المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كتاب البيع   البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وأما اصطلاحا فقد - شرح زاد المستقنع - حمد الحمد - جـ ١٣

[حمد الحمد]

فهرس الكتاب

كتاب البيع

البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وأما اصطلاحا فقد عرفه المؤلف وسيأتي.

وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على جوازه، أما الكتاب فقد قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأما السنة فالأدلة متواترة على جواز البيع، وقد عقد الأئمة في مؤلفاتهم في الكتب الستة أبوابا في البيع، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جوازه، والمصلحة تقتضي ذلك، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض، ولو لم يشرع البيع لوقع الناس في حرج عظيم، ولسلك الناس الطرق المحرمة للحصول على ما في أيدي الناس من الأموال، فكان جوازه دفعا للحرج.

قوله [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض]

قوله (مبادلة) المبادلة هي إعطاء شيء في مقابلة شيء آخر، فهذا يعطي الآخر المال، وذلك يعطيه السلعة.

قوله (ولو في الذمة) سواء كان المال معينا أو في الذمة، والمال المعين: هو المال المشار إليه، كأن يقول: بعتك هذا الثوب، فهذه سلعة معينة، أما لو قال: بعتك ثوبا صفته كذا، فهذا بيع في الذمة، وليس المراد النسيئة، فإن النسيئة فيها معنى التأجيل، ولكن المراد: أن السلعة التي وقع عليها البيع ليست معينة بل موصوفة، ومثل ذلك الثمن، فإذا قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدنانير، فالدنانير التي هي عن الثوب معينة، أما إذا قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دنانير، والدنانير غير معينة، فهي في الذمة، فالمال سواء أكان معينا أم في الذمة فإن التعاقد عليه يقع في البيع.

ص: 1

قوله (أو منفعة مباحة كممر في دار) فالمنفعة المباحة يقع عليها البيع، مثاله: ما ذكره المؤلف وهو أن يبيع ممرا، فلو أن رجلا بين داره وبين الشارع أرض لرجل آخر، فاشترى منه المرور ليتمكن من الوصول إلى الشارع، فهنا قد اشترى منه المرور، فهو لا يملك الأرض قرارها وهواءها، لكن هو يشتري المرور على هذه الأرض، فلم يقع التبايع على شيء لا مال معين ولا مال في الذمة، وإنما وقع على منفعة مباحة، ومثال آخر: أن يحتاج إلى أن يحفر بئرا في أرض عند داره، فيشتري من جاره هذه المنفعة، فيقول: احفر في أرضك بئرا بكذا وكذا من المال، فلا يكون من باب الإجارة، بل يكون البئر ملك له دائم، ولصاحب الأرض أن يبني فوقه لأنه يملك الهواء، وهذا إنما ملك هذا الحفر الذي حفره وانتفع به، وأما أصل الأرض وهواؤها فإنه لا يملكه، فهذا نوع ثالث، فالنوع الأول: مال معين، والنوع الثاني: مال في الذمة، والنوع الثالث: منفعة مباحة، وحينئذ تكون الصور تسعا، أي ثلاثة في ثلاثة وهي:

1-

مال معين بمال معين.

2-

مال معين بمال في الذمة.

3-

مال معين بمنفعة مباحة.

4-

مال في الذمة بمال معين.

5-

مال في الذمة بمال في الذمة.

6-

مال في الذمة بمنفعة مباحة.

7-

منفعة مباحة بمال معين.

8-

منفعة مباحة بمال في الذمة.

9-

منفعة مباحة بمنفعة مباحة.

وقد قيد المؤلف المنفعة بكونها مباحة، فدل على أن المنفعة المحرمة لا تجوز، فلو اشترى منه الممر ليكون له حانة خمر، أو دار زنا أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز، لما سيأتي في شروط البيع، وأن الذي يقع عليه العقد لا بد أن يكون مباحا.

قوله (بمثل أحدهما) كما تقدم فتكون الصور تسعا.

ص: 2

قوله (على التأبيد) احتراز من الإجارة، فإن الإجارة ليست على التأبيد، فإذا تعاقدا على منفعة أرض سنة أو سنتين أو نحو ذلك فهذا ليس بيعا، بل هو إجارة، فقيده بقوله (على التأبيد) ليكون كل منهما قد ملك ما أخذه ملكية تامة مؤبدة.

قوله (غير ربا أو قرض) فالربا ليس بيعا، ولذا قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ففرق بينهما، فدل على أن الربا ليس بيعا.

وقوله (قرض) فالقرض حقيقته فيه المبادلة المتقدمة، فإنه مثلا يعطيه عشرة دنانير إلى سنة، فيعطيه الآخر مثلها، فهذا فيه مبادلة، لكنه لما كان بغير طريق المعاوضة لم يكن بيعا، فالبيع فيه معاوضة، وأما القرض فإن فيه إرفاقا ورحمة، وليس بمعاوضة، وعلى هذا فالقرض ليس بيعا، وإن وقعت فيه المعاوضة المذكورة.

قوله [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله]

ينعقد البيع بإيجاب وقبول بعده، أي القبول بعد الإيجاب، والإيجاب هو قول البائع الدال على الرضا بالبيع، كقوله: بعتك، وأما القبول فهو قول المشتري الدال على الرضا بالبيع، كقوله: قبلت.

وقوله (بعده) فيه أنه يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب، فيقول البائع للمشتري بعتك هذا الثوب بدرهم، ثم يقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول.

ص: 3

قوله (وقبله) وهذا فيه إطلاق، وتقييده أن يقال أمرا أو ماض مجرد عن الاستفهام أو نحوه، فمثال الأمر أن يقول المشتري: بعني هذا الثوب بدرهم، فيقول البائع: قبلت، فكل لفظ منهما دل على الرضا، ومثال الماضي: أن يقول المشتري: اشتريت هذا الثوب منك بدرهم، فيقول البائع: قبلت، أما إذا كان الفعل ماضيا سبق باستفهام أو نحوه كالتمني فإنه لا يدل على الرضا، كأن يقول المشتري: أتبيعني هذا الثوب بكذا، فيقول: نعم أو بعتك، فقول المشتري أتبيعني هذا الثوب لا يدل على رضاه إذ ليس جازما بالبيع، فقد يخبر بالقبول ولا يرضى، إنما هو مستفهم، ومثل ذلك لو تمنى فقال: ليتك تبيعني هذا الثوب بكذا.

قوله [متراخيا عنه]

ينعقد متراخيا عنه، فإذا تراخى القبول عن الإيجاب فلا بأس، فإذا قال رجل: بعتك هذا الثوب بدرهم، فسكت المشتري ثم قال: قبلت: فإذا ذلك يصح لعدم ما ينافي الرضا المشروط، فإن الألفاظ وضعت للدلالة على الرضا، فإذا قلت: قبلت، فإن الرضا ثابت من الطرفين، ولو كان ذلك على سبيل التراخي، لكن قيده بقوله:

قوله [في مجلسه]

فلو تفرقا عن المجلس فلا، وذلك لأن تفرقهما عن المجلس من غير أن يتم البيع دليل على عدم الرضا، ودليل على الإعراض عنه، فإذا تفرقا ولم يقع القبول فلا بيع، ومثل ذلك:

قوله [فإن تشاغلا بما يقطعه بطل]

فإذا تشاغلا بما يقطع القبول عرفا بطل البيع، كأن يقول بعتك، ثم يتحدثا في أمر خارج عن البيع، ثم قال: قبلت، فلا، وذلك لوجود القاطع، والرجوع في ذلك إلى العرف، فما كان قاطعا في العرف فإن القبول يبطل، ونحتاج إلى استئناف الإيجاب والقبول مرة أخرى.

ص: 4

ويشترط أيضا موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم، فقال: قبلته بخمسة، أو قال: بعتك هذا الثوب إلى شهرين بمائتي درهم، فقال: قبلت إلى شهر بمائة، فهذا لا يصح، وذلك لعدم موافقة الإيجاب للقبول، فإن الرضا بذلك لم يثبت.

قوله [وهي الصيغة القولية]

صيغة الإيجاب والقبول هي الصيغة القولية، ولا يشترط لفظ خاص، بأن يشترط أن يكون اللفظ: بعتك أو قبلت، بل كل لفظ دل على البيع بأي لغة كانت فإن الإيجاب والقبول يتمان به، فلو قال: بعتك أو أعطيتك أو خذ هذه السلعة بكذا، وقال المشتري رضيت أو اشتريت أو تم أو قبلت أو نحو ذلك فكل ذلك مما ينعقد به البيع، وذلك لأن الشارع لم يحدد لفظا معينا، فكان المرجع إلى العرف.

قوله [وبمعاطاة وهي الفعلية]

ص: 5

هذا هو النوع الثاني مما يثبت به البيع، فالصيغة الأولى: الصيغة القولية، والصيغة الثانية: الصيغة الفعلية، وهي المعاطاة، سواء كانت من الطرفين أو من أحدهما، مثال كونها من الطرفين أن يضع المشتري الثمن ويأخذ السلعة، بحيث تكون السلعة معروفة الثمن، فهنا وقعت المعاطاة من الطرفين، ومثال المعاطاة من المشتري أن يقول البائع للمشتري خذ هذا الثوب بدرهم، فيضع الدرهم عند البائع ويأخذ الثوب، فهذه معاطاة من طرف واحد وهو المشتري، ومثال المعاطاة من البائع أن يقول المشتري أعطني هذا الثوب بدرهم، فيعطيه إيه من غير أن يقول قبلت، أو رضيت، فهذه معاطاة من البائع، فسواء كانت المعاطاة من الطرفين أو من أحدهما فهي جائزة، قالوا: لحصول المقصود بها من الدلالة على الرضا، وقد قال تعالى {إلى أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، والمقصود حاصل بالصيغة الفعلية كما هو حاصل بالصيغة الفعلية، قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يصح عنهم أنهم كانوا في تبايعهم يأتون بالصيغة القولية، قالوا: ولو ثبت لنقل نقلا شائعا فدل على أنهم كانوا يتعاملون بالمعاطاة، ثم لو ثبت شيء من الأدلة يدل على وجود القبول والإيجاب في شيء من عقودهم فإن غالب عقودهم إنما هي على صورة المعاطاة المتقدمة، قالوا: وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولو كانت الصيغة القولية شرطا في البيع لنقل لنا ذلك نقلا ظاهرا شائعا مشهورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبينه للأمة بيانا واضحا إذ يتعلق بأمر مهم في حياتهم ألا وهو البيع، وعند الشافعية لا يصح البيع بالمعاطاة مطلقا، وعند الحنفية يصح في المحقرات فقط، والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية أن البيع بالمعاطاة جائز، فالخلاصة أن هناك صيغتان يثبت بهما البيع:

ص: 6

الصيغة الأولى: الصيغة القولية: وهي صيغة الإيجاب والقبول، ويشترط أن يكون الإيجاب متقدما على القبول، إلا أن يكون القبول فعل أمر أو فعلا ماضيا مجردا عن الاستفهام ونحو ذلك، ويشترط ألا يكون هناك فاصل عرفا بينهما، ويشترط أن يقع القبول في نفس المجلس الذي وقع فيه الإيجاب، ويشترط أن يكون القبول موافقا للإيجاب.

الصيغة الثانية: صيغة المعاطاة، وهي الصيغة الفعلية، ويثبت بها البيع لدلالتها على الرضا.

قوله [ويشترط التراضي منهما]

سيذكر المؤلف شروط البيع وهي سبعة شروط لا يصح البيع إلا بها.

الشرط الأول: التراضي منهما.

قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما البيع عن تراض)(1)[جه 2185] ، فلا يصح البيع إلا بالتراضي بين الطرفين، ولذا قال المؤلف:

قوله [فلا يصح من مكره بلا حق]

بيع المكره لا يصح لعدم الرضا، فإذا انتفى الرضا فلا بيع صحيح، وهو مذهب الجمهور، وهناك قول آخر بأنه يحتمل الصحة وثبوت الخيار عند زوال الإكراه، وهو مذهب الأحناف بناء على أنه تصرف فضولي، ففي المسألة قولان، وقيد المؤلف ذلك بقوله (إلا بحق) فإن أكره بحق فإن البيع صحيح، كأن يكره السلطان أحدا على بيع شيء من ماله لوفاء دينه، فهذا الإكراه غير مؤثر في العقد، فالعقد صحيح.

(1) - وهو في سنن أبي داود (3458) بلفظ: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض)، وفي سنن الترمذي (1248) بلفظ:(لا يتفرقن عن بيع إلا عن تراض)

ص: 7

وكره الحنابلة الشراء من المكره، وهذه المسألة تسمى بيع المضطر، مثال ذلك: رجل أكرهه السلطان على ضريبة من المال، فباع شيئا من ماله لبعض ليسدد الضريبة، فالشراء من هذا المكره مكروه، وقال شيخ الإسلام يجوز بلا كراهة، قال: لأن امتناع الناس من شراء ما يبيعه أشد ضررا عليه، لأنه متوعد بما يضره في نفسه أو أهله أو ولده إلا إن دفع ذلك المال الذي أكره عليه، فإذا امتنع الناس من الشراء منه كان في ذلك ضررا عليه، ولا دليل على الكراهة، بل الظاهر هو خلاف ذلك، وهو عدم الكراهية، فالصحيح جواز ذلك، إلا أن يكون في امتناعهم من الشراء زوال للإكراه عنه فيمتنعوا ليزول الإكراه.

* واعلم أن من المسائل التي تترتب على هذا الشرط بيع التقية أو بيع التلجئة، وهي أن يبدي المتعاقدان بيعا وهما غير مريدين له في الحقيقة، لكن من أجل التقية يريدان البيع، كأن يخشى ظالما فيظهر البيع على أحد من الناس وهما في الباطن غير مريدين للبيع، فهنا البيع باطل ولا يصح على ما بيناه، لعدم الرضا منهما، وقال الشافعية يصح البيع، والصحيح هو مذهب الحنابلة لما سبق من الأدلة، وهناك مسألة أخرى شبيهة بها وهي فيما إذا أظهرا ثمنا في العقد وهما يبطنان بينهما ثمنا آخر في السر، فإن العمدة على ما أبطناه لأن الرضا مرتبط به، فهما لم يتراضيا إلا على هذا الثمن الذي اتفقا عليه في الباطن، ومثل ذلك في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة وهو المشهور في المذهب خلافا لقول أبي الخطاب بيع الهازل غير الجاد، فلا يقع بيع الهازل، بل هو باطل، وذلك لانتفاء الرضا، فإن الهازل غير راض بالبيع لكن بشرط أن يكون هناك دليل أو قرينة تدل على الهزل في البيع، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح:(ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)[ت 1184، د 2194، جه 2039] فدل على أن الجد جد والهزل هزل في سواهن.

ص: 8

قوله [وأن يكون العاقد جائز التصرف]

هذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف.

والعاقد: يشمل البائع والمشتري، فيشترط أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف، وجائز التصرف هو: الحر المكلف الرشيد، وعليه فالعبد لا يصح تصرفه وذلك لأن ما في يده من مال لسيده فلا يصح أن يتصرف إلا بإذن سيده، وأن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا، كما يشترط أن يكون رشيدا، أي يحسن التصرف في ماله، ودليل ذلك قول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليه أموالهم} فقوله {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في بعض التصرفات المالية ليثبت لكم حسن تصرفهم في المال، وقوله {حتى إذا بلغوا النكاح} دليل على البلوغ، أي اشتراط البلوغ، وقوله {فإن آنستم منهم رشدا} أي ظهر منهم الرشد في التصرف، وهذا يدل على اشتراط العقل والرشد في التصرف، فإن غير العاقل لا شك أنه ليس برشيد، فهذه الآية دليل على اشتراط التكليف والرشد، فجائز التصرف هو الحر المكلف الرشيد، ولذا قال المؤلف:

قوله [فلا يصح تصرف صبي وسفيه]

الصبي لأنه غير بالغ، والسفيه لأنه ليس برشيد، وليس المراد بالسفيه غير العاقل.

قوله [بغير إذا ولي]

فلا بد من إذن الولي، وعلى هذا فيصح تصرف الصبي بإذن وليه، ويصح تصرف السفيه بإذن وليه، ويصح تصرف العبد بإذن سيده، أما العبد فظاهر، فإن صاحب المال هو السيد، وقد أذن له بالتصرف في ماله، وأما الصبي والسفيه فلقوله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، فهم لم يثبت بعد رشدهم، ومع ذلك قد أمر الله بابتلائهم واختبارهم وهذا لا يكون إلا بالإذن لهم بشيء من التصرف ليثبت رشدهم، فدل هذا على جواز تصرفهم بالإذن، وعن الإمام أحمد أنه يصح تصرفهم ويكون موقوفا على إجازة الولي، وهذا القول فيه قوة.

ص: 9

ولكن ليس للولي أن يأذن لهم بما يكون فيه ضرر عليهم لأنه مؤتمن، بمعنى أن يأذن لهم في أمور يغلب على الظن نجاحهم فيها، وعدم خسارتهم فيها، وعدم لحوق الضرر بهم.

ويستثنى من ذلك أيضا الشيء اليسير عرفا كشراء بعض الأطعمة أو شيء من ذلك، فيجوز تصرف الصبي المميز وغير المميز والسفيه بغير إذن الولي، وذلك لأنه لا ضرر فيه عليهم، فلا بأس أن يتصرف الصبي أو السفيه بما هو يسير عرفا من غير إذا الولي، وهذا يختلف باختلاف البلدان والأزمان.

قوله [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة]

هذا هو الشرط الثالث: وهو أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة.

فهنا ثلاثة أوصاف:

1-

النفع، وهذا احتراز مما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها.

2-

أن تكون مباحة، وهذا احتراز من بيع المحرم كالخمر والخنزير والأصنام والصور والميتة ونحوها.

3-

ألا تكون إباحتها لحاجة، فإن كانت لحاجة أو لضرورة أي أن الأصل أنها محرمة لكن أبيحت لحاجة أو ضرورة، فلا يجوز بيعها،كالكلب، فإنه يجوز اقتناؤه لحاجة، وكالميتة فإنه يجوز أكلها لضرورة، ومع هذا فلا يجوز بيعها، فإن اختل شيء من هذه الأوصاف الثلاثة لم يصح البيع.

قوله [كالبغل والحمار ودود القز وبزره]

دود القز الذي يستخرج منه الحرير، وبزره أي ولده، وذلك للمآل، فإنه ينتفع به في استخراج الحرير في المآل أي بعد تربيته، وهذا كله للتمثيل.

قوله [والفيل]

لأنه ينتفع به منفعة مباحة لغير حاجة.

قوله [وسباع البهائم التي تصلح للصيد]

كالفهد، فهو يصلح للصيد، فيجوز بيعه.

* وهل يجوز بيع الهر؟

1-

قال جمهور أهل العلم يجوز ذلك.

ص: 10

2-

وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب طائفة من التابعين واختاره شيخ الإسلام وابن القيم أن ذلك لا يجوز، ودليله ما ثبت في مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور - أي الهر - فقال:(زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك)[م 1569] أي نهى عنه، وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة التنزيهية لا الكراهة التحريمية، وأنه ليس من اللائق بيعه، ولكن هذا ليس بصحيح، إذا الأصل هو حمل النهي على ظاهره، وقد قرن بالكلب، والكلب محرم كما سيأتي، وهذا هو الراجح.

قوله [إلا الكلب]

فلا يجوز بيعه، وإن كان كلب صيد، وذلك لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود الأنصاري قال:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)[خ 2237، م 1567] وتقدم حديث جابر في مسلم، والنهي يقتضي التحريم، ولا فرق بين ما يجوز اقتناؤه ومالا يجوز اقتناؤه، وأما ما رواه النسائي في حديث جابر المتقدم وفيه (إلا كلب صيد)[ن 4295، 4668، وهو في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة (1281) وقال الترمذي عقب روايته للحديث:" قال أبو عيسى هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه وقد روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ولا يصح إسناده أيضا "، ويقصد بحديث جابر، حديثه الذي في سنن النسائي] فإن هذه اللفظ منكرة كما بين ذلك الإمام النسائي نفسه، وعليه فلا يجوز بيع الكلب مطلقا، وهو مذهب جمهور الفقهاء، فالكلب فيه منفعة مباحة لكن لحاجة، فيخرج من الضابط المتقدم.

قوله [والحشرات]

لأنه لا منفعة فيها، فلا يحل بيعها، وفي ذلك أكل للمال بالباطل.

قوله [والمصحف]

وشك أن إدخال المؤلف للمصحف بحرف العطف على هذه الصورة غير لائق، والذي ينبغي أن يفرده بجملة فيقول: ولا يصح بيع المصحف.

ص: 11

وهذا هو المشهور في المذهب أنه لا يجوز بيع المصحف، وهو أحد الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد ثلاث روايات:

الأولى: وهي موافقة للمشهور من المذهب، وأنه لا يجوز بيع المصحف.

الثانية: أن ذلك جائز مع الكراهة، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي.

الثالثة: أن ذلك جائز بلا كراهة، وهو المشهور عند الأحناف.

واستدل القائلون بالنهي عن ذلك بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر أنه قال:" وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف "[المصنف 8 / 112، برقم 14525، وسنن البيهقي 6 / 16] وقال ابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق:" اشترها ولا تبعها "[المصنف 8 / 112، برقم 14521]، قالوا: ولما في بيعها من ابتذالها، ولا يجوز ابتذال المصحف.

وأما القائلون بالجواز فقالوا: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله)[خ 5737]، قالوا: فيدخل في عموم ذلك بيع المصحف، فإنه يأخذ أجرا على كتابته، فقد كتب المصحف وجلده، واشتغل بإصلاحه، قالوا: ولا ابتذال في بيعه، فإن بيعه لا يعني ابتذاله، نعم إن كان على الصور المبتذلة فلا يجوز ذلك، وأما مطلق البيع فإنه ليس فيه ابتذال، قالوا: ولعل كراهية الصحابيين - ابن عمر وابن عباس - إنما هو لخشية ابتذالهما، وقال بعض العلماء: لعل هذا النهي منهما لقلة المصاحف وقتئذ، فيكون بيعها بأسعار غالية مرهقة للناس، فأمر بإعطائها من غير بيع لها يرهق الناس، من أجل حصولهم على المصاحف، بخلاف الأزمنة المتأخرة التي كثرت فيها طباعة المصاحف، وأصبحت تباع بأسعار مناسبة، فحينئذ المعنى الذي من أجله كره ابن عمر وابن عباس بيع المصاحف غير موجود، وهذا هو الأصل، فإن الأصل في البيوع الحل، وأرجح الأقوال هو جواز بع المصحف، وهو رواية عن الإمام أحمد كما سبق، وهو مذهب الأحناف، لكن على وجه لا يبتذل.

ص: 12

قوله [والميتة]

الميتة لا يجوز بيعها، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال صلى الله عليه وسلم لا هو حرام)[خ 2236، م 1581] ، وقوله (لا هو حرام) أي البيع، فبيع الميتة حرام، ولا يجوز ولو كان المشتري مضطرا لها، لكن إذا كان مضطرا لها ولم يعطاها إلا ببيع فله أن يشتريها فدعا للضرورة، فإنه إذا جاز أن يأكلها دفعا للضرورة فأولى من ذلك أن يشتريها دفعا للضرورة.

كذلك في المصاحف على القول بتحريم بيعها، فيجوز للمحتاج إلى المصحف أن يشتريه من بائعه، لأنه محتاج إليه، فجاز الشراء إذا لم يعطاه إلا ببيع.

قوله [والسرجين النجس]

السرجين: هو ما نسميه بالسماد، وهو ما يوضع لإصلاح النبات، فالسرجين النجس يحرم بيعه، لقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له:(أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام) فدل على أن النجس لا يجوز بيعه، ومن ذلك السرجين، أما الانتفاع به فجائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أقرهم على الانتفاع به، ونهاهم عن البيع.

وتقييد المؤلف له بـ (النجس) يدل على أن السرجين الطاهر يجوز بيعه كروث الإبل والبقر والغنم وغيرها من مأكول اللحم، فإن روثه طاهر، وعليه فيجوز بيع السرجين الطاهر لأن فيه منفعة.

قوله [والأدهان النجسة والمتنجسة]

ص: 13

فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها لما تقدم: لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة فقال: (لا هو حرام) ، وقوله (المتنجسة) فالأدهان النجسة والمتنجسة لا يجوز بيعها، والفرق بينهما أن الأدهان النجسة هي النجسة بأصلها، أما المتنجسة فهي التي طرأت عليها النجاسة، كدهن طاهر وقعت فيه نجاسة، فالأدهان المتنجسة يحرم بيعها على المذهب، وهذا بناء على أن الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره، وتقدم أن المائعات تطهر ويمكن تطهيرها، وعليه فيجوز بيعه، أي المتنجس، لإمكان تطهيره، وقد سبق هذا في كتاب الطهارة، وعلى هذا فالراجح أن الأدهان المتنجسة لا حرج في بيعها.

قوله [ويجوز الاستصباح بها]

أي بالمتنجسة لا النجسة، والاستصباح بها أي جعلها مادة لاشتعال النار في المصابيح، فيجوز على هذا استعمال الأدهان المتنجسة دون النجسة في الاستصباح، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب الحنبلي، وقول في المذهب الشافعي جواز ذلك، وأنه لا حرج فيه، فيجوز الاستصباح بالأدهان النجسة، ودليل ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في شحوم الميتة (لا هو حرام) أي البيع، وأقرهم على الانتفاع بها كما تقدم، فدل هذا على جواز الانتفاع بالدهن النجس أو المتنجس، أما الأكل فإنه محرم، وأما الانتفاع بها في غير ما نهى الشارع عنه فهو جائز.

قوله [في غير مسجد]

ص: 14

فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير المسجد، وذلك لأن الدخان يتحلل من هذا الدهن المتنجس فيكون في المسجد، والمسجد يجب أن يصان من النجاسات، فليست العلة أنه نجس موضوع داخل الإناء، فإن هذا لا يؤثر، فهذا يشبه النجاسة الباطنة في بدن الآدمي، لكن عندما يوقد فإن الدخان يتحلل منه فيكون في جو المسجد شيئا نجسا، والواجب أن يطهر المسجد من كل النجاسات، والراجح هو أن هذه المسألة مبينة على مسألة سابقة وهي أن ما يتحلل من النجاسة ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالمتحلل من النجاسة ليس بنجس، وعليه فإن الدهان المتحلل من هذا النجس أو المتنجس ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، فهو دخان وليس دهنا، وعليه فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في المساجد، ومثل ذلك على الراجح الأدهان النجسة.

قوله [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه]

هذا هو الشرط الرابع: وهو أن يكون التصرف من مالك أو من يقوم مقامه.

أي أن يكون التصرف من مالك للسلعة والثمن أو من يقوم مقامهما، والذي يقوم مقامهما إما ولي أو وصي أو وكيل أو ناظر.

فالوكيل: هو النائب عن الحي.

والوصي: هو النائب عن الميت.

والناظر: للوقف خاصة.

والولي: هو القائم على من لا يجوز تصرفه بماله كاليتيم.

ودليل ذلك ما ثبت في المسند وهو عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث حكيم بن حزام أن قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق قال: لا تبع ما ليس عندك)[حم 14887، 14888، ت 1232، ن 4613، د 3503، جه 2187] ، فدل على أن البيع لا يصح إلا من مالك أو من يقوم مقامه.

قوله [فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله بغير إذنه لم يصح]

ص: 15

وهذا ما يسمى بتصرف الفضولي، فإذا باع ملك غيره بغير إذنه، كأن يبيع عمرو مالا لزيد بغير إذن زيد، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه، كأن يكون عنده دنانير أو دراهم لزيد فاشترى سلعة من السلع لزيد، فإن هذا التصرف يسمى تصرف الفضولي، ولا يصح، وعليه فالبيع باطل، وهذا هو مذهب الشافعي والحنابلة، واستدلوا بحديث حكيم بن حزام:(لا تبع ما ليس عندك) ، وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى صحة البيع بشرط الإجازة، فإذا أجازه بأن قبل البيع أو الشراء فإن البيع يكون لزيد، وإن لم يقبل ذلك فإن البيع يبطل، وهذا القول هو الراجح، ودليله ما رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم من حديث عروة البارقي:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح)[حم 18867، خ 3643، جه 2402، د 3384، ت 1258] وهذا هو تصرف الفضولي، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجازه على ذلك وأقره، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن بيع الفضولي وإن كان البيع من غير المالك فإنه بيع صحيح لكنه موقوف على الإجازة، ويلزم بشرط الإجازة من صاحب المال، فإن لم يجزه فإن البيع يبطل، ويجاب عن استدلال أهل القول الأول بحديث حكيم بأن حديث عروة يصح أن يكون مخصصا للمسألة السابقة، وأن من باع ما لا يملك فإنه يتوقف اللزوم على إذن المالك، والمعنى يدل على هذا، فإن المنع إنما هو لحق المالك، وحيث أجازه فقد أسقط حقه ورضي به.

قوله [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا]

ص: 16

بمعنى أنه عقد صفقة ذكر فيها الثمن، وهو ينوي أن تكون السلعة لغيره، ولم يسمه في العقد، ولم يكن بعين مال ذلك الغير، مثاله: رجل اشترى بيتا، ونوى أن يكون لزيد، وقال: اشتريته بعشرة دنانير، وكانت هذه العشرة في الذمة، وليست بعين مال زيد، ولم يسم زيدا في العقد، فإنه يصح له بالإجازة، وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا، فيصبح هذا المبيع له إن أجاز، وإلا لزم الفضولي فيكون ملكا له.

وقول المؤلف هنا: (ولم يسمه) ظاهره أنه لو سماه فقال اشتريت هذه الدار لزيد بعشرة دنانير، فإن المسألة تكون كالمسألة السابقة فلا تصح مطلقا، وهذا هو المشهور من المذهب، وظاهر كلام صاحب المقنع أنه إذا سماه في العقد فكذلك وهو الظاهر، فيرجع فيه إلى إجازة من اشترى له في الذمة سماه أو لم يسمه، فإن أجازه كان ملكا له، وإلا فإنه يلزم المشتري.

* مسألة:

إن وكل رجلين في بيع سلعة، فباع كل واحد منها بثمن مسمى فالبيع للأول، لأن الوكيل الثاني زالت وكالته بانتقال ملك الأول عن السلعة، وصار بائعا ملك غيره بغير إذنه.

قوله [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر]

هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وغيرهم، فهو مذهب جمهور العلماء، أن ما فتح من الأرض عنوة فأوقفه الإمام على المسلمين فإن بيع الأراضي لا يجوز، وإنما يجوز بيع المساكن وكذلك إجارتها، وهذه كأرض مصر والشام والعراق مما أوقفه أمير المؤمنين عمر على المسلمين، ولم يقسمه بين الناس فكان وقفا، وقد أجمع العلماء على أن بيع المساكن وإجارة البيوت فيما فتح عنوة أنه جائز ولا بأس به، قالوا: وهؤلاء الصحابة لما سكنوا هذه البلاد كانوا يبيعون المساكن من غير نكير فكان ذلك إجماعا، وما زال المسلمون يتبايعون مساكن أراضي العنوة فلا نكير فكان ذلك إجماعا، قالوا: وإنما الأرض لا يجوز بيعها لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب.

ص: 17

وقال الأحناف: بل يجوز بيع الأراضي أيضا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام، وذلك لأن الوقف فيها ليس كالوقف الذي لا يجوز بيعه، بل هو وقف عام، يقصد منه إعطاء من كانت بيده الخراج عليها، فالمقصود أن من كانت بيده ينتفع بها فإنه يعطي بيت المال خراجها، ولذا جاز فيها التوارث، مع أن الوقف لا توارث فيه، وهذا القول هو الراجح، قال شيخ الإسلام:" وعليه عمل الأمة " ا. هـ، فالصحيح أن أراضي العنوة كأراضي مصر والشام والعراق يجوز بيعها، كما يجوز بيع المساكن وإجارتها.

* مسألة:

الصحيح من أقوال أهل العلم أن مكة قد فتحت عنوة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما أحلت لي ساعة من نهار)[خ 104، م 1354] لكن اختلف العلماء في رباع مكة، هل يجوز بيعها وإجارتها أم لا يجوز؟ والمراد بالرباع: المنازل.

القول الأول: وهو مذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والحنابلة أن ذلك لا يجوز، فالبيع والإجارة غير جائزين، بل صاحب المنزل أحق به ما دام محتاجا إليه، فإذا استغنى عنه فليس له أن يبيعه ولا أن يؤجره، واستدلوا بما رواه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مكة كلها حرام، وحرام بيع رباعها وحرام أجرته)[كم 2 / 35] ونحوه عند سعيد بن منصور في سننه عن مكحول مرسلا، قالوا: ومكة حريم البيت الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد تحجيره، وعليه فإن احتاج ما في يده سكنه، وإلا بذله للمحتاج إليه.

ص: 18

القول الثاني: وهو قول الشافعية، أنه يجوز بيعها وإجارتها، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قال:(يا رسول الله أين تنزل غدا إن شاء الله - وذلك زمن الفتح - قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل)[خ 4283، م 1351] وفي رواية: (من رباع أو دور)[خ 1588، م 1351] ، فدل هذا على أن عقيلا تصرف فيها ببيع، وكذلك قال:(هل ترك لنا) فدل على أنها لو تركت لكانت له ولقرابته، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)[م 1780] وذلك ما دخل مكة، فأضاف الدار إليه، والأصل أنها إضافة ملك، قالوا: وأما ما استدللتم به فالحديث الذي رواه الحاكم فيه عبيد الله بن زياد وهو ضعيف، وأما الثاني فهو مرسل، والمرسل ضعيف، فلا يعارض بهما ما استدللنا به.

ص: 19

القول الثالث: وهو الوسط، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز بيع الرباع ولا تجوز إجارتها، فالبيع جائز لأنها ملك له بدلالة الحديثين الذين استدل بهما الشافعية، وأما الإجارة فمحرمة، قالوا: لما في ذلك من التضييق على الحجاج والزائرين، فمكة دار منسك، والذي يأتيها ممن يحتاج إلى استئجار فيها إنما هو في الغالب الحجاج والزائرين، قالوا: وقد قال عمر رضي الله عنه كما صح ذلك عند في مصنف عبد الرزاق وقد ثبت ذلك عنه من غير ما وجه أنه قال:" يا أهل مكة لا تضعوا على بيوتكم أبوابا حتى يدخل البادي "[مصنف عبد الرزاق 5 / 147، برقم 9211] والبادي: هو من أتى من خارج الحرم، وهذا الأثر يدل على أنهم ليس لهم أن يمنعوا البادي من سكنى لا يحتاجون لها، وهذا القول هو الراجح، فلا يحل لأحد أن يؤجر فيها لقول عمر، وقول الصحابي يخصص عموم الأدلة ولما في ذلك - أي في إجازة الإجارة - من التضييق على الحجاج والزائرين، وأما البيع فجائز لأنها ملك لأصحابها، والأصل في البيوع الجواز، ولما استدل به الشافعية من الأحاديث وقد تقدمت، لكن إن رأى الإمام أن المصلحة تقتضي الإذن بالإجارة فلا بأس، كأن يرى أن أهل مكة لا يصلحونها للسكنى إلا بالإجارة فلا بأس أن يأذن لهم فيها.

قوله [ولا يصح بيع نقع البئر]

إذا حفر رجل بئرا، فسقى منه بهائمه وزرعه، وفضل من ذلك فضل زائد عن حاجته فليس له أن يبيعه، وبيعه محرم، والمال الذي يكسبه منه محرم، لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقد ثبت في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)[حم 2956، د 3488، بلفظ: (وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) ، وفي الصحيحين: (قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) ]

ص: 20

ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع فضل الماء)[م 1565]، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ)[خ 2354] ، وظاهر الحديثين العموم سواء كانت البئر والعين في أرض مملوكة له أو في أرض غير مملوكة له، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)[د 3477 بلفظ: (المسلمون شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار) ] وثبت في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار)[جه 2473]، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة)[حم 6635] فلا يجوز لأحد أن يمنع غيره فضل مائه، لكن إن حازه فوضعه في ظرف أو جعله في ساقية أو بركة ونحوه فله بيع هذا الماء، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)[خ 1471، م 1042] فدل هذا على أن الحطب - وهو من الكلأ وهو مما لا يجوز بيع فضله - إذا جز ثم وضع في حبل فكان حزما فإنه يجوز بيعه، وكذلك الماء، وليس له أن يمنع أحدا من أن يدخل أرضه ليأخذ من الماء الفاضل عن حاجته، وذلك لأنه حق لهذا الداخل فليس له منعه، إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليه كأن يكون في محل محوط، ويكون فيه شيء من أمواله، ويخشى عليها من الضياع أو السرقة، فحينئذ له أن يمنع الناس ليحتاط لماله وعوراته، فلا يلزمه نفع غيره بضرر نفسه.

* مسألة:

هل يملك نقع البئر بملك الأرض؟

قولان هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه لا يملك لإطلاق الأدلة.

ص: 21

قوله [ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك]

كذلك ما نبت في أرضه من عشب أو شجر أو كلأ أو شوك، فإنه لا يحل له أن يمنع غيره منه للحديث المتقدم (الناس شركاء في ثلاث) وهو أحق به لكونه في أرضه، وليس له أن يبيع فاضله، وليس له أن يمنع أحدا من الناس من فضله، لكن إن كان ذلك الكلأ لا يكفيه فله منع الناس منه، واستثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما إذا قصد استنباته لأن له عملا فيه، كأن يحرث أرضه للكمأة.

قوله [ويملكه آخذه]

إذا أخذ الماء أو الكلأ فإنه يملكه بأخذه، وحينئذ يجوز له أن يتصرف فيه كما شاء.

قوله [وأن يكون مقدورا على تسليمه]

هذا هو الشرط الخامس من شروط البيع: وهو أن يكون المبيع مقدورا على تسليمه.

ويدل لهذا الشرط حديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ولما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الغرر)[م 1513] ، وكون البائع يبيع شيئا وإن كان ملكا له لكن لا يقدر على تسليمه فإن هذا غرر، وقد نهى عنه الشارع، وقد باع ما ليس عنده، فليس هذا المبيع مقدورا على تسليمه وقد مثل لهذا المؤلف فقال:

قوله [فلا يصح بيع آبق]

الآبق: هو العبد الهارب من سيده، فلا يجوز أن يبيعه لأنه غير مقدور على تسليمه.

قوله [وشارد]

هو الجمل الشارد، فلا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه.

قوله [وطير في الهواء]

لأنه غير مقدور على تسليمه.

قوله [وسمك في ماء]

ص: 22

والعلة في ذلك قد تقدمت، ظاهر كلام المؤلف وإن كان المشتري قادرا على تحصيله، فإنه لا يجوز، كأن يبيع العبد الآبق على من يقدر على تحصيله، ويكون ذلك مع الفسخ إن عجز عن الحصول عليه، فظاهر كلام المؤلف النهي عن هذا، وهو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة وهو قول لبعض الحنابلة وهو صاحب الإنصاف أن بيع غير المقدور على تسليمه للقادر على تحصيله جائز، وإن عجز عنه فله الفسخ، لأنه لا غرر في هذا، وهذا القول هو الراجح، فإنه لا غرر في ذلك، حيث باعه شيئا يمكنه أن يحصله، وعلى هذا فغير المقدور على تسليمه قسمان:

1-

غير مقدور على تحصيله، فهذا لا يجوز بيعه قولا واحدا.

2-

مقدور على تحصيله، فهذا يجوز في أصح القولين.

وقياسا على بيع المغصوب على من يقدر على أخذه من غاصبه، فسيأتي كلام المؤلف في جوازه، فكذلك هنا، فإن المقدور على تحصيله وهو غير موجود يشبه المغصوب، فكلاهما غير مقدور على تسليمه، ومقدور على تحصيله.

وتقييد المؤلف في قوله (وطير في هواء وسمك في ماء) هذا حيث كان لا يقدر على تسليمه، أما إذا كان يقدر على تسليمه ولو بمشقة فإن ذلك جائز، كأن يكون الطير في برج مغلق يمكن أن يسمك به فيه لكن مع المشقة، أو يكون السمك في موضع محصور، فهذا يقد على تسليمه، فيجوز بيعه، حتى مع وجود المشقة، وعلى هذا إذا كان يقدر على تسليمه بمشقة فإن ذلك جائز.

قوله [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه]

ص: 23

المغصوب لا يجوز بيعه، لاختلال هذا الشرط، وهو القدرة على التسليم، فإن غير المقدور على تسليمه فيه غرر، واستثنى المؤلف أن يبيعه على غاصبه، فإن باعه على غاصبه فإنه يجوز، لكن بالشروط المتقدمة، ومنها شرط الرضا، أما إذا كان مكرها ملجئا إلى ذلك فلا يجوز، واستثنى بيع المغصوب على القادر على أخذه، كالأمير ونحو ذلك، فذلك جائز لأن المشتري لا غرر عليه، ويثبت له الفسخ، لأننا إذا أثبتنا البيع عليه بدون فسخ كان في هذا غررا، فقد يحصله وقد لا يحصله، فيكون حينئذ معرضا للخسارة، فيكون في ذلك غرر ظاهر.

قوله [وأن يكون معلوما برؤية أو صفة]

هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوما.

لأن بيع المجهول فيه غرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، كما نهى عن بيع حبل الحبلة كما في الصحيحين [خ 2143، م 1514] وهو نتاج النتاج للجهالة كما سيأتي، فعليه يشترط أن يكون المبيع معلوما بأي طريق من طرق العلم، وذكر المؤلف هنا الرؤية والصفة.

أما الرؤية فيرى إما رؤية كاملة أو يرى بعضه الدال عليه، كأن يرى ظاهر الصرة - كومة الطعام - الذي يستدل به على الطعام نفسه، أو يرى وعاء التمر فينظر في أعلاه فيستدل بأعلاه على أسفله، ويستدل بظاهر الصرة على باطنها، فهذا جائز.

ويشترط أن تكون الرؤية مقارنة للبيع أو سابقة له بزمن لا تتغير فيه السلعة تغيرا ظاهرا غالبا، كالدور والعقارات والمركوبات، وإن كان تغيرا يسيرا يعفى عن مثله فهذا لا بأس به، ولا يؤثر، وذكر المؤلف الرؤية ومثلها الشم والذوق ونحوها من طرق المعرفة، فالطيب يعلم بالشم، وبعض المطعومات تعرف بالتذوق، كالعسل والسمن ونحو ذلك، وعليه فالشرط أن يعرف السلعة، أي يعرفها معرفة لا يلحقه بها غرر.

ص: 24

أما الصفة فهي أن يوصف له المبيع وصفا منضبطا بما يؤثر في اختلاف الثمن، أي بالوصف المؤثر في الثمن، ودليل جواز بيع الموصوف في الذمة جواز بيع السلم، وسيأتي الكلام عليه، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، ولأنه يحصل به العلم ولا غرر فيه.

قوله [فإن اشترى ما لم يره]

فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له لم يصح، لاختلال هذا الشرط، فإن المبيع غير معلوم، إذا لم يره، ولم يوصف له.

* مسألة:

إن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، لكن ذكر له جنسه، كأن يبيع عليه سيارة بعشرة آلاف، ولم يرها ولم توصف له، فعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام في موضع وضعفه في موضع آخر كما في الاختيارات أنه يصح، وعليه فله الخيار إن رآه، فإن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، والحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة، والضرر مدفوع بالخيار، ويكون النماء من العقد.

قوله [أو رآه وجهله]

أي رأى المبيع لكنه قد جهل ما هو، كأن يرى وعاء من طعام، فيباع الطعام في هذا الوعاء، فلا يدري نوعية الطعام الذي في الوعاء، ولا قدره، فإن ذلك لا يجوز للجهالة أيضا، وقوله (ولم يره) يغني عن هذه الجملة فإن فيها تكرارا، فالمقصود بالرؤية رؤية المبيع.

قوله [أو وصف له بما لا يكفي سلما لم يصح]

هذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي أنه يصح بما لا يكفي سلما، وهذه المسألة متعلقة بمسألة يأتي فيها البحث في باب السلم، وأن من شروط السلم صفته، وسيأتي الكلام عليه في بابه، والضابط المقصود في هذا الباب أنه متى وصف بوصف منضبط يعلم به المبيع فإن البيع صحيح.

قوله [ولا يباع حمل في بطن]

ص: 25

للجهالة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع حبل الحبلة) أي نتاج النتاج، بمعنى أن نبيع نتاج نتاج بهيمة الأنعام، وفي مسند البزار والحديث حسن لشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن المضامين والملاقيح)[مجمع الزوائد 4 / 104، الطبراني في الكبير 11 / 230، برقم 11581] ، والمضامين ما في بطون الأنعام، أي الحمل، والملاقيح ما في ظهور ذكورها، وقد:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل)[خ 2284] أي عن نزوه، فإن بيع نزوه لا يجوز، فذلك كله بيع محرم.

إذن لا يجوز بيع الحمل في البطن، ومثله الأمة فلا يجوز بيع حملها وهو في بطنها وذلك للجهالة والغرر.

قوله [ولبن في ضرع منفردين]

بيع اللبن في الضرع لا يجوز لما فيه من الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها، ولا اللبن في الضروع "[مصنف بن أبي شيبة 5 / 222، كتاب البيوع - بيع اللبن في الضروع] ورواه البيهقي مرفوعا ولا يصح [سنن البيهقي 5 / 340] والصواب وقفه على ابن عباس.

ص: 26

وقوله (منفردين) أي لا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الشرع منفردين، أما لو باع الأم وحملها، والبهيمة ولبنها، فذلك جائز لأنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، فبيع اللبن في الضرع منفردا لا يجوز، واستثنى شيخ الإسلام خلافا لجمهور العلماء بيع اللبن الموصوف في الذمة وإن شرط المشتري أن يكون من بقرة أو غنمة معينة، فإذا اشترى من صاحب غنم لبنا موصوفا في الذمة من غنمة أو بقرة معينة فذلك جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، وهو كما قال، فإنه لا غرر فيه، فإذا أعطاه اللبن الموصوف في الذمة أعطاه ثمنه، وإلا فسخ البيع، واستثنى أيضا ما يوجد في هذا الزمان من استئجار البقر أو الغنم أو الإبل وقت الدر، فتستأجر للبنها، فهذا جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، فإن قيل: قد لا تدر عليه شيئا؟ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغالب أنها تدر، وكونها لا تدر هذا شيء نادر، فلا يترتب على مثله غرر، كاستئجار الأرض لغرسها وزرعها، فإنها قد لا تنبت، ومع ذلك فإنه يجوز استئجارها لأن الغالب هو أن يخرج زرعها وشجرها، وقياسا على الظئر وهي المرضعة، وذكر شيخ الإسلام هذا قولا لبعض أهل العلم، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر لما تقدم إذ لا غرر فيه، فعليه لا يجوز بيع اللبن في الضرع إلا في الصورتين التين استثناهما شيخ الإسلام.

والذي نهي عنه إنما هو بيع الموجود في الضرع لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه يخلفه غيره على وجه لا يتميز به ما وقع عليه البيع عما لم يقع عليه، فيكون في ذلك غرر.

قوله [ولا مسك في فأرته]

ص: 27

الفأرة: هي الوعاء، أي ولا مسك في وعائه، والمسك معروف وهو نوع من الطيب بل هو أفضل الطيب، فالمسك لا يجوز أن يباه في وعائه الذي خلق فيه، لما في ذلك من الغرر، فإن قدر المسك وكميته مجهولة، فيكون في ذلك غرر، واختار ابن القيم ووجهه صاحب الفروع وجها واحتمالا في المذهب أن ذلك جائز، قال ابن القيم: لأن أهل الخبرة يعرفون باطنه بظاهره، فإنهم يستدلون بمعرفة الظاهر على الباطن، ولأن اشتراط الرؤية بإزالة وعائه عنه يعرضه إلى شيء من الفساد، بذهاب شيء من رائحته ورطوبته، وما ذكره ابن القيم ظاهر في هذا وهو الراجح (وفصل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة فقال: إن بيع على أهل الخبرة فجائز، وإن بيع على غيرهم فلا يجوز، فإن الغرر يزول ببيعه على أهل الخبرة دون غيرهم) ، والراجح ما تقدم وعلى ذلك فبيع الذهب في الأرض أو النفط في الأرض أو نحو ذلك على قول ابن القيم يجوز، لأن أهل الخبرة يستدلون على معرفة ما في الباطن بما عندهم من الآلات والأجهزة، وعلى المذهب فإن ذلك محرم، والصواب أنه جائز.

قوله [ولا نوى في تمره]

فالنوى فيه منفعة مباحة لغير حاجة، فإنه قد يطعم، وقد يستخدم لبعض الاستخدامات، لكن في مثل هذا الزمن ثبت أنه لا قيمة له، فإن بيعه محرم، لأنه في الحقيقة لا قيمة له، إلا أن يكون مطعوما للدواب ونحوها فذلك جائز، والمقصود أن بيعه في التمر منهي عنه، لما في ذلك من الغرر، إذ لا يدري قدر النواة، وهل هي صغيرة أم كبيرة، والراجح جوازه لأن أهل الخبرة يعرفون ذلك، فهم يعرفون قدر النواة المعتاد من كل نوع من أنواع التمر، فلا يكون في ذلك غرر، والمشهور في المذهب أن بيعه لا يجوز وهو في تمره، أما إذا استخرج فإن ذلك جائز لمنفعته.

قوله [وصوف على ظهر]

ص: 28

فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، لما في ذلك من الغرر، وذلك لأنه يزداد نموا فيكون في ذلك غرر، وقد تقدم الأثر عن ابن عباس في هذا، وقوله:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها "، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول لبعض الشافعية أن ذلك جائز بشرط أن يجز في الحال، وهذا هو الراجح لأنه إذا جز في الحال فلا غرر.

قوله [وفجل ونحوه قبل قلعه]

أي من أنواع الحضروات التي يكون مأكولها في باطن الأرض ولا يظهر منها إلا شيء من الورق ونحوه مما ليس بمطعوم كالبصل والفجل ونحوها، فهنا قال: لا يجوز بيعه قبل قلعه، وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية أن ذلك جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن أهل الخبرة يستدلون بما يظهر منه فيعرفون الباطن، ولأن اشتراط ذلك سبب في إفساده، وعليه فيجوز بيع هذه الأطعمة، وعلى تفصيل الشيخ عبد الرحمن المتقدم يقال: بيعها على غير أهل الخبرة لا يجوز، لما فيه من الغرر.

واتفق أهل العلم على أن المطعومات التي هي في وعاء ويؤدي اشتراط رؤية ما في باطنها إلى فسادها فإن بيعها في وعائها جائز، كبيع الرمان ونحوه، فإن اشتراط رؤية ما في داخلها يفسدها فيجوز باتفاق أهل العلم بيعها وهي في وعائها.

قوله [ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة]

ص: 29

وهذه المسألة محل اتفاق بين العلماء، والملامسة: أن يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، أو نحو ذلك، والمنابذة أن يقول: أي ثوب نبذته عليك فهو لك بكذا، ونحوه كأن يقول ما طرحته عليك من السلع فهو علي بكذا ونحوه، فهذا البيع محرم وباطل باتفاق أهل العلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الملامسة والمنابذة)[خ 5819، م 1511] وهو من الغرر وقد نهى الشارع عن الغرر وبيع الجهالة، ومثل ذلك بيع الحصاة، ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الحصاة)[م 1516] كأن يقول ارم بهذا الحصاة على أي سلعة أو على أي شاة أو نحو ذلك فهي لك بكذا، أو ارم بهذه الحصاة من موضعك فإلى أي مسافة وقعت من الأرض فهي لك بكذا ونحو ذلك، وهذا أيضا غرر وجهالة.

قوله [ولا عبد من عبيده ونحوه]

كأن يقول أبيعك عبدا من عبيدي أو شاة من شياهي أو أرضا من أراضي أو نحو ذلك، فلا يجوز ذلك للجهالة، فإن العبيد تختلف أسعارهم وكذا الشياة وكذا الأراضي، فيكون فيه جهالة، وظاهر كلام أبي الخطاب من الحنابلة أن القيمة إذا تساوت فإن ذلك جائز، فإذا كان عنده قطيع من الغنم كل شاة فيه تساوي مائة درهم، فقال: أبيعك شاة من هذه الشياة بمائة درهم، فلا بأس بذلك، إذ لا غرر، أو قال: أبيعك سيارة من هذه السيارات أو خيلا من هذه الخيول بكذا، وكانت السلع متساوية القيمة، فهذا جائز، وما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر إذ لا جهالة ولا غرر، إلا أن يكون لهذا المشتري غرض صحيح كأن يكون غرضه شاة حاملا أو شاة سمينة وهو يريد الذبح، وهي متساوية القيمة لكن هذه شاة حامل، وهذه شاة سمينة، وهو له قصد في الذبح أو له قصد في النماء أو نحو ذلك فحينئذ لا يجوز للجهل، إذ يفوت مقصوده حيث أعطي غير ما يريد فيكون في ذلك جهالة.

ص: 30

إذن ما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر حيث تساوت القيمة ما لم يكن هناك غرض صحيح له، كما سبق، وينبغي أيضا جواز ما كان الغرر فيه يسيرا كما إذا كانت القيم متقاربة.

قوله [ولا استثناؤه إلا معينا]

فإذا قال أبيعك هذا القطيع من الغنم إلا بعضه، لم يصح، لأنه لا يدري قدر هذا القطيع، ولا يدري هل هو كثير أم قليل، وحينئذ تثبت الجهالة والغرر، ولذا ثبت في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن المحاقلة والمزابنة وعن الثنيا إلا أن تعلم)[ت 1290، ن 3880، د 3405، وأصله في مسلم دون قوله (إلا أن تعلم) ، م 1536] أي عن الاستثناء إلا أن يعلم.

وعلى هذا فإن علمت الثنيا - أي الاستثناء - فإن ذلك جائز، كأن يقول بعتك هذا القطيع إلا هذه الشاة، فحينئذ لا جهالة ولا غرر.

فإن قال: بعتك هذه الشياة إلا شاة، فتعود المسألة السابقة:

فإن كانت القيم مختلفة فلا يجوز للغرر.

وإن كانت القيم متساوية فننظر هل لهذا المشتري غرض صحيح في شيء منها، فإن كان له غرض صحيح فلا يصح للجهالة، وإن لم يكن له غرض كأن يكون هدفه التجارة، والقيم متساوية فحينئذ يصح البيع كما تقدم.

قوله [وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجدله وأطرافه صح، وعكسه الشحم والحمل]

ص: 31

إذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها، أو جلدها، أو شيء من أعضائها فهذا جائز، وذلك لأن المستثنى معلوم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم، والثنيا هنا معلومة، وحينئذ فإذا تم البيع فإن ذبح هذه الشاة فإن الآخر يأخذ ما استثناه، وإن أبى أن يذبحها فإنه يعطيه قيمتها، وعلى هذا فاستثناء شيء ظاهر من الحيوان المأكول اللحم جائز، وعكسه الشحم والحمل، فالشحم لا يجوز استثناؤه، لأنه مجهول، فلا يدري قدره، هل هو قليل أم كثير، فإنه ليس بمشاهد، وعليه فإن قدره كأن يقول لي من شحمها كذا، فإن هذا جائز، إذ لا جهالة فيه، لكن إذا أطلق فقال: إلا شحمها، فلا يجوز لأن الشحم غير معلوم القدر، وكذلك الحمل، فإذا باعه شاة حاملا فقال: أبيعك هذه الشاة إلا حملها فلا يجوز، وهذا هو المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول إسحاق أن ذلك جائز، وأن الصفقة إنما وقعت على شاة لا حمل فيها، فكأنه يقول: إن الحمل لا أبيعك إياه، وإنما أبيعك شاة خالية من الحمل، فأقدرها لك على أنها لا حمل فيها، فلم يقع البيع على الحمل بل هو استبقاء للحمل في ملكه، فلا يكون من باب بيع الحمل، وعلى هذا لو قال: بعتك هذه الشاة إلا حملها فإن ذلك جائز، وهذه الرواية عن الإمام أحمد أصح من الرواية المشهورة عنه.

قوله [ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ]

وهذه المسألة محل وفاق، ومثل ذلك البيض، فما يكون مأكوله في جوفه يجوز بيعه من غير رؤية، لأن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، ولأن النظر في الطعام وهو في جوف قشره فيه إفساد له، فيكون ذلك جائزا لا حرج فيه، فإن خرجت فاسدة فلا رجوع في البيع ما لم يكن هناك شرط في ذلك.

قوله [وبيع الباقلاء ونحو في قشره]

ص: 32

وكذلك يجوز بيع الباقلاء وهو الفول ونحوه كالحمص والجوز واللوز، فهذه المأكولات التي تكون ذات لب وقشر لا يشترط في بيعها النظر في لبها، بل تباع في قشرها من غير أن ينظر في اللب، لما تقدم من دعاء الحاجة إلى ذلك، ولأن في إزالة القشر إفسادا لها.

قوله [والحب المشتد في سنبله]

ويجوز بيع الحب المشتد وهو ما زال في سنبله، وذلك لما ثبت في سسن الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الحب حتى يشتد)[ت 1228، د 3371، جه 2217، ونحوه في الصحيحين] ظاهره أن بيعه إذا اشتد جائز مطلقا، ولو كان في سنبله.

قوله [أن يكون الثمن معلوما]

هذا هو الشرط السابع من شروط البيع: أن يكون الثمن معلوما.

والثمن ما دخلت عليه الباء، وهو في الغالب من النقدين، وقد تقدم أن المبيع يشترط أن يكون معلوما، فكذلك الثمن، لأن الثمن هو أحد العوضين الذين وقع عليهما عقد البيع، فكما أن المثمن يشترط فيه العلم، فكذلك يشترط في الثمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، واختار شيخ الإسلام صحة البيع وإن لم يسم الثمن وله ثمن المثل كالنكاح، ثم قال المؤلف مرتبا على ذلك:

قوله [فإن باعه برقمه..... لم يصح]

ص: 33

أي إن قال: أبيعك هذا الثوب بالرقم المكتوب عليه، فعليه ورقة مكتوب فيها السعر، يقول المؤلف هذا لا يصح، قالوا: لأن الرقم مجهول، سواء كان مجهولا للبائع أو للمشتري أو مجهولا لهما، أما البائع فقد يكون لا يحيط بأسعار السلع التي عنده أو أن تكون هذه السلعة جديد حضورها، وقد كتب البائع عليها سعرها، وأما المشتري فجهالته ظاهرة بالرقم المكتوب على هذه السلعة، قالوا: فلا تجوز للجهالة، وعن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام أن ذلك جائز، قال: لأن الرقم المكتوب على السلعة هو الثمن الذي يشتري به الناس، أي قد رضي الناس بهذا الشراء، وبهذا الثمن، وحينئذ فإن هذا المشتري يسعه ما يسع الناس، فإنه يرضى بما يرضى به الناس، وهذا أمر ظاهر، فإن المشتري يرضى في الغالب بالسعر الذي يشتري به الناس، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر، حيث ثبتت هذه العلة التي ذكرها وهي حيث كان الرقم مما يشتري به الناس، وهذا إنما يكون في السلع التي يتعاطاها أكثر الناس وسعرها معروف لديهم كما في أقوات الناس ونحو ذلك، وأما ما ليس مشهورا عند الناس، فإن قبول طائفة من الناس للشراء به لا يعني قبول غيرهم، ففيه جهالة وغرر حينئذ، فمثلا الألبسة تختلف أسعارها، وهذا الذي يبيعها برقمها، يقبل قوله طائفة من الناس، فلا يعني هذا قبول سائر الناس لقوله، وحينئذ يكون فيه جهالة وغرر، فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة إلا أن بكون مما هو مشهور عند الناس سعره وقبوله بهذا السعر فإن المشتري يرضى غالبا بما يرضى به عامة الناس.

قوله [أو بألف درهم ذهبا وفضة]

أي قال: بعتك هذا الثوب بألف درهم ذهبا وفضة، والمعنى: بعتك هذا الثوب بخليط من الذهب والفضة تساوي ألفا، فهنا القيمة هل هي معلومة أم مجهولة؟

ص: 34

إذا نظرنا إلى أنها محددة بالدراهم قلنا إن القيمة معلومة، فألف درهم، تساوي مائة دينار، فالدرهم عشر الدنانير، فإذا أعطى البائع تسعمائة درهم وعشرة دنانير فهنا أعطاه ذهبا وفضة تساوي مجموعها ألفا، إذن الجهالة ليست في القيمة، وإنما الجهالة هنا في الثمن، هل هو ذهب أم فضة، مع عدم تحديد مقدار كل منهما، فلم يحدد قدر الذهب، ولم يحدد قدر الفضة، وقد يكون له قصد في الذهب دون الفضة، لكن لا يظهر في هذا جهالة، فإن البائع إذا رضي بهذا فإنه قد رضي بهذه القيمة بغض النظر عن المعطى له هل هو ذهب أم فضة، فلا يتبين النهي عن مثل هذه الصورة، بخلاف ما إذا قال: بعتك بألف ذهبا وفضة، فحينئذ لا يدري ما القيمة، فقد نعطيه تسعمائة وتسعا وتسعين درهما، ودينارا واحدا، وقد نعطيه تسعمائة وتسعة وتسعين دينارا ودرهما واحدا، فالقيمة حينئذ مختلفة، ومثل ذلك لو قال في وقتنا الحاضر: بعتك بألف دولار وريال، والدولار أكثر من الريال، وحينئذ لا يدري أيهما أكثر فثبتت الجهالة والغرر، بخلاف الصورة الأولى.

ووجه صاحب الفروع الصحة ويلزمه النصف ذهبا وفضة، وفيه نظر، لعدم ثبوت الرضى.

قوله [أو بما ينقطع به السعر]

ص: 35

كأن يقول: هذه السلعة يوقف بها في المزاد، ويزداد عليها، فما وقفت عليه هذه السلعة فأنا أشتريها من ك بالثمن الذي تقف عليه، فقال المؤلف هنا: لا يجوز، لما فيه من الجهالة والغرر، فقد تباع بألف، وقد تباع بمائة ألف، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد جواز هذه الصورة، وذلك لما تقدم من العلة السابقة، فإن الثمن الذي تقف عنده هذه السلعة هو الثمن الذي تستحقه عند الناس، فيكون راضيا بسعرها الذي يشتري به الناس، وفي هذا نظر ظاهر، وذلك لأن هذه المحال التي يتزايد فيها على السلع تختلف القيم فيها اختلافا بينا ظاهرا، بحسب اختلاف عدد الراغبين في السلعة، فأحيانا يقلون وأحيانا يكثرون، فإن كثروا فإن هذه السلعة سيزداد سعرها، وحينئذ يكون فيه غرر وجهالة، كما أنه مدعاة للعداوة والبغضاء والاختلاف ونحو ذلك، فينهى عنها سدا لهذه الذريعة، فالأظهر هو ما ذهب إليه الحنابلة من النهي عن هذه الصورة خلافا لما اختاره شيخ الإسلام وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، واختاره ابن القيم، وقال:" إنه لا نص في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ينهى عنها، وإن الناس يتبايعون بها في كل عصر ومصر " ا. هـ.

أما تعامل الناس بها فهذا لا يدل على جوازها، وأما أنه لا يمنعها نص من كتاب ولا سنة، فإن المانعين يقولون هما غرر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر.

قوله [أو بما باع زيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح]

ص: 36

أي قال: بعتك هذه السلعة بما بعته على زيد من الناس، فهنا لا يجوز إذا جهلاه أو جهله أحدهما وذلك للجهالة والغرر، وقال بعض العلماء إن ذلك جائز واختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد، وذلك إن كان هذا المشتري ممن يثق بشرائه، بمعنى: رجل أراد أن يشتري سيارة، وهناك رجل معروف بمعرفته بقيم السيارات، فقال البائع: قد اشتراها مني فلان بثمن ما، فأنا أبيعك نفس السلعة بنفس الثمن الذي اشتراها مني به، فالأظهر جواز ذلك، لأنه لا دليل على الحرمة، وهو يشبه التوكيل، كما لو قال رجل لآخر: اشتر لي سيارة بالثمن المناسب لها، فاشترى السيارة له بالثمن المناسب لها فيجب أن يقبل ذلك، ومسألتنا هذه فيها شبه من مسألة الوكيل، ولأن هذا هو سعرها المعقول، وقد رضي بذلك ولا غرر منه، والجهالة إنما ينهى عنها لما فيها من الغرر، وحيث لا غرر، فيجوز حينذاك.

* مسألة:

إن قال: بعتك هذه السيارة بألف، فهل يصح هذا البيع أم لا؟

الجواب: إن كان هناك نقد غالب في البلد، أو لم يكن هناك سوى نقد واحد، فإن البيع صحيح، ويحمل هذا المبلغ عليه، فإن قال: بعتك بألف، فيحمل على الريالان في المملكة العربية السعودية، لأنها في النقد الغالب، ومثل ذلك وأولى إن لم يكن هناك إلا نقد واحد، أما إن كان هناك أكثر من نقد متداول، وكل من هذه النقود غالبة في تعامل الناس فهنا لا يصح للجهالة.

قوله [وإن باع ثوبا أو صبرة أو قطيعا كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم صح]

ص: 37

الصبرة هي كومة الطعام، والقفيز: عدد من الأرطال، ومثال ما ذكره المؤلف: إن كان عنده قماش، فقال: أبيعك هذا القماش كل متر بكذا، فهما قد جهلا أو أحدهما قدر الأمتار من هذا القماش، لكنهما يعلمان المبيع والثمن، فكل متر بدرهم، وكل قفيز من الصبرة بكذا، وكل شاة من القطيع بكذا، وهو يريد بعيه كله، فالصفقة قد وقعت على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، وعلى الطعام كله، فالبيع صحيح، لتوفر الشروط في المبيع، فالمبيع معلوم، والثمن معلوم أيضا، ولا يؤثر الجهل بقدر العدد المشترى، فهذه جهالة غير مؤثرة لأن المبلغ معلوم والسلعة معلومة.

قوله [وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم..... لم يصح]

الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن المسألة السابقة الصفقة قد وقعت على الصبرة كلها، وكذلك على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، أما في هذه المسألة فقد وقعت على البعض، كأن يقول: أبيعك بعض هذا القطيع كل شاة بدرهم، وأبيعك من هذا القماش كل ذراع بدرهم، وأبيعك من هذه الصبرة بعضها كل قفيز بدرهم، قالوا: لا يجوز ذلك، لأن هذا البعض قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وحينئذ حصلت الجهالة، وقال بعض الحنابلة: هو جائز، وهو اختيار ابن عقيل، وذلك لأن الثمن معلوم، والمبيع معلوم،فلا جهالة، وكونه يجهل هل الأقل هو المشترى أم الأكثر هذا غير مؤثر كما أن جهالة أذرع القماش فيما إذا باعه كله غير مؤثرة، فكذلك هنا ولا فرق، وهذا الذي عليه عمل الناس اليوم في الأسواق، فإنه عندما يأتي إلى الطعام ليشتريه يقول: تأخذ كل قدر كذا من هذا الطعام بكذا، وهذا جائز ولا بأس به، فإنه لا جهالة فيه.

قوله [وبمائة درهم إلا دينار وعكسه]

ص: 38

إذا قال: أبيعك هذه الصبرة بمائة درهم إلا دينار أو عكسه بأن يقول أبيعك هذه الصبرة بمائة دينار إلا درهم، قالوا: هذا لا يجوز، لأن المستثنى منه مجهول، وهو الدينار في المسألة الأولى، والدرهم في المسألة الثانية، وكون المستثنى منه مجهولا يصير الشيء كله مجهولا أيضا، ويترتب على ذلك أن يكون الثمن مجهولا، وظاهر قول الخرقي من الحنابلة أن ذلك جائز، وهذا هو الظاهر، فإن قدر الدينار معلوم، ولعل هذه المسألة عندهم على أن الدينار مجهول، لا يعرف قدره بالدراهم، فإذا كان كذلك منع، وأما إذا كان قدر الدينار من الدراهم معلوما فإن هذا لا جهالة فيه، وعلى هذا فالصحيح أنه إذا كان قدر الدينار والدراهم معلوم جاز ذلك.

قوله [أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا لم يصح]

إذا باع سلعتين في صفقة واحدة، إحداهما معلومة، والأخرى مجهولة يتعذر العلم بها، فباعهما بثمن واحد ولم يخبر المشتري ثمن كل سلعة فإن البيع لا يصح للجهالة، كأن يبيع فرسا وما في بطن فرس أخرى بمائة دينار، ولم يقل هذه بكذا وهذه بكذا، فحينئذ يكون البيع غير صحيح للجهالة بالثمن.

قال الموفق:" ولا أعلم بطلانه خلافا " ا. هـ

قوله [فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه]

ص: 39

صورة هذا: إن لم يتعذر علينا علم هذا المجهول، كأن يقول: أبيعك هذه الفرس وفرسا أخرى بالبيت من غير وصف لها بمائة دينار، فالأولى معلومة والأخرى مجهولة، فالبيع غير صحيح للجهالة، لكن هذه المجهولة يمكن التعرف على قيمتها فيذهب فيراها ويعرف قيمتها، وعلى هذا فالبيع باطل للمجهولة، وصحيح للمعلومة، وحينئذ يصح في المعلوم بقسطه من الثمن، فنقوم المعلومة، ونقوم المجهولة بعد أن نراها، فإذا وجدنا مثلا أن ثمن المعلومة ثلاثين دينارا، وثمن المجهولة يساوي ستين دينارا، فنسبة المعلومة للثمن الثلث، ونسبة المجهولة للثمن الثلثان، وكان السعر بينهما مائة دينار، فعلى هذا يكون ثمن المعلومة الثلث، وهو ثلاثة وثلاثون دينارا.

وهذه المسألة تسمى تفريق الصفقة، وهذه هي الصورة الأولى منها.

ومثل ذلك إذا باع عبدا مشاعا كما قال المؤلف بعد هذا:

قوله [ولو باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء صح في نصيبه بقسطه]

وهو قول الجمهور وأحد الوجهين عند الشافعية، والمشاع ما كان الاشتراك فيه بكل جزء من الأجزاء، مثاله: رجلان يملكان عبدا، لكل واحد النصف، فباع أحدهما العبد بلا إذن الآخر، أو كانا يملكان أرضا مشاعة بينهما لكل منهما النصف، فباع أحدهما كل الأرض دون إذن الآخر، أو كان لكل واحد منهما نصيبه الذي ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كأن يكون عندهم عشرة آصع من التمر، هذا له خمسة، وهذا له خمسة، وقد بيعت هذه الكومة من التمر مجتمعة، وهذا كله بلا إذن الآخر، فالحكم أنه يصح في نصيبه بقسطه.

مثاله: له من العبد النصف، فباعه بدون إذن صاحبه، فيقوم هذا النصف، ويقوم النصف الآخر، ويكون له نصف الثمن، فيدفع المشتري نصف المثمن له فيتملك نصيبه، وأما النصف الآخر فيبقى في ملك الأول.

وهذه هي الصورة الثانية من مسائل تفريق الصفقة، أما الصورة الثالثة فذكرها المؤلف بعد هذه:

ص: 40

قوله [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبدا وحرا، أو خلا وخمرا صفقة واحدة صح في عبده وفي الخل بقسطه]

مثاله: أخذ عبده وعبد غيره فباعهما معا، وقال: هذان العبدان بمائة دينار، أو أخذ عبدا وحرا، فباعهما بثمن واحد، والحر لا يصح بيعه، أو أخذ خلا وخمرا فباعهما بثمن واحد، فهنا قال المؤلف:(صح في عبده) أي الذي يملكه، (وفي الخل) ، لكن كيف نقوم ما صح بيعه؟

أما في الحر فإنه يقدر لو كان عبدا، وهذه في الحقيقة مشكلة، لأنه قد لا يرضى بذلك، بمعنى أنه يؤخذ هو والعبد فيقال كم يساوي هذا العبد في السوق، قالوا: خمسين دينارا، وكم يساوي هذا الحر لو كان عبدا، قالوا: مائة دينار، فصار العبد نصف الحر، فنصيب العبد الثلث من الثمن.

وإن كانت المسألة من عبدين فكذلك، يقال: كم يساوي هذا العبد - أي الذي هو ملك له - فيقال: خمسون دينارا، فيقال: كم يساوي هذا العبد الآخر - وهو العبد الذي بيع بدون إذن صاحبه - فيقال: مائة دينار، فحينئذ يكون نصيبه من الثمن الثلث.

وأما الخمر فإنه يقوم خلا، لأن بيع الخمر محرم، والخمر ليس له قيمة شرعا، فينظر في قيمة الخل، ثم في قيمة الخمر لو كان خلا، ويقوم الخل بقسطه كما سبق.

قوله [ولمشتر الخيار إن جهل الحال]

هذا المشتري الذي تبعض عليه المبيع والسلعة ثبت له الخيار، بشرط أن يجهل الحال، فله أن يلتزم البيع، ويأخذ السلعة مبعضة، فإنه إذا اشتري الشيء على أنه تام فإذا به مبعض فله أن يقبله وله أن يرده، هذا إن جهل الحال، ولأنه إنما رضي على الصورة المتقدمة، فلم يثبت رضا على الصورة المتأخرة.

* وهل له الخيار إن علم الحال؟

ص: 41

الجواب: ليس له ذلك، لأنه دخل على بصيرة، وهذا ما قيده المؤلف بقوله (إن جهل الحال) فظاهره أنه إذا علم الحال فلا، وذلك لأنه دخل على بصيرة، فإذا اشترى خلا وخمرا ويعلم أن هذا خمر، لا يجوز بيعه، فليس له بعد ذلك الخيار، بل هو ملزم بشراء الخل لأنه قد دخل على علم وبصيرة.

ولا خيار للبائع في المشهور في المذهب، وقال شيخ الإسلام يثبت له الخيار أيضا، ذكره عنه في الفائق وهذا ظاهر إن جهل الحال ولحقه ضرر، والشركة عيب.

فصل

قوله [ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني]

واتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح البيع أم لا يصح على قولين، فقال المالكية والحنابلة لا يصح، وقال الشافعية والأحناف: يصح.

قوله (ممن تلزمه الجمعة) احتراز ممن لا تلزمه، كالمرأة والعبد ونحوهما.

قوله (بعد ندائها الثاني) لا الأول.

والدليل على هذه المسألة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فأمر الله عز وجل بترك البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وأمر الله تعالى هذا يدل على أن تعاطي البيع والشراء حرام، وما كان محرما فهو فاسد، لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)[خ تعليقا، م 1718] فالبيع محرم وباطل، أما تحريمه فلقوله تعالى {وذروا البيع} وأما بطلانه فلأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقال الشافعية والأحناف: هو صحيح، ولكن هذا القول ضعيف، لأن المنهي عنه فاسد كما سبق.

ص: 42

* وهنا قال المؤلف (بعد ندائها الثاني) فدل على أن البيع بعد النداء الأول جائز، وهو كما قال، فإن الله تعالى قال {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} والنداء لصلاة الجمعة عند نزول هذه الآية كان هو النداء الثاني، وأما الأول فإنما هو سنة عثمان رضي الله عنه للمصلحة الراجحة في عهده، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

** أما إذا كان المتعاقدان ممن لا تلزمهما الجمعة فإن البيع صحيح، لكن لو أن امرأة باعت على من تلزمه الجمعة فالبيع باطل وهو محرم، لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، فهي إذا باعته بعد نداء الجمعة الثاني فقد أعانته على المحرم، وهو محرم.

*** يستثنى من ذلك ما إذا كانت له إليه حاجة يلحقه الحرج بتفويته فهذا جائز، كمن اضطر إلى طعام أو شراب أو كسوة، أو اضطر أهل الميت إلى شراء كفن أو نحو ذلك، ويخشون على الميت إن تأخروا في شراء كفنه وحنوطه ونحو ذلك، فهذا جائز، لأن الضرورات تبيح المحذورات.

**** وظاهر قوله تعالى {وذروا البيع} البيع كله قليله وكثيره، فلا يستثنى من ذلك شيء، فالبيع كله محرم، وإن قل، ومن كان يسكن في بيت بعيد عن المسجد، ويحتاج إلى سعي قبل النداء، فإنه يحرم عليه البيع بقدر ما يحتاج إليه من السعي، فإن المسألة السابقة حيث كان يدرك ذكر الله من نداء الجمعة، فإذا سمع النداء فسعى أدرك الذكر الواجب - وهو الصلاة فقط أو الصلاة والخطبة -، أما هنا فإن بيته بعيد بحيث لا يستطيع إدراك الجمعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

***** مسألة: ما حكم البيع بعد الأذان في الصلوات الخمس؟

ظاهر كلام المؤلف جواز ذلك، والمسألة لها صور في المذهب.

ص: 43

1-

الصورة الأولى: أن يكون ذلك مع تضيق وقت الصلاة بأن لا يبقى من الوقت إلا ما يسعها، مثلا يكفي لصلاة الظهر لإدراك ركعة خمس دقائق، فلو استمر في عقد البيع إلى أن تضيق الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يدرك به الصلاة فلا يجوز البيع والشراء في هذه الحالة، وهل يصح البيع أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما أنه لا يصح لأنه كالمسألة السابقة في صلاة الجمعة.

2-

الصورة الثانية: ألا يضيق الوقت، فالمشهور من المذهب جواز ذلك، والقول الثاني في المذهب وهو قول لبعض الحنابلة أن ذلك لا يجوز، وهو الأرجح، لأن الجماعة تفوت، فالصحيح أنه إذا نودي للصلاة فلا يجوز البيع والشراء، لأن البيع ذريعة إلى تفويت صلاة الجماعة، وهي واجبة، لكن البيع يصح لأن الأصل صحة البيع والقياس على الجمعة مع الفارق، فالجمعة آكد ولأن صلاة الجمعة تفوت بخلاف الجماعة.

فإن قيل: لماذا ذكر الله في الآية صلاة الجمعة فقط؟

فالجواب أنه لبيان القصة الواقعة وسائر الصلوات مثلها، فالراجح أنه ينهى عن البيع والشراء بعد الأذان مطلقا كما سبق.

قوله [ويصح النكاح وسائر العقود]

ص: 44

كالرهن والهبة وغيرها من العقود، فهي صحيح بعد نداء الجمعة الثاني، قالوا: لأن الله قال {وذروا البيع} فلم يذكر الله غيره، ولأن وقوع غيره وقوع قليل، فلا يكون ذريعة إلى تفويت ما يجب على المسلم من السعي لصلاة الجمعة، وقال بعض الحنابلة وبعض المالكية وغيرهم وهو القول الثاني في هذه المسألة: إن سائر العقود كالبيع، أي غير جائزة، وذلك لأنها مشغلة عن السعي الواجب، فأشبهت البيع، سواء كان وقوعها قليل أم كثير، فإن قلة وقوعها وكثرته لا يغير الحكم، وفيه مشغلة، فالنكاح وإن كان قليلا فإنه يشغل المرء عن تلك الصلاة المعينة، فهو وإن لم يكن ذريعة إلى ترك جميع الصلوات، لكنه كان ذريعة إلى ترك تلك الصلاة المعينة، وأما تنصيص الله تعالى على البيع دون غيره فلأن الواقعة التي نزلت لها الآية كان فيها البيع، فإنه لما أتت قافلة وذهب لها بعض الناس وتركوا الصلاة نزلت الآية، فالراجح أن سائرا العقود كالبيع، وذلك لأنها مشغلة عما يجب على المرء من الذهاب إلى الصلاة، فيحرم تعاطيها ولا يصح.

وقد يتساهل في بعض العقود التي لا تشغل عن صلاة الجمعة كعقد الهبة، لأنه لا يكون فيه انشغال عن الصلاة، فقد يفعله الإنسان وهو في المسجد.

قوله [ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرا]

لا يصح بيع العصير كعصير العنب ممن يتخذه خمرا، فإذا علمت أن المشتري يصنع منه الخمر فلا يجوز لك، لقوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب وصوبه صاحب الإنصاف وهو الراجح أن ذلك ليس متعلقا بالعلم، بل حتى بالظن، فإن ظن أنه يتخذه خمرا حرم البيع.

قوله [ولا سلاح في فتنة]

ص: 45

فإذا وقعت فتنة بين المسلمين كأن يقع قتال بين طائفتين على وجه الفتنة فإن بيع السلاح حرام، لأن هذا السلاح سيستخدم فيما لا يحل، وأما بيعه على الطائفة العادلة وطائفة الإمام فذلك جائز، لأن استخدامهم له استخدام مباح.

ويعلم مما سبق أن بيعه على قاطع الطريق أو على الفرقة الباغية أو على المسلمين عامة في قتال الفتنة محرم، لأن الله تعالى يقول {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، وفي الطبراني لكن إسناده ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع السلاح في الفتنة)[سنن البيهقي 5 / 327، معجم الطبراني الكبير 18 / 137، مجمع الزوائد 4 / 87، 108] والحديث على ضعفه فإن قواعد الشريعة تدل عليه.

قوله [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه]

لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر لأن ذلك إذلال للعبد المسلم، واحتقار له، والذلة والصغار تكونان على الكفار، وقد قال تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، فالمؤمن هو العزيز، والكافر هو الذليل.

واستثنى من ذلك ما إذا أعتق عليه، كأن يكون ذا رحم محرم، كأن يبيع العبد لأخيه الكافر، فإنك إذا بعته فإنه يعتق عليه، ويتبين من هذا أن هذا حيث يكون للمسلمين سلطة على هذا الكافر الذي سيشترى أخاه الرقيق، بحيث أنه يلزم كالذميين الذي يحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية، فيجوز بيع العبد المسلم على الكافر إذا كان يعتق عليه، لأن في ذلك طريق إلى تحريره وإزالة الرق عنه، ومثل ذلك إذا علق الكافر إعتاق عبد فلان على ملكه له، فقال: إن ملكت عبد فلان فهو حر، فيجوز بيع العبد عليه لأن في ذلك تحريرا له من الرق، والخلاصة أنه لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر إلا إذا كان ذلك البيع طريقا لتحريره.

قوله [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه ولا تكفي مكاتبته]

ص: 46

مثال ذلك: رجل كافر يملك عبدا كافرا، ثم أسلم هذا العبد وبقي السيد الكافر على كفره، فإنه يجبر على إزالة ملكه إما ببيع أو بهبة أو بإعتاق، والمقصود أنه لا يبقى تحت ملكه، لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، ولأن في ذلك ذلة وصغار على هذا المسلم.

* وهل تكفي مكاتبته؟

قال المؤلف: لا تكفي مكاتبته، وذلك لأن المكاتبة مبقية لملك السيد عليه، فإن المكاتب رقيق وقن حتى يتم ما عليه من ثمن الكتابة، وقد يعجز فيعود قنا، وحتى إن لم يعجز فإنه عبد حتى يؤدي ما عليه.

** ولا يقر الكافر على بيع العبد المسلم بشرط الخيار، كأن يسلم العبد ثم يبيعه سيده الكافر بشرط الخيار ثلاثة أيام ونحوها، فهذا لا يجوز لأن الكافر بإمكانه فسخ العقد خلال الثلاثة أيام، بل عليه أن يبيعه بيعا تاما لا خيار فيه.

قوله [وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة ويقسط العوض عليهما]

إذا جمع بين بيع وكتابة في صفقة واحدة، فقال لعبده: كاتبتك وبعتك بيتي هذا بعشرة آلاف، فلا يصح البيع، بل تصح الكتابة فقط، لذا قال المؤلف: صح في غير الكتابة، أي صح البيع في غير الصورة التي فيها البيع مع الكتابة، فلو جمع بين البيع والصرف، أو بين البيع والإجارة، أو بين البيع والنكاح صح الجميع، أما إن جمع بين البيع والكتابة فإن البيع غير صحيح، والكتابة تصح، قالوا: لأن هذا العبد رقيق له، وإنما وقعت الكابة أثناء عقد البيع، فالكتابة والبيع مقترنان، فلم تسبق الكتابة البيع، فكما لو باع على قنه فلا يصح فكذلك هنا، فالشرط عندهم أن تكون الكتابة سابقة، فلو قال: كاتبتك، وثبتت الكتابة، ثم قال: بعتك بيتي، صح لأنه أصبح مكاتبا، والمكاتب يصح أصل تصرفه بقيود، وإلا لما تمكن من سداد الدين الذي عليه من المكاتبة.

ص: 47

والقول الثاني في المسألة وهو الوجه الثاني في المذهب وقيل هو المنصوص عن الإمام أحمد أن ذلك جائز، وأن اقتران المكاتبة بالبيع لا تؤثر على البيع، فإنه أثناء البيع أصبح ممن يصح تصرفه في الجملة، قالوا: وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك)[خ 4200، م 1365] فإن الأمة لا صداق لها، وهي ملك سيدها، يطؤها من غير ما صداق، والنبي صلى الله عليه وسلم أصدقها وأعتقها في عقد واحد صحيح، فهنا كذلك، والراجح أن مثل هذه الصيغة صحيحة، فكما أن السيد يجوز أن يبايع مكاتبه بعد ثبوت الكتابة، فكذلك يجوز له أن يبايعه أثناء الكتابة، ومعلوم أن آثار البيع إنما تترتب بعده.

* وأما البيع والصرف فمثاله أن يقول: خذ هذا الدينار وأعطني هذه السلعة وخمسة دراهم، فهذا فيه بيع وصرف، وكلاهما صحيح.

وكذلك بيع وإجارة، كأن يقول: ابتعت منك هذا الرقيق وأؤجر عليك هذا البيت بعشرة آلاف، فهنا صفقة واحدة وهي صحيحة.

ومثل ذلك لو قال: أبيعك داري وأنكك ابنتي بكذا وكذا، فالبيع والنكاح كلاهما صحيح.

ومثله البيع والخلع، كأن تقول الزوجة: أخلع نفسي منك وأشتري هذا البيت بكذا، فالبيع والخلع صحيحان، فهذه الصور كلها جائزة، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل يدل على المنع.

** على القول بعدم جواز الجمع بين البيع والكتابة تكون المسألة من مسألة تفريق الصفقة، التي تقدم شيء من صورها، والمراد من تفريق الصفقة أن بعضها يصح، وبعضها يبطل، فإذا قال: كاتبتك وبعتك هذه الدار بعشرة آلاف دينار، وقلنا إن البيع لا يصح كما هو المشهور من المذهب، فحينئذ نقسط الثمن على العبد وعلى الدار، فنقوم العبد والدار أولا، فلو قومنا العبد بخمسمائة دينار، وقومنا الدار بألف دينار، فنسبة العبد وقسطه هو الثلث، فتكون قيمة المكاتبة نحوا من ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين دينارا، كما تقدم.

ص: 48

وقوله (ويقسط العوض عليهما) أي على البيع والكتابة، فيحذف قسط البيع لأنه باطل، ويبقى قسط الكتابة، كما تقدم.

قوله [ويحرم بيعه على بيع أخيه كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة وشراؤه على شرائه كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة]

هنا مسألتان، الأولى: بيعه على بيع أخيه، والثانية: شراؤه على شرائه، وكل ذلك محرم، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يبيع الرجل على بيع أخيه)[خ 2139، م 1412] فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل على بيع أخيه، والشراء بيع.

والحكمة من هذا النهي ما فيه من إثارة العداوة والبغضاء والضغائن بين المسلمين.

قوله [ليفسخ ويعقد معه]

وذلك لبقاء الخيار في البيع، فما زال الخيار باقيا، سواء كان خيار المجلس كأن لم يتفرقا، ومثله خيار الشرط، فما زال الخيار باقيا بحيث يمكن لأحدهما أن يفسخ، فإذا أعطي البائع على هذه السلعة ثمنا أكثر، أو أعطي المشتري هذه السلعة بثمن أقل والخيار باق فإنه يفسخ البيع مع الأول، ويعقده مع الثاني، لقلة الثمن أو زيادته بالنسبة للبائع، وقال ابن رجب: يحرم مطلقا، سواء كان في زمن الخيارين أم لا، وهو قول ابن تيمية وابن القيم وهو الراجح، لما يترتب عليه من العداوة والبغضاء، ولأنه قد يحتال على الفسخ بطريقة ما.

قوله [ويبطل العقد فيهما]

فالعقد باطل لأن الشارع نهى عنه، وما نهى عنه الشارع فإنه فاسد، فالنهي يقتضي الفساد.

ص: 49

* وأما حكم سومه على سوم أخيه، فهو محرم أيضا، ففي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يسم المسلم على سوم أخيه)[خ 2727، م 1408، واللفظ لمسلم] فدل هذا على أنه محرم، ولكن ليس مطلق السوم محرم، فإن من السوم ما هو جائز، وقد دلت الأدلة على جوازه، وهو ما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر، فلم يثبت الرضا الذي يتم بعده البيع، أما إذا ثبت الرضا وركن بعضهما إلى بعض وما بقي بينهما إلا العقد فإن السوم يكون محرما، فأما سومه على سوم أخيه قبل ثبوت الرضا وقبل ركون أحدهما إلى الآخر فهو جائز، وهو ما يسمى بالمزايدة، وقد اتفق العلماء على جوازه، وهو مشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

** وإذا سام رجل سوما محرما، وثبت به البيع فهل يصح البيع أم لا؟

البيع صحيح، كما هو المشهور من المذهب، والفارق بين هذه المسألة والمسألة السباقة أن النهي في المسألة السابقة يعود إلى ذات العقد، وأما هنا فإنه يعود إلى أمر آخر خارج عنه.

*** هنا مسائل:

المسألة الأولى:

أنه لا يجوز أن يبيع حاضر لباد، والمراد بالبادي من هو من خارج البلدة سواء كان حضريا أم بدويا، فمن أتى من خارج البلدة فلا يجوز لأحد من داخل البلدة أن يكون سمسارا له، يبيع له، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) فقيل لابن عباس ما قوله (ولا يبع حاضر لباد) قال:" لا يكون له سمسارا " رواه البخاري ومسلم [خ 2158، م 1521] .

وعلة هذا مصلحة أهل السوق، فإن أهل السوق عندما يأتي أحد من خارج بلدتهم فإن بيعه يكون أرخص من البيع الذي يكون بين أهل البلدة، فيكون في هذا سعة لهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في مسلم:(لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)[م 1522] .

* ويحرم ذلك بخمسة شروط، ويبطل البيع كذلك:

ص: 50

1-

أن يقدم البادي بسلعته للبيع، فإن قدم لغير البيع كأن يقدم لاحتكارها أو لأكلها أو لإهدائها ونحو ذلك فلا بأس أن يكون الحاضر له سمسارا، وذلك لأن المصلحة في ذلك لأهل السوق، ولأهل البلد، فإنه لم يأت للبيع، فإذا أتي أحد من أهل البلدة وأقنعه بالبيع فإن في ذلك مصلحة لأهل السوق.

2-

أن يبيعها بسعر يومها، أي أن يكون مراده بيعها بسعر يومها، أما إذا كان هذا البادي يريد أن يبيعها بأكثر من السعر أو يريد أن يتربص بها حتى يكون لها السعر المناسب فحينئذ يكون قد احتاط لنفسه فلا بأس والحالة هذه أن يكون هناك من الحضر واسطة بينه وبين الناس في بيعها، وذلك لأنه احتاط لنفسه فهو لا يريد أن يبيعها بأي سعر، بل يريد بيعها بالسعر المناسب.

3-

أن يكون جاهلا بالسعر، أما إذا كان عالما عارفا بأسعار السلع فإن توسط أحد الحاضرين بينه وبين الناس جائز، وذلك لأنه وسيط لا يؤثر.

4-

قالوا: أن يقدم الحاضر إليه، فإذا قدم هذا البادي على الحاضر وطلب منه أن يكون سمسارا فإن ذلك جائز، لأنه يكون بذلك قد احتاط لنفسه، وفي هذا نظر فإن الحديث المتقدم ينهى عن ذلك، فالراجح أنه ليس له ذلك لدخوله في عموم النهي المتقدم، وقد يرجح قول الحنابلة ما سيأتي من وجوب النصح للبادي إذا استنصح الحاضر.

5-

قالوا: أن يكون بالناس حاجة للسلعة التي معه، فإن كانت من السلع التي لا يحتاج الناس إليها، وليست من أقواتهم فيجوز أن يكون سمسارا، ولم يذكر الإمام أحمد - كما قال الحنابلة - هذا الشرط، والحديث يخالفه فإن الحديث عام.

فالشروط عند الحنابلة للتحريم والبطلان خمسة، وتقدم أن الشروط الراجحة ثلاثة شروط، وأما الشرطان فعموم الحديث يدل على عدم اعتبارهما، والمعنى يدل على ذلك فإن قوله صلى الله عليه وسلم:(دعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضا) يدل على عدم اعتبار هذين الشرطين

** وهنا فرعان:

ص: 51

الفرع الأول: هل يجوز أن يشتري الحاضر للبادي؟

1-

قال الحنابلة يجوز ذلك، وذلك لأن النهي إنما ورد في البيع.

2-

ونقل عن الإمام أحمد وهو قول طائفة من التابعين كمحمد بن سيرين أن ذلك منهي عنه، ودليل ذلك ما رواه أبو عوانة في صحيحه - كما في الفتح - عن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك فقلت له: لا يبع حاضر لباد، أنهيتهم أن تبيعوا أو تشتروا لهم؟ قال: نعم، أي نعم نهينا أن نبيع أو نبتاع لهم، فيكون الشراء منهي عنه أيضا، ولأن الشراء داخل في معنى البيع كما تقدم، ولأن المعنى أيضا ثابت وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) .

والصحيح أنه لا يجوز للحاضر أن يشتري للباد إذا توفرت الشروط المتقدمة، أما إذا كان عالما بالسعر محتاطا لنفسه فإنه يجوز له أن يكون سمسارا له كما تقدم في شروط التحريم.

الفرع الثاني: هل يجوز أن يشير على البادي؟

قالوا: إن استشاره فيجب عليه أن يشير عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:(وإذا استنصحك فانصحه)[م 2162] وهذا ظاهر، فإنه إذا استشار فقد احتاط لنفسه وواجب حينئذ أن ينصح له.

- وهل يجب عليه أن ينصحه من غير استنصاح؟

في المسألة نظر، قال صاحب الفروع:" ويتوجه النصح " لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)[م 55] والراجح خلاف هذا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى أن يبيع الحاضر للبادي أو يشتري له ليرزق الله بعض الناس من بعض، ولا شك أن النصيحة له تقوم مقام البيع والشراء له، ويمكن أن يقوي هذا الدليل شرط الحنابلة الذي تقدم ذكره، وهو جواز البيع له والشراء إذا قدم هو على الحاضر، فإنه حينئذ يكون قد احتاط لنفسه، فكما لو استنصح فيجب له النصح.

المسألة الثانية:

ص: 52

وهي عند قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان)، والركبان: هم الذين يجلبون السلع إلى أهل البلد من غير أهلها، ولا يجوز لأحد من أهل السوق أن يتلقاهم خارج السوق فيشتري منهم أو يبيع لهم أيضا، لحديث (لا تلقوا الركبان) ، وهذا لمصلحة الركبان، فقد يكون الثمن في السوق أقل من الثمن الذي بيع عليهم، وقد يكون الثمن في السوق أكثر من الثمن الذي اشتري به منهم، فلم يتركوا حتى ينظروا في سعر السوق، فكان ذلك محرما.

ولكن البيع يصح مع خيار الغبن، فهم إذا قدموا السوق فهم بالخيار، فإن ثبت الغبن عليهم فهم بالخيار، إن شاءوا فسخوا البيع، وإن شاءوا أبقوه، لحديث مسلم:(لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)[م 1519] أي إذا أتى صاحب السلعة السوق فهو بالخيار إن شاء أمضى وإلا فسخ.

والنهي عن تلقي الركبان ما لم يصلوا إلى السوق فإذا وصلوا إلى السوق فيجوز أن يتلقاهم في أعلى السوق، لأن غاية النهي هو دخلوهم السوق، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر:(لا تلقوا السلع حتى يهبط بها أصحابها إلى السوق)[خ 2165] .

المسألة الثالثة:

وهي مسألة التسعير، فلا يجوز للسلطان أن يسعر على الناس، وهو ظلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح لما قال بعض الصحابة: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى يوم القيامة وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة دم ولا مال)[حم 11400، ت 1314، د 3451، جه 2200] ، فهذا يدل على تحريم التسعير، وأنه ظلم.

ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا يضر بالناس؟

ص: 53

الجواب: ذهب بعض الشافعية إلى استثناء التسعير حينئذ، وأنه جائز، فيجوز للحاكم أن يتدخل فيما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا بحيث يتضرر بذلك عامة الناس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار)[جه 2340، 2341] ولأن في ذلك مصلحة عامة، بل دفع لمفسدة عامة، وإن ترتب على ذلك فوات مصلحة خاصة، فإن التسعير فيه فوات مصلحة خاصة، وأما الغلاء الفاحش فإن فيه مفسدة عامة، ودفع المفسدة العامة أولى من جلب المصلحة الخاصة، وكذلك تحمل المفسدة الخاصة أولى من تحمل المفسدة العامة، وهذا القول هو الصحيح.

قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر لهم تعسير العدل.

المسألة الرابعة:

مسألة الاحتكار، والاحتكار: هو أن يدخر السلعة حتى يغلو ثمنها فيبيعها، وهو محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في مسلم من حديث معمر بن عبد الله:(لا يحتكر إلا خاطيء) فقيل لسعيد فإنك تحتكر، قال سعيد: فإن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر. [م 1650]

* قال الحنابلة ويحرم الاحتكار بثلاثة شروط:

1-

الشرط الأول: أن يكون المحتكر قوتا، فإن كان المحتكر غير قوت فيجوز ذلك، قالوا:لأن سعيد بن المسيب وهو الراوي عن معمر كان يحتكر النوى - أي نوى التمر - والخبط - وهو علف الدواب - والبذر - أي بذور النبات -، وفي المسند أن سعيد بن المسيب كان يحتكر الزيت، قالوا: ولا يعقل أن هذا الإمام يخالف روايته إلا وأن هذا خارج عن روايته، وقد ثبت أن معمر بن عبد الله كان يحتكر، قالوا:فدل هذا على أن المحتكر الممنوع احتكاره إنما هو القوت، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وهو اختيار الشوكاني إلى ذلك محرم، وهذا هو الراجح لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يحتكر إلا خاطيء) ، وأما الجواب عن فعل معمر بن عبد الله وسعيد بن المسيب فيتضح في الشرط الثاني الذي اشترطه الحنابلة.

ص: 54

2-

الشرط الثاني: ألا يكون للناس في المحتكر حاجة، وعلى هذا يحمل احتكار معمر واحتكار سعيد، وأن احتكارهما ليس في الناس حاجة إليه، فلا يتضرر الناس باحتكارهما، فيجوز للشخص أن يحتكر القوت وغيره إن لم يكن للناس فيه حاجة، إذ لا ضرر على أهل السوق في ذلك، وهذا الشرط واضح وصحيح، ويدل عليه فعل معمر وفعله يخصص ما رواه، ورأي الصحابي ولا سيما راوي الحديث أو فعله مما يخصص روايته، كما أن المعنى يدل على ذلك، إذ لا ضرر في احتكار ما يحتاج إليه الناس سواء أكان من أقواتهم أم من غيرها

3-

الشرط الثالث: أن يشتريه من البلد، فإذا جلبه من خارج البدل أو صنعه بنفسه أو كان هذا من مزرعته فإن هذا جائز، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الجالب مرزوق والمحتكر خاطيء)[جه 2153، فيه علي بن سالم بن ثوبان، وعلي بن زيد بن جدعان، وكلاهما ضعيف] والراجح خلاف ما ذكروه، فإن الحديث

أولا: ضعيف.

ثانيا: لا فرق بين احتكار ما لم يجلب واحتكار ما يجلب من خارج البلد، فما دام أن في الناس حاجة إلى ذلك ففي احتكاره تضييق عليهم، وعلى يظل قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يحتكر إلا خاطيء) على عمومه، فإن الصور التي استثناها الحنابلة داخلة في عموم النهي، فليس لأحد أن يحتكر شيئا وإن جلبه من خارج البلد، لأنه بذلك قد قدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.

قوله [ومن باع ربويا بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة]

قوله (من باع ربويا بنسيئة) كأن يبيع طنا من قمح بألف ريال إلى سنة، فهذا بيع جائز، والربوي هو البر، وبيع البر بالدراهم والدنانير جائزة، فهنا باع كذا صاع من بر بكذا من الدراهم إلى أجل معلوم.

ص: 55

قوله (واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة) بأن قال لما حل الأجل أعطني بدل الدراهم شعيرا أو برا أو تمرا أو غير ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو بيع البر بالبر نسيئة، والذريعة إلى المحرم محرم، وهذا هو المشهور من المذهب.

وقال الموفق يجوز مطلقا ما لم يكن حيلة على الربا.

وقال شيخ الإسلام يجوز عند الحاجة أما عند عدم الحاجة فلا يجوز، أما كونه لا يجوز عند عدم الحاجة فلأجل سد الذرائع الموصلة إلى الربا، وأما كون يجوز عند الحاجة فلأن الشريعة قد أتت لنفي الحرج ورفعه، والقاعدة كما ذكر ابن القيم أن ما حرم تحريم سد الذرائع فإنه يجوز عند الحاجة إليه، لأن تحريمه ليس تحريما أصليا، وإنما لكونه ذريعة إلى غيره، وحيث احتيج إليه فإن تحريمه يزول حينئذ.

وهذا هو أصح الأقوال، وهذا ما لم يكن تواطؤ منهما أو احتيال (1) .

قوله [أو اشترى شيئا نقدا بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز]

مثاله: اشترى فرسا بألف دينار نقدا، كان قد باعها على هذا البائع سابقا بألف وخمسمائة دينار نسيئة، فهذا لا يجوز، فإذا اشترى شيئا نقدا بدون ما باعه به نسيئة فهذا لا يجوز، وهو مذهب الجمهور خلافا للشافعية، وهذا هو بيع العينة.

(1) - قال في الشرح الممتع:" بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، ونأخذ هذا أيضا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم (عن ربح ما لم يضمن) أي نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك، فمثلا: باع عليه برا بمائتي ريال إلى سنة، ولما حلت السنة قال ليس عند إلا تمر، فقال أنا آخذا التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهما، فهذا لا يجوز، لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه " ا. هـ

ص: 56

وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيعتين في بيعة)[حم 9301، ت 1231، 1309، ن 4632]

ولأبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)[د 3461] أي إما أن يأخذ رأس ماله، أو الربا.

وفي سنن أبي داود والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[د 3462] فهذه هي صورة بيع العينة، أن يبيع الشيء إلى سنة بكذا - أي نسيئة - ثم يشتريها قبل السنة بأقل من الثمن الذي باعه به، فأصبحت السلعة حيلة فيها للوصول إلى عقد ربوي محرم، فكأنه أعطاه ألف دينار، على أن يردها عليه ألفا وخمسمائة، فالسلعة غير مقصودة لذاتها.

ولذا قال ابن عباس كما روى ذلك الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن أن ابن عباس سئل عن رجل باع حريرة بمائة واشتراها بخمسين، أي باعها بمائة مؤجلة واشتراها بخمسين حاضرة، فقال:" دراهم بدراهم وقعت بينهما حريرة ".

وقال أيوب رحمه الله كما في كتاب الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن:" يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أخذه على جهته كان أسهل ".

وروى الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن وقد حسنه غير واحد من أهل العلم وقال فيه ابن القيم إنه محفوظ عن زوج أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة، فدخلت أم ولد لزيد بن أرقم فقالت: إنها باعت غلاما لها على زيد بن أرقم بثمانمائة درهما نقدا، ثم اشتريتها منه بستمائة دراهم نقدا،، فقالت عائشة:" بئسما اشتريت وبئسما شريت، أخبري زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إن لم يتب "[سنن البيهقي 5 / 330، سنن الدارقطني 3 / 52] والأثر إسناده حسن، فهذه بيعة العينة.

ص: 57

* وقوله صلى الله عليه وسلم: (فله أوكسهما أو الربا) دليل على أنها بيعتان، خلافا لما ذهب إلى الشافعي من أن صورة بيع العينة أن يقول أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا نسيئة، أو بكذا وكذا نقدا، فيتفرقان قبل أن يعينا أحد الثمنين، وحمله الشافعي على أن يقول: بعتك هذا العبد بألف دينار حالة أو بألفين إلى سنة، قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت.

وهذه في الحقيقة أولا: بيعة واحدة وليست بيعتين، ثانيا: هذه الصورة ليس فيها ربا، وقد قال:(فله أوكسهما أو الربا) ، وإنما هي بيعة جهالة، فالثمن غير معلوم.

وكذلك يقال في قول سماك وهو من رواة هذا الحديث:" أن يبيع الرجل مع الرجل فيقول: هو علي نساء بكذا وكذا، ونقدا بكذا وكذا " فهذا فيه ما في القول المتقدم، فإن هذه صفقة واحدة، وبيع العينة بيعتان في بيعة.

أما إن باع السلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا فلا حرج فيه اتفاقا. (1)

** فإن تواطآ على بيع العينة فالبيع كله باطل، البيعة الأولى، والبيعة الثانية، كأن يقول أبيعك هذه السيارة بثلاثين ألفا إلى سنة، وأشتريها منك غدا بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الأولى والثانية كلاهما باطل، لأنهما محرمتان جميعا، وما نهى عنه الشارع فهو فاسد، فإن لم يتواطئا على ذلك، فالبيعة الأولى صحيحة، قال شيخ الإسلام إنه قول عن أحمد، ومثال ذلك: رجل باع سيارة على الآخر بثلاثين ألفا إلى سنة، ثم اشتراها منه من غير تواطؤ منهما ولا اتفاق بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الثانية باطلة لنهي الشارع عنها، وأما الأولى فهي صحيحة، إذا لا دليل على إبطالها.

(1) - انظر الفتاوى (19 / 498)

ص: 58

*** صور بيع العينة ما ذكره ابن القيم في تهذيب السنن فقال:" والصورة الرابعة للعينة وهي أخت صورها أن يكون عند الرجل المتاع لا يبيعه إلا نسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة جاز، وهو نص الإمام أحمد " وهذا ما يقع فيه كثير من الناس، مثل أن يشتري سيارة ولا يفكر أن يبيعها نقدا بل نسيئة، فهذا من صور العينة، وباين هذا أن صاحب البيع النسيئة فقط قصده الثمن فلا قصد له في السلعة أصلا، فهو يتوصل بهذه السلعة ليبيع المال أو الدراهم بأكثر منها، وأما صاحب النقد والنسيئة فهو تاجر من التجار، قال ابن عقيل معلالا نص الإمام أحمد على هذه المسألة:" وهذا لمضارعته الربا فإنه يقصد الزيادة غالبا "، وذكر شيخ الإسلام أن مثل هذا البيع وهو ألا يبيع الإنسان إلا نسيئة أنه بيع على أهل الضرورة والحاجة، فإن هذه السلعة لا يشتريها في الغالب إلا من يتعذر عليه النقد، وهم أهل الضرورة والحاجة، وأما من يبيع نقدا ونسيئة فهو تاجر من التجار وهو يبيع على الناس عامة، المضطر منهم وغير المضطر، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد في جهالة أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى أن يباع على المضطرين)[حم 939، د 3382] فهذه الصورة على الراجح من صور العينة المحرمة.

**** مسألة التورق.

ومسألة التورق تخالف بيع العينة، بأن المشتري لا يبيعها على بائعها الأول، بل يبيعها على شخص آخر، وصورتها: أن يحتاج رجل إلى دراهم، فيشتري سلعة بنسيئة إلى سنة بأكثر من ثمنها نقدا، ثم يبيعها على غير البائع الأول لأنه إذا باعها على الأول فهي بيع العينة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد:

الرواية الأولى: وهي المشهور عند الحنابلة وهو قول الجمهور أن ذلك جائز، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، لقول الله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، فهذا بيع والأصل في الحل.

ص: 59

الرواية الثانية: وهي التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن عبد العزيز أن ذلك محرم، قال شيخ الإسلام: لأن الأمور بمقاصدها، فهو لم يشتري السلعة إلا قاصدا للثمن، قال رحمه الله:" إذا أتى الطالب ليأخذ دراهم بدراهم أكثر منها - أي هذا هو مقصده - وأعطاه الآخر فهو ربا ولا شك في تحريمه، بأي طريق كان، لأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى "، وروجع رحمه الله مرارا - كما ذكر ذلك ابن القيم - وهو يقول بالتحريم ويأبى أن يقول بالحل.

وما ذهب إليه قول قوي، فإن ذلك ذريعة إلى الربا المحرم، وهذا المشتري للسلعة لم يقصدها بل قصد الثمن، ولا عبرة بالأشياء الظاهرة، وإنما العبرة بالمقاصد والنيات وهو قصده الثمن، وهي ذريعة لفتح الباب المتقدم، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن التورق محرم خلافا للمشهور عند الحنابلة، وذلك لأن الأمور بمقاصدها ولا عبرة بالظاهر.

وقوله (لا بالعكس) : تقدمت صورة بيع العينة، وهي أن يبيع الشيء بنسيئة ثم يشتريها نقدا بأقل من ثمن المبيع، وقال هنا لا بالعكس، فعكس هذه المسألة يجوز، والعكس له صورتان:

الصورة الأولى: وهي أن يبيع الشيء نقدا ثم يشتريه نسيئة بأكثر، مثاله: رجل عنده دار، واحتاج إلى دراهم، فقال لرجل أبيعك هذه الدار بخمسين ألفا نقدا، على أن أشتريها منك بسبعين ألفا نسيئة، فظاهر كلام المؤلف جواز هذا، وهذا ضعيف جدا، وهو مروي عن أحمد أنه يجوز بلا حيلة، والصحيح التحريم، وهو المشهور عند الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، لأنه لا فرق بين هذه الصورة وصورة العينة المتقدمة إلا باللفظ، فلا وجه للقول بجوازها.

ص: 60

الصورة الثانية: وهي الصور الثانية للعكس المذكور، وهي جائزة كما قال المؤلف، وهي إذا باع الشيء نسيئة إلى سنة بعشرة آلاف، ثم اشتراها نقدا بعد شهر أو شهرين بعشرة آلاف أو أحد عشر ألفا، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، فهي جائزة، وليس فيها حيلة على الربا، ومثال آخر: باع سيارته بنسيئة إلى سنة، ثم رغبتها نفسه فاشتراها بأكثر من ذلك أو بمثله فهذا جائز ولا إشكال فيه.

قوله [وإن اشتراه بغير جنسه..... جاز]

مثاله: رجل باع سيارة إلى سنة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بعشرة آلاف دولار، فهنا يجوز، وهذا على القول بان جنس الريالات غير جنس الدولارات.

وصورة أخرى: باعها بثلاثين ألف ريال إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بكذا طن من القمح، فيجوز، بل قال الموفق: لا أعلم خلافا في جوازها، بمعنى باع الشيء نسيئة، ثم اشتراه بعد ذلك بعرض، فهذا جائز، أما الصورة الأولى فاختار الموفق التحريم، وأنه لا يجوز وهذا هو الظاهر، لأنه باع الشيء نسيئة بدراهم واشتراه بدنانير، وليس هناك فرق بين الدراهم والدنانير، فأحدهما يقوم مقام الآخر، فهما أثمان للأشياء، ويتوجه في الصورة الثانية إن لم يكن فيها إجماعا التحريم إذا كانت قيمة العرض أقل من ثمن النقد، فإنه لا وجه للقول بجوازه، ومثاله: باعه السيارة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بكذا طن من القمح، تساوي خمسة عشر ألف ريال، فلا وجه للقول بالجواز، وهذا في الحقيقة حيلة، لأن هذا الغرض له قيمة من الدراهم والدنانير، فباع بالدراهم والدنانير، فيكون كأنه اشتراه بنقد أقل من النقد الذي باعه به.

[قلت: تحريم هذه الصورة بناء على ما سبق، من اعتبارهم العينة متحققة دون مواطئة، والصحيح كما مضى أن العينة لا تكون عينة إلا باشتراط مسبق بين الطرفين، والله أعلم] .

ص: 61

إذن إذا اشتراه بغير الجنس الذي باعه فهو جائز عند الحنابلة، ومنع الموفق ابن قدامة الجواز فيما إذا كان نقدا، ويظهر المنع فيما سوى ذلك، إلا أن يكون ثمن الغرض مساويا أو أكثر.

قوله [أو بعد قبض ثمنه]

مثاله: باعه هذه السيارة بعشرة آلاف إلى سنة، فلما سدد هذا المشتري القيمة، اشتراها منه بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فهذا جائز، ولا إشكال في جوازه إذ العلة المتقدمة قد زالت وما يخشى من الربا قد زال.

قوله [أو بعد تغير صفته]

مثاله: باع سيارة بعشرة آلاف إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بثمنها الذي يستحقه، وقد تغيرت صفتها، فبعد أن كانت تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، فسبب شرائها بثمن أقل أنه قد تغيرت صفتها، مثل أن تكون قد استخدمت ونزل سعرها، فالنقص بسبب تغير الصفة، ولا بد ألا ينظر إلى قضية التأجيل، فإن نظر إلى قضية التأجيل كان ذلك ممنوعا كما تقدم.

قوله [أو من غير مشتريه]

مثاله: رجل اشترى سيارة بالتقسيط، ثم باعها على شخص آخر، فهل للبائع الأول أن يشتريها من هذا المشتري الجديد؟ الجواب: لا مانع من ذلك لزوال العلة المتقدمة.

[قلت: هذا على شرط عدم وجود الاتفاق بين الأطراف الثلاثة، وإلا حرم] .

قوله [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز]

فإذا اشتراها أبوه أو ابنه أو مكاتبه أو نحو ذلك جاز، لأنه لم يشتريها هو، والنهي الوارد فيما إذا اشتراه هو، وليس هذه ذريعة إلى الربا كما تقدم، إلا أن يكون حيلة على ذلك ليتملكها هو - أي الأب مثلا - ثم يأخذها من أبيه بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهذه حيلة فلا تجوز، فإذا اشتراها أبوه أو ابنه فهم أجانب عن البيع فلا إشكال في جواز ذلك، لكن إن كان ذلك حيلة على الربا فهو محرم كما تقدم.

باب الشروط في البيع

الفرق بينه وبين شروط البيع من عدة أوجه:

1-

أن شرط البيع من وضع الشارع، وأن الشرط فيه من وضع المتعاقدين.

ص: 62

2-

أن شروط البيع كلها صحيحة، وأما الشروط في البيع فمنها الصحيح ومنها الباطل.

3-

أن شروط البيع تتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزومه.

4-

أن شرط الشارع لا يسقط، وشرط العاقد وهو الشرط في البيع لمن شرطه أن يسقطه.

وتعريف الشرط في البيع: هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما لا يقتضيه العقد، والذي يقتضيه العقد هو أن تكون السلعة ملكا للمشتري، والثمن ملكا للبائع، وأن يسلم كل واحد منهما الآخر ما له بعد تمام العقد، أما مثال الشرط في البيع فهو أن يشترط أحدهما على الآخر حملان المبيع أو أن يبيع عبدا بشرط أن يعتقه.

والأصل في الشروط الحل، إلا أن يدل دليل على بطلانه كما قرر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق)[خ 2168، م 1504] فلا يحرم من الشروط إلا ما دل الشرع على بطلانه نصا أو قياسا.

ص: 63

واعلم أن المعتبر عند الحنابلة من الشروط ما كان في صلب العقد أي مقارنا للعقد، بمعنى أن يشترطاه أو يشترطه أحدهما أثناء العقد، فإن كان الشرط سابقا للعقد فليس بمعتبر، ولا يلزم المشروط عليه الوفاء به، مثاله: قيل لرجل: هل تبيع بيتك؟ قال: أنا لا أبيعه إلا بشرط أن أسكنه شهرا، ثم سكتا سكوتا فاصلا، ثم عقدا البيع، ولم يذكر البائع ذلك الشرط، فحينئذ لا يعتبر الشرط عند الحنابلة، وهذا القول ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام أن الشرط السابق للعقد كالمقارن له، قال صاحب الفروع:" ويتوجه كنكاح " أي كما أن النكاح يعتبر فيه الشرط السابق وإن لم يقارن العقد فكذلك في البيع، وهذا هو الراجح، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده:(المسلمون على شروطهم)[ت 1352، وذكره البخاري معلقا مجزوما به] وهذا شرط، ولأن العاقد المشترط لم يبع هذه السلعة إلا بهذا الشرط، فهو لا يرضى بانتقالها عن ملكه إلا بهذا الشرط، فكان عدم وجود الشرط مخلا بالرضا في العقد، والذي هو من شروط البيع.

قوله [منها صحيح كالرهن المعين]

أي أن الشروط في البيع منها الصحيح المعتبر كالرهن، كأن يقول: أنا أبيعك هذه السلعة بشرط أن أرهن بيتك أو سيارتك أو نحو ذلك، فهذا شرط صحيح، كذلك إذا اشترط ضامن كأن يقول أبيعك بشرط أن تأتي بضامن، فإن لم تأت بضامن فلي الفسخ، فكذلك هذا شرط صحيح.

قوله [وتأجيل الثمن]

كأن يقول: أشتري منك هذه السلعة بشرط أن أعطيك ثمنها بعد شهر، فهذا شرط صحيح.

قوله [وكون العبد كاتبا أو خصيا أو مسلما والأمة بكرا]

هذه شروط صحيحة لأنها لا تخالف كتاب الله.

قوله [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهرا]

مثاله: أن يقول أبيعك داري بشرط أن أسكنه شهرا ونحو ذلك، فهذا جائز.

قوله [وحملان البعير إلى موضع معين]

ص: 64

قوله (معين) أتى بهذا القيد لأنه لو قال (إلى موضع) فإن فيه جهالة، والجهالة ممنوعة، فلا بد أن يكون الأجل معلوما، والموضع في الحملان معلوم، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:(أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله، قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك)[خ 2718، م 715] ، فهذا شرط صحيح.

قوله [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله]

قوله (تفصيله) التفصيل غير الخياطة، فالتفصيل هو أن يقطع الثوب حتى يتهيأ للخياطة، والشروط التي ذكرها المؤلف شروط صحيحة، لأنها لا تخالف كتاب الله، ولأنها لا تحالف مقتضى العقد، فإن وفى المشروط وإلا فلمن اشترط الفسخ.

قوله [وإن جمع بين شرطين بطل البيع]

ص: 65

ولذا قال المؤلف (وإن اشترط على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله) ، فلو اشترط الحمل والتكسير لم يصح فهما شرطان، هذا هو المشهور من المذهب، وأنه إذا شرط شرطين فإنه لا يصح، وإن كان كل شرط بمفرده صحيحا، وقد روى الخمسة والحديث حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)[حم 6633، ت 1234، ن 4611، د 3504، جه 2188] والشاهد في قوله (ولا شرطان في بيع)، قالوا: فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين شرطين في بيع، وإن كانا شرطين صحيحين، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، لأنه لا يخالف كتاب الله، قالوا: ولا مانع فيه، فإن صحة الشرط لا يبطلها صحة شرط آخر، فهذا شرط صحيح، وهذا شرط صحيح، وكلاهما معتبر، فإذا اجتمعا لم يبطلاه كما لو انفردا، والمعنى يدل على ما قالا، وهذا لا يخالف كتاب الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) قالوا: وليس في كتاب الله ما يدل على إبطال هذه الشروط، وأجابوا عن حديث:(ولا شرطان في بيع) أن المراد به البيعتان في بيعة، وهي بيع العينة، ويدل على هذا أن في موضع هذه اللفظة في مسند أحمد (ولا بيعتين في بيعة) [حم 6879] قالوا: البيعتان في بيعة شرطان في بيع، لأن كل بيعة شرط، فإذا تبايع الاثنان فالبيع بينهما شرط لأن كلا منهما التزم بهذا البيع كما هو ملتزم بالشرط، فالبيع شرط، وهذا القول هو الراجح، إذ لا معنى للنهي عن هذا البيع الذي فيه شرطان صحيحان.

قوله [ومنها فاسد يبطل العقد]

فهذا الشرط يبطل العقد، فليس الشرط باطل فحسب، بل الشرط والبيع باطلان، ومثاله:

ص: 66

قوله [كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا آخر كسلف وقرض وبيع وإجارة وصرف]

قوله (كسلف) السلف هو السلم، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن.

فلا يحل بيع سلف، بأن يقول: أبيعك هذه الدار بشرط السلم بيني وبينك، بأن تعطيني عشرة آلاف وأعطيك بعد سنة كذا وكذا من القمح، والراجح جوازه ما لم يكن حيلة إلى الربا، وأما الحديث فالسلف فيه هو القرض كما قال البغوي وغيره، ولا محذور في الجمع بين السلف والبيع ما لم يكن حيلة إلى الربا، وصورة اشتراط القرض في البيع، أن يقول: أبيعك واشترط أن تقرضني مائة ألف، فهذا قالوا: لا يجوز لأنه قد اشترط عقدا في البيع، كذلك بيع وإجارة، كأن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني هذه الدار، أو صرف كأن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تصرف هذه المائة دينار إلى دراهم، وكذلك إذا قال: لا أبيعك حتى تشاركني في الأرض أو نحو ذلك، فهذا كله يبطل العقد، فإذا عقدا مع البيع عقدا آخر، فالبيع باطل والعقد الآخر باطل.

وهذه الصور التي ذكرها المؤلف هي مسائل مجتمعة ذات أحكام متفرقة على الصحيح، لا كما قال المؤلف من أنها يبطل بها العقد مطلقا، أما البيع والقرض فإن ما ذهب إليه المؤلف ظاهر، فإن فيه ربا أو ذريعة إلى الربا، وهو بمعنى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يحل بيع وسلم) فهو ذريعة إلى الربا الذي نهى عنه الشارع، وكذلك إذا قال: أبيعك كذا بشرط أن تقرضني، فهذا يكون من القرض الذي جر نفعا فهو ربا، فعقد القرض إذا دخل في البيع فإنه لا يصح ويبطل العقد.

أما ما سوى ذلك فالصحيح أنه جائز، وهو مذهب الإمام مالك، إذا لا دليل على المنع، فإذا قال: أبيعك هذه الدار على أن تشاركني في كذا، أو قال: أبيعك هذه الدار على أن تنكحني ابنتك، أو قال: أبيعك هذه الدار على تستأجر بيتي، فهذا كله جائز، إذ لا دليل على المنع، والأصل في المعاملات الحل.

ص: 67

واستدل الحنابلة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، قالوا: وهاتان بيعتان في بيعة، والصحيح أن البيعتين في بيعة هي بيع العينة كما تقدم عن ابن القيم وشيخ الإسلام وغيرهما، وأما هنا فليس كذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فله أوكسهما أو الربا) وليس هذه في مثل الصور المتقدمة.

قوله [وإن شرط ألا خسارة عليه]

مثاله أن يقول: سأشتري منك هذه السلعة بشرط ألا خسارة علي، فإن بعتها بخسارة فهي عليك، أي على البائع، فهذا لا يصح، قالوا: لأنه يحالف مقتضى العقد، فإن مقتضى العقد أن الشخص يملك السلعة إذا اشتراها وكونه يربح أو يخسر هذا أمر راجع له، وأما السلعة فإنها تملك بالبيع، فلا يصح أن يشترط ألا خسارة عليه، ولأن الخراج بالضمان فالضمان عليه وعلى ذلك فالخسارة عليه والربح له.

قوله [أو متى نفق المبيع وإلا رده]

مثاله: قال للبائع: أنا أشتري منك كذا من البر وأبيعها، فإن نفقت، وإلا رددتها عليك، أو رددت الذي لم ينفق عليك، قالوا: هذا لا يصح للمعنى المتقدم من أنه يخالف مقتضى العقد.

قوله [أو لا يبيع ولا يهبه ولا يعتقه]

مثاله: أن يقول: بعتك هذا العبد بشرط ألا تبيعه، أو بشرط ألا تهبه، أو بشرط ألا تعتقه، فهذا كله باطل، لأن مقتضى العقد أن يتصرف البائع بسلعته كيف شاء، فإذا اشترط عليه ألا يبيع أو ألا يهب أو ألا يعتق فهذا يحجر عليه.

قوله [أو إن عتق فالولاء له]

ص: 68

مثاله: أن يقول بعتك هذا العبد، لكن اشترط عليك إن أعتقته أن يكون الولاء لي، فهذا الشرط باطل، ودليل بطلانه ما ثبت في الصحيحين في قصة بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها، فاشترطوا على عائشة أن يكون الولاء لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما لولاء لمن أعتق) فإنه لا عبرة بهذا الشرط، ومنه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:(ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)

قوله [أو أن يفعل ذلك]

مثاله: أن يقول له: أبيعك هذا السلعة بشرط أن تبيعها أو بشرط أن تهديها أو بشرط أن تعتقه، لكنه استثنى العتق فقال:(إلا إذا شرط العتق) فإذا قال: أبيعك بشرط أن تعتقه فهذا صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الشارع يتشوف إلى العتق ويرغب فيه، فإذا اشترط العتق فهو شرط صحيح، وقال بعد ذلك:

قوله [بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق]

فالمسائل السابقة كلها يبطل فيها الشرط وحده، وأما البيع فيصح، ويكون المشترط بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، فإذا اشترط مثلا ألا يبيعه، فهذا الشرط باطل، ويصح البيع الأول، وللمشترط الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخ.

ص: 69

أما مسألة اشتراط الولاء فما ذهب إليه الحنابلة هو الصحيح، فالشرط باطل، لأنه شرط يخالف كتاب الله، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، فإن تراضيا عليه فلا عبرة بتراضيهما على شرط يخالف كتاب الله، وأما سوى ذلك مما ذكروه فاختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد أن هذه الشروط صحيحة، فإذا قال: أبيعك بشرط أنه ما لم ينفق أرده عليك، أو بشرط ألا خسارة علي أو نحو ذلك مما تقدم فالشرط والبيع صحيحان، بشرط أن يكون للبائع قصد وغرض صحيح لا مجرد التحجير على المشتري، مثال ذلك: رجل عنده جارية، ويكره أن يتملكها أي أحد، ويجب أن يتملكها من هو مستحق لها، فقال: أبيعها عليك بشرط ألا تبيعها، أو بشرط ألا تبيعها إلا وأن أكون أنا أحق بالبيع بالثمن نفسه، أو ألا تبيعها إلا على من يتصف بكذا وكذا ونحو ذلك، أو أن يكون الشرط في مصلحة المبيع نفسه، كأن يقول أبيعك عبدي بشرط ألا تبيعه لفاسق، فهذه الشروط صحيحة لأن لها غرضا صحيحا، ولا دليل على القول ببطلانها، واختيار شيخ الإسلام هو الصحيح، إن كان هناك غرض صحيح كما سبق، أو مصلحة للمبيع، فإذا تراضى المتعاقدان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم) .

لكن إن قال أشتريه منك بشرط ألا خسارة علي فلا يظهر أن في هذا قصدا صحيحا، فإن قضية الخسارة والربح ليس لها ارتباط باحتياط المكلف لنفسه، فالأظهر في مثل هذا أن ذلك الشرط غير صحيح، وعلى كل حال فالراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام وأنه إذا كان هناك غرض صحيح فإنه يصح.

قوله [وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح]

ص: 70

مثاله: إذا قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة بألف درهم مؤجلة إلى ثلاثة أيام بشرط أنك إذا لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام فالبيع رد، قال المؤلف هنا:(صح) لحديث: (المسلمون على شروطهم) وهذا شرط فيجب الوفاء به، فإن لم يوف به بطل البيع، كما أن الأصل في الشروط الصحة، وهو لا يخالف كتاب الله، وهذا كما لو باع واشترط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي الكلام عليه وأنه من الخيار الجائز، وهذا نظير المسألة الأولى وقد أجازه الشرع.

قوله [وبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد..... لا يصح]

إذا قال بعتك إن جئتني بكذا، أو قال: بعتك إن رضي زيد، فهذا بيع معلق، وليس بيعا منجزا، فلا يصح وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن البيوع تكون منجزة لا معلقة، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد جواز ذلك، وأن البيع المعلق صحيح، وقد دلت القاعدة المتقدم ذكرها وهي أن الأصل في العقود الحل، وهذا عقد من العقود، وهذا التعليق لا يخالف كتاب الله، فلا وجه للمنع، والبيع مما تعارف عليه الناس، سواء كان منجزا، أو معلقا، فلم يحدد لنا الشارع التنجيز في البيع، بل أطلقه، فيرجع إلى ما تعارف الناس عليه، وهذا القول هو الصحيح، وعلى ذلك إذا قال: أتعاقد أنا وإياك على هذا البيع لكن بشرط أن يرضى أبي أو أمي فإن لم يرض فلا بيع، فهذا جائز على الصحيح.

قوله [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك لا يصح البيع]

ص: 71

هذه صورة ثالثة مما لا يصح فيها البيع، وهي رجل اشترى سلعة ووضع رهنا عند مالك السلعة، وقال: إن جئتك بالثمن إلى عشرة أيام وإلا فهذا الرهن لك، أي هو ملك لك، وهذا في الحقيقة بيع معلق، فهو كالصورتين السابقتين، لأنه باعه هذا الرهن بشرط أن يكون البيع لهذا الرهن معلقا، والشرط الذي يقتضي تعليق الرهن هنا هو أنه إذا لم يأته بالثمن إلى عشرة أيام، فكأنه يقول: الرهن إن لم آتك بالثمن إلى عشرة أيام هو لك، فهو بيع معلق، ويستدل الحنابلة على عدم جواز هذه الصورة فضلا عما سبق في الصورتين السابقتين بما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يَغْلَقْ الرهن عن صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه)[جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] أي لا يؤخذ منه فيتملك من قبل المرتهن، وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد بل فعله الإمام أحمد أن ذلك جائز، واستدلوا بما تقدم وهو أن الأصل في العقود الحل، وهذا بيع للرهن على سبيل التعليق، فهو كالصورتين السابقتين التين تقدم جوازهما، قالوا: والحديث إنما ينهى عن أن يغلق عليه من غير رضا منه كما كان في الجاهلية، فإن الرجل إذا وضع الرهن ثم لم يأت بالثمن فإنه يؤخذ منه قهرا، فيتملكه المرتهن، فهذا كان من عمل الجاهلية فنهى عنه الشارع، وليست هذه المسألة من هذا الباب، فإن الرهن هنا لم يغلق من صاحبه، بل هو قد أغلقه على نفسه بشرطه الذي اشترطه، والمسلمون على شروطهم، وهذا القول هو الصحيح، لكن إن لم يكن الغبن فاحشا، فإن كان فاحشا فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لا سيما إن غلب على التأخير.

* هل يجوز بيع العربون وإجارة العربون؟

ص: 72

وصورة هذه المسألة أن يشتري الرجل السلعة من أحد الناس ويقول: لي الخيار ثلاثة أيام، وهذا مبلغ عندك فإن اشتريت السلعة أكملت لك المتبقي من الثمن، وإلا فإن هذا المبلغ المقدم لك، وهي صورة مشهورة عند الناس، وتسمى بالعربون، وفيها قولان لأهل العلم:

1-

قال الجمهور إن هذا محرم، لأنه أكل للمال بالباطل، فلا حق له بأكله، وروى أبو داود في سننه وهو في موطأ مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع العربان)[حم 6684، د 3502، جه 2192] أي العربون.

2-

وقال الحنابلة بيع العربون جائز، ومثله إجارة العربون بأن يدفع شيئا للمؤجر ويقول إن عزمت على الاستئجار وإلا فهذا الثمن لك، وقد لا يقع بينهما عقد، ويقول هذا المال، وأنا أفكر وأتأمل فإن عزمت على الشراء أكملت ما تبقى من الثمن، وإلا فإن هذا المال لك، واستدلوا بما رواه البخاري معلقا وذكره صاحب المغني وذكر أن الإمام أحمد احتج به، وأن الإمام أحمد قيل له: أتذهب إليه؟ فقال: لم، وهو قول عمر، والأثر:" أن نافع بن الحارث عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مكة اشترى دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا "[خ تعليقا (كتاب الخصومات - باب الربط والحبس في الحرم) ] ولا يعلم له مخالف، قالوا: وأما الحديث الذي ذكره الجمهور فإن إسناده منقطع، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد، قالوا: وليس هذا بأكل لأموال الناس بالباطل، فإنه إنما يأخذ المال بسبب تربصه انتظاره، وبقاء السلعة بيده من غير بيع، فإنه يتربص وينتظر حتى يعزم هذا المشتري على الشراء، وقد لا يعزم فيكون قد تربص بهذه السلعة بدون أن يقدر على بيعها، فهذا ليس من أكل أموال الناس بالباطل، فإنه قد تعود عليه مصلحة وقد يلحق به الضرر بسبب التربص، قالوا: ولأن الأصل في المعاملات الحل، وهذا القول هو الصحيح.

ص: 73

قوله [وإن باعه بشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ]

مثاله: إذا قال هذه السلعة أمامك، وأنا بريء من كل عيب مجهول، ليبطل عليه خيار العيب، فإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا يكون له الخيار، قال المؤلف:(لم يبرأ) بل للمشتري إذ وجد السلعة معيبة بعد ذلك حق الخيار، فله إما الفسخ أو الإمضاء مع الأرش، وذلك لأن خيار العيب إنما يثبت بعد البيع، ولا يثبت قبله، وهو إنما يثبت بعد الاطلاع على العيب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية: يبرأ إلا أن يكون قد علم بالعيب فلا يبرأ، أما إن كان هذا القائل جاهلا بعيوب هذه السلعة ولا يعرف عيوبها فيقول: أن أبيعك هذه السلعة وأنا لا أعرف هل فيها عيب أم لا، وأريد أن تبرأني من كل عيب مجهول، فإن شئت تشتريها هكذا، وإلا فلا أبيعها عليك، وهو صادق من حيث كونه لا يعلم إن كان فيها عيب أم لا، فإن هذه التبرئة صحيحة معتبرة، وذلك لأن الطرف الآخر قد أسقط حقه ولم يقع غش ولا خداع ولا غرر من البائع.

أما إذا قال: أنا بريء من كل عيب مجهول، وكان البائع عالما بوجود عيب فإن هذا لا يقبل ولا يعتبر، بل الخيار ثابت، وذلك لأن هذا غش وخداع وغرر، فكان الخيار ثابتا، وما قاله رحمه الله ظاهر، فإنه إذا لم يعلم شيئا من العيوب فإنه لم يقع منه ما يقتضي جواز الفسخ للآخر وقد أسقط الآخر حقه، وأما إذا كان عالما بالعيوب فإنه قد غش وخدع، فعند ذلك يثبت الخيار للآخر، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه والبيهقي بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله عنه باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان، فقضى على ابن عمر أن يحلف له، لقد باعه العبد وما به داء يعمله، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فصح عنده، فباعه بألف وخمسمائة.

ص: 74

أما إذا سمى العيب ومع ذلك اشتراها وبرأه من العيب فإن الخيار لا يثبت بعد ذلك، وذلك لأنه قد أطلعه على العيب فرضي به وأسقط حقه في الخيار.

قوله [وإن باعه دارا على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل صح]

مثاله: إذا قال أبيعك هذه الدار وهي عشرة أذرع، واتفقا على ذلك، فبانت تسعة أذرع أو بانت أحد عشر ذراعا، صح البيع، وما كان من زيادة فللبائع، وما كان من نقص فعليه، فإذا كان هناك زيادة فيؤخذ من الأرض عشرة أذرع ويترك الباقي للبائع، وإن كان هناك نقص فعليه الثمن الفارق، فمثلا باعه عشرة أذرع بألف درهم، فبانت تسعة أذرع، فإنه يعطيه مائة درهم، والبيع صحيح لأن الشروط قد توفرت.

قوله [ولمن جهله وفات غرضه الخيار]

مثاله: إن قال المشتري أنا أجهل أنها تسعة أذرع وأظنها عشرة أذرع، وغرضي يفوت، فإني أريد أرضا قدرها كذا وكذا من الأذرع، وهذه الأرض التي اشتريتها لا تفي بالغرض، فإن له الخيار، وإن أعطاه الثمن الفارق، فإن له رفضه وفسخ البيع، وذلك لفوات غرضه.

* فالبيع صحيح، لكن هل يثبت له الخيار؟

إن جهل وفات غرضه فله الخيار، وهذا الخيار بفوات غرضه، وشرطه الجهل، لأنه إذا دخل على بصيرة فليس له الخيار، فإنه دخل على علم ومعرفة فلا يحق له والحالة هذه الفسخ، أما إذا كان جاهلا لكن لم يفت غرضه فإنه حينئذ يلزم بالبيع ولا يثبت له الخيار، لأن البيع قد لزم، وليس له غرض معين بما حدده.

باب الخيار

الخيار اسم مصدر من اختار، والمصدر اختيارا، والخيار: هو الأخذ بخير الأمرين بين الإمضاء والفسخ.

قوله [وهو أقسام، الأول: خيار المجلس]

ص: 75

قالوا: وهو خيار مكان التبايع، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا)[خ 2079، م 1532] وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحد منهما البيع فقد وجب البيع)[خ 2112، م 1531] فهذان الحديثان يدلان على ثبوت خيار المجلس، أو خيار عدم التفرقة.

وظاهر ما تقدم أن الخيار يثبت في مكان البيع، وأنهما إن لم يكونا في مكانه، وإن لم يتفرقا فإن الخيار ينتهي، لأنه مرتبط بعدم مفارقتهما للمكان، هذا هو ظاهر كلامهم، وظاهر الحديث خلاف هذا، وأنهما إذا كانا جميعا فالخيار باق، فلو كانا في سفر وهما في سيارة فالخيار باق، مع أن السيارة تنتقل من موضع إلى موضع، أما إذا تفرقا فإن البيع يمضي ولا فسخ.

ولم يقل بخيار المجلس الإمام مالك احتجاجا بعمل أهل المدينة، والحديث حجة عليه، ولا يصح حمل الحديث على تفرق الأقوال لأن الأقوال مجتمعة بالإيجاب والقبول لا متفرقة، وتأويلهم البائع بالسائم ضعيف جدا لأن الأصل الحقيقة أولا، وثانيا: أن الخيار للسائم معلوم لا يحتاج إلى بيان، والقول بخيار المجلس هو قول سعيد بن المسيب وهو إمام أهل المدينة في عصره، فكيف يقال إن إجماع أهل المدينة على خلافه.

قوله [يثبت في البيع والصلح بمعناه]

ص: 76

أما في البيع فظاهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البيعان بالخيار) ، وقوله (والصلح بمعناه) أي الصلح الذي بمعنى البيع، وهو الصلح الذي يتم بعوض، كأن يقر رجل لآخر بسلعة قد اختلفا فيها، فيأخذ صاحب السلعة من المقر عوضا عن سلعته، فيقول مثلا: هذه سلعتك وأصالحك عليها بأن أدفع لك كذا وكذا، فهذا صلح بمعنى البيع، وذلك لاشتماله على العوض، فهو بيع فثبت فيه الخيار.

فالحديث ورد في البيع فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات.

قوله [وإجارة]

كذلك الإجارة يثبت فيها الخيار، فإن استأجر شيئا، وقلنا إن الإجارة من العقود اللازمة، فإن الإجارة بعوض، فهي بيع، لكنه بيع منفعة، ففيها معنى البيع، لاشتمالها على العوض، فإذا اتفقا على أن يستأجر منه هذه الدار ستة أشهر، بعشرة آلاف، وهما بعد لم يتفرقا، فأراد أحدهما الفسخ فله ذلك، ولكل منهما الخيار.

قوله [والصرف والسلم]

فكذلك يثبت فيهما الخيار، لأنهما بيع.

قوله [دون سائر العقود]

كالرهن والحوالة والضمان والشركة والمساقاة والمزارعة (على القول بأن العقد فيهما جائز وليس بلازم وهو أحد الوجهين في المذهب) والهبة والوقف والوصية وغير ذلك من العقود، فهذه العقود لا يثبت في خيار المجلس، وذلك لأن هذه العقود إما أن تكون غير لازمة، أي عقود جائزة، والعقد الجائز لا يحتاج إلى الخيار فهو جائز، فللشص أن يمضيه وله أن يفسخه من غير أن يحتاج إلى خيار، كعقد الشركة، فلكل واحد منهما الفسخ فلا يحتاج إلى خيار، وهذا باتفاق العلماء، ومنها - أي مما تقدم - ما هو عقود لازمة لكن لا عوض فيها كالوقف والوصية، فهي عقود لازمة ولا عوض فيها، ولذا فلا تلحق بالبيع، وقد نص الشارع على البيع فليحق به ما هو في معناه، وحيث كان العقد اللازم لا عوض فيه فإنه ليس في معنى البيع، وعلى هذا فسائر العقود ليس فيها خيار.

ص: 77

وحكى الوزير الاتفاق على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود غير اللازمة كالشركة ولا في العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض كالنكاح.

قوله [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما]

فلكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما، وعلم من كلام المؤلف أن المرجع في التفرق إلى العرف، وذلك لأن كل ما لم يضع الشارع له حدا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فالشارع قال:(ما لم يتفرقا وكانا جميعا) فيحتاج إلى تحديد التفرق، بأي شيء يكون؟ فلم يضع الشارع لنا حدا فيه، فالعرف يكون هو الحد.

فإذا كانا في غرفة فخرج أحدهما منها فهو تفرق في العرف، وكذلك إذا كان في فضاء كأن يكونا في السوق فإذا استدبر أحدهما الآخر فمشى خطوات يسيره فالعرف يقول هذا تفرق، وإذا كانا في سفينة أو سيارة فكان أحدهما في أعلاها والآخر في أسفلها فهذا تفرق في العرف، وهكذا.

قوله [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]

إن نفياه قبل العقد فقال أحدهما أريد أن نتعاقد على هذا البيع بشرط ألا خيار بيني وبينك، فقال الآخر: رضيت، فهذا صحيح، وإسقاطه يكون بعد ثبوت العقد.

قوله [وإذا أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]

ص: 78

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو يخير أحدهما الأخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)[خ 2112، م 1531] ولأنه حق لهما لمحض مصلحتهما، فإذا أسقطاه أو نفياه أو أسقطه أحدهما فإنه يسقط، أما الآخر الذي لم يسقط حقه فإنه لا يسقط، ويدل لهذا أيضا ما رواه الخمسة إلا ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار - أي عقد فيه خيار - ولا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)[حم 6682، ت 1247، ن 4483، د 3456] أي ليس لأحدهما أن يبادر الآخر بالمفارقة خشية أن يستقيل الآخر البيع، أي يرجع فيه بحق الخيار الذي هو له، فهذا لا يجوز، وهو الصحيح في المذهب، أما إذا فعل ذلك بغير نية تضييع حقه في الرجوع عن البيع فلا شيء في ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات) ، وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه كما في البخاري أنه باع مالا له بالوادي بمال لعثمان بخيبر، قال: فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، فالجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن يقال: لعله لم يبلغه النهي.

الوجه الثاني: أنه بادره لطول مجلس عثمان رضي الله عنه فإنه كان الخليفة.

فإن فارقه خشية أن يستقيله فقد قال الحنابلة: ويثبت التفرق بذلك، في هذا نظر، بل الأظهر أن التفرق لا يثبت، لأنه تفرق غير شرعي، فهو تفرق منهي عنه، وما دام منهيا عنه فهو فاسد، لا عبرة به، وعلى هذا يثبت الخيار ولا يثبت التفرق لما سبق، وإذا جوزنا ذلك وقلنا إن التفرق يثبت فإننا بذلك نفتح بابا لمثل هذا الفعل، فالأصح أنه لا يثبت التفرق ويظل الخيار كما هو.

ص: 79

ومما لا يقع فيه الخيار العتق، فإذا اشترى رجل من آخر رقيقا يعتق عليه، أو يقول المشتري: إذا اشتريت فلانا فهو حر، فإذا اشتراه فإنه يعتق مباشرة ولا خيار، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، ومثل ذلك الكتابة، فلو أن رجلا كاتب مملوكه على كذا وكذا من الأقساط يدفعها له شهريا أو سنويا، فليس للسيد الخيار في مثل هذا العقد، وإن كان بمعنى البيع، وذلك للعلة السابقة، وهي تشوف الشارع إلى العتق، قالوا: ومثل ذلك إذا كان متولي طرفي العقد واحد، كرجل وكل من بائع أن يبيع له، ومن مشتري أن يشتري له، فهنا لا خيار، إذ لا يمكن إثبات الخيار لتعذر التفرق في الشخص الواحد.

وقال بعض أهل العلم من الحنابلة: بل يثبت الخيار، ويكون الخيار ما دام في المجلس الذي أوقع فيه العقد، والذي يظهر هو القول الأول، وان هذا إنما حيث كان طرفا العقد شخصين، لئلا تخرج السلعة من صاحبها إلا بعد الرضا التام، وحيث كان واحدا فإن هذا لا يحتاج إليه، إلا أن يكون الخيار له بالنظر في مصلحة كل من الطرفين الذين تولى عنهما البيع والشراء فقد يكون في القول الثاني قوة.

* وهل يورث الخيار؟

فيه قولان في المذهب، ومثاله: إذا مات الرجل في مجلس الخيار، فهل يورث خياره أم لا؟ فقال بعضهم إنه لا يورث، لأن الموت أعظم فرقة، وهذا هو المشهور من المذهب، وقال بعض أهل العلم إنه يورث، وهذا هو القول الثاني في المذهب، وذلك لأن الخيار حق له فيورث كسائر الحقوق، والقول الأول أظهر لأن الأصل لزوم البيع والموت أعظم فرقة.

قوله [وإذا مضت مدته لزم البيع]

أي إذا تفرقا في مدته لزم البيع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع) ، فمراد المؤلف بقوله (وإذا مضت مدته) أي مدته التي تقدمت أنها معتبرة بحسب العرف، وهو التفرق العرفي بالأبدان.

ص: 80

قوله [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]

هذا هو النوع الثاني من أنواع الخيار، وهو خيار الشرط.

والفارق بين خيار المجلس وبين خيار الشرط أن خيار المجلس من وضع الشارع، وأما خيار الشرط فهو من وضع المتعاقدين، فخيار الشرط خيار وضعي، وأما خيار المجلس فهو خيار شرعي.

وخيار الشرط يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) ، ويدل عليه قول الله تعالى {أوفوا بالعقود}

وقوله (أن يشترطاه) ظاهره أنهما لو اشترطاه قبل العقد فليس بمعتبر، وأنه يشترط أن يكون في صلب العقد، فلو قال رجل لآخر: لو بعتني سلعتك على أن يكون الخيار لي شهرا، فقال الآخر بعتك، فقال: قبلت، فشرطه هذا ليس بمعتبر، لأنه ليس في صلب العقد، وإنما يكون معتبرا إذا قال: بعني على أن يكون الخيار لي لمدة شهر، ثم يقول: قبلت، والراجح في هذه المسألة نظير المسألة السابقة، وأن هذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم) ، وهذا عام في الشروط كلها، سواء كانت في صلب العقد أم قبله، وتقدم الاستدلال بمزيد أدلة على هذه المسألة في الشروط في البيع، فقد تقدم أن الشروط في البيع في المشهور من المذهب لا تصح إلا في صلب العقد، وتقدم أن الراجح أنها تصح قبله.

وكما أن خيار الشرط يصح في صلب العقد، فيصح أثناء مدة الخيار، سواء كان الخيار خيار شرط أو خيار مجلس، فإذا قال: بعتك هذه السلعة على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، فقال: قبلت، فقبل أن تتم المدة قال: أريد أن يكون الخيار شهرا، فإن ذلك مقبول لأن البيع لم يجب بعد، ومثل هذا في خيار المجلس، بأن قال قبل أن يتفرقا: اشترط الخيار لمدة شهر، وكانوا لم يشترطوا ذلك في العقد، فإن ذلك جائز.

ص: 81

وقوله (مدة معلومة ولو طويلة) ولو كانت شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين، فإن ذلك يصح، فلو اشترى من آخر بيتا، وقال لي الخيار سنة، فذلك جائز، قالوا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) ، إلا أن يكون مما لا يبقى إليها في العادة، وقال الأحناف والشافعية: لا يصح إلا ثلاثة أيام، قالوا: لأن الأصل إمضاء البيع، ولم يثبت لنا خيار في الشرع أكثر من ثلاثة أيام، كما في خيار التصرية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المصراة:(فله الخيار ثلاثة أيام) وكذلك أثبته للمسترسل كما في سنن الدارقطني والبيهقي أن له الخيار ثلاثة أيام، قالوا: فهذا أقصى حد لمدة الخيار في الشرع فلا نزيد عليه، وقال المالكية: الأصل أنه ليس له الخيار إلا ثلاثة أيام، إلا أن يحتاج إلى هذا كأن تكون السلعة من السلع التي لا يكفي فيها ثلاثة أيام، أو يكون عنده سفر أو مرض أو نحو ذلك مما يعيقه عن النظر في السلعة، فهنا يمكنه أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام بحسب المدة التي يحتاج إليها، وأظهر المذاهب فيما يظهر مذهب الحنابلة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم) ، وأما خيار التصرية وأنه أقصى خيار ثبت في الشرع ففرق بين ما وضعه الشارع، وما وضعه المتعاقدان، فإن خيار الشرط من وضع المتعاقدين، فما دام أنهما قد تراضوا على مدة معلومة، فإن ذلك جائز.

ص: 82

وقوله (معلومة) يدل على أنها لو كانت مجهولة فإن الخيار لا يصح، وعليه فيكون له الخيار فورا، فإن شاء فسخ وإلا أمضى، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، فلو قال: بعتك على أن يكون لي الخيار مدة من الزمن أو حتى يأتي فلان، ونحو ذلك فإنه لا يصح، ومثله لو كان على التأبيد، كأن يقول لي الخيار أبدا، لما في ذلك من الجهالة والغرر، وقال المالكية: يصح البيع ويحد لهما من الزمن مدة تكفي للخيار، وتجربة المبيع في العادة، فيضع لهما القاضي مدة تكفي لتجربة المبيع وللمشاورة، وهذا يختلف من سلعة إلى أخرى، وقال شيخ الإسلام يثبت لهما الخيار ثلاثة أيام لأنه هو الخيار الذي ثبت عن الشارع كما في حديث التصرية، وهذا هو أظهر الأقوال، وذلك لأن الشارع قد وضع هذه المدة في الخيار، على أن قول المالكية له وجه وقوة.

قوله [وابتداؤهما من العقد]

فإذا قال كل منهما لي الخيار ثلاثة أيام، فإن هذه المدة تبتديء من العقد، وهذا ظهر.

قوله [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]

إذا مضت مدة الخيار فإنه يبطل ويثبت البيع، وتحديد المدة في الخيار يجوز مع الاختلاف، فيجوز أن يشترط البائع له ثلاثة أيام، ويشترط المشتري له عشرة أيام، لأن ذلك حق لهما، فإذا مضت مدة أحدهما أو مدتهما فإن الخيار يبطل ويثبت البيع.

وقوله (أو قطعاه) بأن قال كل منهما ليس بيننا خيار، فهذا جائز، ويبطل به الخيار، ويثبت معه البيع، لأن هذا حق لهما، فإذا قطعاه فقد أسقطا حقهما برضاهما، ويجوز أن يسقط أحدهما حقه في الخيار دون الآخر.

قوله [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]

ص: 83

فخيار الشرط يثبت في البيع كخيار المجلس، والمسلمون على شروطهم، ويثبت في الصلح بمعناه، وهو الصلح بعوض، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يثبت في مثل الصرف والسلم وغيرهما من العقود اللازمة ذات العوض التي تقدم ثبوت خيار المجلس فيها، واختار بعض الحنابلة ثبوت خيار الشرط فيما يثبت فيه خيار المجلس وهذا هو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم) .

قال شيخ الإسلام:" ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة " ا. هـ

فإن قيل: إن الصرف يشترط فيه التقابض، فيكف يثبت فيه الخيار؟

فالجواب: لا إشكال في ثبوت الخيار مع التقابض، فكل منهما يقبض ماله، وما تعاقدا عليه، ومع ذلك فالخيار ثابت وليس هذا من الربا في شيء، فالصحيح أن كل ما ثبت فيه خيار المجلس فإن خيار الشرط يثبت فيه ولا فرق، وقد أثبت الشارع خيار المجلس في مثل هذه العقود فدل على جواز أصل الخيار فيه فإذا أثبته المتعاقدان لأنفسهم برضا منهم فإنه يثبت لهم.

قوله [والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد]

يثبت خيار الشرط في الإجارة في الذمة مطلقا، والإجارة في الذمة هي الإجارة على بناء حائط أو على عمل بمزرعة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك، فيثبت الخيار لأن المسلمين على شروطهم، وليس فيه المحذور الذي ذكر الحنابلة في مثل الصرف والسلم.

وقوله (أو على مدة لا تلي العقد)

فالخيار في الإجارة على مدة معينة فيه تفصيل:

فإن كانت على مدة لا تلي العقد فالخيار صحيح، كأن يكونا في الخامس من محرم فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة، وابتداؤها من أول شهر صفر، على أن يكون لي الخيار لمدة عشرين يوما، فهنا الخيار واقع في مدة لا تلي العقد، لأن العقد لا يثبت إلا في أول صفر، والخيار يكون قبله فيكون صحيحا.

ص: 84

أما إن كانت على مدة تلي العقد فإن ذلك لا يصح، كأن يكونا في الخامس من محرم، فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة على أن يكون ابتداء المدة من الآن، ولي الخيار ثلاثة أيام، فهذا لا يصح، لأن الخيار في مدة تلي العقد، قالوا: لأنه حينئذ ينتفع بهذه العين المستأجرة في مدة الخيار، فكيف يثبت الخيار مع انتفاعه بها، ففي ذلك تفويت لشيء من الانتفاع، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن هذا جائز، وأن هذه المدة التي انتفع بها المستأجر تحسب عليه بأجرة المثل، بمعنى: استأجر منه هذا البيت اليوم، وقال لي الخيار سبعة أيام، واستفاد من البيت خلال السبعة أيام، وفي خلالها أراد الفسخ، فحينئذ يعطي المستأجر المؤجر أجرة المثل للأيام التي انتفع بها، وحينئذ لا يفوت عليه شيء، وهذا هو الصحيح أن الإجارة بنوعيها - الإجارة في الذمة أو الإجارة على مدة يجوز فيها خيار الشرط ويثبت.

قوله [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]

فإذا قال أحدهما: لي الخيار ثلاثة أيام، وأما أنت فلا خيار لك، أو قال: أنا لا خيار لي، فهذا جائز، لأنه حق لكل منهما، فمن أثبته فلنفسه، ومن نفاه فعليها، فلا يشترط أن يكون الخيار ثباتا لهما جميعا.

قوله [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]

ص: 85

إذا قال: أبيعك هذه السلعة ولك الخيار إلى الغد أو إلى الليل، فإن الخيار يسقط بأول جزء منه، فإذا قال: إلى الغد، فإنه يسقط بأذان الفجر، وإذا قال: إلى الليل فإنه يسقط بأذان المغرب، وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أن الغد كله يدخل وأن الليل كله يدخل، أما أهل القول الأول فقالوا: إن لفظة (إلى) لانتهاء الغاية، فإذا قال: إلى الغد فإنه ينتهي ويكون ذلك بأوله، وقال الأحناف هي بمعنى (مع) كما قال تعالى {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، والراجح أن (إلى) بمعنى (حتى) فهي لانتهاء الغاية، فإن الحد يباين المحدود، وأنت إذا قلت: بعتك هذه الأرض من هذا إلى تلك الشجرة، فإن الشجرة لا تدخل لأن الحد غير المحدود، وأما إذا كان الحد من جنس المحدود فإنه يدخل، كقوله تعالى {إلى المرافق} ، فإن المرفق من اليد، ولذا من حيث اللغة ما ذهب إليه الحنابلة أقوى، والصحيح في هذه المسألة عدم الرجوع إلى اللغة، ولكن المرجع هو العرف، فما تعارف عليه الناس فهو المعتبر، وذلك لأنه عندما يتلفظ بتلك اللفظة إنما يريد ما هو معروف عند الناس، فمثلا الباعة في الأسواق إذا قالوا: لك الخيار إلى الغد، فليس مرادهم بالغد أذان الفجر، وإنما عندما تفتح الأسواق ونحو ذلك، فالراجح أن العبرة في ذلك بالعرف.

قوله [ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه]

لكل من له الخيار الفسخ ولو كان الآخر غائبا أو ساخطا، فلا يشترط أن يلتقيا ليخبره بالفسخ، لأنه حق له فله الفسخ متى شاء، وكذلك إن كان الآخر ساخطا.

ص: 86

وظاهره أن الفسخ يثبت ولو لم يرد الثمن، كأن يأخذ البائع عشرة آلاف على هذه السلعة، ويشترط المشتري له الخيار، ثم يقول المشتري في زمن الخيار: أنا فسخت البيع، فظاهر هذا أن الفسخ يثبت وإن كان المبيع ما زال في يده أو كان الثمن ما زال في يد الآخر، وهذا لا شك أنه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فقد يجحد، وقد يأبى دفع هذا المال، ولذا فعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وصوبه في الإنصاف أن الفسخ يثبت برد الثمن، وذلك سدا للذريعة، وعلى هذا ففي المثال السابق لا يثبت الفسخ إلا بأن يرد المشتري السلعة إلى البائع، ويرد البائع الثمن للمشتري، لئلا يكون هذا ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل.

قوله [والملك مدة الخيارين للمشتري]

فالملك مدة خيار الشرط وخيار المجلس للمشتري، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه السبعة:(من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)[حم 4538، خ 2379، م 1543، ت 1244، ن 4636، د 3433، جه 2211] فدل على أن المبتاع إذا اشترط المال الذي بيد العبد فهو له، واللام للتمليك، فدل على أن البيع الثابت فيه الخيار يثبت فيه ملك كل واحد منهما لما في يد الآخر، وإن كان الفسخ ثابتا للآخر، فالبائع مالك للثمن وإن كان الآخر له الفسخ، والمشتري مالك للسلعة وإن كان البائع له الفسخ، للحديث المتقدم، ويترتب على هذه المسألة:

قوله [وله نماؤه المنفصل وكسبه]

فإذا نما المبيع نماء منفصلا فهو لهذا المالك الذي هو تحت يده، مثلا: اشترى شجرا، وكان الخيار مدة سنة، فأثمر الشجر، فإن الثمر للمشتري، ما دام الخيار ثابتا، وكذلك الكسب، فلو اشترى عبدا، فإن كسبه يكون له مدة الخيار، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(الخراج بالضمان) رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح [حم 23704، 25468، ت 1285، ن 4490، د 3508، جه 2243] .

ص: 87

فالخراج: أي ما يخرج من الشيء من ثمر أو كسب ونحوه.

بالضمان: أي لمن كان الضمان عليه.

والضمان مدة الخيار عن السلعة التي بيده، وإن كان الآخر له حق الفسخ، وعلى هذا فالنماء المنفصل والكسب يكون لمن كان الثمن أو المبيع بيده.

وأما نماؤه المتصل فلم يذكره المؤلف، وهو للبائع، وهذا هو المشهور، وهو مذهب جماهير أهل العلم، وحكي إجماعا، فمثلا: رجل اشترى شاة فبقيت عنده لمدة شهر أو شهرين وكان الخيار فيها مدة سنة، فسمنت الشاة، فهذا السمن ليس للمشتري، وهو وإن كان في ملكه لكنه نماء متصل، ويثبت تباعا مالا يثبت استقلالا، واختار شيخ الإسلام أن النماء المتصل للمشتري أيضا وهذا القول هو الراجح، لعوم قوله صلى الله عليه وسلم:(الخراج بالضمان) ، ولأنه نما في ملكه، وحينئذ يقوم المبيع، ففي المثال السابق تقوم الشاة لما كانت هزيلة وقت البيع، وتقوم لما كانت سمينة عند الفسخ، ويدفع الفرق للمشتري، فإذا كانت وهي هزيلة تساوي ثلاثمائة، فلما كانت سمينة أصبحت تساوي خمسمائة، فهنا يدفع البائع للمشتري مائتين.

قال الأحناف والمالكية: الملك مدة الخيار للبائع، قالوا: لأن الخيار مانع من ترتب آثار العقد عليه، وعليه فالنماء مدة الخيار للمالك، والراجح ما تقدم لأن العقد صحيح فتترتب آثاره عليه والخيار إنما يمنع لزوم البيع.

قوله [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع وعوضه المعين]

فلا يصح لأحدهما أن يتصرف في المبيع، فمن أخذ السلعة فليس له أن يتصرف فيها، بمعنى أن ليس له أن يبيعها ولا أن يهبها ولا أن يتبرع بها، فكل هذا محرم، لأن حق الآخر في الفسخ يسقط بمثل هذا التصرف، ولا يجوز إسقاط حقه في الفسخ، وعن الإمام أحمد أن البيع يصح، ولكنه يكون موقوفا على إجازة الآخر، وهذا هو الراجح كما تقدم في تصرف الفضولي، وهذا أولي من تصرف الفضولي.

ص: 88

وقوله (وعوضه المعين) لأن عوضه الذي يكون في الذمة لم يثبت عليه العقد، فالعوض المعين كقوله: بعتك هذه الدار بهذا الشيء، فهذا الشيء المعين لا يصح التصرف فيه ولا يجوز، لكن لو قال: بعتك هذا الشيء بعشرة آلاف، فله أن يتصرف فيها لأن العشرة آلاف غير معينة، فالواجب عليه متى ثبت البيع أن يعطيه عشرة آلاف، وعلى ما تقدم يصح التصرف حتى لو كان معينا ويكون موقوفا.

قوله [بغير إذن الآخر]

أما إذا أذن الآخر فلا إشكال في جوازه، مثاله:رجل اشترى سلعة من آخر، وكان بينهما الخيار، وقال له: أريد أن أبيعها أو أهبها، فوافق الطرف الثاني، فإن له ذلك، ولا إشكال في جواز هذا.

قوله [بغير تجربة المبيع]

أما إذا تصرف تصرفا للتجربة فذلك يجوز، كأن يذهب بها إلى السوق فيزايد عليها مزايدة ليعرف ثمنها، كذلك لو ركب الدابة ليعرف سيرها، فهذا جائز لأن مثل هذه التصرفات هي المقصودة من الخيار، لأن الخيار إنما وضع لمثل هذا.

قوله [إلا عتق المشتري]

ص: 89

مثاله: رجل اشترى عبدا، وقال للبائع لي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الأول أعتقه المشتري، قالوا: فإنه يعتق العبد، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو مذهب الجمهور، والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخيار لا يسقط وإن كان العتق يسري ويصح لكن الخيار لا يسقط، وحينئذ يقوم العبد في اليوم الذي أعتق فيه ويعطى البائع حقه، فلا يؤدي تصرف المشتري إلى فسخ العقد، بل للبائع الخيار، فإن شاء أن يرضى بمثل هذا البيع، وإن شاء لم يرض، وهو إن لم يرض فإن العبد يصح عتقه لكن ينظر في اليوم الذي أعتق فيه كم يساوي، واختار الشيخ السعدي أن العتق لا يصح، وهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وأنه يكون أيضا - وإن لم يكن هذا من كلام الشيخ السعدي - موقوفا على الإجازة، وعلى هذا فالأصل أنه لا يصح ولا يجوز، وذلك لأن الشارع وإن كان متشوفا إلى العتق لكنه متشوف إليه بأن يكون بطريق شرعي، وأما أن يكون بغير طريق شرعي فهذا لا يجوز، العتق بطريق غير شرعي يفوت حقوق الآخرين، وكوننا نقومه يوم البيع هذا فيه نظر، فقد يكون وضع الخيار لنفسه لكونه مترددا في بيع هذا العبد وهو يرغب فيه، فالراجح أن العتق لا يثبت وإن كان الشارع متشوفا إليه، ويكون العتق موقوفا على إجازة البائع.

قوله [وتصرف المشتري فسخ لخياره]

هذا إذا كان الخيار له وحده، مثاله: رجل اشترى بيتا وقال لي الخيار ثلاثة أيام، أما البائع فلا خيار له، ثم في اليوم الأول باع البيت، فحينئذ يكون تصرفه فيه ببيع أو هبة إسقاط لحق نفسه في الخيار، وهذا ظاهر، لأن تصرفه دليل على رضاه، وهو أظهر من مجرد اللفظ.

ص: 90

كذلك أيضا تصرف البائع يدل على الفسخ، مثلا: قال رجل أبيعك هذه الدار ولي الخيار ثلاثة أيام، ولك الخيار أيضا، فالخيار لهما جميعا مدة ثلاثة أيام، ثم بعد يوم أتى البائع نفسه فباع بيته، فهذا البيع يصح، لأنه له الفسخ، ويكون هذا البيع إبطالا لحق المشتري في الخيار والبيت.

هذا ما قرره الموفق في المغني ورجحه ابن عقيل وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين في المذهب، والوجه الثاني أنه ليس بفسخ لأنه لا يملك، والراجح الأول.

قوله [ومن مات منهما بطل خياره]

هذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن الخيار أمر نفسي يختص بالشخص نفسه، لا يعتاض عنه بغيره، وقال الشافعية والمالكية بل يثبت الخيار للورثة، وهذا هو الراجح، وذلك لأن الخيار حق مالي فيدخل في الإرث، فالشخص يرث كل ما هو للموروث.

قوله [الثالث: إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة]

هذا هو النوع الثالث من أنواع الخيار وهو خيار الغبن، فإذا غبن أو خدع غبنا يخرج عن العادة أي غبنا فاحشا فله الخيار، فليس الغبن العادي خيار، لأنه أمر يقع في العادة، فليس فيه الخيار إلا أن يشترطه على الصحيح كما في قوله صلى الله عليه وسلم حيث ذكر رجل له أن يخدع في البيوع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا بايعت فقل: لا خِلابة)[خ 2117، م 1533] وهذا عام في كل خداع سواء أكان خداعا مما يجحف به أو ممالا يجحف به، فإذا شرط فقال: لا خلابة أو لا خداع فإن الخداع اليسير يثبت فيه الخيار، لقوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون على شروطهم)

ص: 91

فإذا غبن غبنا يخرج عن العادة فإن البيع يصح مع خيار الغبن، فله أن يسمك ولا أرش له، وله أن يرد، وإن اختار الإمساك فلا أرش له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الأرش كما في تلقي الجلب، وهو من خيار الغبن، ولذا نص فقهاء الحنابلة وغيرهم على أنه لا أرش في خيار الغبن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره في تلقي الجلب.

قوله [بزيادة الناجش]

فالغبن له ثلاث صور عند الحنابلة في المشهور من المذهب:

الصورة الأولى: تلقي الجلب، فإنه يثبت فيها خيار الغبن.

الصورة الثانية: زيادة الناجش، والنجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري، والنجش محرم، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن النجش)[خ 2142، م 1516] .

وقال جمهور العلماء إن البيع المسبوق بنجش بيع صحيح، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد أن البيع باطل، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والنهي يقتضي الفساد، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وأن البيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، بل إلى أمر خارج عنه، وهو النجش أي المزايدة المحرمة، ولأن الضرر الواقع على المغبون يدرأ بالخيار، فيقال له لك الخيار إن شئت أمسكت، وإن شئت رددت، ومثل ذلك ما لو قال البائع: قد اشتريتها بكذا وهو كاذب، فإن هذا من النجش، وهنا وإن كان الزائد هو البائع، فلا فرق بين أن يكون الزائد هو البائع أو غيره، لأن المقصود أن السلعة قد أعطيت غير سعرها المفترض لها ففي هذا غرر على المشتري.

قوله [والمسترسل]

وهذه هي الصورة الثالثة من صور الغبن عند الحنابلة.

والمسترسل: هو الجاهل بالقيمة، الذي لا يحسن المماكسة أي المكاسرة، فهو الذي يطمئن ولا يستوحش من هذا البيع لجهله بالقيمة، وهو لا يحسن المماكسة، ومثله البائع الجاهل بقيمة المبيع.

ص: 92

وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي كان يخدع في البيوع: (إذا بايعت فقل لا خلابة) فهذا المسترسل يثبت له خيار الغبن.

وظاهر كلام المؤلف وهو المشهور من المذهب أن خيار الغبن لا يثبت إلا في هذه الصور الثلاث المتقدمة، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب إنه يثبت في كل غبن، فأي بيع يثبت فيه غبن فإن الخيار يثبت فيه، وعليه فلو اشترى شخص يحسن المماكسة بسعر، وغلب على ظنه أمانة البائع ووثق به، وكان عليه غبن فإن الخيار يثبت له إذا تبين له أنه قد غبن، وعلل ذلك القول بان المتعاقدين يدخلان في البيع على أن يتعوض كل واحد منها بقيمة المثل، أو بزيادة أو نقص لا إجحاف فيه، وعليه فإذا كان هناك زيادة فاحشة وإن لم يكن من الصور الثلاثة المتقدمة فإن البيع يخرج إلى معاوضة خارجة عما هو شرط في الضمن، فإن كلا منهما كأنه يشترط على صاحبه الأمانة وأن يبيعه بثمن المثل، ولأنه كما تقدم فإن الشخص وإن كان يحسن المماكسة فقد يغلب على أمره، ويقد يغره البائع، ولذا فالراجح هو ما اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب، لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، بل يجمع بينها بحكم واحد.

* مسألة:

قال شيخ الإسلام:" يحرم تغرير المشتري، بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبا منه " ا. هـ

قوله [الرابع: خيار التدليس]

التدليس مأخوذ من الدُّلْسَة، وهي الظلمة، والمراد بها اصطلاحا: أن يظهر المبيع على صورة أفضل منه في الواقع، والتدليس محرم فإنه خداع والخداع محرم.

قوله [كتسويد شعر الجارية أو تجعيده]

تسويد شعر الجارية بعد أن أصبح أبيضا، وتجعيده أي يجعله مجعدا وهو ضد المسترسل، قالوا: لأنه إذا جعد شعر الجارية فإنه يدل على القوة، فكأنه يدل على شباب وقوة الجارية، وهذا تدليس.

قوله [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]

ص: 93

الرحى معروفة، فيجمع الماء ثم يرسله عند العرض على المشترين، فيندفع الماء بشدة فيتحرك الرحى بشدة، وحينئذ يكون في هذا تدليس، لأن هذه ليست سرعتها الحقيقية، وهذا محرم.

ومثل ذلك التصرية، والتصرية أن يحبس اللبن في الضرع عند بيع الشاة ونحوها إظهارا لكثرة لبنها، والحديث فيه هو الأصل في النهي عن التدليس وهو الأصل في ثبوت خيار التدليس، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إنشاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر)[خ 2150، م 1515] وفي صحيح مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام)[م 1524] ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أرشا، فدل على عدم ثبوت الأرش في خيار التدليس، وأن من ثبت عليه التدليس فهو بالخيار إن شاء أمسك ولا أرش، وإن شاء رد.

وأما صاع التمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقابل لهذا اللبن الذي شربه، وهو الذي كان في هذه الشاة عند بيعها، ولذا فإذا رد الشاة على حالها من غير ما تغير فإنه ليس عليه أن يرد صاعا من تمر، وإنما يرد معها صاعا من تمر إذا استعمله.

قال الموفق: وله الخيار متى علم التصرية، وهو الصحيح في المذهب، وقال بعض الحنابلة من حين البيع، فإذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام، وهو أظهر، وأبعد عن الخصومة.

قوله [الخامس: خيار العيب: وهو ما ينقص قيمة المبيع]

كأن يبيع عبدا على أنه كامل الأعضاء فيثبت أنه أقطع اليدين، فهذا عيب ينقص الثمن، فيثبت به خيار العيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المسلم أخ المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له)[جه 2246] ، والضابط فيه ما ينقص قيمة المبيع عادة، وعليه فاليسير عادة لا خيار فيه.

ثم ضرب أمثلة لذلك فقال:

قوله [فإذا كمرضه وفقد عضو أو سن أو زيادتهما وزنا الرقيق وسرقته وإباقه وبوله في الفراش]

ص: 94

هذه كلها عيوب في المبيع من باب التمثيل.

قوله [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]

قوله (بعد) احتراز مما لو علم قبل العقد، لأنه يكون حينئذ قد دخل على بصيرة، فلم يكن له الخيار.

قوله [وهو قسط ما بين الصحة والعيب أو رده وأخذ الثمن]

فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد فله الخيار، وعلى هذا فله أن يمسك ويأخذ الأرش، أو يرد ويأخذ الثمن، والأرش هو قسط ما بين الصحة والعيب.

مثاله: باع عبدا على أنه كامل الأعضاء بمائة وعشرين، ثم العبد أنه أقطع، فنقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت أن تمسك ولك الأرش، وإن شئت أن ترد ولك الثمن، فإذا اختار الإمساك مع الأرش فهنا يقوم العبد لو كان صحيحا، فلو فرضنا أننا قومناه وهو صحيح بخمسة عشر ألفا، وقومناه وهو معيب بعشرة آلاف، فأصبح القسط بين ثمن الصحة والعيب الثلث، فثلث المائة والعشرين هو أربعون، وعلى هذا فعلى البائع أن يرد أربعين للمشتري، وهو أرش ذلك العيب.

وقد قال بإثبات الأرش الحنابلة، وقال الأحناف والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا أرش، فإن شاء أمسك ولا أرش له، وإن شاء رد، واستدل أهل القول الأول بأنه قد فاته جزء من المبيع فاستحق الأرش مقابل ذلك الجزء الفائت عليه، وقال أهل القول الثاني: إن هذا الشيء الفائت نظير الشيء الفائت في مسألة التدليس، فإنه إذا باعه العبد على أنه كاتب فبان غير كاتب فأنتم لا تقولون بأنه له الأرش، لأن هذا من باب التدليس،فكذلك العيب، وأما كونه قد وقع عليه الغرر المتحقق بذلك فإنه يدفعه بخيار العيب، فيرد السلعة وله ثمنه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن سعدي، لأن الشارع لم يذكر الأرش في المصراة وثبت بها خيار التدليس مع فوات صفة فيها يقدر بمال، فكذلك هنا وهو خيار العيب.

ص: 95

لكن إن تراضيا على ذلك فلا بأس، كأن يقول البائع: لا تفسخ وخذ هذه الدراهم، فيقبل المشتري فلا بأس.

قوله [وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش]

وهذا ظاهر، وأهل القول الثاني الذي يقولون إنه لا أرش يثبتونه إن تعذر الرد، فهو الآن لا يمكنه الرد، وفي المبيع عيب، فحينئذ لا بد وأن يثبت له الأرش لأن عدم إثباته له يفوت حقه، ومثل ذلك ما إذا أعتق العبد، كرجل اشترى من هو قريب له قرابة لا يحل معها أن يكون رقيقا له، كأن يشتري أخاه، فإنه يعتق عليه، فحينئذ لا خيار، فإذا ثبت أن فيه عيبا ينقص الثمن فله الأرش لتعذر الرد، ومثل هذا لو تلف المبيع وفيه عيب، فإنه يجبر بدفع الأرش بتعذر الرد عليه، فلا يمكن تحصيل حقه حينئذ إلا بهذا الأرش لأن الخيار قد فاته.

قوله [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند وبيض نعام فكسره فوجده فاسدا فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]

هذا في بيع ما لا يعلم فساده وصلاحه إلا بكسره، فإذا اشتراه فكسره ليعلم حاله أهو فاسد أم صالح، فوجده فاسدا فله أن يمسكه وله الأرش وهذا على القول بثبوت الأرش وتقدم بحثه، وإن رده فإنه يرد أرش كسره على البائع، لأن قشره له قيمه، فما دام أنه قد كسره فهذا الكسر له قيمته، هذا إذا كان الكسر مؤثرا، أما إذا كان الكسر غير مؤثر في قيمته فلا أرش حينئذ.

ص: 96

والأرش يختلف حينئذ باختلاف التقويم، فإن التقويم يختلف، فإنه في الصورة الأولى - أي التي يمسك فيها المشتري مع أخذ الأرش - يقوم المبيع صحيحا، ويقوم فاسدا غير مكسور، وأما في الصورة الثانية - أي التي يرد فيها المشتري السلعة ويدفع الأرش للبائع - فإن القشر يقوم غير مكسور، ثم يقوم وهو مكسور، وهذا هو المشهور في المذهب، والصحيح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن البيع لا خيار فيه أصلا، وذلك لأن البائع لم يقع منه غرر ولا خداع فإن هذا أمر باطن، إلا أن يشترط، فإذا اشترط أن يكون سليما صحيحا فحينئذ له الخيار لأن المسلمون عند شروطهم، وكذلك الناس يحتاجون إلى التبايع على هذه الصورة المجهولة فلا خيار إلا أن يشترطه.

والكسر - على القول بثبوت الخيار - لا أرش فيه لأنه مأذون فيه، ولا يمكن أن يتعرف على ما في باطنها إلا بهذا الكسر، إلا أن يكون الكسر خارجا عن العادة وخارجا عما يحتاج إليه فحينئذ إن أعادها فعليه أرش قيمة ما أفسد، وعليه فالكسر الذي أذن فيه إنما هو قدر ما يحصل به الاستعلام كما قرر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.

قوله [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]

لأن قشره لا قيمة له، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: إذا كان القشر له قيمة، كما في المسائل السابقة.

الصورة الثانية: إذا كان القشر لا قيمة له، فليس فيه أرش، بل هو بالخيار إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ولا أرش، لأنه لا قيمة أصلا لهذا القشر، والصحيح ما تقدم أنه لا خيار له إلا أن يشترطه.

قوله [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا]

ص: 97

فخيار العيب متراخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة فوجد فيها عيبا فله الخيار على التراخي، إن شاء غدا، أو بعد شهر أو بعد سنة ما لم يوجد دليل الرضا، كأن يؤجره أو يهبه أو يبيعه ونحو ذلك، فإذا تصرف فيه تصرفا يدل على الرضا فلا خيار له، لأن هذه التصرفات دليل على رضاه بالعيب، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول الجمهور، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن خيار العيب على الفور، فمتى علم بالعيب فإنه عليه أن يرده فورا إلا أن يكون له عذر بالتأخير، وإن لم يفسخ بالبيع ثابت حينئذ وليس له الحق في الخيار، قالوا: لأنه سكوته وتراخيه دليل على رضاه، ولأن التأخير قد يلحق الضرر بالبائع، وهذا القول هو الراجح، فالصحيح أن خيار العيب على الفورية لا على التراخي، وأنه متى ثبت عنده العيب فعليه أن يرده ما لم يكن له عذر، ومثل ذلك خيار الغبن والتدليس فإنه على الفور للمعنى المتقدم، ونزيد دليلا وهو أن الأصل في البيوع هو اللزوم والخيار خلاف الأصل، ولأن هذا التراخي في الغالب يورث عداوة وبغضاء وخصومة ونحو ذلك، فالراجح أن خيار العيب على الفورية، ومثله خيار الغبن والتدليس، وقال الحنابلة: بل خيار الغبن والتدليس على التراخي أيضا والصحيح ما تقدم.

ويستثنى من ذلك ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو بيع المصراة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت له الخيار ثلاثة أيام، فإن قيل: فلم لا نثبت الخيار في التدليس ثلاثة أيام؟

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر ثلاثة أيام لأنها هي المدة الكافية للتعرف هل هذه تصرية أم طبيعة منها، ولذا فإنا نمهل كل من احتاج إلى مهلة ليتعرف على هذا المبيع، وتحديد النبي صلى الله عليه وسلم خيار التدليس ثلاثة أيام يدل على أنه ليس على التراخي، والنبي صلى الله عليه وسلم حدده بأيام والتراخي يخالف ذلك، فإنه ليس محددا.

ص: 98

قوله [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا ولا حضور صاحبه]

فهذا الخيار لا يفتقر إلى شيء من ذلك لما تقدم في مسألة شبيهة بهذه المسألة، لأن هذا حق له فمتى فسخ فإن الفسخ يثبت ولا يشترط أن يحضر إلى حاكم ولا أن يرضى الطرف الثاني ولا أن يحضر صاحبه عند القاضي إذا أراد الفسخ ولا غير ذلك.

قوله [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشتر مع يمينه]

إذا اختلفا عند من حدث العيب فهذا يقول حدث عند البائع، وهذا يقول حدث عند المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو المشهور من المذهب، وعللوا ذلك بقولهم: إن الأصل عدم قبض هذا النقص، والعيب نقص، فالأصل أن المشتري لم يقبض المبيع كاملا، وقال جمهور العلماء القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة من العيب، ولأن الأصل هو لزوم البيع ولا خيار فيه، والمشتري مدعي للعيب وأنه حاصل عند البائع، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا القول هو الصحيح، وأما قولهم إن الأصل أنه لم يقبضه كاملا، فإننا نقول إن الأصل أنه قد قبضه كاملا، فإنه قد تم البيع، ووقع المبيع في ضمانه فالأصل أن قبضه كان كاملا.

قوله [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين]

إذا كان العيب لا يحتمل إلا أن يكون عند أحدهما كأن يكون العيب أصبع زائدة في العبد، فحينئذ بلا شك أن هذا العيب موجود في ملك البائع، فلا يقبل قوله إذا ادعى نفيه، لأن الأصل أن هذا موجود من الخلقة وأنه لا يمكن أن يوجد بعد ذلك، أو أن يكون فيه جرح طري لا يمكن أبدا أن يكون إلا بعد العقد، فإذا ادعى المشتري أن هذا الجرح كان قبل العقد فلا يقبل منه ذلك، لأن هذا الجرح لا يمكن إلا أن يكون أثناء ملكية المشتري فحينئذ يقبل قول المشتري في الصورة الأولى، وقول البائع في الصورة الثانية ولا نحتاج إلى يمين فالحق واضح.

* مسألة:

إذا حدث عيب آخر في ملكية المشتري؟

ص: 99

مثاله: رجل اشترى سلعة معيبة، لم يعلم بعيبها، فلما أخذ المبيع في ملكه حدث له عيب آخر غير الأول، فهل يثبت له الخيار إذا علم بالعيب الأول أم ينتفي الخيار لثبوت العيب الآخر؟

قولان لأهل العلم هما روايتان عن الإمام أحمد:

1-

الرواية الأولى: أنه ليس له الخيار لأن البائع يتضرر حينئذ بإعادة هذا المبيع إليه وفيه عيب آخر، فليس له حينئذ الخيار، بل له الأرش لأن الرد متعذر.

2-

الرواية الثانية: أن له الرد، لأن الأصل هو بقاء الخيار ما دام أن العيب موجود، ولا يسقط حقه في الخيار لوجود عيب آخر في ملكيته، ويدفع الضرر عن البائع بأن يعطيه أرش هذا العيب الذي حدث جديدا، وهذا القول هو الراجح، فإن الأصل ثبوت الخيار، ولا دليل على إسقاطه، وكونه يتجدد عنده عيب فنقول يرد المبيع ويدفع الضرر المتجدد على البائع بأن يعطيه الأرش.

قوله [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]

تخبير الثمن أي الإخبار به، بأن يقول هو علي بكذا وما أبيعه إلا بكذا، وستأتي صوره، فإذا ثبت أن إخباره بالثمن كان خلاف الواقع وهو كذب أو غلط منه فإن الخيار يثبت فيما سيذكره المؤلف.

وقوله (أو أكثر) هذا وهم من المؤلف، وهذه العبارة ليس لها أصل في كتب الحنابلة، ولا يمكن أن يكون الإخبار بأكثر من الثمن.

قوله [ويثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة]

التولية: أن يبيعه السلعة برأس مالها، فيقول هذه السلعة لك برأس مالها وهو عشرة آلاف.

الشركة: أن يبيع السلعة بقسطه من رأس المال، بأن يكون المشتري شريكا له، فيقول هذه الأرض التي مساحتها مائة متر بمائة ألف، ولك نصفها من الثمن أي خمسون ألفا.

المرابحة: أن يبيعه السلعة برأس مالها مع ربح معلوم، كأن يقول: هذه السلعة علي بعشرة، وأربح عليها درهمين فهي باثني عشر.

ص: 100

المواضعة: بعكسها، فهي البيع برأس المال مع خسارة معلومة، كأن يقول: هذه السيارة علي بألف، واضع عليك منها مائة فتكون تسعمائة، فهذه الصور الأربعة هي صور التخبير بالثمن.

قوله [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]

فلا بد في جميعها أن يعرف المشتري رأس المال، وكذلك البائع، وإنما ذكر المشتري دون البائع لأنه هو الذي يجهل الثمن في العادة، وسبب ذلك أنهما إن لم يعرفا رأس المال أو كان أحدهما لم يعرفه فإن البيع فيه جهالة، وشرط في البيع أن يكون ثمنه معلوما، إذن أثبت المؤلف الخيار في هذه الصور، فمن بيع عليه على سبيل التولية فقيل له: السعة علي بألف وهي لك بالألف أيضا، فتبين أن البائع كاذب أو مخطيء في خبره، فقال المؤلف: يثبت له الخيار، أي للمشتري، فله أن يفسخ البيع، وله أن يمضيه، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأحناف، وأما المشهور عند الحنابلة - خلافا لما ذكره المؤلف، وهذه من المسائل التي خالف فيها المؤلف المشهور من المذهب - أن الخيار لا يثبت هنا، وإنما يأخذ المشتري الفارق بين رأس المال الحقيقي ورأس المال الموهوم، ولا حاجة لنا إلى الخيار، فإن الخيار إنما يثبت لدفع الضرر عن المشتري، وهنا المشتري لا ضرر عليه، بل قد حصل على ماله، ولا شك أن رضاه بالسلعة ظاهر، وهو أولى من رضاه بها حيث كان الثمن أكثر، فإن قد خبر أن الثمن أكثر فرضي فإذا وجد أن الثمن أقل وأعطي الفارق فإنه لا ضرر عليه، وعليه فلا حاجة إلى هذا الخيار، ولأن الأصل في البيوع اللزوم لا الخيار، فنبقى على الأصل، وهذا القول هو الراجح، وأن الخيار لا يثبت في هذه المسائل بل يعطى المشتري الفارق بين رأس المال الموهوم وبين رأس المال الحقيقي.

قوله [وإن اشترى بثمن مؤجل.... ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]

ص: 101

إذا قال مثلا: هذه السيارة رأس مالها بعشرة آلاف، وظاهر هذا أن ذلك نقدا، ولم يبين لها أنه نسيئة، ومعلوم أن البيع بالنسيئة يختلف عن البيع بالنقد، فالثمن في النسيئة أكثر، فإذا لم يتبين له ذلك فلا شك أن هذا تغرير بالمشتري، فحينئذ له الخيار بين الإمساك والرد، وقال بعض الحنابلة: بل لا خيار له، وأنه يأخذها بالثمن المؤجل، فلا يدفع له هذا نقدا بل يأخذه على التأجيل، وهذا بعيد، وذلك للفرق بين الثمن المؤجل والثمن المنقود، فعندما نقول للمشتري ادفع بثمن مؤجل فإننا حينئذ نلزمه بزيادة على الثمن، ثم ليس كل أحد يرغب في التأجيل، فهذا في الحقيقة فيه ضرر، وإنما يسلك هذا المسلك المحتاج، فلا يلزم بهذا البيع، كما أن كثيرا من الناس لا يرغب أن يكون في ذكته شيء من المال لأحد من الناس، فالراجح ما ذكره المؤلف، وأن له الخيار بين الإمساك والرد.

قوله [أو ممن لا تقبل شهادته له]

ص: 102

كأبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، فإن الشخص إذا اشترى من أبيه سلعة أو من ابنه أو من زوجته فإنه قد يأخذها بثمن أعلى من ثمنها المعتاد محاباة لهؤلاء، ومثال ذلك: أن يشتري السلعة من والده بخمسة عشر ألفا وهي تساوي أقل من ذلك، فهذا لا يجوز، أي لا يجوز أن يبيع السلعة بعد ذلك ويخبر المشتري أنه قد اشتراها بخمسة عشر ألفا، لأن هذا ليس هو ثمنها الحقيقي، بل هذا الثمن قد دخله المحاباة كما سبق، وعلى ذلك لو باع تلك السلعة على شخص، فإنه يثبت له الخيار، فلا بد أن يبين له أن قد اشتراها من أبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، ومثل ذلك لو اشتراها محاباة من غير هؤلاء كأن يشتريها من صديق بثمن أعلى من ثمنها محاباة له، ومثل ذلك إذا اشتراها في موسم لها يرتفع سعرها فيها وقد ذهب ذلك الموسم، أو يشتريها برغبة مختصة به، كأن تكون له دار، وبجوارها أرض ملحقة بها، فيشتري تلك الأرض بثمن مرتفع، رغبة منه أن لا يسكن فيها شخص لا يرغب في سكناه بجواره، فإذا أراد أن يبيع تلك الأرض فيما بعد فلا بد أن يقول رأس مالها كذا، واعلم أني قد اشتريتها لرغبة مختصة بي وهي كذا وكذا، حتى يكون المشتري على علم بأن رأس المال المذكور وقعت فيه زيادة، فلا يقع في غرر وجهالة.

قوله [أو بأكثر من ثمنها حيلة]

لو أن رجلا اشترى من آخر سلعة بثمن أكثر من ثمنها المعتاد، وكان البيع بينهما بيعا صوريا للاحتيال على الناس، ثم باعها على هذا الثمن وأنه هو رأس مالها ولم يبين ذلك للمشتري فهنا يثبت للمشتري الخيار.

أو كان اشترى السلعة حيلة لاستخلاص حقه كأن يكون له على زيد ألف درهم، فيشتري منه سلعة تساوي ثمانمائة ويقول: هذا مقابل ما في ذمتك، ويكون البائع مماطلا.

قوله [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]

ص: 103

كذلك إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبره بالثمن، ومثاله: أرض بعضها على الشارع العام، وبعضها على شارع ليس بعام، يرتفع به الأرض، فقال هذه الأرض التي مساحتها ألف متر اشتريتها بمائة ألف، ولك بعضها المحدد بخمسين ألفا، وكان هذا النصف يختلف عن النصف الذي هو سبب لرفع سعرها، فإن في ذلك غررا.

وهذا كله يكون في أشياء أبعاضها غير متماثلة، أما لو كانت أبعاضها متماثلة كأن يكون عنده طن من الشعير أو نحوه فيقول: هو علي بكذا وأبيعك نصفه بقسطه من الثمن، وأبعاضه لا تختلف فحينئذ لا حرج لعدم الغرر.

قوله [وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار..... يلحق برأس ماله ويخبر به]

مثاله ذلك: رجل اشترى من آخر دارا وكان الاتفاق على أن يكون ثمنها ألف درهم، وأثناء ما هم في مدة الخيار سواء كان خيار مجلس أم خيار شرط هم أحدهما بالفسخ فزيد في ثمن السلعة أو نقص منه من أجل ألا يقع هذا الفسخ، مثلا: اشتراها وكان الثمن المتفق عليه ألف درهم فهم المشتري بالفسخ أو خشي البائع أن يفسخ المشتري فقال: قد وضعت عنك مائة درهم، فحينئذ ثمنها تسعمائة درهم، أو خشي المشتري أن يفسخ البائع فقال: أزيدك مائة درهم، فأصبح ثمنها مائة وعشرة دراهم، فلا بد أن يخبر المشتري من أراد أن يشتري منه السلعة بعد ذلك بأن ثمنها كان كذا ثم آل إلى كذا.

قوله [أو يؤخذ أرشا لعيب]

فالثمن الذي يؤخذ أرشا لعيب لا بد وأن يخبر به، مثاله: اتفقا على أن هذه السيارة بعشرة آلاف، ولزم البيع، ثم ثبت فيه عيب، وقلنا بالأرش، فكان الأرش ألفا، فيكون رأس مالها تسعة آلاف، فإذا أراد المشتري أن يبيع السيارة بعد ذلك فيجب أن يخبر من سيشتريها منه أن سعرها كان كذا ثم آل إلى كذا، ومثل ذلك:

قوله [أو جناية عليه]

وكل هذا إذا كان في مدة الخيار، والعيب خياره عندهم على التراخي.

ص: 104

ومثال هذه الصورة: أن يكون له عبد قد اشتراه بمائة مثلا، فيجني عليه جناية تنقصه، وكانت هذه الجناية بخمسين، فلا يصح أن يبيعه برأس ماله ويقول إن رأس ماله هو مائة.

ومثله في مسائل السيارات إذا حدث فيها صدم أو نحو ذلك فلا بد أن يخبره، وإن كان قد أخذ ثمنا وأصلحها به، لأن السيارة تنقص بحدوث الصدم فيها.

أما إن كانت هذه الجناية لا تنقصه فلا حاجة لأن يخبر المشتري بها، لأنها لا تؤثر في الثمن، فيخبره برأس مالها الأصلي فقط.

قوله [وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يلحق به]

مثاله: اشترى سيارة بمائة ألف، ولزم البيع، ثم جاء البائع بعد مدة وقال به قد وضعت عنك ألفا من ثمن السيارة، فهذا لا دخل له في ثمن المبيع، لأنه يشبه الهبة، فالبيع لازم، وهو على ما اتفقا عليه، وما وقع بعد لزوم البيع أمر خارج عن ثمن المبيع، فلا حاجة إلى أن يخبر من اشتراها منه بعد ذلك بما حصل من البائع الأول.

قوله [وإن أخبر بالحال فلا بأس]

فإذا أخبر ببعض التفاصيل التي لا تؤثر في رأس المال فإن هذا أمر حسن، لأنه أبلغ في الصدق، فلو قال: إن البائع بعد أن تم العقد ولزم البيع وضع عني كذا، ونحو ذلك فإن هذا أحسن، وهذا أيضا قد يرشد المشتري إلى أن البائع الأول قد وقع عنده شيء من التردد في سعرها، وأن فيه شيئا من الغلاء، أو لحقه شيء من التورع عن بيعها بهذا السعر أو نحو ذلك.

قوله [السابع خيار لاختلاف المتبايعين]

هذا نوع آخر من الخيار، وهو خيار اختلاف المتبايعين، فإذا اختلف المتبايعين فإن الخيار في الجملة يثبت، وسيذكر المؤلف صورا من هذا.

قوله [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]

ص: 105

فإذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فالبائع يقول: بعته إياه بعشرين، والمشتري يقول اشتريته منك بعشرة، فقد اختلفا ولا بينة، أما إذا كان مع أحدهما بينة كشهود أو نحو ذلك فإنه يعمل بها، لكن حيث لا بينة أو كان مع كل واحد منهما بينة فتساقطتا فإنهما حينئذ يتحالفان، فيحلف البائع فيبدأ به، قالوا: لأن الحق في جانبه أولى، فإن السلعة بعد التحالف ترجع إليه وهو ربها أولا، وصاحبها سابقا فهو أحق بها، ولا شك أن مثل هذا لا أثر له، فإنه لو حلف المشتري فإن هذا تقديم في الألفاظ لا يترتب عليه تغير في الأحكام، ومثل هذا إنما يكون من باب الأولوية وليس بواجب كما هو المشهور في المذهب، ولا دليل يصار إليه في وجوب أن يحلف البائع أولا، فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، وهنا يقدم النفي على الإثبات، وعن الإمام أحمد أنه يقدم الإثبات على النفي، وأيضا هذه المسألة ليس فيها ما يقتضي إيجاب تقديم أحدهما من نص أو قياس، فإذا وقع النفي أو الإثبات فقد حصل المقصود، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ولكل منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، إذن لا يقع الفسخ بمجرد التحالف، بل إذا رضي أحدهما بعد هذا التحالف فإن البيع يقر، وهذا شبيه بتعارض البينات، فإن البينات إذا تعارضت فهذا لا يوجب الفسخ، ولذا إذا رضي أحدهما بعد ذلك فإن البيع يقر على ما هو عليه، فإن لم يرض أحدهما بقول الآخر فإن البيع يفسخ، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن القول قول البائع أو يترادان، فلا تخرج السلعة منه إلا بثمن يرضاه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا اختلف المتبايعان ولا بينة فالقول قول البائع أو يتتاركان) ، وفي رواية (والسلعة قائمة) لكن هذه الفظة معلولة لا تصح، أما ما يذكره بعض الفقهاء في هذا الحديث من زيادة لفظ (تحالفا) فلا أصل له في كتب الحديث كما قرر

ص: 106

هذا غير واحد من أهل العلم كالرافعي وابن حجر والألباني.

هذا إذا كانت السلعة قائمة، لقوله (يترادان)، فإن كانت تالفة فقال المؤلف:

قوله [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]

إذا كانت السلعة تالفة أي غير قائمة فإنهما يرجعان إلى قيمة مثلها وقت العقد، فينظر في قيمة المثل ثم يعطيه المشتري للبائع.

وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم - أي قيمة المثل - يثبت ولو كانت قيمة المثل أكثر من الثمن الذي رضي به البائع، مثاله: اختلفا فقال البائع ما بعته بمائتين بل بثلاثمائة، وقال المشتري ما اشتريته بثلاثمائة بل بمائتين، فقومت السلعة وكان قيمتها أكثر من ثلاثمائة، ومعلوم أن البائع قد رضي بالثمن الذي حالف المشتري عليه فزادت القيمة على هذا الثمن، لأن البائع والمشتري كلاهما متفقان على أن السعر لن يزيد على ثلاثمائة، فظهر أن السعر أكثر من ثلاثمائة، فقال شيخ الإسلام: يتوجه أنه إذا كانت القيمة أكثر من الثمن الذي رضي به البائع ألا يستحق القيمة، لاتفاقهما على عدم استحقاقه للزيادة، وهذا هو الظاهر فإن هذا التقويم إنما هو لإزالة هذه الخصومة التي وقعت بينهما، وكون القيمة تثبت بأكثر مما وقع عليه الرضا فإنه يكون خلاف المقصود، فالأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأن البائع يستحق قيمة المثل إذا كانت قيمة المثل مساوية أو أقل من القيمة التي رضي بها البائع، فإن كانت أكثر فإنه لا يعطى إلى هذه القيمة التي رضي بها، لأنه يقر أن العقد قد وقع عليها، ولا يريد أكثر منها، فكان إعطاؤه أكثر من الثمن زيادة على ما أقر به.

قوله [فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر]

إذا اختلف في صفة هذه السلعة التالفة فالقول قول المشتري، فإذا اختلفا فقال البائع: أنا بعت عليك العبد وكان كاتبا، وقال المشتري: لم يكن العبد كاتبا، فالقول قول المشتري، وهذا ظاهر لأنه غارم ومنكر، والقول حينئذ قوله، والبينة على الآخر.

ص: 107

هذا هو المشهور من المذهب في أصل هذه المسألة، وهي ما إذا كانت السلعة قائمة، وعن الإمام أحمد وهو قول الشعبي أن القول قول البائع، ففي المسألة السابقة القول قول البائع ولا يتحالفان، وهذا القول هو الراجح، ولكن بشرط وهو أن يثبت الخيار للمشتري، فيتحالف البائع أنه باعه بالثمن الفلاني، ولم يبعه بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن قبل المشتري فذاك، وإلا فله الفسخ، ودليل هذا ما ثبت في مسد احمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث صحيح وله طرق كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا اختلف المتبايعان ولا بينة، فالقول قول البائع أو يتتاركان)[حم 4431، د 3511، ت 1270، 4648، جه 2186] ، فهذا الحديث أثبت الخيار للمشتري كما أنه أثبت للبائع القول، ومن كان القول قوله فاليمين يمنيه، كما هو مقرر، وعلى ذلك فالراجح وهو ظاهر الحديث أن القول قول البائع، والمشتري له الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ.

قوله [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهرا وباطنا]

ص: 108

إذا قال أريد أن أفسخ العقد فإنه ينفسخ ظاهرا وباطنا، ظاهرا أي في ظاهر الحكم، وينفسخ باطنا أي في حقيقة الأمر، وعليه فلو كان أحدهما كذابا، فإنه له أن يتصرف في هذه السلعة أو في هذا الثمن - الذي فسخه من الأجر بغير حق - كما يتصرف في سائر ماله، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة التفصيل في هذه المسألة فأما الصادق فإنه ينفسخ عقده ظاهرا وباطنا، وأما من علم كذب نفسه فإن البيع ينفسخ في حقه ظاهرا كما تقدم، وأما في الباطن فإنه يكون ظالما مغتصبا آثما، وليس له أن يتصرف فيه، وتصرفه فيه تصرف بغير وجه حق، لأنه ملك مال غيره بطريق غير شرعي، وهذا هو الظاهر، وعليه فلو تبين له خطأ نفسه، وأنه ظن خلاف الواقع فإن عليه أن يذهب إلى الآخر ويستبيحه، أو يرجع إليه السلعة لأنها قد فسخت عليه بغير وجه حق، فكان ذلك حقا له، فيجب أن يعاد إليه حقه.

قوله [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]

اختلفا في أجل، بأن قال المشتري اشتريته منك على أجل، وقال البائع بل بعته عليك حاضرا لا آجلا، كأن يتفقا على عشرة آلاف، فادعى المشتري أنها مؤجلة، وقال البائع بل هي نقدا، أو اختلفا في شرط، فقال البائع أنا اشترط لنفسي الخيار شهرا، وقال المشتري بل لم تشترط ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول من ينفيه، أي من يقول لا أجل ولا شرط، سواء كان بائعا أو مبتاعا، وذلك تمسكا بالأصل، فإن الأصل في البيع أن يكون بلا أجل ولا شرط.

قوله [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]

تبايعا على أرض مساحتها 500 متر، ثم اختلفا، فقال البائع أنا بعتك الأرض التي في الموقع الفلاني، وقال المشتري بل التي في الموضع الآخر، فاختلفا في عينها، فإنهما يتحالفان ويبطل البيع، وذلك إن لم يرض أحدهما بقول الآخر فهي كالمسألة السابقة، أي كما إذا اختلفا في الثمن.

ص: 109

والصحيح في هذه المسألة كالمسألة السابقة أن القول قول البائع مع يمينه، ثم المشتري بالخيار، إن شاء رضي وإن شاء فسخ البيع، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا اختلف المتبايعان) وهذا عام في كل اختلاف بينهما.

قوله [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]

إذا تبايع رجلان، فقال البائع: أنا لا أسلم السلعة حتى يسلمني الثمن، وقال المشتري أنا لا أدفع الثمن حتى أستلم السلعة، وهذا إنما يقع حيث خيف الخيانة أو المماطلة أو نحو ذلك فحينئذ للمسألة صور:

الصورة الأولى: إذا كان الثمن عينا أي معينا وليس في الذمة كأن يقول: بعتك هذه السيارة بهذه العشرة آلاف، فهنا الثمن عين، فالحكم أنه ينصب عدل من قبل القاضي الشرعي يقبض منهما السلعتين - المبيع والثمن - ويسلم المبيع ثم الثمن لجريان العادة بتسليم المبيع ثم الثمن، وهذا الترتيب لا يظهر أنه على الوجوب بل هو على الأولوية، فلو سلم صاحب الثمن أولا قبل صاحب السلعة فلا حرج.

قوله [إن كان دينا حالا أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]

هذه هي الصورة الثانية: وهي إذا كان الثمن دينا أي في الذمة كأن يقول: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فالثمن في الذمة أي ليس معينا، ولا يريد أنه مؤجل، بل هو دين أي في الذمة، فهو متعلق في ذمته، فهنا الحكم فيه تفصيل:

ص: 110

1-

أن يكون حالا، فإنه يجبر البائع على التسليم ثم المشتري، فإن قيل لم قدم البائع بالدفع قبل المشتري؟ فالجواب: لأن العقد قد تعلق بعين السلعة، وأما الثمن فقد تعلق بذمة المشتري، وما تعلق بالعين فهو أولى، هكذا قال الحنابلة، ولا يخفى ما فيه، فإن المسألة حقوق لهما، ولا فرق بين أن يكون معينا وبين أن يكون في الذمة، وعليه فإذا سلم هذا قبل هذا أو هذا قبل هذا فلا حرج، لكن إذا ترتب على التقديم خصومة فإنه يقدم صاحب السلعة لتعلق الحق بعينها، ولأن العادة جرت بإعطاء السلعة قبل الثمن، وأما إذا لم يتقدم خلاف ولا خصومة فلا إشكال في مخالفة التقديم الذي ذكره الحنابلة.

قوله [وإذا كان غائبا في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره]

2-

أما إذا كان المال غائبا في البلد، بمعنى اتفقا على البيع والمال غائب في البلد، كأن يقول البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري قبلت، فهنا الثمن ليس حالا، ولكنه في الذمة، فإذا قال المشتري المال ليس معي الآن فمعناه أن المال الآن غائب، وليس هو مؤجل، لكنه غائب في الذمة، فالحكم أنه يعطى المبيع، أي تؤخذ السلعة من البائع وتعطى للمشتري ثم يحجر عليه فيمنع من التصرف في هذا المبيع ويمنع من التصرف ببقية ماله إن كان مؤثرا في إيصال الحق إلى صاحبه.

قوله [وإن كان غائبا بعيدا عنها والمشتري معسر فللبائع الفسخ]

فإن كان هذا المال الذي هو في الذمة غائبا بعيدا عنها أي عن البلد التي هو منها أو كان المشتري معسرا أي ليس عنده مال الآن وقد اتفقا على أن يكون الثمن حاضرا فللبائع الفسخ، لأن في ذلك ضررا ظاهر عليه.

ص: 111

وأولى من هذا أن يقال: إنه إنما باع بشرط أن يكون المال حاضرا يدفع إليه في نفس المجلس، أما والمال غائب بعيدا عنه فإنه لم يبايع على هذا، ولذا فالصحيح أن المال مطلقا إذا كان غائبا عن المجلس فليس على البائع أن يسلمه، وليس للقاضي أن يلزمه بالتسليم، وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الظاهر، لأنه قد يكون عليه ضرر أو مماطلة فليس عليه أن يخرج السلعة إلا على الشرط الضمني لهذا البيع، والشرط الضمني أنه إنما باعه على أن يعطيه ثمنها حاضرا وألا يؤخره تأخيرا يخالف ما تضمنه العقد من إعطائه في المجلس، فهذا هو القول الراجح كما تقدم، وعليه فيحبس البائع السلعة على الثمن.

وقال شيخ الإسلام:" وللبائع الفسخ إن ظهر من المشتري مماطلة " وصوبه في الإنصاف وهو كما قالا، فإن المماطلة ضرر، وحيث كان المشتري مماطلا فإن الخيار يثبت لأن الخيار يثبت لدفع الضرر.

وقول المؤلف (والمشتري) الواو بمعنى (أو) .

قوله [وثبت الخيار للخلف في الصفة ولتغير ما تقدمت رؤيته]

هذا نوع آخر من الخيار وهو خيار الحلف في الصفة، أي أن يصف له المبيع ثم يتبين أنه على غير ذلك، فله الفسخ لضرر، وقد تقدمت القاعدة السابقة وهي أن الخيار يثبت مع الضرر، وكذلك يثبت الخيار لتغير ما تقدمت رؤيته، مثاله: رأى فرسا عند البائع، ثم بعد يومين أو ثلاثة قال: بعني ذلك الفرس، فباعه وكان قد طرأ عليه تغير، وقد تقدم أن الرؤية يشترط فيها أن تكون مع العقد، وقبله بوقت لا يتغير فيه المبيع، فإذا ثبت تغير المبيع فإن هذا غرر فيثبت له الخيار للحوق الضرر به كما تقدم.

فصل

قوله [ومن اشترى مكيلا ونحو صح ولزم بالعقد]

ص: 112

من اشترى مكيلا ونحو كالموزون أو المعدود أو المذروع، وظاهر كلام المؤلف عموم الحكم في الأطعمة وغيرها، فكل مكيل أو موزون أو مذروع أو معدود سواء كان مطعوما أو غير مطعوم، فإذا اشترى منه شيئا فإنه يصح ويلزم بالعقد، وهذا ظاهر، وذلك لأنه بيع قد توفت فيه شروط البيع فهو بيع صحيح ولازم ما لم يكن خيار كما تقدم.

قوله [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]

وهذا هو المراد هنا، فمن اشترى طعاما أو نحوه سواء كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه، وسيأتي الكلام على القبض إن شاء الله.

ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه)[خ 2133، م 1526] ونحوه من حديث ابن عباس وفيه أن ابن عباس قال:" أحسب كل شيء كالطعام "[م 1525] وهذا من قياس الصحابة وهو من أصح القياسات.

وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه)[حم 14892، حب 11 / 358 برقم 4983، هق 5 / 313، طب 3 / 196]، وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه، قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ)[خ 2132، م 1525]

وعن الإمام أحمد أن هذا الحكم خاص بالطعام، لقوله صلى الله عليه وسلم:(من ابتاع طعاما) وهذا القول ضعيف، فإن قوله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاما) هو من باب ذكر بعض أفراد العام، وهو لا يدل على التخصيص كما تقدم، وقد تقدمت أدلة عامة تدل على أن الحكم عام في كل مبيع كما في حديث حكيم بن حزام:(إذا ابتعت بيعا) ، ولأن غير الطعام كالطعام، فإن العلة ثابتة فيه كثبوتها في الطعام، ولذا قال ابن عباس:" أحسب كل شيء كالطعام "

ص: 113

والعلة والله أعلم كما بينها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن البائع قد يمتنع عن تسليم المبيع أو يماطل أو يجحد أو يحتال، ولا سيما إذا ثبت له أن المبتاع قد ربح في بيعه.

وقول الحنابلة بالمنع من التصرفات كلها كما قيده المؤلف هنا بقوله: (ولم يصح تصرفه فيه) فإن هذا منع من كل تصرف، فليس له أن يهبه أو يؤجره أو نحو ذلك، هذا ما ذكره المؤلف وهو أحد القولين في المذهب والمشهور في المذهب، واختاره شيخ الإسلام أن المنع مختص بالبيع، وأن له أن يهب أو يحيل به ونحو ذلك وله الإجارة كذلك، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وقد تقدم الحديث:(ولا ربح ما لم يضمن) فهو في ضمان البائع كما سيأتي تقريره، فنهى الشارع إن أن يربح فيه وهو ليس في ضمانه، والربح إنما يكون بالبيع، وهذا للمفسدة المتقدمة، وإن كانت الإجارة فيها ربح لكنه ليس في معنى البيع، ولا يلجأ - في الغالب - البائع إلى جحود أو مماطلة أو نحو ذلك لتصرف المشتري بالإجارة، وهذا القول هو الراجح، وأن للمبتاع أن يتصرف قبل القبض بأي تصرف كان سوى البيع، لأن الشارع نهى عن البيع، وليس سوى البيع بمعناه.

قوله [وإن تلف قبله فمن ضمان البائع]

إذا تلف قبل القبض فمن ضمان البائع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق قال:(ولا ربح ما لم يضمن) ولذا نهى المبتاع عن البيع لأنه ليس في ضمانه، ويده لم تقع عليه بعد، والضمان إنما يكون على ما وقعت عليه اليد، فالضمان على البائع، فمثلا: تبايعا سلعة، وقبل أن يقبضها المشتري تلفت، فهذا في ضمان البائع، وعليه فيرجع المشتري بثمنه على البائع، لأنها ليست في ضمانه.

قوله [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]

ص: 114

إذا حصل للمبيع كالدار ونحوها آفة سماوية، كأن ينزل المطر على الطعام فيفسده، وذلك قبل أن يقبضه المشتري، فإن البيع يبطل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع ليس في ضمانه.

قوله [وإن أتلفه آدمي خير مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]

إذا أتلفه آدمي سواء كان المتلف البائع أو غيره خير المشتري بين الفسخ، لأنه قد تلف وهو في ضمان البائع، فله أن يفسخ، وله أن يمضي البيع لإمكانيته إتمام البيع، ثم يطالب متلفه ببدله، لأنه ملك له بالبيع، لكنه ملك غير مضمون، فبالنظر إلى أنه غير مضمون يمكنه فسخه، وحينئذ يرجع بالثمن على البائع، وبالنظر إلى الملكية فهو مالك له فيرجع على المتلف بمثله إن كان مثليا أو بقيمته إن كان مقوما.

قوله [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]

قوله (وما عداه) أي ما عدا:

1-

المكيلات.

2-

الموزونات.

3-

المعدودات.

4-

المذروعات، بالإضافة إلى:

5-

الموصوف الذي لم ير.

6-

ما كانت رؤيته متقدمة على العقد.

فهذه الست لها الحكم المتقدم وهو أنه لا يجوز بيعها إلا بعد قبضها.

وإنما ألحقوا الموصوف وما رؤي رؤية متقدمة بالمكيلات ونحوها بجامع حق التوفية، فإن المكيل لا بد أن يقبضه المشتري بما اتفقا عليه من الكيل، فلا بد أن يعطى حقه وافيا كاملا في المكيل بالصاع، وفي الموزون بالكيلو، وفي المعدود بالعدد، وفي المذروع بالذرع، ولا بد أن يستوفي حقه كاملا، وكذلك المبيع بالصفة فإنه لا بد أن يعطيه المبيع على الصفة التي اتفقا عليها، وكذلك المعقود عليه عقدا برؤية متقدمة، فلا بد أن يستوفى، بأن يعطى المبتاع هذه السلعة كما كان رآها بالرؤية المتقدمة، فهذه الست لا يحل للمبتاع أن يتصرف فيها حتى يقبضها، وأما ما عداها فإن له أن يتصرف فيه قبل قبضه، كالأرض وكالدار، وفيما يباع جزافا.

ص: 115

والمبيع جزافا (1) صورته: بيعه كومة من الطعام من غير أن يذكر له كيلها، فهذه الصور السابقة يجوز للمشتري أن يتصرف فيها قبل القبض، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، ولعلهم يستدلون بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر وابن عباس:(من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) وفي رواية (حتى يقبضه) ، فكأن عندهم النهي إنما هو فيما يحتاج إلى استيفاء، وهذا إنما يكون في الأشياء الستة التي سبق ذكرها، وذهب الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن هذا الحكم ليس خاصا بهذه الست بل هو عام فيها وفي غيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم:(حتى يقبضه) ، والحقيقة أن الاستيفاء ليس هو القبض، وعليه فيكون الحكم حتى يستوفيه وحتى يقبضه، ويدل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال:(كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم)[خ 6852، م 1527] ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم [د 3499] ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام جزافا وهو ليس بمكيل، ومع ذلك فقد نهى أن يباع حتى ينقل من موضعه - أي موضع البائع - إلى موضع المبتاع، لأن العلة الثابتة فيما يحتاج إلى استيفاء ثابتة أيضا فيما لا يحتاج إلى استيفاء، فالعلة الثابتة في الست المتقدمة ثابتة في غيرها.

قوله [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه]

(1) - بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها جائز، نص عليه أحمد، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لأنه علم ما اشترى بالرؤية التي هي أبلغ الطرق فلا يحتاج إلى معرفة المقدار.

ص: 116

قوه (فمن ضمانه) أي من ضمان المشتري، فما عدا المبيع بكيل ونحوه - وهو ما تقدم من الأصناف الستة - هو من ضمان المشتري، وذلك لأنهم يرون أنه يجوز له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن ربح ما لم يضمن) فدل هذا على أن ما عدا الأصناف الستة هو من ضمان المشتري لأنه ربح فيه، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لا يحل له أن يربح فيه، لأنه ليس بضامن، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في ضمانه، فليس له أن يربح فيه.

قوله [ما لم يمنعه البائع من قبضه]

إذا قلنا إنه في ضمان المشتري ولكن منعه البائع من قبضه فإنه يكون في ضمان البائع، لأنه غاصب له، فكان في ضمانه، كما أن الغصب في ضمان الغاصب، وهذا على القول بأنه من ضمان المشتري، وأما على القول بأنه في ضمان البائع كما تقدم ترجيحه فلا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة فالكل من ضمان البائع.

لكن إن بذله البائع فأبى المشتري استلامه، فهو من ضمان المشتري.

قوله [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك]

فما بيع بكيل يكون قبضه بكيله، والمكيل يكون بالصاع، وما بيع بوزن يكون قبضه بوزنه، وذلك بالكيلو والرطل ونحوهما، وما بيع مذروعا فقبضه بالذرع وهكذا، وعن الإمام أحمد أنه لا بد من قبض ذلك، فإن مجرد الكيل والوزن والذرع والعد ليس بقبض، فلا بد من أن يخلي بينه وبين السلعة، وهذا القول هو الراجح، فإن مجرد الوزن والذرع والكيل والعد ليس بقبض ما دام في يد البائع، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر قال:(كنا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام - وهذا يشمل الطعام الجزاف والمكيل - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه)[خ 2124، م 1527] وعليه فمجرد الكيل والوزن والعد ليس بقبض، وإنما هو استيفاء.

ص: 117

قوله [وفي صبرة وما ينقل بنقله]

الصبرة: هي الكومة من الطعام، وقبضها يكون بنقلها لأنها لم تبع كيلا بل بيعت جزافا، وقبضها في العرف بنقلها، وكما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه الأمر بنقلها.

قوله [وما يتناول بتناوله]

أي ما يعطي باليد فقبضه يكون بإعطائه باليد، وهذا هو القبض عرفا فيه.

قوله [وغيره بتخليته]

فالأرض والدار والمركوبات ونحو ذلك قبضها يكون بتخليتها من غير مانع، فإذا خلى بينه وبينها وليس ثمت حائل فهذا هو قبضها عرفا، وعلى هذا فالقاعدة أن القبض هو ما يثبت أنه قبض في العرف.

قوله [والإقالة فسخ]

الإقالة: هي أن يأذن البائع بإرجاع السلعة إليه بثمنها، أي بعد لزوم العقد، فالإقالة فسخ، وهي سنة مستحبة، وفي سنن أبي داود:(من أقال مسلما بيعة أقال الله عز وجل عثرته)[د 3460، جه 2199] ، وهي فسخ وليس بيعا، أي إزالة ورفع، وهذه حقيقتها، وعليه فتجوز قبل قبض المبيع، وهذه هي مناسبة ذكر الإقالة هنا، وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن الإقالة بيع، لأنها نقل الملك بعوض على جهة التراضي، والراجح الأول، وهي فسخ للعقد من حين الفسخ، وهو المذهب واختاره شيخ الإسلام، وعليه فيكون النماء للمشتري.

قوله [تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]

فإذا قلنا إن المشتري ليس له أن يبيع السلعة حتى يقبضها، وقلنا إن الإقالة ليست بيعا، فإنها جائزة قبل أن يقبض السلعة.

وظاهر كلام المؤلف أن البيع إلى البائع قبل القبض غير جائز، ولذا ذكر الفسخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة من آخر، وقبل أن يقبضها هذا المشتري رغبت نفس البائع فيها، وقال اشتريها منك بأكثر، فهل يجوز هذا؟

ص: 118

ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ولذا أجازوا الفسخ هنا، فظاهره - وقد صرحوا به - أن إرجاع السلعة إلى البائع قبل القبض على سبيل التبايع غير جائز، وفي هذا ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية جواز ذلك، وذلك لأن العلة السابقة منتفية، فإن الشارع إنما نهى عن بيع السلع قبل قبضها خشية الجحود والمماطلة وامتناع البائع من تسليم السلعة، أما والسلعة بيده - أي بيد البائع - فإن هذا انتفاء للعلة المتقدمة، وعليه فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام أن البيع على البائع جائز قبل القبض لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

إذن الإقالة فسخ، ولو قلنا إنها بيع كما هو مذهب بعض أهل العم كالإمام مالك فالحكم كذلك، على أن الصحيح أن الإقالة فسخ لأنها لا تعدوا أن تكون إزالة ورفعا للبيع، وليست بيعا مستأنفا.

* وهنا على المذهب تجوز الإقالة قبل القبض بمثل الثمن، لأنها إن لم تكن بمثل الثمن بل كانت بأكثر منه أو بأقل فإنها بيع، لأنها أصبحت هنا معاوضة.

قوله [ولا خيار فيها ولا شفعة]

فلا خيار فيها لأن الخيار إنما يثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وكذلك لا يثبت فيها شفعة لأنها إنما تثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وسيأتي الكلام على الشفعة في بابها.

* مسألة:

حكم الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني؟

الحنابلة ذكروا أنها جائزة، وفي هذا نظر، وذلك لأنه ليس المقصود قضية التبايع بل المقصود الانشغال عن الجمعة، ويقع في الإقالة ما يقع في البيع من الانشغال عن صلاة الجمعة، وهذا أمر ظاهر.

* هل تكون الإقالة حيلة على الربا؟

الجواب عن هذا أن يقال إنها لا تكون حيلة على الربا مطلقا وذلك لما تقدم من أن الإقالة لا تصح إلا أن يكون الثمن واحدا، فلا تسمى إقالة مع ربح، لأن الإقالة تبرع، فلا تكون بأقل من الثمن ولا أكثر، فإن كانت بأقل من الثمن أو أكثر فهي بيع وليس بإقالة.

باب الربا والصرف

ص: 119

الربا في اللغة: الزيادة، قال تعالى {فإذا أنزلنا عليا الماء اهتزت وربت} ، وأما اصطلاحا: فهو زيادة في شيء مخصوص، ويتضح هذا التعريف في الكلام على أحكام الربا إن شاء الله.

وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فمنه قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها - أكل الربا) متفق عليه [خ 2767، م 89] وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)[م 1598] أي في الإثم، ونحوه في البخاري من حديث أبي جحيفة [خ 5962]، وآكل الربا: أي آخذ الزيادة، وهو المتاجر بالربا، وموكله: هو دافع الربا، وكاتبه وشاهديه كذلك في الإثم، لأنهم قد أعانوا على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}

والصرف: بيع نقد بنقد، أي بيع دراهم بدراهم، أو بيع دراهم بدنانير، اتحد الجنس أو اختلف.

قوله [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه]

يحرم ربا الفضل باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت:(الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) رواه مسلم [م 1587] فهذا الحديث صريح في ربا الفضل، وهو كما عرفه المؤلف بقوله (في مكيل أو موزون بيع بجنسه) كأن يبيع برا ببر، فالطرف الأول يدفع مائة صاع، والآخر يدفع تسعين صاعا، فهذا من ربا الفضل، فليس فيه تأخير، بل فيه حلول، لكن فيه فضل.

ص: 120

وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في نسيئة)[خ 2179، م 1596] فإن قيل: هذا الحديث مفهومه أن ربا الفضل جائز، وفي لفظ لمسلم:(إنما الربا في النسيئة)[م 1596] .

فالجواب أن يقال: لا يعارض منطوق قوله صلى الله عليه وسلم بمفهوم قوله، فإن حديث عبادة بن الصامت منطوقه يدل على تحريم ربا الفضل، وأما هذا الحديث المتفق عليه فمفهومه يدل على واز ربا الفضل، فلا يعارض المنطوق بالمفهوم كما هو متقرر في علم الأصول، وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم:(لا ربا إلا في نسيئة) أي أعظم الربا وأقبحه وأشده هو ربا النسيئة، والأمر كذلك كما إذا قيل لا عالم في المدينة إلا زيد، فلا يعني أنه ليس هناك في المدينة عالم سواه، ولكن المقصود أنه أعلم أهل المدينة، وهنا كذلك، وإنما حرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فتحريمه من باب سد الذرائع، وأما ربا السيئة فتحريمه تحريم أصلي.

وقوله (في مكيل) الكيل يكون بالصاع، والوسق، ونحو ذلك.

وقوله (وموزون) الوزن يكون بالميزان، كما يكون عندنا بالجرامات، وفي زمن متقدم بالأرطال.

وظاهر كلامه في قوله (في مكيل) أنه سواء كان الكيل مطعوما كالبر والتمر والشعير، أو كان غير مطعوم كالأشنان - وهو من المواد المنظفة -، ومثله كثير من الأدوية، فإن ك ذلك يجري في حكم ربا الفضل، والموزون كذلك سواء كان مطعوما كالسكر واللحم واللبن ونحو ذلك، أو كان غير مطعوم كالذهب وفضة، وهذا هو المذهب.

واعلم أن أهل العلم جميعا أجمعوا على تحريم الربا في الأصناف الستة المتقدمة في حديث عبادة، وهي: الذهب والفضة والبر والقمح والشعير والملك والتمر، فقد أجمعوا على تحريم ربا النسيئة فيها، وكذلك ربا الفضل في قول عامتهم كما تقدم، واختلفوا هل يقاس عليها غيرها أم لا؟

ص: 121

فقال الظاهرية وهو اختيار بن عقيل من الحنابلة إنه لا يقاس عليها غيرها، أما الظاهرية فجريا على قاعدتهم في نفي القياس، وهي باطلة، وأما ابن عقيل فإنه قد خفيت عليه العلة، فبقي هذا الحكم مختصا بالأصناف الستة، وذهب جماهير العلماء إلى القول بالقياس، أي إلحاق غيرها كاللحم واللبن وغير ذلك، واختلفوا في العلة الجامعة التي تثبت في الفرع ليثبت له حكم الأصل:

1-

فقال الحنابلة والأحناف: العلة في الذهب والفضة هي الوزن، وفي الأصناف الأربعة الباقية هي الكيل، فقالوا كل مكيل أو موزون سواء كان مطعوما أم غير مطعوم فإنه يحرم فيه الربا، وعليه فيجوز بيع المطعوم المعدود كالبيض بالبيض فضلا.

2-

وقال المالكية في علة الأصناف الأربعة أنها الاقتيات والادخار، وأن القوت هو ما يبني عليه الآدمي بدنه من الأطعمة المهمة والأصلية، والمدخر هو ما يدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة، ولا يفسد بالتأخير، كما يكون هذا في البر ونحوه، بخلاف الفواكه ونحوها فإنه لا يدخل في هذا، وفي معنى الاقتيات إصلاح القوت كملح ونحوه، وهذه علة ربا الفضل عندهم، وأما ربا النسأ فالطعم على غير جهة التداوي.

3-

وقال الشافعية العلة هي الطعم، سواء كان اقتياتا أو تفكها أو تداويا، فكل مطعوم سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن مكيلا ولا موزونا، وسواء كان قوتا أو مدخرا أو لم يكن كذلك، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(الطعام بالطعام) كما في بعض روايات حديث عبادة [م 1592]، وأجيب عنه بقول معمر رضي الله عنه كما في مسلم:" وكان طعامنا يومئذ الشعير "[م 1592]، فعليه قوله:(الطعام بالطعام) أي الشعير بالشعير.

ص: 122

4-

وعن الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والطعم، فإذا كان مكيلا مطعوما فإن الربا يثبت فيه، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بقيد: وهو أن يكون هذا الطعام قوتا أو ما يصلح القوت، وهذا هو أصح المذاهب، وهو أن العلة هي الكيل مع كونه قوتا أو ما يصلح القوت، وذلك لأن الأصناف الأربعة كلها قوت، أو ما يصلح القوت، وهذه العلة في الحقيقة هي العلة المؤثرة، فإن هذه أطعمة للناس، والناس يحتاجون إلى الطعام، ويتضررون بحسابه عليهم بالزيادة والنسيئة بما لا يتضررون فيما سواه، كما أنهم يتضررون بالأطعمة التي هي قوت لهم - وقد قام طعامهم عليها - بما لا يتضررون بغيرها من الأطعمة، وما ذكره المالكية من الادخار لا يظهر أن هذا مؤثر لتضرر الناس الأطعمة التي لا تدخر وهي قوت لهم كاللحم ونحوه، فأصح المذاهب ما هو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو جمع بين ما ذكره الشافعية والحنابلة والأحناف، فإن العلة عند الأحناف والحنابلة هي الكيل، وعند الشافعية هي الطعم، فجمعت فيها هذه الرواية وأضافت ما اشترطه المالكية وهو أن يكون قوتا، ومثله ما يصلح القوت، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الملح، هو ليس بقوت وإنما هو مما يصلح القوت، فهذه هي العلة في الأصناف الأربعة لكن بشرط الادخار.

وأما العلة في الذهب والفضة فعلى أقوال عند أهل العلم:

1-

فقال الحنابلة - كما تقدم - إن العلة هي الوزن، فكل ما كان موزونا فيجري فيه الربا بنوعيه، وإن لم يكن ذهبا ولا فضة، وهذا هو مذهب الأحناف أيضا، فالحنابلة والأحناف يتفقون في العلة في الأصناف كلها.

ص: 123

2-

وقال الشافعية والمالكية: العلة هي الثمنية، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، قالوا: العلة هي الثمنية وذلك لأن علة الوزن ليست بمؤثرة، وإنما قلنا إن الكيل مؤثر في الأصناف السابقة لأنه لا يمكن الحكم بالتفاضل بين الأشياء ومعرفة الفوارق بينها إلا بالكيل والوزن، ولذا سيأتي أن شيخ الإسلام لا يفرق بين الكيل والوزن في الأصناف المتقدمة، وأن الربا يجري فيها وإن كانت بالوزن لا بالكيل، فإن قضية الوزن ليست بمؤثرة لكن يعرف بها التماثل من عدمه، فالذهب والفضة نقدان، فهما قيم الأشياء وأثمانها، فهي العلة الحقيقية في الذهب والفضة، كما أن العلة في الأصناف الأربعة أنها قوت، فهي قوت أو ما يصلح القوت، ولو قلنا إن العلة هي الوزن لما كان هناك ربا في تعاملات الناس اليوم، لأن النقود اليوم لا توزن بل تعد عدا، وهذا مما يضعف القول بأن العلة هي الوزن.

والأوراق النقدية فيها علة الثمنية، فعليه هي أجناس ربوية تتعدد أجناسها بتعدد جهات إصدارها، فيجري فيها نوعا الربا، وهذا ما قررته هيئة كبار العلماء.

قوله [ويجب فيه الحلول والتقابض]

أي يجب أن يكون حالا مقبوضا، حالا في مجلس العقد، ومقبوضا أي يدا بيد، فإن تقابضا في غير مجلس العقد فإن ذلك لا يحل، لقوله صلى الله عليه وسلم:(الذهب بالذهب والفضة بالفضة) إلى أن قال: (يدا بيد) ، ولا بد كما تقدم أن يكون مثلا بمثل، فليس له أن يبيع برا وإن كان رديئا ببر طيب، أو بالعكس مع التفاضل، فهذا لا يجوز.

قوله [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا، ولا موزون بجنيه إلا وزنا ولا بعضه ببض جزافا]

هذه ثلاث صور ينهى عنها:

الصورة الأولى: قوله (ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا) ، فالبر يكال بالصاع، فلو باعه بالوزن - والمشهور في زماننا أنه بالوزن - فهذا لا يجوز، فلا يجوز بيع البر بالبر إلا أن يكون الحساب بالكيل.

ص: 124

الصورة الثانية: قوله (ولا موزون بجنسه إلا وزنا) فالسكر يوزن بالكيلوجرامات، فلو باعه الصاع فذلك لا يجوز، ولو علم التساوي بينهما.

الصورة الثالثة: قوله (ولا بعضه ببعض جزافا) فإذا قال: هذه كومة من التمر أبيعها عليك بهذه الكومة من التمر وهما لا يعلمان قدر كل كومة، فهذا لا يجوز.

أما الصورة الأخيرة فلا إشكال في النهي عنها، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:(مثلا بمثل) فالبيع جزافا ليس فيه تحقق المثلية، بل كال منهما جاهل بالمقدار، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.

وأما المسألتان الأوليان وما بيع المكيل جنيه وزنا، وبيع الموزون بجنسه كيلا، أي أن يبيع البر بالكيلوجرامات بدل أن يبعه بالآصع، ويبيع السكر بالآصع مكان الوزن، فهذا جائز، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام، وذلك لثبوت التماثل، والتماثل ثابت سواء باعه بالكيل أم بالوزن وهذا ظاهر.

قوله [فإذا اختلف الجنس جازت الثلاثة]

إذا اختلف الجنس كأن يبيع برا بشعير، جازت الثلاثة لعدم اشتراط التماثل، فلو باع ما يكال بالوزن، أو ما يوزن بالكيل، أو باعه جزافا فهذا كله جائز، فإذا قال: هذه الصبرة من الشعير أشتريها منك بهذه الصبرة من البر فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل، وعلى الترجيح المتقدم فلا إشكال في ذلك.

قوله [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا كبر ونحوه]

البر له أنواع، والتمر له أنواع، والشعير كذلك، فالجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا.

قوله [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان]

الأدقة جمع دقيق، وهو معروف، وهو الطحين.

ص: 125

والأدهان كدهن الذرة ودهن الزيتون ودهن السمسم، فهذه فروع الأجناس، فتعطى حكم أصلها فتكون جنسا، فعليه لا يجوز أن يباع طحين بطحين من البر إلا مع التماثل والتقابض، لا يجوز أن يباع خبز البر بخبز البر إلا مع التماثل والتقابض، ولا يجوز أن يباع دهن البر بدهن البر إلا مع التماثل والتقابض، وذلك لأن فروع الأجناس لها حكم الأصل. (1)

قوله [واللحم أجناس باختلاف أصوله]

فلحم الضأن والمعز هذا جنس، ولحم البقر جنس آخر، ولحم الإبل جنس ثالث، فالعبرة باختلاف أصوله، فهذه فصيلة المعز، ويدخل فيها الضأن ونحوه، وهذه فصيلة البر، ويدخل فيها الجواميس ونحوها، وهذه فصيلة الإبل فيدخل فيها أنواعها، فبيع لحم الإبل بلحم البقر يجوز بشرط التقابض، أما المفاضلة فهي جائزة لأن الأجناس هنا مختلفة، وأما بيع لحم البقر بحم البقر فلا يجوز إلا بالتقابض والتماثل لأنه جنس واحد.

قوله [وكذا اللبن]

فاللبن يتبع أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، وهكذا.

قوله [واللحم والشحم والكبد أجناس]

فاللحم جنس، والشحم جنس آخر، والكبد جن آخر، وهكذا بقية أجزاء الحيوان، فإنها أجناس مختلفة، وذلك لأن لكل منها اسم وحقيقة تختلف عن اسم وحقيقة الآخر، وعليه فبيع اللحم بالكبد يشترط فيه التقابض فحسب، وأما بيع اللحم من جنس واحد فلا بد فيه من التماثل والتقابض.

قوله [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه]

(1) - واختار شيخ الإٍسلام ابن تيمية أن ما صنع من الأجناس فإن خرج عن كونه قوتا خرج عن كونه ربويا، وهذا بناء على أن العلة مشتملة على جزء الاقتيات، وإن لم يخرج عن كونه قوتا فهو جنس مستقل ليس تابعا لأصله، وعليه فيجوز أن يبيع الخبز بهريسه، والزيت بالزيتون، والسمسم بالجريش، انظر الاختيارات الفقهية ص 188، وسيأتي من شرح الشيخ حفظه الله.

ص: 126

أي أنه ليس له أن يبيع لحم إبل ببعير، ولا لحم البقر ببقرة، أو لحم الغنم بغنمة، ونحو ذلك، وذلك للجهل بالتماثل، وتقدم أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع اللحم بالحيوان)[ك 1316] ، وله شاهد عند البيهقي من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه[هق 5 / 296، برقم 10349] ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، والعلة كما سبق هي الجهل بالتماثل.

قوله [ويصح بغير جنسه]

فلو باع كذا كيلو من لحم الإبل بضأن أو معز فهذا جائز إذا كان يدا بيد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فيجوز هذا ولو مع التفاضل، أما النسيئة فلا يجوز سواء كان بجنسه أم بغير جنسه، ويدل لهذا ما رواه الخمسة والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)[حم 19630، ت 1237، ن 4620، جه 2270، د 3356]، قال شيخ الإسلام:" إذا كان المقصود اللحم وإلا فلا " فإذا كان المقصود هو اللحم فإنه لا يجوز ذلك، وذلك لما تقدم في العلة في الربا وأنها هي القوت، فإذا كان المقصود هو اللحم فيحرم وإلا فيجوز، ولذلك ثبت في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم:(اشترى البعير بالبعيرين وبالثلاثة، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة)[كم 2 / 56، د 3357] وذلك لأن المقصود ليس هو اللحم، وإنما المقصود هو الركوب، وهذا جمع بين الأدلة، فعليه لا يجوز

بيع الحيوان - بقصد اللحم - بالحيوان.

قوله [ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه]

ص: 127

فلا يجوز له أن يبيع الحب كالبر بالدقيق وهو طحينه، وذلك للجهل بالتماثل، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز وزنا، وهذا هو الظاهر، فإن التفاضل إنما يقع في الكيل، وأما بالوزن فإن التماثل يعلم، وإنما يقع التفاضل في الكيل لأن الدقيق سيكون أكثر بكثير من الحب لوجود مسافات بين الحبوب، وعلى هذا فالراجح هو الرواية عن الإمام أحمد أن بيع الدقيق بحبه جائز إذا ثبت التماثل بالوزن.

وقوله (ولا سويقه) والسويق هو أن يضعه على النار حتى يأخذ شيئا من الحمرة، ثم يوضع عليه شيء من الزيت والماء ونحو ذلك، فلا يجوز له أن يبيع الحب بالسويق، ولا يجوز أن يبيع الدقيق بالسويق لعدم معرفة التماثل، لأن السويق قد أضيف إليه شيء من السمن أو من الماء، وقد وضع على النار فلا يثبت حينئذ التماثل.

قوله [ولا نيئه بمطبوخه]

لا يحل له أن يبيع النيء بالمطبوخ، فمثلا بيع الحنطة بالهريس أو بيع البر بالخبز هذا لا يجوز لعدم معرفة التماثل.

قوله [وأصله بعصيره]

فالأصل مثلا الزيتون، فلا يجوز أن يباع بعصيره وهو زيت الزيتون، لعدم معرفة التماثل، والزيتون قالوا هو مما يجري فيه الربا، وزيته فرع عنه، والفرع له حكم الأصل.

قوله [وخالصه بمشوبه]

فلو باع حنطة خالصة بحنطة مشوبة فهذا لا يجوز، وذلك للجهل بالتماثل، أما إذا كان الشائب يسيرا بحيث لا يؤثر فإنه يجوز للعفو عن اليسير.

قوله [ورطبه بيابسه]

فلو باع مثلا رطبا بتمر فهذا لا يجوز، ويدل عليه ما ثبت عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا يبس، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك)[حم 1518، ن 4546، ت 1225، د 3359، جه 2264] ، والعلة ما تقدم وهي الجهل بالتماثل.

قوله [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة]

ص: 128

يجوز بيع الطحين بالطحين، فيجوز بيع طحين الشعير بطحين الشعير، بشرط أن يستويا في النعومة، لكن لو كان أحدهما فيه خشونة فلا شك أن التماثل لا يكون حينئذ معلوما.

قوله [ومطبوخه بمطبوخه]

يجوز أن يبيع المطبوخ بالمطبوخ، كالسويق بالسويق أو نحو ذلك.

قوله [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف]

يجوز بيع الخبز بالخبز إذا استويا في النشاف، أما إذا كان رطبا كالخبز الرطب مع الخبز اليابس فذلك لا يجوز لعدم معرفة التماثل.

قوله [وعصيره بعصيره]

فيجوز أن يبيع زيت الزيتون بزيت الزيتون بشرط التماثل.

قوله [ورطبه برطبه]

كأن يبيع رطبا برطب، فهذا جائز بشرط التماثل، فهذه الأجناس الربوية لا يحل بيع بعضها إلا إذا ثبت التماثل.

وقد نهى الشارع كما في الصحيحين عن المحاقلة والمزابنة، فالمزابنة: بيع الرطب على رؤوس النخل بالنخل - إلا ما سيأتي استثناؤه من العرايا - وبيع العنب على شجره بالعنب، فلا يجوز ذلك لعدم معرفة التماثل، وأما المحاقلة: فهي بيع الحب بعد أن يشتد في سنبله، بحب من جنسه، أما إذا باعه بشيء ليس من جنسه كأن يبيع برا في سنبله بشعير فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل.

** مسألة بيع العرايا.

ص: 129

اعلم أن العرايا جائزة بشروط، والعرايا جمع عرية، والعرية ما أفرد عن الجملة، أي ما أفرد عن شبيهه ونظيره في الظاهر، وقد دلت الأدلة الشرعية على الرخصة في العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر خرصا كيلا عند الحاجة إلى ذلك، بشروط سيأتي ذكرها، ففي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا)[خ 2193، م 1539] أي أجاز العرايا بشرط أن تباع بخرصها كيلا، فيأتي من عنده معرفة وخبرة بما يؤول إليه أمر الرطب إذا جف، فيقول هذه الأربعة آسق من الرطب إذا جفت فإنها تساوي ثلاثة آسق من النمر، فنعطيه ثلاثة آسق من التمر ويأخذ المشتري أربعة آسق من الرطب، ويجوز ذلك بشروط:

الشرط الأول: أن يكون المشتري محتاجا إلى ذلك ولا نقد عنده، فإن كان غينا قادرا على أن يشتري الرطب بماله فلا يجوز ذلك، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وإنما جاءت العرايا لرفع الحرج، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا)[م 1539] فدل على أن الغرض من إباحة العرية هو أكلها رطبا.

الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رخص في العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق)[خ 2382، م 1541] والشك من الراوي كما دل عليه رواية مسلم ورواية ابن حبان، وقد تقدم النهي عن المزابنة، فالأصل هو التحريم، وحيث ورد الشك فإن اليقين هو الأقل وهو فيما دون خمسة أوسق، وأما خمسة أوسق فلا تجوز لأنها مشكوك فيها، والأصل هو التحريم.

الشرط الثالث: التقابض، وذلك لأنه بيع ربوي بربوي، ولا يجوز بيع الربوي بالربوي إلا أن يكون ذلك تقابضا وتماثلا، وقد جوزنا عدم العلم التام بالتماثل، فبقي التقابض.

ص: 130

الشرط الرابع: أن يأكلها رطبا، فإن أكلها تمرا فلا يجوز، لأنها أجيزت للحاجة.

وهل هذا خاص في الرطب مع التمر، أم يدخل فيه العنب والزبيب كأن يشتري عنبا في شجرة بزبيب؟

قال الحنابلة: هو خاص في التمر مع الرطب، وقال المالكية: مثله في الحكم العنب مع الزبيب، وهذا هو الصحيح.

قوله [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما]

هذه مسألة مد عجوة، والمد: هو ربع الصاع، والعجوة: تمرة مشهورة، وهي من تمر المدينة، وصورة هذه المسألة: أن يباع مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهذا الدرهم ربوي بيع بجنسه، فدرهم بدرهم أو درهم بدرهمين ومع أحدهما شيء آخر، وهو هنا مد عجوة، وكذلك لو باع ذهبا بذهب وحرز، أو باع فضة بفضة ونحاس، ونحو ذلك، أو باع فضة ونحاس بفضة ونحاس، فهذا كله لا يجوز، ودليل هذه المسألة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث فضالة بن عبيد قال:(اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل)[م 1591] ، فهنا ذهب بذهب وخرز، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى يفصل، أي حتى يميز الذهب من الخرز، فيعرف مقدار الذهب، ويعرف مقدار الخرز، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن هذه المسألة يستثنى منها ما إذا كان الجنس المتميز أكثر من الجنس المختلط، أي الجنس المنفرد أكثر من الجنس المختلط، فحينئذ تكون الزيادة في المنفرد مقابل هذا الجنس الزائد، ومثال ذلك: باع عشرة دنانير بقلادة فيها تسعة دنانير وخرز، فحينئذ تسعة دنانير بتسعة دنانير، ودينار مقابل الخرز، وكذلك إذا باع مائة صاع من التمر بتسعين صاعا من التمر وكذا صاعا من الشعير أو الأقط، فهذا جائز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وذلك لأن الأصل في البيوع الحل، ومن باع تسعة دنانير

ص: 131

بتسعة دنانير، والدينار الزائد يقابله الخرز الزائد فإن هذا ليس فيه شيء محرم، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تفصل للمعرفة، وقد ثبت المعرفة، فإذا بيع المختلط بما هو منفرد، وكان المنفرد متميزا وأكثر من المختلط فهذا جائز وليس فيه حيلة على الربا، وهذا القول هو الصحيح، وعليه فإذا كان الجنس منفردا فيجوز أن يباع بجنس مختلط بشرطين:

الأول: أن يكون المنفرد أكثر من المختلط.

الثاني: ألا يكون هذا حيلة على الربا.

قوله [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى]

لا يجوز أن يباع مائة صاع من التمر الذي أخرج نواه، بمائة صاع من التمر ذي النوى، وذلك لعدم التماثل، والشرط في البيع التماثل.

قوله [ويباع النوى بتمر فيه نوى]

النوى عندهم جنس ربوي لأنه يكال، فإذا باع نوى بتمر فيه نوى كأن يبيع مائة صاع من النوى بخمسة آصع من التمر الذي فيه نوى فذلك جائز، وذلك لأن النوى في السلعة الثانية ليس مقصودا، بل المقصود هو التمر، وهذا باتفاق العلماء، فإذا بيع ربوي بسلعة أخرى فيها ربوي من جنسه، وكان هذا الربوي الذي من جنسه ليس بمقصود في البيع فإن ذلك جائز.

إذن المسألة السابقة وهي بيع ربوي بربوي من جنسه ومعهما أو مع أحدهما شيء زائد، وهي مسألة مد عجوة، هذا إن كان الربوي في السلعتين مقصودا، أما إذا كان الربوي في السلعتين أو في أحدهما ليس بمقصود فإن ذلك جائز،ومثله بيع دار فيها شيء من الذهب بذهب، فالمقصود بالبيع هو الدار وليس الذهب، فهذا جائز باتفاق أهل العلم، واختار أيضا شيخ الإسلام وذكر أنه ظاهر المذهب بيع السيف المحلى بالذهب بذهب، وبيع السيف المحلى بالفضة بفضة، فإن الفضة في السيف وكذلك الذهب ليس بمقصود، بل المقصود هو السيف فيجوز ذلك.

قوله [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف]

ص: 132

اللبن ربوي، والصوف عندهم ربوي لأنه موزون، والصحيح ما تقدم أن العلة ليست هي الوزن، بل العلة هي الثمنية، فإذا باع لبنا وصوفا بشاة ذات لبن وصوف، فيجوز ذلك، لأن المقصود هو الشاة نفسها ليس اللبن ولا الصوف الذي عليها، وهذا باتفاق أهل العلم كما تقدم.

قوله [ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم]

تقدم أن الحنابلة يعللون الأصناف الأربعة بأنها مكيلة، والذهب والفضة بأنهما موزونان، فإن قيل كيف يعرف المكيل وكيف يعرف الموزون؟ أي ما هي الأشياء التي تكال فيثبت فيها الربا، وما هي الأشياء التي توزن فيثبت فيها الربا؟

فمثلا: الصوف والحديد والنحاس هل هو موزون أم مكيل، ولا شك أن هذه المسألة لها أهمية، هذا على القول بما ذكروه من أن العلة هي الكيل والوزن، وإذا عرفنا أن هذا مكيل وهذا موزون فيجوز أن أبيع هذا بهذا، أي المكيل بالموزون، لأنه يجوز عندهم بيع المكيل بالموزون، فقال المؤلف إن مرد الكيل لعرف المدينة، وليس المراد ما هو قدر الصاع، بل المقصود ما هو المكيل، وما هو الموزون، فمرد الكيل لعرف المدينة، ومرد الوزن لعرف أهل مكة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)[ن 2520، د 3340] والحديث إسناده صحيح، فالصوف يوزن عند أهل مكة، وكذلك الذهب والفضة ونحوها، والمائعات تكال بالصاع، وكذلك التمر والبر، هذا في عرف أهل المدينة، فعرفنا الآن أن البر يكال لأن أهل المدينة يكيلونه، وأن الذهب يوزن لأن أهل مكة يزنونه.

قوله [وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه]

ص: 133

فما لا عرف له في مكة والمدينة فإنه يعتبر عرفه في موضعه، فإن كان مكيلا اعتبر، وإن كان موزونا اعتبر كذلك، فيرجع فيه إلى عرف أهل البلد، فإذا اختلف أهل البلاد فيه، فمنهم من يقول: هو مكيل، ومنهم من يقول هو موزون، فإنه يحكم بالغالب، فإن لم يكن ثمت غالب فإنه ينظر إلى شبهه بما هو مكيل أو بما هو موزون فيلحق به، فمثلا الجواهر شبيهة بالذهب والفضة فحكمها الوزن، والذرة شبيهة بالأرز فحكمها الكيل، وهذا كله على قول مرجوح في مسألة الوزن، والراجح أن الحكم راجع إلى مسألة الثمنية في الذهب والفضة، وقضية الكيل الذي يترجح أن المقصود فيها هو القياس، فسواء كان القياس بالكيل أو بالوزن فإن المقصود هو ما يعرف به التماثل، سواء كان بكيل أم بوزن، وقد تقدم قول مالك وأن العلة في الأصناف الأربعة هي الاقتيات والادخار ولم يذكر الكيل، لكن الكيل يحتاج إليه والوزن يحتاج إليه لمعرفة التماثل من عدمه.

فصل

قوله [ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا كالمكيلين والموزونين]

يحرم ربا النسيئة بإجماع العلماء، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) ، والنسيئة من النساء بفتح النون وهو التأخير، فربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا، وعلة الربا على المذهب الكيل والوزن، فلو باع بر بشعير ثبت فيه ربا النسيئة، لأن كلا منهما مكيلا، ومن باب أولى إذا باع شعيرا بشعير، وكذلك لو باع ذهبا بفضة، فهما جنسان اتفقا في علة الربا وهي الوزنية على المذهب.

ص: 134

وقوله (ليس أحدهما نقدا) هذا في باب الموزونات، فمن الموزونات عند الحنابلة النحاس والحديد والسكر ونحو ذلك، فلا يجوز - على القاعدة السابقة - بيع السكر بالدراهم، أو بيعه بالدنانير نسيئة، لأن السكر العلة فيه الوزن، فهو ربوي، وكذلك الدنانير والدراهم، فاتفقا في العلة، فاحتاج المؤلف إلى استثناء ما إذا كان أحدهما نقدا، لئلا ينسد بهذا باب السلم، وهو نوع من الديون في الموزونات، وهذا مما يدل على ضعف هذه العلة التي ذكروها، وهي علة الوزنية، فاحتاجوا إلى مثل هذا الاستثناء، وإلا فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد وهي أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية.

قوله [وإن تفرقا قبل القبض بطل]

مثاله: اشترى ذهبا بفضة، وتفرقا ولم يتم التقابض، فإن البيع بطل، لأن الشارع قد اشترط التقابض، وحينئذ فهذا البيع قد خلا من شرط الشارع، وكل ما خلا من شرط الشارع فهو باطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .

قوله [وإن باع مكيلا بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]

فإذا باع مكيلا كبر بموزون كذهب جاز التفرق قبل القبض لأن التقابض ليس بشرط، لأن العلة قد اختلفت، فالبر علته أنه قوت، والذهب علته الثمنية، وعلى قول الحنابلة البر علته الكيل، والذهب علته الوزن، فإذا اختلفت العلة جاز التفاضل والنسأ وهذا بالإجماع، ويدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رهن درعه عند يهوي على شعير أخذه لأهله) فهنا اشترى الشعير بالدراهم المؤجلة، وهذا كما سبق محل إجماع بين أهل العلم، وعلى هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) مقيد بالأجناس ذات العلة المتحدة، فصار عندنا الآن ثلاثة أنواع:

ص: 135

النوع الأول: بيع ربوي بجنسه، فلا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة كبر ببر.

النوع الثاني: بيع ربوي بجنس آخر يتحد هو وإياه في العلة، فيجوز فيه النسيئة دون التفاضل.

النوع الثالث: بيع ربوي بجنس ربوي آخر يخالفه في العلة فيجوز فيه النسيئة والتفاضل إجماعا.

* وهل يجوز بيع فلوس نافقة - أي غير كاسدة، بل يتعامل بها على أنها أثمان للأشياء - بدراهم أو دنانير نسيئة أم لا؟

قولان لأهل العلم، فذهب الجمهور أن بيع الفلوس النافقة بالدراهم جائز مع التفاضل إذا كان حالا، والفلس ما يساوي سدس الدرهم، ويصنع من غير الذهب والفضة، بل هو من جنس آخر، وهو موزون، وعلى الراجح هو ثمني، فعليه هو جنس ربوي، فإذا بيع بالدراهم أو بالدنانير مع التفاضل فهذا جائز لأن الأجناس مختلفة، وإذا اختلفت الأجناس جاز البيع، ولا يظهر أن الفلوس موجودة عندنا، وذلك لأن الأوراق والمعادن كلها في الحقيقة ذات مرجع واحد، فإنها بنفسها ليس لها قيمة، وإنما القيمة في مرجعها، وليس مرجعها ذهبا ولا فضة ولا شيئا محددا، وإنما ترجع إلى القيمة المادية للبلد، ويختلف هذا باختلاف نمو هذه البلدة من بترول أو معادن أو نحو ذلك، وعلى ذلك فهذه المعادن التي بأيدينا لا يظهر أنها جنس آخر، بل هي من جنس الريالات، فهذه أوراق وهذه معادن، ومرجعها واحد، ولو قلنا إن مرجعها مختلف فإنه يجوز فيها التفاضل كما يجوز في الفلوس النافقة، والصحيح خلاف هذا، فإن الصحيح أن مرجعها واحد، فإنه ينظر ما عند أهل البلدة من قدرة مادية ويؤذن لهم بقدرها من الصرف من الريالات، سواء صرفوها معادن أو ريالات، وساء كانت الريالات الورقية ذات درجة واحدة أو درجات مختلفة، وقد تقدم ترجيح ما ذهب إليه بعض أهل العلم وهو ما يفتي به هيئة كبار العلماء أن الريالات والدنانير والدولارات وغيرها أجناس مختلفة بحسب اختلاف جهات مصادرها، كما تقدم في كتاب الزكاة، فيجوز فيها

ص: 136

التفاضل دون النسيئة.

فهذه الفلوس النافقة التي كانت تصنع قديما لها قيمة معدنية بذاتها، وليست ذهبا ولا فضة بل هي جنس آخر، وعليه فيجوز فيها التفاضل بالذهب والفضة لأنها جنس آخر، وإنما الكلام هنا في جواز بيعها نسيئة، فهل يجوز بيع الفلوس النافقة بالدراهم أو بالدنانير نسيئة؟

قولان لأهل العلم، ومنشأ الخلاف هو هل الفلوس النافقة أثمان أم عروض؟ فإن قلنا هي أثمان فلا يجوز بيعها نسيئة بالدنانير أو بالدراهم، كما لا يجوز بيع الدراهم بالدنانير نسيئة، وهذا القول هو المشهور من المذهب وهو قول المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، والقول الثاني أنها عروض وليست أثمانا، وحينئذ فيجوز بيعها نسيئة كما يجوز أن يشتري ثيابا بدراهم نسيئة فهي عروض، وهذا مذهب الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة، وذكره صاحب الفروع اختيارا لشيخ الإسلام، والقول الأول هو الراجح فإنها أثمان، فالحكم للغالب عليها أنها أثمان، فيباع بها ويشترى كما يباع ويشترى بالذهب والفضة، فالحكم الغالب عليها هو الثمنية، وعليه فلا يجوز بيعها بالدراهم ولا بالدنانير نسيئة، أما التفاضل فجائز.

** مسألة:

المصوغ المباح من الذهب والفضة كحلي النساء ونحو ذلك مما يجوز للرجل كالخاتم من الفضة ونحوه، هل يجوز بيعه بالدراهم والدنانير تفاضلا - ولا إشكال في الدراهم - ولكن في الدنانير في مسألة التفاضل، والدراهم والدنانير في مسألة النسيئة، أم لا يجوز؟

وهذه المسألة توجد في أسواق الناس، فهل يجوز للرجل أن يشتري من بائع الذهب الحلي بدراهم إلى سنة، وهل يجوز أن يشتري منه هذا الحلي بذهب تبر مع تفاضل، فمثلا: يقول هذا الذهب عندي اعتبره تبرا ولا تعتبره مصاغا لأنه مستعمل، فخذ هذا الذهب وزنه كيلو جرام على أنه تبر، وأعطني تسعمائة جرام من الذهب المصاغ، فهل هذا جائز؟

ص: 137

اختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذا، ودليل شيخ الإسلام على جواز التفاضل والنسيئة أن الذهب بالصنعة قد خرج عن كونه ثمنيا، كما أن الفضة بالصنعة قد خرجت عن كونها ثمنية، فإن الذهب ليس بثمني ما دام مصوغا، بل هو من جنس عروض التجارة، وليس من الثمنية، ولذا لا يشترى به ولا يباع إلا مع أهله المختصين به من أهل الذهب والفضة الذين يعيدونه إلى أصله، فإنه لا شك أن صاحب الذهب المصنع لا يمكنه أن يبيعه بذهب غير مصنع مع التماثل، فإنه حينئذ يذهب قيمة أجرة صنعته، وحينئذ فيحتاج صاحب الذهب إلى أن يأتيه بدراهم، وقد يكون في هذا مشقة، وربا الفضل يباح عند الحاجة كما أجازته الشريعة في العرايا، فإن قيل إن الذهب المصنع شبيه بالتمر الرديء ومع ذلك فإن التمر الرديء لا يجوز بيعه بالتمر الجيد؟ فالجواب أن بينهما فرقا، فإن التمر الرديء، الرداءة فيه صفة خلقية، أي من خلقته، وليس هذا من صنع الآدمي، وأما هذه الصنعة فإنها صنعة آدمي، ويحتاج إلى أن يأخذ عليها أجرا، أضف إلى هذا ما تقدم من العلة في الأمور الربوية، فإن الحلي المصنع ليس بثمني، فيشبه الجواهر ونحوها، فإنه قد خرج عن كونه ثمنيا، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم هو الراجح، فعليه يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب وبيع الفضة المصوغة بالفضة مع التفاضل، قال صاحب الإنصاف:" وعليه عمل الناس "، والنسيئة كذلك جائزة لما تقدم، وقيده شيخ الإسلام بقيد ظاهر وهو ألا يكون بقصد ثمنيتها، فإن اشترى رجل من آخر ذهبا مصوغا إلى سنة بأربعين ألفا، وقصد الثمنية فلا يجوز، وأما إن قصد كونها حليا فلا بأس، وهذا لحديث فضالة، فإن قوله (فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) يدل على أنه قصد الثمنية، وأما ما رواه البيهقي عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فجاءه صائغ فقال: إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه على قدر عمل يدي، فنهاه عن ذلك

ص: 138

وقال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالجواب عنه: أنه كان يصوغ الذهب إلى دنانير، وهذه الصنعة غير مراعاة اتفاقا للمصلحة العامة المقصودة من ضرب الدراهم والدنانير، ولو روعيت لفسدت المعاملة ولا يعقل أن يأمره بإهمال صنعته فإن في ذلك إضاعة للمال، وأما إنكار أبي سعيد على معاوية بيعه آنية من فضة في مسلم، فإن ذلك لتضمنه مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان.

وقد التزم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في غير الذهب المصوغ من فروع الأجناس بهذا القول، ومعلوم أن فروع الأجناس لها حكم أصولها، كالخبز من الدقيق ونحو ذلك، فالتزما بهذه القاعدة فقالا: ما تكون فيه صنعة آدمي من الأجناس إن خرج عن كونه قوتا كالنشا الذي يصنع من الحنطة فإنه خرج عن كونه قوتا، وعلى هذا فليس بربوي، لزوال علة الربوية وهي الاقتيات، وإن لم تزل عنه العلة الربوية بل ثبتت فيه فهو جنس آخر منفرد بنفسه، فالخبز جنس، والحنطة جنس آخر، وهكذا فروع الأجناس، فعليه يجوز بيع زيت الزيتون بالزيتون، وبيع الخبز بالحنطة، وهذا لما في ذلك من صنعة الآدمي وعمله، فيحتاج إلى أجرة، لكن مع النسيئة لا يجوز لأن العلة الربوية متفقة.

وقوله (جاز التفرق قبل القبض) أي وإن كان التبايع ليس نسيئة، وقد اتفقا على أن يكون الثمن حالا، فتفرقا قبل القبض فهذا جائز، والنساء إذا اتفقا على التأخير.

قوله [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء]

ص: 139

وذلك لذهاب العلة الربوية، فيجوز النساء ويجوز التفاضل في الثياب والحيوان ونحو ذلك، ودليل هذا ما رواه أبو داود في سننه والحاكم والدارقطني وغيرهما والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)[سبق تخريجه]

والعلة على القول الراجح كما تقدم هي الثمنية في الذهب والفضة، والقوت في الأصناف الأربعة الآخر، والأظهر كما تقدم أنه متى أمكن التماثل فإنه لا يجوز ربا الفضل سواء كان بكيل أو وزن أو عد، فالريالات التي عندنا الآن لا توزن وإنما تعد فيقع فيها الربا، وكذلك لو قدر وجود بعض الأقوات وكان الطريق فيها غير الكيل والوزن فإن الحكم واحد لكونها قوتا، ولأن الضرر المترتب على جواز الربا فيها هو نفسه المترتب على غيرها مما هو مكيل أو موزون، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات.

قوله [ولا يجوز بيع الدين بالدين]

وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وروى الدارقطني بإسناد ضعيف ضعفه الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الكاليء بالكاليء)[قط 3 / 71، كم 2 / 57، هق 5 / 290] أي الدين بالدين، وصورة هذا أن يبيع على الرجل سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعه هذا الثمن بثمن آخر مؤجل، فيقلب عليه الدين بدين، فهذا لا يجوز، ولو زاد عليه الثمن مع التأجيل فهذا هو ربا الجاهلية وهو من أقبح الربا.

ص: 140

قال الحنابلة: ولا يصح المقاصة وهي عندهم من بيع الدين بالدين، وصورتها أن يكون على زيد لعمرو مائة دينار، ولعمرو على زيد ألف درهم، فيقول كل منهما للآخر أبرؤ ذمتك وتبرؤ ذمتي، فيتصارفان ولم يحضرا شيئا، فقال الحنابلة هذا لا يجوز، وذلك لو كان له على الآخر مائة صاع من الشعير وللآخر عليه خمسة آصع من البر، فقال أسقط الذي علي وأسقط الذي عليك، قالوا: لا يجوز ذلك، لأنه من باب بيع الدين بالدين، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب الأحناف والمالكية واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز وهو الراجح، لأنه لا محذور شرعي فيه، وفيه إبراء للذمم، والشريعة متشوفة إلى ذلك، فهذا القول هو الصواب، وقد تقدم ضعف حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين، وهذه المسألة لا إجماع فيها.

فصل

قوله [ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]

ص: 141

تقدم تعريف الصرف: وهو بيع نقد بنقد، كبيع دراهم بدنانير والعكس، أو بيع الفلوس النافقة بالدراهم والدنانير، فهذا هو الصرف، ومنه بيع الريالات بالدولارات، فإذا تصارفا الدنانير والدراهم والجنسان مختلفان، فإذا تفرقا قبل قبض الكل أو البعض يبطل العقد فيما لم يقبض، فإذا افترقا قبل قبض الكل فالعقد باطل كله، وإن كان في البعض فهو باطل فيما لم يقبض، مثاله: تصارفا مائة درهم بمائة دينار، فافترقا قبل أن يتقابضا في الكل، فالعقد كله باطل، وإذا افترقا قبل قبض البعض فأعطاه هذا خمسة دنانير وأعطاه الآخر خمسين درهما، وبقي على عقدهما خمسة دنانير تقابلها خمسون درهما، فيصح العقد في البعض دون ما تبقى، لتوفر الشروط في البعض، وتكون هذه المسألة من تفريق الصفقة التي تقدم الكلام على بعض صورها، أما الباقي فالعقد باطل لعدم توفر شروط الصحة، ومن شروط الصحة قول النبي صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .

قوله [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين]

ص: 142

كسائر السلع، وتقدم ذكر هذا، فإذا قال: بعتك هذا الشيء فإن البيع يكون قد وقع على هذا الشيء نفسه، بخلاف ما لو قال: بعتك ما وصفه كذا وكذا، فحينئذ لا يتعين، فمثلا إذا قال: ابتع عليك هذه العشرة دنانير بهذه المائة درهم، فحينئذ قد عينت الدراهم والدنانير، فتتعين فتكون الصفقة واقعة عليها بعينها كسائر العقود، فإذا قال: اشتريت منك هذه الشاة فإنها تتعين وتكون هي المبيعة، فلا بد أن يعطيه إياها، لأن العقد وقع عليها، بخلاف ما لو قال: اشتريت منك شاة وصفها كذا وكذا، وهذا مذهب جمهور العلماء أن الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، وقال بعض الحنابلة لا تتعين، لأن المقصود واحد وهو رواية عن أحمد ومذهب الأحناف، والقول الأول أظهر من حيث التعليل، لكن ذلك في زمانهم وأما في زماننا فإن المقصود واحد لأن الدنانير والدراهم في القديم لتعيينها قصد، ففيها الرديء والجيد، والمشوب والخالص.

قوله [فلا تبدل]

هذه من فروع المسألة، فلا تبدل لأن العقد قد وقع على عينها، فهي بمجرد العقد أصبحت ملكا للمشتري بعينها، وأصبح الثمن ملكا للبائع بعينه، فحينئذ لا يصح تبديله.

قوله [وإن وجدها مغصوبة بطل]

فلو ثبت أن هذه الدراهم مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، وذلك لأن البيع على عينها لا على وصفها، فثبت أنها مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، لأن السلعة قد ثبت أنها غير مملوكة، وما دامت غير مملوكة فلا يصح أن يصرف هذا بها، وعلى القول بأنها لا تتعين يجوز تبديلها وإن كانت مغصوبة صح البيع، ووجب البدل في ذمته.

قوله [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد]

ص: 143

إذا وجد الدينار فيه عيب أو هذا الدرهم فيه عيب فلا يخلو هذا العيب: إما أن يكون من جنسه - أي من جنس المعيب - وإما أن يكون من غير جنسه، فمثال ما كان فيه عيب من جنسه سواد في الفضة، وبياض في الذهب أو نحو ذلك، وأما ما كان فيه عيب من غير جنسه كأن يكون فيه شيء من النحاس أو أن يكون نحاسا أو تبين فيه غش، فهنا العيب ليس من جنسه، فإذا كان العيب من جنسه أمسك أو رد، فهو مخير بينهما، وليس فيه أرش إذا أمسك، لأنه إذا ثبت الأرش فهو ربا، لأن التفاضل محرم، وتقدم عدم ثبوت الأرش أصلا ولا دليل على ثبوته، وإن كان العيب من غير جنسه فحينئذ يبطل العقد، فلا خيار، وذلك لأنه قد ثبت أن العقد كان على غير المسمى، والرضا إنما وقع على أنه ذهب فبان أنه نحاس أو فضة أو حديد فليس هناك رضا.

قوله [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقا بدار إسلام وحرب]

فالربا محرم على المسلم مطلقا، سواء كان مع مسلم أو حربي أو ذمي، وسواء كان في دار حرب أو إسلام، لعمومات الأدلة الشرعية، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولا يحل للمسلم أن يكون طرفا في ربا، وأما ما روي أنه لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب لأن أموالهم مباحة، والجواب: أنها مباحة قهرا، وأما أخذها بمعاملة وعقد فيجب أن يوافق الشرع، ولما يترتب على ذلك من المفاسد في هذا العصر من ترك أموال المسلمين في البنوك الربوية التي بأيدي الكفار، ويقال أيضا لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام لأن الأمان على ماله أن يؤخذ قهرا، وفي الربا رضا منه.

* مسألة:

إذا باع سلعة بدراهم إلى شهر، فلما جاء الشهر أراد أن يدفع دنانير بدل الدراهم فهل يجوز؟

الجواب يجوز ذلك بشرطين:

ص: 144

الشرط الأول: أن تكون بسعر يومها أي يوم القبض.

الشرط الثاني: ألا يتفرقا بينهما شيء.

ودليل ذلك ما ثبت في الخمسة عن ابن عمر قال: قلت يا رسول الله: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه، وأعطي هذه من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا باس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)[حم 6203، ن 4582، د 3354، ت 1242، جه 2262] والحديث الصحيح فيه وقفه على ابن عمر، ولكن الأدلة الشرعية تدل على هذا الحديث، أما قوله (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) فإن هذا شرط في الصرف، وهو إذا حل الوقت فقال أريد أن أعتاض عنها دنانير بدل الدراهم فهذا صرف، ولا بد في الصرف من التقابض، وكونها بسعر يومها لئلا يربح ما لم يضمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(ولا ربح ما لم يضمن) .

باب بيع الأصول والثمار

الأصول جمع أصل وهو ما يتفرع منه غيره، كالدار والأرض والشجر، فالشجر أصل يتفرع منه الثمر، والأرض كذلك يتفرع منها ما فيها من غرس وبناء ونحوه، والدار يتفرع عنها ما فيها من بناء وأبواب ونحو ذلك، والثمار: جمع ثمر كالتمر ونحوه.

قوله [إذا باع دارا شمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمورين والخابية المدفونة]

فإذا باع رجل دارا أو وهبها أو أوقفها أو أوصى بها أو أقر بها فكل هذا في حكم البيع، فإذا باع دارا فإن هذا يشمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين أي الذين قد وضعا بالمسامير، والخابية وهي وعاء الماء إذا وضع في الأرض، وقيد الخابية بالمدفونة ليخرج ما لم يكن مدفونا كوعاء الماء الذي ليس بمدفون فإنه لا يدخل في هذا الحكم.

قوله [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر]

ص: 145

ما هو مودع فيها من كنز وحجر فإنه لا يدخل في الدار، لأن اللفظ لا يتناوله، فلا يملك بمجرد البيع، فمن باع دارا وفيها كنز فإن المشتري لا يملك هذا الكنز، لأن اللفظ لا يتناوله.

قوله [ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح]

فإن هذه وإن كانت من مصلحة الدار لكنها منفصلة عنها، فالضابط عندهم فما يدخل فيما يباع من الأصول: أن يكون من مصلحة الدار ومتصلا بها، فإن لم يكن من مصلحتها ولا متصلا بها أو كان من مصلحتها وهو غير متصل بها فإنه لا يدخل في البيع، والوجه الثاني في المذهب أن المفتاح ونحوه كالقفل يدخل، والصحيح أن الحكم في ذلك راجع إلى العرف، فما دخل في اللفظ عرفا فإنه يثبت ملكه بالبيع، لأنه كالشرط، وقد تقدم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فمثلا إذا قال بعتك هذه الدار، فإن العرف يدل على دخول الأرض والبناء والأبواب والأقفال والمفاتيح ونحو ذلك مما هو متصل بها ومن مصلحتها، والعرف لا يدخل الفرش ولا الأثاث، لكن إن اشترطه المشتري فالمسلمون عند شروطهم.

قوله [وإن باع أرضا ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]

قوله (ولو لم يقل بحقوقها) إشارة إلى خلاف، فالوجه الثاني في المذهب أنه إن لم يقل بحقوقها فإن غرسها ونحوه لا يدخل، إذن في المسألة قولان في المذهب:

القول الأول: أنه إذا قال بعتك هذه الأرض فإن غرسها وبناءها ونحوه يدخل وإن لم يقل بحقوقها.

ص: 146

القول الثاني: أن ذلك لا يدخل إلا أن يشترطه، فإن قال: اشتريت منك الأرض بحقوقها أو بما فيها أو قال البائع بعتك الأرض بحقوقها أو بما فيها دخل ما سبق وإلا فلا، والراجح ما تقدم من أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان العرف يقضي بأن بيعها - أي الأرض - يدخل فيه ما سبق فإنه يدخل فيه، وإلا فلا، والعرف حاليا لا يدخل الشجر، فمن باع أرضا وفيها شجر، فإن العرف لا يدل على أن الشجر داخل في البيع، إلا أن تكون الأرض أرضا زراعية، أما إذا كانت أرضا للبناء فلا يدخل فيها، لكن لو قال: بعتك هذا البستان أو بعتك هذا الحائط فإنه يدخل فيه ما فيه من شجر ونحوه.

* وهل يدخل فيه ما يكون منصوبا فيه من خيام ونحو ذلك؟

الجواب ما سبق من أن مرجع ذلك إلى العرف، لكن لو اشترطه فالمسلمون على شروطهم.

قوله [وإن كان فيها زرع كبر وشعير فلبائع مبقى]

إذا كان في الأرض بر وشعير فإنه يبقى للبائع إلى أول وقت الحصاد، هذا إذا لم يشترطه المشتري، فإذا أتى أول وقت الحصاد فإنه يجبر على حصاده، وهذا هو القول الأول في المذهب، وأنه يجب عليه أن يحصده أول وقت الحصاد ولو كان في الانتظار خير للزرع، والقول الثاني في المذهب أنه يبقى إلى كماله وتمامه لأن العادة قد جرت بذلك، فالعادة قد جرت بأن الزرع لا يحصد حتى يكمل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وهذا هو أحد القولين عند الحنابلة، وهو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.

قوله [وإن كان يجز ويلقط مرارا فأصوله لمشتر والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]

ص: 147

إن كان يجز مرارا كالبرسيم مثلا، أو يلقط مرارا كالقثاء مثلا، فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان للبائع وذلك لأن ما يجز ويلقط مرارا يلحق بالشجر من نخيل ونحوه، وذلك لأنه زرع ليبقى، فهو كالنخيل يتكرر جذاذه، فكما أنهما لو تبايعا في الأرض نخيل عليه ثمر، فالثمر للبائع، والنخيل للمشتري، كما سيأتي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله [وإذا اشترط المشتري ذلك صح]

فلو اشترط المشتري الجزة واللقطة الظاهرتين صح، فالمسلمون على شروطهم.

فصل

قوله [ومن باع نخلا تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ]

من باع نخلا تشقق طلعه، فهو متهيء للتأبير، فلم يبق إلا أن يؤبر، والتأبير هو التلقيح، فمن باع نخلا تشقق طلعه فإنه يبقى للبائع إلى الجذاذ، فله الثمر مبقى إلى أول الجذاذ، وبمجرد ما يبدأ الناس يجذون يؤمر هو بالجذاذ، والصحيح ما تقدم أنه يبقى إلى كماله.

قوله [إلا أن يشترطه المشتري]

فإن اشترط المشتري فإنه يكون له، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)[خ 2379، م 1543] قالوا: وإنما علق الشاعر الحكم بالتأبير لأنه ملازم للتشقق غلابا، فإذا تشقق فإنها تؤبر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن الحكم منوط بالتأبير، وذلك لظاهر الحديث المتقدم، ولأن التأبير يقع به فهل من المكلف بخلاف التشقق، فإنه لا فعل لمكلف فيه، وهذا القول هو الراجح وهو أن الحكم منوط بالتأبير، فإن باع نخلا وهو مؤبر فالثمرة للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وإن باعه ولم يؤبر بعد وإن كان متشققا فإن الثمرة للمشتري، والمذهب يعلق هذا بالتشقق، والراجح ما اختاره شيخ الإسلام.

قوله [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]

ص: 148

فكذلك تشقق ثمرها، فإنه إذا باعها تكون الثمرة للبائع، ،إن لم يتشقق فإن الثمرة للمشتري، ولم نعلقه بالتأبير لأنه لا تأبير فيه، والقياس حيث أمكن فهنا يلحق به قياسا حيث تشقق.

قوله [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]

فما ظهر من نوره أي من زهره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه أي وعائه كالورد والقطن فإن له نفس الحكم، فمن باع تفاحا أو مشمشا فإن كان قد خرج من نوره فهو للبائع، وإن لم يخرج من نوره فإنه للمشتري كالثمر المتشقق من النخل.

قوله [وما قبل ذلك والورق فلمشتر]

أي ما قبل التشقق والخروج من النور والخروج من الوعاء فإنه يكون للمشتري، وكذلك الورق والأغصان، فإنها للمشتري لأنها تبع للشجر، وقد ثبت الحكم للأشجار فورقها وأغصانها تابعة لها، وأما الثمر فما كان قبل التشقق أو التأبير في النخل فإنه للمشتري، وما كان بعد التشقق من سائر الثمار وبعد التأبير في النخل خاصة فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.

قوله [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه]

ص: 149

لا يباع النخل وهو رطب حتى يبدو صلاحه، ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه، فأما صلاح الثمر فبأن ينضج، فهذا هو بدو صلاحه، وهذا يختلف باختلاف الثمر، فمنه ما يكون باحمراره أو اصفراره، ولذا قال أنس لما قيل له ما زهوها قال:" أن تحمار أو تصفار "، والعنب جاء فيه حديث عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد)[حم 12901، ت 1228، د 3371، جه 2217] وهذا في العنب الأسود، وما لم يكن له علاقة باللون فإذا تهيأ لأن يطعم ويؤكل فهذا هو بدو صلاحه، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها) قيل: ما بدو صلاحها قال:" أن تذهب عاهتها " وهو من قول ابن عمر، فهو مدرج كما ثبت في بعض الروايات [خ 1486، م 1534] ومعنى " أن تذهب عاهتها " أي تذهب عنها الآفة السماوية المحتملة قبل نضجها، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم:(أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه)[خ 2199، م 1555] فالعلة هي أن الثمرة قد تمنع فتأتيها آفة سماوية قبل بدو صلاحها فبم يستحل البائع مال أخيه، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الثمار حتى تزهو) قيل وما زهوها؟ قال - وهو من قول أنس كما بينته بعض الروايات -: أن تحمار أو تصفار [خ 2196، 2197، م 1555] فهذه الأحاديث تدل على أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها محرم، وأن بيع الحب قبل اشتداده محرم أيضا، وهذا باتفاق العلماء.

قوله [ولا رطبة ولا بقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل]

الرطبة هي البرسيم، والقثاء هو الخيار، فلا يجوز بيع البرسيم والقثاء وكذلك الباذنجان ونحو ذلك دون الأصل حتى يبدو صلاحها.

ص: 150

قوله [إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]

فما يتكرر جزه أو يتكرر لقطه كالبرسيم والقثاء ونحوه لا يباع إلا جزة جزة أو لقطة لطقة، فيقول: أبيع عليك هذه الجزة، فإذا اشتراها، ثم نمت الجزة الأخرى باعها، وهكذا فيما يلقط، فبيع اللقطة الأولى يكون إذا خرجت وكذلك الثانية والثالثة وهكذا، وعليه فليس له أن يبيع البرسيم أو نحوه الذي قد بدا صلاحه الموسم كله، فمثلا: يأتي إلى مزرعة البرسيم فيقول: أبيع عليك هذا البرسيم تجزه ما شئت يعني كلما نبت منه شيء جززته، وهكذا حتى ييبس، وهكذا في القثاء ونحوه، فهذا لا يجوز، قالوا: لأنه معدوم، فالجزة الثانية معدومة، والبيع إنما يكون في الموجود لا في المعدوم، ولأن هذا المعدوم فضلا عن كونه معدوما فإنه لم يبد صلاحه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الأشياء حتى يبدو صلاحها، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز ذلك، وأنه يجوز أن يبيع المقثاة حتى ييبس ويجوز أن يبيع البرسيم حتى ييبس وذلك بعد بدو الصلاح، قالوا: لأنه لا غرر في ذلك، فإن أهل الخبرة يستدلون بجنس هذا الزرع على طيب ما يجز منه أو يلقط، وعلى كثرته ونحو ذلك، قالوا: ولأن في المنع من هذا حرجا ومشقة، ومثل هذه المسائل تجوز عند المشقة والحرج، قالوا: ولأنها لا تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، فإن هذا فيما يمكن الانتظار فيه حتى يبدو الصلاح، فلا يكون في ذلك مشقة ولا حرج، وأما هنا فإن بدو الصلاح فيه متكرر، فيشق انتظاره، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه هو القول الراجح في هذه المسألة دفعا للحرج، كما أنه يمكن أن يقال لأهل القول الأول: ماذا تقولون في بدو الصلاح في بعض ثمر النخلة الواحدة؟ فالجواب: أنهم يقولون اتفاقا يجوز بيعها إذا بدا صلاح بعض ثمرها دون الآخر، وذلك لأن النهي عن بيعها حتى يبدون صلاحها كلها فيه

ص: 151

مشقة، فإن الانتظار فيه مشقة، وكذلك على الراجح إذا بدا صلاح بعض النخل أو نحوه من نوع واحد، فإنه يحكم للباقي بالحكم نفسه إذا كان في بستان واحد، فيجوز بيعه حينئذ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعي، وعن الإمام أحمد أنه يمنع حتى يبدو صلاح كل الثمر، والصحيح هو ما تقدم وذلك دفعا للحرج، ويقال هنا كذلك في المسائل التي تقدم فيها اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

وقوله (إلا بشرط القطع في الحال) فإذا باع ثمرة لما يبدو صلاحها أو حبا لما يشتد بعد أو باع رطبة أو قثاء ولما يبدو صلاحها بشرط القطع في الحال فإن هذا جائز، وذلك لزوال العلة المتقدمة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أرأيت لو منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه) ، وهناك شرط آخر، وهو شرط قد تقدم في شروط البيع وهو أن يكون مما ينتفع به، أي يحصل به الانتفاع سواء بأن يكون طعاما للآدميين أو طعاما للبهائم أو نحو ذلك، فهذا كله جائز، والعلة قد زالت، وهذا هو مذهب الجمهور.

قوله [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]

إذا باع زرعا أو ثمر نخل فالذي يجب عليه حصاد الزرع وجذاذ ثمر النخل والذي يجب عليه أن يلقط هو المشتري، قالوا: لجريان العادة بذلك، فالعادة محكمة في مثل هذه المسائل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وحينئذ فإن كان العرف عن أن ذلك على البائع فإنه يعمل به إلا أن يشترط أحدهما خلاف العرف، كأن يكون العرف على أن الجذاذ على المشتري، فيشترط المشتري أن يكون على البائع فالمسلمون على شروطهم.

قوله [وإن باعه مطلقا أو بشرط البقاء.... بطل]

ص: 152

إذا باع الثمر مطلقا قبل بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال فالبيع باطل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وكذلك إذا باع الثمر قبل بدو الصلاح واشترط المشتري البقاء، أي بقاء الثمر حتى يبدو صلاحه، فهذا الشرط يخالف الشرع، فهو باطل والبيع باطل، ويستثنى من هذا ما تقدمت إشارة المؤلف إليه في قوله (دون الأصل) فإذا باع الأصل فإن الثمر يتبع، وإن لم يبد صلاحه، فلو أن رجلا باع نخلا وكان الثمر لم يبد صلاحه فذلك جائز، وهذا باتفاق أهل العلم، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.

قوله [أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]

إذا قال: أنا اشتري منك هذا الثمر قبل بدو صلاحه بشرط أن أقطعه في الحال، فلم يقطعه في الحال بل تركه حتى بدا صلاحه فالبيع باطل، وذلك لأن الشريعة إذا نهت عن الشيء نهت عنه وعن ذرائعه الموصلة إليه، ولا شك أن عدم إبطال مثل هذا العقد يؤدي إلى بيعه قبل بدو صلاحه من غير أن يشترط قطعا في الحال، وعليه فالثمرة تعاد إلى البائع والثمن يعاد إلى المشتري.

قوله [أو جزة أو لقطة فنمتا...... بطل]

إذا باعه جزة أو لقطة لم يبد صلاحها بشرط القطع في الحال فلم يقطعها في الحال بل تركها حتى نمتا فإن البيع يبطل لما تقدم.

قوله [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]

مثاله: قال أبيعك هذا الثمر الذي قد بدا صلاحه من هذه النخلة، فلم يلقط ما بدا صلاحه، وبدا صلاح بقية الثمر فاختلطا، فالحكم أن البيع باطل، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد، والصحيح في مذهب الحنابلة أي المشهور عندهم وهو ظاهر المذهب أن البيع صحيح، ولا دليل على بطلانه، وذلك للقدرة على تسليمه، ولأنه ليس فيه نهي يقتضي فسادا، وحينئذ ينظر فيما نما، فإن علم قدره أخذه البائع، فإنه نما في ملكه، وإن لم يعلم قدره تصالحا على شيء، فإن لم يتصالحا فلكل منهما الفسخ.

ص: 153

قوله [أو عرية فأتمرت بطل]

اشترى عرية فأتمرت فيبطل البيع، لأن الشارع إنما أجازها ليؤكل رطبا كما تقدم في قوله النبي صلى الله عليه وسلم:(يأكلونها رطبا) ، والشريعة إنما أجازتها للحاجة وهي أن تؤكل رطبا، فإذا أخرت حتى أتمرت فإن ذلك لا يجوز، ويكون البيع باطلا.

قوله [والكل للبائع]

فكل هذه الأشياء للبائع، فالعرية إذا أتمرت تعود إلى البائع، وحينئذ يرجع عليه المشتري بالثمن، وكذلك كل ما تقدم بطلانه فإنه يكون للبائع لأن البيع باطل، وحيث كان باطلا فإنه يرجع إلى البائع، وأما المشتري فله ما دفعه ثمنا.

قوله [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة أو اشتد الحب جاز بيعه مطلقا]

فإذا بدا صلاح الثمرة واشتد الحب جاز بيعه مطلقا، ودليل ذلك ما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ومفهومه جواز بيعها بعد بدو صلاحها، ولأن الأصل في البيوع الحل.

قوله [وبشرط التبقية]

إذا قال بعد بدو صلاح الثمر أشتري منك هذا الثمر بشرط أن يبقى حتى يكمل صلاحه حتى يجذ في الأوان المناسب له، فهذا جائز، والمسلمون على شروطهم، وقد تقدم أن البستان إذا بدا الصلاح في نخلة من نخلاته فيجوز بيع ثمره كله، ولا شك أن المشتري يحتاج إلى إبقاء الثمر في النخيل التي لم يد صلاح ثمرتها بعد، وربما أيضا احتاج إلى تبقية ما بدا صلاحه من الثمر حتى يكون نضجه أتم وأحسن، وهذا كله جائز، والمسلمون على شروطهم.

قوله [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]

فللمشتري التبقية إلى الحصاد والجذاذ وإن لم يشترط ذلك لجريان العادة بذلك، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وله أن يبيعه كذلك لثبوت القبض، فإن التخلية كما تقدم قبض.

قوله [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]

ص: 154

إذا اشترى منها لثمر واشترط تبقيته أو أبقاه إلى أوان الحصاد والجذاذ فإن السقيا واجبة على البائع لجريان العرف بهذا، لكن لو اشترط البائع أن السقيا تكون على المشتري فالمسلمون على شروطهم.

وقوله (وإن تضرر الأصل) أي بالسقي.

قوله [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع]

إذا أصابت الثمر أو الزرع بعد بيعه آفة سماوية فذلك منضمان البائع لا المشتري، والمسألة فيها قولان:

القول الأول: أن هذا منضمان البائع، كما هو مقرر في المذهب، وهو مذهب المالكية.

القول الثاني: أنه من ضمان المشتري لأنه قد تم البيع، وقد أقبضه المبيع، فكان من ضمان المشتري، وهذا هو مذهب الشافعية، والصحيح هو القول الأول لدلالة السنة عليه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لو بعت على أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تستحل مال أخيك بغير حق)[م 1554] وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بوضع الجوائح)[م 1554] ولذا قال المؤلف: وإذا تلفت بآفة سماوية رجع - أي المشتري - على البائع بالثمن، وذلك بشرط ألا يقع من المشتري تفريط، أما لو وقع منه تفريد وتأخر بالجذاذ فخرج الوقت المعتاد للجذاذ وحصلت آفة سماوية فحينئذ الضمان على المشتري لتفريطه، لأنه فوت على البائع الانتفاع بالثمر.

واعلم أن قول المؤلف (وإن تلفت بآفة سماوية) يعود على الثمرة، كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وأن وضع الجوائح مختص بالثمرة دون الزرع، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام والمجد ابن تيمية أن الزروع مقيسة على الثمار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وهذا المعنى ثابت في الزروع كما هو ثابت في الثمار، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مقتضى القياس الصحيح.

ص: 155

قوله [وإن أتلفه آدمي خير المشتري بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]

هذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة أن التلف الحاصل بغير آفة سماوية يكون الضمان فيه على المشتري وهو الراجح، وذلك لأن الآفة السماوية لا يمكن للمشتري أن يرجع على أحد بثمنه، فحينئذ يكون ذلك أكلا للمال بالباطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وقد سبق أن هذا إذا لم يكن هناك تفريط من المشتري.

أما ذا كانت الآفة غير سماوية فإن المشتري يمكنه أن يتدارك حقه بالرجوع إلى المتلف، فحينئذ نبقى على الأصل في الضمان، وأن الضمان يبقى على المشتري عند القبض، وقد تقدم أن البائع إذا باع الثمر وخلى بينه وبين المشتري فإن الضمان يكون على المشتري، وإنما استثنت الشريعة الجوائح للمعنى المتقدم، وقال بعض الحنابلة: إن ما قد يحدثه سارق أو لص أو عسكر أو نحو ذلك مما يشبه الآفة السماوية، وهذا أيضا راجح، فالصحيح أن التف إذا كان من آدمي يمكن الرجوع عليه فإن الضمان على المشتري، أما إذا كان من آدمي لا يمكن الرجوع عليه كالسارق والعسكر ونحوهما فهذا يشبه الآفة السماوية.

قوله [وصلاح بعض الشجر صلاح لها]

فإذا صلح في الشجرة بعضها فهذا الصلاح للشجرة كلها، وعلى هذا فيجوز أن يبيعها، وقد تقدم ذكر اتفاق أهل العلم عن ذلك.

قوله [ولسائر النوع الذي في البستان]

فإذا صلح بعض الشجر من النوع فإن سائر النوع قد بدا صلاحه فيجوز بيعه، كما هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، وتقدم الكلام على هذه المسألة.

قوله [وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر وفي العنب أن يتموه حلوا]

قوله (أن يتموه حلوا) أي أن يلين ويكون كالوعاء اللين المملوء ماء.

قوله [وفي بقة الثمار أن يبدو فيها النضج ويطب أكله]

وقد تقدم الكلام على هذا.

ص: 156

قوله [ومن باع عبدا له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]

لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع عبدا وله مال فماله لذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)[خ 2379، م 1543] فإذا اشترطه المشتري فقال: اشتريت العبد وماله، فإنه يكون له.

قوله [فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا]

إذا اشترى رجل عبدا ومعه مال، واشترط هذا المال وكان هذا المال هو مقصود المشتري بالبيع أي له قصد فيه فحينئذ لا بد من توفر شروط البيع ومنها العلم، فإذا كان مجهولا لا يدري ما هو المال الذي مع العبد فلا يصح البيع، وهكذا سائر شروط البيع.

وقوله (وإلا فلا) أي وإلا يقصد المال الذي معه فلا يشترط شروط البيع، وذلك للقاعدة الشرعية القائلة: يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، كما إذا باع الشجر وعليه ثمر لم يبد صلاحه فالبيع جائز، لأنه يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، وهاهنا باع عبدا وله مال، والمال مجهول وهو غير مقصود فالبيع صحيح لما تقدم.

قوله [وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري]

من باع عبدا فثياب الجمال أي التي تكون على العبد من ثياب الزينة ونحوها فإنها للبائع، وذلك لأن العادة لم تجر ببيعها معه، فإذا باع عبدا وعليه حلي من فضة وثياب جميلة تعد زينة فهذا كله للبائع، وأما ثياب العادة كثياب المهنة والخدمة التي تكون عليه وما يلبسه لستر العورة مما هو معتاد فهذا يدخل في البيع لجريان العادة ببيعه، ومثله لو باع سيارة وفيها أشياء معتادة يتسامح بمثلها فتدخل في البيع، وإلا فلا.

باب السلم

السلم والسلف مترادفان، فالسلم لغة حجازية والسلف لغة عراقية، وسمي السلم سلما لتسليم الثمن في مجلس العقد، وسمي سلفا لتقديم الثمن على المثمن، ففيه معنى السلف، والسلم عرفه المؤلف بقوله:

قوله [عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد]

ص: 157

كأن يقول: أبيع عليك كذا وكذا صاعا من البر، وصفته كذا وكذا - أي من جيده أو رديئه ونحو ذلك - بألف ريال حاضرة الآن، فهنا قد باع موصوفا في الذمة مؤجلا بثمن مقبوض في مجلس العقد، إذن فهو عقد على موصوف في الذمة، ولك أن تقول: هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، والمسلِم - بكسر اللام - هو دافع الثمن، وهو في الغالب التاجر، والمسلَم إليه - بفتح اللام - هو صاحب الحاجة، وهو دافع السلعة، وغالبا ما يكون صاحب حاجة، فإن السلم من بديلات الربا، والمسلَم فيه - بفتح اللام - هي السلعة المؤجلة الموصوفة في الذمة.

قوله [ويصح بألفاظ البيع والسلف والسلم]

يصح بألفاظ البيع - كل لفظ من ألفاظ البيع -، فلو قال: بعتك مائة صاع من البر إلى سنة بمائة دينار حاضرة، فهذا يعتبر سلما، لأن السلم من أنواع البيع، فيصح بأي لفظ من ألفاظ البيع، وقد تقدمت ألفاظ البيع، فلو قال: بعت أو اشتريت أو نحو ذلك صح، ويصح أيضا بلفظ السلم، كأن يقول: أسلمتك مائة ريال في هذا المجلس على أن تعطيني كذا صاعا من البر إلى سنة، ويصح بلفظ السلف كأن يقول أسلفك كذا وكذا من الدنانير على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة.

قوله [بشروط سبعة]

وهذه الشروط سوى شروط البيع التي تقدم ذكرها.

قوله [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع]

الصواب أن يقول: من مكيل وموزون ومذروع، أو كمكيل وموزون ومذروع.

فالشرط في المسلم فيه وهي السلعة أن تكون مما تنضبط صفاتها، من مكيل كالبر، أو موزون كالحديد مثلا، أو مذروع كالقماش، فهذه تنضبط صفاتها، أما إذا كانت لا تنضبط صفاتها، فهذا لا يجوز السلم فيه، لأنه يفضي إلى المنازعة، وما يفضي إلى المنازعة فهو ممنوع شرعا.

قوله [وأما المعدود المختلف كالفواكه]

الفواكه معدودة، وتتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا.

قوله [والبقول]

ص: 158

أي من الخضروات ونحوها كذلك، فالبقول مما يباع جزافا فهو كذلك، لأنه يتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، ولو قالوا: تعد بالحزمة ونحوها فإن الحزمة تختلف عن بعضها البعض اختلافا ظاهرا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن ذلك جائز، وأنه يوزن وزنا، وهذا هو الراجح، فإنه إذا وصف الفاكهة أو البقول ثم اتفقا على الوزن فإن ذلك جائز، ثم أيضا الحزم ونحوها أو الفواكه وإن اختلفت فإن هذا الاختلاف يسير وهو معفو عنه دفعا للحرج والمشقة، فالذي يظهر أن مثل هذا التفاوت اليسير لا بأس به، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيحين:(من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)[خ 2239، م 1604] وفي رواية البخاري: (من أسلف في شيء)[خ 2241] وهي لفظة عامة تدخل فيها الفواكه والبقول وغيرها.

قوله [والجلود]

فالجلود لا يجوز فيها السلم، لأنه يحصل فيها التفاوت، وذلك لأن أطرفها تتفاوت، فإن أطرافها ليست منضبطة كما يكون هذا القماش ونحوه، بل تكون متفاوتة.

قوله [والرؤوس]

أي رؤوس الحيوانات كذلك، لأنه يقع فيها التفاوت، ومذهب مالك وهو رواية عن أحمد أن هذا يجوز فيه السلم، وذلك لأن مثل هذا التفاوت في الحقيقة تفاوت معلوم لا تقع بمثله المنازعة، فهو تفاوت يسير.

قوله [والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم]

القماقم: جمع قمقم، وهو ما يسخن به الماء، فهذا كذلك لا يجوز فيه السلم، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز، لأن التفاوت في الحقيقة تفاوت يسير، ولأنه يمكن أن ينضبط في الوصف.

قوله [والأسطال الضيقة الرؤوس والجواهر]

ص: 159

فالجواهر لا يجوز فيها السلم، لأنها تختلف اختلافا ظاهرا وتتفاوت تفاوتا بينا، وذلك في شكلها وعددها وصفتها وضوئها ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد أن السلم في الجواهر جائز، ومرجع هذا ما تقدم: فإذا أمكن ضبطها فإنه لا إشكال في جواز السلم فيها، وتدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من أسلف فليسلف في شيء معلوم) ، ومرجع هذا إلى أهل الخبرة بالجواهر، فإذا كانت الجواهر يمكن أن تنضبط ولا يقع النزاع في السلم فيها فلا مانع منه.

قوله [والحامل من الحيوان]

فالحامل من الحيوان لا يجوز السلم فيه، فلا يجوز أن يقول مثلا: اشتريت منك ناقة حاملا إلى كذا بكذا، قالوا: لأن الحمل مجهول غير متحقق، فقد تلد وقد لا تلد، والرواية الثانية عن الإمام أحمد أن السلم في الحيوان الحامل جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن السلم بيع، وكما جاز بيع الناقة أو الشاة أو غيرها وهي حامل مع الجهالة، فكذلك هنا، لأنه ثبت تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، والأصل معلوم فلا عبرة بجهالة الحمل.

قوله [وكل مغشوش]

كاللبن المشوب، والجواهر المشوبة، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز السلم فيه، وهذا ظاهر، فإن وجود الغش فيه يجعله غير منضبط، وليس المقصود الغش الممنوع، وإنما المقصود أنه مشوب فيه شيء، أي أن تكون العين غير خالصة، بل قد أضيف إليها شيء آخر، فهذا لا ينضبط ويقع الخلاف في مثله، لكن لو ثبت لنا أنه يخلط به غيره بطريقة ثابتة في العرف متميزة ظاهرة فحينئذ لا يقال إن هناك ما يمنع، فلو أسلم في لبن مشوب، وكان العرف يقضي بقدر ما يكون من الخلط، فإنه لا مانع حينئذ من السلم فيه للقاعدة العامة.

قوله [وما يجمع أخلاطا غير متميزة كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه]

ص: 160

أي يجمع أخلاطا غير متميزة، والغالية: هي أخلاط الطيب، فإن هذا لا يجوز السلم فيه لعدم الانضباط، والذي يظهر أنها تكون معلومة، لأن أهل الخبرة يعرفونها إذا كانت الأخلاط على أقدار محددة معينة بحيث يتميز بعضها عن بعض، وحينئذ يجوز السلم فيها، وعلى العموم فهذا داخل تحت القاعدة العامة أنه إن أمكن ضبطها فلا مانع من السلم فيها وإلا فلا، وكذلك المعاجين كالأدوية التي تكون من المعاجين، والذي يظهر أن تلك المعاجين يعرفها أيضا أهل الخبرة، فيميزون بينها أخلاطها.

قوله [ويصح في الحيوان]

يصح السلم في الحيوان، وقد صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كأن يأخذ منه كذا وكذا من الدراهم على أن يعطيه مائة شاة أو نحوها، فهذا جائز، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم:(استسلف من رجل بكرا)[م 1600] فهذا جائز للحديث، ولأن الحيوان مما ينضبط.

قوله [والثياب المنسوجة من نوعين]

إذا كانت الثياب منسوجة من نوعين فيجوز السلم فيها، كأن ينسج من القطن والكتان، فهذا جائز لأنها متميزة، ولا يظهر أن هناك فرقا بين ما تقدم المنع منع في المعاجين والغالية وبين ما يكون من هذا النسيج الذي يكون من القطن والكتان.

قوله [وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها]

وما خلطه غير مقصود كالجبن فإن فيه الأنفحة، وهي غير مقصودة، وكذلك خل التمر، فالتمر فيه خل، وهذا الخل غير مقصود، وكذلك السكنجبين، وهي كلمة فارسية وهي سكر فيه خل، ونحوها كالخبز وفيه ملح، فالملح في الخبز والخل في السكر والخل في التمر والأنفحة في الجبن هذه غير مقصودة فيصح السلم فيها.

قوله [الثاني: ذكر الجنس والنوع]

فيقول: من التمر مما نوعه كذا كالعجوة ونحوها.

قوله [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهرا]

فلا بد أن يذكر له كل وصف يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، وليس أي اختلاف يذكر، فاليسير لا يذكر.

ص: 161

قوله [وحداثته وقدمه]

كذلك حداثته وقدمه، فإن الحديث والقديم يتفاوت بهما الثمن تفاوتا ظاهرا.

قوله [ولا يصح شرط الأردء أو الأجود]

فلا يصح أن يقول: بشرط الأجود أو الأردء،قالوا: لأنه ما من جيد إلا هناك ما هو أجود منه، ومن رديء إلا هناك ما هو أردأ منه، وقال الموفق بل شرط الأردء يجوز، لأنه يمكن أن يعطيه ما هو خير منه وأجود منه، فحينئذ لا إشكال، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إن العادة في مثل هذه الألفاظ أن مراده أجود ما يكون معروفا عندهم، أو أردأ ما يكون عندهم، وحينئذ فيحمل على العرف فلا مانع من تصحيح هذا الوصف وحمله على العرف، ولا شك أنه في التمر ما يسمى في عرفنا أجود، وكذلك أردأ، وقد تقدم أن ألفاظ المتعاقدين تحمل على العادة والعرف، فالأظهر أن مراده بالأجود والأردأ ما هو معروف عن المتعاقدين، فيكون ذلك ظاهرا، أما إن ترتب عليه منازعة أو نحو ذلك فلم يكن متميزا فإنه يمنع منه درءا للمنازعة كما سبق.

قوله [بل جيد ورديء]

فإذا قال: جيد، ورديء، فهذا جائز.

قوله [فإن جاء بما شرط]

فإن جاء بما شرط فقد أوفى بما عليه، وحينئذ فيجب على المسلم أن يقبله.

قوله [أو أجود منه من نوعه]

كذلك يجب عليه أن يقبله إن أتاه بما هو أفضل، إذ امتناعه عن القبول عناد ومكابرة فلا يكون مقبولا.

قوله [ولو قبل في محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه]

فإذا أتاه به قبل الوقت المتعاقد عليه، كأن يقول إلى سنة فيأتيه به بعد ستة أشهر، فحينئذ يجب عليه القبول، لأن هذا أفضل وأولى بالقبول، لكن بقيد وهو ألا يكون في قبضه عليه ضرر، فإن كان في قبضه ضرر كأن تكون من الفاكهة أو الأطعمة التي تفسد، ولا يستطيع أن يتصرف بها إلا في الموعد المحدد، أو أن يكون في موضع يخشى على ماله فيه، أو نحو ذلك فحينئذ لا ضرر ولا ضرار فلا يلزمه القبول.

قوله [الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يعلم]

ص: 162

وهذا هو الشرط الثالث، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ، ولأن الوزن المجهول والكيل المجهول والذرع المجهول فيه غرر لأنه من بيوع الجهالة، وقد تقدم النهي عن بيع ما يجهل، وأن الشرط في الثمن والمثمن أن يكونا معلومين، وعليه فلو كان الوزن غير معلوم كأن يتفقا على وزن ما، أو على كيل ما، أو على ذرع ما، من غير أن يكون معلوما فلا يصح، فالشرط أن يكون معلوما أو متعارفا عليه، أي معلوم بالعرف أن المكيلات تكال بالصاع الذي قدره كذا، والموزونات توزن بالوزن الذي قدره كذا، ونحو ذلك من العرف، وهذا الشرط هو محل اتفاق بين العلماء.

قوله [وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح]

فالبر مثلا يكال، فإن كان السلم فيه بالوزن أي بالكيلو مثلا أو بالطن لم يصح، وكذلك السكر مثلا فإنه يوزن، فإذا أسلم فيه بالكيل لم يصح، وكذلك المذروع، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه قد قدر بغير مقياسه الأصلي فلم يصح، فالمكيلات تكال، والموزونات توزن، والمذروعات تذرع وهنا قد اختل ذلك فلم يصح بيعها سلما، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد واختار ذلك الموفق ابن قدامة أن ذلك جائز، لأن المقصود هو معرفة قدره، وهذا حاصل بالوزن في المكيلات، وبالكيل في الموزونات، وبالوزن في المذروعات، وهذا القول هو الراجح.

قوله [الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن]

ص: 163

هذا هو الشرط الرابع، وهو أن يذكر أجلا معلوما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إلى أجل معلوم) ، والأجل إذا لم يكن معلوما فهو مجهول، والجهالة غرر، فلا بد وأن يكون معلوما له وقع في الثمن، فإن كان الأجل لا وقع له في الثمن كاليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك فلا يجوز السلم، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني كذا وكذا صاعا من البر غدا أو بعد غد أو مساء فهذا لا يجوز، لأن هذا الوقت اليسير لا وقع له في الثمن، وإنما الشهر والشهران هي التي يكون لها وقع في الثمن، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وقال الأحناف: يصح إن كان نصف يوم، وهو الراجح، وسيأتي ما يدل عليه.

قوله [فلا يصح حالا]

فلا يصح السلم حالا، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني ألف صاع حالة غير مؤجلة، فهذا لا يجوز، قالوا: لأن السلم والسلف فيهما معنى التأجيل، فإن السلم تعجيل للثمن وتأجيل للمثمن، وهكذا معنى السلف، فإذا أسلم حالا لم يصح، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد يجوز، وهو وجه عند الحنابلة، وعليه فيكون بيعا، وهذا القول هو الراجح، فهو إذا لم يكن سلما لأن معنى السلم مفقود فيه فهو بيع، والأصل في البيوع الحل، وإذا ثبت هذا فإن المسألة السابقة أولى، فإذا جاز أن يكون المسلم فيه حالا غير مؤجل، فأولى منه جواز تأجيله يوما أو يومين أو ثلاثة.

* وقد اختلف أهل العلم هل السلم على خلاف القياس، أي هو في الأصل محرم لكن الشريعة أباحته للحاجة أم أنه بيع من البيوع وليس مستثنى للحاجة؟

قولان لأهل العلم:

1-

المشهور عند الحنابلة أنه على خلاف القياس، وأنه في الأصل ممنوع، وإنما أجازته الشريعة للحاجة، ولذا منعوا من الصورتين السابقتين لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تبع ما ليس عندك) .

ص: 164

2-

والقول الثاني أن بيع السلم بيع من البيوع، فهو لا يخالف القياس، وأما حديث:(لا تبع ما ليس عندك) فإنه محمول على أحد احتمالين:

أ- المحمل الأول: أن يكون المراد به بيع العين غير المملوكة، كأن يقول: أبيعك هذه السلعة المشار إليها بكذا وكذا، وهي غير مملوكة له.

ب- المحمل الثاني: أن يبيع موصوفا في الذمة غير موثوق بتسليمه، بل يمكن أن يسلم ويمكن ألا يسلم، فهذا لا يجوز لأن من شروط البيع القدرة على التسليم.

ولا شك أن الأصل في أحكام الشريعة أنها عزيمة لا رخصة، فالأصل في الأحكام أنه لا تخالف القياس، وهذا ما قرره ابن القيم في أعلام الموقعين، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالصحيح أن السلم بيع من البيوع، ولا شك أن كثيرا من تفصيلات الفقهاء في هذا الباب مبنية على أصلهم وهو أن السلم يخالف القياس فيشترط فيه ما لا يشترط في البيع، والصحيح ما تقدم، لأن الشريعة لم تنه عن بيع الموصوف في الذمة الذي هو موثوق من تسليمه غالبا، ومن ذلك بيع السلم.

قوله [ولا إلى الحصاد والجذاذ]

لو قال له: أبيعك أو أسلمك أو أسلفك مائة ألف ريال الآن على أن تعطيني كذا طنا من البر إلى الحصاد أو الجذاذ أو نحو ذلك مما هو معروف عند الناس عادة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يختلف، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو القول الراجح، وذلك لأنه معلوم في العادة، والتفاوت اليسير لا يؤثر، فالتفاوت اليسير كالأيام والأسبوع لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، وهكذا لو قال إلى أن تصرف لنا الدولة أو نحو ذلك فالمذهب أن ذلك لا يجوز، والصحيح جوازه لما تقدم.

قوله [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما]

ص: 165

لا يجوز السلم إلى يوم لما تقدم من أن اليوم ليس له وقع في الثمن، وتقدم أن هذا القول مرجوح، واستثنى المؤلف فقال: إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم، كأن يعطي البقال مالا ويأخذ منه مدة شهر أو سنة حتى ينفد هذا المال، فهذا سلم لأنه قدم الثمن وأجل المثمن، قالوا: هذا يجوز إذا كان يأخذ منه على هيئة أقساط لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وتقدم أن أصل هذه المسألة جائز، وإن لم يكن هذا مما يؤخذ كل يوم.

قوله [الخامس: أن يوجد غالبا في محله]

أي في أجله، وهذا هو الشرط الخامس، وهو أن يؤخذ غالبا في محله، فإذا اتفقا على أن يسلمه المسلم فيه - أي السلعة - إلى سنة في الشتاء، وكانت هذه السلعة لا تؤخذ في الشتاء إلا نادرا ووجودها إنما يكون في الصيف كبعض الفواكه فهذا لا يجوز، وكذا العكس، وهذا باتفاق العلماء كما حكى هذا الموفق ابن قدامة وغيره، وذلك لأنه غير مقدور على تسليمه حينئذ، ومن شروط البيع القدرة على التسليم.

قوله [ومكان الوفاء]

هذه اللفظ من المؤلف مراده فيها إذا باع ثمر بستان بعينه ونحوه فإن هذا لا يجوز، وذلك لأن هذا الثمر قد يتلف، فإذا قال مثلا: أسلمك مائة ألف ريال، على أن تعطيني قمح بستانك الفلاني هذه السنة، فلا يجوز هذا، وذلك لما تقدم من أنه قد يتلف فيكون في ذلك غررا، وهذا باتفاق العلماء، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز عند بدو الصلاح واختاره طائفة من الحنابلة وهو الراجح، لأن السلم بيع من البيوع، وبيع الثمر وقد بدا صلاحه جائز، فقد أمن الآفة غالبا، فعلى هذا إذا باعه ثمرة بستان معين سلما ففي المسألة تفصيل وقد سبق.

وكلمة (مكان الوفاء) مراد المؤلف منها ما تقدم، كما بين ذلك الشارح، ولكن هذه اللفظة لا يفهم منها هذا المراد، فهذه اللفظة فيها خطأ، ولفظة (مكان الوفاء) سيأتي الكلام على المسألة المتعلقة بها.

قوله [لا وقت العقد]

ص: 166

فلا يشترط أن يكون المسلم فيه موجودا في وقت العقد، وهذا ظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطه ولا معنى لاشتراطه، فمثلا الفاكهة الفلانية نضجها في الصيف، فاتفقا في الشتاء على السلم فذلك جائز، لأن هذا وقت عقد لا وقت وفاء.

قوله [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]

إذا تعذر المسلم فيه، كأن يعطيه عشرة آلاف درهم على أن يعطيه إلى سنة كذا وكذا صاعا من الرطب، فكان الآخر قد حصلت له آفة سماوية فلم يمكنه أن يعطيه رطبا، فحينئذ قد تعذر كله، وكذلك إذا تعذر بعضه كأن يتفقا على مائة صاع، ولم تنتج بستانه إلا خمسين صاعا، فله أن يصبر فمتى قدر المسلم إليه فإنه يعطيه حقه سواء كان هذا من هذه السنة أو من السنة الثانية، وله الفسخ أيضا، وحينئذ إما أن يكون الفسخ للكل أو للبعض، فإن كان قد أسلمه بعض الثمرة فالفسخ يكون للبعض، وإن كان لم يسلمه شيئا منها فإن الفسخ يكون للكل، فليست (أو) هنا للتخيير وإنما هي للتنويع.

قوله (ويأخذ الثمن الموجود) فإذا كان الثمن موجودا فإنه يأخذه، (أو عوضه) فيأخذ عوضه إن لم يكن الثمن موجودا، فمثلا اتفقا على أن يدفع له مائة ألف ويعطيه الآخر بعد سنة كذا طنا من القمح، ثم تعذر عليه الكل، ولم يشأ المسلم الصبر وشاء الفسخ، فيقال: هل الثمن موجود، فإن كان موجودا أخذه، وإن لم يكن موجودا أخذ عوضه، فإن كان مثليا أخذ مثله، وإن كان غير مثلي أخذ قيمته، لأنه قد يكون السلم على غير الدراهم ونحوها، فقد يسلم على كذا وكذا من الشياة، فحينئذ يعطيه مثلها، وإن لم تكن مثلية فإنه يعطيه قيمتها، ويأتي إيضاح هذا في باب ضمان المتلفات.

قوله [والسادس: أن يقبض الثمن تاما]

ص: 167

فالشرط السادس أن يقبض الثمن تاما قبل التفرق، فمثلا اتفقا على ألف ريال بكذا صاع من البر إلى سنة فلا بد أن يأخذ المسلم إليه دراهمه في المجلس قبل أن يتفرقا، وهذا هو مذهب الجمهور، قالوا: لأن السلم والسلف لا يثبت إلا بهذا، فإن السلم تسليم الثمن والسلف تقديم الثمن، فإن لم يتقدم الثمن ولم يسلم في مجلس العقد فإنه لا يكون سلما ولا سلفا، وحينئذ فالسلم والسلف مستثنى من حديث:(لا تبع ما ليس عندك)، وقال المالكية: بل يصح، وهذا القول هو الراجح، لما تقدم، فإن السلم من أنواع البيوع، وهو إن لم تكن هنا سلما فهو بيع، فنحن إن سلمنا أنه ليس بسلم لأن السلم يقدم فيه الثمن في مجلس العقد فإنه بيع من البيوع، فإن قيل: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين، وهذا بيع الدين بالدين، فإنه إذا قال: أبيعك ألف ريال غدا أسلمها لك، على أن تعطيني كذا وكذا بعد شهر فهذا من بيع الدين بالدين، فالجواب: أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع الدين بالدين لا يصح، وإنما صح الإجماع على النهي عن بيع الدين بالدين في بعض صوره، وقد تقدم ذكر الصور المنهي عنها، وهنا قد ثبت الخلاف فلا إجماع، ثم إن الأصل في البيوع الحل، وهذه الصورة ليس فيها ما يفسدها، بل كل من المتعاقدين له مصلحة في شغل ذمته بما شغلها به، وليس هذا داخلا في الأصناف الربوية فيكون ربا، وعلى هذا فهو حلال.

قوله [معلوما قدره ووصفه]

هذا ظاهر، وقد تقدم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، فإن كان الثمن مجهولا فهذا بيع غرر، وقد نهى الشارع عن الغرر.

قوله [قبل التفرق]

تقدم الكلام على هذا.

قوله [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه]

ص: 168

هذا مبني على اشتراط ثبوت القبض في مجلس العقد، فإذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد فإن عقد السلم يكون باطلا، وإن كان قد قبض بعضه فيصح في المقابل له، ويبطل فيما عداه.

قوله [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه صح]

صورة هذه: قال أعطيك مائة ألف ريال في على أن تعطيني مائة طن من القمح، فقال الآخر: نعم بشرط أن تكون خمسين طنا في أول الحصاد، وخمسين طنا في آخر الحصاد، أو خمسين طنا في شهر كذا ونحو ذلك، فهذا جائز، وعكسه كذلك: أي كانا جنسين ولهما أجل واحد، وصورته أن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني خمسين طنا من القمح وخمسين طنا من الشعير إلى سنة، فهنا أسلف في جنسين إلى أجل واحد، وهذا جائز.

قوله [إن بين كل جنس وثمنه]

هذا في المسألة الثانية، وهي ما إذا كان الجنسان لهما أجل واحد، فلا بد أن يبين قدر كل جنس وأن يبين ثمنه، وقوله (بين كل جنس) هنا حذف، والتقدير: إن بين قدر كل جنس، كما تقدم في المثال السابق، لأنه إن لم يبين قدر كل جنس فإنه يقع في بيع الجهالة، فقد يكون تسعين طنا من الشعير، وعشرة أطنان من القمح، وقد يكون العكس، وهذه جهالة، وقوله (وثمنه) أي كذلك لا بد أن يبين ثمن كل جنس، فيقول: خمسين طنا من القمح بكذا، وخمسين طنا من الشعير بكذا، فإنه قد يقع فسخ كما تقدم، فقد يعجز أن يعطيه ما وعده به فيكون الفسخ حينئذ، فإذا لم يبين ثمن كل جنس وقع في الجهالة عند الفسخ.

قوله [وقسط كل أجل]

ص: 169

هذا في المسألة الأولى، وهي إذا كان الجنس له أجلان، فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة طن من القمح على قسمين الأول يكون شهر كذا، والقسم الثاني يكون شهر كذا، ولم يبين نصيب كل شهر من الأطنان، فهذا فيه جهالة، فقد يعطيه خمسة أطنان في الشهر الأول، ويدخر خمسة وتسعين طنا في الشهر الثاني فيقع حينئذ نزاع وجهالة، فلا بد من أن يبين فيقول مثلا: في الشهر الأول أعطيك خمسين طنا، وفي الشهر الثاني أعطيك ثلاثين أو نحو ذلك.

قوله [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين]

فلو قال: أعطيني مائة ألف ريال على أن أعطيك داري هذه إلى سنة، فهذا لا يجوز، والصحيح جوازه لأن هذا لا يعدو أن يكون بيعا من البيوع، والأصل في البيوع الحل، وإذا تلف فإن عليه عوضه، أي مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن كان مقوما، وهو قد باع ما يملك فلا يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تبع ما ليس عندك) .

قوله [ويجب الوفاء موضع العقد]

هنا مسألة: وهي أين يكون الوفاء؟ هل يأتي المسلم إليه بالسلعة إلى المسلم؟ أو يأتي المسلم إلى المسلم إليه ليأخذ السلعة؟ قال المؤلف: يجب الوفاء موضع العقد، قالوا: لأن مقتضى العقد يدل على هذا، فمقتضى العقد أن يكون محل التسليم هو محل العقد، وهذا هو المشهور من المذهب، والراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس مثلا أن يذهب صاحب المال إلى مزرعة المسلم إليه ليأخذ الحب أو الثمر فإن الناس على عرفهم، وكذا العكس.

قوله [ويصح شرطه في غيره]

فيصح أن يشترط الوفاء في موضع آخر غير موضع العقد، والمسلمون على شرطهم.

قوله [وإن عقد ببر أو بحر شرطاه]

إذا كان العقد في البر أو في البحر فحينئذ لا بد أن يشترطا موضعا للوفاء، قالوا: لأن الموضع الذي هما فيه لا يمكن أن يوفى فيه، فلا بد من الشرط، وحيث قلنا إن المرجع إلى العرف فلا إشكال في هذا.

ص: 170

قوله [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه]

لا إشكال في هذا، فقد تقدم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع قبل القبض، وهكذا في السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه، فإذا قال مثلا أعطني مائة ألف ريال على أن أعطيك كذا طنا من القمح إلى سنة، ثم جاء شخص إلى المشتري بعد يوم أو يومين فقال: أنا اشتري منك الأطنان التي عندك لفلان إلى سنة، وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح مالم يضمن، وهو لم يضمن هذا ولم يقبضه.

* لكن هل يجوز بيعه إلى المسلم إليه قبل قبضه؟

كأن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة، وبعد شهر أو شهرين قال المسلم إليه: أنا أريد أن تبيعني ما في ذمتي لك، فاتفقا على شيء من الثمن فذلك جائز على الصحيح، والمذهب لا يجوز، والصحيح جوازه كما تقدم في اختيار شيخ الإسلام في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأن بيعه على بائعه جائز، فإذا باع المسلم على المسلم إليه ما أسلم فيه فهذا جائز، ما لم يكن فيه ربا كما تقدم، وبشرط ألا يربح فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن.

قوله [ولا هبته]

فلا تصح الهبة، وظاهر كلام المؤلف أن هذا عام في المسلم إليه وغيره، وهذا غير صحيح، فإنه عند الحنابلة أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه فذلك جائز، لأن هذا إبراء لذمته، وهذا هو الصحيح في المذهب، والمراد هنا هبته إلى غيره، لا هبته إلى المسلم إليه، وقد تقدم أن شيخ الإسلام يختار أن المنهي عنه قبل القبض هو البيع فحسب، وأما الهبة ونحوها قبل القبض فهي جائزة، وهذه المسألة تدخل فيها إذ لا غرر في ذلك.

قوله [والحوالة به ولا عليه]

ص: 171

والحوالة به أي بالسلم، والحوالة عليه أي على المسلم فيه، مثال الصورة الأولى: رجل أخذ مائة ألف ريال على أن يدفع مائة صاع من البر إلى سنة، ثم قال لمن أعطاه المال: أنا أحيلك على فلان وأبريء ذمتي، فقالوا: هذا لا يجوز الحوالة به، وأيضا لا يجوز الحوالة عليه، ومثاله: هذا الرجل الذي دفع مائة ألف ريال على كذا طن من القمح، هناك أحد يريد منه دين، فقال: تأخذها من فلان قمحا بعد سنة، فقالوا: هذا لا يجوز، قالوا: لأن دين السلم غير مستقر، فقد يفسخ البيع، وهذا ضعيف، فإن الأصل هو عدم فسخه، والأصل هو ثبوته، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختيار بعض الحنابلة واختار هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالصحيح أن الحوالة فيه جائزة، وذلك لأنه دين، فأشبه سائر الديون.

قوله [ولا أخذ عوضه]

فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني كذا طنا من القمح، فلما جاء الوقت قال: أريد أن أعتاض عنها بكذا وكذا من البر، أو قال أعتاض عنها بكذا وكذا من الدراهم، قالوا: هذا لا يجوز، وقد تقدم أنهم يجيزونه في غير هذه المسألة في الديون كما ثبت في حديث ابن عمر، أما في السلم فلا يجوز عندهم، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في سنن أبي داود: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)[د 3468، جه 2283] والحديث فيه عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الإمام مالك بل يجوز هذا وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح، وقد تقدم أثر ابن عمر الذي روي مرفوعا وموقوفا والصواب وقفه.

قوله [ولا يصح الرهن والكفيل فيه]

ص: 172

هذه مبنية على المسألة السابقة، فلا يصح الرهن لأنه بذلك يصرفه إلى غيره، فالفائدة من الرهن أنه إذا لم يسلمه فإنه يستوفي حقه من الرهن، وهو بذلك يكون قد صرفه إلى غيره، والكفيل فائدته أنه يضمن، فإذا لم يأت المسلم إليه بالمسلم فيه فإنه يدفع - أي الكفيل - من ماله للمسلم، فحينئذ يكون قد صرفه إلى غيره، والراجح ما تقدم من جواز العوض فيه، فيجوز الرهن والضمان والكفالة فيه كغيره من الديون.

باب القرض

قوله [وهو مندوب]

القرض لغة: القطع، واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، والقرض مندوب كما قال المؤلف، فهو مستحب من المقرض، وهو مباح من المقترض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)[م 2699]، وروى الإمام أحمد وابن ماجة والحديث حسن لغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن السلف - أي القرض - يجري مجرى شطر الصدقة)[حم 3901، جه 2430] .

قوله [وما يصح بيعه صح قرضه إلا بني آدم]

أي إلا الرقيق عبدا كان أو أمة، فكل ما صح بيعه صح قرضه من دراهم ودنانير وبر وقمح وحيوان وغير ذلك، واستثناء العبد والأمة هو المشهور في المذهب، قالوا: لعدم النقل في هذا، والوجه الثاني في المذهب هو جواز إقراض الرقيق عبدا كان أو أمة، واختاره الموفق ابن قدامة وهو الراجح، إذ عدم نقله ليس بمؤثر لأن الأصل في المعاملات الحل، فلا يشترط فيها النقل، وكثير من المسائل التي هي في باب العقود والمعاملات لم تنقل، فلا يعني هذا أنها لا تحل، وإنما يشترط النقل في تحريمها، ومنع منه المالكية والشافعية في الأمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى وطئها، وأباحوه إن كان المقترض من محارمها، والراجح ما تقدم، ذلك لأنه بالقرض قد ملك هذا الرقيق عبدا كان أو أمة.

ص: 173

وظاهر كلام المؤلف أن المنافع لا يجوز إقراضها إذ لا يصح بيعها كما تقدم في المذهب، فالمنافع كالعمل في حصاد أو السكنى في بيت أو نحو ذلك ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز إقراضها لأن بيعها لا يصح، واختار شيخ الإسلام أن إقراض المنافع جائز، كأن يقول: أحصد معك اليوم وتحصد معي غدا، أو يجذ معك رقيقي اليوم بشرط أن يجذ معي رقيقك غدا، أو يقول: أسكني دارك اليوم وأسكنك داري غدا، فهذا جائز على الراجح لأن الأصل في المعاملات الحل.

قوله [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه]

يملك القرض بقبضه، فإذا قبضه فقد ملكه، فلا يلزمه أن يرد عين القرض، بل الذي يلزمه أن يرد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان مقوما، وذلك لأنه ملك بالقبض، وهذا ظاهر لأنه إنما أقرضه ليملكه فينتفع به، وقد رضي المقرض بذلك فكانت هذه العين ملكا للمقترض يتصرف فيها كما يتصرف في سائر ملكه فلا يلزمه أن يرد عينها، فمثلا اقترض منه بكرا من الإبل، وبقي عنده هذا البكر حتى أتى الأجل الذي يقضي فيه الدين، فلا يلزم المقرض أن يقضيه هذا البكر، بل له أن يعطيه غيره.

قوله [بل يثبت في ذمته حالا ولو أجله]

ص: 174

فبمجرد القرض يثبت البدل مثلا إن كان مثليا، أو قيمة إن كان متقوما، ويكون حالا ولو أجله، فللمقرض أن يطالبه متى شاء، وإن كان الاتفاق بينهما أنه على أجل، كأن يتعاقدا بينهما على أن يكون الوفاء بعد سنة، فللمقرض أن يطالبه قبل ذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن القرض يمنع فيه التفاضل فيمنع فيه التأجيل أيضا كالصرف، فالصرف يمنع فيه التفاضل والتأجيل فكذلك القرض، وهذه العلة ضعيفة، ولهذا ذهب المالكية إلى جواز التأجيل، وأنه يكون ملزما فلا يحق للمقرض المطالبة قبل الأجل، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولأن الله أمر بالوفاء بالعهد، ولأن المقرض قد أسقط حقه برضاه بذلك الأجل فلا يحل له المطالبة به، وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والجواب عما ذكره أهل القول الأول أن يقال: هناك فرق بين الصرف وبين القرض من جهتين:

1-

الجهة الأولى: أن الصرف بيع، فهو معاوضة، وأما القرض فهو تبرع وإحسان وإرفاق فبينهما فرق والقياس مع الفارق باطل.

2-

الجهة الثانية: أنكم تجيزون عدم مطالبة المقرض للمقترض، وهذا تأجيل ولا تجوزونه في الصرف، فلو أن رجلا أعطى آخر دراهم صرفا، فلا يحل التأخير سواء اشترطاه أم لم يشترطاه، وأما هنا فإنه لو أقرضه مائة ألف فإنه يجوز له أن لا يطالبه بل يؤجل مطالبته، وهذا فرق بينهما.

قوله [فإن رده المقترض لزمه قبوله]

هذا ظاهر، فإذا رده المقترض كما أخذه سليما من العيب فإنه يلزمه أخذه ولا يلزمه المقرض بالبدل، فمثلا: استقرض منه حيوان، ثم من الغد أرجعه إليه، فيلزمه أن يقبله إذ لا ضرر عليه في قبوله إلا أن يكون فيه عيب فله رده، وإنما أوجبنا البدل في الذمة لأنه في الغالب يتصرف بهذا الشيء الذي استقرضه فيلزمه المثل أو القيمة على ما تقدم.

ص: 175

قوله [وإن كانت مكسرة أو فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض]

أي إن كانت الدراهم مكسرة أو فيها قص وتكسير ونحو ذلك، أو كان هناك فلوس فمنع السلطان منها فله القيمة وقت القرض، مثاله: رجل أقرض الآخر دراهم مكسرة - أي لا يعرف وزنها فهي دراهم مكسرة - فعند الرد يلزم برد المثل لأنها لها مثل، وكذلك إذا منع السلطان الناس من التعامل بالدراهم المكسرة فله القيمة وقت القرض، وقال بعض الحنابلة: بل يعطي قيمتها عند تحريم السلطان لها، وذلك لأن المتعلق في ذمته هو المثل، حتى منع السلطان التعامل بها فانتقل حينئذ إلى البدل وهو القيمة، فلزمته القيمة من وقت تحريم السلطان لها، وهذا القول هو الراجح.

قوله [ويرد المثل في المثليات]

وهذا ظاهر فالمثليات كالموزونات مثلا يجب أن يرد مثلها، كأن يأخذ مائة صاع من القمح فيرد إليه مائة صاع من القمح.

قوله [والقيمة في غيرها]

إذا لم يكن الشيء مثليا كبعض الجواهر فإنه يرد إليه قيمتها.

قوله [فإن أعوز المثل فالقيمة إذن]

أي إن تعذر المثل فالقيمة إذن، أي القيمة حينئذ أي حين الإعواز، ومثاله: كان الواجب عليه كذا وكذا من الطعام الفلاني، وكان يمكنه أن يعطيه مثله، فتعذر المثل فحينئذ تجب القيمة، فهل نقول تجب القيمة عند وقت القرض كالمسألة السابقة، أو نقول: تجب القيمة عند وقت الإعواز والتعذر؟ قالوا: عند التعذر، وذلك لما تقدم فالقيمة إنما وجبت في ذمته عندما تعذر مثلها، وأما وقت القرض فكان المتعلق بذمته هو المثل نفسه، فيكون المؤلف قد فرق بين المسألتين من غير ما فرق مؤثر، والفارق بين هاتين المسألتين أن المسألة الأولى: قالوا: الدراهم والفلوس تتغير تغيرا سريعا وتختلف اختلافا كبيرا في الزمن، وهذا في الحقيقة ليس بمؤثر، فإنه يمكننا أن نضبط قيمتها في اليوم الذي تعذر فيه، وهو تحريم السلطان لها.

قوله [ويحرم كل شرط جر نفعا]

ص: 176

فكل شرط جر نفعا فهو حرام، وروى الحارث بن أبي أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كل قرض جر نفعا فهو ربا) والحديث إسناده ضعيف جدا، لكن له شواهد من أقوال الصحابة، فقد روى البخاري معلقا عن عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة:" إنك بأرض الربا بها فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا "[خ 3814] فهذه هدية مالية فكان ذلك ربا، ونحوه في المنع من الهدية عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد صحيح، وأما رفع ذلك فلا يصح.

وقد اتفق العلماء على القول به، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، كأن يقول له: أقرضك مائة ألف ريال إلى سنة على أن تسكني دارك أو على أن تعمل لي أو نحو ذلك فهذا لا يجوز.

قوله [وإن بدأ به بلا شرط...... جاز]

مثاله: اقترض رجل من آخر مائة ألف ريال، فلما أتى وقت الوفاء أعطاه زيادة على ذلك عشرة آلاف ريال فهذا جائز، فإذا أعطاه مع الوفاء أو بعده فهذا جائز إذا لم يكن هناك مواطأة بينهما، وقد ثبت في مسلم:(أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لم أجد إلا خيارا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء)[م 1600] فهذا مع الوفاء فهو جائز، وقد اتفق أهل العلم على جوازه، والسنة تدل عليه.

قوله [أو أعطاه أجود]

كما تقدم في حديث أبي رافع.

قوله [أو هدية بعد الوفاء جاز]

أي أهدى إليه هدية بعد الوفاء فهذا كله جائز، وأما الهدية قبل الوفاء فلا تجوز للحديث المتقدم، وتقدم أثر عبد الله بن سلام.

قوله [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز إلا أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه]

ص: 177

إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء فهذا لا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فإذا كان بينهما تهاد من قبل فاقترض أحدهما من الآخر شيئا وأهداه هدية فهذا جائز، لأن جريان العادة بينهما بذلك قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى، أما إذا لم تجر العادة بينهما بذلك فلا يحل للمقرض أن يقبل منه الهدية، لكن إذا نوى أن يكافئه عليها فهذا جائز، لأن هذا القرض لم يجر نفعا زائدا، بل جر نفعا مقابلا بنفع آخر، ويجوز أن يقبل الهدية في حالة أخرى وهي ما إذا نوى احتسابه من دينه، أي ينوي أن ينقص الهدية من الدين، فهذا جائز.

قوله [وإن أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه]

مثاله: إذا أقرض زيد عمروا مائة ألف ريال في بلدة - وتقدم أن مكان الوفاء هو مكان العقد في السلم وأن الراجح أن ذلك راجع إلى العرف - فهنا إذا أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه، لأنه لا ضرر عليه بدفعها، وهو واجب عليه.

قوله [وفيما لحمله مؤونة قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص]

ص: 178

هذه الأثمان التي تقدم ذكرها لا تحتاج في حملها إلى مؤونة، لكن لو كانت أشياء تحتاج في حملها إلى مؤونة كأن يكون قد أقرضه طعاما أو حيوانا أو نحو ذلك ثم طالبه به في بلد آخر فقال هنا: الواجب عليه القيمة، وذلك لأن نقل الطعام أو الحيوان إلى هذه البلد الأخرى تحتاج إلى مؤونة فلم يلزم ذلك، وإنما يلزم بالقيمة، لأن القيمة لا ضرر بها، والقيمة مرجعها إلى البلد الذي يجب عليه أن يقضيه فيها، فمثلا أقرضه حيوانا وطالبه في الخارج، وكان قد استدان منه الحيوان في الداخل، والحيوان هنا يساوي خمسمائة ريال، وفي الخارج يساوي ألف ريال، فإنه يعطيه قيمته هناك، وإن كان لا شك أن الأصلح له أن يقبل ويعطيه إياه مثليا، ولذا قال المؤلف: إن لم تكن ببلد القرض أنقص، فإن كانت ببلد القرض أنقص فإنه يلزمه، مثلا: كانت تساوي في بلد القرض خمسمائة ريال، وتساوي في البلد الآخر أربعمائة ريال، فإنه حينئذ لا ضرر عليه بل له نفع أن يعطيه إياها كذلك، وذلك لأنها ببلد القرض أنقص، كذا قال المؤلف، والعبارة الصحيحة كما قال الشارح (أكثر) ، وعلى هذا فإذا كان القرض أثمانا فطالبه بها في بلد آخر فإنه يلزمه أن يعطيه إياها، إذ لا ضرر عليه في ذلك، وأما إن كان غير أثمان وفي حملها مؤونة فلا تخلو من حالين:

الأولى: أن يكون ثمنها في بلد القرض أكثر فحينئذ يلزمه أن يدفع المثل، إذ لا ضرر عليه في ذلك بل فيه نفع له.

الثانية: أن يكون ثمنها في بلد القرض مساويا أو أنقص فحينئذ لا يلزمه ذلك، بل الذي يلزمه أن يدفع القيمة.

* مسألة السفتجة.

ص: 179

السفتجة هي لفظة أعجمية، وصورة المسألة: أن يعطي الرجل الآخر مالا في هذه البلدة، ويأخذ من وكيله ما يقابله في بلد آخر، مثلا: يقول أنا أريد السفر إلى العراق، وفي العراق وكيل لصاحبه، وهذا لما كانت الطرق غير آمنة ويخشى على المال، فيقول لصاحبه: أنا أعطيك ألف وتكتب لي ورقة إلى وكيلك هناك فيعطيني مائة ألف، فما حكم ذلك؟

1-

منع الجمهور من هذه المعاملة لوجود النفع، وقد تقدم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا.

2-

وذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام إلى جواز ذلك، وذلك لأن هذا القرض لم يجر نفعا ماديا، بل هو نفع غير مادي، فلكل منهما مصلحة، وليس هذا النفع جنس الهدايا ونحوها التي ورد النهي عنها.

** مسألة:

" ضع وتعجل "، وهي أن يقول الرجل لمن له عليه دين، ضع عني شيئا من الدين وخذا لمال الآن، فمثلا: الأجل كان إلى سنة، والمال عشرة آلاف ريال، فيقول ضع عني ألفا وخذ تسعة آلاف الآن قبل أوانها، أو العكس بأن يقول المقرض أعطني تسعة آلاف الآن وأسقط عنك الباقي، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها:

1-

جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف منعوا مثل هذه المعاملة.

ص: 180

2-

عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن هذا جائز، وحكاه شيخ الإسلام قولا في مذهب الحنابلة، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا في المنع ولا في الإجازة، وأما ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله للمقداد:(أكلت الربا يا مقداد وأطعمته)[هق 6 / 28] وما روي عنه في قوله لبني النظير: (ضعوا وتعجلوا)[هق 6 / 28، طس 1 / 338 برقم 821، قط 3 / 46] والخبران رواهما البيهقي وكلاهما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة فيها متعارضة فعن ابن عمر المنع كما في سنن البيهقي [هق 6 / 28] وعن ابن عباس الجواز كما في سنن البيهقي أيضا [هق 6 / 28] والإسناد إليهما صحيح.

وحجة الجمهور أن هذا النقص يقابل الأجل، قالوا: فأشبه الربا، فالربا الزيادة في مقابل الأجل، وكذلك هنا النقصان في مقابل الأجل، وأما حجة أهل القول الثاني فهي أن الأصل في المعاملات الحل، وهذه معاملة فتكون مباحة، قالوا: وأما قولهم إن النقصان هنا يقابل الأجل فأشبه الربا وذلك لأن الربا زيادة في مقابل الأجل فضعيف جدا، وذلك لأن الربا زيادة واستغلال وأكل للمال بالباطل، وأما مسألة ضع وتعجل فإن فيها إرفاقا وإبراء للذمة ومصلحة أيضا، وهي نقصان المال المطلوب لا وليس زيادته، والربا زيادة فيكون هذا من باب إعطاء حكم الشيء لنقيضه، فقد أعطوا حكم الربا لنقضيه، والصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وعليه عمل الناس اليوم.

باب الرهن

الرهن لغة: الدوام والثبوت.

وفي الاصطلاح عند فقهاء الحنابلة: توثيق دين بعين، هذا هو تعريفهم، وسيأتي بيانه، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى {فرهان مقبوضة} ، وفي البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهن درعه عنده [خ 2916، م 1603] وقد أجمع العلماء على جواز الرهن.

ص: 181

والحكمة منه توثيق الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن وحفاظا على حقه فكذلك يوثق بالرهن.

إذا علم هذا فليعلم أن ما تقدم من تعريف الحنابلة للرهن فيه نظر، فإن الحنابلة لا يرون الرهن إلا بالعين، ولذا قال المؤلف:

قوله [يصح في كل عين]

أما إذا كان الرهن دينا أو منفعة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، فلا بد أن يكون عينا، كأن يقول: أقرضني مائة ألف ريال وأضع عندك داري أو أرضي رهنا، فإذا أتى وقت الوفاء وتعذر الوفاء فإن الرهن يباع، ويستوفى حقه منه.

فلا بد أن يكون عينا كما هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن المقصود منه استيفاء حق المرتهن ببيعه إن تعذر الوفاء، وعليه فإذا كان دينا أو نحوه فإن ذلك لا يجوز، والقول الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن كل ما يحصل به التوثيق يصح أن يكون رهنا، سواء أكان ذلك عينا أو دينا أو منفعة، لأن المقصود هو التوثيق، ويحصل التوثيق بالدين والمنفعة.

ولذا قال بعض الحنابلة - وهو خلاف المشهور من المذهب - يجوز أن يكون الرهن دينا على المرتهن للراهن، مثال ذلك: إذا كان لزيد على عمرو مائة صاع من البر إلى سنة، فأراد زيد أن يستدين منه، فيقول زيد لعمرو مثلا: أستدين منك مائة ألف ريال على أن يكون الذي عليك رهنا.

ص: 182

واختار الشيخ السعدي جوازه في عامة الديون التي في الذمم، فلو قال: أرهنك الدين الذي لي في ذمة فلان، وهذه الأوراق التي تثبته، ويكتب له بذلك، فإن هذا صحيح لحصول التوثيق به، كذلك لو كان منفعة كأن يقول أنا قد استأجرت هذه الأرض الزراعية مدة خمس سنوات، فهي الآن في يدك، فأجرها على من شئت واحفظ المال الذي ينتج من إجارتها رهنا للدين الذي علي، فهذا يصح، وقاعدة المذهب أن الرهن من باب المعاوضات فعليه لا يصح رهن إلا ما يجوز بيعه، وعلى القول المتقدم وهو اختيار الشيخ السعدي أن الرهن ليس من باب المعاوضات بل هو من باب التوثيقات، وباب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات، فالمقصود منه التوثيق وليس بيعا، وستأتي بعض المسائل التي يرجحها الحنابلة ويصححون الرهن فيها، مع أن البيع لا يصح فيها، كرهن الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه لا يجوز بيعه، لكنهم يصححون رهنه.

قوله [يجوز بيعها حتى المكاتب]

فالمكاتب يجوز أن يكون رهنا، وصورة الرهن فيه، أن يكون ما يأتي به من أقساط شهرية يدفعها للمرتهن، ويبقى عقد الكتابة على ما هو عليه، فيعمل ليحرر نفسه، فإذا أمكنه أن يحرر نفسه كانت هذه الأقساط المجموعة رهنا عند المرتهن، وإن لم يمكنه فيبقى هو رهن أيضا لأنه يجوز بيعه، وما جاز بيعه جاز رهنه، وعلى القول المتقدم وهو الراجح فإن هذا ظاهر لحصول الثقة بذلك عند المرتهن، والقول الثاني في المذهب أن المكاتب لا يصح رهنه، وذلك لأن مقتضى الكتابة أن يكون حرا بعمله، فهو يذهب إلى أي موضع شاء للعمل، ومن شروط الرهن عند الحنابلة استدامة القبض، ولا شك أن بقاء المكاتب عند المرتهن يخالف مقتضى عقد الكتابة، والصحيح ما سيأتي من ترجيح أن استدامة القبض ليس بشرط، وعليه فلا مانع من أن يكون المكاتب رهنا، ويعمل كيف شاء.

قوله [مع الحق وبعده]

قوله (مع الحق) كأن يقول أقرضني مائة ألف وأضع بيتي رهنا عندك.

ص: 183

وقوله (بعده) أي بعد أن يتفقا على البيع وهما يكتبان الدين يقول: بشرط أن تكون دارك رهنا عندي، فهذا جائز لعموم قول الله تعالى {فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولحصول المقصود من الرهن، وظاهر كلام المؤلف أن الرهن قبل الحق لا يصح، وصورته لو قال: أضع عندك داري رهنا على أن تقرضني بعد شهر كذا وكذا من الدراهم، فالمشهور من المذهب أن هذا لا يجوز، وعللوا ذلك بأن الرهن لاحق للحق، وهنا كان الرهن سابقا له، فالرهن المقصود منه توثيق الحق، فالحق سابق، وهذه علة ضعيفة، وذلك لأن التوثيق حاصل وإن كان الرهن مدفوعا قبل الحق، والأمور مع عللها، فالعلة من الرهن التوثيق، وهي حاصلة سواء أكان الرهن قبل الحق أو معه أو بعده، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك واختيار أبي الخطاب من الحنابلة، فالصحيح أن الرهن قبل الحق صحيح، فإن استقرض منه وإلا فإنه أخذ حقه، ولا دليل يدل على المنع والأصل في المعاملات الحل.

[قلت: إلا أنه إن رهنه قبل الحق لم يكن واجبا، إلا مع ثبوت الحق –والله أعلم-] .

قوله [بدين ثابت]

أي دين مستقر، أما إذا كان الدين عرضة للزوال فلا يصح الرهن فيه، والديون نوعان:

1-

دين مستقر: كأن يقول أقرضني مائة ألف، أو بعني هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة.

2-

دين غير مستقر: كدين الكتابة، فإنه يمكن للمكاتب أن يعود إلى سيده ويقول أريد أن أقطع الكتابة وأعود عبدا، ويمكن أن يعجز المكاتب عن سداد دين الكتابة، فهو دين غير مستقر.

ص: 184

قالوا: فالرهن إنما يصح في الدين المستقر، فليس للسيد أن يقول لعبده أكاتبك على أن ترهنني كذا وكذا، كما أن العبد المكاتب إذا وضع عند سيده رهنا فهذا الرهن ليس بمعتبر لأنه في غير موضعه، وهذا فيه نظر، والأظهر جواز الرهن، لأن المقصود منه توثيق الدين بهذا الرهن للمرتهن، وحينئذ فلا مانع من جوازه والأصل في المعاملات الحل، فلا مانع أن يضع على الدين غير المستقر رهنا، ومتى ما سقط هذا الدين فإن الرهن يبطل، فإذا عجز المكاتب عن الكتابة فإنه يعود قنا، فإن كان المال للعبد كان لسيده، وإن كان ليس للعبد بل هو عارية أو نحو ذلك فإنها ترجع إلى صاحبها، ولا يترتب على هذا أي شيء، والرهن المتقدم حصل فيه توثيق للدين، وهذا هو القول الثاني في المذهب.

قوله [ويلزم في حق الراهن فقط]

فالرهن يلزم في حق الراهن، فهو عقد لازم في حق الراهن، وعقد جائز في حق المرتهن، فالمرتهن هو صاحب الدين، فله أن يسقط الرهن لأنه حق له.

قوله [ويصح رهن المشاع]

كأن يكون لرجلين أرض يشتركان فيها اشتراكا مشاعا لكل واحد منهما النصف، فله أن يرهن نصيبه أو بعضه، وذلك لأن البيع جائز فالرهن جائز، وحيث قلنا إن الرهن توثيق وليس بمعاوضة فذلك أولى بالجواز.

قوله [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه]

هنا مسألتان:

الأولى: رهن المبيع على ثمنه، فهذا جائز لعمومات الأدلة، فلو قال زيد لعمرو: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف ريال مقسطة وتكون هذه الدار رهنا عندك، فمتى ما قضيت حقك أخذتها، وإن لم أعطك حقك فلك أن تبيعها وتأخذ حقك منها، فهذا جائز لعمومات الأدلة.

ص: 185

الثانية: أن رهن المبيع غير المكيل والموزون جائز قبل قبضه، مثاله: رجل اشترى سيارة، وقبل قبضها رهنها، فهذا جائز على المذهب، وكذلك لو اشترى أرضا ورهنها قبل قبضها فهذا جائز، لكن إن اشترى مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فإنه ليس له أن يرهنه حتى يقبضه، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا يجوز بيع المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضها ولو على البائع في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أن الرهن جائز في كل مبيع قبض أو لم يقبض، وقد تقدم هذا عند نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض، وأن شيخ الإسلام يرى أن سائر العقود سوى البيع لا يشترط فيها القبض، ومن ذلك الرهن فإنه يجوز فيما لم يقبض، ومثاله: اشترى زيد من عمرو دارا، ولما يقبضها بعد، ثم رهنها، فهذا جائز، وذلك لحصول المقصود فإن التوثيق حاصل كما تقدم في كلام الشيخ السعدي.

قوله [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]

وهذا ظاهر لأنه لا يحصل به الثقة، فما دام لا يجوز بيعه كالموقوف فإنه لا يصح بيعه فلا يصح رهنه، ولا فائدة من رهنه لأن بيعه لا يمكن فلا يحصل به الثقة، وهذه القاعدة قاعدة أغلبية، وقد تقدم بعض الاستثناء فيها، ولكن متى حصلت الثقة فيما لا يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه، فلو حصلت الثقة في بعض الديون أو المنافع - على القول بعدم جواز بيعها وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من جواز بيعها - فإنه يصح رهنها.

قوله [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]

تقدم أن الثمار لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، وأن الحب لا يجوز بيعه قبل اشتداد حبه، فهل يجوز أن يرهن ذلك أم لا؟

ص: 186

على القاعدة المتقدمة لا يجوز، لأنه لا يجوز بيعها، وقال الحنابلة هنا بل يجوز، وخالفوا قاعدتهم المتقدمة، قالوا: لأن النهي عن البيع قبل بدو الصلاح إنما هو خشية الآفة، وهنا في باب الرهن لو تطرقت إليه الآفة فلا ضرر على المرتهن لأن الحق ثابت بغير الرهن، فالدين ثابت في الذمة، والرهن لا يزيد عن كونه توثيقا للدين، وعلى قاعدتهم المتقدمة فإن هذا ضعيف، ولذا فإن مذهب الشافعية أن ذلك لا يجوز جريا على القاعدة المتقدمة، وأما على أصل المسألة الذي تقدم ترجيحه وهو أن المقصود من الرهن هو التوثيق فإن ذلك جائز، لأن المقصود هو التوثيق، وكون الآفة تصيب الزرع هذا قليل والأصل السلامة، فتحصل المنفعة بالثمر قبل بدو صلاحه وبالزرع قبل اشتداد حبه، ولو حصلت الآفة فالدين باق في الذمة، وعلى هذا فما ذهب إليه الحنابلة راجح هنا على القاعدة المتقدمة من أن باب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات.

وقال هنا (بدون شرط القطع) أما إذا اشترط القطع فجوزاه ظاهر لأنه يجوز بيعه، فيجوز رهنه، فلا إشكال في هذه المسألة.

قوله [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]

بيان ذلك: تبايع زيد وعمرو على شيء بثمن يكون دينا في ذمة عمرو، فرهنه شيئا، فهل يلزم الرهن بمجرد العقد أم لا يلزم حتى يقبضه؟

1-

قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يلزم إلا بالقبض، فلعمرو أن يتراجع عن هذا الرهن لأنه لم يقبض بعد، قالوا: لأن الله عز وجل قال {فرهان مقبوضة} فوصف الرهان بأنها مقبوضة بحيث لو لم تكن مقبوضة فلا تكون رهنا، قالوا: ولأن الرهن تبرع من الراهن فيصح الرجوع فيه قبل القبض.

ص: 187

2-

وقال المالكية بل يلزم الرهن بمجرد العقد، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وبقوله {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} ، وهذا قد حصل من عهد وشرط والمسلمون على شروطهم، وأجابوا عن دليل القول الأول أن قوله {فرهان مقبوضة} أن هذا من الله عز وجل لبيان أتم الرهن وأكمله حفاظا على حق الدائن، ويدل لهذا أن قوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فهذه الآية قد أمر الله فيها باستشهاد رجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو استشهد رجلا وامرأتين فإن هذا جائز وإن أمكنه أن يشهد رجلين، فهذا من باب حفظ الحقوق، وليس في الآية أن الرهن غير المقبوض يجوز قطعه، وكيف هذا وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعهد، والشريعة تسد باب الغدر، وأما ما ذكروه من أنه تبرع فيقال: هذا فيه نظر ظاهر بل هو توثيق للدين وشرط، والمسلمون على شروطهم، فليست القضية تبرعا كالهبة ونحوها بل هو توثيق، وهذا القول هو اختيار الشيخ السعدي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وهو القول الراجح، ثم إن القول الأول يترتب عليه مع الشرط الذي بعده تعطيل كثير من مصالح الناس.

قوله [واستدامته شرط]

استدامته بأن يبقى بيد المرتهن، فهذا شرط، فإن قيل: أليس شرط القبض يكفي؟

ص: 188

فالجواب: لا، فإنه قد يقبضه إياها ثم يرجعها إليه ليتصرف فيها، كأن يقول المرتهن للراهن خذ مزرعتك فتصرف بها، فهذا لا يصح في المشهور من المذهب، وعليه فلا يلزم حينئذ الرهن، فإذا قبضه ثم أعطاه إياه، وقال اتركه عندك فحينئذ لا يبقى الرهن لازما للراهن، فللراهن أن يرجع عن رهنه كما تقدم، وذهب الشافعية أن استدامته ليس بشرط، لأن القبض قد حصل، لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} والشافعية ممن يشترط القبض، وعلى القول بأن القبض ليس بشرط وهو الراجح، فأولى من ذلك الاستدامة، فإن الاستدامة قبض مستمر، فإذا لم يشترط القبض في الابتداء، لم يشترط في أثنائه ولا انتهائه، وقد تقدم الدليل على ذلك، فالصحيح أن الاستدامة ليست بشرط، ويقال إن التوثيق حاصل فيصح الرهن، ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا قيل يرهنه ويبقى عند المرتهن فهذا يضيع مصالح كثيرة، فتتعطل المزرعة لأنها بيد المرتهن، وسيأتي مزيد بيان عند قول المؤلف (وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن) .

قوله [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه]

بمعنى قبض المرتهن الرهن، ثم أعطاه للراهن، فقال له مثلا: أبق الرهن عندك، فهو لم يتخلى عن حقه في الرهن، بل أبقاه عند الراهن، إما على سبيل الإعارة أو الأجرة أو نحو ذلك، فهنا لا يلزم الراهن بالرهن، بل له أن يتراجع عن الرهن.

قوله [فإن رده إليه عاد لزومه إليه]

فإذا رده الراهن إلى المرتهن كأن يستعيره ثم يعيده، فإنه يعود اللزوم إليه، وهذا مبني على القول الذي ذكروه من اشتراط الاستدامة، والصحيح عدم ذلك، وأنه باق حتى لو كان بيده أصلا.

قوله [ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر]

ص: 189

لا ينفذ تصرف أحد منهما - أي الراهن والمرتهن - فيه - أي في الرهن - بغير إذن الآخر، أما الراهن فلأن في تصرفه في الرهن تفويتا لحق المرتهن، فإن المرتهن قد تعلق حقه بهذا الرهن، فإذا تعذر الوفاء باع هذا الرهن وأخذ حقه كما سيأتي تقريره، وكذلك ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن كأن يبيعه أو يهبه أو يوثقه أو نحو ذلك من التصرفات، وذلك لأنه ليس ملكا له، ومن شروط التصرف الملك.

وهذا كله يستثنى منه ما إذا أذن أحدهما للآخر، فإذا ثبت الإذن فذلك جائز من الطرفين، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فذلك جائز، وكذلك إذا أذن المرتهن للراهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فهذه وكالة في البيع.

* وهل للراهن أن ينتفع بالرهن أم لا؟

مثاله: رهن زيد عند عمرو داره على دين اقترضه، فهل للراهن أن ينتفع بهذه الدار بأن يسكنها أو يؤجرها أو يعيرها أو غير ذلك من الانتفاعات؟

1-

القول الأول وهو المشهور من المذهب أن ذلك لا يجوز، فليس للراهن أن يسكن الدار المرهونة ولا أن يؤجرها ولا غير ذلك، قالوا: لتعلق حق المرتهن بها.

2-

وذهب الشافعية إلى جواز سائر الانتفاعات التي لا تضر بالعين، كالسكنى للدار، والركوب للدابة، وعللوا قولهم بأن حق المرتهن إنما هو متعلق بالعين لا بالمنفعة، وحيث انتفع بالعين على وجه لا يضر بها فإن هذا غير ممنوع، كيف والشريعة قد نهت عن إضاعة المال، وفي تعطيلها إضاعة للمال، وهذا القول هو الراجح، ولا دليل على المنع.

قال الحنابلة: ولا يمنع الراهن من مراعاة المرهون بإصلاحه وسقي أو ترميم أو مداواة أو غير ذلك، فعندما يمنع من الانتفاع بداره المرهونة فإنه لا يمنع من القيام بمصالحها، وهذا لا إشكال في جوازه، وعلل الحنابلة لذلك بأن فيه مصلحة للرهن وللراهن، وليس فيه ضرر على المرتهن، بل فيه منفعة له أيضا، فإنه بذلك تبقى العين صالحة.

قوله [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم]

ص: 190

إذا اشترى زيد من عمرو طعاما، ووضع رقيقه رهنا عنده، فهل للراهن أن يعتقه أم لا؟ وإن أعتقه فهل يعتق وينفذ التصرف أم لا؟

قال الحنابلة لا يجوز له أن يعتقه، لذا قال المؤلف هنا (مع الإثم) ، لأن ذلك تصرف في المرهون، وقد تقدم عدم جواز تصرف الراهن في المرهون، لكن هل ينفذ تصرفه بالعتق أم لا؟

قال الحنابلة في المشهور عندهم ينفذ تصرفه، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق ولسراية العتق.

وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي وهو قول للشافعي وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا ينفذ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا، وذلك لأن هذا ممنوع ومنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، قالوا: ولأنه متعلق به حق الغير، ففارق المسألة التي أثبت الشارع العتق تشوفا أو سراية، وهذا القول هو الراجح.

قوله [وتؤخذ قيمته رهنا مكانه]

على القول بنفوذ العتق فإن هذا الرقيق يقوم ثم توضع قيمته عند المرتهن حفاظا لحقه، فتكون رهنا مكانه، وهذا فيه ما فيه، فإنه قد يكون معسرا فيعجز عن إعطاء القيمة، وقد يكون موسرا مماطلا فيفوت على صاحب الحق حقه.

قوله [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به]

ص: 191

إذا وضع عنده رهنا فنما هذا الرهن، كأن يضع عنده شجرا فتثمر أو دوابا فتلد أو رقيقا فيسمن ويتعلم الكتابة مثلا أو نحو ذلك، أو أن يضع عنده عبد يتكسب، وقد تكون هناك جناية على العبد وفيها أرش، فقال المؤلف هنا (نماء الرهن) سواء أكان متصلا أم منفصلا، فالمتصل كالسمن في الدابة، والمنفصل كالثمر والولد، فهذه الأشياء ملحقة بالرهن فتكون رهنا عند المرتهن، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن النماء يتبع أصله في الحقوق، والأصل مرهون فيكون النماء مرهونا، وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد أن النماء المتصل يتبع الأصل، أما النماء المنفصل فلا، فالثمر والولد والكسب وأرش الجناية كل هذه لا تتبع الأصل، قالوا: لأن الرهن متعلق بالأصل فلا يسري هذا إلى غيره، والأصل هو براءة مال المسلم من أن يتعلق به حق غيره، وهذا القول هو الراجح، فإن هذا المرتهن لا حق له فيما يكون من النتاج ونحوه، بل حقه متعلق بالعين نفسها، وعلى دليل على سراية ذلك إلى كل النماء.

قوله [ومؤنته على الراهن]

المؤنة وهي النفقة التي يحتاج إليها الرهن، فما يحتاج إليه الرهن من نفقة ونحو ذلك فإن ذلك يجب على الراهن، فما تحتاج إليه الدواب من طعام أو موضع توضع فيه، وما تحتاج إليه من أجرة راع، وما تحتاج إليه الدار من عناية ونحو ذلك، كل هذا واجب على الراهن، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه) رواه الدراقطني والحاكم وصححه [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] والشاهد قوله (وعليه غرمه) ، ومؤنة النفقة غرم فتكون واجبة على الراهن، ولأن هذا إنفاق، والإنفاق إنما يجب على المالك، والمالك هو الراهن.

قوله [وكفنه وأجرة مخزنه]

ص: 192

إذا احتاج إلى مخزن أو إلى حارس أو نحو ذلك فهذا كله يجب على الراهن، لما تقدم، هذا ما لم يكن هناك شرط، فإذا وجد هناك شرط فالمسلمون على شروطهم، فإذا قال: أضع هذا رهنا عندك لكن عليك أن تقوم بنفقته وكانت النفقة معلومة وليس فيها غرر فهذا جائز، لأن المسلمون على شروطهم.

قوله [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه]

الرهن عند المرتهن من باب الأمانات، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وكونه في حكم الأمانة عنده ظاهر، ويدل عليه ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(له غنمه وعليه غرمه) فدل هذا على أنه كالوديعة، لكن إن تعدى أو فرط فعليه الضمان، فإذا استخدمه بغير إذن أو فرط في حفظه وصيانته ولم يضعه في حرز مثله، فإنه يضمن لأن الأمين يضمن عند التعدي أو التفريط، فلو رهن عنده تمرا لم يبد صلاحه، فأصابته آفة، فإن المرتهن لا يضمن لأنه لم يتعدى ولم يفرط.

قوله [ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه]

وهذا ظاهر جدا، وبيانه لو أن الرهن هلك، فإن الدين يبقى، وذلك لأن الدين متعلق بالذمة، ولا يزيد الرهن عن كونه وثيقة لحفظ الحق، فإذا حصل له تلف فالدين باق في الذمة، كما لو حصل للشهود وفاة فالدين باق في الذمة، أو حصل للورقة التي كتب فيها الدين تلف أو احتراق فالدين باق في الذمة، فهذه كلها وثائق لحفظ الحقوق.

قوله [وإن تلف بعضه فباقيه رهن لجميع الدين]

وهذا أيضا ظاهر، ومثاله: وضع عنده هذا الثمر الذي لم يبد صلاحه رهنا، فحصل لبعض هذه الثمار تلف، فالمتبقي من هذه الثمار يبقى الرهن فيها، إذ لا دليل على سقوط الرهن عنها.

قوله [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين]

ص: 193

مثاله: قال هذا الرقيق رهن عندك على مائة ألف اقرضها منك، فإذا قضاه خمسين ألفا، فلا يخرج من الرهن، فلا يقال إن نصف العبد أصبح ليس مرهونا، بل يبقى حتى يقضيه حقه، وذلك لأن الرهن إنما أخذه عن الدين كله، فلا ينفك حتى يقضي الراهن الدين كله، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، وقد حكى ابن المنذر الإجماع فيها.

قوله [وتجوز الزيادة فيه دون دينه]

يجوز الزيادة فيه أي في الرهن دون دينه، فهنا مسألتان:

1-

المسألة الأولى: حكم الزيادة في الرهن، فقد بين المؤلف هنا جوازها، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة نسيئة، وقال رهنت عندك هذا الدرع، ثم بعد زمن زاده في الرهن فقال: أرهنك هذا الفرس أو هذا السيف، فهذا جائز لا بأس به، لأنه زيادة استيثاق ولا محذور فيه.

2-

المسألة الثانية: وهي في قول المؤلف (دون دينه) أي لا يجوز الزيادة في دين الرهن، مثال هذا: اشترى منه سلعة بثمن مؤجل، ورهنه داره، ثم اشترى منه شيئا آخر بثمن مؤجل، وقال الرهن للدين الأول هو رهن أيضا للدين الثاني، فهذا على مذهب الحنابلة لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن الرهن قد شغل بالدين الأول، والمشغول لا يشغل، وهذا القول هو المشهور من المذهب، وذهب الإمام مالك إلى جواز ذلك، وذلك للمصلحة ولرفع الحرج، وأما قولهم المشغول لا يشغل فهذا صحيح فيما لو كان الرهن لزيد وأراد أن يستدين من عمرو فرهن الرهن الأول له، فإذا كان مشغولا بدين فلا يحل أن يشغل بدين رجل آخر، وأما إذا كان بدين الغريم الأول نفسه فإن هذا لا حرج فيه، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح.

قوله [وإن رهن عند اثنين شيئا فوفى أحدهما.... انفك في نصيبه]

ص: 194

إذا رهن زيد فرسه عند اثنين، كأن يقترض من بكر ألفا، ومن عمرو ألفا، وقال هذا الفرس رهن بالألفين، فالرهن واحد، والراهن واحد، والمرتهن اثنان، فهذا جائز ولا بأس به، ولكن البحث هنا فيما إذا قضى أحدهما فهل ينفك بقدر الدين من الرهن أم لا؟

قال المؤلف (انفك نصيبه) ، فعليه في المثال السابق ينفك نصف الفرس، وذلك لأنه قد رهنه لاثنين فيكون ذلك بمنزلة عقدين، فكأنه قال: اقترضت منك يا زيد ألفا والرهن نصف فرس، وقال: اقترضت منك يا بكر ألفا والرهن نصف فرس، فإذا قضى لأحدهما انفك نصف الفرس، وهذا يتصور في غير الفرس كما لو رهن طعاما.

قوله [أو رهناه شيئا فاستوفى من أحدهما انفك نصيبه]

هنا المرتهن واحد والراهن اثنان، مثاله: اقترض زيد وعمرو كلاهما من بكر، وكل واحد اقترض ألفا، وقال: هذا الطعام رهن عندك على ما علينا من الدين لك، فهنا الراهن أكثر من واحد، فإذا قضى أحدهما الدين فأعطى بكر حقه مثلا فحينئذ له أن يأخذ ما يقابله من الرهن، وذلك لأن الراهن متعدد، وعليه فعقد الرهن أصبح بمنزلة عقدين.

قوله [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى دينه]

إذا اشترى منه أرضا إلى سنة، وقال: هذه السلعة رهن عندك، فإذا حل الدين ومضت السنة، وامتنع من وفاء دينه، كأن يقول: لا أوفي لك حقك، أو يدعي الإعسار، أو يماطل أو نحو ذلك فهنا المسألة فيها تفصيل:

ص: 195

1-

إن كان الراهن قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين، والعدل هو من يختارانه لكي يكون الرهن عنده، فقد لا يرضى الراهن بأن يكون الرهن عند المرتهن، بل يقول الرهن بيد فلان، فهذا هو العدل، فإن كان الراهن قد أذن للمرتهن ببيعه أو أذن للعدل فله أن يبيعه، وليس له أن يبيعه بدون إذن، وسواء كان الإذن قديما في العقد أو جديدا فلا حرج.

2-

إن لم هناك إذن للمرتهن قديم ولا جديد فحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين وإعطاء الحق أو بيع الرهن، فإن لم يفعل - أي لم يعطه حقه ولم يبع الرهن - فإن الحاكم يبيع الرهن ويعطي المرتهن حقه.

3-

فإن تعذر هذا كأن يكون في بعض البلاد التي ليس فيه قضاة يقضون بالشرع وقد وضع الراهن عند المرتهن هذا الرهن وأبى أو يوفيه حقه فالحكم كما ذكر شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم أن المرتهن يضعه في يد ثقة دفعا للتهمة ويبيعه هذا الثقة ويشهد على البيع وعلى الثمن ثم يأخذ المرتهن حقه، وما ذكره المؤلف وما ذكره شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم هو مقتضى العقد، فإن الرهن إنما وضع لهذا القصد، وإلا فلا فائدة منه ولا يحصل به الاستيثاق.

فصل

قوله [ويكون عند من اتفقا عليه]

إذا اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن عند فلان من أهل العدالة فإن الرهن يكون عنده، وذلك لأن المسلمين على شروطهم.

قوله [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد]

إذا أذنا - أي الراهن والمرتهن - للعدل الذي اتفقا على أن يكون الرهن عنده إذا أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد.

ص: 196

أما الراهن فإذنه ظاهر الاعتبار لأنه المالك، وأما المرتهن فإذنه معتبر كذلك، لتعلق حقه بالرهن، ولذا فإن له أن يمتنع عن بيع الرهن يثمن بخس يضر به، فمثلا: لو أراد العدل أن يحابي أحدا في بيع الرهن، وكانت هذه المحاباة تنقص السعر بصورة تؤثر على حق المرتهن في استفاء دينه فله أن يمتنع عن قبول مثل هذا، وحاصل المسألة أن العدل ليس له أن يبيع إلا بنقد البلد أي بالنقد الرائج النافق، وأما إذا كان النقد لا ينفق وهو من النقد الكاسد فلا، وذلك لأنه وكل عنهما فليس له أن يبيعه إلا بما هو أحظ، فمثلا: في هذه البلدة دراهم كاسدة ودراهم نافقة، فإنه لا يبيعه بالدراهم الكاسدة بل يجب عليه أن يبيعه بالدراهم النافقة لأن ذلك هو الأحظ، وسيأتي بيان أن الوكيل يجب عليه أن يتعامل بالوكالة بما هو أصلح وأحظ.

قوله [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن]

إذا قبض العدل الثمن بعد بيع الرهن، ثم تلف هذا الثمن بيده من غير تعد ولا تفريط فإن الضمان يكون على الراهن، لأن هذا العدل يده يد أمانة، ويد الأمانة لا ضمان عليها كما تقدم تقريره.

قوله [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل]

ص: 197

صورة هذه: أخذ هذا العدل الثمن، ودفع إلى المرتهن ولم يشهد، فأنكر المرتهن أن يكون قد أخذه منه، ولا بينة، فإنه يكون من ضمان العدل، لأنه قد فرط، فالواجب عليه أن يقضي دين الراهن للمرتهن بصورة تكون مبرأة لذمته، وهنا لم تبرأ ذمته، وهكذا الوكيل أيضا، ولذا قال المؤلف (كوكيل) ، فلو أعطيت رجلا مثلا مائة ألف ريال، وقلت له: أعطها فلانا عن ديني، فأعطاه ولم يشهد ثم أنكر الآخر وقال: أنا لم آخذ منه شيئا، فالضامن هو الوكيل لأنه قد فرط، واليد الأمينة لا ضمان عليها إذا لم تتعد ولم تفرط، وعليه ففي مسألتنا يرجع المرتهن إلى الراهن ويقول: أعطني حقي، ويرجع الراهن في العدل ويطالبه بالمال.

قوله [وإن شرط ألا يبيعه إذا حل الدين]

إذا قال: هذا رهن عندك لكن اشترط عليك ألا تبيعه إذا حل الدين، فهذا الشرط باطل، لأنه يخالف مقتضى العقد، فمقتضى العقد - أي عقد الرهان - أن يبيعه وإلا فلا فائدة منه.

قوله [وإن جاء بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده]

ص: 198

صورة هذه المسألة أن يقول: هذه الدار رهن عندك على ثلاثمائة ألف ريال، وإذا مرت سنتان ولم آتك بهذا المبلغ فالدار لك، فقال المؤلف: لا يجوز هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بحديث:(لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، ولا يغلق أي لا يخرج عن صاحبه، قالوا: فهذا يدل على أنه ليس له أن يشترط هذا الشرط، فإن قاله فالشرط باطل لكن الرهن صحيح، والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قال ابن القيم:" ولم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وليس فيه مفسدة ظاهرة بل هو بيع معلق بشرط "، إذن هم تمسكوا بالأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وهذا كأنه بيع معلق بشرط، فكأنه قال له أبيعك هذه الدار بثلاثمائة ألف ريال إن لم آتك بحقك إلى سنتين، أما الجواب عن الحديث المتقدم فقد أجابوا عنه بأن الشريعة قد أبطلت ما كان عليه أهل الجاهلية من أن مقتضى العقد يفيد هذا، فمقتضى العقد عندهم يفيد أنه من لم يأت بالحق فالرهن له وإن لم يشترط، وأما اختيار شيخ الإسلام وتلميذه فإنه يكون بمقتضى الشرط لا بمقتضى العقد، ثم إنه لم يغلق عليه بل هو الذي أغلقه على نفسه، فهو قد وضع شرطا على نفسه، والمسلمون على شروطهم، فقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يغلق) معناه أنه لا يغلق على سبيل القهر كما كان في الجاهلية، وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذة ابن القيم هو القول الراجح.

قوله [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده وفي كونه عصيرا لا خمرا]

يقبل قول الراهن في أربع مسائل، ومن كان القول قوله فاليمين يمينه:

ص: 199

1-

المسألة الأولى: إذا اختلفا في قدر الدين، كأن يثبت لنا أن هذه الدار رهن عند زيد لعمرو، كلنهما اختلفا في قدر الدين، فقال زيد هذه الدار قد وضعها عمرو عندي مقابل مائة ألف أريدها منه، وقال عمرو بل مقابل درهم واحد يريده مني، فالقول قول الراهن، فعليه يعطيه درهما ويأخذ داره، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه منكر، فهذا يدعي أن له في ذمته مائة ألف، والراهن يدعي أن في ذمته درهما، والأصل براءة الذمة، والقول قول المنكر، أكثر، أما إذا كانت قيمته أقل من الدين فالقول قول الراهن، وصورة هذا: وضع عنده دارا، وقال إني لم أرهنه هذه الدار إلا على مبلغ عشرة آلاف، وقال المرتهن بل على مائة ألف، والدار تساوي مائة ألف، فحينئذ القول قول المرتهن، وذلك لأن الأصل أن الرهن يكون بقدر الدين لأنه وضع للاستيفاء، والأصل أن المرتهن لا تسمح نفسه برهن شيء إلا أن يكون هذا الرهن يمكن استيفاء الحق منه، لكن لو قال الراهن: هو لا يريد مني إلا عشرة آلاف، وقال المرتهن أريد منه مائة ألف، والدار لا تساوي إلا عشرة آلاف، فحينئذ لا يقبل قول المرتهن، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام، فإن قيل الأصل ما ذكره الحنابلة من أن القول قول المنكر، فالأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والحنابلة أدخلوا هذه المسألة في القاعدة السابقة، فالجواب: أن هذا الأصل متروك هنا، وذلك لقيام القرينة الظاهرة على الخلاف، والقاعدة أنه عند وجود القرينة الظاهرة فإننا نترك الأصل.

ص: 200

2-

المسألة الثانية: إذا اختلفا في الرهن، مثاله: قال الراهن أنا لم أرهنك إلا هذه الدار، وقال المرتهن أنت رهنتني هذه الدار وهذه الدار، فالقول قول الراهن، وذلك لأن الأصل مع المنكر فالقول قوله، والأصل براءة ماله من تعلق حق الغير به، لكن يجب أن يستثنى ما تقدم وهو أن يقال إلا أن تقوم قرينة ظاهرة تدل على صدق المرتهن، فإننا نترك الأصل وتكون اليمين مع المرتهن.

3-

المسألة الثالثة: يقبل قول الراهن في رد الرهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن المال في القوت المحدد بينهما، ثم ادعى المرتهن أنه أعطاه الرهن، وقال الراهن لم يعطني الرهن، فالقول قول المنكر وهو الراهن، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيقال للمرتهن هل عندك بينة أنك أعطيته الرهن، فإن لم يأت ببينة فيقال للراهن احلف أنك لم تأخذ منه الرهن، فإذا حلف فيبقى هذا في ذمة المرتهن.

4-

المسألة الرابعة: يقبل قول الراهن في كونه عصيرا لا خمرا، مثاله: قال الراهن أنا أعطيته الرهن عصيرا، وقال المرتهن بل أعطاه لي خمرا، فالقول قول الراهن لأن الأصل السلامة من الخمر، فمعه الأصل، ومن كان الأصل معه فاليمين يمينه.

قوله [وإن أقر أنه ملك لغيره أو أنه جنى، قبل على نفسه وحكم بإقراره بعد فكه إلا أن يصدقه المرتهن]

قوله (أقر أنه ملك لغيره) مثاله: قال خذ هذه الدار عندك رهنا على مائة ألف أقترضها منك، ثم بعد يومين أقر أن هذه الدار اغتصبها من فلان، فالحكم أنه يقبل على نفسه فتكون هذه الدار لفلان لأنه قد أقر بها له، أما المرتهن فإن الرهن يبقى في يده ثم إذا أخذ حقه أعطاه من أقر له به، إذن يبقى هذا الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه، وذلك لأن إقرار الراهن إنما يكون على نفسه.

ص: 201

ومثل ذلك لو أقر أنه جنى، كأن يقول: خذ هذا العبد رهنا عندك، ثم قال: أقررت أنه جنى، وإذا جنى العبد فإن المجني عليه يمكن من رقبته، أي له حق أن يبيعه ويأخذ حقه إذا كان مالكه معسرا كما سيأتي تقريره، فهل يخرج العبد من الرهان ويمكن المجني عليه من رقبته، أم نقول إقرارك على نفسك، فهذا العبد قد ثبتت عليه الجناية، ويبقى عند المرتهن حتى إذا ما قضي الدين فإنه يمكن منه، فيعطى العبد للمجني عليه؟ الجواب: الثاني، أي أنه يبقى عند المرتهن حتى يستوفي حقه، ثم يعطى الجاني.

ويستثنى من هذا ما إذا صدقه المرتهن، فقال أنا أقر بذلك، وأن هذا المال هو لبكر وليس لزيد، فقد أقر على نفسه فحينئذ يخرج الرهن منه.

وقال بعض الحنابلة في أصل المسألة وهي ما إذا أقر الراهن أن الرهن ملك لغيره أو أنه قد جنى إنه يبطل الرهن.

والذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل وهو أن يقال:

1-

إذا كان بإقراره متهما فإنه يكون إقرارا على نفسه فقط، ويبقى الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه من الراهن.

2-

وأما إذا كان بإقراره غير متهم، فإن الإقرار يلحق المرتهن.

وصورة هذا إذا أقر به لزوجه كأن يقول أنا رهنتك هذا الشيء وهو لزوجتي، وقد قهرتها عليه وهي غير راضية، فالآن هو متهم بتضييع حق الآخر، فالحكم أنه يبقى عند المرتهن حتى يقضي الراهن ما عليه، وأما إن لم يكن متهما كأن يقر لأجنبي ويبعد أن يقع بينهما شيء من المواطأة فحينئذ يبطل الرهن، ويتوجه أن يلزم الراهن بإعطاء المرتهن حقه أو يوضع رهنا جديدا، لأن الرهن يؤخذ من المرتهن ويدفع إلى من أقر له به.

فصل

قوله [وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن]

ص: 202

للمرتهن وهو من بيده الرهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب، فله أن يركب الظهر وأن يحلب الدر بالمعروف بما لا ينتهك المركوب ولا يضعف المحلوب بقدر نفقته، ودليل هذا ما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)[خ 2512] وهذا الحديث فيما يظهر يمكن الاستدلال به على مسألة سابقة وهي عدم شرط استدامة القبض، فإنه قال (وعلى الذي يركب) والغالب أنهما طرفان رهان ومرتهن، فلا يحتاج إلى هذا العموم إذا كان في يد المرتهن فحسب، فدل هذا على جواز أن يكون بيد الراهن وأن هذا لا يخل بصحة الرهن، والمقصود هنا الاستدلال هذا الحديث على أن من ركب أو شرب فإن عليه النفقة، وأن المرتهن يجوز له وإن لم يأذن الراهن يجوز له أن يركب المركوب كالجمل والفرس ونحوهما بنفقته، وهل السيارة مثل ذلك؟ هذا في الحقيقة لا يقع في السيارة لأنها لا تحتاج إلى نفقة إلا مع السير فيها، لكن المثال الأوضح هو الجمل والفرس ونحوهما من الدواب المركوبة، والمقصود أن من أنفق فله الركوب سواء كان راهنا أو مرتهنا بإذن الراهن للمرتهن أو بغير إذن، وهذا قد اتفق عليه العلماء لثبوت الحديث فيه، واتفقوا على أن ما يحتاج إلى مؤنة كالدار ونحوها فإنه ليس للمرتهن أن ينتفع به، وذلك لأن الرهن ملك للراهن، والانتفاع به تبع للملك، ونماؤه تبع للأصل، فليس للمرتهن أن يركب السيارة ولا أن يسكن الدار إلا بإذن الراهن.

واختلف العلماء في العبد ونحوه مما يحتاج إلى نفقة واجبة، هل له حكم المركوب والمشروب أم ليس له هذا الحكم؟

ص: 203

1-

فالمشهور من المذهب أن العبد ونحوه ليس للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الراهن، وأنه إن أنفق عليه فإن كان على وجه التبرع فليس له أن يرجع على الراهن، وإن أنفق عليه نية الرجوع فله أن يرجع على الراهن على تفصيل سيأتي ذكره في المذهب.

2-

وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي ثور أن له أن ينتفع به مقابل النفقة قياسا على المركوب ومشروب الدر، وذلك بجامع أن كليهما نفقته واجبة، بخلاف الدار فإن مالكها له أن يهملها ويعطلها من غير أن يقول بإصلاحها أو عمارتها، وأما العبد والحيوان فإنه يجب على مالكه أن ينفق عليه، وهذا القول فيما يظهر راجح، فإن النفقة واجبة فيه، فإذا أنفقها عليه فيجوز له بمقابل هذه النفقة أن ينتفع به بالمعروف من عمل وتكسب ونحو ذلك.

قوله [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع ولو لم يستأذن الحاكم]

إذا أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن من الراهن مع إمكان استئذانه، كأن ينفق على رقيقه أو زرعه أو شجره من غير أن يستأذن الراهن مع إمكان الاستئذان فإنه لا يرجع، فيكون حكمه حكم التبرع، قالوا: لأنه لا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون هذا الإنفاق منه بنية التبرع فحينئذ ليس له أن يرجع ويطالب بما أنفق.

الثانية: أن يكون بنية الرجوع فليس له الحق أيضا لأنه مفرط فهو قادر على الاستئذان متمكن منه ومع ذلك لم يستأذن.

ص: 204

لكن إن تعذر الاستئذان فله أن يطالبه بحقه لأنه غير قادر على الاستئذان، وحينئذ لا يكون مفرطا، ولو لم يستأذن الحاكم، فليس بشرط أن يستأذن الحاكم في النفقة، وذلك لما يترتب عليه في الغالب من تفويت مصلحة الرهن حتى يأذن الحاكم، ولأنه لا دليل على اشتراط إذنه، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه له الرجوع مطلقا ما لم ينو التبرع، ودليل هذا أنه نائب عن صاحب الحق فكان له أن يطالب كسائر من ينوب عن الغير في أداء الحقوق، فهنا ناب عن صاحب الحق فيما لا يجب عليه فكان له أن يطالب بالحق، وقد قال الله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وهذا محسن فجزاؤه أن يحسن إليه، وأما أن يمنع من إعطائه حقه فليس هذا من الإحسان، ولأن الله تعالى قال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وقال {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقيد الله سبحانه هذا بالاستئذان، فأوجب الله على الوارث أن يعطي المرضعة أجرتها ولم يقيد ذلك بإذنه له بالرضاع، بل أوجبه بمجرد الرضاع، وهذا القول هو الراجح.

قوله [وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها]

فالوديعة كذلك كالرهن، فإذا كان عند رجل وديعة، وكانت هذه الوديعة تحتاج إلى نفقة واجبة، كأن يضع عنده رقيقا أو حيوانا وديعة أو نحو ذلك فإذا أنفق عليه بغير نية التبرع ففيه الخلاف المتقدم، فليس له الرجوع إن لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، وإذا استأذنه وأذن له فيجب عليه أن يعطيه حقه، فالوديعة لها حكم الرهن على التفصيل المتقدم، وكذلك إذا استأجر دوابا فهرب ربها وتركها فهي في حكم الوديعة لأنها أصبحت أمانة في يده، فإذا أنفق عليها فعلى التفصيل المتقدم.

قوله [ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن رجع بآلته فقط]

ص: 205

فإذا وضع عنده دارا رهنا فخربت هذه الدار فعمرها وأحضر لها خشبا وحديدا ونحو ذلك، فالحكم أنه له ثمن الآلة من خشب وحديد وليس له أن يأخذ أجر المعمرين ولا أجرة الماء ولا الطين ولا نحو ذلك، ودليل ذلك أن هذه النفقة نفقة غير واجبة على الراهن فليس واجبا على الإنسان أن يصلح داره إذا خربت، فإذا أصلحها المرتهن فقد فعل أمرا لا يكون فيه نائبا عن أمر واجب عن آخر، وقال القاضي من الحنابلة: بل على الراهن أن يعطيه عوضه، وله أن يطالب بالحق لأن في ذلك مصلحة الرهن، فهذا الرهن قد تعلق به حق المرتهن، ولا شك أن فساده فساد لهذه الوثيقة، ظاهر كلامه أن ذلك مطلق، سواء كان هذا الإصلاح يترتب عليه حفظ حقه أم لا، وفصل ابن رجب الحنبلي تفصيلا وقال هو متوجه قواه صاحب الإنصاف أنه إذا كان هذا الخراب يمكن أن يستوفي من الرهن قيمة الدين مع وجوده فليس له أن يرجع، مثال ذلك: أعطاه هذه الدار رهنا، فحصل فيها خراب، وكانت رهنا على عشرة آلاف، ولو بيعت وهي خربة فإنها تباع بعشرة آلاف، فإنه حق المرتهن الآن محفوظ من غير أن يصلحها، فإذا أصلحها فليس له الرجوع لأنه تصرف تصرفا لم يؤذن له فيه أولا، وليس واجبا على الآخر أن يصلح هذا الشيء، وأما إذا كان الرهن لا يستوفى ببيعه الدين بعد وقوع الخراب فيه، فإذا أصلحه أمكن أن يبقى ويستوفى منه الدين، أو خشي أن يخرب شيئا فشيئا حتى تذهب قيمته فلا يمكن أن يستوفى منه الدين فإذا أصلحه والحالة هذه فإنه يمكنه أن يرجع، وهذا التفصيل تفصيل قوي كما ذكر صاحب الإنصاف، وقد أفتى شيخ الإسلام فيمن أصلح وقفا أنه يأخذ نفقته من غلته، وعلى هذا يمكن أن تخرج هذه المسألة المتقدمة على كلام شيخ الإسلام.

ص: 206