًا بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا"، وأما زهير وعثمان، فسمعا من لفظه، ولذا قالا: حدثنا.

3 -

(ومنها): مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه: زهير فنسائيّ ثم بغداديّ، وإسحاق فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، على قول من قال: إن منصورًا من صغار التابعين، والأصحّ أنه من تابعي التابعين.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام، ومن كبار علماء الصحابة، وقُرّائهم، وقد أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود، أن أبا بكر وعمر بشّراه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ) وفي رواية الأعمش الآتية: "كنّا إذا جلسنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة"، وفي رواية للبخاريّ:"كنا إذا كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة"(خَلْفَ رَسُولي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"خلف" منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "نقول"(السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ) مقول القول لـ "نقول" محكيّ، وفي رواية للبخاريّ:"قلنا: السلام على اللَّه من عباده"، وفي رواية أبي داود:"السلام على اللَّه قبل عباده"(السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ) وفي رواية البخاريّ: "السلام على فلان وفلان" مكرّرًا، قوله في رواية عند ابن ماجه: "يعنون

ص: 353

الملائكة"، وللسراج: "فنَعُدّ من الملائكة ما شاء اللَّه" (فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فالتفت إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال"، وفي لفظ: "فسمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قولوا".

وظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم كلّمهم بذلك في أثناء الصلاة، لكن بَيَّنَ حفصُ بن غياث في روايته عن الأعمش عند البخاريّ المحلَّ الذي خاطبهم بذلك فيه، وأنه بعد الفراغ من الصلاة، ولفظه:"فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه"، وفي رواية أيضًا:"فلما انصرف من الصلاة قال"، فتبيّن بهذا أنه صلى الله عليه وسلم خاطبهم بذلك بعد فراغه من الصلاة، لا في أثنائها، أفاده في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا من الأيّام، وتقدّم الكلام على "ذات" قريبًا ("إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ) وفي رواية للبخاريّ:"لا تقولوا: السلام على اللَّه، فإن اللَّه هو السلام".

قال البيضاويّ رحمه الله ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على اللَّه، وبَيَّن أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه، وهو مالكها ومعطيها.

وقال التُّورِبشتيّ رحمه الله: وجه النهي عن السلام على اللَّه؛ لأنه المرجوع إليه بالمسائل، المتعالي عن المعاني المذكورة، فكيف يُدْعَى له، وهو المدعُوّ على الحالات؟.

وقال الخطابيّ رحمه الله: المراد أن اللَّه هو ذو السلام، فلا تقولوا: السلام على اللَّه؛ فإن السلام منه بدأ، وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب، ويَحْتَمِل أن يكون مرجعها إلى حظّ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى، يعني السالم من النقائص، ويقال: الْمُسَلِّم أولياءه، وقيل: المسلِّم عليهم، قال ابن الأنباريّ رحمه الله؛ أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق؛ لحاجتهم إلى السلامة، وغناه سبحانه وتعالى

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 363 - 364.

ص: 354

عنها، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: كانوا يسلّمون على اللَّه تعالى أوّلًا، ثم على أشخاص معيّنين من الملائكة والناس، وأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُسلّموا على اللَّه، وبَيَّنَ لهم أن ذلك عكسُ ما يَجِب أن يقال، فإن كلّ سلامة ورحمة له ومنه، فهو مالكها ومُعطيها، فكيف يجوز أن يقال: السلام على اللَّه؛ وأعلمهم أن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملًا لهم، وعلّمهم ما يعمّهم، وأمرهم بإفراد صلوات اللَّه عليه بالذكر؛ لشرفه، ومزيد حقّه عليهم، وتخصيص أنفسهم، فإن الاهتمام بها أهمّ. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(2)

.

(فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ) هذه الرواية تُبَيّن المراد في روايةٍ للبخاريّ: "فإذا صلى أحدكم فليقل" أي في حال قعوده، وللنسائي من طريق أبي الأحوص، عن عبد اللَّه:"كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، وأن محمدًا عُلِّم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا. . ."، وله من طريق الأسود، عن عبد اللَّه:"فقولوا في كل جلسة"، ولابن خزيمة من وجه آخر، عن الأسود، عن عبد اللَّه:"علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة، وفي آخرها"، وزاد الطحاويّ من هذا الوجه في أوله:"وأخذت التشهد من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولَقَّننيه كلمة كلمة"، وفي رواية أبي معمر، عن ابن مسعود الآتية بعد ثلاثة أحاديث:"عَلَّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفّي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن".

(فَلْيَقُل) فيه أن التشهّد واجب، وبه يقول أحمد، وهو الحقّ، وسيأتي بيان الخلاف فيه في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(التَّحِيَّاتُ للَّهِ) جملة من مبتدأ وخبره، في محلّ نصب مقول القول.

و"التحيّات": جمع تَحِيّة، ومعناها: السلام، وقيل: البقاء، وقيل: العظمة، وقيل: السلامة من الآفات والنقص، وقيل: المُلك.

وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية المُلك نفسه، لكنها الكلام الذي

(1)

"الفتح" 2/ 364.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1032.

ص: 355

يُحَيّا به الملك، وقال ابن قتيبة: لم يكن يُحَيّا إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جُمِعت، فكأنّ المعنى: التحيات التي كانوا يُسَلِّمون بها على الملوك كلُّها مستحقَّة للَّه.

وقال الخطابيّ، ثم البغويّ: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على اللَّه، فلهذا أُبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال:"قولوا: التحيات للَّه"، أي أنواع التعظيم له.

وقال المحب الطبريّ: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركًا بين المعاني المقدَّم ذكرُها، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": وقال الخطابيّ: التحيات كلمات مخصوصة، كانت العرب تُحَيِّي بها الملوك، نحو قولهم: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، وقولهم: أنْعَمَ اللَّه صباحًا، وقول العجم: وزى ده هزار سال: أَيْ عِشْ عشرة آلاف سنة، ونحوها من عاداتهم في تحية الملوك عند الملاقاة، وهذه الألفاظ لا يصلح شيء منها للثناء على اللَّه تعالى، فتُرِكت أعيان تلك الألفاظ، واستُعْمِل منها معنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات للَّه: أي أنواع التعظيم للَّه كما يستحقه، ورُوي عن أنس رضي الله عنه في أسماء اللَّه تعالى: السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الأحد الصمد، قال: التحيات للَّه بهذه الأسماء، وهي الطيبات، لا يُحَيَّا بها غيره.

واللام في "للَّه" لام الملك والتخصيص، وهي للأول أبلغ، وللثاني أحسن. انتهى

(2)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: التحية السلامُ، وقد حياه تحيةً، وحَكَى اللِّحيانيّ: حياك اللَّه تحيةَ المؤمن، والتحيةُ: البقاء، والتحية: الْمُلك، وقول زُهَير بن جَنَاب الكلبيّ [من مجزوّ الكامل]:

وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى

قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّهْ

قيل: أراد الملك، وقال ابن الأعرابيّ: أراد البقاء؛ لأنه كان ملكًا في قومه.

وقال سيبويه: تَحِيَّةٌ تَفْعِلَةٌ، والهاء لازمة، والمضاعَف من الياء قليلٌ؛ لأن

(1)

"الفتح" 2/ 364 - 365.

(2)

"عمدة القاري" 6/ 111.

ص: 356

الياء قد تُثَقَّلُ وحدها لامًا، فماذا كان قبلها ياءٌ كان أثقل لها، وقال أبو عبيد: والتحية في غير هذا: السلامُ، وقال الأزهريّ: قال الليث في قولهم في الحديث: التحيات للَّه، قال: معناه: البقاء للَّه، ويقال: الملك للَّه، وقيل: أراد بها السلام، يقال: حيّاك اللَّه: أي سَلَّم عليك، والتحية تَفْعِلة من الحياة، وإنما أدغمت؛ لاجتماع الأمثال، والهاء لازمة لها، والتاء زائدة، وقولهم: حيّاك اللَّه وبَيّاك، اعْتَمَدَك بالملك، وقيل: أضحكك، وقال الفراء: حيّاك اللَّه: أبقاك اللَّه، وحيّاك اللَّه: أي مَلَّكك اللَّه، وحيّاك اللَّه: أي سلَّم عليك، قال: وقولنا في التشهد: التحيات للَّه، يُنْوَى بها البقاء للَّه، والسلام من الآفات، والملك للَّه، ونحو ذلك، وقال أبو عمرو: التحية المُلك، وأنشد قول عمرو بن معد يكرب [من الوافر]:

أَسِيرُ بِهِ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى

أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي

يعني على ملكه، وقال خالد بن يزيد: لو كانت التحية الملك لَمَا قيل: التحيات للَّه، والمعنى السلامات من الآفات كلِّها، وجَمَعَها لأنه أراد السلامة من كل آفة، ورُوي عن أبي الهيثم أنه يقول: التحية في كلام العرب ما يُحَيِّي بعضهم بعضًا إذا تلاقَوْا، قال: وتحية اللَّه التي جعلها في الدنيا والآخرة لمؤمني عباده إذا تلاقَوا، ودعا بعضهم لبعض بأجمع الدعاء أن يقملوا: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، قال اللَّه عز وجل:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} الآية [الأحزاب: 44]، وقال في تحية الدنيا:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية [النساء: 86]، وقيل في قوله:

قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّهْ

يريد إلا السلامة من الْمَنِيَّة والآفات، فإن أحدًا لا يَسْلَم من الموت على طول البقاء، فَجَعَل معنى "التحياتُ للَّه": أي السلام له من جميع الآفات التي تَلْحَق العباد من الْعَنَاء، وسائر أسباب الفناء.

قال الأزهريّ: وهذا الذي قاله أبو الهيثم حسنٌ، ودلائله واضحةٌ، غير أن التحية، وإن كانت في الأصل سلامًا، كما قال خالد، فجائزٌ أن يُسَمَّى الْمُلْك في الدنيا تحيةً، كما قال الفراء وأبو عمرو؛ لأن المَلِك يحيّا بتحية الْمُلْك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم، وكانت تحية ملوك المعجم

ص: 357

نحوًا من تحية ملوك العرب، كان يقال لملكهم: زَهْ هَزَارْ سالْ، المعنى: عِشْ سالِمًا ألف عام، وجائز أن يقال للبقاء: تحيةٌ؛ لأن من سَلِم من الآفات، فهو باق، والباقي في صفة اللَّه عز وجل من هذا؛ لأنه لا يموت أبدًا. انتهى المقصود من كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

(وَالصَّلَوَاتُ) هي الصلوات المعروفة، وهي الخمسة وغيرها، وقال الأزهريّ: الصلوات: العبادات، وقال الشيخ ابن دقيق العيد: يَحْتَمِل أن يراد بها الصلوات المعهودة، ويكون التقدير: أنها واجبة للَّه تعالى، ولا يجوز أن يُقْصَد بها غيره، أو يكون ذلك إخبارًا عن قصد إخلاصنا الصلوات له، أي صلواتنا مُخْلَصَةٌ له لا لغيره، ويجوز أن يراد بالصلوات الرحمة، ويكون معنى قوله:"للَّه" أي المتفضل بها، والمعطي هو اللَّه؛ لأن الرحمة التامة للَّه لا لغيره

(2)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: "الصلوات" فيها أقوال:

[أحدها]: أنها الخمس، قاله ابن المنذر وآخرون، ويكون التقدير: أنها واجبة للَّه تعالى، لا يجوز أن يُقصَد بها غيره، أو تكون كالإخبار عن إخلاصنا الصلوات له، أي صلاتنا مُخْلَصَةٌ للَّه لا لغيره، ومنهم من قال: هي الصلوات كلُّها.

[ثانيها]: أنها الرحمة، أي هو المتفضّل بها، والمعطي لها؛ لأن الرحمة التامّة للَّه لا لغيره، وقرّر بعض المتكلّمين هذا المعنى بأن قال: كلُّ من رَحِمَ أحدًا، فرحمته له بسبب ما حصل له من الرقّة عليه، وهو برحمته دافع لألم الرقّة عن نفسه بخلاف رحمة اللَّه تعالى، فإنها لمجرّد إيصال النفع إلى العبد.

[ثالثها]: أنها الأدعية والتضرّع.

[رابعها]: أنها العبادات، قاله الأزهريّ. انتهى

(3)

.

(وَالطَّيِّبَاتُ) أي الكلمات الطيبات، مما طاب من الكلام، وحَسُنَ أن يُثْنَى به على اللَّه تعالى دون ما لا يليق بصفاته.

(1)

راجع: "لسان العرب" 14/ 216 - 217.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 6/ 158 - 159.

(3)

"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 426 - 427.

ص: 358

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: وأما الطيبات، فقد فُسِّرت بالأقوال الطيبات، ولعلّ تفسيرها بما هو أعمّ أولى، أعني الطيبات من الأفعال والأقوال والأوصاف، وطيّب الأوصاف كونها صفة الكمال، وخلوصها عن شَوْب النقص.

وقال الشيخ حافظ الدين النسفيّ رحمه الله: التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية، والطيبات: العبادات المالية

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: "الطيّبات" أي الكلمات الطّيّبات، وهي ذكر اللَّه تعالى، قاله الأكثرون، وقيل: الأعمال الصالحات، وهو أعمّ من الأول؛ لاشتماله على الأقوال، والأفعال، والأوصاف، وأطيب الأوصاف كونها بصفة الكمال، وخلوصها عن شوائب النقص.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هي الأقوال المصالحة، كالأذكار والدعوات، وما شاكل ذلك، كما قال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]

(2)

.

[فائدة]: الطيّب إن وُصف به الكلام فالحسن، أو العمل فالخالص من شوائب النقص، أو المال فالحلال، أو الطعام فاللذيذ، أو الصعيد فالطاهر، أو العباد فالمؤمن، قال تعالى:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26]. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال البيضاويّ: قوله: "والصلوات، والطيبات" بحرف العطف يحتمل أن يكونا معطوفين على "التحيات"، وأن تكون "الصلوات" مبتدأ، وخبره محذوف، يدلّ عليه "عليك"، "والطيبات" معطوفة عليها، والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثانية لعطف المفرد على المفرد، وفي حديث ابن عباس لم يُذكَر العاطف أصلًا. انتهى.

وقال العينيّ: كلُّ واحدة من "الصلوات"، و"الطيبات" مبتدأ، وخبره محذوفٌ، تقديره: والصلوات للَّه، والطيبات للَّه، فتكون هاتان الجملتان معطوفتين على الجملة الأولى، وهي "التحيات للَّه". انتهى

(4)

.

(1)

"عمدة القاري" 6/ 159.

(2)

"المفهم" 2/ 784.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 426 - 427.

(4)

"عمدة القاري" 6/ 159.

ص: 359

(السَّلَامُ عَلَيْكَ) قال النوويّ: يجوز في "السلام" في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله ظاهره أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، فإن كان مراده من الجواز من جهة العربية فله وجه، وإن كان من جهة مراعاة لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا وجه له، نعم اختُلِف في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: أصل "سلامٌ عليك": سَلَّمتُ سلامًا عليك، ثم حُذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وعُدِل عن النصب إلى الرفع للابتداء؛ للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: السلام بمعنى السلامة، كالْمَقَام والْمَقامة، والسلام اسم من أسماء اللَّه تعالى وُضِع المصدر موضع الاسم مبالغةً، ومعناه أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفناء، ومعنى قولنا:"سلامٌ عليك" الدعاءُ، أي سَلِمتَ من المكاره، وقيل: معناه: اسم السلام عليك، كأنه يتبرك عليه باسم اللَّه عز وجل، والأمثل الدعاء، يدلّ عليه التنكير في قولنا: سلامٌ عليك؛ إذ ليس معناه إلا الدعاء، وعليه ورد التنزيل، قال اللَّه تعالى:{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 15]، ومنه التسليم على الأموات.

قال: ووجه النهي عن السلام على اللَّه تعالى؛ لأن اللَّه عز وجل هو المرجوع إليه بالمسائل المتوسَّلُ إليه بالدعاء المتعالي عن المعاني التي ذكرناها في التسليم، فأنَّى يُدْعَى له، وهو المدعوّ على الحالات؟ ولأيّ معنى يُطلق عليه ما يستدعيه حاجة المفطورين، وتقتضيه نقائص المربوبين؟.

قال الطيبيّ رحمه الله: تمام تقريره: أن تسمية اللَّه تعالى بالسلام لِمَا أنه منزَّهٌ مقدَّسٌ عن النقائص والعيوب أن لا يَحُلّ بجنابه الأقدس شائبة خوف، وهذا المعنى مختصّ به؛ لِمَا ورد "أنت السلام"، أي أنت المختصّ به، لا غيرك؛ لتعريف الخبر، و"منك السلام" معناه أن غيرك في معرض النقصان بالخوف، مفتقرٌ إلى جنابك بأن تؤمّنه، ولا ملاذ له غيرك، فدلّ على التخصيص تقديمُ الخبر على المبتدأ، "وإليك يعود السلام" يعني إذا شُوهد في الظاهر أن أحدًا

ص: 360

آمنَ غيرَهُ، فهو في الحقيقة راجعٌ إليك، وإلى توفيقك إياه، وأنه غير مستقلّ به، ومن ثَمّ قُدّم المعمول على عامله، ثم إذا قلت:"السلام عليك" ناقضت، حيث توهّمت أنه مفتقرٌ إلى ما هو منزَّهٌ عنه من إزالة الخوف. انتهى

(1)

.

[فإن قلت]: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: "السلام عليك أيها النبيّ" مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبيّ، فينتقل من تحية اللَّه إلى تحية النبيّ، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟.

[قلت]: أجاب الطيبيّ رحمه الله بما مُحَصَّله: نحن نَتَّبع لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه الذي علَّمه للصحابة، قال: ومن ذهب إلى الغيبة توخَّى معنى ما يؤدَّى به اللفظ بحسب مقام الغيبة، وقريبٌ منه قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} الآية [آل عمران: 12] بالياء والتاء، فالياء التحتانيّة هو اللفظ المتوعّد به بعينه، والفوقيّة معنى بحسب مقام الخطاب، وينصر هذا التأويل ما رواه البخاريّ في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"علّمني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكفّي بين كفّيه التشهّد، كما يعلّمني السورة من القرآن. . ." إلى قوله: "السلام عليك، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِض قلنا: السلام على النبيّ". انتهى

(2)

.

[فإن قلت]: ما الألف واللام في "السلام عليك"؟.

[قلت]: قال الطيبي رحمه الله أيضًا: إما للعهد التقديريّ، أي ذلك السلام الذي وُجِّه إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدِّمة مُوَجَّهٌ إليك أيها النبيّ، والسلام الذي وُجِّه إلى الأمم السالفة من الصلحاء علينا وعلى إخواننا.

وإما للجنس، أي حقيقة السلام الذي يَعْرِفه كلُّ أحد أنه ما هو؟ وعمن يَصْدُر؟ وعلى من يَنْزل؟ عليك وعلينا، ويجوز أن تكون للعهد الخارجيّ، إشارةً إلى قوله سبحانه وتعالى:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، ولا شكّ أن هذه التقادير أولى وأحرى من تقدير النكرة. انتهى

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1033 - 1034.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1034.

(3)

"الكاشف" 3/ 1035.

ص: 361

وقال في "العمدة": وقال النسفيّ: يعني السلام الذي سلّم اللَّه عليك ليلة المعراج، فعلى هذا تكون الألف واللام فيه للعهد.

[تنبيه مهمّ]: قد ورد في بعض طُرُق حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم، فيقال بلفظ الخطاب، وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، ففي "كتاب الاستئذان" من "صحيح البخاريّ" من طريق أبي معمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه بعد أن ساق حديث التشهد، قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِض قلنا: السلام -يعني على النبي-، كذا وقع في البخاريّ، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والسَّرّاج، والْجَوْزقيّ، وأبو نعيم الأصبهانيّ، والبيهقيّ، من طرق متعددة إلى أبي نعيم، شيخ البخاريّ فيه، بلفظ:"فلما قُبض قلنا: السلام على النبيّ" بحذف لفظ "يعني"، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي نعيم.

قال السبكيّ في "شرح المنهاج" بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده: إن صحّ هذا عن الصحابة دلّ على أن الخطاب في السلام بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم غير واجب، فيقال:"السلام على النبي".

قال الحافظ: قد صحّ بلا ريب، وقد وجدت له متابعًا قويًّا، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، أن الصحابة كانوا يقولون والنبيّ صلى الله عليه وسلم حيٌّ:"السلام عليك أيها النبيّ"، فلما مات قالوا:"السلام على النبي"، وهذا إسناد صحيح.

وأما ما رَوَى سعيد بن منصور، من طريق أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد. . . فذكره، قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: "السلام عليك أيها النبي" إذ كان حيًّا، فقال ابن مسعود: هكذا عُلِّمنا، وهكذا نُعَلِّم، فظاهر أن ابن عباس قاله بحثًا، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصحّ؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والإسناد إليه مع ذلك ضعيف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه من أنهم كانوا

(1)

"الفتح" 2/ 366.

ص: 362

يقولون بلفظ الخطاب والنبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ، فلما مات قالوه بلفظ الغيبة، إنما هو من اجتهاد ابن مسعود وبعض الصحابة، وليس من تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، فلا يكون دليلًا يُعمل به، ويُترك من أجله ما صحّ نقله من تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا في حياته وبعد مماته:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، بلفظ الخطاب، فهو تعليم باق إلى يوم القيامة، لا يتغيّر، ولا يتبدّل، ولا يدخله نسخ.

والدليل على ذلك ما صحّ من تعليم الصحاب رضي الله عنهم بعده صلى الله عليه وسلم للأمة كلّها، فهذا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قد خطب به على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلافته، وكثير من الصحابة قد سمعوه، وأقرّه عليه، وقد تقدّم أنه حديث صحيح، أخرجه مالك وغيره.

وهذا أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه سيأتي في هذا الباب من "صحيح مسلم" أنه علّم التابعين الحاضرين لديه من أهل البصرة وغيرهم بلفظ الخطاب.

وهذا ابن مسعود رضي الله عنه نفسه قد علّمه التابعين، كأبي وائل، والأسود، وغيرهما كما في هذا الحديث بلفظ الخطاب.

وهذا ابن عبّاس رضي الله عنهما كذلك طاوسًا وغيره، كما سيأتي في الباب بلفظ الخطاب.

وغير هؤلاء ممن تقدّم عنهم ذكر ألفاظ التشهّد المختلفة، فكلّهم قد علّموا التابعين بلفظ الخطاب.

ومن أقوى الأدلّة على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حينما كان حيًّا كان الصحابة متفرّقين في البلدان النائية، كمكة، واليمن، والحبشة، وغيرها من البلدان، فلم يقل لأحد منهم إذا كنت غائبًا عني، فقل:"السلام على النبيّ"، ولو كان ذلك يتغير بتغير الحال، لما أغفله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما أقرّه الوحي على ذلك، قال اللَّه عز وجل:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

ولا يقتضي قول ابن مسعود رضي الله عنه: "قلنا" كونه إجماعًا من الصحابة، بل هو رأي لبعضهم، بدليل ما ذكرناه من تعليم الصحابة، كعمر وغيره رضي الله عنهم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب، وكذا الكلام فيما نُقل عن عطاء وغيره.

والحاصل أن التعليم النبويّ لا يُترك لقول بعض الصحابة اجتهادًا،

ص: 363

فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(أَيُّهَا النَّبِيُّ) قال ابن الملقّن رحمه الله: بالهمز وتركه، والأصل يا أيها النبيّ، فحُذف حرف النداء، وهو لا يُحذف إلا في أربعة مواضع:

1 -

العلم: نحو قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29].

2 -

المضاف: نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286].

3 -

ومن نحو قولهم: من لا يزال محسنًا أَحْسِنْ.

4 -

و"أيُّ" نحو "أيها النبيّ"، و"أيها الناس"، وما أشبه ذلك. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ضبط ابن الملقّن مواضع حذف النداء بأربعة مواضع المذكورة، ولم أره لغيره، والمشهور في كتب النحاة هو الضابط الذي ذكره ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وَذَاكَ فِي اسْمِ الْجِنْسِ وَالْمُشَارِ لَهْ

قَلَّ وَمَنْ يَمْنَعْهُ فَانْصُرْ عَاذِلَهْ

فذكر مما يمتنع حرف النداء فيه المندوب، نحو: وا زيداه، والمضمر، نحو: يا إياك قد كفيتك، والمستغاث، نحو: يا لَزيد، وزاد غيره عليه لفظ الجلالة؛ لئلا تفوت الدلالة على النداء؛ لكونه بـ "أل"، والمنادى البعيد؛ لاحتياجه لمدّ الصوت المنافي للحذف، والمتعجّب منه؛ لأنه كالمستغاث لفظًا وحكمًا، كـ: يا للماء والْعُشْب؛ تعجّبًا من كثرتهما، فصارت الجملة سبعة، واختُلف في اسم الإشارة، واسم الجنس، كما أشار إليه في البيت الثاني، وتمام البحث في شروح "الخلاصة"، وحواشيها، فارجع إليه

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قلت]: لِمَ لم يقل: أيها الرسول؟.

[أجيب]: بأنه أثبت له الرسالة بعدُ في آخر التشهد، فقصد الجمع بين الصفتين، وإن كانت الرسالة تلازم النبوّة، لكن التصريح بها أبلغ في الكمال، وقدّم ذكر النبوّة على الرسالة؛ لوجودها كذلك في الخارج؛ لنزول قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] قبل قوله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1 - 2].

(1)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 113 - 114.

ص: 364

وقال الخطابيّ رحمه الله في "إعلامه" في حديث: "آمنت بكتابك الذي أنزلت": لو قال: وبرسولك، الذي أرسلت لكان تكرارًا؛ إذ كان نبيًّا قبل أن يكون رسولًا، فجمع له النبأ بالاسمين جمعًا

(1)

.

(وَرَحْمَةُ اللَّهِ) قال العينيّ: الرحمة عبارة عن إنعامه عليه، وهو المعنى الغائيّ؛ لأن معناها اللغويّ الْحُنُوّ والعطف، فلا يجوز أن يوسف اللَّه به. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العينيّ من أن اللَّه تعالى لا يوسف بالرحمة بمعناها اللغوي غير صحيح؛ فإن تفسير الرحمة بما ذُكر إنما هو إذا وُصف بها المخلوق، وأما إذا وُصف بها الربّ سبحانه وتعالى فلها المعنى اللائق بجلاله، فالصواب أنه تعالى يوسف بصفة الرحمة اللغويّة بالمعنى اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، لا بالمعنى الذي يكون للمخلوق، فلا يلزم عليه تشبيه، ولا تمثيل، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال ابن الملقّن: الأظهر أن المراد بالرحمة نفس الإحسان، ويَحْتَمِل أن يريد إرادة الإحسان، بمعنى الإخبار عن سبق علمه في إرادته، لكن المراد الدعاء له بالرحمة، والدعاء إنما يتعلّق بالممكن، وهو نفس الإحسان، لا الإرادة؛ لأنها قديمة. انتهى.

قال الجامع: كلام ابن الملقّن هذا من نوع كلام العينيّ، وجوابه جوابه، فتفطّن، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(وَبَرَكَاتُهُ) جمع بركة، وهي النماء والزيادة من الخير، ويقال: البركة جِمَاع كلّ خير.

وقال في "العمدة": البركة: الخير الكثير من كل شيء، واشتقاقها من الْبَرْك -بفتح، فسكون- وهو صَدْرُ البعير، وبَرَك البعير: ألقى بَرْكَه، واعتُبِر منه معنى اللزوم، وسُمِّي مَحْبس الماء بِرْكة -بكسر، فسكون- للزوم الماء فيها.

وقال الطيبيّ رحمه الله: البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشيء، سُمِّي بذلك؛ لثبوت الخير فيه ثبوتَ الماء في الْبِرْكَة، والمباركُ ما فيه ذلك الخير، وقال

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 431 - 432.

ص: 365

تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} الآية [الأنبياء: 50]؛ تنبيهًا على ما يَفِيض منه من الخيرات الإلهية، ولما كان الخير الإلهيّ يَصْدُر من حيث لا يُحَسُّ، وعلى وجه لا يُحْصَى، قيل لكل ما يُشاهَد فيه زيادةٌ غير محسوسة: هو مبارَك، أو فيه بركةٌ. انتهى

(1)

.

(السَّلَامُ عَلَيْنَا) جملة من مبتدأ وخبر، مستأنفةٌ، أريد بها إنشاء الدعاء، وأراد بالضمير الحاضرين من الإمام والمأمومين، والملائكة عليهم الصلاة والسلام.

(وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) عطف على الجارّ والمجرور قبله، والصالح هو القائم بما عليه من حقوق اللَّه تعالى، وحقوق العباد، والصلاحُ: هو استقامةُ الشيء على حالة كماله، كما أن الفساد ضدُّه، ولا يَحصُل الصلاح الحقيقيّ إلا في الآخرة؛ لأن الأحوال العاجلة، وإن وُصِفت بالصلاح في بعض الأوقات، لكن لا تخلو من شائبة فساد وخلل، ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة خُصُوصًا لزمرة الأنبياء؛ لأن الاستقامة التامّة لا تكون إلا لمن فاز بالْقَدَح الْمُعَلَّى، ونال المقام الأسنى، ومن ثَمّ كانت هذه المرتبة مطلوبةَ الأنبياءِ والمرسلين، قال اللَّه تعالى في حق الخليل عليه السلام:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]، وحَكَى عن يوسف عليه السلام أنه دعا بقوله:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]

(2)

.

(فَإِذَا قَالَهَا) وفي لفظ للبخاريّ: "فإنكم إذا قلتموها"، أي إذا قلتم:"وعلى عباد اللَّه الصالحين".

قال في "العمدة": قوله: "فإنكم إذا قلتموها" إلى قوله: "والأرض" جملة معترضة بين قوله: "وعلى عباد اللَّه الصالحين"، وبين قوله:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه"، والضمير المنصوب في "قلتموها" يرجع إلى قوله:"وعلى عباد اللَّه الصالحين"، وفائدة هذه الجملة المعترضة الاهتمامُ بها؛ لكونه أنكر عليهم عَدّ الملائكة واحدًا واحدًا، ولا يمكق استيعابهم لهم مع ذلك، فعَلَّمهم لفظًا يَشْمَل

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1035.

(2)

"الكاشف" 3/ 1035 - 2036.

ص: 366

الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم، بغير مشقَّة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وردت هذه الجملة في بعض الطُّرُق في آخر الكلام بعد سياق التشهد متواليًا، والظاهر أنه من تصرف الرواة، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(أَصَابَتْ) أي الدعوة (كُلَّ عَبْدٍ للَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وفي رواية للبخاريّ عن مُسَدَّد، عن يحيى:"أو بين السماء والأرض"، والشك فيه من مسدد، وفي رواية الإسماعيليّ بلفظ:"من أهل السماء والأرض".

قال الترمذيّ الحكيم: من نظر أن يَحْظى بهذا السلام الذي يُسلّمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حُرِم هذا الفضل العظيم. انتهى.

وقال الفاكهانيّ: ينبغي للمصلّي أن يستحضر في هذا المحلّ جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني ليتوافق لفظه مع قصده. انتهى

(2)

.

وقال القفّال الشاشيّ: ترك الصلاة يضرّ بجميع المسلمين؛ لأن المصلّي يقول: اللَّهمّ اغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، ولا بدّ من قوله في التشهّد:"السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"، فيكون مقصّرًا في خدمة الخالق، وفي حقّ رسوله صلى الله عليه وسلم بترك الصلاة عليه، وفي حقّ نفسه بترك مسألة النعمة والمغفرة، وفي حقّ كافّة المسلمين، فيعمّ الفساد، ولذلك عظُمت المعصية بتركها، ذكره ابن الملقّن

(3)

.

وزاد في "الفتح": واستنبط منه السبكيّ أن في الصلاة حقًّا للعباد مع حقّ اللَّه، وأن من تركها أخلّ بحقّ جميع المؤمنين، مَن مَضَى ومن يجيء إلى يوم القيامة؛ لوجوب قوله فيها:"السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين". انتهى

(4)

.

[فائدة]: لَمّا خصّ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بكلمات أربع، هي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، أعطى منها سهمًا لإخوانه الأنبياء،

(1)

"عمدة القاري" 6/ 160 - 161.

(2)

راجع: "الفتح" 2/ 579.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 433 - 434.

(4)

"الفتح" 2/ 582.

ص: 367

وسهمًا لأمته، وسهمًا للملائكة، وسهمًا لصالحي الجنّ بقوله:"السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين"؛ لأنه يعمّهم.

وقال الشيخ عزّ الدين في "مقاصد الصلاة": بدأ أوّلًا بالثناء على اللَّه؛ لأنه الأهمّ المقدّم، ثم بالسلام على النبيّ؛ لأنه الأهمّ بعد الثناء على اللَّه، ثم ثلّث بنفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك"، ثم ختم بعباده الصالحين، وهذا قول نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [نوح: 28]، فبدأ بالثناء على اللَّه بالربوبيّة، ثم بالمغفرة لنفسه، ثم لوالديه، ثم للمؤمنين من معارفه، ثم لسائر المؤمنين والمؤمنات، ثم اعترف بأنه لا معبود بحقّ إلا اللَّه؛ تحقيقًا للإيمان، ثم بالرسالة؛ تحقيقًا للإسلام. انتهى

(1)

.

(أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زاد ابن أبي شيبة، من رواية أبي عُبيدة، عن أبيه:"وحده لا شريك له"، لكن سنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في "الموطأ"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الدارقطنيّ إلا أن سنده ضعيف، وقد رَوَى أبو داود من وجه آخر صحيح، عن ابن عمر، في التشهد:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه"، قال ابن عمر: زدت فيها: "وحده لا شريك له"، وهذا ظاهره الوقف، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم" هكذا قال، وهو غير صحيح؛ لأن حديث أبي موسى عند مسلم ليست فيه هذه الزيادة، وإنما هي في رواية النسائيّ في "المجتبى" برقم (1173)، فتنبّه.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: إنما أتى بلفظ الشهادة دون لفظ العلم واليقين؛ لأنه أفضل وأبلغ في معنى العلم واليقين، وأظهر من حيث إنه شهود، وهو مستعملٌ في ظواهر الأشياء وبواطنها، بخلاف العلم واليقين، فإنهما يُستعملان في البواطن غالبًا دون الظواهر، ولهذا قال الفقهاء: لا يصحّ أداء الشهادة عند الحاكم بلفظ دون الشهادة، فلو قال: أعلم، أو أُوقِنُ بكذا لم يصحّ. انتهى

(2)

.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 435 - 436.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 436.

ص: 368

(وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) قال أهل اللغة: يقال: رجل مُحَمَّدٌ، ومحمودٌ إذا كثرت خصاله المحمودة، وقال ابن الفارس: وبذلك سُمِّي نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، يعني لعلم اللَّه تعالى بكثرة خصاله المحمودة.

وقال العينيّ: الفرق بين محمد وأحمد، أن محمدًا مُفَعَّلٌ للتكثير، وأحمد أفعل تفضيل، والمعنى: إذا حَمِدني أحدٌ فأنت أحمدُ منهم، وإذا حَمِدتُّ أحدًا فأنت محمدٌ.

والعبد: الإنسانُ حُرًّا كان أو رقيقًا، يُذْهَب فيه إلى أنه مربوب لباريه عز وجل، وجمعه عَبْدُون، وعَبِيدٌ، وأَعْبُدٌ، وعِبَادٌ، وعُبْدَانٌ -بضم، فسكون-، وعِبْدَانٌ -بكسر، فسكون-، وعِبِدّان -بكسرتين، مشدّدة الدال- ومَعْبَدَةٌ، كمَشْيَخَةٍ، ومَعَابِدُ، وعِبِدّاءُ -بكسرتين ممدودًا- وعِبِدّا -بكسرتين مقصورًا- وعُبُدٌ -بضمتين- وعَبُدٌ -بفتح، فضمّ- كنَدُسٍ، ومعبوداء، وجمع جمعه أعابد، هذه هي المجموع التي ذكرها في "القاموس"، وهي خمسة عشر، وزاد عليه الشارح، حتى أوصلها إلى أكثر من خمسة وعشرين وجهًا، فراجعه تستفد

(1)

.

قال السيوطيّ رحمه الله في "عُقُود الْجُمَان": عَبْدٌ في الأصل: وصفٌ غَلَبت عليه الاسميّة، وله عشرون جَمْعًا، نظم ابن مالك منها أحد عشر في بيتين، واستدركتُ عليه الباقي في آخرَيْنِ، قال ابن مالك [من الطويل]:

عِبَادٌ عَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ وَأَعْبُدٌ

أَعَابِدُ مَعْبُودَاءُ مَعْبَدَةٌ عُبُدْ

كَذَلِكَ عِبْدَانٌ وَعُبْدَانُ أُثْبِتَا

كَذَاكَ الْعِبِدَّى وَامْدُدِ انْ شِئْتَ أَنْ تَمُدْ

وزاد السيوطيّ:

وَقَدْ زِيدَ أَعْبَادٌ عُبُودٌ عِبِدَّةٌ

وَخَففْ بِفَتْحٍ وَالْعِبِدَّانُ إِنْ تَشُدْ

وَأَعْبِدَةٌ عَبْدُونَ ثُمَّةَ بَعْدَهَا

عَبِيدُونَ مَعْبُودَى بِقَصْرٍ فَخُذْ تَسُدْ

قال ابن الملقّن رحمه الله: والعبوديّة أشرف أوصاف العبد، وبها نَعَتَ اللَّه تعالى نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته في الدنيا، وهو الإسراء في بدايته ونهايته، حيث قال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية [الإسراء: 1]، {فَأَوْحَى

(1)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 410.

ص: 369

إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10]. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": لم تَختَلف الطرق عن ابن مسعود رضي الله عنه في ذلك -أي قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله"- وكذا هو في حديث أبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وجابر، وابن الزبير عند الطحاويّ وغيره، ورَوَى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم التشهد، إذ قال رجل:"وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده"، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولًا، قل: "عبده ورسوله"، ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب "السنن": "وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه"، ومنهم من حذف "وأشهد"، ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي عزاه في "الفتح" إلى ابن ماجه، هو كذلك عند النسائيّ أيضًا، ولفظه (1174):"وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" كلفظ ابن مسعود، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ") وفي رواية البخاريّ: "ثم يتخيّر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو"، وفي رواية له:"ثم ليتخيّر من الدعاء ما أحبّ"، وفي رواية:"ثم ليتخيّر من الثناء ما شاء"، وفي رواية النسائيّ:"وليتخيّر أحدكم من الدعاء أعجبه إليه"، وفي رواية له:"ثم ليتخيّر بعد ذلك من الكلام ما شاء"، والمراد بالكلام الدعاء بدليل الروايات السابقة.

وفيه مشروعيّة الدعاء في آخر الصلاة قبل السلام بما شاء من أمور الدنيا والآخرة، ما لم يكن إثمًا، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز إلا بالدعوات الواردة في القرآن والسنّة. انتهى

(3)

، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، مع ترجيح مذهب الجمهور -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الإعلام" 3/ 433.

(2)

"الفتح" 2/ 580.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 117.

ص: 370

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 902 و 903 و 904 و 905 و 906](402)، و (البخاريّ) في "الأذان"(831 و 835)، و"الجمعة"(1202)، و"الاستئذان"(6230 و 6265)، و"الدّعوات"(6328)، و"التوحيد"(7381)، و (أبو داود) في "الصلاة"(968)، و (الترمذيّ) فيها (289 و 11051)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 240 - 241 و 3/ 40 - 41)، و (ابن ماجه) فيها (899)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 291)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 414 و 431)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 308)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(704)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1948 و 1949 و 1950 و 1951)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 263)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9885 و 9902)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 138)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(678)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2026 و 2027 و 2028 و 2030)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(890 و 891 و 892 و 893)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة التشهّد في الصلاة.

2 -

(ومنها): أنه استدل بقوله: "فليقل" على وجوب التشهّد، خلافًا لمن لم يقل به كمالك، وأجاب بعض المالكية بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم لَمّا نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]: "اجعلوها في ركوعكم. . ." الحديث، فكذلك التشهد.

وأجاب الكرمانيّ بأن الأمر حقيقته الوجوب، فيُحْمَل عليه إلا إذا دلّ دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود، لحملناه على الوجوب. انتهى.

وفي دعوى هذا الإجماع نظر؛ فإن الإمام أحمد يقول بوجوبه، ويقول بوجوب التشهد الأول أيضًا، وهو الحقّ؛ ففي رواية النسائيّ من طريق أبي

ص: 371

الأحوص، عن عبد اللَّه رضي الله عنه:"كنا لا ندري ما نقول في كلّ ركعتين، وأن محمدًا علم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كلّ ركعتين، فقولوا: التحيّات. . ."، الحديث، وفي رواية له من طريق الأسود، عن عبد اللَّه:"فقولوا في كلّ جلسة. . ." الحديث، وفي رواية ابن خزيمة من طريق الأسود، عن عبد اللَّه:"علَّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهّد في وسط الصلاة، وفي آخرها"، وقد جاء عن ابن مسعود التصريح بفرضية التشهد، وذلك فيما رواه الدارقطنيّ وغيره بإسناد صحيح، من طريق علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"كنا لا ندري ما نقول قبل أن يُفْرَض علينا التشهدُ".

والحاصل أن القول بوجوب التشهد هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلَّى بالألف واللام يعمّ؛ لقوله أوّلًا:"عباد اللَّه الصالحين"، ثم قال:"أصابت كلّ عبد صالح".

4 -

(ومنها): استُدلّ به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي "جامع الترمذيّ" مصحّحًا من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا، فدعا له بدأ بنفسه"، وأصله في "صحيح مسلم"، ومنه قول نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} الآية [نوح: 28]، وقول إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} الآية [إبراهيم: 41].

5 -

(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: في قوله: "أصابت كلّ عبد صالح" دليلٌ على أن للعموم صيغةً

(1)

، وأن هذه الصيغة للعموم، كما هو مذهب الفقهاء، خلافًا لمن توقّف في ذلك من الأصوليين، وهو مقطوع به من لسان العرب، وتصرّفات ألفاظ الكتاب والسنّة عندنا، ومن تتبّع ذلك وجده،

(1)

قال الصنعانيّ رحمه الله: قوله: "على أن للعموم صيغةً" هو هنا الجمع المضاف، والجمع المحلَّى باللام، فإن قوله:"أصابت كلّ عبد" دالٌ على أن "عباد اللَّه"، وهو الأول عامّ، وقوله:"صالح" دالّ على أن "الصالحين"، وهو الثاني عامّ. انتهى. "العدّة حاشية العمدة" 3/ 13.

ص: 372

واستدلالنا بهذا الحديث ذكرٌ لفرد من أفراد لا يُحصَى الجمع لأمثالها، لا للاقتصار عليه. انتهى.

6 -

(ومنها): ما قاله ابن الملقّن رحمه الله: في هذا الحديث من أصول الفقه: أن عطف العامّ على الخاصّ لا يقتضي أن المراد بالعامّ ذلك الخاصّ المتقدّم، بل يُحمَلُ على التشريف والاهتمام به، كما لو تقدّم العامّ، وعُطف عليه الخاصّ، وفيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهّاب، ووجه الاستدلال قوله:"السلام عليك"، "السلام علينا"، وهما خاصّ، ثم عطف عليه "وعلى عباد اللَّه الصالحين"، ويؤخذ من ذلك أيضًا تفضيله صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق؛ لتخصيصه بالسلام، ثم التعميم له ولغيره، ولا شكّ في ذلك، وهو ما قرّره القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قيل: نَعَتَ عباده بالصالحين؛ ليُخرج غيرهم، وخصّ الأول بذلك؛ لأنه كلام ثناء وتعظيم، فيؤخذ منه أن مفهوم الصفة حجة، قاله ابن الملقّن رحمه الله

(2)

.

8 -

(ومنها): أن فيه مشروعيّة تعلّم السنّة والأحكام، وضبطها، وحفظها، كما يُشرع تعليم القرآن، وحفظه، وضبطه؛ لقوله:"كان يعلّمنا التشهّد، كما يعلّمنا السورة من القرآن".

9 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على مسّ المعلّم بعض أعضاء المتعلّم عند التعليم؛ تأنيسًا له وتنبيهًا، ونقل ابن الحاجّ رحمه الله في "مدخله" عن بعض السلف أنهم كانوا لا يبتعدون عن المدرّس، بل يمسّ ثيابُ الطلبة ثوبه؛ لقربهم منه. انتهى

(3)

.

10 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه دلالةً على عدم وجوب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأخير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُعلّمه ابن مسعود، بل علّمه التشهّد، وأمره عقبه أن يتخيّر من المسألة ما شاء، ولم يُعلّمه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وموضع

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 430.

(2)

"الإعلام" 3/ 433.

(3)

"الإعلام" 3/ 445.

ص: 373

التعليم لا يؤخّر فيه البيان، لا سيّما الواجب، وهو مذهب أحمد، ومشهور مذهب مالك، ونقله النوويّ في "شرحه" عن الجمهور، وأوجبها الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب مالك، وهو المذهب الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.

11 -

(ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ من قوله: "فإنكم إذا فعلتم ذلك، فقد سلّمتم على كلّ عبد للَّه" أن من قال لرجل: فلانٌ يُسلّم عليك، ويريد بالسلام هذا أنه لا يكون كاذبًا، ويلزم عليه أن يحنث بذلك إذا حلف أن لا يُسلّم عليه إلا أن يكون له نيّة خاصّة بالسلام، وأيضًا فإن العرف يخالف ذلك، ويشهد بأن هذا غير مسلّم

(1)

.

12 -

(ومنها): مذهب الشافعيّ: أن الواجب من التحيّات خمس كلمات: "التحيّات للَّه، سلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته، سلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه"، وعلّلوا الاقتصار على ذلك بأنه المتكرّر في جميع الروايات.

وفيه إشكال -كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله لأن الزائد في بعض الروايات زيادة من عدل، فوجب قبولها؛ إذ توجّه الأمر بها في قوله صلى الله عليه وسلم:"فليقل: التحيّات. . . إلخ"، والأمر للوجوب.

قال ابن الملقّن رحمه الله: قلت: وكأن الشافعيّ اعتبر في حدّ الأقلّ ما رواه مكرّرًا في جميع الروايات، ولم يكن تابعًا لغيره، وما انفردت به الروايات أو كان تابعًا لغيره جوّز حذفه، لكنه يُشكل على هذا لفظة "الصلوات"، فإنها ثابتة في كلّ الروايات، وليست تابعةً في المعنى، وقد ادّعى الرافعيّ ثبوت "الطيّبات" في جميع الروايات واستشكلها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن الشافعيّ رحمه الله لعلّه لم يثبت لديه اتفاق في الروايات إلا الذي ذكره حَدًّا للواجب، فلم يوجب غيره، فمن أثبت الزائد يلزمه وجوبه؛ لأنه لا عذر له.

والحاصل أن كلّ ما صحّ من الألفاظ الزائدة يجب أن يقوله المصلّي؛

(1)

"الإعلام" 3/ 447.

ص: 374

لظاهر الأمر، وهو للوجوب، كما تقدّم في كلام ابن دقيق العيد رحمه الله آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في ذكر اختلاف صيغ التشهّد:

(اعلم): أن التشهّد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ابن مسعود، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو موسى الأشعريّ، وعائشة، وسمرة بن جندب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وسلمان الفارسيّ، وأبو حميد الساعديّ، وأبو سعيد الخدريّ رضي الله عنهم.

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فقد رواه الأئمة الستة عنه، وقد ذكر المصنّف رحمه الله بعض ألفاظه المختلفة في هذا الباب.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرجه الجماعة أيضًا إلا البخاريّ، عن سعيد بن جبير، وطاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التشهد، كما يعلّمنا السورة من القرآن. . . الحديث، وقد ساقه مسلم أيضًا.

وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو حديث صحيح أخرجه إمام دار الهجرة في "موطئه"، والشافعيّ عنه في "مسنده"، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر، يُعَلِّم الناس التشهد، يقول:"قولوا: التحيات للَّه، الزاكيات للَّه، الطيّبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

وقد أخرجه الحاكم في "مستدركه"، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في "مصنفيهما"، وهو موقوف، ورواه أبو بكر ابن مردويه في كتاب التشهد له مرفوعًا.

قال الدارقطنيّ في "علله": لم يختلفوا في أن هذا الحديث موقوف على عمر رضي الله عنه، قال: ورواه بعض المتأخّرين عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن الزهريّ، عن عروة، عن ابن عَبْدٍ، عن عمر مرفوعًا، ووَهِمَ في

ص: 375

رفعه، والصواب موقوف. انتهى

(1)

.

وأما حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، فأخرجه أبو داود: حدّثنا نصر بن عليّ، حدّثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، سمعت مجاهدًا يحدّث عن ابن عمر، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التشهد:"التحيات للَّه، الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه" -قال: قال ابن عمر: زدت فيها: "وبركاته"- "السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه" -قال ابن عمر: زدت فيها "وحده لا شريك له"- "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي داود، عن نصر بن عليّ، وقال: إسناده صحيح.

وأخرجه الطبراني في "الكبير": حدّثنا أبو مسلم الكشيّ، حدثنا سهل بن بكار، حدثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن عبد اللَّه بن بابي، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد:"التحيات، الطيبات، الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

ورواه الدارقطنيّ من حديث عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا التشهد: التحيّات الطيبات الزاكيات للَّه. . ." إلى آخره، وفيه "أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله"، ثم قال: في إسناده موسى بن عُبيدة، وخارجة بن مصعب، وهما ضعيفان.

ورواه قاسم بن أصبغ أيضًا بإسناد صحيح من حديث مُحارب بن دثار، عن عبد اللَّه بن عمر:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا التشهّد كما يُعلّم المكتّب السورة من القرآن".

وأما حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، فأخرجه النسائيّ، وابن ماجه، والترمذيّ في "العلل"، والحاكم من حديث أيمن بن نابل، حدّثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم اللَّه وباللَّه، التحيات للَّه، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها

(1)

راجع: "العلل" 2/ 180 - 181 رقم (203).

ص: 376

النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسأل اللَّه الجنة، وأعوذ باللَّه من النار".

وصححه الحاكم، وقال النوويّ في "الخلاصة": وهو مردود، فقد ضعَّفه جماعة من الحفاظ، هم أجلّ من الحاكم وأتقن، وممن ضعَّفه البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ، والبيهقيّ، قال الترمذيّ: سألت البخاريّ عنه، فقال: هو خطأ.

وقال النسائيّ: لا نعلم أحدًا تابع لأيمن راويه عن أبي الزبير، عن جابر على هذا الحديث، وخالفه الليث بن سعد في إسناده، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ.

وقال حمزة بن محمد الحافظ: قوله: عن جابر، خطأ، والصواب أبو الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عبّاس، قال: ولا أعلم أحدًا قال في التشهّد: "باسم اللَّه وباللَّه" إلا أيمن بن نابل، عن أبي الزبير. انتهى

(1)

.

وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فأخرجه مسلم، وسيأتي في هذا الباب.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فأخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده"، والبيهقيّ في "سننه" بإسناد جيّد، من حديث القاسم بن محمد، قال: علّمتني عائشة، قالت: هذا تشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "التحيات للَّه، والصلوات، والطيّبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

قال ابن الملقّن رحمه الله: وفي هذه الرواية فائدة حسنة، وهي أن تشهّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلفظ تشهّدنا.

ورواه مالك في "موطئه" عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول إذا تشهّدت: "التحيّات الطيّبات الصلوات الزاكيات للَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده

(1)

راجع: "البدر المنير" 4/ 28 - 29.

ص: 377

ورسوله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، السلام عليكم".

ورواه البيهقيّ، من حديث القاسم أيضًا، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في التشهد في الصلاة في وسطها، وفي آخرها، قولًا واحدًا:"بسم اللَّه، التحيات للَّه، الصلوات للَّه، الزاكيات للَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"، وفي إسناده ابن إسحاق، وصرّح بالتحديث، لكن قال البيهقيّ: إن الرواية الصحيحة عن عائشة ليس فيها ذكر التسمية، إلا ما تفرّد به ابن إسحاق.

قال: وروى ثابت بن هُرمز، عن نافع، عن ابن عمر، وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، كلاهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التسمية قبل التحيّة، وثابت بن هُرمز منكر الحديث ضعيف.

قال الدارقطنيّ في "علله": وروي هذا الحديث عن عائشة مرفوعًا، والصواب وقفه عليها. انتهى

(1)

.

وأما حديث سمُرة بن جُندب رضي الله عنه، فأخرجه أبو داود في "سننه"، من طريق سليمان بن موسى أبي داود، عن جعفر بن سعد بن سَمُرة بن جُندب، حدثني خُبيب بن سليمان بن سَمُرة، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب؟ "أما بعدُ، أَمَرَنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في وسط الصلاة، أو حين انقضائها، فابدؤوا قبل التسليم، فقولوا: التحيات الطيبات والصلوات والملك للَّه، ثم سلِّمُوا على اليمين، ثم سلموا على قارئكم، وعلى أنفسكم".

قال أبو داود: سليمان بن موسى كوفيّ الأصل، كان بدمشق.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث ضعيف؛ لأن رجاله مجاهيل، فجعفر، ومن فوقه مجهولون، واللَّه تعالى أعلم.

وأما حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فرواه الطبرانيّ في "الأوسط"(2917)، فقال:

(1)

راجع: "البدر المنير" 4/ 32 - 34.

ص: 378

حدّثنا إبراهيم

(1)

-يعني الوكيعيّ- قال: حدّثنا عبد الرحمن بن صالح الأزديّ، قال: حدّثنا عمرو بن هاشم، أبو مالك الْجَنْبِيّ، عن عبد اللَّه بن عطاء، قال: حدّثني الْبَهْزيّ، قال: سألت الحسين بن عليّ عن تشهد عليّ؟ فقال: هو تشهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: حَدِّثني بتشهد عليّ، عن تشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"التحيات للَّه، والصلوات والطيبات، والغاديات، والرائحات، والزاكيات، والناعمات السابغات الطاهرات للَّه".

قال الطبرانيّ: لم يرو هذا الحديث عن عبد اللَّه بن عطاء إلا عمرو. انتهى

(2)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث ضعيف؛ لتفرّد عمرو بن هاشم به، وهو ليّن الحديث.

وأما حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما، فرواه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" من حديث ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، قال: سمعت أبا الورد يقول: سمعت عبد اللَّه بن الزبير يقول: "إن تشهد النبيّ صلى الله عليه وسلم: بسم اللَّه، وباللَّه خير الأسماء، التحيات للَّه، الصلوات الطيبات، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، اللهم اغفر لي، واهدني، هذا في الركعتين الأوليين"، قال الطبرانيّ: تفرد به ابن لَهيعة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث ضعيف؛ لتفرّد ابن لَهيعة به، وهو ضعيف.

وأما حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير"(19/ 379)، فقال:

(891)

حدّثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصيّ، ثنا جدّي إبراهيم بن العلاء (ح) وحدثنا جعفر بن محمد الفريابيّ، حدثني إبراهيم بن

(1)

هو إبراهيم بن هاشم البغويّ.

(2)

"المعجم الأوسط" 3/ 200.

ص: 379

العلاء الحمصيّ، ثنا إسماعيل بن عيّاش، عن حَرِيز بن عثمان، عن راشد بن سعد الْمَقْرائيّ، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه كان يُعَلِّم الناس التشهد، وهو على المنبر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التحيات للَّه، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث في إسناده إبراهيم بن العلاء، قال أبو داود: ليس بشيء، ووثقه ابن حبّان، وقال ابن عديّ: مستقيم، إلا في حديث واحد، غير هذا

(1)

.

وأما حديث سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، فأخرجه البزار في "مسنده"، والطبرانيّ في "معجمه"، من طريق عُمر بن يزيد الأزديّ، عن أبي راشد، قال: سألت سلمان الفارسيّ عن التشهد؟ فقال: أُعَلِّمكم كما علمنيهن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد حرفًا حرفًا: "التحيات للَّه، والصلوات والطيبات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا حديث ضعيف؛ لأن في إسناده عُمر بن يزيد الأزديّ، قال ابن عديّ: منكر الحديث

(2)

.

وأما تشهّد أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه، فرواه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" أيضًا، من حديث العبّاس بن سهل، عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتشهّد:"التحيّات للَّه، الصلوات الطيّبات الزاكيات للَّه، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا حديث ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده الواقديّ، واللَّه تعالى أعلم.

وأما حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فأخرجه الطحاويّ من حديث أبي

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 79.

(2)

راجع: "البدر المنير" 4/ 37.

ص: 380

المتوكل، عنه، قال: كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة من القرآن، ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود رضي الله عنه.

وفي الباب عن الحسين بن عليّ، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأنس، وأبي هريرة، والفضل بن عباس، وأم سلمة، وحذيفة، والمطلب بن ربيعة، وابن أبي أوفى رضي الله عنهم، قالوا: جملةُ مَن رَوَى في التشهد من الصحابة أربعة وعشرون صحابيًّا، فإن أردت تمام البحث، فراجع ما كتبته في "شرح النسائيّ"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التشهّد:

قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في التشهد، هل هو واجب أم سنة؟ فقال الشافعيّ رحمه الله وطائفة: التشهد الأول سنةٌ، والأخير واجبٌ، وقال جمهور المحدثين: هما واجبان، وقال أحمد رحمه الله: الأول واجب، والثاني فرضٌ، وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللَّه وجمهور الفقهاء: هما سنتان، وعن مالك رحمه الله روايةٌ بوجوب الأخير، وقد وافق من لم يوجب التشهد على وجوب القعود بقدره في آخر الصلاة. انتهى

(2)

.

وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم فيمن ترك التشهّد عامدًا أو ساهيًا، فروينا عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال: من لم يتشهّد فلا صلاة له، وقال نافع مولى ابن عمر: من لم يتكلّم بالتحيّة، فلا صلاة له، وكان الحسن البصريّ يقول: إذا أحدث الرجل قبل التشهّد أعاد الصلاة، وإذا أحدث بعد التشهّد فقد تمّت صلاته، ورُوي عنه أنه إذا ترك التشهّد ناسيًا مضت صلاته.

وكان مالك يقول فيمن نسي التشهّد: إن كان وحده، وكان قريبًا، ولم ينتقض وضوؤه، وإن تكلّم ما لم يَطُل ذلك، فليُكبّر، ثم يجلس، فيتشهّد، ثم يسجد سجدتي السهو، ثم يتشهّد ويسلّم، وإن كان طال ذلك، أو تباعد، أو انتقض وضوؤه استأنف الصلاة.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 14/ 133 - 136.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 116.

ص: 381

وقال مالك أيضًا: إذا نسي التشهّد خلف الإمام، فإن الإمام يَحمِل ذلك عنه، وكان الشافعيّ يقول: من ترك التشهّد الأول ساهيًا فلا إعادة عليه، وعليه سجدتا السهو لتركه، ومن ترك التشهّد الآخر ساهيًا أو عامدًا فعليه إعادة الصلاة، إلا أن يكون تركه قريبًا، فيتشهّد ويصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويسجد سجدتي السهو.

وقال أحمد فيمن نسي التشهّد في الركعتين الأوليين: أَحَبّ إليّ أن يُعيد، وإن ترك الجلوس الثاني يستقبل الصلاة.

وقالت طائفة: لا شيء عليه، هذا قول النخعيّ، قال: إذا أحدث حين فرغ من السجود في الركعة الرابعة قبل التشهّد مضت صلاته، وقال الزهريّ، وقتادة، وحماد فيمن نسي التشهّد في آخر صلاته حتى انصرف: تمّت صلاته.

وفي كتاب محمد بن الحسن: فإن ترك التشهّد ساهيًا، قال: أستحسن أن يكون عليه سجدتا السهو.

وقال أبو ثور: إن ترك التشهّد في الركعة الثانية والرابعة فلا صلاة له، إن كان ترك ذلك عامدًا، وإن كان ساهيًا، فترك تشهّد الركعة الثانية، سجد سجدتي السهو. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال بوجوب التشهّدين جميعًا؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل: التحيّات. . . "، وأمره للوجوب، فأما الأول، فإن تركه ناسيًا جبره بسجدتي السهو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، وإن تركه عمدًا أعاد الصلاة؛ للأمر المذكور، وأما التشهّد الأخير، فلا يُجبر بالسجود، بل تجب إعادته مطلقًا؛ لظاهر الأمر المذكور، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

قال أبو محمد بن قُدامة رحمه الله

(2)

ما ملخّصه: التشهّد الأخير والجلوس له من أركان الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: التحيّات. . . "، وأمره يقتضي الوجوب، ولفعله صلى الله عليه وسلم ودوامه عليه، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نقول قبل أن

(1)

"الأوسط" 3/ 217 - 219.

(2)

راجع: "المغني" 1/ 578.

ص: 382

يُفرض علينا التشهّد: السلام على اللَّه قبل عباده. . . " الحديث، رواه النسائيّ بإسناد صحيح، فقد دلّ أنه فُرض بعد أن لم يكن مفروضًا.

والحاصل أن التشهّدين واجبان لا تتمّ الصلاة إلا بهما، إلا أن الأول إذا تُرك سهوًا يُجبر بالسجود؛ لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، بخلاف الثاني، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في اختيار ألفاظ التشهّد:

(اعلم): أنه اختَلَفَ الفقهاءُ في المختار من ألفاظ التشهّد، فذهب أبو حنيفة وأحمد رحمهما اللَّه تعالى إلى اختيار تشهّد ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب؛ لأنه أصحّ ما روي في التشهّد.

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: أصح حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، ثم أخرج عن معمر، عن خُصيف، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: إن الناس قد اختلفوا في التشهد، فقال: عليك بتشهد ابن مسعود.

وأخرج الطبرانيّ في "معجمه" عن بشير بن المهاجر، عن ابن بُريدة، عن أبيه، قال: ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود، وذلك أنه رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تُعُقّب هذا بأنه لا يصحّ أن يكون مرجّحًا؛ لأن غيره كذلك رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا فرق بينه وبين غيره فيه، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الخطابيّ رحمه الله: أصح الروايات وأشهرها رجالًا تشهد ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال ابن المنذر، وأبو عليّ الطوسيّ: قد رُوي حديث ابن مسعود من غير وجه، وهو أصح حديث رُوي في التشهد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو عمر: بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم؛ لثبوت فعله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال عليّ ابن المدينيّ: لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى، وبنحوه قال ابن طاهر.

ص: 383

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا أيضًا فيه نظرٌ، إلا إذا كان المراد: لم يقو قوّته في كونه أكثر طرقًا، ونحو ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: أشدّها صحةً باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس.

وقال البزار: أصحّ حديث في التشهد حديث ابن مسعود، ورُوي عنه عن نيّف وعشرين طريقًا، ثم سَرَد أكثرَها، قال: ولا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالًا.

والطحاوي لما أخرج حديث ابن مسعود في كتابه "شرح معاني الآثار" من اثني عشر طريقًا، وسَرَد الجميع، قال في آخر الباب: فلهذا الذي ذكرنا استحسَنّا ما رُوي عن عبد اللَّه بتشديده في ذلك، ولإجماعهم عليه؛ إذ كانوا قد اتفقوا على أنه لا ينبغي أن يتشهد إلا بخاصّ من التشهد، يعني أن كلهم اتفقوا على أن التشهد لا يكون إلا بألفاظ مخصوصة، ولا يكون بأيّ لفظ كان، فإذا كان كذلك فالمتفق عليه أولى من المختلف فيه، فصار كونه متفقًا عليه دون غيره من مرجحاته؛ لأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه، بخلاف غيره.

وأنّ ابن مسعود تلقاه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلقّيًا، فرَوَى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد، عنه قال: أخذت التشهد من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولقننيه كلمة كلمة، وفي رواية أبي معمر، عنه: علَّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفِّي بين كفيه.

ومن المرجحات أيضًا: ثبوت الواو في "الصلوات"، و"الطيبات"، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناءً مستقلًّا، بخلاف ما إذا حذفت، فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدُّد الثناء في الأول صريح، فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني.

ومنها: أنه ورد بصيغة الأمر، بخلاف غيره، فإنه مجرد حكاية.

ومنها: أن في رواية أحمد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علّمه التشهد، وأمره أن يعلمه الناس، ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: ذهب الشافعيّ رحمه الله إلى أن تشهد ابن عباس رضي الله عنهما-

ص: 384

أفضل؛ لزيادة لفظة "المباركات" فيه، وهي موافقة لقول اللَّه تعالى:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} الآية [النور: 61].

وقال مالك رحمه الله: تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل؛ لأنه علّمه الناس على المنبر، ولم ينازعه أحدٌ، فدَلّ على تفضيله.

وذهب بعضهم إلى عدم الترجيح، منهم ابن خزيمة

(1)

.

فال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح قول من قال باختيار تشهّد ابن مسعود رضي الله عنه، مع جواز غيره مما صحّ من صيغ التشهّد، كتشهّد ابن عبّاس، وتشهّد عمر، وغيرهما مما سبق تصحيحه، وهذا هو الذي رجّحه الإمام ابن المنذر رحمه الله، حيث قال ما حاصله: فأيّ تشهّد تشهّد به المصلّي مما ذكرناه، فصلاته مُجزئةٌ، والذي آخذ به التشهّد الذي بدأت به -يعني تشهّد ابن مسعود رضي الله عنه انتهى

(2)

.

والحاصل أنه يجوز أن يتشهّد بأي نوع من أنواع التشهّدات مما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلا أن الأفضل أن يتشهّد بالمتّفق عليه، وهو تشهّد ابن مسعود رضي الله عنه؛ لِما ذكرنا من وجوه الترجيحات له، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: السنة في التشهد الإخفاء؛ لما رَوَى أبو داود والترمذيّ، بإسناد جيّد، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال:"من السنة أن يُخفي التشهد"

(3)

، وقال: حسن غريب، وصحّحه الحاكم.

وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نزلت هذه الآية في التشهد {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] ". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "البدر المنير" 4/ 37 - 41، و"عمدة القاري" 6/ 164 - 165، وقد أشبعت هذا البحث في "ذخيرة العقبى"، فراجعه تستفد 14/ 107 - 111.

(2)

راجع: "الأوسط" 3/ 209.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" 1/ 259، والترمذيّ في "جامعه" 2/ 84.

ص: 385

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[903]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. . . مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسأَلَةِ مَا شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قبل ببابين، سوى منصور، فتقدّم في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد منصور المذكور في الحديث الماضي.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث منصور الماضي.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ. . . إلخ) الضمير لشعبة، أي لم يذكر شعبة في حديثه عن منصور قوله:"ثم يتخيّر. . . إلخ".

[تنبيه]: رواية شعبة هذه التي أحالها المصنّف على رواية جرير، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3963)

حدّثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت أبا وائل يحدِّث عن عبد اللَّه، قال: كنا نقول: السلام على فلان وفلان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قولوا: التحيات للَّه، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فإنكم إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، سَلَّمتم على كل عبد صالح في الأرض وفي السماء". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[904]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ

(1)

، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا عبد الحميد بن حُمَيد".

ص: 386

زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِهِمَا، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ:"ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ أَوْ مَا أَحَبَّ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) وفي نسخة: "عبد الحميد بن حميد" الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ) هو: الحسين بن عليّ بن الوليد الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثَّقَفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيٌّ [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

ومنصور تقدّم قبله.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد منصور المتقدّم.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِهِمَا) أي مثل حديث جرير وشعبة.

وقوله: (وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ. . . إلخ) الضمير لزائدة، أي ذكر زائدة في حديثه عن منصور قوله:"ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ. . . إلخ".

وقوله: (أَوْ مَا أَحَبَّ) وفي نسخة: "وما أحبّ" بالواو بدل "أو".

[تنبيه]: رواية زائدة التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية جرير ومنصور، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3724)

حدّثنا أبو سعيد

(2)

، حدثنا زائدة، حدّثنا منصور، عن شقيق، عن عبد اللَّه، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول الرجل منا في صلاته: السلام على اللَّه، السلام على فلان، يَخُصّ، فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "إن اللَّه عز وجل هو السلام، فإذا قعد أحدكم في صلاته، فليقل: التحيات للَّه، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه

(1)

وفي نسخة: "ما شاء، وما أحبّ" بالواو بدل "أو".

(2)

الظاهر أنه عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عُبيد مولى بني هاشم الملقّب جَرْدَقَة، صدوق ربما أخطأ من التاسعة، مات سنة (197 هـ). "ت" ص 205.

ص: 387

وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، فإذا قلتم ذلك، فقد سَلَّمتم على كل عبد في السماوات والأرض، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير بعد من الدعاء ما شاء، أو ما أحبَّ". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[905]

(. . .) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَسْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ. . . بِمِثْلِ حَدِيثِ مَنْصُورٍ، وَقَالَ: "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ

(1)

بَعْدُ مِنَ الدُّعَاءِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقة ثبت إمام [10](ت 226) على الأصحّ (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ قارئ ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَنْصُورٍ) يعني أن حديث الأعمش مثلُ حديث منصور المتقدّم.

وقوله: (قَالَ: "ثُمَّ يَتَخيَّرُ") وفي نسخة: "ثم ليتخيّر. . . إلخ"، وفاعل "قال" ضمير الأعمش.

[تنبيه]: رواية الأعمش التي أحالها المصنّف على رواية منصور، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "ثم ليتخيّر".

ص: 388

(4054)

حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن شقيق بن سَلَمة، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: كنا إذا جلسنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على اللَّه قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، السلام على فلان، قال: فسمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن اللَّه هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات للَّه، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فإذا قالها أصابت كلَّ عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير بعدُ من الدعاء ما شاء". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[906]

(. . .) - وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ، كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاقْتَصَّ التَّشَهُّدَ بِمِثْلِ مَا اقْتَصُّوا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكين، وهو لقب أبيه، واسمه عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الكوفيّ الأحول، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 8 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

3 -

(سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ) ويقال: ابن أبي سليمان

(2)

المخزوميّ مولاهم، أبو سليمان المكيّ، سكن البصرة أخيرًا، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر [6].

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وهو الذي وقع في "النسخة الهنديّة "سيف بن أبي سليمان"، والأول هو الذي في كتب الرجال، وهو الصواب.

ص: 389

رَوَى عن مجاهد بن جبر، وقيس بن سعد المكيّ، وأبي أمية البصريّ، وغيرهم.

وروى عنه الثوريّ، ويحيى القطان، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، وابن المبارك، وزيد بن الحباب، وعبد اللَّه بن نمير، وأبو عاصم، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال أحمد: ثقةٌ، وقال عليّ ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: كان عندنا ثبتًا، ممن يَصْدُق ويَحْفَظ، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: ثبتٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ يُرْمَى بالقدر، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن عديّ: حديثه ليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: قال يحيى بن سعيد: كان حيًّا سنة (150)، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (156)، وكان يسكن البصرة في آخر عمره، وقال ابن سعد: تُوُفّي بمكة سنة (155)، وكان ثقة كثير الحديث، وقال الساجيّ: أجمعوا على أنه صدوق، غير أنه اتُّهِمَ بالقدر، وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: رُمِي بالقدر؟ قال: ما أعلمه، وقال العجليّ وأبو بكر البزار: ثقة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا (402)، وحديث (1201) و (1712) و (2067) و (2811).

[تنبيه]: قوله: "حدّثنا سيف بن سليمان"، هكذا هو في بعض النسخ، ووقع في كثير منها "سيف بن أبي سليمان" بزيادة "أبي"، وهو الذي وقع عند أبي عوانة

(1)

، وأبي نعيم في "مستخرجيهما"

(2)

.

(1)

لكن وقع عند أبي عوانة بعدما تقدّم، ما نصّه: قال بعضهم: سليمان بن سيف، غير أبي نعيم. انتهى.

والظاهر أن هذا تصحيف، وإنما هو: قال بعضهم: سيف بن سليمان؛ أي بدون لفظة "أبي"، فليُتأمل.

(2)

راجع: "مستخرج أبي نعيم" 2/ 26، و"مسند أبي عوانة" 1/ 541.

ص: 390

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقوله في سند هذا الحديث: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو نُعيم، ثنا سيف بن أبي سليمان، سمعت مجاهدًا، كذا قال أبو نُعيم: سيف بن أبي سليمان، وتابعه ابن المبارك، وأبو عاصم، وقال وكيعٌ: سيف أبو سليمان، وقال القطّان وغيره: سيف بن سليمان، وذكر الأقوال الثلاثة البخاريّ في "تاريخه الكبير"

(1)

، وهو مكيّ مولى بني مخزوم. انتهى

(2)

.

وفي "التهذيبين"، و"التقريب":"سيف بن سليمان"، ويقال:"ابن أبي سليمان، أبو سليمان المكيّ"، فهذا يدل على أنه يقال فيه بالوجهين، وكذلك كنيته أبو سليمان.

والحاصل أنه يقال له: سيف بن سليمان، وسيف بن أبي سليمان، ويُكنى أبا سليمان، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4 -

(مُجَاهِد) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبت إمام في التفسير وغيره [3](ت 101) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ) -بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفتح الموحّدة- الأزديّ، من أَزْدَ شَنُوءة، أبو معمر الكوفيّ، ثقة [2]، توفي في ولاية عبد اللَّه بن زياد (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.

و"ابن مسعود" تقدّم قبله.

وقوله: (كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ) جملة من مبتدأ وخبره، في محلّ نصب على الحال من الفاعل أو من المفعول.

وقوله: (وَاقْتَصَّ التَّشَهُّدَ بِمِثْلِ مَا اقْتَصُّوا) هذا مشكلٌ؛ لأن الظاهر أن فاعل "اقتصّ" ضمير عبد اللَّه بن سخبرة الراوي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فيكون الظاهر أن يقول:"بمثل ما اقتصّ" بالإفراد؛ ليكون الضمير راجعًا لأبي وائل الراوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا؛ لأنه الذي تُحال عليه رواية ابن سَخْبَرة وضمير "اقتصّوا".

(1)

راجع: "التاريخ الكبير" للبخاريّ 4/ 171.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 295.

ص: 391

ويَحْتمل أن يكون ضمير الجماعة للرواة الذين رووا التشهّد عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقد رواه عنه: أبو وائل، والأسود بن يزيد، وأبو الأحوص، عوف بن مالك بن نَضْلَة، وعلقمة بن قيس. . . وغيرهم، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد اللَّه بن سخبرة التي أحالها المصنّف هنا، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(6265)

حدّثنا أبو نعيم، حدثنا سيف، قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدّثني عبد اللَّه بن سَخْبَرَة، أبو معمر، قال: سمعت ابن مسعود يقول: عَلَّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكفّي بين كفيه- التشهدَ، كما يُعَلِّمني السورة من القرآن:"التحيات للَّه، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِض قلنا: السلام، يعني على النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بدون "يعني"، فقال:

(3925)

حدّثنا أبو نعيم، حدثنا سيفٌ، قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدَّثني عبد اللَّه بن سَخْبَرة أبو معمر، قال: سمعت ابن مسعود يقول: عَلَّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهدَ -كفي بين كفيه- كما يُعَلِّمني السورة من القرآن، قال:"التحيات للَّه، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِض قلنا: السلام على النبيّ. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[907]

(403) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا

ص: 392

يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ:"التَّحِيَّاتُ، الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيبَاتُ للَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ:"كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجَاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

6 -

(طَاوُس) بن كيسان الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 18.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل.

ص: 393

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فقد تفرّد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين: أبو الزبير، عن سعيد وطاوس.

4 -

(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ) من إطلاق الجزء، وإرادة الكلّ، سُمّي باسم جزئه الأشرف، كما هي القاعدة عند البلغاء في تسمية الكلّ باسم البعض

(1)

. (كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي مثل تعليمه لنا السورة من سور القرآن في كمال الاهتمام؛ وذلك لتوقّف الصلاة عليه إجزاءً، كتوقّفها على القرآن، ففيه دلالة ظاهرة على اهتمامه، وإشارة إلى وجوبه (فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ) عند التعليم: قولوا: ("التَّحِيَّاتُ، الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ) قال النوويّ رحمه الله: تقديره: "والمباركات"، و"الصلوات"، و"الطيّبات"، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، ولكن حُذف اختصارًا، وهو جائز في اللغة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ويَحْتَمل أن لا تُقدّر الواو، فتكون "المباركاتُ" وما بعدها صفات لـ "التحيّات".

"والمباركات": جمع مباركة، من البركة، وهي كثرة الخير، وقيل: النماء.

قال الشوكانيّ رحمه الله: وهذه زيادة اشتمل عليها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما كما اشتمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه على زيادة الواو، ولولا وقوع الإجماع كما قدّمنا على جواز كلّ تشهّد من التشهّدات الصحيحة، لكان اللازم الأخذ بالزائد، فالزائد من ألفاظها. انتهى

(2)

.

(1)

"المرعاة" 3/ 237.

(2)

"نيل الأوطار" 3/ 325.

ص: 394

(للَّهِ) جارّ ومجرورٌ خبرٌ عن "التحيّاتُ".

(السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيَّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا) كذا في رواية المصنّف، وأبي داود، وابن ماجه، وأحمد في رواية له بتعريف "السلامُ " في الموضعين، ورواه الترمذيّ، والنسائيّ، والشافعيّ، وأحمد في رواية أخرى بتنكيره فيهما، قال النوويّ رحمه الله: يجوز فيهما حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات "الصحيحين"، قال الحافظ رحمه الله: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود رضي الله عنه بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهو من أفراد مسلم. انتهى

(1)

.

(وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ") انفرد ابن عبّاس رضي الله عنهما بهذا اللفظ؛ إذ في سائر التشهّدات الواردة عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وأبي موسى، وعبد اللَّه بن الزبير، كلّها بلفظ:"وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وأما قول الرافعيّ: المنقول أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في تشهّده: "وأشهد أني رسول اللَّه" فمردود بأنه لا أصل له، قاله القاري.

وروى النسائيّ وابن ماجه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا بلفظ: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

وقد تقدّم أن الشافعيّ رحمه الله اختار تشهّد ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال في "الفتح": قال الشافعيّ بعد أن أخرج حديث ابن عباس رضي الله عنهما: رُويت أحاديث في التشهد مختلفةٌ، وكان هذا أحبّ إليّ؛ لأنه أكملها، وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس رضي الله عنهما: لَمَّا رأيته واسعًا، وسمعته عن ابن عباس صحيحًا، كان عندي أجمع وأكثر لفظًا من غيره، وأخذت به غير مُعَنِّف لمن يأخذ بغيره مما صَحّ، ورجحه بعضهم بكونه مناسبًا للفظ القرآن في قوله تعالى:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، وأما من رجحه بكون ابن عباس من أَحْداث الصحابة، فيكون أضبط لِمَا روى، أو بأنه أفقه من

(1)

"الفتح" 2/ 365.

ص: 395

رواه، أو بكون إسناد حديثه حجازيًّا، وإسناد ابن مسعود كوفيًّا، وهو مما يُرَجَّح به فلا طائل فيه لمن أنصف. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال المجد ابن تيميّة رحمه الله في "المنتقى": رواه مسلم، وأبو داود بهذا اللفظ، ورواه الترمذيّ، وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكّرًا، ورواه ابن ماجه كمسلم، لكنه قال:"وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، ورواه الشافعيّ وأحمد بتنكير السلام، وقالا فيه:"وأن محمدًا"، ولم يذكرا "أشهد"، والباقي كمسلم، ورواه أحمد من طريق آخر كذلك، لكن بتعريف السلام، ورواه النسائيّ كمسلم، لكنه نكّر السلام، وقال:"أشهد أن محمدًا عبده ورسوله". انتهى.

والحديث أخرجه الدارقطنيّ أيضًا في إحدى روايتيه بتعريف السلام فيهما، وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" بتعريف السلام الأول، وتنكير الثاني، وأخرجه الطبرانيّ بتنكير الأول، وتعريف الثاني

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أفادت هذه الروايات جواز الأوجه المذكورة، من تعريف السلام وتنكيره، وقوله:"أشهد أن محمدًا رسول اللَّه"، و"أشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، و"أن محمدًا عبده ورسوله"، فتنبّه لذلك، واللَّه تعالى أعلم.

(وَفي رِوَايَةِ) محمد (بْنِ رُمْحٍ) شيخه الثاني (كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ) أي بدل قول قتيبة في روايته: "كما يُعلّمنا السورة من القرآن"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعلية التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 2/ 368.

(2)

"المرعاة شرح المشكاة" 3/ 238 - 239.

ص: 396

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 907 و 1908](403)، و (أبو داود) في "الصلاة"(974)، و (الترمذيّ) فيها (290)، و (النسائيّ) فيها (2/ 242 و 3/ 41)، و (ابن ماجه) فيها (900)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 89 - 90)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 294)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 292)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(705)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1952 و 1953 و 1954)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10996 و 10997 و 11406)، و (الطحاوي) في "شرح معاني الآثار"(1/ 263)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 350)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 377)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(679)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2022 و 2023 و 2024 و 2025)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(895 و 896)، وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فراجعها تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[908]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَم) بن سليمان الأمويّ، مولى آل أبي مُعَيط، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقة حافظ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ حُمَيْدِ) بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ الكوفيّ، ثقة [7].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وأبي الزبير، ومغيرة بن مِقْسَم، ومنصور، والأعمش، وطارق بن عبد الرحمن البجليّ، والأسود بن قيس، وغيرهم.

ص: 397

وروى عنه ابنه حميد، ويحيى بن آدم، وعَبّاد بن ثابت، ودُبَيس بن حميد الملائيّ، وسلمة بن عبد الملك الْعَوْضيّ، ومالك بن إسماعيل النَّهْديّ.

وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (403)، وحديث (413):"إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم. . . ".

والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[909]

(404) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبي كَامِلٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حِطَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ صَلَاةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أُقِرَّتِ الصَّلَاةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ، قَالَ: فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُوسَى الصَّلَاةَ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ يَا حِطَّانُ قُلْتَهَا؟، قَالَ: مَا قُلْتُهَا، وَلَقَدْ رَهِبْتُ أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنا قُلْتُهَا، وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَمَا تَعْلَمُونَ

(1)

كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلَاتِكُمْ؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ: (إِذَا صَلَّيْتُمْ، فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

(1)

وفي نسخة: "ما تعلمون" دون همزة الاستفهام.

ص: 398

وَلَا الضَّالِّينَ}، فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ

(1)

، يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ، فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْل أَحَدِكُمُ: التَّحِيَّاتُ، الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ للَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُور) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّف [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل حديث.

3 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارب البصريّ، صدوق، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.

5 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، مشهور بكنيته [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

6 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة تقدّم قبل بابين.

7 -

(يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ) الباهليّ، أبو غَلّاب

(2)

البصريّ، ثقةٌ [3].

(1)

وفي نسخة: "اللهم ربنا ولك الحمد".

(2)

بفتح الغين المعجمة، وتشديد اللام.

ص: 399

رَوَى عن ابن عمر، والبراء بن عازب، وجُندُب البجليّ، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وكثير بن الصَّلْت، وحِطّان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، وغيرهم.

وروى عنه حميد بن هلال، وابن سيرين، وقتادة، وابن عون، وجماعة.

قال ابن سعد: أوصى أن يصلي عليه أنس بن مالك لَمّا مات، وكان ثقةً، وقال ابن معين: ثقة، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن عُلَيّة عن أيوب بن محمد: لقيت أبا غَلَّاب، يونس بن جبير، وكان ذا ثَبْتٍ، فحدَّثني، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاريّ: مات بعد التسعين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (404) و (1471) وكرّره ثلاث مرات، و (2258).

8 -

(حِطَّانُ

(1)

بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [2].

رَوَى عن عليّ، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت.

وروى عنه الحسن البصريّ، وإبراهيم بن العلاء الغَنَويّ، وأبو مِجْلَز، ويونس بن جبير.

قال ابن المدينيّ: ثبتٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في ولاية بشر بن مروان على العراق، وقال أبو عمرو الدانيّ: كان مقرئًا قرأ عليه الحسن البصريّ.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (404) و (1690) وأعاده بعده، و (2334) وأعاده بعده.

9 -

(أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حَضّار الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

(1)

بكسر الحاء المهملة، وتشديد الطاء المهملة.

ص: 400

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي كامل، وحطان، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه: سعيد، وقتيبة، وقد دخلا البصرة.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن يونس، عن حطّان.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من كبار الصحابة المشهورين، أمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الحكمين بصفّين، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حِطَّانَ) بكسر الحاء، وتشديد الطاء المهملتين (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ) بفتح الراء، وتخفيف القاف: نسبة إلى رَقَاش بنت قيس بن ثعلبة، امرأة كثُر أولادها، فنُسبوا إليها، قاله في "اللباب"

(1)

. (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) رضي الله عنه (صَلَاةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ) اسم "كان" ضمير أبي موسى رضي الله عنه، وللنسائيّ:"فلما كان في القعدة"(قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) وفي رواية النسائيّ: "دخل رجل من القوم"، أي في الصلاة، وظاهره أنه كان مسبوقًا، فلحقهم في القعدة، ولأبي داود:"فلما جلس في آخر صلاته قال رجل من القوم: أقرّت الصلاة. . . "(أُقِرَّتِ الصَّلَاةُ بالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ) ببناء الفعل للمفعول، قال النوويّ رحمه الله: معناه: قُرِنت بهما، وأُقَرّت معهما، وصار الجميع مأمورًا به. انتهى

(2)

.

(1)

"اللباب" 2/ 33، و"الأنساب" 3/ 81 - 82.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 119.

ص: 401

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أُقِرَّت. . . إلخ" أي قُرِنت، والباء بمعنى "مع"، أي قُرِنت مع البِرّ والزكاة، فصارت معهما مستويةً في أحكامهما وتأكيدهما، ويَحْتَمِل أن يُراد بالبرّ هنا المبرّة، وبالزكاة الطهارة، ويكون المعنى: أن من داوم على الصلاة بَرّ وتطهّر من الآثام، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى: "أُقرّت الصلاة بالبرّ والزكاة"، ورُوي "قَرّت": أي استقرّ معهما، وقُرنت بهما، يعني أن الصلاة مقرونة بالبرّ، وهو الصدق، وجِمَاعُ الخير، ومقرونة بالزكاة في القرآن مذكورة معها. انتهى

(2)

.

وقال في "المنهل": و"الْبِرّ" بالكسر: الخير، والزكاة: التطهير، والمراد أن الصلاة توجب لصاحبها الخير، والطهارة من الذنوب.

ويَحْتَمِل أن يكون "أُقِرّت" بمعنى أُثبِتت، من الإقرار، أي أُثبتت الصلاة مصاحبةً للخير، والطهارة من الذنوب. انتهى

(3)

.

(قَالَ) حطّان رحمه الله: (فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (الصَّلَاةَ) أي أتمّها، وانتهى منها (وَسَلَّمَ انْصَرَفَ) أي رجع إلى الناس، وأقبل عليهم، وفي رواية النسائيّ:"فلما سلّم أبو موسى أقبل على القوم، فقال: أيّكم القائل هذه الكلمة؟ "(فَقَالَ) أبو موسى للقوم منكرًا عليهم هذا الكلام: (أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا) أي قول الرجل: "أُقرّت الصلاة بالبرّ والزكاة"، وأطلق عليها الكلمة، مع أنها جملة -والجملة إنما يُطلق عليها الكلام لا الكلمة- مجازًا، كما في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} الآية [المؤمنون: 100]؛ إشارة إلى قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وأشار إلى هذا في "الخلاصة" حيث قال:

(1)

"المفهم" 2/ 36.

(2)

"النهاية" 4/ 37.

(3)

"المنهل العذب المورود" 6/ 80.

ص: 402

.

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ

(قَالَ) حطّان (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ) أي سكتوا، ولم يُجيبوا، يقال: أَرَمّ، فهو مُرِمٌّ، ويُرْوَى "فَأَزَمَ" بالزاي، وتخفيف الميم، وهو بمعناه؛ لأن الأَزْمَ: الإمساك عن الطعام والكلام، قاله في "النهاية"

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "فأرمّ القومُ" كذا رويناه بفتح الراء، وتشديد الميم، وهو المعروف، قال المازريّ: أي سكتوا ولم يجيبوا، يقال: أرمّ القوم، فهم مُرِمُّون، ويُروى "فأزم"، ومعناه يرجع إلى الأول، وهو الإمساك عن الكلام أيضًا، ومنه سُمّيت الْحِمْيَةُ

(2)

أزمًا. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأرمّ القومُ" بفتح الراء، وتشديد الميم، وهو المعروف، ويُروى:"فَأَزَمَ القومُ" بالزاي المنقوطة، ومعناهما واحدٌ، وهو السكوت، أي لم ينطقوا بشيء، ولا حرّكوا مَرَمّاتهم، وهي شِفَاهُهُم، والشَّفَةُ: هي الْمَرَمَّةُ، والْمِقَمَّةُ، وبالزاي من الأزم: أي لم يفتحوها بكلمة. انتهى

(4)

.

وقال في "اللسان": "الأَزْمُ": تَرْكُ الأكل، وأصله من ذلك، وفي الحديث: أن عمر قال للحارث بن كَلَدَة، وكان طبيب العرب: ما الطبّ؟ فقال: هو الأَزْمُ، وهو أن لا تُدْخِل طعامًا على طعام، وفسّره الناس أنه الْحِمْيَةُ، والإمساكُ عن الاستكثار، قال: والأَزْمةُ: الأَكْلة الواحدة في اليوم مرّة كالْوَجْبَة، وفي حديث الصلاة أنه قال:"أيّكم المتكلّم؟ فأَزَمَ القوم"، أي أمسكوا عن الكلام كما يُمسك الصائم عن الطعام، قال: ومنه سُمّيت الْحِمْيَةُ أَزْمًا، قال: والرواية المشهورة: "فَأَرَمَّ القومُ" بالراء وتشديد الميم. انتهى المقصود من "اللسان"

(5)

.

(1)

"النهاية في غريب الحديث" 2/ 267.

(2)

"الْحِمْية: بكسر، فسكون: أي ترك إدخال الطعام على الطعام.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 297.

(4)

"المفهم" 2/ 36.

(5)

"لسان العرب" 12/ 18.

ص: 403

(ثُمَّ قَالَ) أبو موسى أيضًا تشديدًا لإنكاره عليهم (أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ) أبو موسى (لَعَلَّكَ يَا حِطَّانُ قُلْتَهَا؟) ولعلّ أبو موسى رضي الله عنه خصّ حِطّانًا بهذا الخطاب؛ إدلالًا عليه حيث كان يُلازمه، ولذا قال حطّان:"وقد رَهِبْتُ أن تَبْكعني بها"، حيث إنه توقّع لَمّا قال ذلك الرجل ما لا ينبغي أن يُقال في الصلاة أن أبا موسى سيواجه الناس بالتوبيخ والإنكار عليهم في ذلك، وأنه سيبدأ بمن هو أقرب إليه وألزم له؛ تنبيهًا لغيره ممن جَهِلَ الحكم، وسَتْرًا عليه؛ لئلا يَخْجل، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) حطّان: (مَا) نافية (قُلْتُهَا) أي لستُ أنا المتكلّم بهذه الكلمة (وَلَقَدْ رَهِبْتُ) بفتح الراء، وكسر الهاء، من باب تَعِبَ: أي خِفْتُ، والرَّهْبةُ: الخوفُ

(1)

. (أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا) هو بفتح المثنّاة في أوّله، وإسكان الموحّدة بعدها: أي تُبَكِّتَنِي، وتُوبِّخني، قاله النوويّ

(2)

.

وقال في "اللسان": بَكَّعَه تَبْكِيعًا، وبَكَعَه بَكْعًا: استقبله بما يَكْرَه، وبَكّته. انتهى

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قال ابن الأعرابيّ: الْبَكْعُ: التبكيتُ في الوجه، وهكذا رَوَينا هذا الحرف عن جمهور شُيُوخنا، وكذا كان في كتبهم، وعند ابن ماهان:"تنكتني" بنون أولى، وبعدها الكاف المضمومة، وتاء باثنين فوقها مضمومة، بعدها نون ثانية، قال بعضهم: لعلّه تبكتني بها بالباء بمعنى الأول. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا قُلْتُهَا، وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ) أي لم أتكلم بها للعب واللهو في الصلاة، وإنما قلتها لإرادة الخير والذكر بها (فَقَالَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه:(أَمَا تَعْلَمُونَ) وفي نسخة: "ما تعلمون" بحذف همزة الاستفهام، وهو الذي في مختصر القرطبيّ، فقال في "شرحه": ظاهره النفي، ويَحْتَمِل الاستفتاح، وحُذفت الهمزة تخفيفًا، كما تُحذَف مع الاستفهام. انتهى

(5)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 241.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 119.

(3)

"لسان العرب" 8/ 19.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 297.

(5)

"المفهم" 2/ 37.

ص: 404

(كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلَاِتكُمْ؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر "إن"؛ لوقوعها في الابتداء، وهو في موضع جواب سؤال مقدّر، فكأنهم قالوا له: ماذا نقول؟ وما هو السنّة في ذلك؟ فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لنَا سُنَّتَنَا) أي ما يُسنّ لنا في ديننا من الأقوال والأفعال، (وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا) أي كيفيّتها (فَقَالَ) بالفاء التفسيريّة، فهو تفسيرٌ وبيانٌ لقوله:"علّمنا صلاتنا"("إِذَا صَلَّيْتُمْ) أي إذا أردتم أداء الصلاة (فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ) أي عدّلوها بإلزاق الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بقوله:"باب إلزاق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم في الصفّ"، ثم أخرج عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري"، وكان أحدنا يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه. وفي "فوائد المخلص" بسند صحيح، قال أنس:"فلقد رأيت أحدنا يُلصق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، فلو ذهبت تفعل هذا اليوم لنفر أحدكم كأنه بغل شَمُوس"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه الأمر بإقامة الصفوف، وهو مأمور به بإجماع الأمة، وهو أمر ندب، والمراد تسويتها، والاعتدال فيها، وتتميم الأول فالأول منها، والتراصّ فيها، وسيأتي بسط الكلام فيها حيث ذكرها مسلم - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ) اللام لام الأمر، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها، وكسرها بعد "ثُمّ" أكثر من سكونها، ورواية الحديث بالسكون، كقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} الآية [الحجّ: 29] في قراءة الكوفيين، قال ابن هشام: وفي ذلك ردّ على من قال: إنه خاصّ بالشعر.

وقوله: "يؤمّكم" مجزوم باللام، وحُرّك؛ للتخلّص من التقاء الساكنين، وكانت فتحةً للتخفيف.

(1)

راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 38 - 39 رقم (31).

(2)

"شرح النووي" 4/ 119.

ص: 405

وقال النوويّ رحمه الله: فيه الأمر بالجماعة في المكتوبات، ولا خلاف في ذلك، ولكن اختلفوا في أنه أمر ندب أم إيجاب على أربعة مذاهب:

فالراجح في مذهبنا، وهو نصّ الشافعيّ رحمه الله، وقول أكثر أصحابنا أنها فرض كفاية، إذا فعله مَن يحصل به إظهار هذا الشِّعَار سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم.

وقالت طائفة من أصحابنا: هي سنة.

وقال ابن خزيمة من أصحابنا: هي فرض عين، لكن ليست بشرط، فمن تركها وصلى منفردًا بلا عذر أثم، وصحت صلاته.

وقال بعض أهل الظاهر: هي شرط لصحة الصلاة، وقال بكلّ قول من الثلاثة المتقدمة طوائف من العلماء، وستأتي المسألة في بابها - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الراجح ما ذهب إليه ابن خزيمة رحمه الله؛ لوضوح الأدلّة عليه، وستأتي المسألة مفصّلة في محلّها -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية النسائيّ: "فقال: إنما الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبّروا. . . "، أي إنما جُعل الإمام ليُقتدى به في أفعال الصلاة، فلا تجوز مخالفته بالتقدّم عليه مطلقًا، ولا بالتأخر عنه.

(فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) قال النوويّ رحمه الله: فيه أمر المأموم بأن يكون تكبيره عقب تكبير الإمام، ويتضمن مسألتين:

[إحداهما]: أنه لا يكبر قبله ولا معه، بل بعده، فلو شَرَع المأموم في تكبيرة الإحرام ناويًا الاقتداء بالإمام، وقد بقي للإمام منها حرف لم يصحّ إحرام المأموم بلا خلاف؛ لأنه نوى الاقتداء بمن لم يَصِر إمامًا، بل بمن سيصير إمامًا إذا فرغ من التكبير.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 120.

ص: 406

[والثانية]: أنه يستحب كون تكبيرة المأموم عقب تكبيرة الإمام ولا يتأخر، فلو تأخر جاز، وفاته كمال فضيلة تعجيلِ التكبير. انتهى

(1)

.

(وَإِذَا قَالَ) الإمام: ({غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فَقُولُوا: آمِينَ) قال القاضي عياض رحمه الله: معناه: استجب لنا، وقيل: معناه: كذلك نسأل اللَّه لنا، والمعروف فيها المدّ وتخفيف الميم، وحَكَى ثعلبٌ فيها القصر، وأنكره غيره، وقال: إنما جاء مقصورًا في ضرورة الشعر، وقيل: هي كلمة عبرانيّة، عُرِّبت مبنيّة على الفتح، وقيل: بل هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، وقيل: معناه بآمين استجب لنا، والمدّة مدّة النداء عوض الياء، وحكى الداوديّ تشديد الميم مع المدّ، وقال: هو لغة شاذّة، ولم يعرفها غيره، وقد خطّأ ثعلب قائلها. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة ظاهرةٌ لما قاله أصحابنا وغيرهم: إن تأمين المأموم يكون مع تأمين الإمام، لا بعده، فإذا قال الإمام:{وَلَا الضَّالِّينَ} وقال الإمام والمأموم معًا: "آمين"، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أَمَّنَ الإمام فأمِّنوا"، قالوا: معناه إذا أراد التأمين؛ ليُجْمَع بينه وبين هذا الحديث، وهو يريد التأمين في آخر قوله:{وَلَا الضَّالِّينَ} ، فيَعْقُب إرادتَهُ تأمينُهُ وتأمينُكُم معًا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجمع حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وفي "آمين" لغتان: المدّ والقصر، والمدُّ أفصح، والميم خفيفة فيهما، ومعناه: استجب، وسيأتي -إن شاء اللَّه تعالى- البحث في التأمين وما يتعلق به مستوفًى في بابه حيث يذكره الإمام مسلم رحمه الله.

(يُجِبْكُمُ اللَّهُ) بالجيم، من الإجابة، وهو مجزوم بالطلب قبله، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْي جَزْمًا اعْتَمِدْ

إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ

أي يستجب اللَّه تعالى دعاءكم، وهذا فيه حثّ عظيم على التأمين، فيتأكّد الاهتمام به.

(فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا) أي اجعلوا تكبيركم للركوع، وركوعكم

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 120.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 298.

ص: 407

بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يقتضي أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام؛ لأنه جاء بفاء التعقيب، وهو مذهب كافّة العلماء، ولا خلاف أنه لا يسبقه المأموم بالتكبير والسلام إلا عند الشافعيّ ومن لا يرى ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وأن الصواب فعل المأموم ذلك بعد فعل الإمام، واختلفوا إذا فعله معه، قال: ولأصحابنا -يعني المالكيّة- فيه قولان: الإجزاء وعدمه، وكذلك اتّفقوا على أنه لا يسابقه بأفعاله وسائر أقواله في الصلاة، ولا يفعلها معه، وأن السنّة اتّباعه فيها.

واختلفوا في اتّباع المأموم الإمامَ في أفعاله، هل يكون معه، فإذا شرع الإمام في الركوع ركع بإثره، ولا ينتظر تمام ركوعه، أم يكون بعده، ولا يركع حتى يركع الإمام، ولا يرفع حتى يرفع، وهكذا في سائر الأفعال، كما جاء في هذا الحديث؟ ثم ذكر عن مالك في المسألة ثلاثة أقوال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بأنه لا يشرع في فعل من الأفعال، إلا بعد تمام فعل الإمام هو الحقّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بيّنه وأوضحه تمام الإيضاح بقوله:"فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم. . . " الحديث، فإنه نصّ واضح في كون المأموم لا يشرع في ركن من الأركان إلا بعد تلبّس الإمام به، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّ الإِمَامَ) الفاء للتعليل؛ لأن الإمام (يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ) يعني أن حقّه أن يتقدّمكم في كلّ ذلك (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَتِلْكَ بِتِلْكَ) أي أن اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلى الركوع تستدركونها بتأخّركم في الركوع بعد رفعه لحظةً، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدرُ ركوعكم كقدر ركوعه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: فيه إشارة إلى تحقيق ما تقدّم من ترجيح أحد الأقوال، وبيان الحكم من أنه لا يركع المأموم ولا يسجد، ولا يرفع حتى يفعل ذلك إمامه، وتنبيهٌ على أن الشيء الذي سبقه به إمامه من الركعة، أو

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 297.

ص: 408

السجدة لم يفته مقدارها؛ لفعله هو أيضًا مدّةَ انتظاره رفعَ الإمام رأسه واعتداله، فقامت مقام ما سبقه به إمامه، وجاءت أفعاله بقدر أفعاله، وسبقه له مطابق لتأنيه هو بعده، "فتلك بتلك".

وقيل: معناه: فتلك الحالة من صلاتكم وأعمالكم إنما تصحّ بتلك الحالة من اتّباعكم له واقتدائكم به، وقيل: هو راجع إلى قوله: "آمين" بعد قوله: "والضالين"، و"ربّنا ولك الحمد" بعد قوله:"سمع اللَّه لمن حمده"، أي تلك الكلمة، أو الدعوة التي في السورة متعلّقة بـ "آمين"، أو بـ "ربنا ولك الحمد"؛ لارتباط إحداهما بمعنى الأخرى

(1)

.

(وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) قال القاضي رحمه الله: أي أجاب اللَّه دعاء من حمده، وقيل: أراد به الحثّ على التحميد، وسياق هذا الحديث يدلّ على أنه إعلام بذلك. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "سمع اللَّه لمن حمده" خبرٌ عن اللَّه تعالى باستجابة حمده ودعائه، ويجوز أن يراد به الدعاء، فيكون معناه: اللهم استجب، كما تقول: صلى اللَّه على محمد. انتهى

(3)

.

(فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) وفي نسخة: "اللهمّ ربنا ولك الحمد"، قال في "الفتح": كذا في رواية الكشميهنيّ بإثبات الواو، وفيه ردّ على ابن القيّم حيث جزم بأنه لم يَرِد الجمع بين "اللهمّ" والواو في ذلك. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختلفت روايات الحديث في إثبات الواو وحذفها، واختَلَفت روايات العلماء فيها، فمرّةً اختار مالك إثبات الواو؛ لأن قوله "ربّنا" إجابة قوله:"سمع اللَّه لمن حمده"، أي ربّنا استجب دعاءنا، واسمع حمدنا، ولك الحمد على هذا، وأيضًا فإن الواو زيادة حرف، ولكلّ حرف حظّ من الثواب، واختار مرّةً حذف الواو؛ إذ الحمد هو المقصود، قال القرطبيّ: والظاهر أن الموجب للاختلاف في الاختيار الاختلاف في ترجيح الآثار. انتهى

(5)

.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 298.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 298 - 299.

(3)

"المفهم" 2/ 38.

(4)

"الفتح" 2/ 540.

(5)

"المفهم" 2/ 38.

ص: 409

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو هنا بلا واو، وفي غير هذا الموضع:"ربنا ولك الحمد"، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الواو وبحذفها، وكلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز، وأن الأمرين جائزان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، ونقل القاضي عياض رحمه الله اختلافًا عن مالك رحمه الله وغيره في الأرجح منهما، وعلى إثبات الواو يكون قوله:"ربنا" متعلقًا بما قبله، تقديره: سمع اللَّه لمن حمده، يا ربنا فاستجب حمدنا ودعاءنا، ولك الحمد على هدايتنا لذلك. انتهى

(1)

.

وعبارة القاضي عياض رحمه الله: وقوله: "ربنا ولك الحمد" اختلفت الآثار فيه بإثبات الواو وحذفها، واختَلَف اختيار مالك وغيره من العلماء بين اللفظين، وفي إثبات الواو زيادة؛ لأن قوله:"ربّنا" إجابة قوله: "سمع اللَّه لمن حمده"، أي ربّنا استجِب دُعاءنا، واسمع حمدنا، ولك الحمد على هدايتنا لذلك، وبحذف الواو ليس فيها غير امتثال قول الحمد، ويظهر لي أن اختلاف قول مالك وتردّده في الاختيار بين اللفظين إما لاختلاف الآثار في ذلك، وترجيح أحدهما مرّة على الآخر من جهة الصحّة، أو الشهرة والعمل، أو لمطابقة المعنيين المتقدّمين في "سمع اللَّه لمن حمِدَه"، فإذا جعلنا "سمع اللَّه لمن حمده" بمعنى الحثّ على الحمد كان الوجه في الجواب ربنا لك الحمد دون واو؛ لأنه مطابقٌ لما حُثّ عليه، وامتثالٌ لما نُدِب إليه، وعلى التأويل الآخر الأَولى إثبات الواو؛ لأنه يتضمّن تأكيد الدعاء الأول، وتكراره لقوله:"ربّنا"، أي استجِبْ لنا، أو اسمع حمدنا، ثم يأتي بالعبادة التي دُعِي بالاستجابة لقائلها، وهو الحمد، فيقول:"ولك الحمد"، ومعنى "سمع اللَّه" هنا: أجاب وتقبّل. انتهى

(2)

.

وقوله: (يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ) أي يستجيب لكم، وهو في نسخ الكتاب بالرفع مضبوطًا بالقلم، بخلاف قوله الماضي:"يجبكم اللَّه"، فإنه وقع في النسخ مجزومًا بضبط القلم، ووقع في نسخ سنن النسائيّ بالجزم في الموضعين، وكلا

(1)

"شرح مسلم" 4/ 121.

(2)

"إكمال العلم" 2/ 299.

ص: 410

الأمرين جائزان، ووجه الجزم أن يكون جوابًا للطلب، كما أسلفناه، وأما الرفع فيكون على الاستئناف، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وفي رواية معمر، عن قتادة الآتية:"فإن اللَّه عز وجل قضى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم: "سَمِع اللَّه لمن حمده"، ومعناه: أن اللَّه تعالى حكم في سابق قضائه وحتمه، وأمضاه وأنزله على نبيّه صلى الله عليه وسلم، فبلّغه إلى أمته أنه يُجيب دعاء من دعاه، ويقبل حمدَ من حمده، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لما قاله أصحابنا وغيرهم: إنه يستحب للإمام الجهر بقوله: "سمع اللَّه لمن حَمِده"، وحينئذ يسمعونه، فيقولون، وفيه دلالة لمذهب مَن يقول: لا يزيد المأموم على قوله: "ربنا لك الحمد"، ولا يقول معه:"سَمِع اللَّه لمن حمده"، ومذهبنا أنه يجمع بينهما الإمام والمأموم والمنفرد؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وسيأتي بسط الكلام فيه في بابه - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بعدم مشروعيّة التسميع للمأموم هو الراجح؛ لكون هذا الحديث صريحًا فيه، وأما حديث:"صلُّوا كما رأيتموني أصلّي"، فعامّ خُصّ منه عدم متابعته في الجهر بالقراءة إجماعًا، فليُخصّ منه أيضًا هذا؛ لهذا الحديث الصريح الخاصّ، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.

(وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَتِلْكَ بِتِلْكَ) أي تلك اللحظة التي سبقكم بها الإمام في تقدّمه إلى السجود، تُقابَلُ لكم بتأخّركم فيه بعد رفعه لحظة، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، فيصير سجودكم بمقدار سجوده.

(وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ) بفتح القاف، وسكون العين: المرّة من القعود، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 123.

ص: 411

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ "جَلْسَهْ"

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَـ "جِلْسَهْ"

واسم "كان" ضمير يعود إلى المفهوم، والظرف خبرها، أي إذا كان الحال كائنًا عند القَعْدة (فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ) الظاهر أن "من" زائدة، وزيادتها في الإثبات أجازه الأخفش مطلقًا، وجعل منه قوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] والكوفيّون بشرط تنكير مجرورها، نحو:"قد كان من مطر".

قال النوويّ رحمه الله: استَدَلَّ جماعة بهذا على أنه يقول في أول جلوسه: "التحيات"، ولا يقول:"بسم اللَّه"، وليس هذا الاستدلال بواضح؛ لأنه قال:"فليكن من أول"، ولم يقل:"فليكن أول"، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الاستدلال به واضحٌ، ووجه ذلك هو ما ذكرته من كون "من" زائدة، بدليل أنه وقع عند ابن ماجه وغيره بلفظ:"فإذا كان عند القعدة، فليكن أولُ ذكر أحدكم التشهدَ"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(التَّحِيَّاتُ، الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ للَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ") تقدّم شرح هذه الجمل قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 909 و 910 و 911](404)، و (أبو داود) في "الصلاة"(972 و 973)، و (النسائيّ) فيها (2/ 96 - 97 و 196 - 197 و 241 و 3/ 41 - 42)، و (ابن ماجه) فيها (901)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3065)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(517)، و (ابن أبي شيبة) في

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 121.

ص: 412

"مصنّفه"(1/ 252 و 253 و 293 و 352)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 409)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 315)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1584)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(2167)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 264 و 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 96 و 140 و 141 و 377)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2020 و 2021)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(897 و 898 و 899)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صيغة التشهّد.

2 -

(ومنها): بيان أن أفعال الصلاة وأقوالها لا بدّ أن تكون مما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يبتدع فيها قولا أو فعلًا لم يثبت في السنّة، فقد قال أبو موسى رضي الله عنه:"أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ ".

3 -

(ومنها): عدم جواز مبادرة الإمام، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم. . . " الحديث.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاهتمام في التبليغ، وتعليم أمته أحكام الدين.

5 -

(ومنها): أن الإمام هو القدوة للمأموم، فلا يجوز له أن يسابقه في أفعال الصلاة ولا أن يقارنه، بل يكون ابتداء متابعته بعد تأكّده من دخوله في الفعل الذي يريد أن يفعله، وقد أوضح هذا المعنى حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قال:"سمع اللَّه لمن حمده"، لم يَحْنِ أحدٌ منّا ظهره حتى يَقَع النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده"، متّفق عليه، وفي لفظ: "كنا نصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، لم يَحْنِ أحد منا ظهره حتى يضع النبيّ صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض".

فقد صرّح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا خرّ صلى الله عليه وسلم للسجود، لا يحنون ظهورهم، فضلًا عن الخرور معه حتى يروه صلى الله عليه وسلم واضعًا جبهته على الأرض، فقد دلّ على أن ابتداء فعل المأموم يكون بعد تمام انتقال الإمام إلى الركن التالي.

ص: 413

ولكن مما يؤسف له أن كثيرًا من المصلّين إما يسابقون الإمام أو يساوونه، وهذا هو موت السنة، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.

6 -

(ومنها): بيان أن اللحظة التي سبق الإمام بها المأموم تستدرك بتأخّر المأموم بلحظة مثلها.

7 -

(ومنها): الترغيب في قول "آمين" عند فراغ الإمام من قراءة الفاتحة؛ لأن اللَّه تعالى يُجيب الدعاء بذلك.

8 -

(ومنها): أن اللَّه سبحانه وتعالى يَسْمع حمد من حمده، ويُثيبه عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[910]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ

(1)

، بِمِثْلِهِ، وَفي حَدِيثِ جَرِيرٍ: عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ:"وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ:"فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي كَامِلٍ وَحْدَهُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أُخْتِ أَبِي النَّضْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ مُسْلِمٌ: تُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ؟، فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ، يَعْنِي:"وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا"، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ، فَقَالَ: لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا؟ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا، إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.

(1)

وفي نسخة: "بهذا الإسناد".

ص: 414

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

5 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِم [9](200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

6 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

7 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ ابن راهويه تقدّم أول الباب.

8 -

(جَرِير) بن عبد الحميد تقدّم أول الباب أيضًا.

9 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) هو: سليمان بن طَرْخان، نزل في بني تيم، فنُسِب إليهم، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

10 -

(قَتَادَةُ) بن دعامة تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ) إشارة إلى الثلاثة: سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ، وسليمان التيميّ، فكلهم رووا هذا الحديث عن قتادة متابعين لأبي عوانة الراوي عنه في السند الماضي.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ) وفي نسخة: "بهذا الإسناد" بالباء الموحّدة بدل "في"، والإشارة لإسناد قتادة الماضي، وهو عن يونس بن جُبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث قتادة الماضي في رواية أبي عوانة عنه.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة التي أحالها المصنّف هنا، ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1324)

أخبرنا سعيد بن عامر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن

ص: 415

يونس بن جُبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيِّ، قال: صلى بنا أبو موسى إحدى صلاتي العشيّ، فقال رجل من القوم: أُقِرّت الصلاة بالبرّ والزكاة، فلما قضى أبو موسى الصلاة، قال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأَرَمّ القوم، فقال: لعلك يا حِطّان قلتها؟ قال: ما أنا قلتها، وقد خِفْتُ أن تَبْكَعَني بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتها، وما أردت بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أَوَما تعلمون ما تقولون في صلاتكم؟ إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَبنا، فعَلَّمنا صلاتنا، وبَيَّن لنا سنتنا، قال: أحسبه قال: "إذا أقيمت الصلاة فليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، يُجِبْكم اللَّه، فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك، فإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، أو قال: ربنا ولك الحمد، فإن اللَّه قال على لسان نبيه: سمع اللَّه لمن حمده، وإذا كبر وسجد، فكبروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك، فاذا كان عند القَعْدة، فليكن من أول قول أحدكم: التحياتُ الطيبات الصلوات للَّه، السلام، أو سلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام -أو سلام علينا- وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". انتهى.

وأما رواية هشام الدّستوائيّ، عن قتادة، فأخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(18834)

حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، قال: ثنا قتادة، عن يونس بن جُبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، أن الأشعريَّ صلى بأصحابه صلاةً، فقال رجل من القوم حين جلس في صلاته: أُقِرّت الصلاة بالبرّ والزكاة، فلما قَضَى الأشعريّ صلاته، أقبل على القوم، فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأَرَمَّ القوم، قال أبو عبد الرحمن

(1)

: قال أبي: أَرَمَّ: السكوت، قال: لعلك يا حِطّان قلتها؟ لحطان بن عبد اللَّه، قال: واللَّه إن قلتها، ولقد رَهِبْتُ أن تَبْكَعَني بها، قال رجل من القوم: أنا قلتها، وما أردت

(1)

هو عبد اللَّه بن أحمد ولد الإمام أحمد بن حنبل الراوي عنه هنا.

ص: 416

بها إلا الخير، فقال الأشعريّ: ألا تعلمون ما تقولون في صلاتكم؟ فإن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبنا، فعلّمنا سنتنا وبيّن لنا صلاتنا، فقال:"أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أقرؤكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، يُجِبْكم اللَّه، ثم إذا كبر الإمام وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك، فإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع اللَّه لكم، فإن اللَّه عز وجل قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سمع اللَّه لمن حمده، وإذا كبر الإمام وسجد، فكبروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، قال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك، فإذا كان عند القَعْدَة، فليكن من أول قول أحدكم أن يقول: التحيات الطيبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". انتهى.

وأما رواية جرير، عن سليمان التيميّ، عن قتادة، فأخرجها الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه"(1/ 276) إلا أنها مختصرة، فقال:

(847)

حدّثنا يوسف بن موسى القطان، ثنا جرير، عن سليمان التيميّ، عن قتادة، عن أبي غلّاب، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرّقَاشيّ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا، فإذا كان عند القَعْدة فليكن أول ذكر أحدكم التشهد". انتهى.

وأخرجها النسائيّ رحمه الله في "سننه" من رواية المعتمر بن سليمان، عن أبيه، فقال:

(1173)

أخبرنا أبو الأشعث، أحمد بن الْمِقْدَام العجليّ البصريّ، قال: حدثنا المعتمر، قال: حدّثنا أبي، يُحَدِّث عن قتادة، عن أبي غَلّاب، وهو يونس بن جُبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه، أنهم صَلَّوا مع أبي موسى، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان عند القَعْدَة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات للَّه الطيبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". انتهى.

ص: 417

وأخرجها الإمام أبو داود أيضًا في "سننه" بعد إخراج رواية هشام، عن قتادة المتقدّم ذكرها، فقال:

حدّثنا عاصم بن النضر، حدّثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، حدَّثنا قتادة، عن أبي غَلّاب، يحدثه عن حِطّان بن عبد اللَّه الرّقَاشيّ بهذا الحديث، زاد:"فإذا قرأ فأنصتوا"، وقال في التشهد بعد "أشهد أن لا إله إلا اللَّه" زاد:"وحده لا شريك له"، قال أبو داود: وقوله: "فأنصتوا" ليس بمحفوظ، لم يجئ به إلا سليمان التيميّ في هذا الحديث. انتهى.

وأخرجها أبو عوانة في "مسنده"(2/ 133)، فقال:

حدّثنا الصائغ بمكة، قال: ثنا عليّ بن عبد اللَّه، قال: ثنا جريرٌ، عن سليمان التيميّ، عن قتادة، عن أبي غَلّاب، يونس بن جبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه، أن أبا موسى قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعلّمنا سنتنا، وبَيّن لنا صلاتنا، فقال: إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا". انتهى.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ: "وَإِذَا قَرَأَ فأَنْصِتُوا") قد ذكرت آنفًا من أخرجه بهذه الزيادة، فتنبّه.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: "فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، إِلّا فِي رِوَايَةِ أَبِي كَامِلٍ وَحْدَهُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ) الظاهر أنه أراد بقوله: "أحد منهم" الذين شاركوا أبا كامل في روايتهم عن أبي عوانة، وهم: سعيد بن منصور، وقُتيبة بن سعيد، ومحمد بن عبد الملك الأمويّ، وليس المراد الذين شاركوا أبا عوانة في روايته عن قتادة، وهم: سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ، وسليمان التيميّ، فإن قوله:"فإن اللَّه قال على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ" موجود في رواياتهم، كما أسلفت بيانه آنفًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (قالَ أَبُو إِسْحَاقَ) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان، صاحب مسلم، راوي "صحيحه" عنه، المتوفّى سنة (308 هـ) وقد تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة"

(1)

.

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 63.

ص: 418

وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أُخْتِ أَبِي النَّضْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) أي طعن في صحّة هذا الحديث بزيادة قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا".

و"أبو بكر هذا" لم أجد ترجمته، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَقَالَ مُسْلِم) بن الحجّاج صاحب الكتاب ردًّا على طعن أبي بكر المذكور في صحّة هذه الزيادة (تُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ؟) هو بتقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ، أي أتريد أحفظ من سليمان التيميّ الذي زادها؟ يعني أن سليمان كاملُ الحفظ والضبط، فلا تضرُّ مخالفة غيره له بعدم ذكر هذه الزيادة.

وحاصل ما أشار إليه مسلم رحمه الله أنه يرى صحّة هذه الزيادة، وإن خالف فيها سليمان جماعة الرواة عن قتادة؛ لأنه حافظ، فتُقبل زيادته، وسيأتي بيان من خالفه في هذا التصحيح، في المسألة الأولى -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أخت أبي النضر (فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أي: ما حاله؟.

وأراد بحديث أبي هريرة ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا".

وقوله: (فَقَالَ) الظاهر أن الضمير لأبي بكر، فيكون تفسيرًا لقوله:"فحديث أبي هريرة؟ "، فيكون قوله:(هُوَ صَحِيحٌ) بتقدير همزة الاستفهام، أي: أهو صحيح؟ (يَعْنِي) بقوله: "فحديث أبي هريرة" قوله: ("وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا").

ويَحْتَمِل أن يكون ضمير "قال" لمسلم، أي قال مسلم: هو حديث صحيح، فيكون قوله:(فَقَالَ) أي مسلم (هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ) تأكيدًا لما قبله، والوجه الأول أظهر، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَقَالَ) أي أبو بكر (لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا؟) أي إذا كان صحيحًا، فلم لم تُخرجه في هذا الكتاب؟.

وقوله: (قَالَ) أي مسلم (لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا)

ص: 419

يعني أنه لم يضع في هذا الكتاب كلّ حديث صحيح لديه (إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ) أي ما أجمع الحفّاظ على صحّته.

قال النوويّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم: ثم قد يُنكَر هذا الكلام، ويقال: قد وضع أحاديث كثيرةً غيرَ مُجْمَعٍ عليها.

وجوابه أنها عند مسلم بصفة المجمَع عليه، ولا يلزم تقليد غيره في ذلك، وقد ذكرنا في مقدمة هذا الشرح هذا السؤال وجوابه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ما أجمعوا عليه" يحتمل معنيين:

[أحدهما]: ما أجمع على صحّته الحفّاظ النقّاد، فلم يختلفوا في صحّته.

[والثاني]: ما أجمع عليه الرواة، بأن اتّفقوا على شيخهم، لا ما اختلفوا فيه عليه، كرواية سليمان هنا بزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، مخالفًا للرواة الآخرين.

وعلى كلّ من المعنيين فكلامه فيه نظر لا يخفى؛ لأنه وضع في كتابه أحاديث كثيرة من النوعين، وقد تقدّم أن ابن الصلاح رحمه الله أجاب عنه بجوابين:

[أحدهما]: أنه لم يضع في هذا الكتاب إلا الأحاديث التي وُجد عنده فيها شرائط الصحيح الْمُجمع عليه، وإن لم يَظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم.

[والثاني]: أنه أراد أنه ما وضع فيه ما اختلف الثقات فيه في نفس الحديث متنًا أو إسنادًا، ولم يُرد ما كان إنما هو في توثيق بعض رواته، وهذا هو الظاهر من كلامه، ثم ذكر جوابه على هذا الحديث المذكور هنا، قال: ومع هذا قد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها أو متنها؛ لصحّتها عنده، وفي ذلك ذهول منه رحمه الله عن هذا الشرط، أو سبب آخر، وقد استُدركت عليه وعُلّلت. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 4/ 123.

(2)

راجع: "صيانة صحيح مسلم" للشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله، ص 75.

ص: 420

مسألتان تتعلّقان بهذه الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا":

(المسألة الأولى): في بيان اختلاف الحفّاظ في زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا":

(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه الزيادة في حديث أبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهما:

فممن ذهب إلى تصحيحه المصنّف رحمه الله، كما سبق توضيحه في هذا الباب، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد":

فإن قال قائل: إن قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" لم يقله أحدٌ في حديث أبي هريرة غيرُ ابن عجلان، ولا قاله أحد في حديث أبي موسى غير جرير، عن التيميّ.

قيل له: لم يخالفهما من هو أحفظ منهما، فوجب قبول زيادتهما، وقد صحح هذين الحديثين أحمد بن حنبل، وحسبك به إمامةً وعلمًا بهذا الشأن.

حدّثنا عبد اللَّه بن محمد، قال: حدّثنا عبد الحميد بن أحمد، قال: حدّثنا الخضر بن داود، قال: حدّثنا أبو بكر الأثرم، قال: قلت لأحمد بن حنبل: مَن يقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجهٍ صحيحٍ: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا"؟ فقال: حديث ابن عجلان الذي يرويه أبو خالد، والحديث الذي رواه جرير عن التيميّ، وقد زعموا أن المعتمر رواه، قلت: نعم قد رواه المعتمر، قال: فأيَّ شيء تريد؟ فقد صحح أحمد الحديثين جميعًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث أبي هريرة وحديث أبي موسى، قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قرأ الإمام فأنصتوا". انتهى المقصود من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وضعّفها جمهور الحفّاظ، فقد رَوَى البيهقيّ في "السنن الكبرى" عن أبي داود السجستانيّ أن هذه اللفظة ليست بمحفوظة، وكذلك رواه عن يحيى بن معين، وأبي حاتم الرازيّ، والدارقطنيّ، والحافظ أبي عليّ النيسابوريّ، شيخ الحاكم، أبي عبد اللَّه، قال البيهقيّ: قال أبو عليّ الحافظ: هذه اللفظة غير

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 11/ 33.

ص: 421

محفوظة، قد خالف سليمان التيميّ فيها جميع أصحاب قتادة، واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مُقَدَّم على تصحيح مسلم، لا سيّما ولم يروها مُسْنَدَةً في "صحيحه"، ذكره النوويّ رحمه الله.

وفي "علل" الدارقطنيّ رحمه الله:

(1333)

وسئل عن حديث حِطّان بن عبد اللَّه الرّقَاشيّ، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة، فقال: يرويه قتادة، واختُلِف عنه، فرواه سعيد بن أبي عروبة، وهشام، وأبان، وأبو عوانة، ومعمر، وعديّ بن أبي عمارة، عن قتادة، عن يونس بن جُبير، عن حِطّان، عن أبى موسى، وألفاظهم متقاربة.

ورواه سليمان التيميّ عن قتادة بهذا الإسناد، فزاد عليهم في الحديث:"وإذا قرأ فأنصتوا" حدّث به عن سليمان كذلك معتمر، وجرير بن عبد الحميد، والثوريّ، وزاد معتمر عليهما، فذكر أنه يقول:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له"، ولم يذكر هذا سواه.

ورواه سالم بن نوح العطّار، عن عمر بن عامر، وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، بهذا الإسناد:"إذا قرأ الإمام فأنصتوا"، ولم يزد على هذا.

ورواه شعبة عن قتادة بهذا الإسناد، ولم يَشْرَح التشهدَ، وقال فيه: ذَكَرَ حديث التشهد.

ورواه المثنى بن سعيد، عن قتادة، فخالف الجماعة في إسناده، جعله عن أبي العالية، عن أبي موسى، وذكر قصة التشهد خاصةً دون غيره من الصلاة، ووَهِمَ في قوله: عن أبي العالية.

ورواه حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن حِطّان، عن أبي موسى موقوفًا.

وقال بهز بن أسد، والنضر بن شُميل، عن حماد، بهذا الإسناد:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع"، وغيرهما يرويه عن حماد موقوفًا.

ورواه مَطَرٌ الورّاق، عن زَهْدم الْجَرْميّ، عن أبي موسى موقوفًا أيضًا.

والصواب من ذلك ما رواه سعيد، وهشام، ومن تابعهما، عن قتادة،

ص: 422

وسليمان التيميّ من الثقات، وقد زاد عليهم قوله:"وإذا قرأ فأنصتوا"، ولعله شُبِّه عليه لكثرة من خالفه من الثقات، وسالم بن نوح ليس بالقويّ، والصواب من حديث الأزرق بن قيس، عن حِطّان قول من وقفه عن حماد بن سلمة، واللَّه أعلم. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "السنن" بعد أن ساق الحديمث ما نصّه: وكذلك رواه سفيان الثوريّ عن سليمان التيميّ، ورواه هشام الدستوائيّ، وسعيد، وشعبة، وهمام، وأبو عوانة، وأبان، وعديّ بن أبي عُمارة، كلهم عن قتادة، فلم يقل أحد منهم:"وإذا قرأ فأنصتوا"، وهم أصحاب قتادة الحفاظ عنه. انتهى

(2)

.

وقال البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى": أخبرنا أبو علي الروذباريّ، أنبأ أبو بكر بن داسة، قال: قال أبو داود السجستانيّ: قوله: "وأنصتوا" ليس بمحفوظ، وليس بشيء.

(2711)

أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: سمعت أبا عليّ الحافظ يقول: خالف جرير عن التيميّ أصحابَ قتادة كلَّهم في هذا الحديث، والمحفوظ عن قتادة رواية هشام الدستوائيّ، وهَمّام، وسعيد بن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، وأبي عوانة، والحجاج بن الحجاج، ومن تابعهم على روايتهم -يعني دون هذه اللفظة- ورواه سالم بن نوح، عن ابن أبي عروبة، وعمر بن عامر، عن قتادة، فأخطأ فيه، أخبرنا بذلك أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: سمعت أبا عليّ الحافظ يذكره.

(2712)

وأخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأ عليّ بن عمر الحافظ، ثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرميّ، ثنا محمد بن يحيى القَطِيعيّ، ثنا سالم بن نوح، ثنا عمر بن عامر، وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير -يعني أبا غلاب- عن حطان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، قال: صلى بنا أبو موسى، فقال أبو موسى: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعلمنا إذا صلى بنا، فقال:"إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا"، قال

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبويّة" 7/ 252 - 255.

(2)

"سنن الدارقطنيّ" 1/ 330.

ص: 423

علي بن عمر

(1)

: سالم بن نوح ليس بالقويّ.

قال البيهقيّ: وقد رواه محمد بن عجلان من وجه آخر، أخبرنا أبو عبد الرحمن، محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محبوب الدهان، ثنا أبو حامد، أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزار، ثنا أبو الأزهر، ثنا إسماعيل بن أبان، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، ومصعب بن شُرَحبيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون".

وكذلك رواه أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، وهو وَهَمٌ من ابن عجلان.

أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو العباس، محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدُّوريّ، قال: سمعت يحيى بن معين يقول في حديث ابن عجلان: "إذا قرأ فأنصتوا"، قال: ليس بشيء.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه، أنبأ أبو محمد بن حيان، أنبأ ابن أبي حاتم، قال: سمعت أبي وذكر هذا الحديث، فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة، هي من تخاليط ابن عجلان، قال: وقد رواه خارجة بن مصعب أيضًا يعني عن زيد بن أسلم، وخارجة أيضًا ليس بالقوي.

قال البيهقيّ رحمه الله: وقد رواه يحيى بن العلاء الرازيّ كما روياه، ويحيى بن العلاء الرازيّ متروك

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال الحفّاظ الناقدين أن أكثرهم على تضعيف زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا"، سواء كان في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق محمد بن عجلان، أو من حديث أبي موسى الأشعريّ، من طريق سليمان التيميّ، عن قتادة، إلا أن مسلمًا وبعض المحدثين صحّحوها

(1)

هو الدارقطنيّ.

(2)

"السنن الكبرى" 2/ 155 - 157.

ص: 424

على أنها زيادة ثقة، والذي يترجّح عندي قول الجمهور؛ لقوّة حجّتهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): أنه ينبغي على قول من قال بصحّة هذه الزيادة -أعني: "وإذا قرأ فأنصتوا"- كالمصنّف ومن قال بقوله، أن يكون هذا الأمر مقيّدًا بما سوى الفاتحة، فلا يجوز للمصلّي إذا سمع قراءة الإمام أن يقرأ سوى الفاتحة، وأما الفاتحة فلا بدّ من قراءتها؛ لصحّة استثنائها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

فقد أخرج أبو داود في "سننه" بسند صحيح، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فثَقُلَت عليه القراءة، فلما فرغ قال:"لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم هَذًّا يا رسول اللَّه، قال:"لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح أيضًا، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟ " مرتين أو ثلاثًا، قالوا: يا رسول اللَّه، إنا لنفعل، قال:"فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب".

فهذا الحديث الصحيح استثنى الفاتحة، فأوجب قراءتها على المأموم، وهذا هو المذهب الراجح من مذاهب العلماء، وقد تقدّم ذكر مذاهبهم، وأدلّتها مستوفًى في "باب وجوب قراءة الفاتحة في كلّ ركعة".

وقد ذكر الإمام البخاريّ رحمه الله تحقيق هذه المسألة في الجزء الذي وضعه في القراءة خلف الإمام، قال رحمه الله ما مُلخّصه:

واحتج هذا القائل -يعني أبا حنيفة- بقوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، ثم قال: وهذا منقوض بالثناء، مع أنه تطوّع، والقراءة فرض، فأوجب عليه الإنصات بترك فرض، ولم يوجبه بترك سنة، فحينئذ يكون الفرض عنده أهون حالًا من التطوع.

واعترضه أيضًا بفرع، وهو أن المصلي لو جاء والإمام في الركعة الأولى من الفجر، فإنه يصلي عنده ركعتي الفجر، ويترك الاستماع والإنصات، مع أنه عليه السلام قال:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".

ص: 425

قال: ويقال له: أرأيت إذا لم يجهر الإمام، أيقرأ خلفه؟ فإن قال: لا، فقد بطل دعواه؛ لأن الاستماع إنما يكون لما يُجْهَر به.

ثم ذكر عن ابن عباس من غير سند: "فاستمعوا له، وأنصتوا"، قال: في الخطبة، ثم قال: ولو أريد به في الصلاة، فنحن نقول: إنما يقرأ خلف الإمام عند سكوته، وقد رَوَى سمرة رضي الله عنه قال: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم سكتتان: سكتة حين يكبر، وسكتة حين يفرغ من قراءته، قال: وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن، وميمون بن مِهْران، وسعيد بن جبير، وغيرهم يرون القراءة عند سكوت الإمام؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، والإنصات إذا قرأ الإمام؛ عملًا بالآية.

قال: واحتج أيضًا بقوله عليه السلام: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، قال: وهذا حديث لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز والعراق؛ لإرساله وانقطاعه، أما إرساله، فرواه عبد اللَّه بن شداد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما انقطاعه، فرواه الحسن بن صالح، عن جابر الجعفيّ، عن أبي الزبير، عن جابر، ولا يُدْرَى أسمع جابر من أبي الزبير أم لا؟ قال: ولو ثبت، فتكون الفاتحة مستثناةً منه، أي مَن كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة بعد الفاتحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وقال في حديث آخر:"إلا المقبرة"، مع انقطاعه. قال: ونظير هذا قوله عليه السلام لسليك الغطفاني حين جاء وهو يخطب: "قم، فاركع"، مع أنه أمر بالإنصات للخطبة، فقال:"إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت"، ولكنه أخرج الصلاة من هذا الإطلاق.

قال: واحتَجّ أيضًا بخبر رُوي عن داود بن قيس، عن ابن نجاد، رجل من ولد سعد، عن سعد، قال:"وَدِدت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جَمْرة"، قال: وهذا مرسلٌ، فإن ابن نجاد لم يُعْرَف، ولا سُمِّي.

قال: واحتَجّ أيضًا بحديث رواه أبو حُبَاب، عن سلمة بن كُهَيل، عن إبراهيم، قال: قال عبد اللَّه: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام مُلِئ فُوهُ نَتْنًا"، قال: وهذا مرسلٌ لا يُحْتَجّ به، وخالفه ابن عوان، عن إبراهيم، عن الأسود، وقال: رَضْفًا، وهذا كله ليس من كلام أهل العلم لوجهين:

ص: 426

أحدهما: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تلاعنوا بلعنة اللَّه ولا بالنار، ولا تعذبوا عذاب اللَّه"، فكيف يجوز لأحد أن يقول في الذي يقرأ خلف الإمام جمرة، والجمرة من عذاب اللَّه؟.

الثاني: أنه لا يحل لأحد أن يتمنى أن تُملأ أفواه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مثل عمر بن الخطاب، وأُبَيّ بن كعب، وحُذيفة، وعليّ بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعائشة، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدريّ، وعبد اللَّه بن عمر، في جماعة آخرين، ممن رُوي عنهم القراءة خلف الإمام رَضْفًا، ولا نَتْنًا، ولا ترابًا. ثم روى أحاديث هؤلاء في مواضع متفرقة من الجزء المذكور.

قال: واحتَجّ أيضًا بخبر رواه عمر بن موسى بن سعد، عن زيد بن ثابت، قال:"من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له"، قال: ولا يعرف لهذا الإسناد سماع بعضهم من بعض، ولا يصح مثله.

قال: ورَوَى سليمان التيميّ، وعُمر بن عامر، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حِطّان، عن أبي موسى في حديثه الطويل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه:"وإذا قرأ فأنصتوا"، ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير.

وروى هشام، وسعيد، وأبو عوانة، وهمام، وأبان بن يزيد، وغيرهم، عن قتادة، فلم يقولوا فيه:"وإذا قرأ فأنصتوا"، ولو صحّ لَحُمل على ما سوى الفاتحة.

ورَوَى أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به"، وزاد فيه:"وإذا قرأ فأنصتوا"، ولا يُعْرَف هذا من صحيح حديث أبي خالد الأحمر، قال أحمد: أراه كان يُدَلِّس.

وقد رواه الليث، وبكير، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ورواه الليث أيضًا عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، وعن ابن عجلان، عن مصعب بن محمد، وزيد بن أسلم، والقعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فلم يقولوا فيه:"وإذا قرأ فأنصتوا".

ورواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُتَابَعْ أبو خالد في زيادته.

ص: 427

قال: ويقال لهذا القائل: قد أجمع أهل العلم وأنت على أن الإمام لا يتحمل عن القوم فرضًا، ثم قلت: إن الإمام يتحمل عن القوم هذا الفرض، مع أنك قلت: إنه لا يتحمل عنهم شيئًا من السنن، كالثناء، والتسبيح، ونحو ذلك، فتثبت أن الفرض عندك أهون حالًا من التطوع. انتهى كلام البخاريّ: مُلَخّصًا محررًا

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم تحقيق هذا مستوفًى في محلّه، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[911]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "فَإِنَّ اللَّه

(2)

عز وجل قَضَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّفٌ مشهور، عمي في آخره، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

(1)

لخّصه، وحرّره الحافظ الزيلعيّ رحمه الله في كتابه "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" 2/ 19 - 20.

(2)

وفي نسخة: "وإن اللَّه".

ص: 428

وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) إشارة إلى إسناد قتادة الماضى، وهو عن يونس بن جُبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرقَاشيّ، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ) ضمير "قال" لمعمر، أي قال معمر في روايته هذا الحديث عن قتادة:"فإن اللَّه. . . إلخ".

وقوله: ("فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَضَى. . . إلخ") أي حكم بذلك، وأنزله على نبيّه صلى الله عليه وسلم، فبلّغه صلى الله عليه وسلم بلسانه إلى الأمة.

[تنبيه]: رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة التي أحالها المصنّف هنا على رواية من تقدّم ذكرهم من رُواة قتادة، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(18690)

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حِطّان بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، عن أبي موسى الأشعريّ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، يسمع اللَّه عز وجل، فإن اللَّه تعالى قضى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سمع اللَّه لمن حمده". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(17) - (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ التَّشَهُّدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[912]

(405) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زيدٍ الأَنْصَارِيَّ -وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زيدٍ: هُوَ الَّذِي كَانَ أُرِيَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ- أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ

ص: 429

سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الإمام المجمع على جلالته، وإتقانه، وحفظه [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرُ)

(1)

مولى آل عمر المدني، ثقة [3](ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، ثقة [3].

روى عن أبيه، وأبي مسعود الأنصاريّ، وروى عنه ابنه عبد اللَّه بن محمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونعيم بن عبد اللَّه المجمر.

قال العجلي: مدنيّ تابعيّ ثقة، وقال ابن منده: وُلِد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والأربعة، وله عندهم سوى ابن ماجه، حديث الباب فقط، وعند البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، وأبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه حديث الأذان، فقط.

(1)

بجرّ "المجمر" صفة لعبد اللَّه، ورفعه صفة لنعيم.

ص: 430

5 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ الصحابيّ الشهير، مات قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، ومحمد بن عبد اللَّه، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: نعيم، عن محمد بن عبد اللَّه، وهو أيضًا من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه مشهور بكونه بدريًّا، وقد اختُلف في نسبته إلى بدر، والمشهور أنه لسُكْناه فيها، لا لشهوده غزوة بدر، وقال البخاريّ ومسلم: إنه شهدها، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ) -بضمّ الميم، وسكون الجيم، وكسر الميم الثانية، بصيغة اسم الفاعل، من الإجمار، أو بضمّ الميم، وفتح الجيم، وكسر الميم الثانية المشدّدة، من التجمير- وهو لقب لعبد اللَّه؛ لقّب به؛ لأنه كان يُبخّر المسجد النبويّ، ويُلقّب به أيضًا ابنه نُعيم (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بالرفع على الابتداء، وخبره قوله:(هُوَ الَّذِي كَانَ أُرِيَ) بالبناء للمفعول، وقوله:(النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) بالنصب على أنه مفعول ثانٍ لـ "أُرِيَ"، أي أراه اللَّه تعالى في منامه الأذان للصلاة، وقد تقدّمت قصته في أبواب الأذان، والجملة من المبتدأ والخبر معترضة بين اسم "إنّ"، وخبرها، أتى به لبيان أن والد محمد هو عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربّه الذي رأى الأذان في منامه، وإنما أتى به لئلا

ص: 431

يشتبه بعبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازنيّ، راوي صفة الوضوء، وصلاة الاستسقاء، وغيرهما.

وذلك لأنهما يشتبهان على من لا معرفة له بعلم الرجال؛ إذ هما متّفقان في الاسم، واسم الأب، والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج، وكذا في الصحبة، والرواية، ويَفترقان في الجدّ، والبطن الذي من الخزرج؛ لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربّه من بَلْحَارث بن الْخَزْرَج، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقد تقدّمت ترجمة عبد اللَّه بن زيد بن عاصم رضي الله عنه في أبواب الوضوء 7/ 561.

وأما عبد اللَّه بن زيد المذكور هنا، فهو: عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربّه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو محمد المدنيّ، وقيل في نسبه غير ذلك، شَهِدَ العقبة وبدرًا، والمشاهد، وهو الذي أُرِي النداء للصلاة في النوم، وكان رؤياه في السنة الأولى بعد بناء المسجد.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد، وابن ابنه عبد اللَّه بن محمد، على خلاف فيه، وسعيد بن المسيِّب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل: لم يسمع منه، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، ولم يدركه.

قال الترمذيّ، عن البخاريّ: لا يُعْرَف له إلا حديث الأذان، وكذا قال نحوه ابن عديّ، وأطلق غيرُ واحد أنه ليس له غيره، وقال ابن عديّ: لا نعرف له شيئًا يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا حديث الأذان. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا يؤيد كلام البخاريّ، وهو المعتمد، وقد وجدت له أحاديث غير الأذان جمعتها في جزء، واغتَرّ الأصبهاني بالأول، فجزم به، وتبعه جماعة، فَوَهِمُوا.

(1)

"الفتح" 3/ 190 "كتاب الاستسقاء".

ص: 432

قال المدائنيّ: عن كثير بن زيد، عن المطّلب بن حنطب، عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد، قال: مات أبي سنة (32) وهو ابن (64)، وصلّى عليه عثمان.

وقال الحاكم: الصحيح أنه قُتِل بأحد، والروايات عنه كلها منقطعة، كذا قال، وخالف ذلك في "المستدرك".

وفي ترجمة عمر بن عبد العزيز من "الحلية" بسند صحيح، عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ، قال: دخلت ابنة عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه على عمر بن عبد العزيز، فقالت: أنا ابنة عبد اللَّه بن زيد، شهد أبي بدرًا، وقُتِل بأحد، فقال: سليني ما شئتِ، فأعطاها

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والأربعة، وليس له عند مسلم رواية، وإنما له ذكر فقط.

وقوله: (أَخْبَرَهُ) خبر "أنّ"(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) بن دُلَيم بن حارثة بن أبي خُزيمة، ويقال: خُزيمة بن أبي خزيمة، ويقال: حارثة بن حَرَام بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طَرِيف بن الخزرج الأنصاريّ، سيد الخزرج، أبي ثابت، ويقال: أبو قيس المدنيّ، وأمه عمرة بنت مسعود، كانت لها صحبة، وماتت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، شَهِد العقبة، وغيرها من المشاهد، واختُلِف في شهوده بدرًا.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أولاده: قيس، وإسحاق، وسعيد، وابن ابنه شُرَحبيل بن سعيد، على خلاف فيه، وابن عباس، وابن المسيِّب، وأبو أمامة بن سهل، والحسن البصريّ، ولم يدركه، وعيسى بن فائد، وقيل: بينهما رجل.

شَهِدَ العَقَبَة، وغيرها من المشاهد، واختُلِف في شُهوده بدرًا، فذكر

(1)

"تهذيب التهذيب" 5/ 197 بزيادة من "الإصابة".

ص: 433

البخاريّ، وأبو حاتم، وأبو أحمد الحاكم أنه شَهِدَ بدرًا، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى ممن لم يَشْهَد بدرًا، وقال: كان ممن يتهيأ للخروج إلى بدر، فنُهِش فأقام، وقال ابن سعد أيضًا: كان سعد في الجاهلية يَكتُب بالعربية، ويحسن العَوْم والرَّمْي، وكان مَن أحسن ذلك سُمِّي الكامل، وكان هو وعِدّةٌ من آبائه في الجاهلية يُنادَى على أُطُمهم: مَن أحبّ الشحم واللحم، فليأت أُطُم دُلَيم بن حارثة، قال: وكانت جَفْنة سعد تدور مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، وقال مِقْسَم عن ابن عباس رضي الله عنه: كانت راية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المواطن كلِّها مع عليّ راية المهاجرين، ومع سعد بن عُبَادة راية الأنصار، وقال محمد بن سيرين: كان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصُّفّة يُعَشِّيهم.

وقال ابن عبد البرّ: تخلَّف سعد عن بيعة أبي بكر الصدِّيق، وخرج عن المدينة، فمات بحَوْران

(1)

من أرض الشام سنة (15)، وقيل: سنة (14)، وقيل: سنة (11)، ولم يختلفوا أنه وُجِد ميتًا في مُغْتَسَله، وقال ابن جريج، عن عطاء: سمعت أن الجن قتلته، وقال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة (16)، له ذِكْرٌ في "الصحيحين" في غير موضع، وأخرج له الأربعة.

(فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدِ) بن ثَعْلبة بن الْجُلاس

(2)

بن زيد بن مالك بن ثَعْلبة بن كعب بن الْخَزْرج الأكبر الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، والد النعمان، شَهِد بدرًا، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق من الأنصار، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا في النُّحْل على خلاف فيه.

(1)

بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو: نسبة إلى حَوْران مدينة بالشام، أفاده في "لب اللباب" 1/ 263.

(2)

بضمّ الجيم، وتخفيف اللام، وضبطه الدارقطنيّ بفتح الخاء المعجمة، وتثقيل اللام، أفاده في "الإصابة" 1/ 262.

ص: 434

رَوَى عنه ابنه النعمان، وابن ابنه محمد، وعروة، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ذكره ابن أبي حاتم فيمن مات سنة (13) فتكون رواية هؤلاء عنه سوى النعمان مرسلةً، وقد رُوي حديث حميد بن عبد الرحمن، عن النعمان، عن أبيه، فتعيّن إرساله، إن كان رواه عن بشير بلا واسطة.

وذكر ابن إسحاق والواقديّ أنه قُتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد مُنْصَرَفه من اليمامة سنة (12).

لكن رَوَى البخاري في "تاريخه" من طريق الزهريّ، عن محمد بن النعمان بن بشير، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال يومًا، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو تَرَخَّصت في بعض الأمر ماذا كنتم فاعلين؟ قال: فقال له بشير بن سعد: لو فَعلتَ قَوَّمناك تقويم القادح، فقال عمر: أنتم إذًا أنتم.

فهذا يدلّ على أنه بقي إلى خلافة عمر، وفي "كتاب الطبقات" لابن سعد: أنه كان يكتب بالعربية في الجاهلية.

وبعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض السرايا، واستعمله على المدينة في عمرة القضاء.

أخرج له النسائيّ حديث النُّحْلة فقط، وله ذِكْرٌ عند المصنّف وغيره في حديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه المذكور في هذا الباب فقط.

(أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟) معناه أمرنا اللَّه تعالى بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فكيف نَلْفِظ بالصلاة؟ وفي هذا أن مَن أُمر بشيء لا يَفْهَم مراده يسأل عنه؛ لِيَعْلم ما يأتي به، قاله النووي رحمه الله.

وقال القاضي عياض: وسؤالهم هنا عن الصلاة يَحْتَمل أن يراد به السؤال عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويَحْتَمل أن يكون في الصلاة، قال: وهو الأظهر؛ لقوله: "والسلام كما علمتم"، قال النوويّ: وهذا ظاهر اختيار مسلم، ولهذا ذكر هذا الحديث في هذا الموضع. انتهى.

ص: 435

وقال القاضي عياض رحمه الله أيضًا: حُكْمُ من خُوطب بأمر يَحْتَمِل لوجهين، أو مُجْمَلٍ لا يَفْهَمُ مراده، أو عامّ يَحْتَمِل الخصوص أن يسأل، ويَبحث إذا أمكنه ذلك، واتَّسَعَ له الوقتُ للسؤال؛ إذ لفظ الصلاة الواردة في القرآن بقوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ} محتمل لأقسام معاني لفظ الصلاة، من الرحمة، والدعاء، والثناء، فقد قيل: صلاة اللَّه عليه: ثناؤه عليه عند الملائكة، ومن الملائكة دعاءٌ، وقيل: هي من اللَّه رحمةٌ، ومن الملائكة رقّةٌ، ودعاء بالرحمة، وقيل: هي من اللَّه لغير النبيّ رحمة، وللنبيّ تشريف، وزيادة تكرمة، وقيل: هي من اللَّه وملائكته تبريك، ومعنى {يُصَلُّونَ} يبَرِّكون.

فيَحْتَمِل أنّ الصحابةَ سألوا عن المراد بالصلاة؛ لاشتراك هذه اللفظة، وإلى هذا ذهب بعض المشايخ في معنى سؤالهم في هذا الحديث.

وقد اختَلَفَ الأصوليّون في الألفاظ المشتركة إذا وردت مطلقةً، فقيل: تُحْمَلُ على عموم مقتضاها من جميع معانيها ما لم يَمنَع مانعٌ، وقيل: تُحمَل على الحقيقة دون ما تُجُوِّز به، وإليه نحا القاضي أبو بكر.

وذهب بعض المشايخ إلى أن سؤالهم عن صفة الصلاة، لا عن جنسها؛ لأنهم لم يؤمروا بالرحمة، ولا هي لهم، فإن ظاهر أمرهم بالدعاء

(1)

، وإليه نحا الباجيّ.

قال القاضي عياض: وهو أظهر في اللفظ، وإن كانت الصلاة كما قدّمنا مشتركة اللفظ، والخلاف في معنى الصلاة من اللَّه والملائكة موجود، ويعضده السؤال فيه بـ "كيف" التي تقتضي الصفة لا الجنس الذي يُنقل عنه بها. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاحتمال هو المتعيّن هنا، وأما الاحتمال الأول، فلا يخفى بُعده، فتبصّر.

(1)

لعل الصواب: فالظاهر أن أمرهم بالدعاء، فليُحرّر.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 301 - 302.

ص: 436

والحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم إنما سألوا عن صيغة الصلاة التي أُمِروا بها، ويدلّ على تعيّن هذا المعنى قوله في حديث كعب رضي الله عنه الآتي:"عَرَفْنا كيف نسلّم عليك" أي عَلِمنا صيغة السلام عليك المأمور به في الآية، حيث علّمتنا بقولك في التشهد:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، فما هو اللفظ الذي نصلّي عليك به؟، فالسؤال عن صيغة الصلاة، لا عن المعنى المراد بها، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": واختُلِف في المراد بقولهم: "كيف"، فقيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأيِّ لفظ يُؤَدَّى، وقيل: عن صفتها، قال عياض: لَمّا كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} والآية [الأحزاب: 56] يَحْتَمِل الرحمة والدعاء والتعظيم، سألوا بأيّ لفظ تُؤَدَّى؟ هكذا قال بعض المشايخ، ورَجّح الباجيّ أن السؤال إنما وقع عن صفتها، لا عن جنسها، وهو أظهر؛ لأن لفظ "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيُسْأل عنه بلفظ "ما"، وبه جزم القرطبيّ، فقال: هذا سؤالُ مَن أشكلت عليه كيفية ما فَهِم أصله، وذلك أنهم عَرَفُوا المراد بالصلاة، فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها. انتهى.

والحامل لهم على ذلك أن السلام لَمّا تقَدَّم بلفظ مخصوص، وهو "السلامُ عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته"، فَهِمُوا منه أن الصلاة أيضًا تقع بلفظ مخصوص، وعَدَلُوا عن القياس؛ لإمكان الوقوف على النصّ، ولا سيّما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبًا، فوقع الأمر كما فَهِمُوا، فإنه لم يقل لهم قولوا: الصلاة عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك إلخ، بل علَّمَهم صيغة أخرى. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو مسعود رضي الله عنه (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي منتظرًا للوحي (حَتَّى تَمَنَّيْنَا انَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ) إنما تمنّوا ذلك خشيةَ أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُعجبه السؤال المذكور؛ لما تقرّر عندهم من النهي عن ذلك في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: 101].

(1)

"الفتح" 11/ 159 - 160 "كتاب الدعوات" رقم (6358).

ص: 437

ووقع عند الطبريّ من وجه آخر في هذا الحديث: "فسكت حتى جاءه الوحي، فقال: تقولون. . . ".

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بعد أن سَكَت منتظرًا للوحي، فنزل عليه:("قُولُوا: اللَّهُمَّ) هذه الكلمة كَثُر استعمالها في الدعاء، وهو بمعنى: يا اللَّه، والميم عوض عن حرف النداء، فلا يقال: اللهم غفور رحيم مثلًا، وإنما يقال: اللهم اغفر لي، وارحمني، ولا يدخلها حرف النداء إلا في نادر، كقول الراجز:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا

واختُصَّ هذا الاسم بقطع الهمزة عند النداء، ووجوب تفخيم لامه، وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف، هالى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ "يَا" وَ"أَلْ"

إِلَّا مَعَ "اللَّهِ" وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ

وَالأَكْثَرُ "اللَّهُمَّ" بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ "يَا اللَّهُمَّ" فِي قَرِيضِ

وذهب الفَرّاء ومن تبعه من الكوفيين إلى أن أصله "يا اللَّه"، وحذف حرف النداء تخفيفًا، والميم مأخوذة من جملة محذوفة، مثل أُمَّنَا بخير، وقيل: بل زائدة، كما في زُرْقُم للشديد الزُّرْقَة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيمًا، وقيل: بل هو كالواو الدالة على الجمع، كأن الداعي قال: يا مَن اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شُدِّدت الميم؛ لتكون عوضًا عن علامة الجمع، وقد جاء عن الحسن البصريّ: اللهم مُجْتَمَعُ الدعاء، وعن النضر بن شُميل: مَن قال: اللهم فقد سأل اللَّه بجميع أسمائه، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(صَلِّ) أصحّ التفاسير للصلاة ما ذكره البخاريّ في "صحيحه" عن أبي العالية قال: معنى صلاة اللَّه على نبيه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له.

وعند ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حَيّان قال: صلاة اللَّه مغفرته، وصلاة الملائكة الاستغفار.

(1)

11/ 160 "كتاب الدعوات" رقم (6358).

ص: 438

وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن معنى صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.

وقال الضحاك بن مُزاحم: صلاة اللَّه رحمته، وفي رواية عنه: مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء، أخرجهما إسماعيل القاضي عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها.

وقال المبرد: الصلاة من اللَّه الرحمة، ومن الملائكة رِقّة تَبْعَث على استدعاء الرحمة.

وتُعُقِّب بأن اللَّه غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وكذلك فَهِم الصحابة المغايرةَ من قوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب: 56] حتى سألوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام، حيث جاء بلفظ:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، وأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة، لقال لهم: قد علمتم ذلك في السلام.

وجَوَّز الحليميّ أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظرٌ، وحديث الباب يَرُدّ على ذلك.

وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة اللَّه على نبيه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من اللَّه تعالى، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة.

وقيل: صلاة اللَّه على خلقه تكون خاصّةً، وتكون عامّةً، فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة فهي التي وَسِعت كل شيء.

ونَقَل عياض عن بَكْر القشيريّ قال: الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من اللَّه تشريف، وزيادة تَكْرِمة، وعلى من دون النبيّ رحمة، وبهذا التقرير يَظْهَر الفرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين سائر المؤمنين، حيث قال اللَّه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ، وقال قبل ذلك في السورة المذكورة:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ، ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتنويه به ما ليس في غيرها.

ص: 439

وقال الْحَلِيميّ في "الشعب": معنى الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد: عَظِّم محمدًا، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ} : ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى.

ولا يَعْكُر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه، فإنه لا يمتنع أن يُدْعَى لهم بالتعظيم؛ إذ تعظيم كلّ أحد بحسب ما يليق به، وما تقدّم عن أبي العالية أظهر، فانه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى اللَّه، وإلى ملائكته، وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيِّده أنه لا خلاف في جواز الترحّم على غير الأنبياء، واختُلِف في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: اللهم صل على محمد: اللهم ارحم محمدًا، أو ترحم على محمد، لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة، وكذا الرحمة لسقط الوجوب في التشهد عند من يوجبه بقول المصلي في التشهد:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويمكن الانفصال بأن ذلك وقع بطريق التعبد، فلا بد من الإتيان به، ولو سبق الإتيان بما يدلّ عليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(عَلَى مُحَمَّدٍ) هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو اسم منقولٌ من الحمد، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمّن الثناء على المحمود، ومحبّته، وإجلاله، وتعظيمه، وقد تقدّم البحث فيه، مستوفًى في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد علْمًا جمًّا

(2)

.

(وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) قيل: أصل "آل""أهلٌ"، قُلبت الهاء همزةً، ثم سُهِّلت، ولهذا إذا صُغِّر رُدّ إلى الأصل، فقالوا: أُهيلٌ، وقيل: بل أصله أَوَلٌ، من آل: إذا رجع، سُمّي بذلك من يؤول إلى الشخص، ويُضاف إليه، ويقوّيه أنه لا يضاف إلا إلى مُعظّم، فيقال: آل القاضي، ولا يقال: آل الحَجّام،

(1)

"الفتح" 11/ 160 - 161 "كتاب الدعوات" رقم (6358).

(2)

راجع: "قرة عين المحتاج" 1/ 222 - 224.

ص: 440

بخلاف أهل، ولا يُضاف آل أيضًا غالبًا إلى غير العاقل، ولا إلى المضمر عند الأكثرين، وجوّزه بعضهم بقلّة، وصوّبه القرطبيّ؛ لأن السماع الصحيح يَعضده، فإنه قد جاء في قول عبد المطّلب في قصّة أصحاب الفيل من أبيات:

لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْـ

ــــنَعْ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ

وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيـ

ــــــبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ

وقال قُدامة:

أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي

وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا

وغير ذلك من كلام العرب، وهو كثير

(1)

.

وقد يُطلق آل فلان على نفسه، وعليه وعلى من يُضاف إليه جميعًا، وضابطه أنه إذا قيل: فَعَلَ آلُ فلان كذا دخل فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ رضي الله عنه:"إنا آلَ محمد، لا تحلّ لنا الصدقة"، وإن ذُكرا معًا فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكالإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان.

ولَمّا اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معًا، وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يُحمَل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه، ويكون بعض الرواة حَفِظ ما لم يَحفَظه الآخرون، وأما التعدّد فبعيدٌ؛ لأن غالب الطرق تُصَرّح بأنه وقع جوابًا عن قولهم:"كيف نصلي عليك؟ ".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الحمل على التعدّد أقرب؛ لأن السائلين كثيرون، فحملُ سؤالهم على محلّ واحد بعيدٌ جدًّا.

فالأولى أن نقول: إنه صلى الله عليه وسلم علّمهم في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة في بعضها طولٌ، وفي بعضها اختصارٌ؛ توسعةً عليهم، فتكون كألفاظ التشهّد الْمُخْتلِف تعليمه صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم إياها، وكصيغ الاستفتاح، وأذكار الركوع والسجود، والدعوات.

والحاصل أن في الأمر سعةً، فيختار مريد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أيّ صيغة صحّت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَيُصلي بها، والأولى أن يُصلي في وقت بصيغة، وفي آخر بأخرى، وهكذا حتى يستعمل الصيغ التي صحّت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 2/ 40 - 41.

ص: 441

وقال في "الفتح": ويَحْتَمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى؛ بناءً على دخول إبراهيم في قوله: "آل إبراهيم"، كما تقدّم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاحتمال بعيدٌ جدًّا، فإن الرواية بالمعنى في الألفاظ المتعبّد بها غير جائز، كما هو مقرّر في محلّه من كتب مصطلح الحديث، قال في "التدريب" في بحث الخلاف في الرواية بالمعنى:"ولا شكّ في اشتراط أن لا يكون مما تُعُبّد بلفظه". انتهى

(1)

.

واختُلِف في المراد بآل محمد في هذا الحديث، فالراجح أنهم مَن حُرِّمت عليهم الصدقة، وسيأتي بيان الاختلاف في ذلك مستوفًى في "كتاب الزكاة" -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال في "الفتح": وهذا نَصَّ عليه الشافعيّ، واختاره الجمهور، ويؤيده قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ رضي الله عنه:"إنا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة"، وقد أخرج البخاريّ من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع:"إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد".

وقال أحمد: المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته، وعلى هذا، فهل يجوز أن يقال: أهل عوض آل؟ روايتان عندهم.

وقيل: المراد بآل محمد أزواجه وذريته" لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ: "وآل محمد"، وجاء في حديث أبي حميد موضعَهُ: "وأزواجه وذريته"، فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية.

وتُعُقِّب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة، كما في حديث أبي هريرة، فيُحْمَل على أن بعض الرواة حَفِظَ ما لم يَحفَظ غيره، فالمراد بالآل في التشهد الأزواج، ومَن حُرِّمت عليهم الصدقة، ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يُجمع بين الأحاديث.

وقد أُطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمد، في حديث عائشة رضي الله عنها: "ما شَبِعَ

(1)

"تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي" 2/ 102.

ص: 442

آل محمد من خبز بُرّ مأدوم ثلاثًا"، متّفق عليه، وقد تقدم وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا"، متّفقٌ عليه، وكأن الأزواج أُفردن بالذكر تنويهًا بهنّ، وكذا الذرية.

وقيل: المراد بالآل ذريةُ فاطمة خاصّةً، حكاه النووي في "شرح المهذّب".

وقيل: هم جميع قريش، حكاه ابن الرفعة في "الكفاية"، وقيل: المراد بالآل جميع الأمة، أمة الإجابة، وقال ابن العربيّ: مال إلى ذلك مالكٌ، واختاره الأزهريّ، وحكاه أبو الطيب الطبريّ عن بعض الشافعية، ورجّحه النوويّ في "شرح مسلم"، وقيّده القاضي حسين، والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يُحْمَل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أوليائي منكم المتقون".

قال الحافظ: ويمكن أن يُحْمَل كلام من أطلق على أن المراد بالصلاة الرحمة المطلقة، فلا تحتاج إلى تقييد، وقد استُدِلّ لهم بحديث أنس رفعه:"آلُ محمد كلُّ تقيّ"، أخرجه الطبراني ولكن سنده وَاهٍ جِدًّا، وأخرج البيهقيّ عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أظهر الأقوال، وأرجحها أن المراد بالآل هم الذين تحرّم عليهم الصدقة؛ لوضوح أدلّته، وأما تفسيره بجميع الأمة، وإن استظهره النوويّ، واختاره غيره فلا يخفى بُعده، وأما تأييد الحافظ له بالآية، والحديث، فلا يخفى بُعده أيضًا، والحديث الأول لم يُبيّن درجته، ولم يسق سنده حتى يُنظر فيه، وأما الأخيران فقد بَيّنَ ضعفهما، فلا يكون شيء مما ذكره مؤيّدًا للحمل المذكور، فتبصّر.

وقد استوفيت البحث في هذا الموضوع في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا

(1)

، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) صفة لمصدر حذوف، تقديره: صلاةً مثلَ صلاتك.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 15/ 127 - 134.

ص: 443

والمراد بآل إبراهيم ذريتُهُ، من إسماعيل، وإسحاق، كما جزم به جماعة من الشُّرّاح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر، فهم داخلون لا محالة، ثم إن المراد المسلمون منهم، بل المتَّقُون، فيدخل فيهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد.

[تنبيه]: اشتَهَرَ السؤال عن موقع التشبيه، مع أن المقرّر أن المشبَّه دون المشبَّه به، والواقع هنا عكسه؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم، ومن إبراهيم، ولا سيما قد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة، أحسنها عندي ما رجّحه القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، حيث قال: إن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر، فهو كقوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: 163]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، وكقول القائل: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان، ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وقد استوفيت بقيّة الأقوال بما لها وما عليها في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(1)

، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

[فائدة]: قال العلّامة ابن الملقّن رحمه الله: في إبراهيم خمس لغات: إبراهيم، وإبراهام، وإبراهِم، بضمّ الهاء، وفتحها، وكسرها من غير ياء، وجمعه براهم، وإبارة، ويجوز الواو والنون؛ لاجتماع الشروط فيه، قالوا: ومعناه: أبٌ رحيم.

قال الجواليقيّ وغيره: أسماء الأنبياء -صلوات اللَّه وسلامه عليهم- كلّها أعجميّةٌ، إلا محمدًا، وصالحًا، وشُعيبًا، وآدم -صلوات اللَّه وسلامه عليهم-.

وقال ابن قتيبة: وتحذف الألف من الأسماء الأعجميّة، كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وإسرائيل؛ استثقالًا كما تُرك صرفها، وكذا سليمان،

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 15/ 134 - 141.

ص: 444

وهارون، فأما ما لا يكثر استعماله منها، كهارون، وماروت، وقارون، وطالوت، وجالوت، فلا تُحذف الألف في شيء منها، ولا يُحذف من داود، وإن كان مشهورًا؛ لأنه حُذف منه إحدى الواوين، فلو حُذفت الألف أُجحِف به.

وأما ما كان على فاعل، كصالح، ومالك، وخالد، فيجوز إثبات ألفه، وحذفها بشرط كثرة استعماله، فإن قلّ، كسالم، وحامد، وجابر، وحاتم لم يجز حذف الألف، وما كثُر استعماله، ودخلت الألف واللام فيه، تحذف ألفه معها، وتثبت مع حذفهما. انتهى

(1)

.

(وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ) أي أثبِتْ له، وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة، وزده من الكمالات ما يليق بك وبه.

وقال في "الفتح": المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: المراد التطهير من العيوب والتزكية، وقيل: المراد إثبات ذلك، واستمراره، من قولهم: بَرَكَت الإبل: أي ثبتت على الأرض، وبه سُمِّيت بِرْكة الماء -بكسر أوله، وسكون ثانيه- لإقامة الماء فيها.

والحاصل أن المطلوب أن يُعْطَوا من الخير أوفاه، وأن يَثْبُت ذلك، ويَسْتَمِرّ دائمًا. انتهى. وقد أشبعت البحث فيما يتعلّق بالبركة في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(2)

، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

[فائدة]: سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: عمن يقول: قُضيت حاجتي ببركة اللَّه وبركة الشيخ.

فأجاب: بأن هذا منكر من القول، فإنه لا يُقرَن باللَّه في مثل هذا غيره، كما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم من قال:"ما شاء اللَّه، وشئتَ"، إلى أن قال: وقول القائل: ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه، وأسرعُ الدعاء إجابةً دعاء الغائب للغائب، وقد يَعني بها بركة ما أمره به، وعلّمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحقّ وموالاته في الدين، ونحو ذلك، وهذه كلّها معانٍ صحيحة، وقد يعني بها

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 3/ 465 - 466.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 141 - 146.

ص: 445

دعاءه للميت والغائب؛ واستقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له، من البدع المنكرات، والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة اللَّه تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ونحو ذلك هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل اللَّه تعالى ورحمته. انتهى كلامه رحمه الله باختصار وتصرّف

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، فللَّه ما أدقّ نظره، وأعمق فكره.

(وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ) متعلّق بـ "صلّ"، أو بـ "بَارِكْ" على سبيل التنازع.

قال السخاويّ رحمه الله: أشار بقوله: "في العالمين" إلى اشتهار الصلاة والبركة على إبراهيم في العالمين، وانتشار شرفه وتعظيمه، وأن المطلوب لنبيّنا صلى الله عليه وسلم صلاة تُشبه تلك الصلاة، وبركة تُشبه تلك البركة في انتشارها في الخلق وشهرتها، وقد قال اللَّه تعالى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 78 - 79].

وقال: المراد بـ "العالمين" فيما رواه أبو مسعود في حديثه: أصناف الخلق، وفيه أقوال أخرى، قيل: ما حواه بطن الفَلَك، وقيل: كل مُحْدَث، وقيل: ما فيه روح، وقيل: بقيد العقلاء، وهذان القولان في "المشارق"، وقيل: الإنس والجن فقط، حكاه المنذريّ، وحَكَى قولًا آخر: إنه الجنّ والإنس والملائكة والشياطين

(2)

.

(إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أما "الحميد": فهو فَعِيل من الحمد، بمعنى محمود، وأبلغ منه، وهو مَنْ حَصَل له من صفات الحمد أكملها، وقيل: هو بمعنى الحامد، أي يَحْمَد أفعالَ عباده.

وأما "المجيد": فهو من المجد، وهو صفةُ مَن كَمُلَ في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال، كما أن الحمد يدلّ على صفة الإكرام.

ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين، أن المطلوب تكريم اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وثناؤه عليه، والتنويه به، وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى" 27/ 95 - 96.

(2)

راجع: "القول البديع" للسخاويّ ص (103).

ص: 446

طلب الحمد والمجد، ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى: إنك فاعلٌ ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريمٌ بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد استوفيت البحث في تحقيق معنى هذين الاسمين، ومناسبتهما لختم الصلاة بهما في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(2)

، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ") جملة من مبتدأ وخبره، قال النوويّ رحمه الله: معناه: قد أمركم اللَّه تعالى بالصلاة والسلام عليّ، فأما الصلاة، فهذه صفتها، وأما السلام فكما قد علمتم في التشهّد، وهو قولهم:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

وقوله: "عَلِمْتُمْ" هو بفتح العين، وكسر اللام المخفّفة، ومنهم من رواه بضم العين، وتشديد اللام أي عَلَّمْتُكُمُوهُ، وكلاهما صحيح. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 912](405)، و (أبو داود) في "الصلاة"(980 و 981)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3320)، و (النسائيّ) فيها (3/ 45 و 47) وفي "الكبرى"(84/ 1258) وفي "عمل اليوم والليلة"(48 و 49)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 165 - 166)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3108)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 90 - 91)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 118 و 5/ 273 و 274)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 309 و 310)، و (عبد بن

(1)

11/ 167.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 14/ 146 - 148.

(3)

"شرح النوويّ" 4/ 125.

ص: 447

حُميد) في "مسنده"(234)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(711)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1958 و 1959)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 696 و 698)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 354 - 355)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 268)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 146)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(683)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1966)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(900)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، حيث كان يزور أصحابه في مجالسهم؛ إكرامًا وتأنيسًا لهم.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للإمام أن يخصّ رؤساء القوم وسادتهم بالزيارة في مجالسهم تأنيسًا لهم، واستجلابًا لمودّتهم، وتنويهًا بشرفهم لدى أتباعهم حتى يزدادوا لهم تعظيمًا وطاعةً.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العناية بالسؤال عن مهمّات الدين، ومُعضِلات المسائل الشرعيّة، حتى يعملوا بمقتضى ما يُجيبهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُقدمون على العمل بأنفسهم؛ أمتثالًا لقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1].

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التأدّب مع مولاه عند توجيه السؤال في توضيح معنى آية من كتاب اللَّه تعالى، فينظر الوحي، حتى يُجيب على ضوئه، فكان كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ولا ينافى هذا ما قدّمنا من ترجيح جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم؛ لأن اجتهاده نوع من الوحي؛ إذ لا يقَرّ على الخطأ، بل ينزل عليه الوحي، فيبيّن له الخطأ، بخلاف غيره من المجتهدين، فإنهم يبقون على خطئهم، واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على تعيُّن هذا اللفظ الذي علّمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه في امتثال الأمر، فلا تبرأ الذمّة إلا به، فلو حلف إنسان على أن يصلّي عليه

ص: 448

كما أمره اللَّه تعالى لا يبرّ في يمينه إلا أن يُصلي باللفظ الذي صحّ تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فتنبّه.

7 -

(ومنها): أن هذه الصيغة، وما أشبهها مما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم هي أفضل الصيغ في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأكملها؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأكمل والأشرف، فلو حلف شخص أن يصلي عليه بأفضل الصلاة، فطريق البرّ أن يأتي بها على أصحّ أقوال العلماء في ذلك.

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله في كتابه الممتع "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم": وقد استدل بذلك -أي بتعليمه صلى الله عليه وسلم هذه الكيفيّة لأصحابه لَمّا سألوه- على أنها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يختار لهم -ولا لنفسه- إلا الأشرف والأفضل، ومن ثَمّ صَوَّب النوويّ في "الروضة": أنه لو حَلَف ليصلينّ عليه صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة لم يَبَرّ إلا بتلك الكيفية، ووجّه السبكيّ بأنه مَن أتى بها، فقد صلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيقين، وكلُّ من جاء بلفظ غيرها، فهو من إتيانه بالصلاة المطلوبة في شكّ؛ لأنهم قالوا: كيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا:. . . "، فجعل الصلاة عليه منهم هي قولهم كذا. انتهى. وذكره الهيتمي في "الدر المنضود"(ق 25/ 2) ثم ذكر (ق 27/ 1) أن المقصود يحصل بكل من هذه الكيفيات التي جاءت في الأحاديث الصحيحة. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): ما قيل: إن الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله عز وجل: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقد تقدّم تعليم السلام قبل الصلاة، كما قالوا:"عَلِمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ ".

9 -

(ومنها): أن فيه الرّدّ على ما نُقل عن النخعيّ أنه يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله: "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته" في التشهّد؛ لأنه لو كان كما قال لأرشدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، ولَمَا عَدَل إلى تعليمهم كيفيّةً أخرى.

10 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على عدم كراهة إفراد الصلاة عن السلام،

(1)

راجع: "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (ص 172).

ص: 449

وكذا العكس؛ لأنهم كانوا يسلّمون عليه قبل أن يتعلموا صيغة الصلاة.

11 -

(ومنها): أنه يدلّ على فضيلة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها، واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيّتها، وقد وردت أحاديث كثيرة في التصريح بفضلها، وسنذكر بعضها في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي آخر الباب -إن شاء اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال أوصلها الحافظ رحمه الله إلى عشرة، حيث قال:

فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب:

[أولها]: قول ابن جرير الطبريّ: إنها من المستحبات، وادَّعَى الإجماع على ذلك.

[ثانيها]: مقابله، وهو نقل ابن القصّار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر، لكن أقلّ ما يحصل به الإجزاء مرةً.

[ثالثها]: تجب في العمر في صلاة أو في غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرازيّ من الحنفية، وابن حزم، وغيرهما، وقال القرطبيّ المفسر: لا خلاف في وجوبها في العمر مرة، وأنها واجبة في كل حين وجوب السنن المؤكدة، وسبقه ابن عطية.

[رابعها]: تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعيّ، ومن تبعه.

[خامسها]: تجب في التشهد، وهو قول الشعبيّ، وإسحاق بن راهويه.

[سادسها]: تجب في الصلاة من غير تعيين المحلّ، نُقِل ذلك عن أبي جعفر الباقر.

[سابعها]: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبو بكر بن بكير من المالكية.

[ثامنها]: كلما ذُكِر، قاله الطحاويّ، وجماعة من الحنفية، والْحَلِيميّ،

ص: 450

وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربيّ من المالكية: إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشريّ.

[تاسعها]: تجب في كل مجلس مرةً، ولو تكرر ذكره مرارًا، حكاه الزمخشريّ.

[عاشرها]: تجب في كل دعاء، حكاه الزمخشريّ أيضًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أرجح الأقوال القول الثامن، وهو وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذُكر اسمه؛ لأدلّة كثيرة:

(منها): ما أخرجه الترمذيّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ رجل ذُكِرتُ عنده، فلم يُصَلِّ عليّ، ورَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغْفَر له، ورَغِم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة"، وهو حديث صحيح.

ومعنى "رَغِم" بفتح الراء، وكسر الغين المعجمة: لَصِقَ بالرَّغَام بالفتح، وهو التراب ذُلًّا وهَوَانًا، وهو دعاء عليه بالذلّ والهوان، ولا يكون هذا إلا لترك واجب.

(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال:"آمين آمين آمين"، قيل: يا رسول اللَّه، إنك صَعِدت المنبر، فقلت: آمين آمين آمين، فقال:"إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهرَ رمضان، فلم يُغْفَر له، فدخل النار، فأبعده اللَّه، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه، أو أحدهما، فلم يَبَرَّهما، فمات فدخل النار، فأبعده اللَّه، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن ذُكِرتَ عنده، فلم يُصلِّ عليك، فمات فدخل النار، فأبعده اللَّه، قل: آمين، فقلت: آمين"، رواه ابن خزيمة، وابن حبّان في صحيحيهما، واللفظ لابن حبّان.

(ومنها): حديث الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"البخيل مَن ذُكرت عنده، فلم يصل عليّ"، رواه النسائيّ، وابن حبان في "صحيحه"،

(1)

"الفتح" 11/ 157.

ص: 451

والحاكم، وصححه الترمذيّ، وزاد في سنده علي بن أبي طالب، وقال: حديث حسن صحيح غريب.

(ومنها): حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ذات يوم، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بأبخل الناس؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"من ذُكِرت عنده، فلم يُصَلّ عليّ، فذلك أبخل الناس"، رواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصلاة" من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، وهو صحيح لغيره

(1)

.

فهذه الأحاديث المشتملة على الوعيد المذكور، مَن تأمّلها حقّ التأمّل تبيّن له وجوب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم كلما ذُكر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير:

(اعلم) أنهم اختلفوا في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة، ومالك -رحمهما اللَّه تعالى- والجماهير إلى أنها سنةٌ، لو تُرِكت صحت الصلاة، وذهب الشافعيّ، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- إلى أنها واجبة، لو تُرِكت لم تصحّ الصلاة، وهو مَرْويّ عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللَّه رضي الله عنهما، وهو قول الشعبيّ، قال النوويّ: وقد نَسَب جماعة الشافعيَّ رحمه الله في هذا إلى مخالفة الإجماع، ولا يصحّ قولهم، فإنه مذهب الشعبيّ كما ذكرنا، وقد رواه عن البيهقيّ، وفي الاستدلال لوجوبها خفاءٌ، وأصحابنا يحتجون بحديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه المذكور هنا، أنهم قالوا:"كيف نصلي عليك يا رسول اللَّه؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد. . . " إلى آخره، قالوا: والأمر للوجوب، وهذا القدر لا يظهر الاستدلال به إلا إذا ضُمّ إليه الرواية الأخرى:"كيف نصلي عليك، إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد. . . " إلى آخره، وهذه الزيادة صحيحة، رواها الإمامان الحافظان: أبو حاتم بن حبّان -بكسر الحاء- البستيّ، والحاكم أبو عبد اللَّه في "صحيحيهما"، قال الحاكم: هي زيادة صحيحة، واحتج لها أبو

(1)

راجع: "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 298 - 301.

ص: 452

حاتم، وأبو عبد اللَّه أيضًا في "صحيحيهما" بما روياه عن فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي، لم يحمد اللَّه، ولم يمجده، ولم يصل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"عَجِلَ هذا"، ثم دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إذا صلى أحدكم، فليبدأ بحمد ربه، والثناء عليه، وليصلّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليدع ما شاء"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: وهذان الحديثان وإن اشتملا على ما لا يجب بالإجماع، كالصلاة على الآل والذرية، والدعاء فلا يمتنع الاحتجاج بهما، فإن الأمر للوجوب، فإذا خرج بعض ما يتناوله الأمر عن الوجوب بدليل، بقي الباقي على الوجوب، قال: والواجب عند أصحابنا: "اللهم صل على محمد"، وما زاد عليه سنة، ولنا وجهٌ شاذٌّ أنه يجب الصلاة على الآل، وليس بشيء. انتهى كلام النوويّ

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي فيما قاله من سنّيّة ما زاد على قوله: "اللهم صلّ على محمد" نظرٌ؛ إذ لا دليل على ذلك، فأدلّة وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الصيغة كاملةً، فتنبّه.

ولقد أجاد العلّامة ابن القيّم في كتابه "جلاء الأفهام" حيث انتصر للإمام الشافعيّ رحمه الله في قوله بوجوب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأخير، واستدلّ له على ذلك بأدلّة كثيرة.

والحاصل أن الحقّ وجوب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، وقد استوفيت البحث ببيان الأقوال وأدلّتها بما لها وما عليها في "شرح النسائيّ"، فراجعه، تستفد

(3)

، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: اختُلف في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأول، فقال الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ": يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأول، هذا هو المشهور من مذهبه، وهو الجديد، لكنه يُستحبّ، وليس بواجب، وقال في

(1)

هو صحيح كما قال.

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 123 - 124.

(3)

راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 150 - 163.

ص: 453

القديم: لا يزيد على التشهّد، وهذه رواية المزنيّ عنه، وبها قال أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وغيرهم رحمهم اللَّه تعالى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي قول الجمهور، وهو عدم استحباب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأول؛ لعدم وجود دليل على ذلك، ولأن مبنى التشهّد الأول على التخفيف، حيث ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس للتشهّد الأول كأنه على الرَّضْف -أي الحجارة المحماة- وهو كناية عن شدّة إسراعه حتى يقوم، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"

(1)

، فارجع إليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في بيان ما شاع لدى المتأخّرين من زيادة لفظ "سيّدنا" في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أنه لم يرد في شيء من ألفاظها المختلفة زيادة "سيدنا"، فلا يُشرع أن يزاد على التعليم النبويّ، فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن كيفية الصلاة عليه التي أمر اللَّه تعالى أمته بها، فسألوا عما يخرجون به من عُهدة الأمر، فأجاب صلى الله عليه وسلم آمرًا لهم بقوله:"قولوا: اللهم صل على محمد. . . "، دون زياد "سيّدنا".

وقد سئل الحافظ ابن حجر العسقلانيّ: عن ذلك فيما ذكره تلميذه الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (790 - 835)، وكان ملازمًا لابن حجر - قال: وسئل -أي الحافظ ابن حجر- أمتع اللَّه بحياته، عن صفة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها، أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة، كأن يقول مثلًا: اللهم صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق، أو على سيد ولد آدم؟، أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة؛ لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان به؛ لعدم ورود ذلك في الآثار؟.

فأجاب رضي الله عنه: نعم اتّباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم كما لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليه وسلم"،

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 163 - 164.

ص: 454

وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك، كلما ذكر؛ لأنا نقول: لو كان ذلك راجحًا لجاء عن الصحابة، ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم، قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي -أعلى اللَّه درجته، وهو من أكثر الناس تعظيمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه:"اللهم صل على محمد" إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله:"كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون"، وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه:"سبحان اللَّه عدد خلقه"، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين -ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته-:"لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن"، فذكر ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء.

وقد عَقَد القاضي عياض بابًا في صفة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في كتاب "الشفاء"، ونقل فيها آثارًا مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين، ليس في شيء منها عن أحد من الصحابة وغيرهم لفظ:"سيدنا".

منها: حديث عليّ رضي الله عنه أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم داحي المدحُوّات، وباري المسموكات، اجعل سوابق صلواتك، ونوامي بركاتك، وزائد تحيتك، على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق".

وعن عليّ رضي الله عنه أنه كان يقول: "صلوات اللَّه البر الرحيم، والملائكة المقربين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبّح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد اللَّه خاتم النبيين، وإمام المتقين. . . " الحديث.

وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: "اللهم اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، ورسول الرحمة. . . " الحديث.

وعن الحسن البصريّ أنه كان يقول: من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى، فليقل:"اللهم صل على محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وذريته، وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه".

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: فهذا ما أوثره من "الشفاء" مما يتعلق بهيئة

ص: 455

الصلاة عليه عن الصحابة ومن بعدهم وذكر فيه غير ذلك.

نعم ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول في صلاته على النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين. . . " الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولكن إسناده ضعيف.

وحديث عليّ المشار إليه أوّلًا أخرجه الطبراني بإسناد ليس به بأس، وفيه ألفاظ غريبة رويتها مشروحة في كتاب "فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم"، لأبي الحسن بن الفارس.

وقد ذكر الشافعية أن رجلًا لو حلف ليصليّن على النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة، فطريق الْبَرّ أن يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون".

وقال النوويّ: والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم. . . " الحديث.

وقد تعقّبه جماعة من المتأخرين بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدل على ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى فالأفضلية ظاهرة في الأول.

والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة، لم يقع في كلام أحد منهم:"سيدنا"، ولو كانت هذه الزيادة مندوبةً ما خَفِيت عليهم كلِّهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتّباع، واللَّه أعلم.

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه اتّباعًا للأمر الكريم، وهو الذي عليه الحنفية، هو الذي ينبغي التمسك به؛ لأنه الدليل الصادق على حبه صلى الله عليه وسلم، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

ولذلك قال الإمام النوويّ رحمه الله في "الروضة"(1/ 265): وأكمل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلِّ على محمد. . . " إلخ. انتهى كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في هذا البحث،

ص: 456

وأفاد، حيث نقل عن محققي الشافعيّة وغيرهم ممن جمع بين الحديث والفقه عدم مشروعيّة زيادة لفظ "سيّدنا" في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن أفضل الصيغ هي التي صحّ عنه صلى الله عليه وسلم تعليمها حين سئل عن الصلاة المأمور بها في الآية، فتفضيل صيغة أخرى مما فيه زيادة شيء أو نقصه، هو عين الانحراف عن الصراط المستقيم، واتّباع سبيل المعتدين، ولقد حذّرنا منه صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بسند صحيح، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه:"فإنه مَن يَعِش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

فيا من يريد الهدى والصلاح والفلاح، والتقى، فعليك بالسنّة، ودع البدع والخرافات، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، اللَّه أرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[913]

(406) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكنديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

ص: 457

2 -

(ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو: عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

3 -

(كعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، أبو محمد الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بعد الخمسين، وله نيّفٌ وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 643.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخيه كليهما من المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدم بيانهم غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالكوفيين غير الصحابيّ، فمدنيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الحكم، عن ابن أبي ليلى.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه هو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم بالفدية، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْحَكَمِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف عليه في جميع الطرق عن شعبة إلا هكذا، غير منسوب، وهو فقيه الكوفة في عصره، وهو ابن عُتَيبة -بمثنّاة، وموحَّدة، مصغرًا- ووقع عند الترمذيّ، والطبرانيّ، وغيرهما من رواية مالك بن مِغْوَل وغيره منسوبًا، قالوا:"عن الحكم بن عُتيبة". انتهى. (قَالَ) أي الحكم (سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى التابعيّ الكبير، وهو والد ابن أبي ليلى، فقيه الكوفة، محمدِ بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، يُنْسَب إلى جدّه (قَالَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل على رأي الجمهور، أو مفعول ثانٍ لـ "سمِعتُ" على رأي بعض النحاة القائلين بأن "سمِعْتُ" من أخوات "ظنّ"(لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) -بضمّ العين المهملة، وسكون الجيم- وفي

ص: 458

رواية فِطْر بن خليفة، عن ابن أبي ليلى:"لقيني كعب بن عُجْرة الأنصاريّ"، أخرجه الطبرانيّ، ونَقَل ابن سعد عن الواقديّ أنه أنصاريّ من أنفسهم، وتعقبه، فقال: لم أجده في نسب الأنصار، والمشهور أنه بَلَويّ، والجمع بين القولين أنه بَلَوِيّ، حالَفَ الأنصار، وعَيَّن المحاربيّ عن مالك بن مِغْوَل، عن الحكم المكان الذي التقيا به، فأخرجه الطبريّ من طريقه، بلفظ: إن كعبًا قال له، وهو يطوف بالبيت، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ: ألَا أُهْدِي) -بضمّ الهمزة- من الإهداء رباعيًّا (لَكَ هَدِيَّةً) بفتح الهاء، فَعِيلة بمعنى مفعولة، وجمعها هَدايا، كعطيّة وعطايا، قال الفيّوميّ رحمه الله: أهديت للرجل كذا بالألف: بعثتُ به إليه إكرامًا، فهو هديّة بالتثقيل لا غير. انتهى

(2)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: الهديّة: ما يُتقرّب به إلى الْمُهْدى إليه تودّدًا وإكرامًا، زاد فيه بعضهم: من غير قَصْدِ عِوَضٍ دنيويّ، بل لقصد ثواب الآخرة، وأكثر ما يُستعمل في المأكول والمشروب، والملبوس، وقد يُتجَوَّز بها في العلوم اللفظيّة والمعنويّة الشرعيّة، كما في هذا الحديث. انتهى

(3)

.

وزاد عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جدّه كما عند البخاريّ في "أحاديث الأنبياء":"سمعتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم".

وقال ابن الملقّن أيضًا: فيه الابتداء بالتعليم من غير طلب التعلّم لذلك، كما هو ظاهر الحديث، وفيه ابتداء التعليم باستفتاح كلام يحملهم على أخذه بقبول. انتهى

(4)

.

(خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَرَج علينا"، قال في "الفتح": يجوز في "أنّ" الفتح والكسر، وقال الفاكهانيّ في "شرح العمدة": في هذا السياق إضمارٌ، تقديره: فقال عبد الرحمن: نعم،

(1)

"الفتح" 11/ 157 "كتاب الدعوات" رقم (6358).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 636.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 450.

(4)

"الإعلام" 2/ 451.

ص: 459

فقال كعب: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: وقع ذلك صريحًا في رواية شَبَابة وعفان، عن شعبة، بلفظ:"قلت: بلى، قال"، أخرجه الخلعيّ في "فوائده"، وفي رواية عبد اللَّه بن عيسى المذكورة، ولفظه:"فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال". انتهى

(1)

.

(فَقُلْنَا) وفي رواية البخاريّ: "فقلنا: يا رسول اللَّه"، قال في "الفتح": كذا في معظم الروايات عن كعب بن عُجْرة: "قلنا" بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد عند البخاريّ، ومثله في حديث أبي بُريدة عند أحمد، وفي حديث طلحة، عند النسائيّ، وفي حديث أبي هريرة، عند الطبريّ.

ووقع عند أبي داود، عن حفص بن عمر، عن شعبة، بسند حديث الباب:"قلنا، أو قالوا: يا رسول اللَّه" بالشك، والمراد الصحابة، أو من حضر منهم.

ووقع عند السراج، والطبرانيّ، من رواية قيس بن سعد، عن الحكم به:"أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا".

وقال الفاكهانيّ: الظاهر أن السؤال صَدَر من بعضهم، لا من جميعهم، ففيه التعبير عن البعض بالكل، ثم قال: ويبعد جدًّا أن يكون كعب، هو الذي باشر السؤال منفردًا، فأتى بالنون التي للتعظيم، بل لا يجوز ذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله:"قولوا"، فلو كان السائل واحدًا، لقال له: قل، ولم يقل: قولوا. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، وأجاد، فقال: ولم يظهر لي وجه نفي الجواز، وما المانع أن يسأل الصحابيّ الواحد عن الْحُكْم، فيجيب صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع؛ إشارةً إلى اشتراك الكلّ في الحكم؟ ويؤكِّده أن في نفس السؤال:"قد عَرَفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي؟ " كلها بصيغة الجمع، فدَلّ على أنه سأل لنفسه ولغيره، فحسن الجواب بصيغة الجمع، لكن الإتيان بنون العظمة في خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يُظَنّ بالصحابيّ، فإن ثبت أن السائل كان متعددًا فواضح، وإن ثبت أنه كان واحدًا، فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارة إلى أن السؤال

(1)

"الفتح" 11/ 157.

ص: 460

لا يختص به، بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمَد، على أن الذي نفاه الفاكهانيّ قد وَرَد في بعض الطرق، فعند الطبريّ، من طريق الأجلح، عن الحكم، بلفظ:"قمتُ إليه، فقلت: السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول اللَّه؟ قال: قل: اللهم صل على محمد. . . " الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: وقد وقفت مِن تعيين مَن باشر السؤال على جماعة، وهم: كعبُ بن عُجْرة، وبَشِير بن سعد، والد النعمان، وزيد بن خارجة الأنصاريّ، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن بَشير.

أما كعب: فوقع عند الطبرانيّ من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، بهذا السند، بلفظ:"قلت: يا رسول اللَّه، قد علمنا"، وأما بشير: ففي حديث أبي مسعود، عند مالك، ومسلم، وغيرهما أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عُبادة، فقال له بشير بن سعد:"أمرنا اللَّه أن نصلي عليك. . . " الحديث.

وأما زيد بن خارجة: فأخرج النسائيّ من حديثه، قال: أنا سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"صَلُّوا عليّ، واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم صل على محمد. . . " الحديث.

وأخرج الطبريّ من حديث طلحة، قال: قلت: يا رسول اللَّه، كيف الصلاة عليك؟، ومخرج حديثهما واحدٌ.

وأما حديث أبي هريرة: فأخرج الشافعيّ من حديثه، أنه قال: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟.

وأما حديث عبد الرحمن بن بشير: فأخرجه إسماعيل القاضي، في "كتاب فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم" قال: قلت، أو قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم، هكذا عنده على الشك، وأبهم أبو عوانة في "صحيحه" من رواية الأجلح، وحمزة الزَّيّات عن الحكم السائلَ، ولفظه: جاء رجل، فقال: يا رسول اللَّه قد علمنا.

ووقع لهذا السؤال سببٌ، أخرجه البيهقيّ والخلعيّ من طريق الحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانيّ، حدّثنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، ومسعر، ومالك بن مِغْوَل، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن

ص: 461

كعب بن عُجْرة، قال:"لَمّا نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، قلنا: يا رسول اللَّه قد علمنا. . . " الحديث.

وقد أخرج مسلم هذا الحديث

(1)

، عن محمد بن بكار، عن إسماعيل بن زكريا، ولم يسق لفظه، بل أحال به على ما قبله، فهو على شرطه.

وأخرجه السرّاج من طريق مالك بن مِغْوَل وحده كذلك.

وأخرج أحمد، والبيهقيّ، وإسماعيل القاضي، من طريق يزيد بن أبي زياد، والطبرانيّ من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والطبريّ من طريق الأجلح، والسّرّاج من طريق سفيان وزائدة فرّقهما، وأبو عوانة في "صحيحه" من طريق الأجلح وحمزة الزيات، كلهم عن الحكم مثله، وأخرج أبو عوانة أيضًا من طريق مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.

وفي حديث طلحة عند الطبريّ: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت اللَّه يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} والآية، فكيف الصلاة عليك؟. انتهى

(2)

.

(قَدْ عَرَفْنَا) يحتمل ضبطه بفتح العين، والراء مخففَةً مبنيًّا للفاعل، وبضمّ العين، وكسر الراء المشدّدة، مبنيًّا للمفعول.

وفي رواية البخاريّ: "قد عَلِمنا"، قال في "الفتح": والمشهور في الرواية بفتح أوله، وكسر اللام مخففًا، وجَوَّز بعضهم ضم أوله والتشديد، على البناء للمجهول، ووقع في رواية ابن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد بالشك، ولفظه:"قلنا: قد علمنا، أو علمنا"، رويناه في "الخلعيات"، وكذا أخرج السرّاج من طريق مالك بن مِغْول، عن الحكم بلفظ:"علمنا، أو علمناه".

ووقع في رواية حفص بن عمر المذكورة: "أمرتنا أن نصلي عليك، وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه"، وفي ضبط "عرفناه" ما تقدم في "علمناه"، وأراد بقوله:"أمرتنا" أي بَلَّغتنا عن اللَّه تعالى أنه أمر بذلك.

ووقع في حديث أبي مسعود: "أمرنا اللَّه"، وفي رواية عبد اللَّه بن عيسى المذكورة:"كيف الصلاة عليكم أهلَ البيت؟ فإن اللَّه قد علمنا كيف نسلم"؛ أي علّمنا اللَّه كيفية السلام عليك على لسانك، وبواسطة بيانك.

(1)

هو الحديث الآتي بعد حديث.

(2)

"الفتح" 11/ 158 - 159.

ص: 462

وأما إتيانه بصيغة الجمع في قوله: "عليكم" فقد بَيَّن مراده بقوله رحمه الله: "أهل البيت"؛ لأنه لو اقتصر عليها لاحتَمَلَ أن يريد بها التعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال، حيث قال:"على محمد، وعلى آل محمد".

وبهذا يُسْتَغْنَى عن قول من قال: في الجواب زيادة على السؤال؛ لأن السؤال وقع عن كيفية الصلاة عليه، فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفية الصلاة على آله. انتهى.

(كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ) قال البيهقيّ رحمه الله: فيه إشارة إلى السلام الذي في التشهد، وهو قول:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، فيكون المراد بقولهم:"فكيف نصلي عليك؟ " أي بعد التشهد. انتهى.

قال الحافظ: وتفسير السلام بذلك هو الظاهر، وحَكَى ابن عبد البرّ رحمه الله فيه احتمالًا، وهو أن المراد به السلام الذي يُتَحَلَّل به من الصلاة، وقال: إن الأول أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره.

ورَدَّ بعضهم الاحتمال المذكور بأن سلام التحلّل لا يتقيد به اتفاقًا، كذا قيل، وفي نقل الاتفاق نظر، فقد جَزَم جماعة من المالكية بأنه يُستحب للمصلي أن يقول عند سلام التحلّل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليكم، ذكره عياض، وقبله ابن أبي زيد وغيره.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا ينقضي عجبي من الحافظ حيث ينقل مثل هذا القول الذي لا يستند إلى دليل، ثم لا يتعقّبه، ومن أين له صيغة "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، في سلام التحلّل؟، وقد تظاهرت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كان يقول عند التحلّل:"السلام عليكم ورحمة اللَّه"، إن هذا لشيء عجاب.

(فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟) تقدّم في حديث أبي مسعود رضي الله عنه زيادة: "فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله"، وذكرنا هناك وجه تمنّيهم ذلك، فراجعه.

(قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ") تقدّم شرح هذه الجمل في الحديث

ص: 463

الماضي مفصّلًا، فلا حاجة إلى إعادته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 913 و 914 و 915](406)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3370) و"التفسير"(4797) و"الدعوات"(6357)، و (أبو داود) في "الصلاة"(977 و 978)، و (الترمذيّ) فيها (483)، و (النسائيّ) فيها (3/ 47 - 48) وفي "عمل اليوم والليلة"(54) و (359)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(954)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 241)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3105)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1061)، و (الحميديّ) في "مسنده"(711 و 712)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 241 و 243 و 244)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 309)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(912)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(206)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(ص 193)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 72)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 147 - 148)، و (البغويّ) في شرح السنّة" (681)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (1967 و 1968 و 1969 و 1970)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (901 و 902 و 903)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان اختلاف الألفاظ الواردة في هذا الحديث، وغيره:

(اعلم): أنه وقع في هذا الحديث في الموضعين في قوله: "صل"، وفي قوله:"بارك" بلفظ: "على محمد، وعلى آل محمد"، ولفظ:"على آل إبراهيم"، ووقع عند البيهقيّ بلفظ:"على إبراهيم"، ولم يقل:"على آل إبراهيم"، وأخذ البيضاويّ من هذا أن ذكر الآل مقحم، كقوله:"على آل أبي أوفى".

وتعقّبه الحافظ، فقال: والحق أن ذكر "محمد"، و"إبراهيم"، وذكر "آل

ص: 464

محمد"، و"آل إبراهيم" ثابت في أصل الخبر، وإنما حَفِظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخرون، وسأُبَيِّن من ساقه تامًّا بعد قليل.

وشرح الطيبيّ على ما وقع في رواية البخاري هنا، فقال: هذا اللفظ يساعد قول مَن قال: إن معنى قول الصحابيّ: "علمنا كيف السلام عليك"، أي في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، "فكيف نصلي عليك؟ " أي على أهل بيتك؛ لأن الصلاة عليه قد عُرِفت مع السلام من الآية، قال: فكان السؤال عن الصلاة على الآل تشريفًا لهم، وقد ذُكِرَ "محمدٌ" في الجواب؛ لقوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وفائدته الدلالة على الاختصاص، قال: وإنما تَرَك ذكر إبراهيم؛ لِيُنَبِّه على هذه النكتة، ولو ذُكِر لم يفهم أن ذكر محمد على سبيل التمهيد. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ولا يخفى ضعف ما قال، ووقع في حديث أبي مسعود، عند أبي داود، والنسائيّ:"على محمد النبيّ الأميّ"، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ:"على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم"، ولم يذكر "آل محمد"، ولا "آل إبراهيم"، وهذا إن لم يُحْمَل على ما قلته: إن بعض الرواة حَفِظ ما لم يحفظ الآخر، والأظهر فساد ما بحثه الطيبيّ.

وفي حديث أبي حميد الآتي: "على محمد وعلى أزواجه وذريته"، ولم يذكر الآل في "الصحيح"، ووقعت في رواية ابن ماجه، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة:"اللهم صل على محمد النبيّ، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته"، وأخرجه النسائيّ من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود، ولكن وقع في السند اختلاف بين موسى بن إسماعيل شيخ أبي داود فيه، وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النسائي فيه، فروياه معًا عن حِبَّان بن يَسَار -وهو بكسر المهملة وتشديد الموحدة، وأبوه بمثناة ومهملة خفيفة- فوقع في رواية موسى عنه، عن عبيد اللَّه بن طلحة، عن محمد بن عليّ، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة، وفي رواية عمرو بن عاصم عنه، عن عبد الرحمن بن طلحة، عن محمد بن عليّ، عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه، عليّ بن أبي طالب، وروايةُ موسى أرجح، ويَحْتَمِل أن يكون لِحِبَّان فيه سندان.

ووقع في حديث أبي مسعود وحده في آخره: "في العالمين إنك حميد

ص: 465

مجيد"، ومثله في رواية داود بن قيس، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة، عند السرّاج. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء: هل يُجمع بين هذه الألفاظ المختلفة، أم لا يُشرع ذلك، بل يقال كلّ ما ورد على حِدَته؟:

(اعلم): أنه ذكر النوويّ رحمه الله في "شرح المهذب" أنه ينبغي أن يَجْمَع ما في الأحاديث الصحيحة، فيقول:"اللهم صل على محمد النبيّ الأميّ، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك. . . " مثله، وزاد في آخره:"في العالمين"، وقال في "الأذكار" مثله، وزاد:"عبدك ورسولك" بعد قوله: "محمد" في "صَلِّ"، ولم يزدها في "بارك"، وقال في "التحقيق"، و"الفتاوى" مثله، إلا أنه أسقط "النبيّ الأُميّ" في "وبارك".

قال الحافظ: وفاتَه أشياء لعلها توازي قدر ما زاده، أو تزيد عليه، منها قوله:"أمهات المؤمنين" بعد قوله: "أزواجه"، ومنها:"وأهل بيته" بعد قوله: "وذريته"، وقد وردت في حديث ابن مسعود عند الدارقطنيّ، ومنها:"ورسولك" في "وبارك"، ومنها:"في العالمين" في الأولى، ومنها:"إنك حميد مجيد" قبل "وبارك"، ومنها:"اللهم" قبل "وبارك" فإنهما ثبتا معًا في رواية للنسائيّ، ومنها:"وترحّم على محمد. . . إلخ" وسيأتي البحث فيها بعدُ، ومنها في آخر التشهد:"وعلينا معهم"، وهي عند الترمذيّ من طريق أبي أسامة، عن زائدة، عن الأعمش، عن الحكم، نحو حديث الباب، قال في آخره: قال عبد الرحمن: ونحن نقول: "وعلينا معهم"، وكذا أخرجها السّرّاج من طريق زائدة.

وتَعَقَّب ابن العربيّ هذه الزيادة، قال: هذا شيء انفرد به زائدة، فلا يُعَوَّل عليه، فإن الناس اختلفوا في معنى الآل اختلافًا كثيرًا، ومن جملته أنهم أمته، فلا يبقى للتكرار فائدة، واختلفوا أيضًا في جواز الصلاة على غير الأنبياء، فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصية مع محمد وآله أحدًا.

وتعقبه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذي" بأن زائدة من الأثبات، فانفراده لو انفرد لا يضرّ، مع كونه لم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي في "كتاب فضل الصلاة" من طريقين، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن

ص: 466

أبي ليلى، ويزيد استَشْهَد به مسلم، وعند البيهقيّ في "الشعب" من حديث جابر نحو حديث الباب، وفي آخره:"وعلينا معهم".

وأما الإيراد الأول، فإنه يختص بمن يَرَى أن معنى الآل كلُّ الأمة، ومع ذلك فلا يمتنع أن يُعْطَف الخاصّ على العامّ، ولا سيما في الدعاء.

وأما الإيراد الثاني، فلا نعلم مَن مَنَع ذلك تبعًا، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالًا، وقد شُرع الدعاء للآحاد بما دعاه به النبيّ صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث:"اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه محمد صلى الله عليه وسلم"، وهو حديث صحيحٌ، أخرجه مسلم. انتهى كلام العراقيّ مُلَخَّصًا.

قال الحافظ: وحديث جابر ضعيف، ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضًا عن محمد بن فُضيل، عنه، وزاد في آخره: قال يزيد: فلا أدري أشيء زاده عبد الرحمن من قبل نفسه، أو رواه عن كعب؟ وكذا أخرجه الطبريّ من رواية محمد بن فضيل.

ووردت هذه الزيادة من وجهين آخرين مرفوعين:

أحدهما: عند الطبرانيّ من طريق فِطْر بن خليفة، عن الحكم، بلفظ:"يقولون: اللهم صل على محمد. . . " إلى قوله: "وآل إبراهيم، وصلّ علينا معهم، وبارك على محمد. . . " مثله، وفي آخره:"وبارك علينا معهم"، ورواته موثقون، لكنه فيما أحسب مُدْرَج لما بيّنه زائدة عن الأعمش.

ثانيهما: عند الدارقطنيّ من وجه آخر، عن ابن مسعود مثله، لكن قال:"اللهم" بدل الواو في "وصلّ"، وفي "وبارك"، وفيه عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف.

وقد تَعَقّب الإسنويّ ما قال النوويّ، فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث، مع اختلاف كلامه.

وقال الإسنوي أيضًا: كان يلزم الشيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التشهد.

وأجيب بأنه لا يلزم من كونه لم يُصَرِّح بذلك أن لا يلتزمه.

وتعقّب الأذرعيّ رحمه الله ما قاله النوويّ، وأجاد في ذلك، فقال: لم يُسْبَق إلى ما قال، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات،

ص: 467

ويقول كلَّ ما ثبت هذا مرةً، وهذا مرةً، وأما التلفيق، فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم تَرِد مجموعة في حديث واحد. انتهى كلام الأذرعيّ رحمه الله.

وكأنه أخذه من كلام ابن القيّم رحمه الله، فإنه قال: إن هذه الكيفية لم تَرِد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يَستعمل كلَّ لفظ ثبت على حِدَةٍ، فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد، بخلاف ما إذا قال الجميع دَفْعَةً واحدةً، فإن الغالب على الظنّ أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك. انتهى.

وقال ابن القيم أيضًا: قد نَصّ الشافعيّ على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن، وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد العلامة ابن القيّم رحمه الله، فالحقّ والصواب، أن يأتي بكلّ الصيغ المختلفة التي صحّت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، حتى يكون عاملًا بجميعها، لا بالجمع الذي ذكره النوويّ، ومن تبعه من المتأخرين، فإنه خروج عن التعليم النبويّ بالكلّيّة، وإحداث لصيغة أخرى لم ترد مجموعة في أيّ طريق من طرُق الحديث.

وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: (واعلم) أنه لا يُشْرَع تلفيق صيغة صلاة واحدة من مجموع هذه الصيغ، وكذلك يقال في صيغ التشهد المتقدمة، بل ذلك بدعة في الدين، إنما السنة أن يقول هذا تارة، وهذا تارة كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بحث له في التكبير في العيدين

(1)

. انتهى

(2)

.

والحاصل أن الاختلاف في صيغ الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم كالاختلاف في أذكار الاستفتاح، والركوع والسجود، والتشهّد، والأذان، والإقامة، وغير ذلك، فلا ينبغي التلفيق بين ألفاظها المختلفة، وإنما تُستعمل كلّ صيغة على ما وردت في أوقات مختلفة، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى"(69/ 253/ 1).

(2)

"صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم" للشيخ الألبانيّ (ص 172).

ص: 468

وقال الحافظ رحمه الله: الذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر، سواء كما في أزواجه وأمهات المؤمنين، فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما، وإن كان اللفظ يَسْتَقِلّ بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويُحْمَل على أن بعض الرواة حَفِظ ما لم يَحْفَظ الآخر كما تقدم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئًا ما، فلا بأس بالإتيان به احتياطًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ أيضًا من نوع ما قاله النوويّ، فلا ينبغي الاعتماد عليه، فإن الجمع بين الألفاظ الواردة في الروايات المختلفة، سواء كانت الألفاظ بمعنى واحد، أو معان مختلفة مما لا يخفى على المنصف كونه خروجًا من التعليم النبويّ، فليُتنبّه.

وقالت طائفة، منهم الطبريّ: إن ذلك من الاختلاف المباح، فأيُّ لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه، واستَدَلّ على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة رضي الله عنهم، فذَكَر ما نُقِل عن عليّ رضي الله عنه، وهو حديث موقوفٌ طويلٌ، أخرجه سعيد بن منصور، والطبريّ، والطبرانيّ، وابن فارس، وأوله:"اللهم داحي المدحُوّات. . . " إلى أن قال: "اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحيتك، على محمد عبدك ورسولك. . . " الحديث، وعن ابن مسعود رحمه الله بلفظ:"اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك. . . " الحديث. أخرجه ابن ماجه، والطبريّ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مما ينبغي التنبّه له أن هذه الموقوفات لا تُغني عن الصيغ المرفوعة الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال في "الفتح": وادّعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث، بل كلها مُصَرّحة بذكر "محمد، وآل محمد"، وبذكر "آل إبراهيم" فقط، أو بذكر "إبراهيم" فقط، قال: ولم يجئ في حديث صحيح بلفظ "إبراهيم، وآل إبراهيم" معًا، وإنما أخرجه البيهقيّ من طريق يحيى بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود، ويحيى مجهولٌ، وشيخه مبهم،

ص: 469

فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قويّ، لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائيّ، والدارقطنيّ من حديث طلحة.

وتعقّبه الحافظ، وأجاد في ذلك، فقال: وغَفَل عما وقع في "صحيح البخاري" في "كتاب أحاديث الأنبياء"، في ترجمة إبراهيم عليه السلام، من طريق عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بلفظ:"كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وكذا في قوله:"كما باركت"، وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدريّ من رواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد، عنه، أخرجه الطبريّ، بل أخرجه الطبري أيضًا في رواية الحكَم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أخرجه من طريق عمرو بن قيس، عن الحكم بن عتيبة، فذكره بلفظ:"على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد"، وبلفظ:"على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"، وأخرجه أيضًا من طريق الأجلح، عن الحكم مثله سواءً، وأخرج أيضًا من طريق حنظلة بن عليّ، عن أبي هريرة ما سأذكره

(1)

.

وأخرجه أبو العباس السرّاج من طريق داود بن قيس، عن نعيم المجمر، "عن أبي هريرة أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

ومن حديث بُرَيدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وأصله عند أحمد.

ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى، وهي:"وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم. . . " الحديث، وأخرجه الحاكم في "صحيحه" من حديث ابن مسعود، فاغتَرّ بتصحيحه قوم، فَوَهِمُوا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول، عن رجل مبهم. نعم

(1)

سيذكر أنه أخرجه الطبريّ في "تهذيبه"، لكن في سنده مجهول.

ص: 470

أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله، قال: قولوا: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد عبدك ورسولك. . . " الحديث.

وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك، فقال: حَذَار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادة: "وترحم"، فإنه قريب من البدعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علّمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي، ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى.

وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التشهد في "الرسالة" لَمّا ذكر ما يستحب في التشهد، ومنه:"اللهم صل على محمد وآل محمد"، فزاد:"وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد. . . إلخ"، فإن كان إنكاره لكونه لم يصحّ فمسلّم، وإلا فدعوى مَن ادَّعى أنه لا يقال:"ارحم محمدًا" مردودة؛ لثبوت ذلك في عدّة أحاديث، أصحها في التشهد:"السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد ابن العربيّ رحمه الله في إنكاره المذكور، فكيف لا يُنكر الزيادة على ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ والعجيب اعتراض الحافظ عليه.

قال الحافظ: ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا، فأخرج الطبريّ في "تهذيبه" من طريق حنظلة بن عليّ، عن أبي هريرة، رفعه:"من قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة، وشَفَعت له"، ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان، مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن عليّ، فإنه مجهول. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا لا ينفع في تعقّب ابن العربيّ؛ لأنه ضعيف، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: هذا كله فيما يقال مضمومًا إلى السلام، أو الصلاة، وقد وافق ابنَ العربي الصيدلانيُّ من الشافعية على المنع، وقال أبو القاسم الأنصاريّ شارح "الإرشاد": يجوز ذلك مضافًا إلى الصلاة، ولا يجوز مفردًا،

ص: 471

ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقًا، وقال القرطبيّ في "المفهم": إنه الصحيح؛ لورود الأحاديث به، وخالفه غيره، ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك؛ لإيهامه النقص؛ لأن الرحمة غالبًا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول: رحمه الله؛ لأنه قال: "من صلى عليّ"، ولم يقل: من ترحّم عليّ، ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خُصّ بهذا اللفظ تعظيمًا له، فلا يُعْدَل عنه إلى غيره، ويؤيده قوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] انتهى. وهو بحثٌ حسنٌ، لكن في التعليل الأول نظرٌ، والمعتمد الثاني، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة المسألة أن الدعاء بالرحمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم يجوز؛ لورود النصوص بذلك، كما قال القرطبيّ رحمه الله، كحديث:"اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"، أخرجه البخاريّ، وغير ذلك، لكن هذا من حيث الإجمال، وأما من حيث التفصيل، فلا يجوز ذلك عند ذكر النبيّ رحمه الله كما حقّقه ابن عبد البرّ رحمه الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خصّ الدعاء له عند ذلك بالصلاة فقط، فلا يُعدل عنه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[914]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَمِسْعَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ مِسْعَرٍ: "أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد النسائيّ، أبو خيثمة، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(وَأَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

"الفتح" 11/ 163 - 164.

ص: 472

3 -

(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث محمد بن جعفر، عن شعبة الماضي.

[تنبيه]: رواية وكيع عن شعبة، أخرجها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(3/ 193)، فقال:

(912)

أخبرنا عبد اللَّه بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال لي كعب بن عُجْرة: ألا أُهدي لك هديةً؟ خرج إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". انتهى.

وأما رواية مِسْعَر، فقد أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4519)

حدّثني سعيد بن يحيى، حدّثنا أبي، حدّثنا مِسْعَر، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قيل: يا رسول اللَّه، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 473

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[915]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَارٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعَنْ مِسْعَرٍ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الْحَكَمِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَقُلِ: اللَّهُمَّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّار) بن الرّيّان الهاشميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه البغداديّ الرُّصَافيّ، ثقةٌ [10](ت 238) عن (93) سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقَانيّ، أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا، صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

3 -

(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

[تنبيه]: نقل القاضي عياض عن المازريّ أنه قال: وقع في باب الصلاة حديث مقطوع الإسناد، وهو الثاني من الأحاديث الأربعة عشر التي تقدّم ذكرها على الجملة.

قال مسلم: ثنا صاحب لنا، قال: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش. . . وذكر حديث كعب بن عُجْرة.

عن إبراهيم، عن مسلم، ثنا محمد بن بكّار، ثنا إسماعيل بن زكريّا، عن الأعمش. . . هكذا سمّاه، وجوّده، وهذا في رواية ابن ماهان أحد الأحاديث المقطوعة الإسناد.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا قول الجيّانيّ، وهو مذهب الحاكم أبي عبد اللَّه، والصواب أن لا يُعدّ هذا في المقطوع، وإنما يُعدّ في المقطوع ما تُرك فيه اسم رجل قبل التابعيّ، وأرسل قبله على عرف أهل الصنعة، وإلا فكلّه مرسل، والمنقطع نوع من المرسل على ما بيّنّاه في هذا الكتاب، والأولى بمثل

ص: 474

هذا الحديث أن يُعدّ في المجهول الراوي؛ لأنه لم ينقطع له سندٌ، وإنما جُهل اسم راويه، كما لو جُهل حاله، وهو قول أئمة هذا الشأن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره المازريّ من كون هذا الإسناد وقع فيه الإبهام إنما هو في رواية أبي العلاء بن ماهان، وقد سَلِمَت رواية الجلوديّ، وهي المشهورة لدى الناس، وهي التي اعتمدناها في هذا الشرح، فقد سمى مسلم رحمه الله شيخه، فقال: حدّثنا محمد بن بكّار، حدّثنا إسماعيل بن زكريّا إلخ، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الْحَكَمِ) الضمير للثلاثة: أعني الأعمش، ومسعرًا، ومالكَ بنَ مِغْوَل؛ أي كلّ من هؤلاء الثلاثة رووه عن الحكم بسنده الماضي.

فقوله: "وعن مِسعر، وعن مالك" معطوفان على الأعمش بإعادة الجارّ، فتنبّه.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الحكم الماضي، وهو عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) يعني أن حديث إسماعيل بن زكريّا، عن هؤلاء الثلاثة: الأعمش، ومسعر، ومالك بن مغول مثل حديث وكيع عن شعبة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ. . . إلخ) يعني أن إسماعيل قال في روايته: "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ" بدل قول وكيع: "اللَّهُمَّ بارك على محمد".

[تنبيه]: رواية الأعمش التي أحالها المصنّف هنا، أخرجها الإمام النسائيّ رحمه الله، في "سننه"، فقال:

(1288)

أخبرنا القاسم بن زكريا، قال: حدّثنا حسين، عن زائدة، عن سليمان

(2)

، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، قال: قلنا: يا رسول اللَّه، السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد". انتهى.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 305 - 306.

(2)

هو الأعمش.

ص: 475

وأما رواية مِسْعَر، فقد أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(17425)

حدّثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا مِسْعَر، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إنا قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة؟ قال: فعلّمه أن يقول: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". انتهى.

وأما رواية مالك بن مِغْول، فأخرجها الطبرانيّ في "المعجم الأوسط"(3/ 92)، فقال:

(2587)

حدّثنا أبو مسلم، قال: حدثنا الربيع، قال: حدثنا مالك بن مِغْوَل، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، قال: ألا أُهدي لك هديةً سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال: قال رجل: يا رسول اللَّه، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد، وآل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[916]

(407) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرَّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرَّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ").

ص: 476

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(رَوْح) بن عُبَادة بن العلاء بن حسّان الْقَيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ) الصائغ المخزوميّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ

(1)

، صحيح الكتاب، في حفظه لينٌ، من كبار [10].

رَوَى عن مالك، والليث، وعبد اللَّه بن عُمر العمريّ، وعبد اللَّه بن نافع، مولى ابن عمر، وابن أبي الزناد، وعبد المهيمن بن عباس بن سهل، وغيرهم.

ورَوَى عنه قتيبة، وابن نمير، وسلمة بن شبيب، والحسن بن عليّ الخلال، وأحمد بن صالح المصريّ، وأبو الطاهر بن السرح، ودُحيم، والزبير بن بكار، وغيرهم.

قال أبو طالب، عن أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفًا فيه، وقال ابن سعد: كان قد لَزِم مالكًا لزومًا شديدًا، وكان لا يقدِّم عليه أحدًا، وهو دون مَعْن، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو ليّن في حفظه، وكتابه أصحّ، وقال البخاريّ: في حفظه شيءٌ، وأما "الموطأ" فأرجو، وقال أيضًا: يُعْرَف حفظه ويُنْكَر، وكتابه أصحّ، وقال ابن معين لَمّا سئل: مَن الثبت في مالك؟ فذكرهم، ثم قال: وعبد اللَّه بن نافع ثبت فيه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال مرةً: ثقة، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم، وقال الآجريّ، عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: كان عبد اللَّه بن نافع أعلم الناس برأي مالك وحديثه، كان يحفظ حديث مالك كلّه، ثم دخله بآخره شكّ، قال أبو داود: وكان عبد اللَّه عالِمًا بمالك، وكان صاحب فقه، وكان ربما دلَّ على مالك، قال: وسمعت أحمد بن صالح يقول: كان أعلم الناس بمالك وحديثه،

(1)

هذا أولى مما في "التقريب" قال: "ثقةٌ"؛ إذ لا يحتمل التوثيق على الإطلاق، كما يتبيّن لك مما قاله الأئمة في ترجمته بعدُ، فتنبّه.

ص: 477

وقال: بلغني عن يحيى أنه قال: عنده عن مالك أربعون ألف مسألة، وقال الدارقطنيّ: يُعْتَبَر به، وقال الخليليّ: لم يرضوا حفظه، وهو ثقةٌ، أثنى عليه الشافعيّ، وروى عنه حديثين أو ثلاثة، وقال ابن قانع: مدنيّ صالحٌ، وقال ابن عديّ: رَوَى عن مالك غرائب، وهو في رواياته مستقيم الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان صحيح الكتاب، وإذا حدّث من حفظه ربما أخطأ.

قال البخاريّ، عن هارون بن محمد: مات سنة ست ومائتين، وكذا أَرّخه ابن سعد، وزاد: في رمضان بالمدينة، وقال غيره: سنة سبع. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، و"المصنّف"، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أول الباب.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْر) بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ، أبو محمد، ويقال: أبو بكر المدنيّ القاضي، ثقة [5].

رَوَى عن أبيه، وخالة أبيه، عمرة بنت عبد الرحمن، وأنس، وحميد بن نافع، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وعباد بن تميم المازنيّ، وعبد اللَّه بن واقد بن عبد اللَّه بن عمر، وعبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وعروة بن الزبير، وأبي الزناد، والزهريّ، وهما من أقرانه، وغيرهم.

ورَوَى عنه الزهري أيضًا، وابن أخيه عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهشام بن عروة، وابن جريج، ومالك، وغيرهم.

قال عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك: كان كثير الأحاديث، وكان رجل صدق، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: حديثه شفاء، وقال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة، وقال النسائيّ: ثقة ثبتٌ، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البرّ: كان من أهل العلم ثقةً فقيهًا محدثًا مأمونًا حافظًا، وهو حجة فيما نَقَلَ وحَمَلَ، وفي "العتبية" عن ابن القاسم، عن مالك: أخبرني ابنُ خنزابة، قال: قال لي ابن شهاب: مَن

ص: 478

بالمدينة يُفتي؟ فأجابه، فقال ابن شهاب: ما ثَمّ مثلُ عبد اللَّه بن أبي بكر، ولكنه يمنعه أن يرتفع ذكرُهُ مكانُ أبيه أنه حيّ، وقال مالك: كان من أهل العلم والبصيرة.

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، عالِمًا. تُوُفِّي سنة خمس وثلاثين ومائة، ويقال: سنة (30) وهو ابن سبعين سنةً، وليس له عقب.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.

7 -

(أَبُوهُ) هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ النّجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: يُكنى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [3

(1)

] (ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.

8 -

(عَمْرُو بْنُ سُلَيْمِ) بن خَلْدة -بسكون اللام- ابن مَخْلَد بن عامر بن زُرَيق الأنصاريّ الزُّرَقيّ -بضمّ الزاي، وفتح الراء، بعدها قاف- ثقةٌ، من كبار التابعين [2].

رَوَى عن أبي قتادة الأنصاريّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي حميد الساعديّ، وابن عمر، وابن الزبير، وسعيد بن المسيِّب، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه سعيد، وأبو بكر بن المنكدر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وبكير بن الأشجّ، وسعيد المقبريّ، والزهريّ، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وعبد اللَّه بن أبي سَلَمة الماجشون، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وآخرون.

قال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: ثقةٌ في حديثه اختلاط، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال الواقديّ: كان قد راهق الاحتلام يوم مات عمر، وقال الفلاس: مات سنة أربع ومائة.

(1)

هذا أولى مما في "التقريب"، فإنه جعله من الطبقة الخامسة، من طبقة ابنه عبد اللَّه، والحقّ أنه من أوساط التابعين، بل قال في "الفتح" 11/ 175: إنه من أقران عمرو بن سليم شيخه، وعندي أنه أصغر منه، كما يظهر من شيوخه الذين أخذ عنهم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 479

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (407) و (543) وكرّره ثلاث مرّات، و (714) وكرّره مرّتين، و (846).

9 -

(أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) الأنصاريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: اسم جدّه مالك، وقيل: عَمْرو بن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة بن عمرو بن الْخَزْرج، يقال: إنه عم سهل بن سعد.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه سعد بن المنذر، وجابر بن عبد اللَّه، وعبّاس بن سهل بن سعد، وعبد الملك بن سعيد بن سُويد، وعمرو بن سُلَيم الزُّرَقيّ، وعروة بن الزبير، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وإسحاق بن عبد اللَّه بن عمرو بن الحكم، وغيرهم.

قال الواقديّ: تُوُفّي في آخر خلافة معاوية، أو أول خلافة يزيد، وقال خليفة، وابن سعد، وغيرهما: إن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد شَهِدَ أُحُدًا وما بعدها.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (407) و (713) و (1392) وكرّره مرّتين، و (1832) وأعاده بعده، و (2010).

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، وروح، كما مرّ آنفًا.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عبد اللَّه بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرو بن سُليم، وقال في "الفتح": رواية أبي بكر بن عمرو عن عمرو بن سُليم من رواية الأقران، وولده من صغار التابعين. انتهى

(1)

. وفيه نظرٌ؛ لأن أبا بكر أصغر من عمرو، كما لا يخفى من ترجمتهما، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 11/ 175.

ص: 480

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر بن عمرو بن حَزْم (عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ) بالتصغير، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ) رضي الله عنه، وتقدّم الخلاف في اسمه، واسم أبيه آنفًا (أَنَّهُمْ) أي الصحابة الحاضرين مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟) أي كيف صيغة الصلاة عليك؟، فالحقّ أن السؤال عن الصيغة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ) جمع زوج، وقد يقال: زوجة، والأول أفصح، وبها جاء القرآن الكريم، قال اللَّه تعالى:{يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقال:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، ومن الثاني قول عمّار رضي الله عنه في عائشة رضي الله عنها:"إنها زوجة نبيّكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة"، رواه البخاريّ، وقال الفرزدق [من الطويل]:

وَإِنَّ الَّذِي يَبْغِي لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي

كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا

(1)

وقد يُجمع زوجة على زوجات.

[تنبيه]: جملة أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهنّ إحدى عشرة، وهنّ: خديجة بنت خُويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان، وأم سلمة هند بنت أبي أميّة، وزينب بنت جَحْش، وزينب بنت خُزيمة، وجُويرية بنت الحارث، وصفيّة بنت حُييّ، وميمونة بنت الحارث، وقد عقد على سبع ولم يدخل بهنّ.

فالصلاة على أزواجه صلى الله عليه وسلم تابعةٌ لاحترامهنّ، وتحريمهنّ على الأمة، وأنهنّ نساؤه في الدنيا والآخرة، وقد ذكرتهنّ بالتفصيل في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(2)

.

وأما من فارقها في حياتها، ولم يدخل بها فلا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهنّ، ومات عنهنّ صلى الله عليه وسلم.

(وَذُرِّيَّتِهِ) بضمّ الذال المعجمة، وحُكِي كسرها: هي النسل، وقد يختص

(1)

أي يأخذ بولها في يده.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 181 - 183.

ص: 481

بالنساء والأطفال، وقد يُطْلَق على الأصل، وهي مِن ذَرَأَ بالهمز: أي خَلَقَ، إلا أن الهمزة سُهِّلَت؛ لكثرة الاستعمال، وقيل: بل هي من الذَّرّ؛ أي خُلِقوا أمتال الذَّرّ، وعليه فليس مهموز الأصل، واللَّه أعلم.

واستُدِلّ به على أن المراد بآل محمد أزواجُهُ وذريته، كما تقدم البحث فيه في الكلام على "آل محمد" في الحديث الذي قبل هذا.

قيل: واستُدِلّ به على أن الصلاة على الآل لا تجب؛ لسقوطها في هذا الحديث، وهو ضعيف؛ لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته، أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كلٍّ منهما لا يَنْهَض الاستدلال على عدم الوجوب.

أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه، بل أخرج عبد الرزاق، من طريق ابن طاوس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن رجل من الصحابة الحديث المذكور، بلفظ:"صل على محمد، وأهل بيته، وأزواجه وذريته".

وأما على الثاني فواضح.

واستَدَلّ به البيهقيّ على أن الأزواج من أهل البيت، وأيده بقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقد كتبت بحثًا مطوّلًا يتعلّق بالذريّة في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ") قد تقدّم شرحه مستوفًى، في الحديث الماضي، فلا حاجة إلى إعادته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 11/ 175.

ص: 482

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي حُميد الساعديّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 916](407)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3369) و"الدعوات"(6360)، و (أبو داود) في "الصلاة"(979)، و (النسائيّ) فيها (3/ 49) وفي "الكبرى"(470)، و (ابن ماجه) فيها (905)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 165)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2/ 211)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 424)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(6/ 12 - 13)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2039)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(904)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 181)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 215) و"المعرفة"(2/ 39)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3/ 191)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): استدلّ الإمام البخاريّ رحمه الله بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فقال في "صحيحه":

"باب هلى يُصَلَّى على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ وقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، ثم أسند عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان إذا أتى رجلٌ النبيّ صلى الله عليه وسلم بصدقته قال: اللهم صلّ عليه، فأتاه أبى بصدقته، فقال: اللَّهمّ صلّ على آل أبي أوفى".

ثم أخرج حديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه المذكور هنا.

قال في "الفتح": قوله: "باب هل يُصَلَّى على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم"؟ أي استقلالًا، أو تبعًا، ويدخل في الغير: الأنبياءُ والملائكةُ والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث:

(فمنها): حديث عليّ رضي الله عنه في الدعاء بحفظ القرآن، ففيه:"وصَلّ عليّ، وعلى سائر النبيين"، أخرجه الترمذيّ، والحاكم.

وحديثُ بُرَيدة رفعه: "لا تترُكَنّ في التشهد الصلاة عليّ، وعلى أنبياء اللَّه. . . " الحديث، أخرجه البيهقيّ بسند وَاهٍ.

ص: 483

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "صَلُّوا على أنبياء اللَّه. . . " الحديث، أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "إذا صَلّيتم عليّ، فصلُّوا على أنبياء اللَّه، فإن اللَّه بعثهم كما بعثني"، أخرجه الطبرانيّ، وسنده ضعيف أيضًا.

وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما اختصاص ذلك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق عثمان بن حكيم، عن عكرمة عنه، قال:"ما أعلم الصلاةَ تنبغي على أحد من أحد إلا على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وهذا سند صحيح.

وحُكِي القول به عن مالك، وقال: ما تُعُبِّدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك: يكره.

وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان: يكره أن يُصَلَّى إلا على نبيّ، قال الحافظ: ووجدت بخط بعض شيوخي: مذهب مالك: لا يجوز أن يُصَلَّى إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أُمِرنا به.

وخالفه يحيى بن يحيى، فقال: لا بأس به، واحتَجَّ بأن الصلاة دعاء بالرحمة، فلا يُمْنَعُ إلا بنصّ، أو إجماع، قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان، وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء، قالوا: يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران، والصلاة على غير الأنبياء -يعني استقلالًا- لم تكن من الأمر المعروف، وإنما أُحدثت في دولة بني هاشم.

وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثًا نصًّا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت؛ لأن اللَّه تعالى سماهم رسلًا.

وأما المؤمنون فاختلف فيهم، فقيل: لا تجوز إلا على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصةً، وحُكِي عن مالك كما تقدم.

وقالت طائفة: لا تجوز مطلقًا استقلالًا، وتجوز تبعًا فيما ورد به النصّ، أو أُلحق به؛ لقوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية [النور: 63]، ولأنه لَمّا علّمهم السلام قال:"السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"، ولما علّمهم الصلاة قصر ذلك عليه، وعلى أهل بيته،

ص: 484

وهذا القول اختاره القرطبيّ في "المفهم"، وأبو المعالي من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية من المتأخرين.

وقالت طائفة: تجوز تبعًا مطلقًا، ولا تجوز استقلالًا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة.

وقالت طائفة: تكره استقلالًا لا تبعًا، وهي رواية عن أحمد، وقال النوويّ: هو خلاف الأولى.

وقالت طائفة: تجوز مطلقًا، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، فإنه صدَّر بالآية، وهي قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، ثم عقّبه بالحديث الدالّ على الجواز مطلقًا، وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعًا.

فأما الأول، وهو حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى فسيأتي شرحه في "كتاب الزكاة"، برقم (1078) -إن شاء اللَّه تعالى- ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عُبَادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَفَع يديه، وهو يقول:"اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وسنده جيِّد.

وفي حديث جابر رضي الله عنه أن امرأته قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: صَلِّ عليّ وعلى زوجي، فَفَعَل، أخرجه أحمد مطوَّلًا ومختصرًا، وصححه ابن حبّان.

وهذا القول جاء عن الحسن، ومجاهد، ونصَّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبريّ، واحتجُّوا بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الملائكة تقول لروح المؤمن: صلى اللَّه عليكِ، وعلى جسدك".

وأجاب المانعون عن ذلك كلِّه بأن ذلك صَدَرَ من اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما.

وقال البيهقيّ: يُحْمَل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم، لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة.

وقد حقّق العلّامة ابن القيّم رحمه الله هذا الموضوع، وناقش الأدلّة، وأجاد وأفاد، ثم قال في آخر البحث:

وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الصلاة على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم إما أن

ص: 485

يكون آله وأزواجه وذرّيّته، أو غيرهم، فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجائزة مفردةً.

وأما الثاني: فإن كان الملائكة، وأهل الطاعة عمومًا الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم جاز ذلك أيضًا، فيقال: اللهم صلّ على ملائكتك المقرّبين، وأهل طاعتك أجمعين، وإن كان شخصًا معيّنًا، أو طائفةً معيّنةً، كُرِه أن يتَّخذ الصلاة شعارًا لا يُخلّ به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجهٌ، ولا سيّما إذا جعلها شعارًا له، ومنع نظيره، أو من هو خيرٌ منه، وهذا كما تفعله الرافضة بعليّ رضي الله عنه، فإنهم حيث ذكروه قالوا: عليه السلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خيرٌ منه، فهذا ممنوع، ولا سيّما إذا اتُّخِذ شعارًا لا يُخَلُّ به، فتركه حينئذ متعيِّنٌ، وأما إن صلّى عليه أحيانًا بحيث لا يَجْعَل ذلك شِعَارًا كما يُصلَّى على دافع الزكاة، وكما كان ابن عمر رضي الله عنهما يكبّر على الجنازة، ويُصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يقول:"اللهم بارك فيه، وصلّ عليه، واغفر له، وأورده حوض نبيّك صلى الله عليه وسلم"

(1)

، وكما صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم على المرأة وزوجها، رواه أحمد، وأبو داود بسند قويّ، من حديث جابر رضي الله عنه، وكما رُوي عن عليّ رضي الله عنه من صلاته على عمر رضي الله عنه، فهذا لا بأس به.

وبهذا التفصيل تتّفق الأدلّة، وينكشف وجه الصواب، واللَّه تعالى وليّ التوفيق. انتهى حاصل كلام ابن القيّم رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حقّقه ابن القيّم: حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن الصلاة على غير الأنبياء من المؤمنين استقلالًا جائزة ما لم يمنع مانع، كما مرّ بيانه آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: اختُلِفَ أيضًا في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحيّ، فقيل: يُشْرَع مطلقًا، وقيل: بل تبعًا، ولا يُفْرَد لواحد؛ لكونه صار شعارًا للرافضة، ونقله النوويّ عن الشيخ أبي محمد الْجُوينيّ، فقد منع أن يقال: عن عليّ عليه السلام.

(1)

أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم" بسند صحيح.

(2)

راجع: "جلاء الأفهام"(ص 379).

ص: 486

وفرّق آخرون بينه وبين الصلاة، فقالوا: السلام يُشرع في حقّ كلّ مؤمن حيّ وميت، وحاضر وغائب، فإنك تقول: بلِّغ فلانًا مني السلام، وهو تحيّة أهل الإسلام، بخلاف الصلاة، فإنها من حقوق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول المصلّي:"السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"، ولا يقول: الصلاة علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فعُلم الفرق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن السلام مثل الصلاة، فإن كان شعارًا لبعض الناس، كما تقول الشيعة: عليّ عليه السلام فيكره، وإلا فلا، كما تقدّم التفصيل في كلام ابن القيّم رحمه الله في الصلاة.

وقد ذكرت مباحث كثيرةً مفيدةً فيما كتبته على النسائيّ، فارجع إليه تستفد علمًا جَمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[917]

(408) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابِرِيّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر بن إياس السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)، وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

(1)

راجع "جلاء الأفهام"(ص 379).

ص: 487

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه، فالأول بغداديّ، والثاني بغلانيّ، والثالث مروزيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: العلاء عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن يعقوب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ) شرطيّة، وجوابها قوله:"صلّى اللَّه عليه عشرًا"(صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً) نعت لمصدر محذوف، أي صلاةً واحدةً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا") وعند النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه بسند صحيح:"صلّى اللَّه عليه عشر صلوات"، وزاد النسائيّ فيه:"وحُطّت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات".

قال القاضي عياض رحمه الله: معنى صلاة اللَّه عليه: رحمته له، وتضعيف أجره، كقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية [الأنعام: 160] قال: وقد تكون الصلاة على وجهها وظاهرها؛ تشريفًا له بين الملائكة، كما في الحديث:"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، متّفقٌ عليه

(1)

.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 306.

ص: 488

وقال الشوكانيّ رحمه الله: المراد بالصلاة من اللَّه الرحمة لعباده، وأنه يرحمهم رحمةً بعد رحمةً حتى تبلغ رحمته ذلك العدد، وقيل: المراد بصلاته عليهم إقباله عليهم بعطفه، وإخراجهم من ظلمة إلى رفعة ونور، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43]. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم لنا أن أصحّ الأقوال في معنى صلاة اللَّه على عبده ثناؤه عليه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقد استُشكل بأنه كيف يجوز أن تكون الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدةً، وعلى المصلّي عليه عشرًا؟.

وأُجيب بأن الواحدة صفة فعل المصلّي، وجزاؤها عشر صلوات من اللَّه عليه على ما قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية [الأنعام: 160]، ولا يُفهم منه أن الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من اللَّه تكون واحدةً، فإن فضل اللَّه واسع.

ولو سلّمنا أن الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من اللَّه تكون واحدةً، فلعلّ هذه الصلاة الواحدة من اللَّه تساوي في الشرف مائة ألف صلاة، أو تزيد في الشرف والكرامة بمائة ألف مرّة، كما أن الجوهرة الواحدة الثمينة النفيسة تساوي في الثمن مائة ألف فلس

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والصلاة من اللَّه تعالى، أي في الجزاء إن كانت بمعنى الغفران فيكون من باب المشاكلة من حيث اللفظ، وإن كانت بمعنى التعظيم، فيكون من الموافقة لفظًا ومعنى، وهذا هو الوجه؛ لئلا يتكرّر معنى الغفران، أي مع الحطّ

(2)

.

(1)

راجع: "المرعاة" 3/ 260.

(2)

يعني في الزيادة التي عند النسائيّ في حديث أنس رضي الله عنه بقوله: "وحُطّت عنه عشر خطيئات".

ص: 489

ومعنى الأعداد المخصوصة محمول على المزيد والفضل في المعنى المطلوب. انتهى

(1)

.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: إن قيل: قد قال اللَّه تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ} ، فما فائدة هذا الحديث؟.

قلنا: فيه أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تُضاعف عشرةً، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم حسنةٌ، فمقتضى القرآن أن يُعطَى عشر درجات في الجنّة، فأخبر أن اللَّه تعالى يُصلّي على من صلّى على رسوله صلى الله عليه وسلم عشرًا، وذكرُ اللَّه العبدَ أعظم من الحسنة مضاعفةً.

قال: ويُحقّق ذلك أن اللَّه تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، وكذلك جعل ذكر نبيّه صلى الله عليه وسلم ذكره لمن ذكره.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحطّ عنه عشر سيّئات، ورفعه عشر درجات، كما ورد في الأحاديث. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 917](408)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(645)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1530)، و (الترمذيّ) فيها (485)، و (النسائيّ) فيها (3/ 50) رقم (1296)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 372 و 375 و 485) رقم (8499 و 8527 و 9897)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 317)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(905 و 906)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6495)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2040)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(905)،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1042.

(2)

راجع: "المرعاة" 3/ 261.

ص: 490

و (إسماعيل القاضي) في "فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم" برقم (9)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): هذا الحديث أصحّ، وأوضح ما ورد في فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث قويّة تصلح للاحتجاج بها، نذكر بعضها تتميمًا للفائدة:

(فمنها): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ صلاةً واحدةً صلى اللَّه عليه عشر صلوات، وحُطّت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات"، حديث صحيح، أخرجه النسائيّ.

(ومنها): حديث أبي بُردة بن نيار رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ من أمتي صلاةً مخلصًا من قلبه، صلى اللَّه عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات"، أخرجه النسائيّ في "عمل اليوم والليلة"

(1)

، وصححه ابن حبّان.

(ومنها): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاةً"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبّان.

(ومنها): حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: "صلاةُ أمتي تُعْرَضُ عليّ في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم عليّ صلاةً كان أقربهم مني منزلة"، أخرجه البيهقيّ بسند لا بأس به.

(ومنها): حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلِق آدم عليه السلام، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصَّعْقة، فأكثروا عليّ من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف تُعْرَضُ صلاتنا عليك، وقد أَرَمْتَ؟ أي يقولون: قد بَلِيتَ، قال:"إن اللَّه عز وجل قد حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم.

(ومنها): حديث: "البخيلُ مَن ذُكِرت عنده، فلم يصلِّ عليّ"، أخرجه

(1)

عمل اليوم والليلة 1/ 166.

ص: 491

الترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبان، والحاكم، وإسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه، وبيان الاختلاف فيه من حديث عليّ، ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن، قاله الحافظ رحمه الله في "الفتح"

(1)

.

(ومنها): حديث: "مَن نَسِيَ الصلاةَ عليّ خَطِئ طريق الجنة"، أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، والبيهقيّ في "الشعب" من حديث أبي هريرة، وابن أبي حاتم من حديث جابر، والطبرانيّ من حديث حسين بن عليّ، قال الحافظ: وهذه الطرق يَشُدُّ بعضُها بعضًا.

(ومنها): حديث: "رَغِمَ أنف رجل، ذُكِرت عنده، فلم يُصَلِّ عليّ"، أخرجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"مَن ذُكِرت عنده، ولم يصلّ عليّ، فمات فدخل النار، فأبعده اللَّه"، وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه في الطبرانيّ، وآخر عن أنس رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة، وآخر مرسل عن الحسن، عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن حديث مالك بن الحويرث، ومن حديث عبد اللَّه بن عباس، عند الطبرانيّ ومن حديث عبد اللَّه بن جعفر عند الفِرْيابيّ، وعند الحاكم من حديث كعب بن عُجْرة، بلفظ:"بَعُدَ مَن ذُكِرتُ عنده، فلم يصلّ عليّ"، وعند الطبرانيّ من حديث جابر رفعه:"شَقِي عبدٌ ذُكِرت عنده، فلم يصلّ عليّ"، وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة:"من الْجَفَاء أن أُذكَر عند رجل، فلا يصلي عليّ".

(ومنها): حديث أُبَيّ بن كعب أنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، إني أكثر الصلاة، فما أجعل لك من صلاتي؟ قال:"ما شئتَ" قال: الثلث؟ قال: "ما شئت"، وإن زدت فهو خير إلى أن قال:"أجعل لك كلَّ صلاتي"، قال:"إذًا تُكْفَى هَمَّك. . . " الحديث، أخرجه أحمد، وغيره بسند حسن.

قال الحافظ رحمه الله بعد سوق هذه الأحاديث: فهذا الجيّد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفةٌ، وواهيةٌ، وأما ما وضعه القُصّاص في ذلك، فلا يُحصَى كثرةً، وفي الأحاديث القوية غُنْيَةٌ عن ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 11/ 168.

(2)

"الفتح" 11/ 168.

ص: 492

[تنبيه]: قال الحليميّ رحمه الله: المقصود بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم التقرّب إلى اللَّه تعالى بامتثال أمره، وقضاء حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، وتبعه ابن عبد السلام، فقال: ليست صلاتنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم شفاعةً له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن اللَّه أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا اللَّه لَمّا عَلِم عجزنا عن مكافأة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه.

وقال ابن العربيّ: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه؛ لدلالة ذلك على نُصُوع العقيدة، وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة، والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" نقلًا عن العلّامة ابن القيّم: مِن ذكر فوائد الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، قريبًا من أربعين فائدةً، وذكرت أيضًا بعض المواطن التي تُطلب فيها الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فراجعه تستفد علمًا جمًّا

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر الإمام أبو حاتم محمد بن حبّان الْبُستيّ رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج حديث ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاةً" ما نصّه:

في هذا الخبر دليلٌ على أن أولى الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القيامة، يكون أصحابَ الحديث؛ إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاةً عليه صلى الله عليه وسلم منهم. انتهى

(3)

.

وقال أبو نعيم -فيما نقله الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"-: وهذه منقبة شريفة، يَختص بها رُواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يُعْرَف لعِصَابة من العلماء، من الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يُعْرَف لهذه العِصَابة نَسْخًا وذِكْرًا. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 168.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 206 - 210.

(3)

"صحيح ابن حبّان" 3/ 192 - 193.

(4)

"شرف أصحاب الحديث"(ص 35).

ص: 493

وقال العلّامة صدّيق حسن خان في كتابه: "نُزُل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار"(ص 161) -بعد أن ساق أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا شكّ في أن أكثر المسلمين صلاة عليه صلى الله عليه وسلم هم أهل الحديث، ورُواة السنة المطهرة، فإن من وظائفهم في هذا العلم الشريف الصلاةَ عليه صلى الله عليه وسلم أمامَ كلِّ حديث، ولا يزال لسانهم رطبًا بذكره صلى الله عليه وسلم، وليس كتاب من كتب السنة، ولا ديوان من دواوين الحديث -على اختلاف أنواعها من "الجوامع"، و"المسانيد"، و"المعاجم"، و"الأجزاء"، وغيرها- إلا وقد اشتَمَلَ على آلاف الأحاديث، حتى إن أخصرها حَجْمًا كتاب "الجامع الصغير" للسيوطيّ فيه عشرة آلاف حديث، وقس على ذلك سائر الصُّحُف النبوية، فهذه العصابة الناجية، والجماعة الحديثية، أولى الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأسعدهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- ولا يساويهم في هذه الفضيلة أحدٌ من الناس، إلا من جاء بأفضل مما جاؤوا به، ودونه خَرْطُ القَتَاد.

فعليك يا باغي الخير، وطالب النجاة بلا ضير، أن تكون محدِّثًا، أو متطفِّلًا على المحدثين، وإلا فلا تكن. . . فليس فيما سوى ذلك من عائدة تعود إليك.

ورَحِمَ اللَّه الإمام أحمد إمام السنّة الذي أنشد [من الكامل]:

دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ أَخْبَارٌ

نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِلْفَتَى آثَارُ

لَا تَرْغَبَنَّ عَنِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ

فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ

وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى أَثَرَ الْهُدَى

وَالشَّمْسُ بَازِغَةٌ لَهَا أَنْوَارُ

نسأل اللَّه تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلنا من هؤلاء المحدثين الذين هم أولى الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات، ومُفيض البركات، آمين آمين آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 494

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلّامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء التاسع من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى، والمؤذّن يؤذّن لصلاة العشاء ليلة الاثنين المبارك 12/ 5/ 1426 هـ الموافق 18/ يوليو - تموز/ 2005 م.

أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش الكريم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء العاشر مفتتحًا بـ (18) - (بَابُ التَّسْمِيعِ، وَالتَّحْمِيدِ) رقم الحديث [918](409).

"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 495