المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كتاب القضاء القضاء في اللغة: الفصل والحكم وفي الاصطلاح الفقهي:تبيين الحكم الشرعي - شرح زاد المستقنع - حمد الحمد - جـ ٣٠

[حمد الحمد]

فهرس الكتاب

كتاب القضاء

القضاء في اللغة: الفصل والحكم

وفي الاصطلاح الفقهي:تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات.

"تبيين الحكم الشرعي "،وبهذا يتفق القاضي مع المفتى في تبين الحكم الشرعي، وإن كان المفتى أوسع دائرة منه في تبيين الحكم الشرعي وذلك لان القاضي إنما يبين الحكم الشرعي في المسائل المتنازع فيها.

وأما المفتى فانه يبينها في المسائل المتنازع فيها وفي غيرها.

وفي قولنا: والإلزام به " يفترق بهذ القيد المفتي عن القاضي فإن المفتي لا يلزم بالحكم الشرعي وأما القاضي فإنه يلزم به".

قال:] وهو فرض كفاية [

فالقضاء فرض كفاية، لأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا به.

-وهل متعين على أحد ان يتولى القضاء؟

لا يتعين ذلك إلا ألا يكون هناك من يقوم به سواه، فان لم يكن في الإقليم أو في المنطقة أو في البلدة من يقوم بالقضاء وقد توفرت فيه شروطه، سوى هذا العالم فواجب عليه أن يقوم به فهو فرض عين عليه.

إذن: القضاء في الأصل فرض كفاية لكن قد يتعين

فإن كان غير متعين عليه فهل يسن أن يتولى القضاء ام لا؟

قولان لاهل العلم هما روايتان عن الامام أحمد:

القول الأول: أنه لا يتعين.

واستدلوا: بما روى الاربعة أن النبى صلي الله عليه وسلم قال (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال

واستدلوا:بما روى الخمسة – أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثه: اثنان في النار وواحد في الجنه: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به جاز في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".

واستدلوا بحديث ضعيف في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتي على القاضي العادل ساعة يود انه لم يقض بين الناس في تمرة "

والقول الثاني: أنه سنة.

ص: 1

يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتولى القضاء، وأن خلفاءه الراشدين كانوا يتولونه ، وكذلك كان خيار الناس وفضلاؤهم في القرون المفضله كانوا يتولون القضاء وهذا هو القول الراجح في المسألة وأنه مستحب وأما الدليلان اللذان استدل بهما أهل القول الأول فليس فيهما أنه ليس سنة، وإنما فيهما ما يحيط القاضي من المخاوف في قضائه فانه يخشى عليه الرغبة أو الرهبة او المجاملة أو المحاباة..

وأما أن يكون من تأهل للقضاء لا يستحب له ذلك مع أمنه على نفسه من هذه المخاوف فلا

إذن: أرجح القولين أنه سنه.

قال شيخ الإسلام:"" والواجب في ولاية القضاء اتخاذها ديناً وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال فيها "" هـ

فهو إذن من افضل القربات لما فيه من فصل النزاع بين الناس وإقامه العدل بينهم.

قال:] يلزم الإمام ان ينصب في كل إقليم قاضيا [

ففرض قيام الإمام أن ينصب في كل إقليم من الأقاليم الاسلامية قاضيا يقضى بين الناس.

قال:] ويختار أفضل من يجده علماً وورعاً [

يختار الإمام أفضل من يجده علماً وورعاً، لأنه – أي الإمام ناظر للمسلمين – والواجب على الناظر ان يختار الأصلح.

قال:] ويأمره بتقوى – وان يتحرى العدل ويجتهد في إقامته [

قال شيخ الإسلام " من عمل بما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه "

إذا تحرى العدل واجتهد في الوصول إليه فإنه معذور عند الله فيما عجز عنه.

ولذا قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين -: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر "

وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بنحو ما أسمع "

قال:] فيقول: وليتك الحكم، أو قلدتك ونحوه [

فيقول – أي الإمام الأعظم ومن ينوب عنه كما يكون هذا في رئيس القضاة ونحوه- فيقول لمن يريد أن يوليه القضاء: وليتك الحكم او قلدتك ونحوه من الألفاظ التى تدل على تولية القضاء فكل قول يدل عليه فإانه يعمل به.

ص: 2

قال:] ويكاتبه في البعد [.

فإذا كان بعيداً فإنه يكاتبه بذلك أي يكتب إليه ورقة فيها توليته القضاء، وهذا كالوكالة فكما تجوز بالكتابة فكذلك القضاء.

-ثم شرع المؤلف في بيان ما يستفاد من ولاية القضاء أي الأعمال التى يقوم بها القاضي ز

وما يذكره المؤلف مبنى على ما جرت به العادة عندهم

قال:] وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، واخذ الحق لبعضهم من بعض، والنظر في أقوال غير الراشدين [.

أي النظر في أقوال السفهاء والصبيان.

قال:] والحجر على من يستوجبه لسفه او فلس [

فمن استوجب الحجر عليه لفلس أو سفه فإنه يتولى ذلك القاضى

قال:] والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها [

أي النظر في أوقاف الإقليم الذي هو فيه.

قال:] وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولى لها [

كما تقدم في الحديث: " فان اشجروا فالسلطان ولى من لا ولى له "

قال:] وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الاذى عن الطرقات وأفنيتها [

والغناء ما يسع امام الدار.

قال:] ونحوه [

من أخد الخراج وجني الزكاة.

-هكذا يستفاد من الولاية في عصر المؤلف – وليس لذلك حد شرعي كما قال ذلك شيخ الاسلام بل مرجع ذلك إلى الألفاظ والعرف.

ونحن في عرفنا لا يتسع كل ما ذكره المؤلف – للقضاة بل منه ما يكون لهم ومنه ما لا يكون لهم.

إذن: يستفاد من ولاية القضاء عندهم – ما ذكره المؤلف هنا إلا أن يستثنى شيء من ذلك، كأن ينصب عامل لجنى الزكاة أو أن ينصب رجل لإقامة العيد والجمعة؟

ومرجع ما يستفاد من الولاية الى الألفاظ والعرف.

قال:] ويجوز ان يولى عموم النظر في عموم العمل، ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما [.

الحاله الاولى: ان يولى المولي "وهو الإمام الأعظم أو من ينوب عنه "يولى عموم النظر في عموم العمل "

أي أن يوليه عموم النظر في المسائل المتنازع فيها وما يتصل فيها من المسائل التى تقدم ذكرها، في عموم العمل.

ص: 3

فيقول: قد وليتك سائر الأحكام في سائر البلدان وهذه أعلاها.

الحال الثاني: "ان يوليه خاصاً فيهما، أي يوليه نظراً خاصاً في عمل خاص "أي اقليم خاص "

فيقول – مثلاً -: أنت ولى أمر النكاح في الاقليم الفلاني فهنا ولايه النكاح نظر خاص، والإقليم الفلاني عمل خاص.

الحال الثالث: ان يكون النظر عاماً والإقليم خاصاً

كان يقول له: "وليتك سائر الأحكام في الاقليم الفلاني وهذا هو الكثير، فقوله سائر الأحكام: عموم في النظر.

وقوله " في الاقليم الفلاني " خصوص في العمل.

الحال الرابع: ان يكون النظر خاصاً والعمل عاماً

كان يقول: وليتك أمور الأسلحة في سائر البلدان.

إذن المراد بقوله: عموم النظر " أي عموم النظر في الأحكام والمراد بالعمل هنا أي الأقاليم.

قال] ويشترط في القاضي عشر صفات [

هنا شرع في الشروط التى تشترط في القاضي

قال] كونه بالغاً عاقلاً [

أي مكلفاً لأن غير المكلف تحت ولاية غيره فلا يصح أن يكون والياً. وهذا بالاتفاق.

قال] ذكراً [

لان الانثى لا تصح ان تتولى ولاية في الإسلام، لقول النبى صلي الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " راوه البخارى.

وقال أبو حنيفه: يجوز ذلك في باب الأموال ونحوها أي دون الحدود لصحة شهادتها.

وهذا نظر يخالف النص فلا عبرة به.

فالصحيح ان المرأه لا تصح ان تتولى القضاء لا في الأموال ولا في الحدود.

قال:] حرا ً [

قالوا: لأن العبد مشغول بخدمة سيده

-واختار ابن عقيل وابو الخطاب من الحنابلة: انه يصح وهذا اظهر لأن ما ذكروه لا يقوى على المنع.

قال (مسلماً عدلاً)

"عدلا" لقوله تعالى "ولا ينال عهدي الظالمين " وهذا بالاتفاق. فالعداله شرط في القاضى.

وعند العدم – أي عندما يعدم العدل.

فكما قال شيخ الإسلام ابن تميمه: يولى الأنفع من الفاسقين واقلهما شراً. فيولى الأمثل فالأمثل وذكر ان ذلك ظاهر كلام احمد وغيره.

ص: 4

فالشروط تعتبر حسب الامكان،فإن لم يوجد عدل فإنه يولى من الفساق أعدلهم وأنفعهم.

"مسلماً" وهذا شرط ظاهر جداً، ولا خلاف فيه بين اهل العلم.

قال] سميعاً [

لأنه إن لم يكن سميعاً فإنه لا يسمع كلام المتخاصمين.

قال:] بصيراً [

لأن الأعمى لا يعرف المدعى من المدعى عليه

قال] متكلماً [

لأن الأخرس لا ينطق بالحكم، ولأن إشارته قد لا تعلم.

-والراجح في هذه الشروط الثلاثة إنها شروط كمال وليست شروط صحة.

أما السميع والبصير فقال صاحب الإنصاف:"وقيل لا يشترطان.

واما الأخرس فهو قول في مذهب الشافعي – أن الأخرس يجوز كونه قاضياً.

-وهذا ظاهر وذلك لان غير السميع يمكن أن تكتب له القضيه فيقضى فيها.

وغير البصير يمكن أن ينصب ثقات عنده يبينون له الناس فيعرفونه بالمدعي من المدعى عليه.

والأخرس الذي لا يتكلم يمكنه أن يكتب، أو يكون عنده من يعرف إشارته.

قال] مجتهداً [

وحكى ابن جزم الاجماع على ذلك.

وذهب أبو حنيفه: إلى انه لا يشترط.

فإما ان يقال: إن ابا حنيفه خالف الاجماع، وإما أن يقال إن ابن حزم ذكر الاجماع على سبيل الخطأ مع وجود المخالف.

ويقوى أن يكون الاجماع هو الثابت وان يكون خلاف أبي حنيفة بعد الإجماع..

وذلك لظهور الأدلة على اشتراط ذلك قال تعالى:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله "وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر القاضي الذي هو أحمد ثلاثة قضاة – قال: "ورجل عرف الحق فقضى به" فيشترط أن يكون مجتهداً.

-واما أبو حنيفة فلم يشترط ذلك وقال: لأن المقصود من ذلك فصل النزاع، وهذا قول باطل لأنه ليس المقصود فصل النزاع فحسب بل المقصود فصل النزاع بالحق بالكتاب والسنة.

قال:] ولو في مذهبة [.

وهذه إشارة إلى خلاف.

فيشترط أن يكون مجتهداً ولو في المذهب ن بأن يحكم بالمقدم من المذهب قالوا: ولو اعتقد أن الحق خلافه ".

ص: 5

وهذا كما قال الشيخ السعدي:" هذا في غاية الضعف وهو مبني على قول ضعيف جداً وهو وجوب الإلتزام بمذهب من المذاهب الأربعة، والأخذ بالمقدم عند أئمة المذاهب.قال: وهذا قول لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع بل الأدلة تدل على بطلانه ".

وهذا ما يقرره شيخ الإسلام. والأدلة المتقدمة تدل على بطلانه.

-فإن ألزم السلطان بالقضاء في مذهب من المذاهب فما الحكم؟

قال شيخ الإسلام " فهذا شرط باطل لأنه يخالف كتاب الله عز وجل "10.هـ

وأما توليته للقضاء فتكون صحيحة.

-ولكن إن اشترط السلطان ذلك فهل يتولى من هو أهل للاجتهاد ام لا؟

قال شيخ الإسلام: "لكن إن لم يمكنه إلا أن يقضى به "أي لإلزام السلطان فإنه ينبغى له ان يقضى بذلك المذهب وذلك تقديماً الأدنى المفسدتين، وخروجاً من أعلاهما.

فإذا تولى وهو من أهل الاجتهاد والعدالة والدين كان ذلك دفعاً أن يتولى القضاء من ليس من ذلك.

قال] وإذا حكمّ اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها [.

في مذهب أكثر الفقهاء

فإذا حكم اثنان بينهما رجلاً، وهذا الرجل يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه سواء كان رضاهما قبل معرفته بالحكم أو بعد معرفتهما له. وأيضا يلزم قاضى البلد بهذا الحكم - هذا هو مذهب أكثر الفقهاء.

وذلك لأنهما تعاقدا على الرضا بحكمه وهو من أهل القضاء وقد قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ".

وفي سنن أبي داوود – في قصه ابى شريح – انه كان يكنى ابا الحكم فسأله النبى صلى الله فقال:" ان قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ما احسن هذا "

اذن قد تراضا فلزمهما ذلك /لان الله عز وجل يقول (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)

فقد تعاقدا على الرضا فلزمهما ذلك وهو حكم مبنى على شرع فكان على القاضي ان يلزم به.

ص: 6

وهو في المشهور في المذهب: في المال والحدود واللعان وغيرها لكنه لا ينفذ لان التنفيذ الى الامام، واذا نفذ كان في ذلك افتيات على السلطان.

-وقال القاضي من الحنابله: بل هو في المال خاصه

والصحيح ما ذهب اليه الحنابله وذلك لان العلة ثابته في الحدود واللعان كما هي ثابته في المال فقد تعاقدا على الرضا وهو من أهل القضاء فوجب عليهما ان يلتزما بحكم فهو مخبر عن الله عز وجل وعن دينه.

(باب: آداب القاضي)

يعنى: أخلاقه

فآداب القاضي هي أخلاقه

قال المؤلف رحمه الله:] ينبغى [

لفظة ينبغى عند الفقهاء بمعنى يستحب.

قال] ان يكون قوياً – من غير عنف [

لئلا يطمع فيه الظالم

قال:] لينا من غير ضعف [

لئلا يهابه صاحب الحق.

فإذا اجتمع فيه هذا الوصف لم يهبه صاحب الحق فيدلى بحجته ويوضح بينته،ولا يطمع فيه الظالم بل يهاب ان يتكلم بين يديه بغير حق.

قال:] حليما [

لئلا يغضب على خصم فيحكم بغير الحق.

قال:] ذا أناه [

أي ذا تؤدة وعدم تسرع – فليس متسرعاً مستعجلاً في قضائه بل هو ذو تؤدة.

قال:] وفطنه [

أي صاحب فطنه لئلا يرى المحق مبطلاً، والمبطل محقاً بسبب عدم الفطنه، ولئلا يخدع ويحتال عليه.

قال:] وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً [

ليكن مجلسه في وسط البلد ليمضى اليه كل اهل البلد على التساوي.

وان كان في قرى يكون في وسطها أي في القريه المتوسطه "فسيحاً" لان ذلك اشرح لصدره، وله اثر في حسن نظره وحسن تصوره.

قال:] ومعدل بين الخصمين [

هنا: ويجب ان يعدل – كما قال الشراح.

قال:] في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما [.

فيجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه: أي في نظره / فينظر اليهما نظرة واحدة لا يحسن النظر الى أحدهما ويسئ النظر الى الآخر، بل ينظر إليهما نظراً واحداً.

"وفي لفظه: أي في إجابته السلام وفي السؤال ونحو ذلك، فيكون عادلاً في الفاظه التى يوجهها أو يجيب الخصوم بها.

ص: 7

"ومجلسه " فيكونان في مجلس متساو فلا يضع الشريف في مجلس وغير الشريف في مجلس دونه.

ولا يقدم أحدهما إلى المجلس الأدنى اليه، ويجعل الآخر في المجلس الأبعد منه، بل يكونان على درجة واحدة في المجلس.

"ودخولهما " بأن يدخلا مرة واحدة، أو أن يقدم أحدهما الآخر بالدخول.

أما أن يقدم القاضى أحدهما بالدخول فلا.

إذن: العدل بينهما في هذه الأمور الأربع: في لحظه ولفظه وفي مجلسه وفي دخولهما.

قالوا: ويستثنى من ذلك، ما إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً، فإن المسلم يقدم في المجلس.

وقيل:- كما في الانصاف – بل يجب عليه أن يجعلهما في درجة واحدة في مجلسهما وغير ذلك.

والعلة في هذه المسائل الأربع: أنه إذا لم يعدل في هذه الأمور الأربع كان ذلك سبباً لانكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته.

وهذه العلة يشترك فيها الناس لا فرق بين ما إذا كان الخصوم مسلمين او كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فالمعنى واحد، فإنه إيجاب إيصال الحق الى صاحبه يستوى فيه المسلم والكافر والله اعلم

قال:] وينبغى ان يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، ويشاورهم فيما يشكل عليه [.

فينبغى ان يجمع فقهاء المذاهب الذين في بلده فيكون في المجلس فقيه حنفى وفقيه مالكي وفقيه شافعي وفقيه ظاهرى، فإذا أشكل عليه شئ عرض ذلك عليهم واستشارهم – هذا هو المشهور في المذاهب.

-وفي ذلك نظر، وذلك لما يترتب على ذلك من إفشاء السر، فانه قد تكون بعض القضايا فيها سر للناس فحضور هؤلاء،لا شك أنه يؤدى إلى إفشاء الأسرار.

وثانيا: قد يضعف صاحب الحق من الإدلاء بحجته، فتصبح وكأنها خطبة، فعندما يقف بين يدي فقهاء من المذاهب الاربعة هذا يجعله في هيبة عظيمة، فقد لا يظهر حجته.

والعلة التى يذكرونها هي أنه قد يشكل عليه بعض الشىء فيستشيرهم.

وهذا يمكنه أن يفعله بأن يؤخر الحكم في القضيه حتى يراجع كتب أهل العلم، وحتى يستشير أهل العلم المعاصرين.

ص: 8

اذن: الراحج خلاف المذهب.

قال:] ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً [.

والغضب الكثير: هو الغضب الذي يشغل الفكر، ويؤدى في الغالب الى عدم تصور المسألة، وعدم تطبيقها على الأدلة الشرعية.

أما إذا كان الغضب يسيراً فلا يمنع من القضاء.

ومن ثم فإن النبى صلى الله عليه وسلم قضى على الأنصاري – كما في الصحيح وقد قال: إن كان ابن عمتك "فقضى النبى صلى الله عليه وسلم.

وأما الغضب الكثير الذي يشغل الفكر فانه يحرم معه القضاء لقول النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه.

قال:] أو حاقن أو حاقب أو في شدة جوع أو عطش أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج [.

فكل هذه الامور قياسها على المسألة التى ورد النص فيها ظاهر، لأنها تشغل الفكر.

قال:] وان خالف فأصاب الحق نفذ [.

فإذا خالف القاضي ذلك فقضى وهو غضبان أو قضى وهو في عطش أو جوع أو ملل أو نحو ذلك فما الحكم؟

إذا أصاب الحق فإن حكمه ينفذ وذلك لأن الشارع إنما منع من قضائه وهو غضبان خوفاً من أن لا يصب الحق وهنا قد أصاب الحق فما خشى فواته قد حصل وعليه فلا داعي للقول بالبطلان.

وأما إذا لم يصب الحق فإنه لا ينفذ حكمه لأن الشارع قد نهى عن القضاء حينئذ وحصل ما يخشى منه من عدم إصابة الحق فوجب عليه أن يعيد النظر في القضية.

قال:] ويحرم قبول رشوة [

للعن النبى صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى. وتقدم الكلام على الرشوة.

قال:] وكذا هدية [

فلا يحل للقاضي أن يقبل الهدية، لما ثبت في مسند احمد بإسناد صحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال:" هدايا العمال غلوك " والغلول محرم.

قال:] إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته ان لم تكن له حكومه [

فيستثنى من عدم جواز قبول الهديه – فإذا كان يهاديه قبل ولايته، ثم أهدى اليه بعد الولايه، فإنه يقبل الهديه لعدم التهمه إذا لم تكن له حكومة عند القاضي.

ص: 9

أما إذا كانت له حكومه عند القاضي، فإن القاضي لا يقبل هذه الهدية وإن كان في الاصل يقبل هداياه.

اذن: لا يحل له أن يقبل الهدية إلا أن تكون ممن يهاديه قبل ولايته بشرط ألا تكون له حكومة.

-والذي يظهر: أنه إذا كان لا يهاديه قبل ولايته لكن مثله ممن يهادي، وقد طرأ ذلك فالذي ينبغى القول به قبول الهدية.

فلو أنه اتخذ صديقا وكانت الصداقه طارئة أي بعد ولاية القضاء فلا يتبين أن هناك مانعاً من قبول القاضي لهديته إلا أن تكون له حكومة أو كان له – مثلا – ابن عم وكان قبل ولايته للقضاء صغير السن ثم كبر سنه ثم اهدي اليه هديه فلا ينبغى القول بالمنع حينئذ، لعدم التهمه.

فظاهر قول المؤلف أنه لا يقبل إلا ممن كان يهاديه قبل الولاية.

والذي يظهر: أن من كان مثله فكذلك وإن لم يكن قد اهدي له قبل ذلك لكن طرأ السبب الذي يهدي به كأن تطرأ صداقه أو تطرأ قرابة. كأن يصاهر مثلاً بعد تولية القضاء فيهدي اليه صهره فلا يظهر أنه يمنع من ذلك لأن السبب لم يكن موجوداً قبل ذلك.

وهل للقاضي ان يبيع ويشترى؟

المشهور في المذهب: ان له ذلك لكنه يكره، ألا أن يضع وكيلاً لا يعرف به، أي لا يعرف ان هذا وكيل القاضي.

والصحيح: انه لا باس ببيعه وشرائه ولا دليل على الكراهية لكن ليس له ان يقبل المحاباه بمعنى: اذا بيع له الشىء بأقل من سعره المعتاد او اشترى منه الشىء بأكثر من سعره المعتاد فلا يحل له ان يقبل هذه المحاباه وذلك لانها كالهدية.

إلا إذا كانت – هذه المحاباه – ممن كان يهاديه قبل ولايته القضاء – ولم يكن في ذلك تهمه.

قال:] ويستحب آلا يحكم إلا بحضرة الشهود [

فيستحب الا يحكم القاضي الا بحضرة الشهود أي الشهود الذين ثبت الحكم بشهادتهم.

فإذا شهد اثنان على أن فلاناً قتل فلاناً عمداً فانه لا يقضي بالقتل إلا بحضرة الشهود – استحبابا –

وذلك لأنه قد يفوته بعض الشىء في شهادتهم فينبهه هؤلاء الشهود على ما قد فاته.

ص: 10

وكذلك: قد يتراجع بعضهم عن الشهادة حيث كانت شهادة زور، فإذا رأى أن الحكم يثبت وأن القاضي يصدع الآن بالحكم فإنه قد يتراجع عن هذه الشهادة

وهذا من باب الاستحباب لان شهادتهم قد أدوها قبل ذلك وضبطت عند القاضى.

قال:] ولا ينفذ حكمه لنفسه [

بلا نزاع

قال:] ولا لمن لا تقبل شهادته له [

كذلك لا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له كأبيه او أخيه.

قالوا: قياسا على الشهادة لأن الحكم يتضمن الشهادة، فإن القاضي يقول " أشهد أن الحكم في المسألة كذا " فلما كان الحكم متضمناً للشهاده لم ينفذ حكمه في نفسه ولا فيمن تقبل شهادته له ولا فيمن لا تقبل شهادته عليه كالعدو، وإن كان حكمه ظاهر القبول حيث حكم لعدوه وذلك لزوال التهمة، لكن لو حكم عليه فإنه لا يقبل.

إذن: لا ينفذ حكمه لنفسه بلا نزاع.

ولا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له – وهو مذهب الجمهور.

وعن الامام احمد وهو قول ابى بكر عبد العزيز من الحنابلة: أن حكمه يقبل، فإذا قضى في مسألة بين أبيه وبين أجنبيي، فقضى لابيه على الخصم فإن الحكم ينفذ ويقبل.

وفي هذا القول قوة، لأن الأصل في القاضي البعد عن التهمة.

وكونه شاهداً ليس ككونه قاضاً، فان كونه قاضاً هو بمنزلة النائب عن الامام الذي يقرر شرع الله ويلزم به الناس فهو في محل ينبغى ألا يتهم فيه وإن حكم لأبيه وإن حكم لأخيه بل وإن حكم لنفسه، لكن الحكم للنفس لا شك انه أبعد من الحكم للغير.

ومع ذلك فالاحوط الا يقضى لنفسه ولا يقضى لمن لا تقبل شهادته له.

لكن لو رضى الخصم، فقال: أنا أرضى بقضائك وان كنت أنت خصمى " او وإن كان أبوك خصمي، لعلمي انك لا تقضى إلا بالحق فحينئذ لا إشكال في صحه القضاء ونفوذه – وذلك لأن الحق له فأسقطه.

اذن المشهور عند الفقهاء آن حكم القاضي لنفسه لا ينفذ وأن حكمه لمن لا تقبل شهادته له كذلك لا ينفذ.

أما حكمه على نفسه او على من لا تقبل شهادته له فهذا ظاهر القبول.

ص: 11

لكن هل يتصور ذلك ام أنا نمنع من أصل إقامة القضيه على ذلك، ونقول – ما دام أن الخصم هو القاضي او من لا تقبل شهادتهم له – فمن الأصل لا يكون القضاء.

-والذي يتوجه في مثل هذه المسائل صحة حكم القاضى لانه في منصب ينبغى ألا يكون متهماً فيه.

قال:] ومن ادعى على غير برزة لم تحضر [

البرزة هي المرأة التى تبرز لقضاء حوائجها.

وغير البرزة – هي المرأة المخدرة التى لا تخرج لقضاء حوائجها.

فإذا ادعى على غير برزة لم تحضر للعذر، ولأن حياءها يمنعها من القيام بالحجة.

قال:] وأمرت بالتوكيل [.

فتؤمر بأن توكل لحفظ حق الخصم، لانه قد يكون الحق مع المدعى، فلا بد وأن توكل.

قال:] وان لزمها يمين أرسل من يحلفها [

فإذا لزمها يمين فإنه لا يمكن للوكيل أن يحلف عنها لأن اليمين لا نيابه فيها، وحينئذ فيرسل القاضى من يحلفها.

قال:] وكذا المريض [

أي المصاب بمرض يشق عليه معه الحضور عند القاضى.

وحينئذ فان القاضي يأمره بالتوكيل، وإن احتاج الى اليمين فإن القاضي يرسل إليه من يأخذ يمينه وهو في الموضع الذي يتمرض فيه.

مسألة.

إذا عزل القاضى فهل ينعزل قبل علمه أم لا؟

بمعنى: إذا قضى وحكم في مسائل قبل ان يعلم بالعزل فهل ينفذ هذه الاحكام ام لا؟

قولان في المسألة:

أصحهما وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه أنه لا ينعزل قبل العلم وذلك لأن ولايته حق لله تعالى وحقوق الله تعالى لا يثبت الفسخ فيها إلا بعد العلم أي بعد علم المكلف.

-بل هل ينعزل القاضى بالعزل؟ وهل ينعزل بموت المولّى؟

قولان لأهل العلم:

-والصحيح في مذهب أحمد: أنه لا ينعزل

وهذا مبنى على: هل القاضى نائب عن الإمام او نائب عن المسلمين.

فإذا قلنا: هو نائب عن الإمام فانه ينعزل بعزل الإمام، وإذا مات الإمام انعزل أيضا.

وإذا قلنا: هو نائب عن المسلمين أي قائم بحق الله تعالى فإنه لا ينعزل بعزله ولو عزله الإمام – وهذا هو المشهور في المذهب

ص: 12

-وعلى القول بأنه ينعزل، هل ينعزل قبل العلم أو لا؟

قولان: أصحهما أنه لا ينعزل قبل العلم كما تقدم واختار هذا شيخ الإسلام، ويختار أيضاً انه لا ينعزل وذلك لأن الولاية حق الله تعالى.

وهذا فيما يظهر أقوى. والله اعلم

والحمد لله رب العالمين

باب: طريق الحكم وصفته

أي كيف يقضى القاضى بين الناس، فهذا الفصل في صفة القضاء.

قال رحمه الله:] إذا حضر اليه خصمان قال: أيكما المدعي [

ويجوز غير ذلك من الألفاظ فليس هذا لفظا تعبدياً، وانما يقول هذا اللفظ او ما يدل عليه.

-وليس له ان يقول: يا فلان ما تقول؟ وذلك لانه يخصص أحدهما بالسؤال وليس من العدل

قال:] فإن سكت حتى يبدأ جاز [

فإذا سكت القاضى ولم يقل: "أيكما المدعى " بل سكت حتى يبدأ المدعي جاز ذلك.

قال:] فمن سبق بالدعوى قدمه [

فمن سبق بالدعوى من الخصمين قدمه، فإذا كان كل واحد فيهما مدع على الآخر فسبق أحدهما بالدعوى فانه يقدمه وذلك لسبقه فهو قد سبق فكان أولى من الآخر.

وإن لم يتكلم أحدهما – وكل منهما مدع – فإنه يقرع بينهما.

إذن: إذا كان أحدهما مدع والآخر مدعى عليه، فإن القاضي يقول: أيكما المدعي فيتكلم حينئذ المدعي أو يسكت القاضي حتى يتكلم المدعي.

وأما إن كان كل واحد فيهما مدع فانه يقرع بينهما فإن سبق أحدهما بالكلام قبل الآخر فإنه يسمع لدعواه لسبقه.

-وظاهر كلام المؤلف أن كل دعوى تسمع، ولو كان المدعى عليه من أهل المروءة والشرف

وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم.

فلو أن رجلاً من فقراء الناس ادعى على رجل من أشراف الناس دعوى فإن دعواه تسمع ويطالب القاضي بهذا الشريف فيحضر وان شاء وكل، وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم، اذ من الممكن أن يكون الأمر صدقاً.

-فإن قيل: قد يكون في ذلك أذى لأصحاب الشرف فلا يستطيع أحد ان يؤذيهم بذلك إلا آذاهم

ص: 13

فالجواب: أن هذا وإن كان ضرراً متوقعاً لكن حفظ حقوق الناس ودفع الظلم عنهم اعظم من ذلك فترجح هذه المصلحه ويمكنه – أي صاحب الشرف – ان يوكل من يخاصم عنه.

إلا ان تكون الدعوى ظاهرة الكذب، كأن يأتى إنسان مشهور بالفقر

ويقول: قد اقترض منى هذا الغنى- " وهو صاحب مال كثير - كذا من المال مما يبعد في العادة ان يقترض مثله فهنا قد يقال – لا سيما اذا ظهر فيه الكذب – قد يقال إنه لا تسمع الدعوى – حينئذ –

لكن مع ذلك القول بالعموم فيه قوة، من باب ترجيح حفظ حقوق الناس.

قال:] فإذا أقر له حكم له عليه [

إذا قال المدعى: ادعى على هذا أنه اقترض منى عشرة آلاف ريال، فقال المدعى عليه: أقر بذلك واعترف فإنه يحكم عليه بذلك وهذا ظاهر جداً.

قال:] وإذا أنكر [

أي قال: ليس عندي لفلان شيء أو فلان لا يستحق على شيئاً.

قال:] قال للمدعى: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت [

فيقول للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت – ولا يجب عليه إحضار البينة بل يحضرها إن شاء.

البينه: سيأتي الكلام عليها.

قال:] فإن احضرها سمعها وحكم بها [

فإذا أحضر المدعي البينه فان القاضي يسمعها، ولا يعنت الشهود بالأسئلة، وذلك لأن تعنيت الشهود بالاسئلة ذريعة إلى كتمان الشهادة وعدم القيام بها

إلا إذا ارتاب بالشهود فله أن يسأل ما يظهر به الحق من الباطل.

فإذا قال: يشهد فلان وفلان، واتى بهم أنى أقرضت فلاناً عشرة آلاف ريال، فحينئذ يحكم بها.

قال:] ولا يحكم بعلمه [

فلا يحكم القاضى بعلمه –لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين وهذا هو مذهب الجمهور، لقول النبي صلىالله عليه وسلم:" وإنما أقضي على نحو ما اسمع متفق عليه ". ولم يقل على نحو ما اعلم "

فلو أن القاضي رأى رجلاً يسرق أو يقتل أو رأى فلاناً وهو يقرض فلاناً، فليس له أن يحكم بذلك أي بعلمه، للحديث المتقدم.

ص: 14

ولأن هذا ذريعة إلى اتهام القاضي، فيقال قد قضى بالجور ولم يقض ببينة.

ولأن هذا ذريعة إلى باب شر عظيم، فقد يسلك هذا قضاة الجور فيحكمون بعلمهم.

والقول الثاني: وهو قول في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد: أنه يحكم بعلمه،

قالوا: لأن علمه بالشهود مقبول أي علمه بثقه الشهود أو تجريحهم مقبول – فكذلك هنا.

وهذا قياس مع الفارق، وذلك لأن حكمه بعلمه، حكم على وجه المباشرة، وأما حكمه بثقة الشهود أو تجريحهم فليس حكماً على المباشرة وإنما حكم بالشهود لكنه يعدل الشهود فليس هذا كهذا، فالأول حكم على المباشرة أي يحكم بعلمه مباشرة، وأما هنا فهو بواسطة الشهود وهو يعلم أن هؤلاء الشهود ثقات فقضى بقبول شهادتهم.

(3)

وقال أبو حنيفه: يقضى بعلمه في حقوق الآدميين دون حقوق الله،لأن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة وأما حقوق الآدميين فمبنية على المشاحة.

-والصحيح هو القول الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي على نحو ما اسمع)

لكن هنا ثلاث مسائل تستثنى، فيجوز للقاضى أن يحكم فيها بعلمه:

المسألة الأولى: وقد تقدمت وهي أن حكمه بعلمه بتوثيق الشهود أو تجريحهم مقبول.

فإذا آتاه الشاهدان فقال:لا أقبل شهادتكما لعلمي بجرحكما فانه يقبل.

إن قبل الشهود ولم يطلب من يزكيهم لعلمه بهم ومعرفته لهم فإن هذا مقبول اتفاقاً.

المسألة الثانية: في أصح القولين وهو المشهور في المذهب:-

أنه يحكم بعلمه فيما يكون في مجلس القضاء.

فمثلاً: ادعى زيد على عمرو في مجلس القضاء – عشرة آلاف ريال، فقال عمرو: اقر بذلك ولا أنكره، ثم بعد ذلك أنكر عمرو، فإن القاضي يحكم بالإقرار بناءً على إقرار الرجل في مجلسه، ولا تحتاج إلى شهود ليشهدوا على الإقرار.

المسألة الثالثة: إذا كان الأمر مستفيضاً مشهوراً عند الناس يعلمه الخاص والعام فإن للقاضى – أن يحكم بعلمه – وذلك لزوال ما يخشى من الإتهام.

ص: 15

فإذا كان الناس – مثلا – يعلمون أن هذا الموضع تبع للمسجد يعلمه كل أهل السوق، وربما عامة أهل البلد يعلمون ذلك، فادعى شخص أنه له، فإن القاضي يحكم أن الأرض للمسجد بناءً على ما اشتهر واستفاض عند الناس وحينئذ لا يكون محلاً للاتهام

فإن قيل:إذا رأى القاضي رجلاً يقتل، فماذا يفعل؟

الجواب: يشهد عند قاضى آخر أنه قتل.

وكذلك إذا علم أن فلاناً قد أقرض فلاناً،فإنه يشهد عند قاضى آخر بذلك.

قال:] وإن قال المدعى:مالى بينة [

ونحو ذلك من الألفاظ، كأن يقول: لا أعلم لى بينة أو كانت لى بينة فنسيتها ونحو ذلك.

قال:] أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه [

فإذا ادعى رجل أن له على فلان عشرة آلاف – فقلنا هل لك بينه فقال: مالى بينة، فيقول له القاضي: لك اليمين على خصمك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بينة فقال النبى صلى الله عليه وسلم:- فلك يمينه – فقال يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يتورع عن شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك إلا ذلك ".

وتكون اليمين على صفة جوابه، فإذا قال المدعي قد أقرضت هذا الرجل عشرة آلاف فقال المدعى عليه: ما عندي له شئ، فيكون يمينه بأن يقول:" والله ما عندي له شئ ".

فلا يلزمه القاضي أن يقول – مثلاً –:" والله ما أقرضنى شيئاً "

بل يلزمه بالحلف على اللفظ الذي تلفظ به حال الإنكار لانه قد يكون أقرضه سابقاً ثم رده عليه.

اذن تكون يمينه على صفة جواب المدعى عليه.

فلو قال: أقرضته عشره آلاف – فقال: ما أقرضني إلا خمسه آلاف فتكون يمينه: والله ما أقرضني إلا خمسه آلاف "

قال:] فان سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله [

فإذا سأل المدعي احلاف المدعى عليه وقال: أريد يمينه

فإن القاضي يحلفه ويخلى سبيله.

فيقول له القاضي: احلف،فيقول والله ما عندي له شئ.

فإن القاضي يخلى سبيله، وبذلك تنتهى القضية.

قال:] ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعى [

ص: 16

إذا قال المدعي: إني أقرضت فلاناً عشرة آلاف، فقال المدعى عليه منكراً -:" والله ما أقرضني "فإن هذه اليمين لا تلغى بل لا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي وذلك لأن اليمين حق له – أي حق للمدعي – فلا تستوفى الا بطلبه.

-لكن هل المراد طلبه اللفظي ام طلبه العرفي؟

ظاهر كلام المؤلف: ان المراد بذلك طلبه اللفظي

لكن كذلك طلبه العرفي فإذا كانت العادة ان القاضي هو الذي يسال، وأن هذا ما أتى إلا ليثبت حقه فحينئذ: بمجرد ما يقول: ادعى على فلان بكذا، فيقول المدعى عليه: أنكر ذلك فيقول له القاضى: احلف فيحلف، فإن هذه اليمين يعتد بها لجريان عادة القضاة بذلك.

قال:] وان نكل [

فالقضيه مثلاً في قرض عشره آلاف

فإذا قال المدعي: قد أقرضته عشره آلاف، فقال المدعى عليه: لا لم يقرضنى شيئاً، فيقول القاضى للمدعي: هل لك بينه.

فإذا قال، لا، فانه يقول للآخر: احلف،أو يقول للمدعي: نحلف صاحبك فان قال: حلفوه، فيقول له احلف، فان حلف فذاك وتبرأ ذمته وإن قال: لا احلف فيكون حيئنذ قد نكل.

قال:] قضى عليه [

فإذا نكل فانه يقضى عليه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم

:"البينه على المدعي واليمين على من أنكر "

فحصر – عليه الصلاة والسلام – البينه على المدعي، وحصر اليمين على من أنكر.

وقد حكم بالنكول عثمان على ابن عمر كما في موطأ مالك باسناد صحيح.

ويدل عليه الحديث المتقدم: "ليس لك يمينه " ففيه أنه ليس له إلا اليمين، لكن إن نكل فكما تقدم في اثر عثمان.

(1)

إذن: اذا نكل المدعى عليه فإنه يقضى عليه، ولا ترد اليمين الى المدعي وهذا هو المشهور في المذهب.

(2)

وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد: بل ترد اليمين الى المدعي.

واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم:"رد اليمين على صاحب الحق " لكن الحديث إسناده ضعيف.

ص: 17

(3)

واختار شيخ الإسلام: التفصيل في هذه المسألة فقال: إذا كان العلم في هذه القضيه في جانب المدعي وحده فإن اليمين ترد عليه وأما إذا لم يكن كذلك فلا ترد اليه اليمين.

مثال ذلك، قال رجل لورثة ميت: قد اقترض منى والدكم عشره آلاف – وهو ميت – فهذه العشرة آلاف مستحقه في التركه، فقلنا للورثه احلفوا على عدم علمكم فقالوا لا نحلف على هذا فامتنعوا من ذلك تورعاً وإلا فيجوز لهم ذلك فما الحكم؟

قال شيخ الإسلام: ترد اليمين على المدعي، فإن حلف استحق ما ادعاه.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: ترد اليمين على المدعي متى ما رأى القاضي ذلك خصوصاً إذا كان المدعي منفرداً بالعلم وهذا قول قوى. حفاظاً على الحق، لانه في كثير من الأحوال المدعى عليه لا يحلف حينئذ فيترتب على ذلك أضاعه الحق، فإذا حلفنا المدعي كان في ذلك حفظا للحقوق.

إذن: أصبحت الأقوال أربعة:

القول الأول: وهو المشهور في المذهب: إنها لا ترد الى المدعي مطلقا.

القول الثاني: وهو قول في المذهب: أنها ترد مطلقاً الى المدعي.

القول الثالث: انها ترد اذا رأى القاضي ذلك.

القول الرابع: انها ترد اذا كان المدعي منفرداً بالعلم.

-والذي يظهر – ولا يتبين أن شيخ الاسلام يخالف هذا – ان متى ما كانت هناك قرائن عند القاضي تقوى أن يحلف المدعي فإن له ذلك.

فأحيانا يأتي للقاضى رجل معروف بالصدق، وهناك شخص يدعي عليه أنه اقترض منه عشره آلاف، فيقول القاضي للمدعى عليه أتقر بذلك فيقول: لا بل أنكره، فيقول القاضى: احلف، فيقول لا احلف، لعله اقترض منى ولكنى نسيت، فأنا لا احب أن احلف، فإن شئت أن تقبل إنكاري وإلا فليأخذ من مالىما شاء – وعلم القاضي صدقه فانه يحلف المدعي.

قال:] فيقول: إن حلفت وإلا قضيت عليك [.

فإذا نكل فإنه يقضي عليه مباشرة فيقول: إما أن تحلف وإما أن نقضى عليك من غير حبس.

ص: 18

خلافاً لما ذهب اليه بعض أهل العلم من الحبس ولا دليل عليه.

قال:] فإن لم يحلف قضى عليه [.

فان لم يحلف – أي المدعى عليه – قضى عليه.

قال:] فان حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق [.

لما ادعى زيد على عمرو أنه اقرضه عشرة آلاف، فقال القاضي: هل تقر بذلك يا عمرو قال: لا ليس عندي له شئ، فقال له: احلف على ذلك فحلف فإنه بذلك تنتهى القضية على هذا.

ثم من الغد أحضر المدعي بينه فكيف نعمل؟ فقد كنا حكمنا بالأمس أن ذمة المدعى عليه بريئة وقد حلف على ذلك لكن المدعى الآن احضر بينة فإنه يحكم بها.

وظاهر كلام المؤلف سواء كان المدعي قال: لا علم لي بالبينه أو قال " كانت لى بينه فنسيتها " فقلنا للآخر احلف فحلف فحينئذ انتهت القضية، فإذا أتانا من الغد ومعه شاهدان فإننا نقبل لأن إيتانه بالشهود في هذا اليوم لا يناقض قوله بالأمس وهذا هو المشهور في المذهب.

والصورة الثانية: أن يكون المدعي قد قال: " ليس لي بينة " ثم من الغد أو بعد زمن يأتي بالشهود، فإن إتيانه بالشهود اليوم يناقض قوله " ليس لى بينه " فحينئذ لا تقبل.

هذا هو المشهور في المذهب: فإنها – أي البينة – إنما تقبل منه حيث كان قوله لا يناقضها كأن يقول: " لا أعلم لى بينة أو كأن لى بينه فنسيتها " ونحو ذلك.

اما إذا قال: " ليس لي بينة " ونحو ذلك فلا تقبل منه البينة بعد ذلك.

لكن قول المؤلف هنا على خلاف هذا فظاهر العموم أي سواء كان قوله: " لا اعلم لى بينة او كانت لى بينه فنسيتها " وكان قوله "ليس لي بينه " فإنه تقبل منه البينة لأنه قال قبل ذلك:" ان قال المدعي: مالى بينه " إلى أن قال إن حلف المنكر ثم احضر المدعي بينته حكم بها ".

فظاهر كلام المؤلف خلاف المشهور في المذهب وهو أحد القولين في المسأله وهو قول في المذهب وهو القول الراجح في المسألة.

ص: 19

لان قوله بالامس:" لا بينة لي " هذا بناءً على ما يعتقد به لكنه قد تذكر بعد ذلك أو أتاه بعض الشهود فأخبروه فالصحيح انه يحكم له بالبينة سواء كان قال:" لا اعلم لي بينة " أو قال:" ما لى بينة ".

أما إذا قال " لا أعلم لي بينة" فهذا هو المشهور في المذهب.

واما إذا قال:" لا بينة لى " فالمشهور في المذهب خلاف ذلك لكن الصحيح خلاف المذهب.

وذلك لأن اليمين ليست مزيلة للحق لأن اليمين إنما ترفع النزاع لكنها لا تزيل الحق.

فصل

قال رحمه الله:] ولا تصح الدعوى الا محررة معلومه المدعى به إلا ما نصححه مجهولاً كالوصيه [.

لا تصح الدعوى ولا ينظر اليها القاضي ولا يلتفت إليها إلا أن تكون محررة، أي موضحة مبينه.

فإذا ادعى أن له على فلان طعاما فإنه يقول: لى عليه مائه صاع من الأرز الجيد، فيذكر الجنس ويذكر النوع ويذكر الوصف ويذكر القدر.

فان لم تكن موضحة كأن يقول: ادعى عليه طعاماً فإنها لا تسمع حتى يحررها وحتى يبينها ويوضحها، وذلك لأن القاضي لا يمكنه أن يلزم المدعى عليه بالمدعى به وهو مجهول.

فلا بد وأن تكون محررة موضحة– إلا ما استثنى مما نصححه مجهولاً كالوصية.

فلو أن رجلاً أوصى لزيد بشيء فتقدم ان هذا الشيء المجهول تصح الوصية به، وعليه فيسمع القاضى الدعوى به، فلو قال رجل: ادعي على ورثة فلان أن مورثهم قد اوصى لي بشيء، فإن الدعوى تسمع لأن القاضي يحكم بشيء ويكون له في الوصية أي شئ ولو كان شيئاً يسيراً.

قال:] وعبد من عبيده مهراً ونحوه [.

فلو أمهرها عبداً من عبيده فقد تقدم أنه يصح. فكذلك إذا ادعت المرأة على زوجها فقالت،قد أمهرني عبداً من عبيده فحينئذ يسمع القاضى هذه الدعوى وذلك لأن هذه الجهالة لا تضر، فإذا أقر الزوج بذلك فيقضي القاضي بأن لها عبدا من عبيده.

ص: 20

(ونحوه) أي سواء كان مهراً او غيره مما يصح فيه هذه الجهالة كالخلع كأن تخالعه على عبد من عبيدها او ارض من أراضيها فإن الخلع يصح على مثل هذا ويمكن فإن الدعوى يسمع وينظر اليها.

إذن: هذه المسألة في الدعوى التى تسمع من القاضي، لا بد أن تكون محررة معلومة المدعى به وذلك لأن القاضي يلزم بذلك ولا يمكن أن يلزمه بشيء مجهول.

والقول الثاني في المسألة: أن الدعوى تسمع، والقاضى يستفصل – وهذا أظهر لأنه إذا استفصل فإنه حينئذ – لا يلزم بمجهول.

ويدل على ذلك: حديث الحضرمي والكندي في صحيح مسلم وفيه أن الحضرمي قال: يا رسول الله: " إنه قد أخذ منى أرضا كانت لأبي: فقال الكندي: هي بيدي وأنا ازرعها "

فهنا قد قال: قد أخذ منى أرضاً كانت لأبي، ومع ذلك فإن النبى صلي الله عليه وسلم قد سمع هذه الدعوى.

فالأظهر أن الدعوى تسمع لكن يستفصل إلا إذا علم القاضى أنها ليست محررة عنده، كأن يكون عند القاضي من يستفصل في الدعاوي قبل عرضها على القاضى ويكون القاضي قد علم أن هذا المدعي ليس له شيى محرر فانه حينئذ لا يمكنه ان يقضي إلا أن يقال: إنه إذا اقر بها المدعى عليه فإنها تستفصل منه أي من المدعى عليه، فإذا كانت معلومة عند المدعى او المدعي عليه فلا وجه لعدم سماعها.

-كذلك لا تسمع الدعوى – (1) في المشهور من المذهب – إن كانت على دين مؤجل لاثباته.

فإذا جاء رجل فقال:أريد أن أثبت على فلان ديناً لي عليه موجلاً الى سنة – ولم يحل الدين – فإن الدعوى لا تسمع لإثباته حتى يحل.

(2)

والقول الثاني في المذهب: أن الدعوى تسمع لاثباته وهذا هو الصحيح. وذلك لأنه يخشى موت الشهود أو نسيانهم فيحتاج أن يثبت الدين الذي له وإن كان الدين موجلاً فهو لا يطالب باعطائه قبل حلوله لكنه يطالب باثباته واثبات الدين حق له.

إذن: الصحيح أنها تسمع ما دامت لاثبات مؤجل.

ص: 21

قال:] وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه [.

فاذا قال – مثلاً – ادعى ان فلانة زوجة لي – وشروط النكاح متوفرة الشرط الأول كذا والشرط الثاني كذا والشرط الثالث كذا فإن كانت المرأة ممن يشترط رضاها فإنه يذكر ذلك.

فلو قال: ادعى آن فلانة زوجة لي ولم يذكر الشروط فإن هذه الدعوى لا تقبل ولا تسمع حتى يذكر الشروط.

والقول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك وأبى حنيفة: أن الدعوى تسمع، ولا يشترط فيها ذكر شروط النكاح، وذلك لأن النكاح نوع – ملك – فكما لو ادعى عبداً فكذلك هنا.

والأظهر في الاستدلال أن يقال: الأصل صحة النكاح فلا يحتاج الى ذكر شروطه.

وأما المشهور في المذهب من أن ذكر الشروط لا بد منه، فتعليلهم أن الشروط في النكاح مختلف فيها، فقد لا يكون هذا النكاح صحيحاً عند القاضى.

-والصحيح أن ذكر الشروط عند القاضى لا يشترط لأن الأصل في الانكحة الصحة.

-وإذا قال: ادعى أن فلاناً قد باع عليّ أرضه، وهؤلاء هم الشهود، فيقال له: اذكر شروط البيع وذلك للعلة المتقدمة.

-والقول الثاني في المذهب أن ذلك ليس بشرط وذلك لأن الاصل صحة البيع، وهذا هو الصحيح وأنه ليس لا بد من ذكر شروط البيع ولا غيره من العقود كالإجارة ونحوها وعلى ذلك فالصحيح في هذه المسائل كلها أن ذكر الشروط لا يحتاج اليه.

-ويقوى – بناءاً على التعليل المتقدم من أن الأصل في العقود الصحه – يقوى أن القاضى إذا ارتاب في أن هذا البيع لا يصح فإنه يسأل كما تقدم في مسأله الشهود.

قال:] وان ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها [.

فإذا ادعت المرأه أن فلانا زوج لها، فسئلت لماذا ادعت ذلك؟ فقالت: أريد النفقة أو أريد مهرى أو نحوهما.

كأن تقول: أريد السكنى فهل تسمع دعواها؟

قال المؤلف:" سمعت دعواها " لان لها حقاً

ص: 22

فهذه الدعوى إذا سمعت وثبتت، بينت لها ما يترتب على النكاح من الحقوق التى تسألها من نفقة أو سكنى أو مهر.

قال:] فإن لم تدع سوى النكاح ولم تقبل [.

فإذا قالت: أنا لا أدعي إلا النكاح، فلا أدعي النكاح من اجل نفقة أو من أجل مهر أو من أجل سكنى، لكنى أدعي النكاح المجرد لم تقبل دعواها قالوا: لأن الحق في النكاح للزوج فلم تسمع دعواها في حق غيرها.

-والقول الثاني في المذهب: إن دعواها تسمع وهذا الصحيح وذلك لأن ثبوت هذه الدعوى سبب لحقوق لها ثم إن المرأة لها حق في النكاح ويترتب على هذه الدعوى حقوق لها من قسم ونفقة وسكنى ونحو ذلك وإن لم تذكرها في الدعوى لكن هذه حقوق لها ثبتت بالنكاح.

ثم إن المرأة قد تدعى هذا النكاح وهي لا تريد نفقة ولا سكنى ولا مهراً لكن تريد أن تثبت هذا النكاح ثم تطالب بالطلاق لتحل نفسها للأزواج فلا تكون معلقة بهذا النكاح الذي تعتقده.

قال: "] وإن ادعى الإرث ذكر سببه [.

فإذا ادعى الإرث فقال: أنا وارث من فلان، فلا بد من ذكر سببه لأن اسباب الإرث تختلف، ويختلف الإرث بها.

لأن الإرث لا يثبت إلا بسببه من نكاح أو نسب أو ولاء.

وأما سائر الدعاوي فلا تحتاج الى ذكر سبب لكثره الأسباب

فإذا قال: لي على فلان ألف ريال فلا يشترط عليه أن يذكر سبب ذلك.

فلا نقول: هل هي قرض أم بيع أم غير ذلك. بل تسمع دعواه.

وان لم يذكر السبب.

قال:] وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً [.

فالشهود يشترط أن يكونوا عدولاً في الظاهر وفي الباطن.

في الظاهر: بمعنى ألا تظهر عليهم ريبة فيكون الصلاح فيهم هو الظاهر.

"في الباطن": هي أن يعلم من حاله – في باطن أمره – أنه عدل، فإن الإنسان قد يكون في ظاهره حسن لكنه في باطنه سيئ،يعلم ذلك من له خبره بحاله.

ص: 23

ويدل على ذلك: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح:" أن رجلاً شهد عند عمر رضى الله عنه، فقال له عمر:"إني لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك " فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين " فقال له: بأى شئ تعرفه فقال: بالعدالة، فقال هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ "فقال لا.

فقال: عاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا.

فقال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال لا.

فقال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك)) .

فهذه هي العدالة الباطنة، يعلمها الجار الأدنى، ويعلمها الصاحب ويعلمها الذي يعامل الناس ببيعهم وشرائهم وغير ذلك من معاملاتهم بهذا نعرف العدالة الباطنة، وليس المراد شق القلوب فإن ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل.

-والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أنه يكتفى بالعدالة الظاهرة، لأن الأصل في المسلمين العدالة.

-والصحيح هو الأول، للأثر المتقدم، ولأن الأصل في المسلمين ليس العدالة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

لقوله تعالى ((وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً))

فالإنسان مركب على الظلم والجهل، فليس صحيحاً أن الأصل في المسلمين العدالة.

فالصحيح هو القول الأول. ويدل عليه قوله تعالى ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فلم يقل: واشهدوا اثنين منكم " يدل على أنه لا يكتفى بالإسلام بل لا بد أن يكون من أهل العدالة.

-واختار شيخ الإسلام ابن تيميه: انه يكتفى بما يرضاه الناس، بمعنى: أن يكون الرجل أميناً ليس معروفاً بالكذب فمن رضيه الناس فإن شهادته تصح، لقوله تعالى ((ممن ترضون من الشهداء)) .

ص: 24

وقال: الآية المتقدمه ((واشهدوا ذوى عدل منكم)) هي في التحمل، فالإنسان لا يحمّل الشهادة إلا ذوي العدالة لأن من لم يكن كذلك يخشى ألا يحمل العدالة،لكن إن حملها وأداها فإنها تقبل منه لأن الله قال ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فالشهادة تحمل ذوى العدالة لكن إذا أداها من ليس بعدك لكنه مرضى عند الناس فإن الشهادة تقبل.

-وهذا القول هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، وذلك لأن الناس تقل فيهم العدالة جدا – أي العدالة الظاهرة والباطنة فهذا يسب الناس وهذا يغتابهم وهذا يتكلم بالنميمة وغير ذلك فيقل في الناس العداله فلا يسع الناس إلا ما ذكره شيخ الإسلام فمن كان مرضيا عند الناس يعلم أنه يحمل الشهادة وأنه يصدق فيها وإن كان ممن يقترف بعض الكبائر ويصر على بعض الصغائر فإنه متى علم أنه يؤدى الشهادة أداء صحيحا وأنه مرضي فإن شهادته تقبل. وهذا موضع ضرورة ولا يسع الناس إلا هذا.

قال:] ومن جهلت عدالته سأل عنه [.

فإذا جهلت العدالة، فلا يدري القاضى هل هذان الشاهدان عدلان أم لا فإنه يسال أهل الخبرة الباطنة بهم.

قال:] وإن علم عدالته عمل بها [.

فاذا علم القاضي أن هذا عدل فإنه يعمل بذلك اتفاقا، كما تقدم في مسألة سابقة في الدرس السابق.

قال:] وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به [.

فإذا قال الخصم: هؤلاء الشهود ليسوا بعدول لا تصح شهادتهم.

فالحكم أن يكلف البينة به. فيقال له: أحضر من يشهد على هذا أي من يشهد على أنهما ليسا بعدلين وأنهما فاسقان ويشترط في هذا الجرح ان يكون مفسراً.

فلو أتى بشاهدين فشهدا على أن هذين الشاهدين فاسقان فلا يقبل ذلك حتى يبينا سبب الفسق، فيقولان مثلا: يشربان الخمر، وغير ذلك مما يجرح.

وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في أسباب الجرح فقد يجرح الجارح بما ليس بجرح، وقد يفسق بما لا يفسق بمثله.

ص: 25

ولا تقبل شهادته هو " أي شهاده الخصم " فلا تقبل شهادته على فسق الشهود لأنه متهم بذلك.

إذن: إذا جرح الخصم الشهود كلف البينه بذلك، فيأتي بشاهدين يقولان: إن هذين الشاهدين فاسقان، وسبب فسقهما كذا وكذا..

أو يستدل بالإستفاضة فيقول: هذا مستفيض عند الناس، فهم يعرفون أن هذين فاسقان، فإذا ثبتت هذه الإستفاضة فإن الشهود يكونون مجروحين.

قال:] وأنظر له ثلاثاً إن طلبه [.

فإذا طلب الخصم الإنظار، فقال: أنظروني حتى أثبت انهم ليسوا بعدول فإنه ينظر ثلاثه أيام

فإن طلب أكثر من ثلاثه ايام فإنه لا ينظر إلا أن يرضى بذلك خصمه، فاذا رضى خصمه بذلك فإنه ينظر لأن الحق للخصم.

قال:] وللمدعي ملازمته [.

فإذا قال المدعي: انا أريد أن ألازم هذا الخصم " أي المدعى عليه " لئلا يهرب بحق، لأن الحق قد ثبت له، فله ذلك.

قال:] فان لم يأت ببينة حكم عليه [.

فإذا لم يأت ببينة على جرحهم فإن القاضى يحكم عليه عملاً بالبينة.

قال:] وان جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم [.

فإذا قال القاضي للمدعي: أنا لا أعرف عدالة هؤلاء الشهود الذين أتيت بهم، فحينئذ يطلب من المدعي تزكيتهم فيقول – أي القاضي- للمدعي: ائت بمن يزكيهم.

قال:] ويكفى فيها عدلان يشهدان بعدالته [.

فيكفى في التزكيه لكل شاهد، عدلان يشهدان بعدالته

هذا هو المشهور في المذهب.

وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكفي مزك واحد وهو الراجح.

وذلك لأن التزكية خبر لا يفتقر الى شهادة، فلم يشترط فيه أكثر من واحد كالرواية.

ولأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد

فالصحيح أنه يكفي في التزكية عدل واحد: فإذا أتى عدل واحد فقال: أزكي هذين الشاهدين جميعاً فأنا اعرفهما فإن قوله يقبل وتثبت بذلك عدالتهم.

فإن قال: لا أعلم فيهما إلا خيراً فهل يقبل ذلك؟

قولان: أظهرهما – وهو المشهور في المذهب – أنه لا يقبل.

ص: 26

وذلك لأن الفاسق الذي هو فاسق في الباطن لا يعلم منه في الظاهر إلا خيراً فالجاهل بالفاسق لا يعلم منه إلا خيراً.

فلا بد أن يتلفظ بما يدل على عدالتهما الظاهره والباطنة.

قال:] ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح [.

الترجمة: أن يكون أحد المدعيين أو كلاهما غير عربيين فالقاضي حينئذ يحتاج لمن يترجم، فلا يكفي واحد بل لا بد من عدلين اثنين يترجمان للقاضي، فلا يكفي آن يكون عدلا واحداً

وكذلك في التزكية كما تقدم.

والجرح: فإذا ادعى الخصم جرح الشهود فلا يكفى أن يأتي بعدل واحد يثبت جرحهم بل لا بد أن يأتى باثنين عدلين يشهدان على ذلك.

قال:] والتعريف [.

التعريف كأن يحتاج إليه قبل ظهور البطاقات الشخصية فعندما يدعى رجل على رجل، فان القاضى سيكتب ادعى: فلان ابن فلان على فلان ابن فلان بكذا وكذا، فلا بد أن يعرف القاضى بالمدعي وأن يعرف بالمدعى عليه. وأن يعرف بالمدعى به وهو ما وقعت فيه الخصومة، فلا بد أن يكون التعريف من عدلين. فيعرف المدعي عدلان – ويعرف المدعى عليه عدلان ويعرف المدعي به عدلان.

قال:] والرساله [

فإذا أرسل القاضي الى آخ رسالة، فلا بد أن يقول عدلان إن هذه هي رسالة القاضي اليك.

قال:] إلا قول عدلين [

فلا يقبل في هذه المسائل إلا قول عدلين.

-واختار شيخ الاسلام انه يكفي في هذه المسائل كلها قول عدل وهو الصحيح – كما تقدم – لآن هذا خبر لا يفتقر إلى شهادة فقبل فيه خبر الواحد العدل كالرواية.

قال:] ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق [

اذا دعى زيد على عمرو مالا، فقلنا أين عمرو، فقيل: عمرو غائب فى سفر تقصر فيه الصلاة.

كأن يدعى رجل في حايل على رجل في الرياض.

فإن القاضى يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق.

فيقول القاضى للمدعي: أحضر بينتك،فإذا أحضرها فإنه يقضي عليه.

ص: 27

قالوا: لما ثبت في الصحيحين: أن هند بنت عتبة ادعت على زوجها أبي سفيان أنه لا يعطيها وولدها ما يكفيهما بالمعروف، فقال لها النبي صلىالله وعليه وسلم:(خذى من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) قالوا: فقد قضى عليه الصلاه والسلام وهو غائب.

وهذا الاستلال فيه نظر من وجهين:

الوجه الأول / أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان فى مكة اثناء هذا القضاء، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد.

الوجه الثاني: أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة.

ولذا فذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الأمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الغائب لا يقضى عليه حتى يحضر.

استدلوا: بما ثبت عند أحمد وأبي داوود والنسائي والترمذي وحسنه – وهو كما قال – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى: ((اذا تقاضى اليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضى)) وهذا سواء كان الخصم في المجلس كما هو ظاهر هذا الحديث ام لم يكن كذلك لان العلة واحدة وهي أن يسمع من الثاني كما سمع من الأول، والقاضى إذا حكم على الغائب فإنه لم يسمع من هذا الغائب وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

إلا أن تكون هناك ضرورة، وتكون هناك قرائن قوية عند القاضي تقوي له إن المدعي محق فحينئذ له أن يقضى لأن الموضع موضع ضرورة فله بينة والقرائن تدل على صدق قوله.

إذن: المشهور في المذهب: أن القاضى يحكم على الغائب اذا ثبت عليه الحق.

لكن هل يحلف المدعي أم لا؟

ادعى زيد انه اشترى من عمرو داراً ومعه بينة على ذلك

فقيل له: اين خصمك فقال: في الرياض

فاذا قضى القاضي بالبينة على الخصم، فهل يسأل المدعي اليمين ام لا؟ أي هل يحلفّ زيداً أو لا؟

قولان لاهل العلم:-

ص: 28

القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه لا يحلفه لأن البينة على المدعي وهذا هو المدعي فعليه البينة وليس في ذلك ذكر اليمين.

والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية: انه يحلفه وذلك احتياطاً لحق الغائب وذلك لأنه يحتمل أن يكون قد طرأ بعد البينة ما يجعل الحق للغائب، كأن يبيعه هذه الدار في أول السنة ثم يشتريها منه في آخر السنه، فالذى في البلدة يحضر شهوداً يشهدون أنه قد باعه هذه الدار وهم صادقون في شهادتهم وقد باعها إياه، لكنه بعد ذلك باعها إلى من اشتراها منه.

آو أن يكون قد اقرضه ثم أرجع اليه ماله والشهود هؤلاء قد شهدوا على القرض الأول وللغائب شهود يشهدون على انه أعاد المال فاحتياطاً لحق الغائب فإن القاضى يحلفه.

ثم هل يطالب القاضي بكفيل للمدعي، لانه قد يكون الحق مع الغائب، فإذا رجع وأتى القاضي وقال: هذه بينتي التى تدل على أن الحق لى، وثبت للقاضى أن له الحق، فقد يكون المال قد ضاع، فهل نضع كفيلاً او رهناً او نحو ذلك؟

قولان لاهل العلم

المشهور في المذهب أنه لا يوضع الكفيل.

والقول الثاني: قال صاحب الأنصاف: " وما هو ببيعيد " انه يوضع الكفيل – هذا هو الأظهر احتياطاً لحق الغائب.

-هذا كله على القول بجواز القضاء على الغائب وهو المشهور في المذهب.

وأيضا على القول الذي ترجح من أن له أن يقضى إذا كانت هناك قرينة فكذلك يحتاط لحق الغائب باليمين وبالكفيل.

قال:] وإن ادعى على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة [.

إذا قال:أدعي على عمرو وهذه بينتى، قيل له: أين عمرو، قال: عمرو في البلد فهنا لا يسمع القاضي الدعوى ولا يحكم له ببينته حتى يحضر الخصم في مجلس القاضى.

وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم:-

ص: 29

لكن إن كان مختفياً أو امتنع من الإتيان لمجلس القاضي فإنه يحكم عليه. فإنه إن كان مختفياً فهو كالمسافر، ثم إن اختفاءه قرينة قوية على أنه لا حق له.

وإذا امتنع من حضور مجلس القاضي فالقاضي يحكم للعذر.

إذن: إذا كان في البلد فلا بد من إحضاره مجلس القاضي، ولا يحكم القاضي بالبينة حتى يحضر الخصم الى المجلس.

لكن إن امتنع من الحضور أو اختفى فان له حينئذ أن يحكم.

استدراك:

اذا ادعت الزوجة أن هذا زوج لها وأنكر ذلك وأتت ببينة تدل على أنه زوج لها، فهل يمكن منها في الظاهر؟

قولان لأهل العلم وهما قولان في المذهب:-

(1)

القول الأول: انه يمكن منها في الظاهر لأن الحاكم قد حكم بأنها زوجة له، وعليه فيمكن منها في الظاهر.

القول الثاني: انه لا يمكن منها في الظاهر، وذلك لأنه ينكر أن تكون زوجة له، فهو لا يقر بهذه الزوجية.

وهذا هو الصحيح، لأنه مقر على نفسه أنه لا حق له في هذه المرأة فيعامل بإقراره في حقه.

واما المرأه فيثبت لها ما يترتب على ذلك حتى يفارقها.

-وأما على القول بأنه يمكن منها في الظاهر فهل تحل له في الباطن أم لا؟

قولان لأهل العلم

القول الأول

الجواب: فيه تفصيل:

فإن اعتقد أنها بائنة منه وأنها ليست بزوجة له فهنا لا تحل له في الباطن لأن حكم القاضى لا يحل حراماً.

وأما إن اعتقد أنها زوجه له فإنها تحل له في الباطن.

الدرس الثامن عشر بعد الأربعمئة

(يوم الجمعة: 23 / 4 / 1417)

باب كتاب القاضي إلى القاضي (1)

قال رحمه الله:] يقبل كتاب القاضي الى القاضي [.

إجماعاً: لأن الحاجة تدعو إليه

فإذا كتب القاضي الى قاض آخر في قضية لينفذها القاضي الآخر أو في قضية ليحكم فيها الآخر.

(1) روجع وطبق على الأصل، أي باب كتاب القاضي إلى القاضي.

ص: 30

فيأتي المدعي والمدعى عليه الى القاضي ويدلي المدعي ببينته، ويتم لقاضي القضية ثم يحكم فيها ثم يكتب إلى قاض آخر في بلد أخرى أو في البلد نفسها – يكتب اليه بحكمه، فيقول: حكمت على فلان بأن لفلان عليه مئة ألف فنفِّذ هذا القضاء.

أو ادعى فلان على فلان أنه قد قذفه وأتى ببينة تدل على ذلك،فحكمتُ بجلده ثمانين جلده فنفِّذ ذلك.

أو أن يكتب القضية ولا يحكم فيها فيكتب: شهد عندي فلان وفلان على أن فلانا قد أقرض فلاناً كذا، أو يقول: ثبت عندي أن فلاناً قد أقرض فلاناً كذا ويكتب البينة.

ففى الصورة الأولى: أرسل اليه بالحكم لينفذه.

وأما في الصورة الثانية: فانه لم يحكم سواء عبر بقوله: " شهد عندي فلان وفلان "، أو بقوله:" ثبت عندي أن لفلان على فلان " ولا يقال: إن قوله: " ثبت عندي " حكمٌ؛ للفرق بين الحكم والثبوت، فإن الحكم فيه أمر ونهي يقتضي الإلزام، وأما الثبوت فليس كذلك.

ومثل هذه المسألة يحتاج إليها، فقد يكون القاضي في هذا البلد ضعيفا لا يستطيع أن ينفذ الحكم فيكتب بالقضية لتنفذ من قاضي أقوى منه.

أو أن يكون المدعى عليه له بالقاضي صلة قوية، فيخشى إن نفذ الحكم أو حكم أن يترتب على ذلك قطيعة رحم فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر للمصلحة.

فالحاجة تدعو الى كتاب القاضي الى القاضي ومن ثم فقد أجمع أهل العلم على صحة كتاب القاضي الى القاضي.

قال:] في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه [

فالقضايا التى تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي: هي كل حق - أي من حقوق الآدمي – حتى القذف.

فكل ما كان من حقوق الآدميين فإن القاضي له أن يكتب بالقضية إلى القاضي الآخر وهذا بالاتفاق.

واستثنى المؤلف حدود الله كحد الزنا ونحوه، فلا تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي، فلا يحل أن يكتب القاضي: قد شهد عندي أربعة شهود على أن فلانا قد زنا.

ص: 31

قالوا: لأنها من حدود الله وحدود الله ينبغي فيها الستر؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات،وكتابة القاضي إلى القاضي فيها شبهة، هذا هو المشهور في المذهب.

وهذا القول ضعيف.

- ولذا فقد اختار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن كتابة القاضي في الحدود مقبولة.

وذلك لأنه لا فرق بين المسألتين.

وما ذكروه فهو ضعيف

أما قولهم: إن حدود الله يجب فيها الستر.

فالجواب: أنه قد فضح نفسه بإتيانه ما حرمه الله عليه.

ولأنه قد يكون في الإظهار مصلحة، وقد قال تعالى:{وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}

ثم إن مصلحة كتابه القاضي إلى القاضي أعظم من هذه المصلحة.

وأما قولهم: إن الحدود تدرأ بالشبهات؟

فالجواب: أن هذه شبهة ضعيفة، أشبه ما تكون بشبهة كذب الشهود، فإن الشهود يحتمل فيهم الكذب، ومع ذلك فإذا شهد شاهدان أن فلانا قد قتل فلانا عمداً فإن القتل يثبت مع أن الكذب محتمل.

فليس كل شبهة ينظر إليها، بل لا بد أن تكون الشبهة قوية يدرأ بها الحد – كما تقدم في كتاب الحدود.

إذن: الصحيح أن حدود الله كذلك أي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.

قال:] ويقبل فيما حكم به لينفذه [.

هذه الصورة الأولى: وهي أن يكتب القاضي إلى قاضٍ آخر بالحكم كأن يكتب له: " قد حكمت على فلان بأن يجلد مئة جلدة لأنه قد ثبت عليه الزنا " فهنا يقبل هذا الكتاب ويجب على القاضي أن ينفذه، وذلك لأن حكم القاضي لازم فيجب تنفيذه.

قال:] وإن كان في بلد واحد [

كأن يكتب قاضٍ في المحكمة إلى قاضٍ آخر في المحكمة نفسها أو في محكمة أخرى في البلد، أو أن يكتب بعض القضاة إلى رئيس القضاة لينفذ ونحو ذلك – ولو كانا في بلد واحد؛ لوجوب تنفيذ حكم القاضي.

قال:] ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر [

هذه الصورة الثانية: وهي أن يكتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به.

ص: 32

فلا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، وأما إن كانا في بلد واحدة فلا يقبل هذا الكتاب هذا هو المشهور في المذهب.

ولم أرَ دليلاً يصار إليه في هذه المسألة.

-والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يقبل، وهو أظهر لأن الحاجة داعيه إليه.

فقد ثبتت عنده القضية ولا يحكم بها لمصلحة من المصالح أو لدفع مفسدة من المفاسد فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر ليحكم فيها فلا مانع من صحة هذا الكتاب وقبوله.

فالذي يترجح: أن الكتاب إلى قاضٍ آخر ليحكم يقبل سواء كان بينهما مسافة قصر أم لم يكن بينهما مسافة قصر.

قال:] ويجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين، وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين [.

اتفاقاً

فيجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين كأن يقول:" من القاضي إلى القاضي فلان " فهنا قد كتب إلى قاضٍ معين.

ويجوز أن يكتب إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين.

كأن يكتب:" إلى كل من يصله كتابي هذا من قضاة المسلمين " فهو جائز، فيجوز على التعيين، ويجوز على التعميم.

قال:] ولا يقبل إلا أن يُشهد به القاضي، الكاتبُ شاهدين فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما [.

فإذا كتب القاضي القضية سواء كان فيها حكم أم لم يكن فيها حكم فإنه يأتي بشاهدين ويقرأ عليهما الكتاب.

ويقول: "هذا كتابي فادفعاه إلى القاضي فلان "

فلا يقبل إلا أن يشهد عليه القاضى شاهدين عدلين ويقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما – هذه هو المشهور في المذهب.

- والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد: أنه لا يشترط أن يقرأ عليهما الكتاب بل يكفى أن يقول: هذا كتابي إلى القاضي فلان، فادفعاه إليه.

ص: 33

قالوا: لأنهما يشهدان أن هذا كتاب القاضي إليه، وهذا كاف فإن المقصود هو الشهادة على أن هذا الكتاب هو كتاب القاضي الأول إلى القاضي الثاني وإن لم يقرأ عليهما مع ما في القراءة من ظهور شىء من الأسرار ونحو ذلك، وهذا القول أصح.

3-

والقول الثالث، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم: أنه يصح ولو لم يشهد عليه ما دام أن المكتوب عليه عرف أن هذا هو كتاب القاضي الأول إليه.

فإذا أتاه من حائل أو من الرياض كتاباً من القاضي فلان وهذا هو خطه وعليه ختمه فإنه يقبل ذلك، وذلك لأن المقصود هو العلم أو غلبة الظن أن هذا هو كتاب القاضي إليه وقد حصل ذلك.

قال ابن القيم: " وهذا هو عمل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن "ا. هـ أي أنهم يعتمدون على كتب بعضهم لبعض.

وهذا هو الراجح في هذه المسألة.

وهذه القضية لا يحتاج إليها في عصرنا هذا، لأنه قد وجدت طرق أخرى لإرسال الرسائل.

باب القسمه

القسمة: هي جعل الشيء أقساماً

والقسم: هو النصيب

قال:] لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض إلا برضاء الشركاء [.

إذا كان بين شريكين مال كأرض ونحو. فلا يجوز قسمتها إن كانت لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض، فلا يجوز قسمتها إلا برضا الشركاء.

وما هو الضرر؟

فيه روايتان عن الأمام أحمد

(1)

الرواية الأولى: وهي المشهورة عند المتأخرين: أن الضرر هو نقصان القيمة بعد القسم في كل نصيب أو في نصيب أحدهما.

والرواية الثانية: وهو القياس على قول الموفق وهو قول الخرقى: أن الضرر هو ألا يمكن الإنتفاع فيها بعد القسم.

ص: 34

-صورة هذا: إذا كان الاثنان يشتركان في أرض مساحتها مائتان متر، لاحدهما الخمس، وأربعه أخماسها للآخر، فإذا قسماها فإن نصيب صاحب الخمس يكون أربعين مترا والأرض ليست في موقع تجارى فهذه الأربعين مترا لا يمكن الانتفاع بها بعد ذلك فحينئذ: لا تجوز القسمة إلا برضا الشريكين وذلك لوجود الضرر وهو أنه لا يتمكن من الانتفاع بها بعد ذلك.

ومثال نقصان القيمة: إذا كانت الأرض تساوي مائة ألف، ومساحتها خمسمائه متراً، ولأحدهما الخمسمائة والآخر له ثلاثة أخماس، فإذا قسمناها صار للأول مائتا متر، وللآخر ثلاثمائه متر.

وقد كانت الأرض بكاملها تساوى مائه ألف، ونصيب صاحب الخمسين منها أربعون الفاً والآخر نصيبه ستون الفاً وبعد القسم أصبحت المائتا متر لا تساوي إلا ثلاثين الفاً. فقد تضرر بذلك لنقصان القيمة.

وهذا – فيما يظهر – أقوى وذلك لثبوت الضرر لأن هذا نوع ضرر.

إذن: لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر والضرر في المشهور – هو أن تنقص قيمة قسم أحدهما بعد القسمة.

(أو رد عوض) : أي لا يمكننا أن نقسم حتى نقول لأحدهما: أعط الآخر خمسة آلاف أو عشره آلاف لتكون القسمة عادلة فلا يلزم أحدهما بالقسمة بلا رضا، بل لا بد من الرضا.

وهذا هو النوع الأول من القسمة وهو: قسمه التراضى.

فمتى ما كان في القسمة ضرر أو رد عوض فلا تجوز القسمة إلا بالرضا.

وتكون القسمة هنا من البيع، لأنه لما ثبت رد العوض كان ذلك بيعاً – هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فيشترط فيها الرضا وفيها خيار المجلس لأنها بيع.

قال:] كالدور الصغار [.

فمثلاً: يملكان شقة فيها ثلاث غرف ولها حمام واحد ومطبخ واحد فلا تمكن القسمة من غير ضرر ورد عوض.

قال:] والحمام والطاحون الصغيرين [.

(الحمام) : فإذا كان لكل منهما غرفة والحمام مشترك بينهما فأردنا قسمته فإذا هو متر في نصف متر فلا يمكن أن يقسم من غير ضرر، فإنه لا يجوز إلا بالرضا.

ص: 35

" الرحى

(والطاحون) هو ما يسمى عندنا في السابق بـ " وله دار خاصة به، فإذا كانت هذه الدار صغيرة والرحى كذلك فلا تمكن القسمة إلا برضا الشريكين، لأنه إما أن يكون هناك ضرر أو رد عوض.

قال:] والأرض التى لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبناء أو بئر في بعضها [.

كأن تكون الأرض مساحتها خمسمائة متر وفيها شئ من الحجارة من الجبال الثابتة أو فيها بعض البناء أو فيها بئر، ولا يمكن ان تتعدد بالأجزاء وكان لكل واحد منهما النصف، فلو أعطينا كل واحد مائتين وخمسين متراً لكن في قسم أحدهما بئر والآخر ليس في قسمته بئر، وفي قسمة أحدهما جبل والآخر ليس فيه ذلك، فليست قسمة عادلة فلا يمكننا أن نعدل بينهما بالأجزاء.

-وهل يمكننا أن نعدل بينهما بالقسمة؟ بأن نقول لأحدهما خذ مائتى متر ليس فيها جبل، ونقول للآخر خذ ثلاثمائة متر فيها هذه القطعة من الجبل، ووجدنا أن المائتين متر هنا تساوي الثلاثمائه متر هناك فهذه قسمة عادلة.

لكن إذا لم يمكننا القسمة لا بالأجزاء ولا بالقسمة فلا تكون القسمة مقبولة بغير الرضا، بل لا بد من رضاهما.

قال:] فهذه القسمة في حكم البيع ولا يجبر من امتنع من قسمتها [.

لأنها في حكم البيع ويشترط في البيع التراضي

ولقوله صلى الله عليه وسلم حيث كان ضرراً -: " لا ضرر ولا ضرار "

فإن قال أحدهما: ما دامت الأرض لا يمكننا أن نقسهما بيننا، ولا يرضى أحدنا بالنصيب الأقل، فأطلب أن تباع الأرض وآخذ نصيبي من القسمة، فهل يلزم الآخر بذلك أم لا؟

الجواب: أن الآخر يلزم بذلك، لدفع ضرر الشراكة فإن أبى أن يبيع فإن الحاكم يجبره.

قال:] وأما مالا ضرر ولا رد عوض في قسمته [.

هذه قسمة الإجبار – فلا يشترط الرضا فيها لأنه لا ضرر ولا رد عوض في قسمته.

قال:] كالقرية والبستان [.

فلو كانت هناك قرية بين اثنين فاقتسماها فهذا صحيح

قال:] والدار الكبيرة [.

ص: 36

كأن تكون الدار فيها عشرة غرف وفيها مجلسان وفيها مطبخان وحمامان، فقسمت بينهما فهذا صحيح.

والدار الكبيرة: أي التى يمكن أن تقسم قسمة عادلة.

قال:] والأرض [.

كأن تكون لهما أرض مساحتها ألف متر، فيأخذ كل واحد خمسمائة متر. فهذا جائز.

قال:] والدكاكين الواسعة [.

كأن يكون لهما في السوق دكان مساحته عشرة أمتار في خمسة أمتار، فيقول: خمسة في خمسة لي، وخمسة في خمسة لك ونضع بينهما جداراً فهذا جائز ويكون في هذا القسمة إجبار.

قال:] والمكيل والموزون من جنس واحد كالأدهان والألبان ونحوها [.

كالأرز ونحو ذلك، فهذه مكيلة أو موزونة، تمكن قسمتها قسمة عادلة ولا ضرر ولا رد عوض.

قال:] إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها [. .

أي على القسمة لأنه لا ضرر ولا رد عوض وهي مشتركة بينهما.

قال:] وهذه القسمة إفراز لا بيع [.

فهذه القسمه ليست بيعاً وإنما هي إفراز، أي تمييز حق كل ذي حق بينهما، ففيها تمييز حق كل واحد منهما عن الآخر، وعليه فلا يشترط فيها الرضا – كما تقدم – ولذا كانت إجباراً، وإذا قسمت بينهما فلا يثبت خيار لأنها ليست بيعاً وإنما هي إفراز.

قال:] ويجوز للشركاء في قسمة الإجبار - أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه او يسألوا الحاكم نصبه [.

لان الحق لهم، ويشترط أن يكون القاسم عالماً بالقسمة ليوصل الحقوق إلى أهلها.

قال:] وأجرته على قدر الأملاك [

فأجرة هذا القاسم تكون على الشركاء بقدر أملاكهم، لأنها مؤنة ملك فكانت بقدره، كما لو كان هناك عبد مشترك بينهما فنفقته بقدر الأملاك.

لكن إن كان بينهما شرط، كأن يقول صاحب القسمة الأكبر لصاحب القسمة الأقل أشترط أن تكون الأجرة بينى وبينك بالسوية، فرضي بذلك، فالذي يظهر صحة الشرط لأن المؤمنين على شروطهم – وهو قول في المذهب قال صاحب الكافى:" وهو على ما شرطاه "

ص: 37

إذن: إذا كان بينهما شرط فهو على ما شرطاه، وإن لم يكن هناك شرط فيكون بقدر الأملاك.

قال:] فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة [

فإذا اقتسموا بأنفسهم – في قسمة الإجبار – أو بقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه – فإذا اقتسموا على ذلك لزمت القسمة، وذلك لان القسمة قسمة إجبار ورضاهما لم يكن معتبراً في الأصل فكذلك لم يعتبر في الأثناء.

-إذا كانا قد نصبا حاكماً عالماً بالقسمة فكما لو حكما بينهما قاضياً فيلزمهما كذلك.

إذا كانا قد قسما بينهما القسمة من غير قاسم: فإذا كانا تراضيا على ذلك فكذلك أي تلزم القسمة لأنهما قد تراضيا على ذلك.

وأما إذا لم يتراضيا فلا، لأنه يقول أحدهما:القسمة جائزة أو نحو ذلك فلا يلزمه الرضا.

قال:] وكيف اقترعوا جاز [

بأي كيفية اقترعوا جاز ذلك سواء كان بالحصى أو بالرقاع وغير ذلك من طرق القرعة

فإذا لم يرض كل واحد فيهما بهذا النصيب فوضعوا القرعة بينهما فخرجت لأحدهما فيلزم الآخر الرضى بأي طريقه من طرق القرعة.

-لا شك أنه ليس المراد أن يكون أحدهما غانماً أو غارماً بل المقصود أنهما اجتهداً في التسوية، ومن أجل أنهما قد يختلفان في اختيار النصيب وضعت القرعة بينهما.

أما إذا كان أحدهما غانماً والآخر غارماً فلا يجوز ذلك.

والحمدالله رب العالمين

باب: الدعاوى والبينات

الدعاوى: بفتح الواو وكسرها جمع دعوى وهي في اللغه: الطلب قال تعالى: ولهم فيها ما يدعون "

وأما في الإصطلاح: فهي إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره او ذمته.

كان يقول: مثلاً: هذه الدار لي والدار بيد رجل آخر فهي دعوى ،

او يقول: في ذمته لي عشرة آلاف، فهي دعوى.

-أما البينات فهي جمع بينه وهي ما اظهر الحق وأبانه

كالشاهد: فالشاهد يظهر الحق ويبينه.

قال رحمه الله:] المدعي: من إذا سكت ترك والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك [

يعنى مع المطالبة.

ص: 38

فإذا ادعى زيد على عمرو أن في ذمته له عشرة آلاف، ثم سكت زيد عن الدعوى فإنه يترك لأن الحق له.

واما المدعى عليه وهو عمرو في هذا المثال، فإذا سكت فانه لا يترك.

وقيل غير ذلك

وتعريفهما ظاهر: فالمدعي: هو الطالب، والمدعى عليه هو المطالب وفيه تعريفات أخرى.

قال: [ولا تصح الدعوى والإنكار الا من جائز التصرف]

جائز التصرف: هو الحر المكلف الرشيد، وقد تقدم ذلك في كتاب البيع.

فاذا ادعى ابن سبع سنين او ادعى السفيه غير الرشيد او ادعى العبد – فلا تسمع دعواه أي في المال.

وكذلك إنكاره لا يسمع، فإذا ادعى عليه – أي على غير جائز التصرف – فأنكر فكما لو لم ينكر، فلا يسمع إنكاره في المال، وغير جائز التصرف لا قول له في المال، والدعوى والإنكار قول في المال.

قال: [وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه]

إذا كان عمرو عنده أرض يزرعها فادعى زيد أن هذه الارض له، فنقول: هي لمن بيده وهو عمرو، مع يمينه.

ولو أن رجلاً راكب راحلة فادعى رجل أن هذه الراحلة له، فهي لراكب الراحلة مع يمينه.

ودليله: ما ثبت في الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعّى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) يعنى المطالَب.

وفي البيهقى: " البينه على المدعي واليمين على من أنكر " وفيه ضعف

واجمع أهل العلم على ذلك أي على أن البينّة على المدعي واليمين على من أنكر.

قال: [إلا أن تكون له بينه فلا يُحلّف]

فإذا قال المدعى: هذه بينتى وأحضر من يشهد له، فإنه يحكم بها ولا يحلف أي المدعي.

وإنما حكمنا بها في المسألة السابقة لمن هي بيده لشاهد الحال، فإن الحال يشهد أنها له:

لكن لو كان الحال يشهد أنها ليست له، فحينئذ نحكم لمن يشهد له الحال.

ص: 39

فمثال ذلك: إذا وجدنا رجلاً معه عمامة بيده وآخر قد حسر رأسه في الشارع فتحاكما إلينا، وأحدهما على رأسه عمامة وفي يده عمامة، والآخر حاسر الرأس، وكلاهما معروف أنه لا يخرج على هذه الصفه، فإننا نحكم بالعمامة لمن كان حاسر الرأس، وإن كانت العمامة ليست بيده لشاهد الحال ونقول له – أي لحاسر الرأس – احلف أنها لك.

والأصل أن من في يده المدعى به أنه لهٍ الا أن يعارض ذلك قرينة ظاهرة ، وذلك لأن اليمين من جانب أقوى المدعيين، ففى المثال المتقدم / من ليس المدعى به "وهي العمامه " في يده جانبه أقوى فعليه اليمين.

ومثال آخر:-

لو أن رجلاً طلق امرأة، وادعى شيئاً مما يختص بالنساء ادعى أنه له فإنه يحكم به للمرأة مع يمينها.

والعكس بالعكس، فلو كانت الدعوى سّيارة فادعت المرأة إنها لها –وطبعاً يوجد الآن في هذا الوقت الإستمارات التى يكتب فيها اسم مالك السيارة-، لكن لنفرض أن هذا ليس بموجود – فإننا نحكم بها للرجل مع يمينه إلا أن تأتى المرأة ببينة.

قال: [وإن أقام كل واحد منهما بينة أنها له]

كأن تكون هناك أرض يزرعها زيد، فادعي عمرو أنها له وأحضر بينّة، وأحضر زيد بينة أيضاً، فتعارض عندنا البينات فلمن نحكم؟

قال: [قضى للخارج ببينته ولغت بينة الداخل]

ففى المثال المتقدم نحكم بها لعمرو لأنه هو الخارج، ولغت بينة زيد وهو الداخل.

فإذن: يقضى بها للخارج وهو المدعي الذي ليس المدعى به في يده، وأما الداخل فهو من كان المدعى به في يده، فإن بينته تلغى.

قالوا: لان البينة في جنب المدعي، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فالبينة إنما تسمع من المدعي، وعلى ذلك فوجودها من المدعى عليه – كعدمها.

قالوا: ولأن معه – أي مع الخارج – زيادة علم لأنه ناقل عن الأصل فالخارج هو الناقل عن الأصل – لأن الأصل إنها لمن هي بيده.

ص: 40

وقال الجمهور وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم: أنه يقضى فيها للداخل.

قالوا: لشاهد الحال، فإن شاهد الحال يدل على أنها للداخل، والبينات تعارضتا فتساقطتا، فكما لو لم يكن لهما بينة وعليه فيحكم لمن هي بيده.

قالوا: وأما كون البينة في جنب المدعي في الأدلة الشرعية فلأن الأصل ألا يكون في القضايا إلا بينّة واحدة،ولقوة جانب المدعى عليه اكتفينا بيمينه ولم نقبل من الآخر دعواه فيحكم بها إلا ببينة، فاشترطنا عليه البينة وحففنا مع الآخر فقبلنا منه اليمين، فجانبه أقوى، واما المدعي فلما كان جانبه أضعف اشترطنا البينّه.

قالوا: وأما ما ذكرتموه من أن في دعوى المدعي زيادة علم فهذا معارض بالأصل، فإن الأصل أنها لمن هى في يده، وهذا أقوى من هذا النقل.

إذن: الصحيح أن البينتين إذا تعارضتا وكان المدعى به تحت يد أحد الطرفين فإنا نحكم له مع يمينه؟ كما هو مذهب الجمهور.

فإذا كان المدعىّ به تحت يديهما جميعاً:

كأن يأتي اثنان إلى قاضى براحلة كل واحد منهما قد أخذ بزمام الراحلة فهنا لا ترجيح.

فلو كان أحدهما أقوى كأن يكون أحدهما راكبا للراجله والآخر أخذ بزمامها فإنا نرجح الراكب لان يده أقوى. أما هنا فان كليهما اخذ بزمام الراجله، فاليدان مشتركتان لا مزية لأحداهما على الأخرى فما الحكم؟

الجواب: إن كان لا بينة لأحدهما فإننا نحلفهما جميعاً. ونجعلها بينهما نصفين.

وإن كان لكل واحد فيهما بينة فكذلك أي نقول: احلفا وتناصفا.

والقول الثاني في المسألة: إننا لا نحلفهما – أي حيث أدلى كل واحد منهما ببينة – لأن بينة كل واحد منهما تثبت النصف فلا نحتاج إلى اليمين. وهو قول الأكثر.

-وعن الإمام أحمد في المسالتين كلتيهما – أي حيث لم يأتيا ببينة – أو أتى كل واحد منهما ببينة– أننا نقرع بينهما فمن خرجت القرعة له فإنه يحلف فيكون جانبه أقوى.

ص: 41

فعلى هذا القول: نقوى جانب أحدهما بالقرعة.

فهذا له بينة وهذا له بينه قد تعارضتا فتساقطتا.

وهذا الدابة تحت يده وهذا الدابة تحت يده فليس أحدهما مرجحاً على الآخر، وكذلك إذا كانت الدابة ليست عند أحد منهما بل هي عند شخص آخر فكذلك – إذن جانب كل واحد منهما يساوي جانب الآخر فحينئذ يقرع بينهما فمن خرجت القرعة له كان جانبه أقوى فحينئذ نقول له احلف وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.

ويدل عليه ما ثبت في سنن أبي داوود – والحديث صحيح: أن رجلين تداعيا عيناّ وليس لأحدهما بينة فأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم " أن يستهما على اليمين أحبّا أو كَرها ".

فهذان الرجلان اختصما في عين وليس لأحدهما بينة كما أن العين ليست تحت يد أحدهما بدليل قصه الحضرمي والكندي فإن النبي صلى الله عليه وسلم " جعل البينة على الحضرمي لما كانت الأرض بيد الكندي يزرعها أما هنا فليس المدعى به تحت يد أحدهما، فلما كان الآخر كذلك رُجّحَ جانب من خرجت القرعة له.

وفي سنن البيهقى ومراسيل أبي داوود بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب: أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم في شىء فجاء كل واحد منهما بشهود على عدة الآخر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترعا وقال: "إن الله يقضي بينكما "

وله شاهد مرسل عن سليمان بن يسار ومراسيل سعيد بن المسيب صحيحه عند أهل العلم ففي هذا الحديث انه قد جاء كل واحد منهما بشهود عدول بعدد شهود الآخر فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة وقال: " والله يقضى بينكما " وهو استهام على اليمين كما في الحديث الأول. فليس فيه إلا تقوية جانب أحدهما.

ص: 42

-إذن الصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وأنهما إن كانت العين تحت يديهما وليس لأحد منهما بينة أو لكل واحد منهما بينة أو كان الأمر كذلك لكن العين بقيت تحت يد أحد منهم فأنا – حينئذ – نقرع بينهما ومن خرجت له القرعه نقول له: احلف فإن حلف فانه يأخذ العين.

-إذن: عندنا حالات:

الحالة الأولى: إذا ادعى رجل على آخر أن هذه العين التى تحت يده له ولا بينة له فإنا نحكم بالعين لمن هي في يده ونقول له: احلف كما في حديث الحضرمي والكندي وهو ثابت في صحيح مسلم.

الحالة الثانية: أن تكون العين ليست تحت يد أحد منهما أو تحت يديهما جميعاً، ولا بينة لأحدهما على الآخر أو لكل واحد منهما بينه فحينئذ نقرع بينهما ومن خرجت القرعه له فإنه يحلف – هذا في اصح أقوال أهل العلم.

-وفي تعارض البينتين مسألتان:

(1)

المسألة الأولى:

هل يرجح بين البينتين أو لا؟

فإذا كانت إحدى البينتين شهودها أكثر أو أشهر فهل يرجح أم لا؟

أ - مذهب الجهور: أنا لا نرجح إحداهما على الأخرى، لأن كل منهما بينة فهي حجة.

فلو جاء أحدهما بمائه شاهد، وجاء الآخر بشاهدين فإن البينتين متعارضتان لا ترجح إحداهما على الأخرى.

وكذلك لو أتى أحدهما بشهود مشهورين بالعدالة وأتى الآخر بشهود عدول لكنهم ليسوا على درجة الشهود الأول فإنا لا نرجح.

ب- والقول الثاني: وهو مذهب مالك وهو قول مخرّج في مذهب أحمد: أنا نحكم بالبينة التى هي أرجح.

وهذا أظهر كأدلة الشرع، فان أدلة الشرع كل دليل بمفرده حجة لكن لما تعارضت الأدلة وأمكننا الترجيح فإننا نرجح، فكذلك البينات هنا.

ولأن من معه بينة أقوى فان جانبه أقوى، واليمن في جانب أقوى المدعيين.

إذن: الراجح أن البينات إذا تعارضت فإنه يقدم الأرجح.

ص: 43

ولا شك أن هذا القول قوي حيث كان الرجحان ظاهراً أما أن يدخل في ذلك شئ من التلاعب بالترجيح الخفي فليس هذا هو المراد لكن المراد ان يكون الترجيح ظاهراً بيناً حتى لا يتهّم القاضي.

ويقوىَّ هذا القول ما تقدم في حديث سعيد بن المسيب فإن فيه ((وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدّة الآخر)) : أي على عدد شهود الآخر.

المسألة الثانية:

المشهور في المذهب: أن البينة المتقدمة مقدمة على البينة المتأخرة.

فإذا كان لأحدهما شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنتين وهذا له شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنة قالوا: نقدم البينة المتقدمة.

قالوا: لأن البينة المتقدمة تثبت الملك في زمن لا تعارضها فيه البينة المتأخرة.

ب- والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر كلام الحرقى من الحنابلة أن البينتين متساويتان.

قالوا: لأن البينة المتاخرة تثبت مِلْكاً حادثاً.

ولذا لو قالت البينة الحادثة إنه يملكه منذ سنة بهبة من زيد فإن البينة الأولى تطرح لأنه لا تعارض.

لكن الكلام: إذا قالت البينة المتأخرة نحن لا نقول إنه قد وهبه أو نحو ذلك لكن تثبت أنه مِلْك له قبل سنه فهذه البينة تثبت ملكاً حادثاً، والبينة المتقدمة تثبت ملكاً قديماً، ولا شك أن إثبات الملك الحادث أقوى من إثبات الملك القديم.

قالوا:وهذا دليل يقتضى ترجيحها فلا أقل من أن يقتضي التساوي.

يعنى: أن هذه العلة تعارض تلك العلة. فهذه تدفع هذه وحينئذ يكونا متساويين.

-ولم أر قائلاً يقول بتقديم البينة الحادثة.

إذن: الصحيح أنهما على التساوي – كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر قول الحرقي من الحنالبة.

والحمدالله رب العالمين

كتاب الشهادات

الشهادات: جمع شهادة.

والشهادة هي: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد. هذا هو المشهور في المذهب.

ص: 44

فلو قال:" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك، فإن شهادته لا تقبل، بل لا تقبل حتى يقول:" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ: أشهد أو شهدت.

-واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف: أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة. فلو قال: " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح.

وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها.

لكن لو قال: أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله، فصدقه وأخبر بما علم فقال: " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية.

قال رحمه الله: [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية]

فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة.

ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.

-وقال المؤلف هنا: (في غير حق الله تعالى) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة،ولأن المشروع فيها الستر.

ص: 45

فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها.

أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع.

قال صاحب الفروع: يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال.

فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة،فالستر عليه مصلحة خاصة، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة.

فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى

فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي.

قال: [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه] .

فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين.

وهكذا سائر فروض الكفاية، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق.

فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء.

كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية.

مسألة:

هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟

المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية، فإذا قام بها فقد قام بفرض.

ص: 46

والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة.

والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال.

فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال.

قال: [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها]

لقوله تعالى: ((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))

فأداؤها فرض عين على من تحملها.

قال: [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل]

فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد) ولقوله صلىالله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد.

أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب.

قال: [ولا يحل كتمانها]

لقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه)

مسألة:

هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها؟

الجواب: نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) رواه مسلم.

وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له.

كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة، والشهادة أمانة، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة.

والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل.

ص: 47

وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم.

قال: [ولا أن يشهد إلا بما يعلم]

لقوله تعالى: ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "

وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال:" على مثلها فاشهد أو دع ".

لكن الحديث إسناده ضعيف

قال: [برؤية أو سماع]

لا بخبر ثقة.

" برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك.

"أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك.

قال: [أو استفاضةٍ]

الاستفاضة: أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه.

قال: [فيما يتعذر علمه بدونها]

فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية.

قال: [كنسبٍ]

فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة.

فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس.

فإذا قيل له: هل تشهد أن فلان بن فلان؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة.

قال: [وموت]

فمثلاً: مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة.

قال: [ومْلكٍ مطلق]

الملك المطلق: هو غير المقيّد بشراء ولا هبة ونحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه؟ فانك تقول: نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس.

ص: 48

لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع.

قال: [ونكاح ووقف ونحوها]

كالخلع والولاية والعزّل ونحوها، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة.

إذن: أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة:-

(1)

الطريق الاول: السماع (2) والطريق الثاني: الرؤيه وهما الأصل.

(3)

والطريق الثالث: الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية.

-وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟

مثال ذلك: إذا أتاك رجل فقال: أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس؟ فقال نعم، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك؟

المشهور في المذهب: أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم.

واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس.

وقال القاضي بن الحنابلة: يكفي عدلان.

-وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك.

بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية. فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه، فكذلك هنا، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة.

قال: [ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه]

إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة.

فالقاعدة عندهم: " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة "

ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.

ص: 49

فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال: " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة: فنقول له هل توفرت الشروط، فان قال نعم فنقول له: ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا.

--والصحيح هنا كالصحيح هناك، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة.

ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة.

قال: [وإن شهد برضاع]

فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه، فتقول المرأة:" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط.

-والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل.

ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم: لما قالت المرأة: " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل:" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل.

قال: [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه]

فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد. وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة.

وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف.

فان قيل: لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع؟

فالجواب:

ص: 50

أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل.

قال: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها]

فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة، فنقول له: في أي ساعة؟

قال: في أول النهار / في أي مكان؟ قال في المكان الفلاني؟ فنقول: أذكر لنا المرأة

فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور.

فإن قال: بعض الشهود في أول النهار، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم.

إذن: لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد.

لكن هل يشترط ذكر المزني بها؟

ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب.

والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بشرط

-وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك؟

إلا إذا كان هناك شبهة، كأن يشتبه في أنها امرأته، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

قال: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل]

ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم.

وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة.

والحمدالله رب العالمين

ص: 51