المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

باب الإجارة   الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر، وهو العوض، وأما - شرح زاد المستقنع - حمد الحمد - جـ ١٥

[حمد الحمد]

فهرس الكتاب

باب الإجارة

الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر، وهو العوض، وأما في الاصطلاح فه ي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين أو عمل بعوض معلوم مدة معلومة.

فقولنا (عقد) أي بين المتعاقدين المؤجر والمستأجر.

وقولنا (على منفعة مباحة معلومة) كسكنى الدار مثلا، أو ركوب الراحلة أو نحو ذلك.

وقولنا (من عين) كالدار للسكنى أو للبيع فيها أو نحو ذلك، سواء كانت العين معينة أو موصوفة، كأن يقول: أجرتك وأكريتك هذه الدار، أو موصوفة كأن يقول: أجرتك دارا سعتها كذا، وفيها من الغرف كذا ونحو ذلك.

وقولنا (عمل) كأن يستأجر على أن يحمل له طعاما أو يبني له حائطا، أو نحو ذلك.

وقولنا (بعوض معلوم) كأن يكون عشرة آلاف.

وقولنا (مدة معلومة) كسنة أو سنتين أو نحو ذلك.

وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة الإجارة، أما الكتاب فقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ، وأما السنة فمن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري:(أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا - أي ماهرا في الدلالة -)[خ 2263] وقد أجمع أهل العلم على صحة الإجارة، والحاجة داعية إليها فإن الإنسان يحتاج إلى المنافع المتصلة بأعيان مملوكة لغيره، فيحتاج إلى سكنى الدار، وإلى أحد يحمل له، وإلى رحلة يركبها، وقد لا يكون مالكا لذلك، فيحتاج إلى هذه المنافع التي أعيانها مملوكة لغيره، فأجازتها الشريعة، وهي قائمة على رفع الحرج وتحصيل المصلحة، ولا شك أن الإجارة عقدها عقد مصلحة وحاجة.

والإجارة بيع للمنفعة، وعليه فيشترط فيها ما يشترط في البيع، ومن ذلك أن يكون المتعاقدان جائزي التصرف.

قوله [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة]

إما بالعرف أو بالوصف، وقد ضرب المؤلف هنا ثلاثة أمثلة للعرف فقال:

قوله [كسكنى دار]

ص: 1

فإذا أراد أن يستأجر دارا ليسكنها فإن كيفية الانتفاع بها بالسكنى معروفة بالعرف، ولذا فليس له سوى ما دل عليه العرف، فليس له أن يجعلها مخزنا للطعام، أو أن يضع فيها دوابا أو غير ذلك، وله أن يكرم فيها ضيفه ونحو ذلك، لأن العرف قد دل عليه، وإن كانت هذه الدار فيها مساحة، وقد قام العرف على جواز وضع الدواب فيها فإنها توضع.

قوله [وخدمة آدمي]

فعندما يستأجر عاملا ويقول: أريد أن تعمل عندي شهرا، فإن تحديد زمن هذه الخدمة من الليل والنهار معروف في العرف، فإنه يكون من صلاة الفجر - مثلا - إلى المغرب في عرف بعض الناس أو بعض العمال، وهذا يختلف باختلاف الأزمان واختلاف العمال.

قوله [وتعليم علم]

فإذا استأجره لتعلم منه علما سواء كان علما شرعيا أو كان علما دنيويا - وسيأتي الكلام على أخذ الأجرة على العلم الشرعي -، فإذا استأجره ليتعلم منه علما فهذا معروف في العرف.

وقد تكون المنفعة معروفة بالوصف وذلك إن لم يكن هناك عرف، فإذا استأجره لبناء دار أو حائط، ونحو ذلك فإنه يحدد له طوله وعرضه وطريقة البناء ومواد البناء التي يختلف باختلافها البناء ونحو ذلك، وإذا أراد أن يستأجره لحفر بئر حدد له عمقها وعرضها وطولها ونوعية الأرض ونحو ذلك، والمقصود أن تكون المنفعة المستأجرة معلومة محددة إما بعرف أو وصف، ودليل ذلك أن الإجارة بيع، فهي بيع منفعة، ومن شروط البيع معرفة المبيع، وهنا كذلك من شروط صحة الإجارة معرفة المنفعة المستأجرة.

قوله [الثاني: معرفة الأجرة]

كالبيع، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن معرفة الثمن في البيع شرط، فكذلك في الأجرة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الدار بعشرة آلاف كل سنة.

قوله [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما]

ص: 2

فيصح أن يستأجر أجيرا ليعمل له وتكون أجرته هي سكناه وطعامه وكسوته، فهذا جائز، وكذلك يجوز أن يستأجر مرضعة وتكون الأجرة طعامها وكسوتها، ودليل ذلك قول الله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فعلى المولود له وهو ولي الرضيع أن يكسو وأن يرزق المرضعة، وليس هذا للزوجة، لأن الله عز وجل قد جعل أجرة للرضاعة، وكذا أوجبه على الوارث غير الزوج فقال تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} ، فدل على أن هذا الرزق والكسوة من الزوج ليس بسبب الزوجية، وإنما هو بسبب الرضاع فهو أجرة على الرضاع، وكذلك الأجير كما تقدم، وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف جدا - فإن فيه بقية بن الوليد وفيه سلمة وهو رجل ضعيف جدا - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن موسى قد أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه)[جه 2444] والحديث لا يصح، لكن الأجير يقاس على الظئر.

فإن قيل هذه الأجرة مجهولة، وقد شرطنا في الأجرة أن تكون الأجرة معلومة؟

فالجواب: أنها ليست مجهولة، بل هي معلومة، فإن مرجع ذلك إلى العرف، والعرف يدل عليها، فيمكننا أن نحدد هذه الكسوة وهذه النفقة بالعرف.

* هل يجوز أن يستأجر دابة وتكون الأجرة علفها أو أن يحدد لها شيئا من المال مع تعليفها، كأن يقول: استأجر منك هذه الدابة وأجرتها أن أعلفها عنك، أو يقول: وأجرتها كل يوم درهم، وأن أعلفها عنك، فهل يجوز ذلك؟

الجواب: منع الحنابلة من ذلك في المشهور عندهم للجهل، قالوا: علفها مجهول، سواء كان منفردا بالإجارة، أو كانت هناك أجرة مضافة إليه، وعن الإمام أحمد أنه يصح، وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وهو القول الراجح، وذلك لأن هذا معروف بالعرف، فالعرف يقوم مقام التسمية، فكما أجزناه في الظئر وفي الأجير فكذلك في الدابة.

قوله [وإن دخل حماما أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطا بلا عقد صح بأجرة العادة]

ص: 3

قوله (قصارا) القصار هو من يفصل الثوب من غير خياطة،

[قلت (محمد خليفة) : بل القصار هو من يدفع إليه القماش أو الثوب ليقصره؛ لأن من الثياب ما يقصر بالغسيل، فلا يمكن خياطتها إلا بعد أن تقصر، فتدفع مثل هذه الأقمشة إلى القصار ليقصرها، فيغسلها، ويدقها بالعصا، وينشرها، ويكويها، ولعله أن يصبغها أحيانا ليغير من لونها حسب ما يطلب منه، ثم بعد ذلك يدفعها للخياط ليخيطها.

أفادني بما ذكر الأستاذ أبو طريف محمد النميري، والله أعلم]

فإذا وضع ثوبه عند قصار أو خياط، أو ركب سفينة أو سيارة من الرياض مثلا إلى حائل ولم يتفق على أجرة، أو أجر حمالا يحمل له طعاما ولم يسميا أجرة، فإنه يصح بأجرة العادة، وذلك لأن جريان العرف بالشيء يقوم مقام التسمية.

قوله [الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنى والزمر والغناء وجعل داره كنسية أو لبيع الخمر]

أو لبيع الأشرطة المحرمة من غناء أو فيديو أو غير ذلك من الأشياء المحرمة، فهذا لا يجوز ولا تصح الإجارة، وذلك لأن الشريعة من قصدها إزالة هذه المنكرات، والإذن بالإجارة فيها وتصحيحها ينافي مقصود الشرع المتقدم، ولقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، ولأنه لعن في الخمر من لعن ومنهم حاملها، فهو أجير يحمل الخمر، ومع ذلك لعنه النبي صلى الله عليه وسلم، إذن فالشرط الثالث: هو الإباحة في العين، فعلى ذلك إذا استأجر رجل دكانا لبيع الخمر أو أشرطة الغناء أو نحو ذلك فتبين للمؤجر أن ذلك محرم فيجب عليه أن يبطل العقد، وإن اتفقوا سنوات، وإن كان استلم الأجرة، مع أن عقد الإجارة عقد لازم لا يجوز لأحد من الطرفين فسخه، لكن هنا هو عقد باطل، وذلك لأن النفع غير مباح.

قوله [وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه]

ص: 4

فيجوز أن يؤجر حائطه لوضع أطراف خشب معلوم، لأن الأصل في العقود الحل، وهذا نوع من أنواع الإجارة، وكذلك لو كان عنده دكان، فاستأجر أحد منه أن يضع عليه شيئا من الخارج أو نحو ذلك فيجوز له أن يؤجر، وذلك لأنه أجر منفعة معلومة.

قوله [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها]

لا تؤجر المرأة نفسها بعمل من الأعمال بغير إذن زوجها، وذلك لما في عملها من تفويت حق الزوج، فلم يكن لها أن تعمل عملا إلا أن يأذن لها زوجها فيه.

فصل

تقدمت شروط المنفعة المستأجرة، وهذا الفصل في شروط العين المؤجرة، أي العين المشتملة على المنفعة، فعندما يستأجر دارا ليسكنها، فالسكنى منفعة، والدار هي العين، وعندما يستأجر جملا ليحمل عليه، فالجمل هي العين، والمنفعة هي الحمل، وعندما يستأجر امرأة للرضاع، فالرضاع هو المنفعة، والمرأة هي العين.

قوله [يشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة]

هذا هو الشرط الأول: وهو معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة.

وذلك لأن المنفعة تختلف باختلاف العين، فعندما يستأجر دارا ليسكنها وهو لا يعرف ما في هذه الدار من غرف ولا يعرف مساحتها ونحو ذلك فلا شك أن هذا مؤثر في اختلاف الأجرة فاشترط ذلك.

قوله [في غير الدار ونحوها]

ص: 5

فالدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا تكفي الصفة، بل تشترط المشاهدة والرؤية، فإذا قال: أريد أن أكريك داري التي مساحتها كذا، وعدد غرفها كذا، وموقعها كذا، ونحو ذلك فقال: رضيت، فهذا لا يجوز، ولا تصح الإجارة، قالوا: لأن الدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا ينضبط بالوصف، وقد تقدم أن المشهور من المذهب أن السلم لا يصح إلا في المكيلات والموزونات والمذروعات، وأما المعدودات وغيرها مما لا ينضبط فلا يصح فيه السلم، لأن السلم بيع على الصفة، وقد تقدم أن الراجح أن ما يكون الاختلاف فيه اختلافا يسيرا، والتفاوت فيه تفاوت يسير فالسلم فيه جائز، ولو لم يكن مكيلا أو موزونا أو مذروعا، فهنا كذلك في باب الإجارة، فعندما يصف له الدار وصفا بينا ظاهرا ثم يستأجرها على هذا الوصف التام الظاهر - وإن كان يقع فيه شيء من التفاوت اليسير - فهذا ليس بمؤثر، فهذه جهالة يسيرة يعفى عن مثلها.

إذن هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة في باب السلم، فالصحيح أن كل ما ينضبط بالصفة وإن كان الانضباط فيه ليس تاما بل مع التفاوت اليسير فإن الإجارة فيه جائزة كالسلم، أما إذا كان التفاوت كثيرا مما تقع بمثله المنازعة فلا يجوز ذلك كما في السلم.

قوله [وأن يعقد على نفعها دون أجزائها]

هذا هو الشرط الثاني: وهو أن يعقد على نفعها دون أجزائها.

ص: 6

بمعنى أن الإجارة لا تؤثر على أجزائها، فلا يتلف من هذه العين شيء، كسكنى الدار والحمل على الجمل ونحوه، لكن لو كانت الإجارة على شيء من أجزائها كأن يستأجر طعاما للأكل أو شمعا ليشعله أو صابونا لغسل اليدين به أو نحو ذلك فلا تجوز الإجارة فيه، فلا تصح الإجارة في أي شيء يستنفذ شيئا من الأجزاء بل لا بد أن تكون مختصة بالمنافع، ولا يريدون ما يحصل من التلف اليسير، فإن سكنى الدار يحصل فيها تلف يسير، فهذا ليس هو المقصود، بل المقصود أن يكون هذا العقد يقضي على شيء من أجزائها، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب جمهور الفقهاء، واختار شيخ الإسلام جواز هذا، واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد من المتأخرين، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، ولو سلمنا - ونحن نسلم بهذا - أنها ليست إجارة لأن الإجارة تكون على المنفعة مع بقاء العين وعدم استهلاكها لكن لا مانع من ذلك، فهي وإن لم تكن إجارة لكن لا دليل على المنع منها، ولذا قال شيخ الإسلام:" هي إذن بالإتلاف وليست إجارة وهذا سائغ "، أي أن يأذن بإتلاف ماله مقابل مال يدفع إليه فهذا سائغ، وهي ليست بإجارة، لكنها عقد صحيح لا تستهلك فيه العين كلها فيكون بيعا، وإنما يستهلك فيها بعض العين، ويأخذ المؤجر حقه مقابل هذا الاستهلاك.

قوله [فلا يصح إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر]

ص: 7

أي في المرضعة فذلك جائز، أما لو استأجر من رجل إبلا أو بقرا أو غنما ليأخذ لبنها في وقت درها فقال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لأن الإجارة على المنفعة، وهنا وقعت على العين، فإن اللبن عين، فليست الإجارة على منفعة، وقال بعض أهل العلم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختياره رحمه الله، واختيار تلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز، قياسا على الظئر، فكما أن الظئر يجوز لها أن تؤجر لبنها للطفل فكذلك يجوز في هذه المسألة، قالوا: واللبن هنا مع بقاء الأصل كالمنفعة مع بقاء الأصل، فاللبن هنا يستهلك والأصل باق، فإن الأصل هو البقر - مثلا - باق، واللبن يستهلك فأشبه هذا المنفعة، فإن المنفعة تكون مع بقاء الأصل، قالوا: وبالقياس على المساقاة فإنه يؤجر أرضه ونخله ويأخذ الآخر ثمرها بكراء من ذهب أو فضة، وهنا كذلك فإنه يستأجر هذا البقر أو الغنم ويأخذ لبنها، بل تطرق الإجارة إلى الأرض أعظم من تطرقها إلى لبن هذه الشاة أو لبن هذه البقرة، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وليس مع المانعين دليل يمنع كما أن الأصل في العقود الحل.

قوله [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعا]

إذا قيل: أنتم عندما تكرون أرضا أو تؤجرونها يدخل فيها ماء بئرها، وعندما تكرون أرضا للزراعة يدخل في ذلك ماء بئرها، ويدخل في ذلك الماء الذي في الأرض وهي أعيان، فلماذا لو تقولوا بالمنع فيها، فهي كاستئجار الحيوان لأخذ اللبن في وقت دره، فأجابوا هنا: أنهما يدخلان تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، وهي قاعدة صحيحة، وعلى القول الراجح المتقدم الذي اختاره شيخ الإسلام لا إشكال في هذه المسألة.

قوله [والقدرة على التسليم]

هذا هو الشرط الثالث: أن يكون مقدورا على تسليمه كما يشترط هذا في البيع.

ولا شك أنه إذا أجر ما لا يقدر على تسليمه فإن ذلك غرر.

ص: 8

قوله [فلا تصح إجارة الآبق والشارد]

فلا تصح إجارة العبد الآبق أي الهارب من سيده وكذلك لا تصح إجارة الشارد أي الجمل الشارد وهذا ظاهر.

قوله [واشتمال العين على منفعة]

هذا هو الشرط الرابع: وهو أن تكون العين مشتملة على المنفعة.

فعندما يستأجر منه عينا على أن ينتفع بها ولا نفع فيها فلا شك أن ذلك لا يجوز، وذلك لأن المقصود هو استيفاء المنفعة، فإذا لم تكن المنفعة ثابتة في هذه العين فحينئذ لا يمكن استيفاؤها، فعندما يكريه جملا عاجزا عن الحمل لكي يحمل عليه فلا يمكنه أن يستوفي ذلك، فكان ممنوعا ولذا قال:

قوله [فلا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض سبخة لا تنبت]

فلا يجوز له أن يؤجر أرضا سبخة لا تنبت لأن هذه العين لا نفع فيها ولا يمكنه أن يستوفي نفعها، كذلك عندما تكون البهيمة زمنة أي فيها عاهة فلا يمكن أن تؤجر ولا تصح إجارتها وذلك لأن المنفعة لا يمكن استيفاؤها.

قوله [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونا له فيها]

هذا هو الشرط الخامس: وهو أن تكون المنفعة للمؤجر مملوكة له أو مأذونا له فيها.

ص: 9

ولم يقل: العين، وذلك لأن الإجارة تقع على النفع، فمتى كان مالكا للنفع فله أن يؤجر، فمثلا ناظر الوقف لا يملك الوقف لكنه يملك منافعه فله أن يؤجر، والمستأجر لدار مثلا لا يملك الدار لكنه يملك منفعتها فله أن يؤجرها، وكذلك عندما تكون هذه الأرض مملوكة لغيره وقد وكله بتأجيرها، فهو لا يملك العين بل يملك النفع، وهو نائب عن المالك فله أن يؤجرها، فعلى ذلك إذا أجر رجل دارا لا يملك منفعتها فلا تصح إجارتها، وذلك لاختلال هذا الشرط، والإجارة كالبيع فكما أن البيع يشترط فيه أن يكون من مالك، فكذلك الإجارة، وعلى ما تقدم ترجيحه من صحة بيع الفضولي مع الإجازة فكذلك الإجارة، فإذا أجر دارا وهو لا يملك منفعتها فأجاز مالك المنفعة ذلك فتصح الإجارة لأنه تصرف فضولي أجيز، فهو صحيح خلافا للمشهور من المذهب كما تقدم في البيع.

قوله [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررا]

إذا استأجر أرضا أو دارا أو جملا أو نحو ذلك فهل له أن يؤجر؟

الجواب: باتفاق العلماء له أن يؤجر، وذلك لأنه مالك لمنفعتها المدة المتفق عليها، ولكن هل له أن يؤجرها بثمن أكثر؟

الجواب: له ذلك، وذلك لأنه متصرف في ملكه، فالمنفعة ملك له، فله أن يؤجرها بما شاء.

ولكن هل له أن يؤجرها مع ضرر أكثر؟

الجواب: ليس له ذلك، مثاله: استأجرت أرضا لتزرع فيها قمحا، فهل لك أن تؤجرها لمن يزرعها أرزا؟

الجواب: ليس لك ذلك لأن الأرز يستهلك الأرض أكثر من استهلاك القمح لها، وكذلك إذا استأجرتها لتزرع شيئا من الخضروات فليس لك أن تؤجرها لمن يزرعها قمحا لأن القمح يستهلك الأرض أكثر، وكذلك إذا استأجرت دارا لتسكنها فليس له أن تؤجرها لما يضر بها، كأن تؤجرها محلا أو نحو ذلك، وذلك لأنك لا تملك ذلك، فأنت عندما استأجرت الأرض لتزرع القمح، هل لك أن تزرعها أرزا؟

ص: 10

الجواب: لا، ليس لك ذلك، لأن المنفعة المأذون لك فيها أقل ضررا، فإذا كان هذا فيك، فكذلك فيمن يقوم مقامك، أما إذا أجرها بنفس الضرر أو أقل فلا بأس.

قوله [وتصح إجارة الوقف]

وذلك لأن نفعه مملوك للموقوف عليه، فإذا أوقفت دارا على أولادك فنفع هذا الوقف مملوك للأولاد، فإذا أجر، فالإجارة تقع على منفعته وهي مملوكة للمؤجر.

قوله [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ وللثاني حصته من الأجرة]

إذا أجر الوقف ثم مات هذا المؤجر، فإنه يتنقل إلى من بعده في المرتبة فما الحكم؟

مثاله: قال هذا البيت وقف على زيد فإن مات زيد فهو وقف على عمرو، فإذا أجره زيد سنة، فلما مضى شهر مات، فهل تنفسخ الإجارة؟

قال المؤلف: لا تنفسخ الإجارة لأن زيدا لما أجره كان مأذونا له في ذلك، وكان ذلك تحت ولايته، فكان له أن يؤجره كما أنه لمالك غير الوقف أن يؤجر ملكه، فإن مالك غير الوقف إذا أجر ثم مات فإن الإجارة لا تنفسخ كما سيأتي، فجعلوا إجارة من بيده الوقف كإجارة مالك الشيء غير الموقوف، والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن عقيل من كبار الحنابلة أنه ينفسخ، قالوا: لأنه أجر هذا الوقف في وقت ملكه للنفع، وذلك وقت حياته، وأجره في غير ملكه وهو ما بعد موته، فليس له أن يؤجره في غير ملكه، فقد انتقل إلى طبقة أخرى، وهذا القول هو الراجح، والفرق بين إجارة المالك لغير الوقف وبين إجارة المالك لمنفعة الوقف ظاهرة، والقياس مع الفارق لا يصح، ويمكن أن يكون الفرق من وجهين:

الأول: أن ملكية المالك لغير الوقف أقوى من ملكية مالك نفع الوقف، فإن ملكية المالك تثبت على العبن والنفع، وأما الوقف فالموقوف عليه لا يملك إلا نفعه.

ص: 11

الثاني: أن المؤجر المالك لغير الوقف له أن يأخذ المال - أي الأجرة - ويكون في ملكه من أول الإجارة، وأما المالك لنفع الوقف فإنه يؤخذ من تركته كما قرر ذلك الحنابلة - فيما سيأتي -، بمعنى: أجره ثم بعد شهر مات هذا المؤجر، فلا يملك من هذه الإجارة إلا مدة شهر، وأما المالك الآخر فلو أخذ المال أي الأجرة قبل الموت فهو مالك لها، فاختيار شيخ الإسلام هو الراجح وبه يحفظ حق الموقوف عليه، فإن المدة قد تطول عليه.

فإن قلنا: لا تنفسخ، فكما قال المؤلف هنا (للثاني حصته من الأجرة)

إذا أجره الموقوف عليه الأول لمدة سنة بعشرة آلاف ريال، وأخذ فيها خمسة آلاف ريال، ومات بعد ستة أشهر، فللموقوف عليه الثاني الخمسة الآلاف الباقية، لأن النفع في هذه المدة الباقية أصبح ملكا له، وليس للموقوف عليه أن يستسلف الأجرة كما قال شيخ الإسلام، وذلك لأنه لا يملك منفعتها المستقبلة، وبالتالي لا يملك أجرتها المستقبلة، فإذا اتفق معه على الإجارة خمس سنوات وأخذ الأجرة مع العقد فما يدريه أنه سيعيش ويبقى له الوقف هذه السنوات المقبلة، فإنه لا يملك إلا منفعتها الحالة، فعليه: يأخذ الأجرة أقساطا، فإذا أخذ الموقوف عليه الأول الأجرة كاملة وكان الاتفاق على سنة ثم مات بعد شهر، فالمشهور من المذهب أن الموقوف عليه الثاني يرجع إلى تركة الموقوف عليه الأول، فإن لم يجدها قالوا: تسقط، وذلك لأنه لا يمكن الرجوع فحينئذ تسقط، وهذا فيه تضييع حق كما تقدم، وليس له أن يفسخ، لأن الأول قد أثبت هذا العقد، والراجح كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام وهو أحد الوجهين في المذهب.

قوله [وإن أجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح]

ص: 12

فإذا أجر داره التي يغلب على ظنه بقاؤها مدة طويلة إذا أجرها مدة طويلة صح، كأن يؤجر بيتا له يغلب على ظنه بقاؤه عشرين سنة يؤجره عشرين سنة، فهذه الإجارة صحيحة، وذلك لأن الأصل في العقود الحل، ولا محذور في هذا العقد، وإذا صح لسنة أو سنتين أو نحوهما فإنه يصح أكثر من ذلك ولا محذور فيه.

* هل يجوز للوكيل المطلق أن يؤجر الدار ونحوها - التي قد وكل في إجارتها - مدة طويلة يغلب على الظن بقاؤها فيها؟

منع نم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف أن الوكيل لا يؤجر السنين الطويلة وإنما يؤجر السنة والسنتين ونحو ذلك، وصوب صاحب الإنصاف وقال:" لا يظهر أن الشيخ تقي الدين يمنع من ذلك " صوب أنه إذا كان في ذلك مصلحة جاز ذلك، ويعرف ذلك بالقرائن، فإذا ظهر للوكيل أن في إجارة الدار المدة الطويلة مصلحة للموكل فإنه لا مانع من هذا، وهذا يقع عندنا في مثل استئجار الدوائر الحكومية أو الشركات ونحو ذلك، فإنها في الغالب تحتاج إلى استئجار مدة طويلة ويكن فيها مصلحة، فمثل هذا لا يمنع منه، فالعرف وإن لم يجر به فإن الوكالة تكون فيما فيه مصلحة، وهنا فيه مصلحة ويغلب على الظن بل يتيقن أن هذا الموكل لا يمنع من هذا، وعلى القول بأنه يمنع من ذلك فإنه موقوف على إجازته.

إذن لصاحب الدار أن يؤجر داره مدة طويلة يغلب على الظن بقاء الدار فيها، وأما الوكيل فليس له أن يؤجر إلا ما جرت العادة له كسنة أو سنتين أو نحو ذلك، إلا أن تكون هناك مصلحة ظاهرة فإن ذلك جائز ولا حرج فيه.

قوله [وإن استأجرها لعمل، كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث، أو دياس لزرع، أو استأجر من يدله على طريق، اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف]

ص: 13

فإذا استأجر من يدله على طريق أو استأجر جملا أو نحوها لتحمل أو استأجر بقرا لدياس الزرع أو لحرث الأرض ونحو ذلك فإنه يشترط أن يعلم هذا العمل ويعرف بما لا يختلف فيه، وذلك لأن المعقود عليه هو العمل، فاشترط العلم به كالبيع، فكما أنه يشترط العلم بالمبيع في عقد البيع، فيشترط أيضا العلم بالعمل في عقد الإجارة، فإن الإجارة نوع من أنواع البيع.

قوله [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة]

لا تصح الإجارة على عمل من الأعمال التي يختص أن يكون عاملها من أهل القربة، وأهل القربة هم المسلمون، والأعمال التي يختص بها أهل القربة هي الأعمال التي لا تقع إلى على جهة التعبد كالأذان والإقامة والصلاة والحج وغير ذلك من الأعمال الصالحة، أما إن كان العمل لا يختص أن يكون من القرب كبناء المساجد مثلا فإن باني المسجد قد يبنيه لله عز وجل وقد لا ينوي به التعبد، وكتعليم علوم اللغة، فإنه من نوى بها التعبد كانت عبادة، ومن لم ينو بها التعبد لم تكن عبادة وهكذا.

ص: 14

فمثل هذه يجوز أن يأخذ عليها الأجرة بلا خلاف بين أهل العلم، وإنما وقع الخلاف على أخذ الأجرة على الأعمال التي لا تختص بأن يكون فاعلها نم أهل القربة، ولا خلاف بين العلماء أن الرزق الذي يكون من بيت مال المسلمين كالرواتب التي تكون للخلفاء والقضاة والعلماء وغيرهم لا خلاف بينهم أن هذا جائز عند الحاجة، وأما إذا كان آخذه غنيا غير محتاج إليه فقولان لأهل العلم كما حكى ذلك شيخ الإسلام، والجمهور على الجواز، ويدل عليه جواز أخذ الغنيمة للمجاهد الغني، فقد تقدم في كتاب الجهاد أن المجاهد الغني يجوز له أن يأخذ الغنيمة وأن يعطى من النفل فكذلك هنا وهو مذهب جماهير العلماء، وهذا هو الأظهر، ولا نزاع بين أهل العلم على أن الأعمال التعبدية اللازمة كالصلاة والصوم والحج عن النفس وغير ذلك أنها لا تجوز فيها أخذ الأجرة وذلك لأنه لا نفع للغير فيها، فنفعها لازم لصاحبها فلا وجه لأخذ الأجرة عليها، فإن أخذ الأجرة إنما يكون عوضا عن نفع يقع للغير، وهنا لا نفع يقع للغير، واتفق العلماء على أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية لأنها نوع تداوي لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري [خ 5737] ، واختلف أهل العلم في أخذ الأجرة على ما سواه مما تقدم، أي أن يأخذ أجرة من الناس لا من بيت المال على قضاء يقضيه بين الناس، أو على عقد الأنكحة لهم، أو على تعليم الناس القرآن أو السنة أو الفقه ونحو ذلك من العبادات المتعدية، فمنع من ذلك الأحناف والحنابلة، واستدلوا بما رواه أبو داود وابن ماجة والحديث حسن لغيره عن عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن، فأهدى له قوسا، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:(إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها)[حم 22181، د 3416، جه 2157] وله شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب بإسناد ضعيف [جه 2158]

ص: 15

وآخر بإسناد لا بأس به من حديث أبي الدرداء عند البيهقي [هق 6 / 126] وعلى ذلك فالحديث حسن لطرقه أولا، ولشواهده ثانيا، وهذا السوط وإن كان هدية لكنه مقابل لهذا النفع حيث علمه شيئا من القرآن فكان بمعنى الأجرة، وأجاز المالكية والشافعية أخذ الأجرة على ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بحديث:(إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) قالوا: فنقيس هذه المسائل المختلف فيها على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وأجاب أهل القول الأول بأن أخذ الأجرة على الرقية باب آخر، فإن الرقية نوع من أنواع الطب، فكان أخذها كالطب، فإن فيها مداواة، لما فيها من العمل من نفث وغير ذلك، واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخاطب المرأة:(ملكتكها بما معك من القرآن)[خ 5030، م 1425] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صداق هذه المرأة أن يعلمها ما معه من القرآن، فيكون صداقها هو تعليمها القرآن، فدل هذا على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجاب أهل القول الأول عن هذا الدليل بأن هذا من باب الإكرام له لا من باب الصداق، وهذا الجواب ضعيف، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كما في رواية مسلم:(فعلمها القرآن)[م 1425] فدل على أنه ليس لإكرامه فحسب بل ليعلمها القرآن، وأجابوا عنه أيضا بأن هناك فارقا بين عوض النكاح وعوض الأجرة، فعوض النكاح لا يجب تسميته عند العقد ولها مهر مثيلاتها، وأما الإجارة فكما تقدم أنه يشترط فيها تسمية الأجرة، وهذا التفريق ضعيف، وذلك لأننا نجيز على الراجح الإجارة إذا لم تسم حيث كان هناك عرف، فإذا استأجر شيئا ولم يذكر في العقد أجرته وكان له أجرة في العرف فإن الإجارة تصح، إذن لا يصح رد على هذا الحديث الصحيح، وفيه جواز أخذ الأجرة على العمل الصالح، والقول الثالث في هذه المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ

ص: 16

الإسلام أنه جائز عند الحاجة، وهذا القول هو الراجح وبه تجتمع الأدلة، فإن قوله:(ملكتكها بما معك من القرآن) إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان هذا الرجل فقيرا لا يملك شيئا، فهو محتاج، وبهذا القول تحصل المصالح، وتدرأ المفاسد، ولذا استحبه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، استحبه وفضله على العمل عند السلطان، وعلى أن يتدين وهو لا يدري هل يقضي دينه أو يموت وأمانات الناس في عنقه، إذن عن الإمام أحمد ثلاث روايات:

1-

الرواية الأولى: المنع مطلقا، وهو مذهب الحنابلة والأحناف.

2-

الرواية الثانية: الجواز مطلقا، وهو مذهب الشافعية والمالكية، وفيه ما فيه من المفاسد حيث يبخل أهل العلم وأهل النفع المتعدي الديني بما معهم إلا بمال.

3-

الرواية الثالثة: وهو اختيار شيخ الإسلام أنها جائزة عند الحاجة، ومما يدل على هذا قول الله تعالى في ولي اليتيم {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} ، وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا)[حم 15103] وهذا من أدلة المنع، ولكن عند عدم الحاجة كما تقدم.

قوله [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والخط ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها]

ص: 17

هذا في الأشياء الواجبة على المؤجر، والحاكم في ذلك هو العرف، فما يذكره المؤلف من التفاصيل حيث كان العرف يوافق هذا، وأما حيث كان العرف لا يوافقه فلا يصح كما قرر هذا صاحب الإنصاف، والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم من أهل العلم، فالأولى هو الحكم بالعرف في مثل هذه المسائل، إذ لا دليل من الشرع يدل على ذلك، وليس هناك شرط لفظي فرجع إلى الشرط العرفي، فمثلا عندنا الكهرباء والمياه هذه واجبة على المستأجر، وأما إصلاح الدار إذا انهدم منها شيء فهذا واجب على المؤجر.

وقوله (ورحله) أي ما يخمل عليه

وقوله (والشد عليه) أي شد هذه البضاعة ونحو ذلك، فهذا واجبة على المؤجر.

قوله (وشد الأحمال) أي البضائع.

وقوله: (والمحامل) وهي الشقتان اللتان تكونان على شقتي البعير للحمل.

قوله (ولزوم البعير) فمثلا وهم في الطريق قال المستأجر أريد أن أقضي حاجتي، فالذي يلزم البعير هو المؤجر.

قوله [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة]

البالوعة لعلها أشبه ما يكون بما يسمى عندنا بالبيارة، وهي حفرة تحفر في الأرض فتجتمع فيها مياه الأمطار ومياه المستحم، ونحو ذلك من المياه الفائضة في الدار، وقوله (والكنيف) وهو محل قضاء الحاجة، ويلزم المستأجر لأنها نتيجة فعله واستخدامه بهذه الدار، وهذا إذا تسلمها فارغة، أما إذا تسلمها غير فارغة فهنا بالمشاركة، وإذا تسلمها فارغة فإنه يسلمها فارغة، والعرف يقضي بهذا.

فصل

قوله [وهي عقد لازم]

فالإجارة عقد لازم لأنها نوع من أنواع البيع، وعليه فلا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين مع عدم رضا الآخر، قال تعالى {يا أيها الذي آمنوا أوفوا بالعقود} فهي عقد لازم يجب إيفاؤه، وعليه فليس لأحد من الطرفين أن يفسخه كالبيع، إلا في وقت الخيار، فإن فيه خيارا كالبيع، خيار مجلس وخيار شرط.

قوله [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له]

ص: 18

وهذا هو المشهور من المذهب، فإذا أجرة شيئا كأن يؤجره دارا ويكون الاتفاق على مدة سنة، ثم منعه كل المدة فلم يمكنه من الانتفاع بها أو منعه بعض المدة كأن يخرجه منها بعد ستة أشهر مثلا فلا شيء له، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لم يسلمه ما تشارطا عليه، فإنهما قد تشارطا على المدة كلها فلم يوف بشرطه، ولم يسلمه ما عقد عليه من الإجارة فلا شيء له، ولو كان المستأجر قد انتفع بها بعض المدة كأن يستأجرها سنة ثم يجبره على الخروج منها بعد ستة أشهر، فلا شيء له لأنه لم يسلمه ما اتفقا عليه، وقال الجمهور: بل له الأجرة بقسطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، فمثلا: إذا أجره داره سنة بعشرة آلاف، ومكنه من الانتفاع ستة أشهر ثم أجبره على الخروج فإن المؤجر يملك من الأجرة نصفها فله خمسة آلاف، وهذا القول هو القول الراجح، وذلك لأن المستأجر قد انتفع بهذه العين المؤجرة هذه المدة على وجه المعاوضة فكان عليه قسط ذلك من العوض، لكن يتوجه ما ذهب إليه الحنابلة فيما إذا لم يكن له نفع بهذه الإجارة، كأن يستأجر حمالا أو غيره على عمل فيعمل له بعض العمل على وجه ولا ينفعه، بل قد يكون عليه فيه ضرر، كأن يتفقا على حمل شيء من المتاع من بلدة إلى أخرى فيحمله إلى بعض الطريق في موضع يضر بالمستأجر أو لا ينفعه فحينئذ لا يتوجه أن يكون له أجرة، لأن المستأجر لم ينتفع، أما لو كانت البضاعة مثلا تحمل من جدة إلى حائل فحملها له إلى المدينة وهناك من يحملها له من المدينة إلى حائل بأجر أقل بسبب قصر المسافة فإنه يترجح ما ذهب إليه الجمهور لأنه قد انتفع بهذا العقد على وجه المعاوضة فكان عليه الأجرة.

قوله [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه]

ص: 19

إذا بدأ الآخر - وهو المستأجر - قبل انقضائها فعليه أي الأجرة، فإذا استأجر دارا لمدة سنة ثم خرج منها بعد بضعة أشهر ولم يستوف المدة المتفق عليها فعليه الأجرة كاملة، وهذا هو مقتضى عقد الإجارة، فإن مقتضاه أن المستأجر يملك المنفعة هذه المدة، والمؤجر يملك الأجرة، وعليه فإذا تحول المستأجر عن الدار قبل انقضاء المدة فإن للمؤجر الأجرة كاملة، وذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الإجارة.

قوله [وتنفسخ بتلف العين]

فالإجارة تنفسخ بتلف العين، فإذا استأجر جملا ليركبه فمات الجمل فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة.

وهل يجوز للمؤجر أن يبيع العين المؤجرة؟

الجواب: يجوز هذا إذ لا محذور فيه، فمثلا أجر عمرو زيدا داره لمدة خمس سنوات، ثم أراد أن يبيعها، فالبيع صحيح، وتبقى الإجارة على ما هي عليه فلا تنفسخ، لأن المستأجر مالك للمنفعة تلك المدة، لكن إن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الفسخ كما تقدم في كتاب البيع.

قوله [وبموت المرتضع]

تقد استئجار المرضعة، وقد قال تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإذا استأجر ولي الطفل - الذي يحتاج إلى رضاع - إذا استأجر ظئرا لترضع طفله، ثم مات المرتضع، فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لأن هذه المنفعة وهي منفعة الرضاع لا يمكن استيفاؤها.

قوله [والراكب إن لم يخلف بدلا]

ص: 20

كذلك إذا مات الراكب ولم يخلف بدلا، فإذا استأجر دابة ليركبها من بلدة إلى أخرى فمات المستأجر ولم يخلف وارثا بدلا عنه يقوم بالانتفاع بهذه العين، فإن الإجارة تنفسخ في أحد قولي المذهب، قالوا: لأن فيه ضرر، فإن المستأجر لا ينتفع بها ولا تورث عنه، والمؤجر يمنع من التصرف بها، فتبقى هذه العين عاطلة لا ينتفع بها، وهذا أحد القولين في المذهب وهو اختيار الشيخ السعدي، والقول الثاني في هذه المسألة وهو المذهب أن الراكب إذا مات ولم يخلف بدلا فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، قالوا: لأن عقد الإجارة عقد لازم كما تقدم، والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول، لثبوت الضرر، ولأن هذه العين تبقى عاطلة لا ينتفع بها.

فالذي يتبين والله أعلم في هذه المسألة أحد الوجهين في المذهب وهو أنه إذا مات الراكب ونحوه ولم يخلف بدلا ينتفع بهذه العين المؤجرة فإن عقد الإجارة ينفسخ، وذلك لأن خلاف هذا يبقى هذه العين عاطلة، فلا يمكن للمكري - أي المؤجر - أن يتصرف بها، والمكتري لا نفع له بها.

قوله [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه]

فإذا اتفق زيد مع الطبيب على أن يقلع ضرسه، وكانت الأجرة كذا وكذا، فانقلع الضرس قبل قلع الطبيب له فحينئذ تنفسخ الإجارة، وقوله (أو برئه) كأن يقول للطبيب أنا اتفق معك على أني إن شفيت من هذا المرض فلك عشرة آلاف، فشفي من الغير طب، أو بطريق آخر من الطب سوى هذا الطبيب الذي اتفق معه، فحينئذ تنفسخ الإجارة، فلا شيء للطبيب وذلك لما تقدم حيث إنه لا نفع للمستأجر بها، فلا يمكنه استيفاء المنفعة المعقود عليها.

قوله [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما]

ص: 21

المتعاقدان هما المؤجر والمستأجر، فإذا ماتا أو مات أحدهما فإن الإجارة باقية لازمة، لا تنفسخ لأنها عقد لازم، فإن قيل هناك ضرر؟ فالجواب: أنه لا ضرر فإن المستأجر موروث، ومن إرثه ملك المنفعة في هذه الأجرة، فينتفعون بهذه الدار إما بسكناها أو بتأجيرها، فليس هناك ما يبطل كون عقد الإجارة عقدا لازما هنا، ويخرجنا عن الأصل في الإجارة.

قوله [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه]

كاحتراق بضاعته مثلا، فمثلا: استأجر جملا فضاعت نفقته، أو استأجر دكانا فاحترقت بضاعته، فإن الإجارة ثابتة فلا تنفسخ، وذلك لما تقدم من أنها عقد لازم فهي كالبيع، ويمكنه حينئذ أن يؤجر هذه الدار أو يؤجر هذا الجمل ونحو ذلك، وكذلك لو استأجر سيارة ليركبها وضاعت نفقته التي منها هذه الأجرة التي تدفع إلى صاحب السيارة فإن الإجارة تثبت لأنها عقد لازم كالبيع.

قوله [وإن اكترى دارا فانهدمت الدار أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي]

فإذا استأجر دارا ليسكنها فانهدمت هذه الدار، أو استأجر داكنا ليعمل به فانهدم هذا الدكان أو استأجر أرضا ليزرعها أو ليغرس فيها نحلا ونحو ذلك، أو غار الماء الذي فيها، أو انقطع أو غرقت، فإن الإجارة تنفسخ في الباقي، وذلك لأنه لا يمكنه أن ينتفع بهذه العين، قالوا: إذا انهدمت لا يمكنه أن ينتفع بها بعد انهدامها، والأرض إذا غار ماءها وقد استأجرها ليسكن فيها فلا يمكنه أن ينتفع بها، فلا يمكنه أن يستوفي المنفعة، فأشبه هذا بتلف العين، ولكن ما مضى فعليه الأجرة، فمثلا: استأجر دارا لمدة سنة، فانهدمت بعد ستة أشهر فعليه أجرة ستة أشهر، وذلك لأنه انتفع بها على وجه المعاوضة فقد استوفى منفعتها فعليه الأجرة، ولا وجه لإسقاطها.

قوله [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى]

ص: 22

كأن يستأجر عبدا ليعمل له مدة معلومة، أو استأجر جملا ليركبه فوجد في هذه العين عيبا، فللمستأجر الفسخ كالبيع، فإذا استأجر شيئا فوجده معيبا أو حدث به عيب عنده فإنه بالخيار إن شاء أمضى المدة وإن شاء فسخ، فإن أمضاها فهل يكون له أرض أم لا؟

مثاله: استأجر دارا بعشرة آلاف، فوجدها معيبة بحيث إنها لا تساوي مع العيب إلا ثمانية آلاف فإن شاء فسخ، وإن شاء أمضى، فإن أمضى فهل يأخذ الألفين أرشا؟

تنبني على المسألة السابقة في خيار العيب، وقد تقدم أن المذهب أن له الأرش، وأن الراجح أنه لا أرش له، ومع ذلك إن المشهور في المذهب هنا أنه لا أرش له، وقياس المذهب أن له الأرش كالمسألة السابقة، والصحيح ما تقدم في تلك المسألة وفي هذه المسألة المتفرعة عنها فلا أرش له.

ص: 23

فإن تبين بعد مضي مدة أن بها عيبا كأن يستأجرها بعشرة آلاف، ثم تبين له أن فيها عيبا يجعل إجارتها تساوي ثمانية آلاف بهذا العيب، فإذا سكنها ستة أشهر ثم تبين له العيب فعلى المذهب لا أرش له هنا، وحينئذ فإذا أراد الفسخ فإنه يدفع خمسة آلاف أجرة الستة أشهر، وإن شاء أن يمضي بعشرة آلاف، وفي هذا فيما يظهر نظر، وذلك لأن هذا الأرض يدفع عنه الضرر هنا بخلاف المسألة المتقدمة، فإنه قد استوفى المنفعة هنا في هذه المدة وفيها هذا العيب، فحينئذ عليه ضرر حيث إنه استأجر معيبا على أنه غير معيب، وقد استأجره بأجرة غير المعيب، وليس هذه كالمسألة المتقدمة، فهنا لا يدفع الضرر عنه إلا بحساب الأرش، فالذي يظهر أنه لا يدفع قسط الأجرة على أن السلعة غير معيبة، بل يدفع القسط على أن السلعة معيبة، فمثلا: استأجر دارا مدة ثمانية أشهر، ثم تبين له أن فيها عيبا، فالثمانية أشهر لغير المعيبة لعشرة آلاف، وللمعيبة بستة آلاف، فعلى المذهب إن أمضى فإنه يدفع العشرة آلاف، وهذا فيه نظر، فإنه لا يندفع عنه الضرر إلا بإعطاء هذا الأرش الفارق بين ثمنها معيبة وثمنها غير معيبة.

قوله [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ]

الأجير نوعان:

1-

أجير خاص.

2-

أجير عام مشترك.

ص: 24

فالأجير الخاص هو من يختص المستأجر بنفعه مدة معلومة، فعندما يستأجر عاملا للزراعة أو للتجارة أو نحو ذلك لمدة شهر أو شهرين أو نحو ذلك فهذا الأجير نفعه خاص بالمستأجر، فإذا جنى هذا الأجير جناية خاطئة لم يتعد فيها ولم يفرط فتلف مال المستأجر أو بعضه فإنه لا يضمن، كأن يستأجر عاملا للمزرعة فيعمل على مكائنه فيفسدها من غير أن يتعدى ولا يفرط، فإنه لا ضمان عليه، كالوكيل والمضارب ما تقدم، فهو نائب عن المالك في منافعه، فإن منافع هذا الأجير مملوكة لمستأجره، فهو نائب لهذا المستأجر في تصريف منافع نفسه على حسب ما يأمره به هذا المستأجر، فإذا حصل شيء من التلف بغير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمن كالوكيل والمضارب.

قوله [وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم إن عرف صدقهم]

البيطار هو طبيب البهائم، والطبيب هو الطبيب المعروف، وهو في العرف الحادث يراد به كما ذكر ابن القيم الطبيب الطبائعي، وأما في اللغة فهو أعم من ذلك، فإن الحجام والكواء ونحو ذلك يقال لهم طبيب، فعلى ذلك كلهم يدخلون في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن:(من تطبب وهو لا يعلم بطب فهو ضامن)[ن 4830، د 4587، جه 3466] فالطبيب بكل أنواعه سواء كان طبيبا للآدميين أو للبهائم أو حجاما أوكيميائيا أو كواء أو نحو ذلك فإنه إذا لم تجن يده وعرف حذقه في الطب فإنه لا يضمن، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:(من تطبب ولا يعلم بطب فهو ضامن) وظاهره أنه إذا كان يعلم بالطب فإنه لا يضمن، ولأن هذا الفعل مأذون له، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ذكره المؤلف هنا بالاتفاق، فإذا لم تجن يده وهو طبيب حاذق فإنه لا يضمن، وكذلك إذا صرف دواء وهو حاذق وهو غير مخطيء في ذلك بل صرفه صرفا صحيحا ومع ذلك ترتب عليه ضرر ولم يقع منه تفريط ولا تعدي فإنه أيضا لا يضمن.

ص: 25

قوله [ولا راع لم يتعد]

فالراعي إذا لم يتعد ولم يفرط في حفظ ما تحت يده من البهائم فإذا حصل شيء من التلف فإنه أيضا لا يضمن لأنه أمين والأمين غير ضامن.

قوله [ويضمن المشترك ما تلف بفعله ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له]

الأجير المشترك: هو من لا يختص أحد من المستأجرين بنفعه، بل نفعه يشترط فيه بحيث إنه يعمل لعدة أشخاص في وقت واحد، كخياط الثياب أو مصلح السيارات ونحو ذلك، فإذا حصل عنده تلف ولم يتعد ولم يفرط فإنه يضمن في المشهور عند الحنابلة، وذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومال إليه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يضمن، وهذا القول هو الراجح، واستدل أهل القول الأول بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، ويقول: لا يصح الناس إلا بهذا " لكن الحديث إسناده منقطع فلا يصح، ولذا ضعفه الشافعي وغيره، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني، وذلك لأنه لم يحصل من تعد ولا تفريط، وهو مأذون له بهذا العمل فترتب على عمله المأذون له فيه تلف من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه.

وقوله (ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله) مثاله: لما خاط الثوب وضع الثوب في حرز مثله، أي في محل يحفظ فيه الثوب عادة، فسرق الثوب، أو حصل له تلف بغير فعل منه، فحينئذ لا يضمن وذلك لأنه أمين والأمين لا يضمن ـ فالثوب الآن أصيح أمانة عنده.

ص: 26

وقوله (ولا أجرة له) فلا أجرة له في هاتين المسألتين كلتيهما، فإذا حصل في الثوب تلف بفعله أو حصل له تلف وهو في حرزه أو بغير فعله فلا أجره له في هذه المسائل، وذلك لأنه لم يسلم ما اتفقا عليه، واختار ابن عقيل من الحنابلة وقواه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن له الأجرة، وذلك لأن الأجرة في مقابل العمل وقد حصل العمل، وهذا هو القول الراجح، فالاتفاق على أن يخيط له هذا الثوب مثلا، وقد خاطه فإذا حصل له تلف من غير تعد ولا تفريط منه أو حصل له تلف في حرزه فإنه يستحق الأجرة لأن الأجرة عوض عن عمله.

وقوله هنا (ولا يضمن ما تلف من حرزه) أي من غير تعد ولا تفريط، قالوا: فإذا حبس الثوب على الأجرة ثم حصل فيه تلف فإنه يضمن، كأن يقول له: لا أعطيك الثوب حتى تدفع الأجرة فحصل له تلف فإنه يضمن، وذلك لأنه قد تعدى بعدم إعطائه الثوب ونحوه في الوقت المحدد.

وهذا ينبني على أن حبس الثوب ونحوه المعمول فيه على الأجرة أنه تعد، والصحيح أنه ليس بتعد كما هو اختيار ابن القيم رحمه الله، فإنه قرر أن هذا العمل من هذا الأجير قائم بهذه العين المستأجرة، والعمل يجري مجرى الأعيان، بدليل ثبوت العوض في الأعمال كثبوتها في الأعيان، وحينئذ فله أن يمتنع من تسليم عمله المرتبط بهذا الثوب حتى يستلم العوض، فلم يتعد.

قوله [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل وتستحق بتسلم العمل الذي في الذمة]

ص: 27

إذا اتفق زيد وعمرو على أن يعمل زيد لعمرو في داره في إصلاح ما انهدم منها، واتفقا على أن يكون العمل لمدة شهر، فيجب الأجرة بمجرد العقد، أي تثبت الأجرة بمجرد العقد كما يثبت الثمن، وكما يثبت الصداق، فبمجرد ما يعقد الرجل على المرأة يجب صداقها، أي يثبت ويلزم، وبمجرد ما يشتري السلعة فإن ثمنها يثبت ويلزم، ولكن هذا الأجير لا يستحق المطالبة بها حتى يسلم العمل الذي في الذمة، ولذا قال (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة)، وفي البخاري يقول الله تعالى في الحديث القدسي:(ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)[خ 2270] وفي ابن ماجة والحديث حسن: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)[جه 2443] إذن يملك الأجير المطالبة الأجرة عند تسليم العمل الذي في الذمة، وأما إذا كانت الإجارة على عين فإنه يملك المطالبة عند تسليم العين، فإذا استأجرت دارا لتسكنها فسلمك المؤجر الدار وأعطاك مفتاحها وأخلاها لك فأنت الآن متمكن من الانتفاع بها، فحينئذ يملك هو المطالبة بالأجرة، ولا ينتظر حتى تستوفي المنفعة إلى سنة أو نحو ذلك، بل يطال بالأجرة بمجرد تسليمك العين، وذلك لأنه بتسليمه العين قد مكنك من الانتفاع بها، وأنت قد ملكت المنفعة من حينئذ فكانت الأجرة مطالبا بها من حينئذ كالبيع.

وقوله (إن لم تؤجل) فالأجرة واجبة بالعقد لكن إن اتفقا على تأجيلها فالمسلمون على شروطهم، فإن قال: لا أعطيك الأجرة حالة، بل الأجرة مؤجلة إلى سنة فالمسلمون على شروطهم.

قوله [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل]

إذا تسلم دارا ليسكنها بالإجارة لكن هذه الإجارة إجارة فاسدة كأن يؤجره دارا، ويكون المؤجر غير جائز التصرف مثلا، ثم فرغت المدة فحينئذ ماذا يلزم المستأجر؟

ص: 28

يلزمه أجرة المثل، فإذا اتفقا على أن تكون الأجرة عشرين ألفا وأجرة المثل عشرة آلاف فلا يعطيه إلا عشرة آلاف، وكذا العكس، وهذا هو المشهور في المذهب، وذلك لأنها إجارة فاسدة فحينئذ لا تعتبر الأجرة المذكورة فيها، وقياس المذهب كما قال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن الواجب هو الأجر المسمى قياسا على النكاح، فكما أن النكاح الفاسد إذا ذكر فيه صداق فيجب الصداق المسمى فكذلك هنا بل أولى، وذلك لأن الأجرة مقصودة في الإجارة بخلاف الصداق في النكاح فليس بمقصود كقصد الأجرة في الإجارة، فإن هناك مقاصد أخرى للنكاح هي أعظم من مقصد الأجر بخلاف الأجرة في الإجارة فإنها هي المقصودة، وهذا القول هو الراجح.

باب السبق

السبق بتسكين الباء هو المسابقة، وبالفتح السبق هو العوض الذي يجعل للسابق من المتسابقَين أو المتسابقِين.

قوله [يصح على الأقدام]

أي تصح المسابقة على الأقدام، فالمسابقة على الأقدام جائزة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة [حم 23598، د 2578، جه 1979] وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه سابق بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار فسبقه.

** وهنا مقدمة فيما يجوز من اللهو: اعلم أن اللهو ثلاثة أنواع:

1-

النوع الأول: اللهو المفضي إلى ما نهى الله عنه من الصد عن ذكر الله، والعداوة والبغضاء وغير ذلك وهذا محرم لا يجوز، فكل لهو يفضي إلى ما نهى الله عنه فهو محرم لا يجوز، قال شيخ الإسلام:" وكل فعل أفضى كثيرا إلى ما حرمه الله فإن الشارع يحرمه ما لم تكن هناك مصلحة راجحة ".

ص: 29

وذلك لأنه يكون سببا للشر والفساد، ولذا حرمت الشريعة النرد وهي ما تسمى بالطاولة عند العامة، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده بدم خنزير ولحمه)[م 2260] وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله رسوله)[حم 19027، د 4938، جه 3762، ك 1786] وهذان الحديثان عامان في النرد سواء كان على عوض وهو القمار أو على غيره، والتشبيه المذكور في الحديث المتقدم وهو قوله:(فكأنما صبغ يده بدم الخنزير ولحمه) هذا التشبيه متناول للعب بالنرد سواء وجد الأكل أم لم يوجد، فاللعب بالنرد محرم وذلك لأنها سبب للشر والفساد والعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، وأولى من ذلك الشطرنج في مذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف والحنابلة، وتوقف الشافعي في حكمها، وللشافعية قولان من إباحة وتحريم، هذا إذا لم يكن فيها عوض، فإذا كانت فيها عوض فلا خلاف بين العلماء في تحريمها وأنها من القمار، والصحيح هو التحريم مطلقا سواء كانت بعوض أم لم تكن بعوض وذلك لثبوت تحريم النرد، والشطرنج أولى من ذلك، فإن صدها عن ذكر الله أعظم، وإلقاءها للعداوة والبغضاء أكثر فكانت أولى بالتحريم، فإنها تستغرق - كما قرر الشيخ الإسلام - تستغرق فكر لاعبيها حتى لا يشعر بنفسه ولا يشعر بمن حوله فهذا مماثل أو أشد من الخمر، وروى البيهقي سننه وصححه شيخ الإسلام أن علي بن أبي طالب:" مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون "[هق 10 / 212] وروى ابن أبي شيبة بإسناد منقطع أنه قال:" الشطرنج من الميسر "[مصنف ابن أبي شيبة 6 / 191 برقم 10]

ص: 30

2-

والنوع الثاني: هو اللهو الذي يكون فيه منفعة ولا مضرة فيه فهذا جائز كما قرر هذا شيخ الإسلام، وقد روى الترمذي في سننه وصححه ورواه ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق)[حم 16849، ت 1637، جه 2811] وروى النسائي في سننه الكبرى نحوه من وجه آخر في كتاب عشرة النساء وفيه: (وتعلم السباحة)[5 / 303] فهذه من الحق وفيها نفع فهي جائزة، وإن كان لا نفع فيها فهي من القسم الباطل الذي يذهب على العبد وقته، وقد يكون من النوع المحرم الذي تقدم ذكره،

وللحنابلة وجهان في اللعب الذي لا يعين على عدو هل يكره أم لا؟

قال صاحب الإنسان الإنصاف:" والأولى الكراهية اللهم إلا أن يكون له بذلك قصد حسن ".

3-

النوع الثالث: ما كان معينا على ما أمر الله به في قوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فهذا من اللهو المستحب.

وإذا كان من اللهو المستحب فيجوز فيه السبق وهو الجعل، وإن كان من اللهو المحرم فلا يجوز مطلقا لا بجعل ولا بغير جعل، وإن كان من اللهو المباح أو المكروه فلا يجوز فيه الجعل ويجوز بغير جعل.

قوله [يصح على الأقدام]

فتصح المسابقة على الأقدام كما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة.

قوله [وسائر الحيوانات]

من البغال والخيل والفيلة وغيرها.

قوله [والسفن والمزاريق]

كذلك تصح في السفن والطائرات كما في هذا الوقت وتصح في المزاريق وهي جمع مزراق وهو الرمح، وهكذا كل ما تقدم ما فيه نفع وليس فيه مضرة الراجحة.

قوله [ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام]

فلا تصح بعوض أي بجعل إلا في إبل وخيل وسهام، لما رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)[حم 9788، ت 1700، جه 2878] .

ص: 31

(في خف) : أي في الإبل، (حافر) : أي في الخيل، (نصل) : أي في القوس، فهذا الحديث يدل على أن الجائزة لا تحل على شيء من المغالبات وأنواع الملاهي التي تقع في المسابقات إلا في هذه الأنواع الثلاثة التي تعين على الجهاد إعانة ظاهرة وهي سباق الخيل، وسباق الإبل، وسباق الرمي، وأما غيرها فلا يجوز فيها السبق أي الجعل، فالمسابقة على الأقدام والمصارعة ونحو ذلك هذه كلها لا يجوز فيها السبق.

* واختلف أهل العلم هل يقاس على هذه المسابقة ما فيه إعانة على ظهور حجة الإسلام وبراهينه من علوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة؟ قولان لأهل العلم:

القول الأول: منع من ذلك جمهور علماء.

القول الثاني: أجازه الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.

وما ذكروه هو الراجح، وذلك لأن القياس قياس صحيح بل هو من باب قياس الأولى، فإن الدين قائم على الحجة والبرهان، وقائم على السيف والسنان، وقيامه بالحجة والبرهان أعظم، وإنما يحتاج إلى السيف والسنان إذا وقف أمام الحجة والبرهان وعورض، فتبين من هذا أن الحجة والبرهان القائمة على العلم النافع الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة أحق بجواز هذا السبق.

** واعلم أن السبق فيها جائز سواء كانت من أجنبي كالإمام أو نائبه أو غيرهما كأن يضعه أحد من أرباب الغنى، فيضع مالا لسباق الخيل أو لسباق الإبل أو الرمي فهذا جائز للحديث المتقدم وهو عام سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما، فهنا المتعلق محذوف فيفيد هذا العموم، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.

فإذا وضع الجائزة أجنبي سواء كان الإمام أو نائبه، أو وضعه غيرهما خلافا لما ذهب إليه الإمام مالك، فإنه يمنع أن يكون من غير الإمام أو نائبه، ولا دليل على التفريق، أو كان الواضع أحد المتسابقين فهذا جائز.

ص: 32

أما إذا كانت الجائزة من المتسابقَين كليهما أو من المتسابقِين كلهم فمنع من ذلك جمهور العلماء، قالوا: لأن كليهما يكون إما غانما أو غارما وهذا قمار، والقمار محرم، بخلاف ما لو وضعها أحدهما دون الآخر فإن هذا الواضع يكون غارما أو غانما، وأما الآخر فإنه إما أن يكون غانما أو سالما، قالوا: ويجوز حينئذ أن يضع المحلل، فإذا تسابق زيد وعمرو ودفع هذا ألفا ودفع الآخر ألفا فأدخلا بينهما ثالثا لا يضع شيئا فهذا جائز بشرط ألا يؤمن سبقه بحيث لا يكون حيلة إلى تحليل ما حرم الله، قالوا ودليل هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أدخل فرس بين فرسين لا يأمن أن يسبق فلا بأس، وإن أمن فهو قمار)[حم 10179، د 2579، جه 2876] واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذه الصورة التي نهى عن الجمهور بغير محلل، قالا: إذا تسابق على خيل أو إبل أو سهام أو على علوم شرعية كما تقدم فيجوز أن يشارك كل واحد من المتسابقين بالسبق، قالا: لأن القمار أكل للمال بالباطل، وهذا ليس بأكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، فإن فيه إعانة على ما أمر الله به عز وجل من الجهاد في سبيله، وأجابوا عن حديث أبي هريرة المتقدم بأن إسناده ضعيف فهو من حديث سفيان بن حسين وسعيد بن بشير عن الزهري، ورواية سفيان بن حسين عن الزهري ضعيفة، وسعيد بن بشير ضعيف الحديث، قالوا: ورواه الثقات عن الزهري عن سعيد بن المسيب من قوله، فهو من قول سعيد بن المسيب، وهذا القول هو القول الراجح، فإن القمار أكل للمال بالباطل وهذا ليس أكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، واستدلوا بما روى أحمد في مسنده بإسناد جيد: (أن أنس بن مالك قيل له هل كنتم تراهنون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم لقد راهن النبي صلى الله عليه وسلم على فرس يقال له سبحة فسبق

ص: 33

فهش له وأعجبه) [حم 12216] والإسناد جيد، قالوا: وروى أحمد في مسنده:" أن أبا عبيدة قال: من يراهنني، فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال - أي الراوي - فسبقه فرأيت عقيصتي -] ضفائره - أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي "[حم 346] قالوا: والمراهنة مفاعلة، فإذا قال من يراهن أي من يقابلني في الرهان فيدفع هذا ويدفع هذا، وروى الترمذي وصححه والحديث صحيح:" أن أبا بكر رضي الله عنه راهن قريشا على غلبة الروم على الفرس "[ت 3194] فدل هذا على أن المراهنة جائزة.

قوله [ولا بد من تعيين المركوبين]

فلا بد من تعيين المركوبين سواء كانا فرسين أو ناقتين أو نحو ذلك، ولا بد من تعيين الرماة، ولذا قال بعد ذلك:

قوله [والرماة]

وذلك لأن المقصود من المسابقة بين الخيل وبين الإبل معرفة سرعة عدوها، فالمسابقة متعلقة بالمركوب، وإذا لم يعين المركوب فقد يكون المركوب مما يؤمن سبقه، وحينئذ يكون هذا من أكل المال بالباطل، والمسابقة في الرمي المقصود منها معرفة حذق الرماة، فتعلقها بفعل الرماة، فاشترط أيضا تعيين الرماة.

قوله [واتحادهما]

فلا بد من تعيين المركوبين واتحادهما، بأن يكونا عربيين أو أن يكونا هجينين، فلا بد أن يكونا من نوع واحد، وهذا هو المشهور في المذهب، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز أن تكون من أنواع مختلفة، والحاكم في هذه أنه إذا حصل المقصود من المسابقة بان كانت هذه الخيول وإن اختلفت أنواعها كل واحد منها لا يؤمن سبقه فكان فيه الفائدة المرجوة من التدريب على الجهاد في سبيل الله، فذلك جائز، وأما إذا كان بين نوعين مختلفين وأحدهما يؤمن سبقه فإن هذا ممنوع منه لأنه لا فائدة من السباق هذا، وهذا هو الراجح في هذه المسألة.

قوله [والمسافة]

ص: 34

فلا بد من تحديد المسافة، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال:(سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد ضمرت من الحيفاء - وهو موضع خارج المدينة - إلى ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق)[خ 7336، م 1870] قال ابن عمر في رواية للبخاري:" بين الحيفاء وبين ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين الثنية ومسجد بني زريق ميل "[خ 2868] وإضمار الخيل بأن تسمن ثم بعد ذلك لا تطعم إلا قوتها، وتوضع في بيت وتجلل أي تغطى حتى تعرق فيخف لحمها، ثم إن المسافة إذا لم تحدد فإن هذا يفضي إلى الخلاف والتنازع للجهالة، وإزالة الجهالة المفضية إلى النزاع واجب.

قوله [بقدر معتاد]

فلا بد أن يكون القدر معتادا ليحصل المقصود، وإلا فإن الغرض يفوت، فمثلا: الرمي الطبيعي مائة وخمسون مترا تقريبا، فإذا زاد عن هذا فإنه يفوت الغرض لأنه لا يصل إلى الهدف إلا نادرا، كذلك الخيل أو الإبل إذا وضعت مسافة بعيدة جدا لا تصل إليها في العادة فإنه حينئذ يفوت الغرض المقصود.

قوله [وهي جعالة لكل واحد فسخها]

ص: 35

السبق جعالة في المشهور من المذهب، ويأتي الكلام على الجعالة، وبين ابن القيم في كتابه الفروسية الفارق بين الجعالة والسبق بما يدل على بطلان كون السبق جعالة، فإن بينهما فروقا منها: أن الجاعل للجعل إنما يجعله لنفع نفسه، فإذا ضاع له مال يقول: من يحصل لي هذا المال أعطيه كذا وكذا، فهو يقصد بدفع هذا الجعل نفع نفسه، وأما في السبق فهو يوفيه لمن يعجزه ويقهره ويغلبه، ومنها: أن الجعالة يجوز أن يكون العوض والمعوض مجهولين، فيجوز أن يقول: من أتى بعبدي الآبق وهو مجهول فله كذا وكذا، فالمعوض وهو العبد الآبق مجهول، ويجوز أن يقول القائد في الحرب: من دلني على حصن فله ثلث ما فيه من الغنيمة، والغنيمة التي فيه مجهولة، وهذا كله لا يجوز في باب السبق، بل يشترط أن يكون السبق معلوما وأن تكون المسافة والمركوب والرماة معلومين، فدل على أن السبق ليس بجعالة، كما أنه ليس بإجارة، وليس بشركة، وليس بنذر، كما بين ابن القيم أنه نوع مستقل له حكمه الخاص، فلا يؤخذ أحكامه من أحكام غيره، وهنا الحنابلة قالوا: هو جعالة، وعليه فلكل واحد منهما الفسخ، فمثلا: اتفق زيد وعمرو على المسابقة، وأن يكون بينهما سبقا قدره كذا وكذا، سواء دفع واحد منهما كما هو مذهب الجمهور، أو دفعا كلاهما، فلما شرعا في السباق ولما يتبين الفضل لواحد منهما فيجوز لكل واحد منهما الفسخ، فيجوز قبل الشروع، وبعد الشروع ما لم يتبين أن لأحدهما فضلا، أما إذا تبين أن لأحدهما فضلا فله الفسخ، وأما الآخر فليس له الفسخ، لأنه قد ظهر ما يكون مرجحا لجانب الآخر، فحينئذ إذا جاز له الفسخ ففيه إسقاط لحق الآخر، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب أبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي أن عقد السبق عقد جائز، والقول الثاني للشافعية وهو وجه في المذهب أن هذا العقد عقد لازم، فإذا شرعا فيه فليس لأحدهما أن يفسخ، قالوا: قياسا على عقد الإجارة،

ص: 36

والقياس على عقد الإجارة هنا ضعيف، للفارق بين عقد الإجارة وبين السبق، قالوا: الجامع بينهما أن في كليهما يشترط أن يكون العوض والمعوض معلوما كما تقدم، والجواب: أنه قياس مع الفارق، فبينهما فروق منها أن الإجارة يشترط أن يكون العمل المطلوب فيها مقدورا على تسليمه، وليس هذا في باب المسابقة، فإنه قد سبق وقد لا يسبق، وهناك فروق أخرى، ومع ذلك فالذي يتبين والله أعلم هو رجحان هذا القول لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود إلا ما استثني، وإن كان يتوجه - والله أعلم - أنهما إذا لم يشرعا فيه فيتوجه القول الأول، وهو جواز الفسخ، لأنه لا يجوز أن يأخذ أحد مال أخيه بغير طيب نفس منه، وحيث لم يشرعا في السباق فلم يترتب على ذلك عمل من الآخر.

قوله [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي]

المناضلة هي المسابقة في الرمي، وقوله " على معينين " كما تقدم فيشترط أن يعين الرماة، وقوله " يحسنون الرمي " فإن كان بعضهم لا يحسن الرمي فإن هذه من المسابقة التي يؤمن فيها السبق، فيكون هذا من أكل أموال الناس بالباطل.

باب العارية

العارية: تضبط بتشديد الياء وتخفيفها، وهي من العري، وهو التجرد، وسميت بذلك لتجردها من العوض، وعرفها المؤلف بقوله:

قوله [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه]

أي بعد استيفاء النفع، فهذه العين التي أعيرت كالدار مثلا إذا انتفع بها هذا المستعير واستوفى نفعها فإن هذه العين تبقى بعد استيفاء هذا النفع المتبرع به، وهي مشروعة بالإجماع.

* واختلف أهل العلم هل تجب العارية أم لا؟

ص: 37

فذهب جمهور العلماء إلى أنها مستحبة غير واجبة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث طلحة بين عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي بعد أن ذكر له هل على شيء غير الزكاة لما سأله عما يجب عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا إلا أن تطوع) قالوا: فدل هذا على أن العارية ليست واجبة فلو كانت واجبة لأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بها لما سأله: هل علي غيرها، والقول الثاني في هذه المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام أن العارية واجبة أي مع غنى مالكها وحاجة الآخر إليها، ودليل هذا ما ثبت في مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي مستو - تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء - أي التي لا قرن لها - ولا مكسورة القرن، قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله)[م 988] والشاهد في قوله: (وإعارة دلوها) ، ويدل لذلك أيضا قول الله تعالى {ويمنعون الماعون} ، وقد روى أبو داود والنسائي في سننه الكبرى بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:" كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إعارة الدلو والدر "[ن كبرى 6 / 522، د 1657] فهو لا يتضرر بهذه الإعارة ولا تفوته مصلحة بها فذم على المنع، وما اختاره شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي، والجواب عن حديث الأعرابي أن يقال: إن العارية من الأمور الطارئة، فقد يملك الإنسان ما يعيره وقد لا يملكه، وإذا ملكه فقد يكون هناك من هو محتاج إليه وقد لا يكون، وهو كما قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الصلاة: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، مع دلالة الشرع على وجوب صلاة

ص: 38

الكسوف، فعلى ذلك القول الراجح هو اختيار شيخ الإسلام.

** والعارية تبرع بالنفع وعليه فلا تصح إلا من جائز التصرف، هكذا يقرر الفقهاء، وهذا على القول باستحباب العارية، وأما على القول الراجح وهو وجوب العارية لا يتبين هذا، فإن هذا تبرع واجب، فهو واجب في ماله فأشبه الزكاة ونحوها.

*** وكل قول أو فعل يدل على الإعارة فإن العارية تثبت به، فإذا قال: أعرتك، فهو قول يدل على العارية فيثبت به، وكذلك إذا قال: أعطيتك راحلتي لتسافر بها ثم تعيدها إلي بلا عوض فهذا قول يدل على العارية، وكذلك إذا قال: أعرني كذا، فدفعه إليه ولم يتلفظ فإن هذا الفعل يدل على الإعارة.

قوله [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح]

كالدلو والقدر والفأس والراحلة والدار وغير ذلك، فكل ذي نفع مباح تباح عاريته لدلالة الأدلة الشرعية على مشروعيتها، وحيث كان النفع مباحا فإنه داخل في العقود، والأصل في العقود الإباحة.

قوله [إلا البضع]

أي الفرج، فإنه لا تصح عاريته، كأن تكون له أمة فإنه لا تصح إعارة بضعها وذلك لأن الفرج لا يباح إلا بما جعله الله سببا لإباحته.

قوله [ولا عبدا مسلما لكافر]

فلا يجوز أن يعير عبده المسلم لكافر ليستخدمه، فإن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.

قوله [وصيدا ونحوه لمحرم]

فليس له أن يعير صيدا لمحرم، ولا نحوه كأن يعيره مخيطا أو نحوه، وذلك لأن المحرم ممنوع من إمساك الصياد، وممنوع من لبس المخيط، فإذا أعاره صيدا أو ثوبا مخيطا فقد أعانه على الإثم، وقد قال الله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}

قوله [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم]

فليس له أن يعير أمة شابة أي يفتتن بها، ليس له أن يعيرها لأجنبي عنها ذكر، وذك لأنه لا يؤمن عليها، أما إذا أعارها إلى امرأة أو محرم لها كأن يعيرها عمها أو خالها فذلك جائز لا بأس له.

ص: 39

* المشهور عند فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور أن المعير له أن يسترد العين المعارة متى شاء إلا أن يأذن بشغلها بشيء يتضرر المستعير برجوعه فيها، فلو أعاره راحلة فله أن يرجع فيأخذها قبل أن ينتفع بها المستعير، لكن لو كان قد أعاره هذه الراحلة لينقل بضاعة له إلى موضع فليس له أن يرجع وهذه الراحلة بمفازة من الأرض بحيث يتضرر المستعير برجوعها، وكذلك لو كانت سفينة في لجة البخر، وذلك لأنه يتضرر بالرجوع، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، كالقرض تماما، فهذه المسألة مبنية على مسألة القرض التي تقدم ذكرها، ولذا فمذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن العارية إن عين لها أجل معين فإذا قال: استعير منك هذه السيارة شهرا فليس للمعير أن يرجع مدة هذا الشهر، فإن لم تذكر مدة فإنها تبقى عند المستعير فينتفع لها كما ينتفع بمثيلاتها عادة، فمثلا إذا استعار منه شيئا من أدوات البيت، فالعادة أن أدوات البيت تمكث إلى اليوم واليومين ونحو ذلك، إذن على القول الثاني في هذه المسألة أنهما إذا عينا لها مدة فإنها تتعين، فإن لم يعينا لها مدة فيرجع إلى العرف، وهذا القول هو الراجح، لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وهذا عقد فيجب أيفاؤه، وتقدم أن هذه المسألة مبنية على مسألة القرض، وتقدم أن الجمهور على أن القرض لا يتأجل بتأجيله، وتقد أن هذا قول مرجوح، وأن الراجح ما ذهب إليه المالكية من أنا لقرض يتأجل بتأجيله.

قوله [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط]

هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة، مثاله: رجل أعار الآخر أن يضع خشبا على حائطه، فوضع المستعير خشبه على هذا الحائط وبنى، فهل له الرجوع؟

ص: 40

الجواب: ليس له الرجوع، وذلك لأن هذا البناء سينهدم، فإنه قد وضع الخشب ووضع عليه البناء، فإذا رجع في هذه العارية فإن هذا الآخر يتضرر، فليس له الرجوع، وقد تقدم أن الفقهاء يقيدون جواز الرجوع بحيث لم يأذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير برجوعه، وهنا يتضرر المستعير، إذن ليس له الرجوع، وهل له أن يأخذ عليه الأجرة؟

الجواب: ليس له أن يأخذ عليه الأجرة، وذلك لأن العارية باقية، والعارية لا أجرة فيها، فليس له أن يقول إما أن تهدم بيتك وإما أن تعطيني أجرة، وذلك لأن العارية قد انعقدت، والرجوع ممنوع منه بسبب الضرر، وإذا سقط الحائط فيجوز له حينئذ أن يمنع من هذه العارية، فيرجع فيها، وذلك لأن البناء قد تهدم، فلا ضرر في الرجوع.

قوله [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه]

فلا يرد الخشب إن سقط الجدار إلا بإذن صاحب الجدار، وذلك لأنه لم يأذن إذنا جديدا، فالإذن قد ذهب بسقوط الجدار.

قوله [وتضمن العارية بقيمتها يوم أتلفت ولو شرط نفي ضمانها]

ص: 41

فالعارية مضمونة بقيمتها يوم تلفت لأنه هو يوم فواتها على معيرها، فالعارية مضمونة وإن لم يتعد ولم يفرط، وإن كانت مثلية فالضمان بالمثلي وإلا فبقيمته، ولو شرط نفي ضمانها فإنها تضمن، فلو قال المستعير بشرط ألا أضمن، فإنه يضمن ولا يعتبر هذا الشرط، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، واستدلوا بما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(على اليد ما أخذت حتى تؤديه)[حم 19582، ت 1266، د 3561، جه 2400، ن الكبرى 3 / 411] قالوا: فهذا يدل على أن اليد يجب عليها ما أخذت حتى تؤديه إلى مالكه، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود من حديث صفوان ابن أمية:(أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة)[حم 27089، د 3562] والحديث فيه شريط بن عبد الله، وله شاهد من حديث جابر في مستدرك الحاكم [كم 3 / 48، 49] فالحديث حسن، فإذا تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط فإنه يضمن كأن تأتيها آفة من السماء ونحو ذلك، وهنا احتراز لا بد منه: وهو أن المراد بالتلف غير التلف الذي تقتضيه استعارتها، مثاله: عندما يستعير ثوبا ليلبسه فإنه لا بد أن يحصل لهذا الثوب شيء من التلف فإن الثوب يبلى، وهكذا سائر الأشياء المستعارة، فهذا التلف الذي يقتضيه الاستعمال لا ضمان فيه وإن أتى على الشيء المعار كله، وذلك لأن الإذن باستعمال هذه العارية متضمن للإذن بإتلافها عادة، والقول الثاني وهو مذهب الأحناف، وهو أن العارية غير مضمونة، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى والحديث صحيح لطرقه، وصححه ابن حبان وغيره:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليعلى بن أمية: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟ فقال: بل عارية مؤداة) [حم 27089، د 3566، حب 11 / 22، ن الكبرى

ص: 42

3 / 409] وكذلك الحديث المتقدم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، ولما ثبت في سنن الترمذي والحديث إسناده حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(والعارية مؤداة والزعيم غارم والدين مقضي)[ت 1265، د 3565، جه 2398] قالوا: والأداء لا يستلزم الضمان بدليل أن الوديعة بالاتفاق لا ضمان فيها، وقد قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فأمر الله بأدائها ولم يستلزم هذا ضمانها، فالمقصود أنها تؤدى ما دامت موجودة، وأما إذا حصل لها تلف بغير تعد ولا تفريط فهذا باب آخر، وقال المالكية إن تلفت بسبب ظاهر كالحريق فلا ضمان، وإن تلفت بسبب غير ظاهر فالضمان ثابت، وأصح الأقوال في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار صاحب الفائق من الحنابلة وغير واحد من الحنابلة وهو اختيار ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير وبه تجتمع الأدلة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم ليعلى بن أمية وقد سأله في العارية: أعارية مؤداة أم عارية مضمونة فقال: بل عارية مؤداة، فهذا يدل على أن العارية ليست بمضمونة، ولما قال له: صفوان بن أمية أغصب يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة، فدل على أنها مع الشرط يثبت الضمان فيها، ولأن المسلمين على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما، واشتراط الضمان لا يحل ما حرم الله ولا يحرم ما أحله، فقول شيخ الإسلام هو قول الأحناف لكنه يرى جواز الشرط، وأما الأحناف فالمشهور عندهم أن الشرط باطل وفي رواية عندهم يرون جواز الشرط، ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا فرط في حفظ هذه العارية أو تعدى عليها بفعله فإنه يضمن، لأن الضمان بالتعدي أو التفريط ثابت في الوديعة فمن باب أولى في العارية.

ص: 43

وقول المؤلف (ولو شرط نفي ضمانها) هذا ضعيف، وهو إشارة إلى الخلاف المتقدم، فعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أن الشرط صحيح وهذا هو القول الراجح.

قوله [وعليه مؤنة ردها]

أي على المستأجر مؤنة رد العارية، فالعارية عندما تستعار، ويحين ردها فإنها قد تحتاج إلى نفقة لإرجاعها إلى مالكها، فهنا تجب على المستعير هذه النفقة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، ولأن أداء العارية واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

** وهل عليه نفقة المعار أثناء الاستعارة؟

المشهور في المذهب أنه لا يجب، فإذا كانت دابة ونحوها فلا يجب عليه أن ينفق عليها، وإذا أعلفها مثلا فإنه يرجع بعلفها على معيرها، وقال شيخ الإسلام:" قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير " وذكر شيخ الإسلام أنه لم يجد قولا في المذهب، ولذا خرجها كما تقدم، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وهو العرف الجاري، ويستقبح الناس أن يحسن إلى أحد بإعارة دابة يستعملها ويركبها فيعلفها ثم يرجع بعلفها على صاحبها " أ. هـ وهو كما قال، فالراجح أن نفقة العين المستعارة واجبة على المستعير لأن العرف يقضي بذلك.

قوله [لا المؤجرة]

فالعين المؤجرة مؤنة ردها تجب على المؤجر لا على المستأجر، فإذا استأجر دابة فحان ردها فنفقة الرد على المؤجر، وأما المستأجر فلا يجب عليه نفقة ردها، بل يردع يده عنها، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو تعليل ظاهر ما لم يحكم عرف بخلافه أو يثبت ضرر بفعله، فإن ثبت ضرر كأن يخلي الدابة في موضع يخشى عليها التلف فيه فإن هذا ممنوع، أو قضى عرف بأنه يجب عليه أن يرد، كأن يقضي العرف بأن من استأجر سيارة ونحوها فإنه يردها إلى مؤجرها، فالرد على المؤجر.

قوله [ولا يعيرها]

ص: 44

فإذا استعرت دابة فليس له أن تعيرها غيرك، وذلك لأن المعير قد أباح لك الانتفاع بها، وانتفاع غيرك بها غير مأذون به من المالك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو أحد القولين في مذهب الشافعي، وذهب الأحناف وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو قول في المذهب أن له أن يعرها، وذلك لأنه إن أعارها فقد تصرف بهذه العين بقدر ما أذن له به، فقد أذن أن ينتفع بها انتفاعا لا عوض فيه، فإذا أعارها بلا عوض فقد تصرف بها كما أذن له، والراجح هو القول الأول، وذلك لأن المعير - مالك العين - لم يأذن له إلا أن يتصرف بها، فليس له أن يعدي التصرف إلى غيره، وليس مالكا للمنفعة بل هو مأذون له بالانتفاع، بدليل اتفاق العلماء على منعه من تأجيرها، فإذا استعار دابة فليس له أن يؤجرها، ولو كان مالكا لنفعها لجازت له الإجارة، فدل هذا على انه ليس مأذونا له إلا أن يتصرف بها هو، دون غيره.

قوله [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها]

مثاله: أعار زيد عمروا دابة، فأعارها عمرو بغير إذنه بكرا، فتلفت عند بكر، فالضمان على المستعير الثاني وهو بكر، وذلك لأنها تلفت في يده، فقد أخذها عارية، والعارية مضمونة، وهذا البحث على أن العارية مضمونة، وعلى القول الراجح وهو أن العارية غير مضمونة فيثبت الضمان هنا أيضا لثبوت التعدي.

قوله [وعلى معيرها أجرتها]

ص: 45

فمع الضمان فيه أجرة، فهذا المعير الثاني وهو عمرو قد تصرف فيها بغير إذن، فوجبت الأجرة، لأنه انتفاع بملك الغير بلا إذن فوجبت منه أجرة المثل سواء تلفا العين أم لم تتلف، والأجرة واجبة على معيرها وهو المستعير الأول، أي عمرو، قالوا: لأنه قد غرر بالمستعير الثاني أن يستوفي منفعة عين غيره بغير حق، فقد غرر بالمستعير الثاني وظن أنها ملك له، أو أنه مأذون له بأن يعيرها غيره، فغرر به فتصرف بها بغير حق، فتكون الأجرة على هذا المغرر، وعليه فإذا كان المستعير الثاني عالما بالحال أي عالما بأن هذه عارية وليست مالكا وأنه قد أعاره ملك غيره فحينئذ يكون قد دخل على بصيرة وعليه فالأجرة عليه كما يقرره فقهاء الحنابلة، إذن الأجرة على المستعير الأول حيث لم يكن المستعير الثاني عالما بأنها ملك غيره بل هو ظن أنها ملك له أو مأذون له بالإعارة،أما إذا علم أن هذا المستعير الأول قد أعاره إياها ولا إذنه أو ظنه غاضبا أو غير ذلك ومع ذلك تصرف في ملك غيره فإن الأجرة تجب عليه أي على المستعير الثاني لأنه هو المنتفع بهذه العين فوجب عليه عوضها.

قوله [وضمن أيهما شاء]

فإذا تلفت العين فإنه يضمن أيهما شاء، فإن شاء ضمن عمروا وهو المستعير الأول وإن شاء ضمن بكرا وهو المستعير الثاني.

أما تضمينه للمستعير الأول فلأن المستعير الأول تصرف في العارية بغير إذن، بأن سلط عليها غيره بغير حق، وأما تضمينه للمستعير الثني فلأن التلف حصل في يده، فإن ضمن المستعير الأول وهو عمرو، فإنه يرجع على المستعير الثاني بالضمان، لأن الضمان واجب عليه في الأصل، كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه في باب الضمان.

قوله [ون أركب منقطعا للثواب لم يضمن]

ص: 46

إذا أركب على دابة منقطعا أي قد انقطع به السبيل فلا يضمن هذا المنقطع لو تلفت هذه الدابة، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها فهو شبيه بالرديف، وعليه فلا ضمان عليه، فلا يكون كالمستعير الذي يجب عليه الضمان في المذهب، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها، كأن تكون معه راحلتان، راكب هو على أحدهما، ثم وجد منقطعا فأركبه على الراحلة الأخرى، فهذا كما لو أردفه على الراحلة نفسها، فلم تزل يد مالكها عليها، وعلى القول الراجح من أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير فلا إشكال.

قوله [وإذا قال: أجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقيب العقد قبل قول مدعي الإعارة]

إذا قال المالك أجرتك، وقال الآخر بل أعرتني، فمثلا: سكن في داره فقال: قد أجرتك هذه الدار، فقال: بل أعرتني، أو بالعكس كأن يقول أعرتك فيقول: بل أجرتني، ومصلحته من إنكار العارية مع أن ظاهر الأمر أن العارية أفضل من الإجارة مصلحته من ذلك أنه قد يكون يريد إبقاء هذه العين معه مدة وإن كان ذلك بأجرة، والعارية يملك المعير إرجاعها متى شاء كما تقدم في المذهب، وكان ذلك عقيب العقد أي لم تمض مدة لها أجرة في العادة، فيقبل قول مدعي الإعارة سواء كان المالك أو كان الآخر الذي بيده العين، وذلك لأن الأصل هو عدم الإجارة لما فيها من العوض فالأصل عدمها، وعله فحينئذ لا أجرة إلا أن يأتي مدعي الإجارة ببينة فحينئذ تثبت الأجرة، لكن الكلام حيث لا بينة، وحينئذ ترد العين إلى مالكها.

قوله [وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل]

ص: 47

مثاله: بعد ما مضى شهر اختلفوا، فقال المالك: أعرتك، وقال الآخر: بل أجرتني أو بالعكس، فحينئذ القول هو قول المالك، وذلك لأن الأصل في مال الغير الضمان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم)[خ 4552، م 1711] فالقول قول المالك، وذلك لأن الأصل في أموال الناس الضمان، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، فيقال للمالك: احلف فإن حلف فالقول قوله، وحينئذ وقد مضت مدة فإنه يدفع أجرة المثل للمالك، وإنما ثبتت أجرة المثل ولم تثبت الأجرة المسماة التي يدعيها المالك لأن الإجارة لا تثبت بالدعوى، نعم أرجعنا إليه ماله، وجعلنا القول قوله، لكن لا يعني هذا أن نكون قد أثبتنا الإجارة، ولذا ترد العين إلى مالكها، وإنما هذا حكم عند المنازعة.

قوله [وإن قال أعرتني أو قال أجرتني فقال: بل غصبتني]

إذا قال: أنت قد أعرتني هذه الدابة، أو قال: أنت قد أجرتني دارك، فقال: أنا لم أؤجرك ولم أعرك بل غصبتني، فالقول قول المالك لأن الأصل عدم الإعارة وعدم الإجارة، وهذا مدعي خلاف الأصل، فالقول قول المالك.

قوله [أو قال: أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة]

إذا قال: أعرتك هذه البهيمة لتركبها، فقال: لا بل أجرتنيها، لكي لا يضمن، فإن المستأجر لا يضمن وأما المعير فعليه الضمان في المذهب، وكانت البهيمة تالفة فالقول قول المالك، للأصل المتقدم، وهو ا، الأصل في أموال الناس الضمان كما تقدم، ودليله من قوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم]

قوله [أو اختلفا في رد فقول مالك]

مثاله: أعاره دابته ثم اختلفا، فالمستعير يقول: رددت، والمالك يقول: لم تردها إلى، فالقول قول المالك هنا لأن الأصل عدم الرد، وقد ثبتت العارية بالبينة أو الإقرار، فلا بد وأن يثبت الرد بالبينة أو بالإقرار.

باب الغصب

ص: 48

الغصب لغة: القهر، وفي الاصطلاح: عرفه المؤلف بقوله:

قوله [هو الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق]

هو الاستيلاء على حق غيره، سواء كان هذا الحق مالا أو اختصاص، مثال المال: الدار أو الدابة أو نحو ذلك، ومثال الاختصاص أن يكون عنده كلب صيد أو كلب زرع، فإنها اختصاص، بدليل أنه يمنع من بيعها، وليست قيمتها قيمة مالية.

وقوله (قهرا) يخرج من ذلك ما لو استولى على حق غيره بغير قهر كأن يختلس أو يسرق أو ينتهب ونحو ذلك، فإنها ليس قهرا وإنما أخذت بطريق خفي، أو بطريق ظاهر ليس فيه قهرية.

وقوله (بغير حق) يخرج من ذلك ما لو كان هذا الاستيلاء بحق كاستيلاء ولي اليتيم على ماله، واستيلاء الحاكم على مال المفلس، فإن هذا الاستيلاء ليس بباطل، وليس المراد أن يستولي عليه لنفسه، ولكن المراد أن يستولي عليه لحظ غرمائه في المفلس، ولحظ نفسه في المحجور عليه من يتيم وغيره، وهذا التعريف يدخل فيه استيلاء الحربي المقاتل على مال المسلم، وهذا ليس بصحيح كما بين هذا شيخ الإسلام، وذلك لأن هذا الاستيلاء لا يضمن فليس مرادا بهذا التعريف.

قوله [من عقار ومنقول]

قوله (من عقار) كالدار والأرض والبستان ونحو ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين)[خ 3198، م 1610] .

وقوله (ومنقول) كأثاث ونحوه، فإذا دخل داره فأخذ أثاث أو طعاما ونحوه فهذا اغتصاب، وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها)[حم 17481، د 5003، ت 2160] والمتاع والعصا من المنقولات.

قوله [وإن عصب كلبا يقتنى أو خمر ذمي ردهما]

ص: 49

إذا غصب كلبا يقتنى ككلب صيد أو كلب زرع ونحوه رده، فما يجوز اقتناءه فإذا غصبه وجب عليه رده، وذلك لأن المقتني يختص به وقد اقتناه على وجه مأذون له فيه فهو حق له فيجب عليه أن يرده، ومثل ذلك لو اغتصب خمر ذمي لم يظهره، أي لم يظهر شربه أمام الناس بل قد أسر ذلك وأخاه فكذلك يجب رده، وذلك لأنه إذا كان يشرب الخمر سرا فإن هذا مأذون له فيه، فإذا أخذه منه فقد أخذه بغير وجه حق.

قوله [ولا يرد جلد ميتة]

فلا يرد جلد الميتة لأنه لا يطهر بدباغ في المذهب، وعليه فهذه المسألة متفرعة عن مسألة يقررها الحنابلة تقدمت في باب الآنية، وهي أن جلد الميتة لا يطهر بدباغ، وقال بعض الحنابلة بل يردها، وذلك لأنه يجوز استعمال الجلد في يابس ونحوه كما تقدم عند الحنابلة، فإذا اقتنى جلد الميتة وقد دبغ واستعمله في يابس فإن ذلك جائز، وعلى القول الراجح وهو أن جلد الميتة يظهر بالدباغ فعليه يجب عليه الرد وهو مال، فجلد الميتة له قيمة، فيجب عليه أن يرده لأن الانتفاع مأذون له شرعا إذا دبغ، وإن كان هذا قبل الدبغ لأنه يمكنه أن ينتفع به بعد دبغه.

قوله [وإتلاف الثلاثة هدر]

فإذا أتلف شيئا من هذه الثلاثة وهي الكلب والخمر وجلد الميتة فهي هدر، فإذا قتل هذا الكلب وإن كان الآخر قد اقتناه لينتفع به على وجه مأذون له فيه شرعا أو أتلف هذا الجلد أو أهراق هذه الخمرة فإن ذلك هدر، فليس على المتلف ضمان، أما جلد الميتة فهو ضعيف، فإن جلد الميتة يدبغ وله قيمة عند دباغه، فإذا أتلفه فعليه الضمان لأن له قيمة، وأما الكلب والخمرة فليست لهما قيمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعهما وعليه فلا قيمة لهما.

فإن قيل: إن خمرة الذمي معصومة إذا لم يجهر بشربها؟

ص: 50

فالجواب: أن كونها معصومة لا يستلزم ضمانها، أو أن يكون لها قيمة بدليل أن نساء المحاربين وأولادهم معصومون ومع ذلك فإذا قتل المسلم امرأة من نسائهم أو صبيا من صبيانهم فلا ضمان، مع أن ذلك يحرم، فكذلك هنا، فلا يجوز له أن يهريق هذه الخمرة، وقد أسر هذا الذمي بشربها لأنه يخالف العقد الذي وضعه إمام المسلمين معهم، ولكن لا ضمان لأن الخمرة لا قيمة لها، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها، وكذلك الكلب وغن كان يقتنى فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمنه.

قوله [وإن استولى على حر لم يضمنه]

فإذا استولى رجل على حر أي اغتصبه سواء كان هذا الحر صغيرا أو كبيرا فإنه لا يضمن، فلو مات عنده بغير سبب منه كأن يموت بمرض أو نحوه فلا ضمان عليه، لكن لو مات بسبب حبس له في موضع احترق أو أصيب هذا الموضع بصاعقة فإنه يضمن.

فإن قيل: لم لا يضمن الحر مع أن العبد يضمن؟

فلو أن رجلا اغتصب عبدا فمات العبد ميتة لا سبب للغاصب فيها فإنه يضمن، لأن يده يد متعدية فيثبت عليها الضمان، وأما الحر فلا يضمن، فالجواب: أن الحر ليس بمال بخلاف العبد الرقيق فإنه مال مقوم، وأما الحر فليس بمال، إذن إن استولى على حر لم يضمنه، إلا أن يباشر ذلك.

فإن اغتصب دابة وعليها مالكها؟

فالمشهور من المذهب انه لا ضمان عليه في الدابة لو تلفت، لأنها تحت يد مالكها، ومالكها لا ضمان عليه فهي تبع له، والقول الثاني في المذهب أن الضمان يثبت واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، وذلك لأننا إنما استثنينا الحر لأنه ليس بمال، وأما هنا فقد تبعه ما هو مال، فإن هذا الرجل قد اغتصب هذه الدابة وهي مال، فحينئذ عليه ضمانها، وأما مالكها فلا ضمان عليه فيه لأنه حر، وهذا القول هو الراجح.

قوله [وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته]

ص: 51

إن اغتصب هذا الحر واستعمله في مهنة ونحو ذلك فعليه أجرته، وذلك لأنه استوفى منفعته، والمنفعة لها عوض فوجب العوض، وكذلك إذا حبسه ولم يكرهه على عمل لكنه حبسه في دار أو نحو ذلك ففوت عليه منافعه فعليه أجرة المثل لأنه فوت عليه منافعه، والمنافع لها أجرة، فإن منعه العمل ولم يحبسه ولم يغصبه لكنه منعه من العمل بغير وجه حق، فهل يثبت الضمان أم لا؟

المشهور من المذهب أنه لا ضمان عليه، وقال صاحب الفروع:" يتوجه: بلى " أي عليه ضمان، وصوبه صاحب الإنصاف، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه بمنعه قد فوت عليه منافعه فيجب عليه أجرة المثل.

قوله [ويلزم رد المغصوب بزيادته وإن غرم أضعافه]

فيلزم رد المغصوب بزيادته المتصلة والمنفصلة، كأن يغتصب عبدا فيعمله الكتابة أو يغتصب دابة فيسمنها فذه زيادة متصلة، ومثال الزيادة المنفصلة، كأن يغتصب بهائم فتنتج أو تلد فحينئذ تتبعها أولادها ونتاجها وتكون كلها للمغصوب منه، كذلك إذا سرق منه رقيقا فعلمه صنعة من الصنائع فيجب عليه رده، ولا يستحق شيئا على هذا التعليم بل يكون العبد بصفته ملكا للمسروق منه، وذلك لأن هذه الزيادة هي نما ملك المغصوب، ويجب عليه الرد لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها) وغير هذا من الأدلة التي تدل على وجوب ذلك، وعليه أن يردها ولو خسر أضعافها، مثال ذلك: إذا اغتصب عبدا، فأبق العبد فيجب عليه أن يرد المغصوب وإن خسر أموالا كثيرة لرده، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(على اليد ما أخذت حتى تؤديه)

قوله [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها والأجرة]

مثاله: رجل بنى في أرض غيره، أو غرس نخلا أو شجرا في أرض غيره فما الحكم؟

ص: 52

يقول المؤلف هنا: لزمه القلع، ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن والحديث صحيح لغيره عن عروة بن الزبير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، وقال صلى الله عليه وسلم:(ليس لعرق ظالم حق)[د 9073] إذن يجب عليه أن يقع هذه النخيل ويهدم هذا البناء، هذا أولا، وثانيا: يجب عليه أرش نقصها، فعندما يغرس في هذه الأرض فقد يسبب هذا الغرس نقصا في الأرض، كأن يؤثر فيما تنتجه الأرض من زراعة ونحوها، فحينئذ له أرش نقصها، فتقوم هذه الأرض قبل أن يحصل فيها هذا البناء، وقيل أن يحصل فيها هذا الغرس، ثم يقوم بعد أن حصل فيها الغرس والبناء، ثم ينظر الفارق بينهما فيدفعه الغاصب إلى المغصوب منه، وثالثا: يجب عليه أن يسوي الأرض وأن يصلحها بعد أن حصل فيها من الحفر ونحو ذلك، بسبب هذا الغرس، وهذا البناء، فيجب عليه أن يسويها، ورابعا: يجب أجرة الأرض هذه المدة، لأنه فوت على صاحب الأرض الانتفاع بها هذه المدة، وما ذكره المؤلف في الغرس، لكن لو اغتصب أرضا فزرعها فما حكم ذلك؟

ص: 53

قال الجمهور يجب القلع، وإن كان حصد الزرع فله الزرع وعليه الأجرة، كالغرس أي قياسا على الغرس، وأما الحنابلة فقد فصلوا في هذه المسألة، فقالوا في المشهور عندهم إن كان لم يحصد بعد فنقول للمالك أنت مخير إن شئت أن تترك له ما زرع حتى يحصل ولك الأجرة، وإن شئت أن تأخذ الزرع وتعطيه النفقة، أي ما أنفقه على هذا الزرع، فتعطي الغاصب نفقته، ويكون الزرع ملكا لصحاب الأرض، أما إن كان الزرع قد حصد فوافقوا الجمهور، وقالوا: إن كان الزرع قد حصد فللغاصب ما حصده من الزرع، وعليه الأجرة، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا فرق بين ما إذا حصد الزرع وإذا لم يحصد، بل يكون ملكا لصحاب الأرض، وإن شاء أن يأخذ الأجرة فله ذلك، حتى ولو حصده هذا الغاصب فلصحاب الأرض أن يقول أريد الزرع ويعطيه النفقة، وهذا القول هو الراجح، ودليل ذلك ما رواه أحمد والترمذي وحسنه، ورواه ابن حاجة وأبو داود، وقد نقل الترمذي عن البخاري تحسينه واحتج به الإمام أحمد والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من زرع بأرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته)[حم 15394، د 3403، ت 1366، جه 2466] والحديث عام في الزرع قبل حصاده وبعد حصاده.

فإن قيل: ما الجواب عما ذكره الجمهور فقد قاسوا الزرع على الغرس؟

فالجواب: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الغرس إذا قلع فلا إتلاف، وأما الزرع فإذا قلع فإنه يتلف، وقد أمكننا أن نرد إلى المغصوب حقه بغير إتلاف لمال الغاصب.

قوله [ولو غصب جارحا أو عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيد فلمالكه]

ص: 54

مثاله: رجل اغتصب جراحا كصقر مثلا، أو اغتصب عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيدا فلمالكه، أي فالصيد يكون لمالكه، وهو المغصوب منه، لأنه حصل بسبب ملكه، وقال شيخ الإسلام:" يتوجه أنه إذا اغتصب فرسا فصاد به يتوجه أن يكون الكسب بين الغاصب وبين المغصوب منه بقدر نفعهما " فتقوم منفعة راكب بالفرس وهو الغاصب، وتقوم منفعة المركوب وهو الفرس، ويكون الكسب وهو الصيد بينهما، وهذا هو القول العدل في هذه المسألة.

وإذا كان الصيد على فرس ونحوه فإن للراكب دورا كبيرا أكثر من دوره فيما لو كان الصيد بجارح كصقر ونحوه، وقد يقال في المسألة السابقة الني تقدم ذكرها، فيما إذا علم العبد ونحوه فإن له نصيبه من ذلك وأن هذا هو العدل، فقد يخرج هذا على التوجيه الذي ذكره شيخ الإسلام.

قوله [وإن ضرب المصوغ]

أي اغتصب حليا أو اغتصب ذهبا فجعله دراهم ودنانير.

قوله [ونسيج الغزل]

إذا اغتصب غزلا فنسجه، فأصبح منسوجا بعد أن كان غزلا.

قوله [أو قصر الثوب أو صبغه]

إذا قصر الثوب أي غسله أو صبغه أي عمل فيه من صبغ ونحوه.

قوله [ونجر الخشب ونحوه]

فأصبحت الأخشاب التي قد اغتصبت أبوابا مثلا، أو أحال الحديد إلى مواد أخرى من آلات ونحوها فما الحكم؟

قالوا: يرده وأرش نقصه، فنقول له رد الأبواب ورد الثياب بصبغتها، ويرد هذا الذهب بضربه، ويرد الغزل بنسجه مع الأرش، ووجه شيخ الإسلام ما تقدم، بل عن الإمام أحمد أنه يكون شريكا له في منافعه، وذلك لأن المنافع تجري مجرى الأعيان، وهذا القول هو الراجح، وهو القول الذي تقدم تقريره، وعلى القول الذي ذهب إله الحنابلة: إن قال أريد منك أن تعبد هذه الأبواب ويرجع خشبي، فهل يلزم بذلك أم لا؟

ص: 55

قالوا: يلزمه ذلك إن كان للمغصوب منه في ذلك غرض صحيح، فإن لم يكن له غرض صحيح فلا، فإذا كان له غرض صحيح كأن يريد هذه الأخشاب لأمر مهم له، وأحيلت إلى أبواب لا نفع له بها، فحينئذ يلزم، فإن لم يكن هناك غرض صحيح فلا، وذلك لأنا إذا ألزمناه مع عدم وجود الغرض الصحيح فإن في ذلك نزاعا وشقاقا، والواجب قطع النزاع والشقاق.

ومثل هذا في مسألة الغرس، فلو غرس نخلا، وقال للمغصوب منه أريد أن أهلك هذه النخيل مكان أن أقلعها فهل يلزم بقول هذه الهبة؟

فيه تفصيل: فإن كان له غرض صحيح في قلعها وإزالتها فله ألا يقبل، وإن لم يكن له غرض صحيح فإنه يلزم بقبول الهبة قطعا للنزاع، ومثال الغرض الصحيح أن يبني هذا الغاصب فيها بناء، والمغصوب منه يريد زراعتها ولا حاجة له في هذا البناء، وقد وهبه هذا البناء فإنه لا يلزم بقبوله.

قوله [أو صار الحب زرعا]

اغتصب حبا، فبذره فأصبح هذا الحب زرعا.

قوله [والبيضة فرخا]

اغتصب بيضا فأصبح الآن فرخا.

قوله [أو النوى غرسا]

اغتصب نوى تمر ثم غرسه فأصبح الآن نخلا، فما الحكم؟

قوله [رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب]

فيرد هذا النوى نخلا، ويرد هذه البيضة دجاجة أو فرخا، ويرد هذا الحب وإن كان زرعا، وإن كان من نقص فإنه يرد أرش النقص، ولا شيء للغاصب، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه في مثل هذه المسألة يضمنها كما لو تلفت فيرد ضمانها كما لو تلفت، بمعنى أنها في مثل هذه المسال قد استحالت إلى عين أخرى غير العين التي اغتصبها، وعليه فلا يردها وإنما يضمنها ضمان المتلفات، وعليه فيرد إليه حبا آخر مكان هذا الحب الذي اغتصبه، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأنها قد استحالت إلى عين أخرى، وحينئذ فالعدل هذا.

قوله [ويلزمه ضمان نقصه]

ص: 56

إن غصب دابة مثلا وكانت تساوي ألف ريال، فردها إلى المغصوب منه وهي لا تساوي إلا تسعمائة ريال فعليه ضمان النقص، وهو هنا يساوي مائة ريال، فإذا كان المغصوب قد نقص عند رد الغاصب له فإنه يقوم صحيحا ويقوم ناقصا وينظر الفارق يسنهما وهو الأرش فيجب على الغاصب ضمانه، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان عليه ضمانه، وقد تقدم أن يد الغاصب متعدية فعليها الضمان، والمسائل الآتية مبينة على القاعدة السابقة أي قاعدة تضمين الغاصب.

قوله [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته]

وكذلك إذا قطع يديه أو نحو ذلك، فما تثبت فيه دية كاملة فيجب عليه أن يعطي قيمته ويرده.

قوله [وما نقص بسعر لم يضمن]

مثال هذا: اغتصب منه عقارا يساوي عند الاغتصاب مائة ألف ريال، فرده وهو لا يساوي إلا خمسين ألف ريال، فهل يضمن هذا الفارق أم لا؟

قال المؤلف: لا يضمن، قالوا: لأنه قد رده على ما هو عليه بلا نقص، فالعقار على ما هو عليه، فلا ضمان، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في هذه المسألة أن الضمان واجب، وذلك لأنه قد فوت عليه الفارق بين السعرين، بين سعره وقت الغصب، وبين سعره وقت الرد، وليس من العدل ألا يضمن شيئا قد اغتصبه زمنا ثم رده في زمن آخر، أضف إلى هذا أن الصفات إنما تقصد لقيمتها، فإذا كان النقص في الصفات مؤثرا فكذلك النقص في القيمة مؤثر.

قوله [ولا بمرض عاد ببرئه]

ص: 57

ذا اغصب عبدا، فمرض العبد ثم بريء فإذا رده فلا ضمان، فمثلا اغتصب عبدا وهو يساوي مائة ألف، ثم مرض فأصبح يساوي تسعين ألفا، ثم شفي من مرضه فأصبح يساوي مائة ألف، فلا ضمان عليه لزوال موجب الضمان، والمذهب أن الضمان يستقر بالرد، فإذا اغتصب عبدا يساوي مائة ألف فمرض فرد هذا العبد مريضا لا يساوي إلا تسعين ألفا فعليه عشرة آلاف، فإذا شفي العبد بعد ذلك فإن هذه العشرة آلاف تبقى للمغصوب منه سواء كان قد أخذها مع الرد أو لم قد أخذها بل قد تعلقت في ذمة الغاصب، والراجح خلاف هذا لزوال موجب الضمان، فإن موجب الضمان هو النقص، وقد زال هذا النقص، إلا أن يكون زوال النقص بفعل من المغصوب منه كأن يشتغل بمداواته ونحو ذلك فهذه مسألة أخرى، فإن زوال هذا النقص قد حصل بمعالجة من المغصوب منه، أما إذا لم يكن كذلك فإن الضمان يزول بزوال موجبه، وهو قول بعض الحنابلة خلافا للمشهور من المذهب.

قوله [وإن عاد بتعلم صنعة ضمن النقص]

إذا عاد النقص بتعليم صنعة ضمن النقص، مثال هذا: غصب عبدا يساوي عشرة آلاف، فأصاب هذا الرقيق بهزال ببدنه، فأصبح لا يساوي إلا تسعة آلاف فعلمه صفة تساوي ألفا فأصبح الرقيق يساوي عشرة آلاف فإنه يضمن النقص، وذلك لأن هذه الزيادة قد حصلت من جهة أخرى، فإن النقص الذي فيه وهو الهزال لم يزل، فلم يزل ناقصا من هذه الجهة، وهذا النقص قد حصل في يد الغاصب فكان الضمان عليه، وهذه الزيادة التي قد جبرت هذا النقص إنما هي مع بقاء النقص، فإذن موجب الضمان وهو النقص باق وحينئذ فتعليمه للصنعة ونحوها لا يزيل موجب الضمان فيجب عليه الضمان.

قوله [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة]

ص: 58

صورة هذه المسألة: اغتصبه وهو لا يساوي إلا ألف ريال هزيلا جاهلا، فعلمه فأبح عالما في صنعة من الصنائع، وأطعمه فسمن فأصبح بعد أن كان يساوي ألفا أصبح يساوي عشرة آلاف، ثم نسي العلم وهزل فأعاده هزيلا جاهلا فعليه الضمان، فنقومه وهو صانع سمين ثم نقومه بعد أن أصبح هزيلا جاهلا ثم يعطى المغصوب منه الفارق بينهما، وذلك لأن هذه الزيادة قد زادت في ملك المغصوب منه، فهذا الغاصب يده يد متعدية فحينئذ إذا زالت فعليه الضمان.

قوله [كما لو عادت من غير جنس الأول]

أي كما لو عادت الزيادة لكن من غير جنس الأول، كما تقدم في المسألة السابقة، فهذا لمسألة تكرار للمسألة السابقة وهي قوله (وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص)

قوله [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما]

فإن كان من جنسها فلا ضمان إلا أن تكون إحدى الصفتين أكثر من الصفة الأخرى، وبيان هذا: إذا اغتصب عبدا وهو يتقن صنعة الحدادة مثلا، فعلمه النجارة، وأنساه الحدادة، وأصبح لا يتقن الحدادة وإنما يتقن النجارة، فحينئذ لا ضمان، وذلك لأن هذا النقص قد جبره بتعليمه النجارة فلا ضمان، إلا أن تكون الصفة التي قد فوتها عليه أفضل وأعلى من الصفة التي علمه إياها هذا الغاصب، فيجب الفارق حينئذ، كأن تكون إحدى الصنعتين تساوي فيه ألفا، والأخرى تساوي فيه خمسمائة، فيجب له الفارق أي للمغصوب منه.

ص: 59

* وإن جنى الغاصب على المغصوب جناية، فحينئذ عليه أكثر الأمرين من أرش الجناية والنقص، مثال هذا: إذا اغتصب عبدا، وجنى عليه جناية، وهذه الجناية أنقصت قيمة العبد فأصبح العبد بعد أن كان يساوي عشرة آلاف أصبح يساوي تسعة آلاف، فهنا لضمان النقص ألف درهم، والجناية تساوي مثلا ألفين، فإنه يجب عليه ضمان ألفين أرش الجناية لأنه هو الأكثر، وإن كان أرش الجناية لا يساوي إلا ألفا، لكنا قومنا العبد ووجدنا أن الأرش ألفين، فحينئذ يجب عليه الأرش، وذلك مثلا في السيارة، إذا اغتصب سيارة وصار فيها حادث فأعادها، وقدرنا القيمة التي تصلح فيها هذه السيارة فوجدناها ألف درهم، ثم قدرنا قيمة السيارة فوجدناها بعد أن كان تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي خمسة آلاف، فنضمنه أكثر الأمرين وهو خمسة آلاف، وذلك لأنه قد وجد سبب الأمرين كليهما، فسبب أرش الجناية موجود وهو الجناية، وسبب ضمان النقص موجود وهو هذا الفارق بين ثمنه الحقيقي وثمنه بعد رده، فما وجد سبب كل منهما ضمناه أعلاهما لدخول أقلهما في أعلاهما.

** وإن جنى العبد عند الغاصب فهل يكون أرش جنايته على سيده الذي قد اغتصب منه أو يجب على هذا الغاصب؟

الجواب: يجب على الغاصب، وذلك لأن الجناية نقص، وقد تعلق هذا النقص برقبة العبد، فكان كسائر أحوال النقص التي تقدم ذكر شيء منها.

فصل

قوله [وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما...... فهما شريكان بقدر ماليهما فيه]

ص: 60

إذ غصب زيتا فخلطه بزيت، أو غصب حنطة فخلطها بحنطة ونحو ذلك، فقال المؤلف (فهما شريكان بقدر ماليهما فيه) فيباع الزيت، ويعطى كل واحد منهما قدر نصيبه من الزيت مالا، فإذا كان لكل واحد فيها النصف، فبيع بألف درهم فلكل من الغاصب والمغصوب منه خمسمائة درهم، ظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقا، سواء كان زيت الغاصب أفضل من زيت المغصوب أو كان مثله أو كان دونه، وهذا قول في المذهب، والمشهور في المذهب أن على الغاصب مثله إن كان المختلط مثله مساويا له، بمعنى: خلط الغاصب زيته بزيت المغصوب منه، وزيت المعصوب يماثل زيت الغاصب في القيمة، كأن يأخذ منه كذا وكذا من الزيت، فيجب على الغاصب أن يعطي المغصوب منه هذا القدر الذي اغتصبه منه، وهذا هو الظاهر وذلك لأن المثل أولى من البدل، بخلاف ما إذا كان أفضل منه أو دون فإنا لا نأخذ من هذا المختلط مثله، لأن مال الغاصب في المسألة الأولى أفضل من مال المغصوب منه، وفي المسألة الثانية مال المغصوب منه أفضل من مال الغاصب، فلم نأخذ من المختلط مثله.

قوله [أو صبغ الثوب أو لت سويقا بدهن أو عكسه ..... فهما شريكان بقدر ماليهما فيه]

إذا غصب ثوبا فصبغه وكذلك إذا اغتصب سويقا ثم لته بدهن، فالدهن له، والسويق مغصوب، وعكسه كذلك، فإذا كان السويق له، والدهن مغصوب أو الصبغ مغصوب والثوب له، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، لأن الاجتماع في الملك يقتضي التشريك فيه، فهذا له غين، وهذا له عين أخرى، فالغاصب له الصبغ، والمغصوب منه له الثوب، والعكس بالعكس، كذلك السويق للغاصب والدهن للمغصوب، فاجتمعا في الملكين بما يقتضي اجتماعهما في التشريك فكانا شريكين.

قوله [ولم تنقص القيمة ولم تزد]

ص: 61

فإذا بعنا هذا الثوب المصبوغ، فالصبغ مال الغاصب، والثوب مال المغصوب منه، فكان ثمنه عشرة دراهم، وقيمة الثوب في الأصل خمسة دراهم، والصبغ قيمتها خمسة دراهم أيضا فحينئذ لم يزد ولم ينقص، فنعطي المغصوب خمسة دراهم قيمة الثوب، ونعطي الغاصب خمسة دراهم قيمة صبغه.

قوله [وإن نقصت القيمة ضمنها]

فإن كان الثوب بعد الصبغ أقل منه قيمة قبل الصبغ فكانت قيمته خمسة دراهم فأصبح أربعة دراهم فإنه يضمن هذا الدرهم، فإذا نقصت قيمة هذا الشيء المغصوب بعد خلطه بهذا الشيء غير المتميز منه فالضمان على الغاصب، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان في ضمانه.

قوله [وإن زادت قيمة أحدهما فلصحابه]

أي لصاحب العين التي كانت الزيادة بسببها، فالثوب مثلا بعد أن صبغ أصبح يساوي خمسة عشر درهما، وقيمة الصبغ لا تساوي إلا خمسة دراهم، والثوب كان عند اغتصابه يساوي خمسة دراهم، لكن ارتفعت أسعار الثياب بعد ذلك فأصبح يساوي عشرة دارهم، فأصبح وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر درهما، فهذه الزيادة حصلت بسبب الثوب، فتكون للمغصوب منه، لأنها حصلت بسبب ملكه، فإن كان الصبغ قيمته خمسة دراهم، لكنه كان صبغا حسنا فصار الثوب يساوي خمسة عشر درهما لارتفاع قيمة الصبغ أو نحو ذلك فحينئذ تكون هذه الزيادة للغاصب لأن هذا لسبب ملكه.

وفي قول المؤلف (إن خلط بما لا يتميز) دليل على أن المسألة مختصة بهذا، وأنه إن خلط المغصوب بما يمكن تمييزه فيجب التمييز، والتمييز واجب على الغاصب فعليه أجرته، كأن يخلط حنطة بزبيب، ويمكننا أن نفصل هذا عن هذا، فإن التمييز واجب على الغاصب لأنه قد حصل بسببه.

قوله [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ]

إذا اغتصب ثوبا فصبغه، فهل يجبر المالك على قلع الصبغ من ثوبه إن أراد الغاصب قلعه، أو هل يجبر الغاصب على قلع الصبغ إن قال له المغصوب منه: اقلع صبغك؟

ص: 62

الجواب: قال المؤلف: لا يجبر، وذلك لما يترتب من الإتلاف في ماله، فإن صاحب الصبغ إذا أجبر على قلع الصبغ تلف ماله، كما أن صاحب الملك إذا اجبر على قلع الصبغ تلف ماله، وكما تقدم في الزرع وأنه لا يقلع لأنه يتلف على الغاصب ماله فكذلك هنا.

قوله [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة]

صورة هذه المسألة: إذا باع رجل على آخر أرضا، وكان قد اغتصبها، فباعها عليه بيعا صحيحا في الظاهر، فبنى فيها المشتري بيتا أو وضع فيها غرسا أو نحو ذلك ثم ردت هذه الأرض المغصوبة إلى مالكها الأصلي فقلع على المشتري بناؤه وغرسه فالضمان على البائع الغاصب، وذلك لأنه تلف في مال الغير حصل بسببه فقد غرر به، وأوهمه أن الأرض ملك له.

لكن لو كان المشتري يعلم أنها مغصوبة فلا ضمان على الغاصب، لأنه قد دخل على بصيرة فلم يغرر به ولم يوهمه، فهو يعلم أنه لا يجوز له أني تصرف بها، ومع ذلك قبل البيع، وقوله (لاستحقاق الأرض) أي بأن كانت الأرض مستحقة لغير البائع.

قوله [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه وعكسه بعكسه]

إذا أطعم رجلا طعاما، وكان هذا الرجل يعلم أنه مغصوب، فلا ضمان على الغاصب بل الضمان على الآكل، وذلك لأنه أتلف مال غيره بعلم، فإذا اغتصب رجل مثلا، فأطعم أولاده هذا الغصب فأكلوه وهم مكلفون يقع على مثلهم التضمين، أو غير مكلفين ولهم مال فالضمان عليهم فيما طعموا، وذلك لأنهم قد طعموا وهم يعلمون أن هذا غصب، وقوله (وعكسه بعكسه) أي إذا أطعمه لغير عالم بالغصب فالضمان على الغاصب لأنه قد غرر به وأوهمه.

قوله [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه أو أودعه أو أجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم ويبرأ بإعارته]

ص: 63

قوله (إن أطعمه لمالكه) كأن يغتصب منه شاة فيطعمه إياها فحينئذ لا يبرأ، وذلك لأن المالك لا يتصرف به كما شاء، فهو لا يتصرف به باختياره، بل يتصرف على الوجه الذي دفع إليه وهو الطعم، ومثل ذلك إذا وهبه إياه فلا يبرأ بذلك، ولما فيه من المنة، وربما كافأه على هذه الهدية وهي في الحقيقة غصب، فلم يبرأ بذلك، لكن إن خشي ضررا بإرجاعه إليه ورده إليه ردا صريحا كأن يعاقب بما لا يستحق شرعا، فله حينئذ أن يهديه إياه وأن يهبه إياه دفعا للضرر كما قرر ذلك ابن القيم.

وقوله (أو أودعه إياه) إذا أودعه إياه فحصل له تلف فإنه لا يبرأ - أي الغاصب - كأن يقول: خذ هذه المائة ألف - وقد اغتصبها منه - يقول: خذها وديعة عندك، فتلفت فلا يبرأ الغاصب من ذلك، لأنه لم يعطه إياها على أنها ملكه، والواجب أن يرد الشيء إليه على أنه ملك له، ولأن الوديعة لا ضمان فيها، فإن المودع لا يضمن، فحينئذ لا يندفع ضمان الغاصب بشيء، بخلاف ما ذكره المؤلف من قوله بعد ذلك (ويبرأ بإعارته) فإن المذهب على أن العارية مضمونة، فحينئذ لا فائدة من إبقائنا على تضمين الغاصب مع أننا نضمن المستعير، فالمستعير ضامن لهذه السلعة المغتصبة منه لأنها عارية، والعارية مضمونة، فإذا قلنا للغاصب: أنت ضامن، وقلنا للمستعير وهو المغصوب منه أنت ضامن فلا فائدة، لأن الغاصب إذا ضمناه رجع إلى المستعير وهو المالك.

وهذا على التسليم به، فإنه مبني على المذهب المرجوح الذي تقدم وهو أن العارية مضمونة، والصحيح عدم ضمانها، فإن شرط المعير ضمان العارية، فلا يتوجه أي فلا يتوجه أن تبرأ ذمة الغاصب بذلك، وذلك لأنه لم يرجعها إليه على أنها ملك له، فما زالت يد الغاصب عليها، وهو قد أخذها على أنها عارية فواجب عليه ضمانها بالشرط المتقدم، لكن هنا نقول: في الشرط هنا شيء من النظر، وذلك لأنه ضمن على ماله، وشورط على ماله، وهذا شرط بغير حق.

ص: 64

وقوله (أو آجره إياه) كذلك إذا آجره إياه لا يبرأ، وذلك كما تقدم في الوديعة، لأن العين المؤجرة في يد المستأجر غير مضمونة، فحينئذ الضمان الواجب على الغاصب ما زال باقيا غير مدفوع.

* وهنا إشكال، في قول المؤلف (وصبغ الثوب........ إلى أن قال: فهما شريكان بقدر ماليهما) وقد تقدم قوله في أول باب الغصب (أو صبغه فلا شيء للغاصب) وقد تقدم أن اختيار شيخ الإسلام في المسألة السابقة أنهما شريكان فالصبغ يكون المالك له شريكا به، وهنا كذلك كما هو مقرر هنا، بينما هناك أدخلها المؤلف مع تغسيل الثوب ونسج الغزل، وهل بينهما تعارض؟؟

الجواب: الذي يظهر أن بينهما تعارضا، وأن المسألة الأولى وهم من المؤلف، فإن صاحب المقنع لم يذكر صبغه، وهو أصل هذا الكتاب، وشيخ الإسلام لما استدل على أنه يكون شريكا للمالك في هذه المسائل التي أوهم المؤلف في إدخال الصبغ منها: احتج عليهم بالصبغ، وقال: كالصبغ، وفرق الموفق رحمه الله بين الصبغ وغيره من المسائل المتقدمة،بأن الصبغ عين ولذا تقدم أنها منافع، والمنافع تجرى مجرى الأعيان، والصبغ ليس بمنفعة، وإنما هو عين.

قوله [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا]

إذا تلف المغصوب أو أتلف أو تغيب كجمل يشرد مثلا فيجب ضمان مثله إن مثليا، والمشهور في مذهب الحنابلة أن المثلي هو المكيل أو الموزون مما ليس فيه صناعة مباحة، ويصح سلما، فالمكيلات كالبر مثلا، فإذا غصب منه مائة صاع من البر الجيد فيضمن الغاصب مائة صاع من البر الجيد، والموزونات كالحديد، فإذا غصب منه كذا وكذا رطلا من الحديد فإذا تلفت فيجب على الغاصب أن يدفع له قدرها من الحديد.

وقولنا " مما ليس فيه صناعة مباحة " فإن كانت فيه صناعة مباحة فليس بمثلي كالحلي مثلا، فإذا غصب منه حليا، فإن هذا الذهب المصوغ لا يضمن بمثله، بل بقيمته، فتقدر قيمة هذا الحلي ويدفعها له هذا الغاصب.

ص: 65

وقولنا " ويصح سلما " فإن لم يصح سلما كالجواهر واللؤلؤ ونحوها كما تقدم في باب السلم فليست بمثلية، وعليه فضمانها يكون بضمان قيمتها، وعليه فإذا غصب منه ما ليس بمكيل ولا موزون أو فيه صناعة مباحة أو لا يصح سلما فإذا تلف فإنه يضمن قيمته، ومثله أن يغصب منه طعاما مطبوخا أو طعاما معدودا لا مكيلا ولا موزونا كما يكون في بعض الفواكه، أو أن يغصب منه أرضا أو أثاثا أو متاعا أو نحو ذلك، ومذهب الشافعية أن كل ما له مثل فإنه يضمن كذلك، أي يضمن بمثله، سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن كذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وبه يجتمع الأمران، فيحصل المقصود للمغصوب منه بحصوله على مثلي ما غصب منه وأيضا القيمة فيه، ويدل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان عند بعض نسائه - وفي الترمذي أنها عائشة - فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين - وفي بعض الروايات أنها زينب - بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسره القصعة - وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غارت أمكم، فضمها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الطعام فيها، وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس القصعة المكسورة)[خ 2481، ت 1359، ن 3955] وفي الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طعام بطعام وإناء بإناء)[ت 1359] فالطعام هنا فيه صنعة، والإناء ليس بمكيل ولا موزون، ومع ذلك فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فيه الضمان.

قوله [وإلا فقيمته يوم تعذره]

ص: 66

فإذا كان هذا المغصوب له مثلي لكنه متعذر وقد أعوز الغاصب أن يأتي بمثله، كأن يغصب منه طعاما مكيلا ولا يتوفر هذا الطعام في تلك البلاد، فإنه يضمن قيمته يوم تعذره، فإذا كان تعذره في الأسواق في شهر كذا فينظر قيمته يومئذ، ويعطيها الغاصب للمغصوب منه، قالوا: لأنه إنما وجب في ذمة الغاصب حينئذ أي حين انقطاع هذا المثلي أو تعذره، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، والرواية الثانية: أنه تجب عليه قيمته يوم حكم الحاكم أي عند المحاكمة، فإذا حكم الحاكم في آخر الشهر بأن عله المثلي، فكان المثلي متعذرا ففي هذا اليوم يتعلق في ذمته قيمة المثلي، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه إنما وجبت القيمة في ذمته عند حكم الحاكم، والرواية الثالثة عن الإمام أحمد واختارها شيخ الإسلام أنه تجب عليه القيمة يوم غصبه، وهي أصح الروايات الثلاث، فالقول الراجح ما اختاره شيخ الإسلام، وأنه إن كان الواجب عليه مثله لكن المثل متعذر فتجب عليه قيمته يوم غصبه، وذلك لأنه قد أتلفه على المغصوب منه حقيقة يوم غصبه، وإنما أوجبنا المثل لأن المثل بدل عن المغصوب، فحيث تعذر المثل فإننا نرجع إلى الأصل، والأصل قد أتلف عليه بالاغتصاب، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

قوله [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه]

وغير المثلي في المذهب ما ليس بمكيل ولا موزون أو كان مكيلا أو موزونا لكن فيه صنعة مباحة كالحلي من الذهب، أو لا يصح سلما كالجوهر واللؤلؤ، فيكون ضمانه بقيمته إذ لا مثل له، وقد تقدم القول الراجح وهو عدم تخصيص المثلي بما ذكره الحنابلة، بل كل ما ليس له مثل فهو داخل في هذا، وما كان له مثل فهو داخل في المسألة السابقة، سواء كان مكيلا أو موزونا أو غير ذلك.

ص: 67

وقوله (يوم تلفه) إذ الضمان يكون بقيمته يوم التلف، فعندما يغصب منه شيئا لا مثل له كجوهر ونحو ذلك، فإذا غصبها منه في شهر محرم، ثم تلفت على الغاصب في آخر شهر ذي الحجة، وكانت قيمتها يوم غصبها عشرة آلاف، وقيمتها يوم تلفها عشرون ألفا فهل نوجب عليه ضمانها يوم تلفها أو يوم غصبها؟

قولان لأهل العلم:

القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه يضمنها يوم تلفها، وعللوا قولهم هذا بأن الواجب عليه رد هذه العين قبل تلفها، وإنما وجبت عليه القيمة يوم تلفها وإلا فالواجب أن يرد عينها.

القول الثاني: وهو قول الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد أن الواجب عليه قيمتها يوم غصبها، وذلك لأنه قد أتلفها عليه حينئذ، فباغتصابها أتلفها عليه، وفوت الانتفاع بها عليه، وكونه يجب عليه أن يردها قبل تلفها لا يعني أن تكون القيمة بدلا عنها في ذلك اليوم، فقد كان واجبا عليه أن يرد عينها لأن هذه العين هي عين مال هذا الرجل، لكن لما أتلفها وهي في يده فرجعنا حينئذ إلى الأصل، ولما تقدن في مسألة سابقة، تقدم ترجيحها خلافا للمذهب من أن النقص في السعر مضمون، فإذا كانت السلعة تساوي عشرة آلاف يوم اغتصابها ثم ردها وقد نقص سعرها فإنه يضمن الفارق كما تقدم ترجيحه، فالراجح مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

قوله [وإن تخمر عصير فالمثل]

مثاله: غصب عصيرا فتخمر هذا العصير، فيجب عليه المثل، أي أن يدفع لهذا المغصوب منه عصيرا مثل عصيره، وذلك لأنه قد تعدى على هذا العصير بزوال ماليته، لأنه لما صار خمرا أصبح لا قيمة له، فليس بمال، فحينئذ يكون هذا الغاصب قد أزال مالية مال هذا الرجل فوجل عليه الضمان.

قوله [فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا]

ص: 68

إذا أصبح هذا العصير خلا لا خمرا، والخل مال، وله قيمة، فحينئذ يدفعه إلى المغصوب منه لأن الخل قد تحول من هذا العصير، والعصير مال المغصوب منه، وعليه فيدفعه إليه، فإن نقصت قيمته خلا، كأن يكون لما كان عصيرا يساوي ألفا، فلما صار خلا أصبح لا يساوي إلا تسعمائة فعليه أن يضمن الفارق فيدفع له مائة، وقال بعض الحنابلة وهو وجه عند الشافعية: إذا تحول إلى خل فإنه يكون للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه قد استحال إلى عين أخرى، وتقدم نظير هذه المسألة فيما إذا صار الحب زرعا ونحو ذلك، واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهنا كذلك، فالصحيح أنه إذا تخلل العصير فإن الخل يكون ملكا للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه بالاستحالة قد أتلفه عليه فقد أصبح الآن خلا وليس بعصير فعليه الضمان.

* مسألة:

إذا غصب مما يؤجر في العادة، كأن يغصب منه دارا تؤجر في العادة، فعليه أجرتها في المدة التي اغتصبها فيها، سواء استوفى المنافع أم لم يستوفها، لأنه إذا استوفى المنافع فوجوب الأجرة عليه ظاهر، وإن لم يستوف المنافع فإنه قد فوت على صاحب الدار منافع داره، وهي تسحق الأجرة فكان عليه أجرتها.

فصل

قوله [وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة]

قوله (الحكمية) أي التي يحكم عليه بصحة أو فساد، كبيعه أو هبته ونحو ذلك، فتصرفات الغاصب الحكمية كلها باطلة، وذلك لأنه تصرف في ملك غير ملكه بلا إذن، وحينئذ فتكون في حكم تصرف الفضولي، وعليه فالراجح كما تقدم في مسألة تصرف الفضولي أنها موقوفة على الإجازة، فإذا أجاز المالك صحت وإلا فلا، فإذا اغتصب دارا فأجرها، ثم أرجعنا هذه العين وهي الدار إلا مالكها، وكان الغاصب تصرف فيها بإجارتها، فتصرف باطل إلا أن يجيزه المغصوب منه.

ص: 69

وقوله (الحكمية) احتراز من غير الحكمية كإتلافه المغصوب بأكله كما يكون في الطعام أو بإشعال شمعة ونحو ذلك، وهذه لا يحكم عليها بصحة أو فساد، وإنما يحكم عليها بحل أو حرمة.

قوله [والقول في قيمة التالف أو قدر أو صفته قوله]

أي قول الغاصب، وقوله (في قيمة التالف) مثاله: إذا اختلفا في قيمة التالف، فأحدهما يقول قيمته عشرة آلاف، والآخر يقول خمسة عشر ألفا، وقوله (أو قدره) مثاله: أن يقول: قد اغتصبت مني مائة صاع، ويقول الثاني: لم أغصب منك إلا خمسين صاعا، وقوله (أو صفته) كأن يقول: قد اغتصب مني عبدا كاتبا، ويقول الآخر: لم يكن العبد كاتبا بل كان أميا، فالقول في هذه المسائل قول الغاصب إلا ببينة، فإذا كان عند المغصوب منه بينة تدل على صدق قوله وإلا فالقول قول الغاصب، وذلك لأنه غارم منكر، والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد، وأما الآخر فإنه مدعي، وعلى المدعي البينة، واليمين على من أنكر.

قوله [وفي رده أو تعييبه قول ربه]

إذا اختلفا في الرد فقال الغاصب: قد رددت، وقال المغصوب منه: بل لم يرد، وكذا إذا اختلفا في عيب كأن يقول الغاصب: قد اغتصبته معيبا، وقال المغصوب: اغتصبته صحيحا لا عيب فيه، فالقول هنا قول ربه، أي قول رب المغصوب، وهو المغصوب منه، لأن الأصل عدم الرد وعدم العيب.

قوله [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا]

ص: 70

إذا غصب شيئا ثم جهل مالكه، ومثل هذا الودائع، فلو أن رجلا وضعت عنده وديعة أو عارية أو نحو ذلك، ثم جهل ربها، فحينئذ يتصدق به عنه مضمونا، فيتصدق بهذا الشيء المغصوب بنية الضمان، فمثلا: غصب من رجل عشرة آلاف أو وضع عنده رجل عشرة آلاف وديعة، ولم يدر ولم يهتد إلى صاحبها، فنقول: تصدق عنه بهذه العشرة آلاف بنية الضمان، بمعنى: إذا جاء المغصوب منه يوما أو عرفته واهتديت إليه أو جاءك هذا الودع أو اهتديت إليه فتقول: قد تصدقت بالوديعة أو بالعارية، أو تصدقت بما اغتصبته منك عنك، فإن شئت فالثواب لك، وإلا فخذ حقك مني والثواب لي، وحينئذ يكون المغصوب منه أو المودع أو المعير بالخيار، فإن شاء كان الثواب له، وإلا فإن الدافع لماله المتصدق به يكون عليه الضمان، فإن لم يرد الغاصب أو المودع ذلك، أي لم يرد أن يتصدق بها بنية الضمان فحينئذ يسلمها إلى الحاكم، ويجب على الحاكم تسلمها وقبولها، ويتصرف بها في مصالح المسلمين، وحينئذ تبرأ عهدة الدافع، إذن إن شاء سلمها إلى الحاكم وتبرأ حينئذ عهدته، وتكون في حكم الأموال الضائعة في بيت المال، تصرف في مصالح المسلمين، وإن شاء تصدق عنه بنية الضمان.

قوله [ومن أتلف محترما..... ضمنه]

من أتلف على رجل دابته أو متاعه أو غير ذلك فعليه الضمان، وذلك لأنه قد فوته عليه بالإتلاف، فكما لو غصبه فتلف عنده، فهذه مسائل ملحقة بالغصب، فهو لم يغصب هذا المال بل أتلفه عليه بغير إذن من صاحب المال فعلى المتلف الضمان.

قوله [أو فتح قفصا أو باب أو حل وكاء]

فإذا فتح قفصا عن طير أو بابا عن ماشية، أو حل وكاء أي رباطا، كأن يكون هناك سمن في وعاء فيحل الوكاء فيهراق على الأرض أو تتلفه الشمس فعلى من فعل ذلك الضمان.

قوله [أو حل رباطا]

كأن يكون هناك فرس قد ربط برباط، فيحل رباطه فيشرد الفرس فعليه الضمان.

قوله [أو قيدا]

ص: 71

كأن يكون له عبد قد قيده خوفا من هربه فيأتي رجل فيفك قيده فعليه الضمان، لأنه قد أبق بسببه فتلف على صاحبه بسببه.

قوله [فذهب ما فيه أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه]

فهذا باب واحد، فكل من أتلف على غيره شيئا أو تسبب بالإتلاف فعليه الضمان لأنه فوت على هذا ماله.

قوله [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن]

من ربط دابة في طريق ضيق فعثر بهذا الحبل إنسان فعليه الضمان، وذلك لأنه لما ربط هذه الدابة بهذا الحبل في هذا الطريق الضيق فإنه يكون متعديا بهذا الفعل فحينئذ يضمن.

فإن كان الطريق واسعا فكلام المؤلف يدل على أنه لا يضمن، وقال بعض الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أن عليه الضمان، والذي يتبين أنه لا يضمن إلا مع الإضرار، فإذا كان الطريق واسعا وربط فيه شيئا مضرا بالسوق أو مضرا بالمارة فعليه الضمان، والقاعدة أن الضمان مع التعدي، فإذا كان الطريق واسعا فربط به شيئا بحيث يكون متعديا كأن يكون الطريق مزدحما بالناس، أو أن يكون في الليل بحيث لا يتبين للمارة هذا الحبل وليس من العادة وضع مثله فيتلف به إنسان ونحوه فالضمان على الواضع.

قوله [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه، أو عقره خارج منزله]

الكلب العقور هو الجارح، فمن أذن لرجل أن يدخل بيته وكان في بيته كلبا عقورا فجرح هذا الداخل فعلى صاحب الكلب العقور الضمان، لأنه لما أذن له بالدخول وفيه هذا الكلب العقور يكون حينئذ قد تعدى، كذلك إذا أفلته فعقر خارج المنزل فكذلك لأنه يكون متعديا، بخلاف ما إذا كان محبوسا في موضع كأن يكن محبوسا في البيت فدخل عليه هذا الرجل فلا إذن من صاحب الدار فعقره فلا ضمان، لأنه بدخوله بغير إذن يكون متعديا.

قوله [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار]

ص: 72

الأصل فيما تتلفه البهائم أنه هدر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:(العجماء جبار)[خ 1499، م 1710] أي هدر، والعجماء هي البهيمة.

لكن إن أتلفت البهائم بالليل زرعا أو شجرا أو نحو ذلك كثياب ونحوها فحينئذ على مالكها الضمان، فهي وإن كانت جنايتها هدر لكن هنا تعد أو تفريط من مالكها، لأن الواجب على المالك حفظها بالليل، فإذا لم يحفظها بالليل فقد فرط، وما أفسدته بالنهار فلا ضمان ما لم يكن هناك تعد أو تفريط، كما سيأتي في بعض الصور، ودليل هذا ما رواه أبو داود والإمام مالك في موطئه والحاكم والبيهقي والحديث صحيح:(أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وأن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون على أهلها)[حم 23179، د 3570، جه 2332، ك 1467، كم 2 / 55، هق 8 / 341] وهو قضاء سلميان عليه الصلاة والسلام المحكي في كتاب الله تعالى في قوله {إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} .

وكذلك البئر جرحا جبار كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والبئر جبار)[خ 1499، م 1710] فالبئر هدر فإذا حفر بئرا في أرضه فوقه فيها إنسان فتلف فلا ضمان عليه، لكن إن حفرها متعديا بأن يحفر بموقع لا يؤذن له فيه، فحينئذ عليه الضمان لتعديه.

قوله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة]

أي إلا أن ترسل البهائم بقرب ما تتلفه عادة، فحينئذ يكون مالكها إما مفرطا أو متعديا، وعلى كلتا الحالتين يكون عليه الضمان لتعديه أو تفريطه، كأن يجعلها ترعى حول زروع الناس بحيث أنه لا يؤمن تعديها مع هذه الحال، فتعدت فيكون الضمان عليه.

قوله [وإن كانت بيد قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها]

ص: 73

إذا كان راكبا على ناقة مثلا فما أتلفت بفمها كأن تأكل زرعا أو ثمرا فعليه الضمان، لأنه مشرف عليها متمكن من منعها فإن لم يمنعها فقد فرط، وكذلك إذا أتلفت بيدها فعليه الضمان لأنه مفرط، لكن إن أتلفت برجليها فرفست أو فعلت شيئا فأتلفت فلا ضمان لأنه لم يتعبد ولم يفرط، والعجماء جرحها جبار، لكن إن علم منها إنها ترفس فقادها في مواضع الناس فعليه الضمان لأنه يكون متعديا.

قوله [وباقي جنايتها هدر]

لحديث: (العجماء جرحها جبار)

قوله [كقتل الصائل عليه]

أي الواثب عليه الذي يريد قتله أو أذيته في نفسه أو أهله أو ولده أو نحو ذلك، فإذا قتل الصائل عليه فلا ضمان عليه وذلك لما ثبت في مسلم:(أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)[م 140] فقتله مأذون له فيه شرها فهو غير مضمون، فمن دافع صائلا لينقذ نفسه ولم يمكنه دفعه إلى بقتله فقلته فلا ضمان عليه، أما إذا كان دفاعا عن غيره فالمشهور من المذهب أن عليه الضمان كأن يكون دفاعا عن زوجه أو ولده، واختار ابن عقيل أنه لا ضمان عليه، وهو الراجح، لأن المقصود هو صيانة النفس المحرمة، وهذا يثبت في نفسه وفي نفس غيره، فلا ضمان في الحالتين.

قوله [وكسر مزمار]

إذا أخذ نوعا من أنواع المزامير فكسره على صاحبه، وكذلك أنواع الأشرطة المحرمة فلا ضمان عليه.

قوله [وصليب]

فإذا كسر صليبا أو تصاوير.

قوله [وآنية ذهب وآنية خمر غير محترمة]

ص: 74

قوله (آنية خمر غير محترمة) أي ليست لذمي، لأنها مال للذمي، وتقدم أن الخمر وإن كان للذمي فإنه ليس بمضمون، فهذه الأشياء لا تضمن وذلك لأنها محرمة ولا يحل بيعها فليست بمال، ولكت للحاكم أن يعزر إن ثبت المفسدة لأن هذا افتيات على الحاكم، وأما الضمان لمالكها فلا، وذلك لأنها لا قيمة لها.

* مسألة:

قال الحنابلة: إن مال جداره بحيث أصبح عرضة للسقوط فلم يهدمه بل تركه وأبقاه فانهدم فسقط على شيء فأتلفه فلا ضمان عليه، لأنه لم يحصل بسبب فعله، والقول الثاني في المذهب أنه إن طالبه من يخشى وقوع الجدار على شيء من ماله إن طالبه وأشهد على المطالبة فلم يهدم فإنه عليه الضمان، وذلك لوقوع التفريط منه حيث طولب فلم يفعل، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة أنه يضمن مطلقا واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.

باب الشفعة

الشفعة: بضم الشين وتسكين الفاء من الشفع، وهو في اللغة: الضم، وسميت الشفعة شفعة؛ لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه المنفرد، وعرفها المؤلف بقوله:

قوله [استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد]

ص: 75

فعندما يشترط (1) اثنان في عقار من أرض أو بستان، فيريد أحدهما أن يبيعه فإن أولى من يشتري هذا النصيب هو الشريك فهو أحق به، مثال هذا: اشترك زيد وعمرو في بستان لكل واحد منهما نصفه، فباع زيد نصيبه على بكر بعشرة آلاف ريال، فلعمرو أن يأخذ نصيب زيد من بكر بهذا الثمن الذي تم عليه العقد، وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الشراكة يقع فيها الضرر كثيرا، ولذا فإن الشخص يحتاط فيمن يكون شريكا له، فقد يباع النصيب المشارك على من لا يصلح شريكا له ممن يتعدى أو يفرط، فكان أحث (2) بنصيب شريكه، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعن (3) الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) [خ 2214، م 1608] وفي مسلم: (الشفعة في كل شرك في أرض وربع - أي دار - وحائط، لا يصلح - وفي لفظ: لا يحل - أن يبيع نصيبه قبل أن يعرضه على شريكه)[م 1608] وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بصقبه)[خ 6977] أي بملاصقته، فهو لملاصقته أحق بملك جاره، فهذه أدلة تثبت الشفعة، وقد اتفق العلماء على القول بها.

(1) لعلها: يشترك.

(2)

لعلها: أحق.

(3)

لعلها: وقعت.

ص: 76

وقوله (بثمنه الذي استقر عليه العقد) أي إذا استقر العقد على عشرة آلاف، فهي له بعشرة آلاف وهكذا، ويتوجه كما ذكر شيخ الإسلام أنه إن حابى البائع المشتري محاباة غير معتادة فيتوجه ألا يأخذ الشفيع إلا بالقيمة، ففي المثال المتقدم: إذا كان بين زيد وبكر صداقة أو ثرابة (1) فحاباه بالبيع، فهذا النصيب قيمته عشرة آلاف فباعه له بخمسة آلاف فهنا محاباة غير معتادة، فلا يأخذه الشفيع بخمسة آلاف بل يأخذ بقيمته وهي عشرة آلاف لأنه إنما باعه بهذا الثمن نظرا للمشتري لما بينهما مما يستدعي المحاباة، وعليه فليسب (2) هي قيمته الحقيقية التي يرضى ببيعه، وعليه فإنه يقوّم ويباع بقيمته، بخلاف ما لو حابى المشتري البائع كأن تكون لا تساوي إلا عشرة آلاف فحابى المشتري البائع فأخذها منه بخمسة عشر ألفا، فيقال للشفيع: إن شئت فخذها بهذا الثمن الذي عرض عليه وهو خمسة عشر ألفا لئلا تفوت المصلحة على البائع.

قوله [فإن انتقل بغير عوض]

فإذا انتقل هذا النصيب بغير عوض كهبة أو صدقة كأن يتصدق بنصيبه أو يهبه فلا شفعة، قالوا: كما لو انتقل بالإرث فلا شفعة فكذلك هنا، لأنه انتقال بغير عوض.

قوله [أو كان عوضه صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة]

(1) لعلها: قرابة.

(2)

لعلها: فليست.

ص: 77

كذلك إذا كان عوض هذا الشقص غير مالي كأن يجعله صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد، كأن يثبت على رجل قصاص، فيقول: تنازل عن القصاص ولك نصيبي من هذا البستان، أو تقول المرأة لزوجها: طلقني ولك نصيبي من هذا البستان فهذا الخلع، أو أن يجعل الرجل نصيبه مهرا للمرأة، فهنا العوض ليس عوضا ماليا فلا تثبت الشفعة فيه، وذلك لأنه لا يمكن أخذه بعوضه إذ لا عوض له معروف، فالتنازل عن القصاص ليس له قيمة محددة وكذلك المهر والخلع، وقد جعل هذه الأشياء عوضا عن هذه التي لا تعرف قيمتها فلا يمكن حينئذ الأخذ به أي بالشفعة، فإذا حكمنا بالشفعة فلا نستطيع أن نقدر قيمة هذا الشقص في البستان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن حامد وأبي الخطاب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الشفعة تثبت في هذه المسائل، وذلك للحوق الضرر، فإن الضرر ثابت فيها كما هو ثابت في المسائل المتقدمة، فالشفعة هنا تدفع الضرر كما تدفعه لو كان هناك عوض مالي، ويمكننا الأخذ بالقيمة، فكون الخلع والصداق وغيرهما غير معروفة القيمة فإنه يمكننا أن نعرف قيمة هذا النصيب والشقص بتقويمه، فنقومه ويأخذه الشفيع بقيمته، وهذا القول هو القول الراجح، وأما القياس على الإرث فلا يصح لأنه قياس مع الفارق، والفارق هو أن النصيب انتقل في الإرث من المورث إلى وارقه انتقالا قهريا، بخلاف الهبة والصدقة ونحوهما، فإنه انتقل في هذه المسائل باختيار الواهب.

قوله [ويحرم التحيل لإسقاطها]

ص: 78

كأن يتحيل بهبتها إلى زوجته أو ولده ثم يجعل زوجته تبيعه له فلا يحل التحيل لإسقاطها، ولا يمضي، وذلك لحرمة التحيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)[أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسيره (سورة الأعراف، الآية رقم 163) 2 / 324، وقال:" وهذا إسناد جيد "، وحسن إسناده شيخ الإسلام في الفتاوى 29 / 29] والضرر ثابت مع الحيلة فهذه الحيلة لا تزيل الضرر، فوجب دفعه وذلك بتحريم الحيلة أولا، وبعدم إمضائها ثانيا.

قوله [وتثبت لشريك في الأرض تجب قسمتها]

ص: 79

فتثبت الشفعة لشريك في أرض، وهذا هو المشهور من المذهب وأن الشفعة لا تثبت في العقار، وأما المنقول كالحيوان والمركوبات كالسفن ونحوها فالشفعة لا تثبت فيها، واستدلوا بما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم:(قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) قالوا: فدل على أن الشفعة لا تثبت إلا فيما كان عقارا غير منقول من بستان وأرض وبناء ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل واختيار شيخ الإسلام وهو مذهب أهل الظاهر أنها تثبت فيه، فتثبت في المنقول كما تثبت في العقار، واستدلوا بما رواه الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الشفعة في كل شيء)[ت 1371، طب 11 / 123 برقم 11244، هق 6 / 109، شرح معاني الآثار 4 / 126، قال الحافظ في الفتح:" رجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته "] وفيه عنعنة ابن جريج لكن له شواهد، وصوب الترمذي إرساله عنده من حديث ابن عباس، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، قالوا: وهذا عموم أيضا، قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فهذا لا يعدو إلا أن يكون ذكر شيء من أفراد العام، وذكر شيء من أفراد العام لا يفيد التخصيص كما هو مقرر في علم الأصل، وهذا القول هو الراجح، ولأن المعنى الذي من أجله ثبتت الشفعة ثابت أيضا فيما سوى العقارات من المنقولات.

وقوله (تجب قسمتها) أي تجب قسمتها عند المطالبة، فما يمكن قسمته تجب قسمته عند مطالبة من له جزء بذلك، فالأرض مثلا يمكن قسمتها، وكذلك البستان ونحو ذلك، ومثال ما لا يمكن قسمته قسمة البئر، فإذا اشترك اثنان في بئر فلا يمكن أن نقسمه، وكذلك إذا اشتركا في دار صغيرة، فكذلك لا يمكن قسمتها فلا تثبت فيها الشفعة.

ص: 80

فما يمكن قسمته تثبت فيه الشفعة لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهذا إنما يكون فيما يقسم، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية أن الشفعة تثبت أيضا فيما لا يمكن قسمته، بل الشفعة تثبت فيه من باب أولى، وذلك لأن الضرر فيه أكثر، فإن المشاركة فيه مؤبدة أما ما يقسم فإنه متى شاء أحدهما طلب المقاسمة وزال الضرر عنه، وأما هنا فإن الضرر أعظم وأشد، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، وهذا عام فيما تمكن قسمته وما لا تمكن، وأوضح من هذا: الاستدلال بقول صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل شيء) ويندرج في هذا العموم ما لا تجب قسمته لعدم إمكان القسمة، وأما قوله:(فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) فالجواب عنه كالجواب عنه في المسألة السابقة، وأنه ذكر فرد من أفراد العموم لا يقيد (1) التخصيص.

قوله [ويتبعها الغراس والبناء لا الثمرة والزرع]

إذا باع نصيبه من الأرض فإن للشفيع أن يشتريها وهو أولى من غيره بذلك، ويتبع الأرض ما فيها من بناء وغرس، وذلك لأن البناء والغرس يتبع الأصل كما تقدم في باب الأصول والثمار، بخلاف الزرع والثمر فإنه لا يتبع الأصل، فإذا باع أرضا وفيها زرع أو ثمر فإن البيع لا يفع (2) على الثمر ولا على الزرع إلا أن يشترطه المبتاع كما تقدم في باب الأصول والثمار.

قوله [فلا شفعة لجار]

(1) لعلها: لا يفيد.

(2)

الصواب: لا يقع.

ص: 81

فالجار ليسب (1) له شفعة، وإنما الشفعة للشريك، فلو أن رجلا بجانبه أرض، فأراد صاحبها أن يبيعها فليس هو - أي الجار - أحق بالشراء بخلاف الشريك، وهذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:(فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) والجار وقعت الحدود بينه وبين جاره، وصرفت الطرق فحينئذ لا شفعة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقال الأحناف بل له الشفعة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(الجار أحق بصقبه) أي أحق بسبب ملاصقته وقربه، وفي المسند والترمذي وغيرهما من حديث آخر أن ذلك في الشفعة [حم 13841، ت 1369، د 3518، جه 2494] وعن الإمام أحمد وهو اختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيرهم من أهل العلم أن المسألة فيها تفصيل: فالجار أحق بالشفعة إن كان بينهما حق مشترك كأن يكون الطريق مشتركة بينهما أو يكون البئر مشتركا بينهما أو نحو ذلك، فحينئذ الجار أحق بالشفعة، وأما إن لم يكن بينهما طريق مشترك ولا حق آخر من الحقوق المشتركة فحينئذ الجارة (2) أسوة غيره، وهذا القول هو الراجح، وهو الذي تجتمع به الأدلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهنا ليس الأمر كذلك، فإن ثمت طريق مشترك أو حق مشترك، وقد نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والأربعة بإسناد صحيح أنه قال:(الجار أحق بشفعة جارة (3) ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا) [سبق تخريجه قريبا] فدل هذا الحديث على أن الجار أحق بشفعة جاره إذا كان الطريق مشتركا أو نحو الطريق مما يكون فيه اشتراك بينهما من بئر ونحوه.

(1) ليست.

(2)

لعلها: الجار.

(3)

لعلها: جاره.

ص: 82

قوله [وهي على الفور وقت علمه، فإن لم يطلبها إذاً بلا عذر بطلت]

هنا بين المؤلف أن الشفعة على الفور وأنه متى علم ببيع شريكه حصته ولم يطالب بالشفعة فلا حق له بعد ذلك في الشفعة، واستدلوا بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الشفعة كحل العقال) أي أنها تذهب عن صاحبها كما يذهب البعير الشرود إذا حل عقاله، والحديث فيه من يتهم (1) بالكذب، فالحديث إسناده ضعيف جدا، وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وعليه فإذا لم يعلم بالبيع فله المطالبة ولو بعد سنوات، وكذلك إذا علم لكن كان له عذر من مرض أو غيبة وليس له من يوكله وليس هناك من يشهده على المطالبة بالشفعة أو علم بالليل فأخر ذلك إلى النهار فإنه له الحق بالمطالبة بها، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد بل له المطالبة بها على التراخي وذلك لأنه حق له فلا يسقط إلا بإسقاطه، فلو علم ولا عذر له بالتراخي لكنه تراخى ثم طالب بها فله الحق فيها، قالوا: لعموم الحديث الوارد في الشفعة، فإنه ليس فيه أنها لا بد أن تكون على الفور، بل عموم الحديث يدل على أنها تثبت له ما لم يدل دليل على إسقاطها أو الرضا بالشريك الجديد، ثم إن هذا الذي له حق الشفعة يحتاج إلى زمن ليستبين وليتأمل وينظر في أمره، فاشتراطنا لثبوتها أن تكون على الفور تفويت لحقه لأنه يحتاج إلى تأن وتريث ونظر واستشارة واستخارة، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وعليه فيحدد له زمن يحصل به مقصوده عرفا، فلا يكون الزمن مفتوحا ولا إلى سنة كما قال بعضهم ولا إلى ثلاثة أيام كما قال البعض الآخر بل يكون ذلك راجع إلى العرف، وهذا يختلف باختلاف السلع وباختلاف المشترين وحذقهم في معرفة السلع.

قوله [وإن قال المشتري بعني أو صالحني]

(1) لعلها: متهم.

ص: 83

إذا باع أحد الشريكين نصيبه، فقال الشريك الآخر للمشتري بعني هذا النصيب أو قال: صالحني على هذا النصيب أو أجرنيه فلا شفعة له، إذن تسقط الشفعة لأن هذا يدل على الرضا بهذا البيع.

قوله [أو كذب العدل]

إذا أخبره العدل الثقة الذي يجب قبول خبره أن شريكه قد باع حصته فلم يصدق خبره فحينئذ تسقط شفعته، فلو طالب بها بعد ذلك على التراخي فلا تثبت له لأنه تراخي بلا عذر، وهذا على القول بثبوت الشفعة على الفور، وعلى القول الراجح إذا أخبره الثقة بالخبر ولم يقبل ومضت مدة يحصل بمثلها ما يحتاج إليه من النظر والتروي والاستشارة ثم أتي بعد ذلك ليطالب بها فلا يقبل، وذلك لأنه قد علم بها من طريق هذا العدل وتكذيبه له تفريط منه، بخلاف ما إذا أخبره الفاسق لأنه لا يقبل خبره لكن إن صدقه فحينئذ كما لو أخبره بذلك الثقة لحصول عمله بهذا البيع.

قوله [أو طلب أخذ البعض سقطت]

إن قال هذا الشريك للمشتري: أنا لي الشفعة لكني لا أريد أن آخذ النصيب كله بل أريد أن آخذ بعضه، كأن تكون الأرض المتشارك بها مساحتها ألف متر، فباع أحدهما نصيبه وهو خمسمائة متر، فقال الشفيع للشريك الآخر أريد من المشتري مائتين وخمسين مترا، فلا شفعة له، وذلك لما في تبعيض المبيع من الإضرار بالمشتري، فإن المشتري إنما اشتراها على أنها خمسمائة متر، فإذا شفع الشريك بالنصف فقد فوت على المشتري مقصوده، إذن يشترط أن يأخذ المبيع كله شفعة،فإن أراد البعض فلا، وذلك لما فيه من تفويت المقصود على المشتري بتبعيض المبيع عليه.

قوله [والشفعة لاثنين بقدر حقيهما]

ص: 84

إذا كان بين ثلاثة اشتراك في بستان لكل واحد منهم الثلث فباع أحدهم نصيبه، فالشفعة حق للاثنين، وكل واد منهما له المطالبة بنصف المبيع شفعة، فإن كان هؤلاء الثلاثة أحدهم له النصف، والثاني والثالث لكل واحد منهما الربع فباع الثاني نصيبه فإن الشفعة تثبت للشريكين بقدر ملكيهما، وذلك لأن الشفعة حاصلة بسب الملك فكانت للشفعاء بقدر أملاكهم.

فمثلا: كان هناك بستان يملك زيد نصفه، ويملك عمرو ربعه، ويملك بكر ربعه، فباع بكر نصيبه وهو الربع، فالباقي يكون ثلثاه لزيد وثلثه لعمرو، فلهما الحق بالشفعة بقدر أملاكهما.

قوله [إن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك]

إذا قال أحدهما أن (1) قد تنازلت عن نصيبي من الشفعة فحينئذ إن شاء الآخر أن يأخذ الكل أو أن يترك، ففي المثال المتقدم: إذا تنازل عمرو وله الربع، إذا تنازل عن الشفعة فحينئذ إن شاء زيد فله الشفعة، ولكن ليس لزيد أن يأخذ بعضها بل إما أن يأخذ النصيب كله وإما أن يبقيها للمشتري كلها، وذلك لما تقدم، فإن تبعيض المبيع على المشتري فيه إضرار بالمشتري وهذا ممنوع منه.

قوله [وإن اشترى اثنان حق واحد.... فللشفيع أخذ أحدهما]

في المثال المتقدم، لما أراد بك (2) أن يبيع نصيبه من هذا البستان وهو الربع اشتراه منه اثنان، هل للشفيع أن يأخذ من أحدهما نصيبه ويترك الآخر أم لا؟

الجواب: له ذلك، فلشفيع أخذ نصيب أحدهما، وذلك لأن تعدد المشترين تعدد في العقود، فهو بمنزلة عقدين، ولا ضرر حينئذ على المشتري لأن المشتري الذي نبقي له نصيبه لا يتضرر بذلك فنصيبه كامل مبقى له.

قوله [أو عكسه]

أي أن يشتري واحد حق اثنين، إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في أرض لكل واحد منهم الثلث، فباع زيد وعمرو نصيبهما لرجل واحد، فهل لبكر أن يأخذ من هذا المشتري نصيب أحدهما دون نصيب الآخر؟

(1) لعلها: أنا.

(2)

لعلها: بكر.

ص: 85

قال المؤلف: له ذلك، قالوا: لأن تعدد البائع كتعدد المشتري، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب المنع من ذلك وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن المشتري لما كان واحدا فإذا قلنا بجواز الشفعة بأحد النصيبين اللذين اشتراهما ففيه تبعيض المبيع، وهذا يخالف مقصوده ففيه إضرار بالمشتري، وهذا القول هو الراجح، وأنه يقال له: إما أن تأخذ النصيبين جميعا وإما أن تتركهما جيمعا، وذلك لأن في أخذ أحدهما دون الآخر تفويتا لمقصود المشتري.

قوله [أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة]

مثاله: لزيد وعمرو بستانان فباع زيد شقصيه أو حصتيه من البستانين لبكر، فالمشتري واحد، والشقصان متعددان، فهل لعمرو وهو الذي له حق الشفعة، هل له أن يأخذ أحد الشقصين شفعة ويترك الشقص الآخر أم لا؟

القول الأول: يجوز له ذلك كما ذكر المؤلف، والقول الثاني: أنه لا يجوز ذلك لما فيه من تبعيض الصفقة على المشتري وفي ذلك إضرار به، وهذا القول أظهر كما تقدم، لكن لا يتبين أن هذا على الإطلاق بل متى تبين لنا أنه لا ضرر ظاهر عليه في ذلك فلا يمنع من الشفعة.

قوله [وإن باع شقصا وسيفا...... فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن]

مثاله: رجل يشترك هو وآخر في أرض لكل واد (1) منهما خمسمائة متر، فباع نصيبه من الأرض وهو خمسمائة متر ومعها سيارة أو دابة ونحو ذلك، فهل تثبت الشفعة أم لا؟

قال المؤلف: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن،، وكذلك إذا باع حثته (2) من الأرض ومعها سيف بألف درهم، وحصة الشقص من الألف ثمانمائة درهم، وحصة السيف مائتا درهم، فهل للشفيع أن يأخذ الأرض بحصتها من الثمن دون السيف؟

(1) لعلها: واحد.

(2)

لعلها: حصته.

ص: 86

الجواب: له ذلك، وذلك لأن الشفعة ثابتة في الشقص منفردا فبقيت مع غيره، والأصل بقاؤها، وكونه يضاف إليها مبيع آخر لا يعني هذا انتفاء الشفعة، فالأصل هو بقاؤها، ولا ضرر على المشتري في هذا التبعيض لأنهما سلعتان مختلفتان، وهذا هو قول الحنابلة، وهذا هو تعليلهم، وهو تعليل ظاهر.

قوله [أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن]

مثاله: اشترك زيد وبكر في بستان لكل واحد منهما النصف، فاشترى عمرو من بكر نصيبه، ثم تلف بعضه بآفة سماوية أو أتلفه أحد أو نحو ذلك، فهل للشفيع وهو زيد أن يأخذ ما لم يتلف من هذا النصيب بحصته من الثمن؟

قال المؤلف هنا: له ذلك، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال ابن حامد من الحنابلة: إذا كانت الآفة السماوية فإن الشفعة تسقط وذلك لما في إثباتها من الإضرار بالمشتري، فإنه يتضرر لأن التلف حينئذ يكون عليه، إلا أن يشاء أن يأخذهما بالثمن الذي وقع عليه العقد، فيكون قد اشترها هذا الرجل بألف درهم وحصلت لها آفة سماوية، فإن شاء أن يأخذها بألف درهم وإلا فلا شفعة بخلاف ما إذا كان المتلف آدميا فإنه يرجع إلى الآدمي بقيمة ما أتلفه، وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة.

قوله [ولا شفعة بشركة وقف]

إذا كانت هناك دار نصفها وقف ونصفها طلق - أي ليس بوقف - فأراد صاحب الطلق أن يبيعه فهل لصاحب الوقف أو المنتفع به الشفعة أم لا؟

ص: 87

قالوا: ليس له الشفعة، فالموقوف عليه ليس له أن يأخذ الباقي سواء كان للوقف أو له، قالوا: لأن ملكه ملك ناقص، والذي تصرف له مصالح الوقف ملكه ملك غير تام، وعليه فلا شفعة، والقول الثاني في المسألة وهو قول بعض الحنابلة واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أن له الحق في الشفعة، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأدلة لم تفرق بين الملك التام والملك الناقص، بل هنا ضرر هذا أعظم، لأن هذا الموقوف عليه لا يمكنه بيع الوقف حتى يخرج من ضرر هذا الشريك، بخلاف الآخر فإنه إذا تضرر فيمكن له أن يبيع، ومع ذلك أثبتنا له الشفعة، فأولى من ذلك هنا.

قوله [ولا غير ملك سابق]

إذا اشترى اثنان دارا من رجل، فليس لأحدهما الشفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما شعلى (1) الآخر، فمثلا: اشترى زيد وعمرو دارا من رجل، فلا تثبت الشفعة لأحدهما في نصيب الآخر، فلا نقول: لك أن تملك المبيع كله شفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح لا مرجح، فلا بد أن يكون هناك ملك سابق.

قوله [ولا لكافر على مسلم]

فلا تثبت الشفعة لكافر على مسلم، فلو أن رجلا له دار ويشاركه ذمي في هذه الدار فباع المسلم نصيبه لمسلم آخر فهل تثبت الشفعة للذمي؟

قالوا: لا تثبت وهو المشهور من المذهب، وقال الجمهور: تثبت الشفعة للذميين، وذلك لعمومات الأدلة، وأما الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم وذكر أنه ليس أحد من السلف يقول بالشفعة لهم، وذلك لأن ثبوتها للمسلم لا يلزم منه ثبوتها للذمي، وذلك لأن مراعاة حق المسلم أولى وأعظم، فلا يلحق به غيره، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم:(وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)[م 2167] فكيف يؤخذ من المشتري المسلم لمراعاة حق هذا الذمي، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم.

فصل

(1) لعلها: على.

ص: 88

قوله [وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة]

ص: 89