المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الدرس السادس والخمسون (يوم السبت: 22 / 2 / 1415هـ) باب شروط - شرح زاد المستقنع - حمد الحمد - جـ ٤

[حمد الحمد]

فهرس الكتاب

الدرس السادس والخمسون

(يوم السبت: 22 / 2 / 1415هـ)

باب شروط الصلاة

الشروط: جمع شرط وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (شروطها قبلها منها الوقت)

أي شروط الصلاة قبلها، فالوضوء أو الغسل وهو الطهارة من الحدث وكذلك الطهارة من النجس، واستقبال القبلة، فهذه كلها يجب أن تكون قبل الصلاة.

وهذا ضابط في شروط الصلاة وأن كل شروطها يجب أن تكون قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها فجميع شروط الصلاة يجب أن تتوفر قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها.

ويجب في الشروط أن تستمر في العبادة، وهذا هو الفارق بين الشرط والركن، فالشرط في العبادة يستمر فيها، أما الركن فإنه يمكث فيها زمناً فلا يستمر فيها كلها فالركوع مثلاً ركن، وهذا الركن لا يتخلل إلا زمناً منها أما الوضوء فهو شرط منها كلها بحيث أنه يجب أن يشملها فلو تخلل ذلك شيئاً من الحدث فإن العبادة تبطل.

ومن الشروط: الإسلام، فمن لا إسلام له لا عبادة له كما تقدم، فإن العبادة مشروطة بالإسلام، فلا يقبل الله عبادة بلا إسلام.

ومنها العقل: فلا تقبل عبادة من مجنون ولا غير مميز؛ لأن النية شرط في العبادة ومن لا عقل له لا نية له.

قال المؤلف: (منها الوقت)

وهذا بالإجماع، والوقت من التوقيت وهو التحديد، فالصلوات لها أوقات محددة شرعاً، فكل صلاة لها وقتها المحدد شرعاً وهذا بالإجماع، وسيأتي ذكر الأدلة عليه.

قال المؤلف: (والطهارة من الحدث)

لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)(1)

قال: (والنجس)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب في الصلاة (6954) وفي كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور (135) ، وأخرجه مسلم 225.

ص: 1

أي الطهارة من النجس، فمن شروطها الطهارة من النجاسة بدناً وثوباً وبقعة وهذا بالإجماع وسيأتي الكلام عليه.

فهذه ثلاثة شروط قد أجمع عليها أهل العلم وهي الوقت والطهارة من الحدث والطهارة من النجس، وقد تقدم اشتراط الإسلام والعقل. ثم شرع المؤلف رحمه الله في ذكر شرطية الوقت ومباحثه.

فقال: (فوقت الظهر)

اعلم أن الوقت كما قال شيخ الإسلام هو آكد شروطها ولذلك شرع التيمم مع فقد الماء الذي هو الأصل في الطهارة وانتقل من ذلك إلى التطهر بالتراب لمصلحة المحافظة على الوقت.

ص: 2

وقد شرع بوقت الظهر أولاً، لأن وقت الظهر هو أول وقت صلاة جبريل لما أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في المسند وسنن الترمذي وغيره وأصله في مسلم (1) . وأيضاً لما ثبت في مسلم – وهو أصل من أصول إثبات المواقيت حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر

) (2)

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، مسند آل العباس، مسند عبد الله بن عباس (3081) بلفظ " أمَّني جبريل عند البيت، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس..) وبرقم (3322) ، وأخرجه الترمذي في بداية كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة (149) بلفظ: " عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر.. ". وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس (610) مختصراً

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد باب ما جاء في مواقيت الصلاة (612) بألفاظ مختلفة وفي بعضها أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات فقال: (وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس..) فبدأ بالفجر، وفي لفظ آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وقت الظهر إذا زالت الشمس..) فبدأ بالظهر. وفي مسلم أيضاً حديث بريدة في أوقات الصلاة (613) ولفظه: " عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاًَ سأله عن وقت الصلاة؟ فقال: (صل معنا هذين) يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاًَ فأذن ثم أمره فأقام الظهر.. " فبدأ بالظهر، وفي لفظ آخر أنه بدأ بالفجر:" أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مواقيت السلاة؟ فقال: (اشهد معنا الصلاة) فأمر بلالاً فأذن بغلس فصلى الصبح..) فبدأ بالفجر. وفيه أيضاً حديث أبي موسى (614) : " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة؟ فلم يرد عليه شيئاً قال فأقام الفجر حين انشق الفجر.. " فبدأ بالفجر.

ص: 3

فشرع أولاً بوقت صلاة الظهر - فكان الأولى اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وجبريل – كان الأنسب والأولى هو البداءة بذلك.

وإلا فإن أول صلاته هي صلاة الفجر، فهي أول صلاة النهار، وقد تقدم أثر ابن عمر في تسمية الفجر بالأول، وسيأتي أن العصر هي الصلاة الوسطى، لذا شرع بعض أهل العلم كأبي الخطاب الحنبلي، شرع أولاً بالكلام على صلاة الفجر لكن الأنسب ما تقدم.

قال: (من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال)

الفيء هو الظل بعد الزوال سمي فيئاً من فاء إذا رجع، أما الظل قبل الزوال فلا يسمى فيئاً.

ولفظة " الظل " شاملة للظل قبل الزوال وبعده.

أما لفظة " الفيء " فهي خاصة بالظل بعد الزوال.

فوقت الظهر من زوال الشمس أي زوالها عن وسط السماء إلى جهة المغرب، وهذا لا يدرك بالعين، لكنه يميز بالظل، فعندما ينصب عصاً أو نحوه ويكون الظل أولاً ناحية المغرب ثم كلما ارتفعت الشمس كلما قصر هذا الظل حتى تقف عند حد معين ثم بعد ذلك تتحرك الشمس من وسط السماء وبعده الظل إلى الحركة بعد التوقف، فعند رجوعه هذا هو علامة زوال الشمس فحينئذ: يعرف أنه قد زالت الشمس.

وهذا الظل الذي ثبت للعصا يزيد وينقص، فيختلف طوله وقصره صيفاً وشتاءً، فإن في الشتاء يطول وفي الصيف يقصر، لأن الشمس مرتفعة في الصيف فيقصر، أما في الشتاء فهي أقل ارتفاعاً منها فيكون حينئذٍ الظل أطول منه في الصيف.

إذن: عندما يقف الظل بعد امتداده ثم يشرع بالامتداد مرة أخرى فهذا هو علامة زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر.

قال: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال)

هذا نهاية الوقت.

فالظل الثابت في الشاخص لا يحسب، فلابد أن يكون الفيء مساوياً للشاخص بعد فيء الزوال.

فمثلاً: وضعنا شاخصاً طوله متر، فكان توقفه على ربع متر ثم أخذ بالزيادة فلا تحسب هذه في المساواة فإذا وصل الظل إلى متر وربع فهذا انتهاء وقت صلاة الظهر.

ص: 4

والدليل على ذلك: حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت الفجر إذا طلع الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان)(1) رواه مسلم.

الشاهد: قوله " وقت الظهر إذا زالت الشمس " هذا أول وقتها، وقوله:" وكان ظل الرجل كطوله " هذا نهاية وقتها.

قال: (وتعجيلها أفضل إلا في شدة الحر)

لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس)(2) أي زالت.

قالت عائشة – كما في الترمذي بإسناد ضعيف وله شاهد في مسند أحمد عن أم سلمة فالحديث حسن – قالت عائشة: (ما رأيت أشد تعجلاً للظهر من النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر)(3) .

(1) تقدم قريباً.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر (618)

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة،باب ما جاء في التعجيل بالظهر (155) .

ص: 5

وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان إذا كان البرد عجل وإذا كان الحر أبرد)(1)

إذن: المستحب في صلاة الظهر تعجيلها، فإذا زالت الشمس وتقدم المكث بين الأذان والإقامة فحينئذ تقام صلاة الظهر.

ما لم يكن الحر شديداً لذا قال: (إلا في شدة الحر) فبقي ما إذا كان الجو بارداً أو معتدلاً أو قريباً من الاعتدال أما إذا كان شديد الحر فالمستحب هو الإبراد، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)(2) أي من سعة انتشار حرارتها.

ومعنى " أبردوا ": أي ادخلوا في البرد بأن تصلي في وقت قد ذهب فيه حرارة الشمس.

وهذا الوقت – في الحقيقة – ليس محدداً إلا بهذا المعنى وهو متى: انكسر الحر وكان للجدران ونحوها ظل يستظل به الناس فإنها تشرع صلاة الظهر.

(1) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب تعجيل الظهر في البرد (499) من حديث أنس بن مالك بلفظ:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجّل) ، وأخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة (906) من حديث أنس بلفظ: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة. قال يونس بن بكير: أخبرنا أبو خَلْدَة فقال: بالصلاة، ولم يذكر الجمعة. وقال بشر بن ثابت: حدثنا أبو خلدة قال: صلى بنا أميرٌ الجمعة، ثم قال لأنس رضي الله عنه: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر؟ " ا. هـ.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر (536) ، ومسلم (615)(617) .

ص: 6

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبرد) ثم أراد أن يؤذن فقال له: (أبرد) حتى رأينا فيء التلول) (1)

والتلول: جمع تل، وهو ما يكون على ظهر الأرض من المجتمع من رمل أو تراب، وهذا في الحقيقة لا يظهر له الفيء إلا بعد فوات شيء كثير من وقت صلاة الظهر حتى يدنو وقت العصر، حتى ثبت في البخاري:(حتى ساوى الظل التلول) .

إذن: لم يحضر وقت العصر لأنه لابد أن يساويه ويساوي الظل الذي كان لها قبل الزوال فإنه يدل على أنه صلاها قبل دخول وقت صلاة العصر، فهذا تأخير ظاهر فيها.

فإذا انكسر الحر وبرد الجو فإنه يشرع له أن يصلي، وقد تقدم حديث البخاري:(كان إذا كان البرد عجل، وإذا كان الحر أبرد)(2) .

قال: (ولو صلى وحده)

هنا مسألة وهي: هل هذا شامل لمن صلى وحده كما هو شامل لمن صلى جماعة؟

لا إشكال في أن من صلى جماعة فيشرع له الإبراد وهذا فيما إذا كانت الطرق متعرضة للشمس كما هو الغالب فلا إشكال في مشروعية مثل هذا.

وإنما الإشكال فيمن يصلي وحده، وكذلك قد يشكل هذا في هذه الأزمان فقد يوجد أماكن تكون الطرق فيها مغطاة عن الشمس، فهل يشرع في مثل هذه الحال الإبراد أم لا؟

قال هنا: (ولو صلى وحده) وهذا هو المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام وحكاه عن أهل الحديث وأن السنة تعزر ذلك ولا ندفعه وأن الجمهور على ذلك – هذا ما حكاه شيخ الإسلام – فذلك مستحب ولو صلى وحده (لعذر) .

(1) أخرجه البخاري في باب الإبراد بالظهر في السفر (539) ، ومسلم (616)

(2)

تقدم قريباً.

ص: 7

- وذهب الإمام الشافعي: إلى أن ذلك لا يستحب لمن صلى وحده بل ذلك خاص فيمن يصلون جماعة؛ لأنهم يحتاجون إلى الإبراد لتكون الطرق فيها شيء من الظل يستظلون به، وهذا على القول بأن العلة من الإبراد هي ما ذكروه.

ولكن هذا ليس بمسلم، فقد ذكر ابن رجب في شرح البخاري: أن أهل العلم قد اختلفوا في المعنى الذي من أجله شرع الإبراد فقيل: هو لتمام الخشوع في الصلاة، فمن صلى في شدة الحر يكون خشوعه ليس كما لو كان في وقت الإبراد.

وقيل: لتنفس جهنم – كما ثبت في الصحيحين – وهذا أمر معنوي، فلما كان ذلك وقت تنفس جهنم ناسب تأخير العبادة – وهذا المعنى يبقي الأمر على ما تقدم.

والمعنى الثالث: كما ذكره الشافعي من أنه يكون للحيطان ظل يستظلون به.

والراجح هو شمول مشروعية الإبراد لهذه المعاني كلها لنفس جهنم ولأن الخشوع يكون ليس كما لو كان في ذلك الوقت وكذلك لوجود الحر الشديد في الطرقات، فلهذه المعاني كلها شرع الشارع هذا الحكم – وحينئذ-: يبقى الحكم على ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وأن الإبراد مشروع سواء صلوا متفرقين أو مجتمعين.

قال: (أو مع غيم لمن يصلي جماعة)

فإذا كان ثمت غيم فيشرع التأخير، وعللوا ذلك باحتمال المطر واحتمال الريح، فوجود الغيم مظنة ذلك فقالوا: يشرع تأخيرها إلى قبيل وقت العصر بحيث يمكث الناس بعد صلاة الظهر يسيراً فيؤذن العصر ثم يصلون العصر في أول وقتها، فيكون ذلك جمعاً صورياً.

وحينئذ: لا يكون هذا المعنى خاصاً لصلاة الظهر والعصر بل كذلك في المغرب والعشاء، فتؤخر المغرب إلى آخر وقتها وتصلى العشاء في أوله – فهذا جمع صوري.

والجمع الصوري جائز مطلقاً، ولكن هل هو مستحب في مثل هذه الحال؟

القول باستحبابه قول جيد وهو مذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ومذهب أبي حنيفة – خلافاً للشافعي ومالك – حيث قالوا: السنة أن تصلى في وقتها لعمومات الأدلة الشرعية.

ص: 8

لكن القول الأول حسن لإزالة ما يُخشى من المشقة، هذا إذا كانت الدواعي قوية في ذلك، أما إن لم تكن كذلك بأن كانت ضعيفة فحينئذ: يبقى على الأصل فتصلي الصلاة في وقتها.

إذن: إن كان هناك غيم والأمطار محتملة احتمالاً قوياً والريح كذلك فلإزالة هذه المشقة يستحب لهم أن يؤخروا الظهر إلى آخر وقتها ثم يصلون العصر في أول وقتها وكذلك المغرب والعشاء لإزالة المشقة المتقدمة.

أما إذا كان الغيم موجوداً لكن احتمال الأمطار والريح ونحو ذلك مما يلحق الناس المشقة في حضورها إلى المسجد ليس بتلك القوة، فإن الأصل هو البقاء على الأصل من استحباب الصلاة في أول وقتها.

ولكن هنا قال: (لمن يصلي جماعة) ، لأن المعنى هنا واضح وهو احتمال نزول المطر وشدة الريح حيث كانوا مجتمعين.

أما إذا كانـ[ـوا] متفرقين يصلون في بيوتهم فإن هذه العلة ليست بموجودة فحينئذ نبقى على الأصل.

ص: 9

ويستثنى من استحباب تأخير صلاة الظهر، في شدة الحر – يستثني من ذلك صلاة الجمعة، إذ الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع قال:(كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس)(1) فالثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع إذا زالت الشمس ولم يثبت عنه صلاتها مؤخرة، بل الثابت عن أنه كان يصليها إذا زالت الشمس حتى قال الصحابي:(ما كنا نقيل ولا نتغدى يوم الجمعة إلا بعد صلاة الجمعة)(2) كما ثبت في الصحيح: والقيلولة إنما تحتاج إليها في الغالب في الحر.

ثم إن المعاني الموجودة في صلاة الجمعة غير المتوفرة في صلاة الظهر فدعى إلى ترك هذا الحكم وهو التأخير حيث إن المستحب في صلاة الجمعة هو التبكير إليها، وحيث عجل الناس إليها ثم أخرت يكون في ذلك مشقة على المجتمعين.

ثم إنها يجتمع إليها الناس من أماكن بعيدة بخلاف صلاة الجماعة فإن الغالب أن يحضرها القريب.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس (860) بلفظ:" كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء "، وأخرجه البخاري (4168) في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية بلفظ:" كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف، وليس للحيطان ظل نستظل به ". لكن ما الجواب عن حديث أنس المتقدم في البخاري.

(2)

أخرجه البخاري من قول سهل رضي الله عنه في باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} من كتاب الجمعة (938) ، وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم، في باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة (859)، وقال أنس:" كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة " أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس (905) وفي باب القائلة بعد الجمعة (940) ، وعن سهل برقم (941) نحوه.

ص: 10

أما صلاة الجمعة فيأتيها الناس عن بعد فيشق عليهم أن تؤخر هذا التأخير الظاهر لذا استثنى أهل العلم من الحنابلة وغيرهم يوم الجمعة لهذه المعاني المتقدمة.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس السابع والخمسون

(يوم الأحد: 23 / 2 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ويليه وقت العصر إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال)

" ويليه ": أي يلي وقت الظهر وقت العصر بلا فاصل بينهما فليس بينهما فاصل، بل ينتهي وقت الظهر فيبدأ وقت العصر.

فإذا كان ظل الرجل كطوله تماماً فهذا هو نهاية وقت صلاة الظهر، ثم إذا زاد زيادة ولو كانت يسيرة جداً فهذا هو وقت صلاة العصر فليس بينهما اشتراك ولا فاصل، والمراد بالاشتراك أن يكون بينهما وقت مشترك بحيث يكون الوقت النهائي للظهر، والابتدائي لصلاة العصر.

ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عمرو: (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس)(1)

قال: (إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال)

تقدم ذكر هذا الاحتراز في المسألة السابقة أي قوله " بعد فيء الزوال ".

فإذا كان ظل الرجل مثليه، وليس فيء الزوال محسوباً في ذلك فقد خرج وقت العصر.

قالوا: ودليل ذلك ما رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال له:(الوقت بين هذين)(2) وقد صلى في اليوم الأول في أول الوقت وفي اليوم الثاني في آخره، وفيه أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وهذا هو مذهب الجمهور، وأن وقت العصر ينتهي إذا كان ظل الرجل مثليه، والمراد به وقت الجواز.

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

ص: 11

- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه اختارها طائفة من أصحابه واختار ذلك شيخ الإسلام - واستظهره صاحب الفروع –: أن وقت الجواز لصلاة العصر يمتد ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت أو احمرت فقد انتهى وقت العصر.

واستدلوا:

بحديث عبد الله بن عمرو وفيه: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس)(1) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وقتها ممتداً ما لم يحدث اصفرار في الشمس.

وكذلك: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل معنا هذين)(2) أي هذين اليومين، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله جبريل من الصلاة في اليوم الأول في أول الوقت، وفي اليوم الثاني في آخره وفيه:(ثم صلى العصر في اليوم الآخر والقائل يقول قد احمرت الشمس) أي كادت تحمر الشمس.

وهذا القول هو الراجح.

أما الجواب على الاستدلال بحديث جبريل.

فالجواب أن يقال: هو حديث مكي، وهذه أحاديث " أي حديث عبد الله بن عمرو وأبي موسى " أحاديث مدنية فهما متأخران عنه فيكونان ناسخين له، فوقت الجواز ما لم تصفر الشمس.

قال: (والضرورة إلى غروبها)

ما تقدم ذكره هو وقت الجواز وهو الوقت المختار فالمختار هو الذي تصلي فيه صلاة العصر فيكون فاعلها فيه قد أداها في وقتها الشرعي الذي لا يلحقه الإثم بفعلها فيه.

أما وقت الضرورة فهو ما بعد ذلك والصلاة تكون فيه أداءً لكنه يكون آثماً لصلاتها فيه إن لم يكن معذوراً.

لكن إذا غربت الشمس فصلاته تكون قضاءً لا أداءً.

إذن: كلاهما وقت للعصر لكن الأول وقت جواز، والثاني وقت ضرورة، فإذا اصفرت الشمس فقد خرج وقت الجواز، وبدأ وقت الضرورة فإذا غربت الشمس فقد خرج وقت صلاة العصر.

(1) أخرجه مسلم، وقد تقدم قريباً.

(2)

تقدم.

ص: 12

وتقدم أن من صلى الصلاة في وقت الضرورة بلا عذر فإنه يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)(1) رواه مسلم. وفي رواية لأبي داود: (فإذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني شيطان)(2)

فهذا الحديث يدل على إثم المؤخر لها إلى هذا الوقت فإن صلاها في هذا الوقت فإنه آثم إلا أن يكون معذوراً.

أما الدليل على صحة الصلاة في وقت الضرورة، فهو ما يثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)(3) .

ففيه أن من أدرك ركعة من العصر – وهذا يكون عند احمرار الشمس قبل المغرب – فقد أدرك العصر، لكنه يأثم للحديث المتقدم – إن لم يكن معذوراً، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق وذم صاحبه ومثل هذا يدل على أنه محرم.

وإنما يسمى هذا ضرورة؛ لأن هذا الوقت يتدارك به أهل الضرورة الصلاة، كأن يبلغ الصبي أو يسلم الكافر أو تطهر الحائض أو يستيقظ النائم ونحوهم من أرباب الضرورات، فيتداركون بذلك صلاة العصر فهو وقت ضرورة لهذا المعنى.

فإذن: صلاة العصر لها وقتان: وقت جواز ووقت ضرورة.

قال: (ويسن تعجيلها)

(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر (621) .

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر (413) .

(3)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة (579) وأخرجه مسلم (608) .

ص: 13

لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله " منزله " في أقصى المدينة والشمس حية)(1)، وثبت في مسلم عن أنس قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة)(2) فهذا يدل على أنه كان يصليها في أول وقتها.

وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي قال تعالى فيها: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (3) وهذا لعظم شأنها، فهي الصلاة الوسطى أي الصلاة الفضلى. فالوسطى مؤنث الأوسط أي الأفضل.

وقد ثبت ما يدل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ثبت ما يدل على ذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)(4) . وهذا مذهب أحمد وغيره من أهل الحديث، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، والأحاديث مستفيضة في هذا الباب.

قال: (ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة) .

فإذا غربت الشمس أي احتجبت وغاب قرصها جميعه فلم يبق منه شيء فلا يرى منه شيء فقد دخل وقت المغرب، لقوله صلى الله عليه وسلم:(وقت المغرب لم يغب الشفق)(5) .

قوله: (إلى مغيب الحمرة) هذا الوقت النهائي لها، والحمرة هي المعترضة في ناحية المغرب، فهذه الحمرة هي الشفق الأحمر، وقد قال صلى الله عليه وسلم (ما لم يغب الشفق) .

(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (13) وقت العصر رقم (547) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (40) استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها رقم 647.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد،باب استحباب التبكير بالعصر (621) .

(3)

سورة البقرة.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال صلاة الوسطى هي صلاة العصر (628) .

(5)

أخرجه مسلم، وقد تقدم.

ص: 14

فإذا غربت الشمس ظهرت هذه الحمرة، فإذا غابت فقد خرج وقت المغرب.

فأول وقت المغرب غروب الشمس وآخره غياب الشفق.

* وقت المغرب ينقسم إلى وقتين:

وقت جواز.

وقت كراهية لا تحريم، أي تأخير الصلاة إليه مكروه إلا لعذر أو حاجة.

فقد ثبت في سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم)(1) أي إلى انضمامها وظهورها ووضوحها. فإذا اشتبكت النجوم وظهرت في السماء، فهذا أوان وقت كراهية صلاة المغرب، أما قبل ذلك فهو وقت فضيلة.

إذن: وقت الفضيلة من غروب الشمس ما لم تشتبك النجوم فإذا اشتبكت فهو وقت كراهية ما لم يغب الشفق فيخرج بذلك وقت صلاة المغرب.

قال: (ويسن تعجيلها)

وهذا باتفاق أهل العلم.

وقد ثبت في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فننصرف وإن أحدنا ليبصر مواقع نبله)(2) أي في الأرض، أي ما زال الجو فيه وضوح فلم تشتد بعد الظلمة بحيث أنه إذا رمى بالنبل فإنه يبصر مواقع نبله.

وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان: (يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب)(3) إذن: السنة في المغرب أن تعجل.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت المغرب، وابن ماجه في باب وقت صلاة المغرب من كتاب الصلاة، والإمام أحمد في المسند 4 / 147، 5 / 417، 422. المغني [2 / 21] .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب (559) ، ومسلم في كتاب المساجد، باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس (637) .

(3)

أخرجه البخاري في الباب المتقدم (561) ، ومسلم (636) من حديث سلمة بن الأكوع.

ص: 15

وتعجيل العصر والمغرب مطلق، إلا صلاة المغرب يستثنى فيها ما تقدم من الاستثناء عند الغيم على المشهور في المذهب وأنها تؤخر في الغيم مع مظنة نزول المطر، فإنها تؤخر إلى قبيل غياب الشفق فتصلى حينئذ ثم يؤذن لصلاة العشاء فتصلى فيكون الجمع صورياً.

قال: (إلا ليلة جمع " مزدلفة " لمن قصدها محرماً)

أي لمن كان على هيئة الإحرام، أما من لم يكن كذلك فإنه ليس له ذلك. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع ليلة جمع كما صح ذلك في مسلم وغيره (1) .

ولكن استثناء كون قاصدها محرماً ليس على إطلاقه.

نعم من ذهب إليها هكذا فلا يشرع له ذلك. لكن حيث كان مصاحباً للمحرمين فالظاهر أنه يفعل ما يفعلون.

فمن كان مصاحباً لهم كمن كان قائماً بشأن بعض الناس في الحج فإنه يصلي كما يصلون وإن لم يكن محرماً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحبه مثل ذلك، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أحداً بخلاف ما فعل، ويثبت تبعاً ما [لا](2) يثبت استقلالاً.

إذن: يشرع تأخير صلاة المغرب ليلة جمع.

ولكن هل هذا إلى وقت صلاة العشاء أو هو جمع صوري؟

سيأتي تقرير هذا في باب الجمع.

إذن: المقصود: أن صلاة المغرب يستحب أن تعجل إلا حيث شرع الجمع.

فإذا شرع الجمع جمعاً صورياً فإنه يستحب تأخيرها إلى آخر وقتها.

وحيث لم نقل بالجمع الصوري وقلنا بأنه جمع حقيقي فحينئذٍ: نبقي على الأصل وهو استحباب تعجيلها مطلقاً لأنها إذا جمعت جمعاً حقيقياً فقد صليت في أول وقتها.

والحمد لله رب العالمين

الدرس الثامن والخمسون

(24 / 2 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ويليه وقت العشاء إلى الفجر الثاني وهو البياض المعترض)

(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

ليست في الأصل.

ص: 16

" ويليه " أي يلي وقت المغرب وهي نهاية المغرب وهو غياب الشفق الأحمر، فإذا غاب فقد وجبت صلاة العشاء.

إلى الفجر الثاني: وهو الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الجانب الشرقي.

فوقتها من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق وهذا الوقت شامل لوقتي الجواز والضرورة.

أما وقت الجواز فإنه في المشهور من المذهب - إلى ثلث الليل – لذا قال المؤلف بعد ذلك: " وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل ".

واستدلوا - على أن آخره إلى ثلث الليل – بحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني حيث أخر العشاء إلى ثلث الليل وقال له: (الصلاة بين هذين الوقتين)(1) .

- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها بعض أصحابه كالموفق والمجد ابن تيمية وغيرهم من فقهاء الحنابلة: إلى أن آخر وقت الجواز هو نصف الليل.

واستدلوا: بحديث عبد الله بن عمرو وفيه: (ووقت العشاء إلى نصف الليل)(2)

وبما ثبت في البخاري عن أنس قال: (أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل)(3) .

قالوا: فدل هذان الحديثان الأول من قوله والثاني من فعله – صلى الله عليه وسلم – على أن آخر وقت الجواز لصلاة العشاء هو نصف الليل.

وأما حديث جبريل فهو حديث مكي متقدم – وحينئذٍ – يرجح عليه الأحاديث المدنية.

وهذا هو الراجح - وأن وقت الجواز إلى نصف الليل – فإذا انتصف الليل فقد دخل وقت الضرورة فمن أخرها إلى ما بعد نصف الليل فقد أثم إن لم يكن معذوراً فهو وقت لأهل الضرورات.

فإن قيل:

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (25) وقت العشاء إلى نصف الليل (572) ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها (640) بلفظ:" أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل أو كاد.. "

ص: 17

فما الدليل على ذلك فإن: حديث عبد الله بن عمرو ظاهر في أن آخر وقتها هو نصف الليل، وأن ذلك آخر وقتها مطلقاً – وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية وأن نصف الليل هو آخر وقت العشاء مطلقاً.

أما جمهور أهل العلم فقد ذهبوا: إلى أن آخر وقتها على الإطلاق طلوع الفجر، ووقت الاختيار إما نصف الليل أو ثلثه على قولين، والراجح أنه إلى نصفه كما تقدم.

ودليل ذلك: - أي كونه إلى طلوع الفجر – ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى)(1) .

قالوا: فهذا ظاهر أن الصلوات متصلة بعضها ببعض، فليس بينهما فاصل من الوقت، بل لا ينتهي وقت صلاة إلا ويدخل وقت صلاة أخرى.

قالوا: وإنما يستثنى من ذلك ما دل الإجماع على استثنائه وهو صلاة الفجر، فنهاية وقتها على الإطلاق هو طلوع الشمس بإجماع أهل العلم.

أما العشاء فليس فيها إجماع بل جماهير العلماء على ما تقدم.

قالوا: ويدل على ذلك آثار الصحابة – كما صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في سنن البيهقي – أنهم أفتوا بالحائض تطهر قبل الفجر أنها تقضي الصلاة أي صلاة العشاء " (2) .

قالوا: ولو لم يكن هذا من وقت العشاء لم يلزمها ولا يلزم غيرها من المعذورين من أهل الضرورات – لم يلزمهم قضاء العشاء ولا قضاء الصلاة المجموعة إليها.

وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم وللآثار عن الصحابة.

فعلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم إلى نصف الليل هذا نهاية وقت الجواز، وما بعده فهو وقت ضرورة.

قال: (وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سهل)

(1) أخرجه مسلم في المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة (680) عن أبي قتادة رضي الله عنه، الشرح الممتع [2 / 108] .

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1 / 569] باب (33) قضاء الظهر والعصر بإدراك وقت العصر.. رقم (1815)(1816) .

ص: 18

أي إن كان في ذلك سهولة ولم يكن فيه مشقة على المأمومين أو بعضهم، فالمستحب أن تؤخر إلى نصف الليل أو ثلثه، والمذهب قال:" إلى ثلثه " لكون آخر وقت الجواز عندهم هو ثلث الليل، والراجح أن آخر وقت الجواز نصف الليل فعلى ذلك يستحب تأخيرها إلى نصف الليل ما لم يكن في ذلك مشقة.

فإن كان في ذلك مشقة على المأمومين أو بعضهم فيكره ذلك ودليل الكراهية: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)(1) . وهذا فيه مشقة.

ودليل استحباب تأخيرها:

ما ثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة)(2)

وثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)(3)

وثبت في سنن النسائي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)(4) .

لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً للمشقة على المأمومين أو بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها في أول وقتها.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.. (1828) .

(2)

تقدم حديث أبي برزة.

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة (167) وقال:" حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ".

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت العشاء الآخرة (422) دون قوله " وحاجة ذي الحاجة ". وأخرجه النسائي برقم 539، وابن ماجه 693. سنن أبي داود [1 / 293] . من حديث أبي سعيد الخدري

ص: 19

وقد ثبت عند الأربعة إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصليها – يعني العشاء – لسقوط القمر لثالثة)(1) وهذا يكون بعد غياب الشفق بوقت يسير قد لا يتجاوز ربع أو ثلث ساعة.

وقد ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (وأما العشاء فأحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجّل وإذا رآهم أبطؤوا أخّر)(2)

قال: (ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس)

أي من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس لحديث ابن عمرو: (ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس)(3) وهذا بإجماع أهل العلم.

قال: (وتعجيلها أفضل)

لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بغلس)(4) أي في شدة الظلام.

وثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال: (وأما الصبح فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل منها حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة)(5)

(1) أخرجه أبو داود في أول باب في وقت العشاء الآخرة، من كتاب الصلاة (419) ، وأخرجه الترمذي 165، والنسائي 529، الدارمي، سنن أبي داود [1 / 291] .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (18) وقت المغرب، وباب 21 وقت العشاء، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (40) استحباب التبكير بالصبح..، سبل السلام [1 / 227] . ولفظه في البخاري (560) عن جابر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة

والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم.. "، وفي مسلم (646) : " والعشاء أحياناً يؤخرها وأحياناً يعجلُ كان إذا رآهم قد اجتمعوا.. ".

(3)

تقدم.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب (560) ، ومسلم (646) .

(5)

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال (541) ، وباب وقت العصر (547) ، ومسلم 461.

ص: 20

أي يعرف الرجل جليسه القريب منه، وأما البعيد عنه فلا يعرفه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أطال بالصلاة، فدل على أنه كان يعجلها.

وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ما يعرفهن أحد من الغلس)(1) فهذه الأحاديث تدل على استحباب تعجيلها.

فإن قيل: فما هو الجواب على ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)(2) ؟

فالجواب: أنه يجب الجمع بينه وبين ما تقدم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى استحباب تأخيرها ومشروعيته لكن الجواب على ذلك أن يقال: الإسفار المذكور هنا هو بيقين دخول الفجر، كما يقال:" أسفرت المرأة " أي كشفت عن وجهها.

فالمقصود: أن ينكشف الوقت عن دخول وقت الفجر فيكون ذلك متيقناً غير مشكوك فيه.

أي: تيقنوا وتثبتوا فلا تحكموا على الفجر بدخول وقتها إلا بعد تثبت وتبين، والفجر هي أكثر الأوقات التي قد يحصل فيها اللبس، فاللبس فيها أكثر من غيرها وأظهر.

والحمد لله رب العالمين

الدرس التاسع والخمسون

(يوم الثلاثاء: 25 / 2 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (وتدرك الصلاة بالإحرام في وقتها) .

فإذا كبر للإحرام فخرج وقت الصلاة، فإنه يكون قد أدرك وقت الصلاة.

فمثلاً: كبر للإحرام فطلعت الشمس فإنه يكون قد أدرك صلاة الفجر.

فعلى ذلك: الصلاة تدرك بتكبيرة الإحرام.

(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر (578) ، ومسلم (645) .

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (8) في وقت الصبح (424) وأخرجه النسائي (549) وابن ماجه (672) والترمذي (154) وقال: حديث حسن صحيح، سنن أبي داود [1 / 294] . وصححه شيخ الإسلام في الفتاوى.

ص: 21

واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)(1) الحديث.

قالوا: فهذا يدل على أن أي إدراك للوقت فإنه يكون إدراكاً صحيحاً، كأن يدرك من الوقت قدر سجدة أو ركوع أو تكبيرة الإحرام فإنه يكون مدركاً للوقت.

- وذهب الإمام الشافعي وهو مذهب مالك: إلى أنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك ركعة تامة، بقيامها وركوعها وسجدتيها، فإذا أدرك ركعة فخرج الوقت فإنه يكون مدركاً للوقت.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)(2) الحديث.

قالوا: فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قيد الإدراك بإدراك ركعة، أي ركعة كاملة بتكبيرتها وركوعها وسجدتيها وقيامها. وهذا هو الراجح.

فإن قيل: فما الجواب عما استدل به الحنابلة؟

فالجواب: أن السجدة هي الركعة، لذا قال بعض الرواة كما في مسلم:(وإنما السجدة الركعة) فيكون هذا من باب المجاز في إطلاق الجزء واردة الكل، كقوله تعالى:{وقرآن الفجر} (3) أي صلاة الفجر، فيكون هذا من باب ذكر الجزء تنبيها إلى البقية.

بدليل: أن الإدراك لا يمكن أبداً أن يكون على هذه الهيئة لذا الحنابلة لا يقولون بظاهر الحديث، وإلا فظاهره أنه إذا كبر وركع وسجد فيكون قد أدرك السجدة فحينئذ يكون قد أدرك الصلاة، وهم يقولون بمجرد ما يدرك تكبيرة الإحرام، مع أنه ليس مدركاً للسجدة.

وكون الشارع يعلقها بالسجدة ليس له معنى إلا أن يكون المراد ما تقدم وهو أن المراد بالسجدة الركعة إذ تعليق ذلك بالسجود لا معنى له.

ثم إن الحديث يفسر بعضه بعضاً، فحديث أبي هريرة مفسر لحديث عائشة.

(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (609) .

(2)

تقدم.

(3)

سورة الإسراء.

ص: 22

فالراجح: أن من أدرك ركعة كاملة من الصلاة بركوعها وسجدتيها فقد أدرك الصلاة أداءً وإلا فإنه لم يدرك وتكون صلاته قضاء لا أداءً.

قال: (ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد أو خبر ثقة متيقن)

فلا يصلي قبل تيقن دخول الوقت أو غلبة الظن بذلك إذ الأصل أن الوقت لم يدخل فلا يجوز له أن يصلي إلا إذا تيقن دخوله أو غلب على ظنه؛ لأن الظن معمول به في الشريعة.

وأما مع الشك فلا يجوز له أن يصلي، لأن اليقين لا يزول بالشك، وبقاء الوقت للصلاة الأولى وعدم انتقاله إلى وقت الصلاة الجديدة هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بيقين أو غلبة ظن.

(إما باجتهاد) : أي بأن كان عارفاً بعلامات دخول الوقت، فيجتهد بأي نوع من أنواع الاجتهاد والتحري والنظر.

(أو خبر ثقة متيقن) : فيشترط أن يكون هذا الثقة متيقنا، كأن يقول:" رأيت الشمس طالعة أو رأيتها قد غربت " قالوا: لأنه إن لم يكن متيقناً أي بأن يخبر بغلبة ظن، فإن هذا المكلف عليه أن يتعرف على ذلك بنفسه، بأن يجتهد بنفسه، لأنه عارف بعلامات الوقت فلم يجز له تقليد غيره مع إمكان اجتهاده بنفسه.

لكن إن كان المخبر قد بني خبره على يقين فيجب أن يقبل؛ لأنه خبر ديني فيقبل من واحد كالرواية وكالشهادة بدخول رمضان فإنها تثبت بشاهد واحد.

أما إذا كان يقول: (أظن أو تبين لي) ونحوها مما لا يكون جزماً ولا يقينا، فلا يجوز أن يقلده لأنه يمكنه أن يجتهد بنفسه في معرفة الوقت.

لكن إن لم يكن عارفاً بعلامات الوقت فعليه أن يقلد ذلك المجتهد وهذا الطريق الثالث لمعرفة الوقت.

فهنا ثلاث طرق لمعرفة الوقت:

1-

الاجتهاد 2- خبر الثقة المتيقن 3- خبر الثقة المجتهد لمقلد، لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بهذا الطريق فيكون من سؤال أهل الذكر.

إذن: هناك طريق ثالث لكنها خاصة بالمقلد وهي أن يقلد من عنده معرفة بهذا الباب.

ص: 23

فإن لم يكن هناك من يقلده وهو غير عارف بالوقت وعلاماته كأن يكون أعمى أو رجل لا يعرف أدوات معرفة الوقت فإنه يصلي على حسب حاله – هذا هو الراجح –.

لكن هل يعيد؟

المشهور في مذهب الحنابلة: أنه يعيد سواء أخطأ أم أصاب.

وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ.

وهناك قول ثالث: وأنه لا يعيد مطلقاً. وهذا هو الراجح.

فالراجح: أنه لا يعيد مطلقاً لأنه صلى على حسب ما أمر به، فقد قال تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فصلى فلا يجب عليه الإعادة أخطأ أم أصاب، لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد صلى الصلاة على وجه هو قادر عليه، عاجز عن غيره فنقص شيء من شروطها وهو الوقت لسبب العجز عنه ما لم يكن هناك ما يجب عليه، وقد اتقى الله ما استطاع.

إذن: عندنا قولان في المذهب:

المشهور: أن يعيد مطلقاً.

وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ.

والذي يظهر أنه لا يعيد مطلقاً سواء أخطأ أم أصاب؛ لأنه قد أمر بأن يصلي الصلاة، ويتقي الله ما استطاع، فاتقى الله ما استطاع وصلى الصلاة وصحت وقبلت منه لأنه فعل ما وجب عليه وليس هناك دليل يدل على بطلانها وقد فعل ما أمر به من الصلاة، ومن صلى صلاة على وجه شرعي فإن الأدلة الشرعية تدل على أنه لا يؤمر بإعادتها مرة أخرى وقد صلاها على الهيئة الواجبة.

قال: (فإن أحرم باجتهاد فبان قبله فنفل)

رجل صلى الظهر – مثلاً – عن اجتهاد فثبت له بعد الصلاة أنه قد صلاها قبل وقتها فحينئذ: تكون له نفل.

قالوا: لأن الصلاة، لم تجب بعد فوجب أن يصليها بعد دخول الوقت.

وعن الإمام مالك: تكون له فرضاً وذلك: لأنه قد صلى على الوجه المأمور به، وليس هناك دليل يوجب الإعادة – وهو قول قوي -.

فالظاهر: أنها تقع له فرضاً، لأنه قد صلى بعد اجتهاد ونظر فكانت الصلاة على هذه الهيئة مأموراً بها مطلوبة منه على هذا الوجه، وكونها تنتقل إلى نفل هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل.

ص: 24

قال: (وإلا ففرض)

فإذا كان الاجتهاد موافقاً للصواب فتبين له أنه قد صلاها في وقتها فإنها تكون فرضاً وهذا لا إشكال فيه، فإنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع، وأصاب الحق وليس هناك دليل يدل على الإعادة وقد فعل ما أمر به.

ومثله ينبغي أن يكون مما تقدم: المقلد الذي صلى على حسب حاله فبان صواباً، فإنه لا معنى للأمر بالإعادة.

قال: (وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة ثم زال تكليفه أو حاضت ثم كلف وطهرت قضوها)

بمعنى: أذن المؤذن ثم بعد مرور قدر تكبيرة الإحرام حدث مانع يمنع من الصلاة، كأن يجن أو تحيض امرأة.

لأنهم قد أدركوا منها قدراً تجب به الصلاة، فالمؤذن قد أذن فأدركوا من الوقت قدر تكبيرة الإحرام لأن المؤذن لا يؤذن إلا عند دخول الوقت.

فإذن: إذا مر قدر تكبيرة الإحرام بعد دخول الوقت ثم حصل مانع فإن الصلاة تتعلق بذمتها فيجب عليها القضاء – هذا مذهب الحنابلة –.

- وذهب الشافعية: إلى أن الصلاة لا تجب حتى يدرك من وقتها ما يتسع للصلاة.

فمثلاً: صلاة الظهر بأن تدرك وقتاً لأربع ركعات بأخف ما يمكن أي بالقدر المجزئ في الصلاة.

وهل يشترط لإيجاب القضاء عليها أن تدرك زمناً للطهارة أم لا؟

قولان للشافعية:

القول الأول: أنه يشترط أن يكون الوقت متسعاً للطهارة لأنها لا يمكن أن تفعل العبادة إلا بطهارة، ولا تجب الطهارة إلا بدخول وقت الصلاة.

القول الثاني: - وهو أضعف – أنه لا يشترط أن يتسع الوقت للطهارة، لأنه يمكن أن تفعل الطهارة قبل دخول وقت الصلاة.

لكن هذا ضعيف كما تقدم؛ لأن الطهارة إنما تجب للصلاة عند دخول وقتها.

إذن: الراجح في مذهب الشافعية أن الحائض ونحوها إذا أدركوا من وقت الصلاة ما يتسع لها بأخف ما يمكن وما يتسع للطهارة فإنه يتعلق الصلاة بذمتهم.

فإن أدركوا أقل منه فلا يتعلق بذمتهم.

قالوا: لأنها أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تفعل العبادة فيه فلم يجب عليها القضاء.

ص: 25

- وذهب الإمام مالك: إلى أنه لا يلزم القضاء إلا إذا تضايق الوقت ولم يصلوا.

بمعنى: الحائض أذن مؤذن الظهر فلم تصل حتى تضايق الوقت، بأن بقي ما لا يتسع للصلاة وكانت مفرطة، وكانت الصلاة قد خرج وقتها في الحقيقة لأنه بقي ما لا يتسع لها.

- وإذا قلنا أن الوقت يدرك بإدراك ركعة كما تقدم – فإذا بقي ما لا يتسع لذلك. وهذا هو الراجح.

فإذن: لا تلزمهم إلا إذا تضايق الوقت عليهما – هذا على القول بقضاء الصلاة لمن تركها عمداً – والراجح: أن من تركها عمداً فإنه لا يقضي - كما هو اختيار شيخ الإسلام – في هذه المسألة.

إذن: من أدرك الوقت فلم يصل فإنه لا يقضي مطلقاً سواء تضايق الوقت أم لا.

فإن لم يتضايق؛ فلأنه غير مفرط فيجوز له التأخير.

فالحائض: إذا أخرت الصلاة ساعة أو ساعتين بعد دخول الوقت، وكان الوقت مثلاً ثلاث ساعات فأخرتها إلى وقت يمكنها أن تصلي فيه فهنا لا تكون مفرطة في التأخير، لأنها قد فعلت ما يجوز لها فلم تكن مفرطة ولم يكن في إيجاب القضاء عليها معنى، فإنها قد حدث فيها المانع بعد أن أخرت الصلاة تأخيراً جائزاً لها وليس ثمت أمر جديد بالقضاء، وكوننا نأمرها بالقضاء هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل، والأصل عدم إيجاب القضاء.

* ثم ذكر شيخ الإسلام مسألة النائم والناسي وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء مع أنهما غير مفرطين وذكر أن هذا ليس بقضاء، بل ذلك وقتهما، فالوقت لهما عند استيقاظ النائم وتذكر الناسي، لقوله صلى الله عليه وسلم:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)(1) .

قالوا: هذا هو وقتها في حق النائم والناسي.

ثم إنه لو لم يكن ذلك وقتهما، فقد دل الشرع على إيجاب القضاء عليهم ولا دليل على المسألة المتقدمة.

(1) تقدم.

ص: 26

فالراجح: ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأبي حنيفة من أن القضاء لا يجب لأن هذا المكلف قد أخَّر الصلاة تأخيراً جائزاً غير مفرط في ذلك ثم حدث المانع فلم يجب عليه القضاء، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولا أمر جديد في ذلك.

وعلى قول المذهب:

إذا أدرك قدر تكبيرة الإحرام من وقت صلاة الظهر ثم حاضت المرأة، فهل يجب عليها أن تصلي الظهر والعصر إذا طهرت أم لا يجب عليها إلا الظهر؟

روايتان في مذهب أحمد:

الرواية الأولى: أن الصلاة الثانية لا يجب قضاؤها؛ لأنهم لم يدركوا من وقتها شيئاً ولا من وقت من يتبعها.

الرواية الثانية: أن الصلاة الثانية يجب قضاؤها.

وهذا القول هو الراجح – كما سيأتي ولما تقدم – من قضاء عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في المرأة تطهر قبل الفجر بأنها تصلي المغرب والعشاء، وهذا ما يقول به الحنابلة في المشهور عندهم، لكنهم في هذه المسألة لم يقولوا بها، لأنه عندما يدرك وقت الصلاة الثانية فإن الأولى تبع لها، أما هنا فقد أدرك الأولى ولم يدرك من الثانية شيئاً.

لكن هذا في الحقيقة ليس بمؤثر، لأن مناط الحكم فيمن طرأ عليهم عدم التكليف، أو غير المكلف ثم طرأ عليه التكليف أنهم إذا حدث ذلك منهم قبيل خروج وقت الصلاة الثانية فإن الآثار الواردة عن الصحابة في إيجاب الصلاة الأولى عليهم لمعنى متوفر في هذه المسألة وهي:

أن هذا الوقت وقت لهما جميعاً عند العذر، فإن وقت الأولى وقت للثانية عند العذر، لهذا فإن من أدرك وقتاً من الثانية فيجب عليه أن يصلي الأولى، لأن الظهر والعصر وقتهما واحد عند العذر وكذلك المغرب والعشاء، فوقتهما واحد عند العذر، لذا جاز الجمع فيما شرعه الشارع من ذلك، وفي الحقيقة لا فرق - حينئذ - بين وقت الأولى ووقت الثانية، لأن الوقت واحد للجميع.

ص: 27

فالراجح، ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية غير المشهور عند الحنابلة وهي: - وهذا على ترجيح المذهب وإلا فقد تقدم أن الصلاة لا تجب – لكن هذا للترجيح بين الروايتين: أن من أدرك شيئاً من وقت الأولى فإن الصلاة الثانية أيضاً تجب عليه؛ لأن وقتهما في العذر واحد، وقد تقدمت آثار الصحابة فيمن أدرك شيئاً من وقت الثانية فكذلك من أدرك شيئاً من وقت الأولى لا فرق بين المسألتين لأن وقتهما واحد عند العذر.

قال: (ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته وما يجمع إليها قبلها)

بمعنى: إنسان غير مكلف لم يبلغ فبلغ قبل خروج وقت الصلاة. أو امرأة حائض فطهرت قبل خروج وقت الصلاة فإن الصلاة تلزم.

ويلزم ذلك بإدراك تكبيرة الإحرام كما تقدم بمعنى: قبيل أن يؤذن الفجر بقدر تكبيرة الإحرام طهرت المرأة فيجب عليها أن تصلي العشاء والمغرب لأنها أدركت شيئاً من الوقت فوجبت عليها الصلاتين وتعلقت الصلاة بذمتها.

- وذهب الإمام مالك إلى قول آخر هو القول الصحيح في هذه المسألة وهو: أن الصلاة لا تلزم إلا إذا أدرك من وقتها ما يثبت به الإدراك.

وقد تقدم ما يثبت به الإدراك في مذهب مالك وهو مذهب الشافعي وهو إدراك ركعة كاملة، فإذا أدركت الحائض من وقت صلاة العشاء ركعة كاملة بركوعها وسجودها، فإنها تلزمها صلاة العشاء.

وإذا أدركت أربع ركعات يعني: ثلاث ركعات للمغرب وركعة للعشاء، فإنه يجب عليها أن تصلي المغرب والعشاء لأنها أدركت من وقت العشاء ما يتسع لصلاة المغرب والعشاء جميعاً.

وذلك يكون إما بإدراك ركعة في إدراك صلاة العشاء أو إدراك أربع ركعات في صلاة المغرب والعشاء جميعاً.

ولابد – كذلك – وأن يتسع الوقت للطهارة فلو أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تغتسل وتصلي فإنه لا يجب عليها القضاء؛ لأنها لو اغتسلت يخرج الوقت أو يبقى وقت لا يكفي لإدراك ركعة.

ص: 28

إذن: إذا أدركت من الوقت ما يكفيها للطهارة وإدراك ركعة فتلزمها صلاة العشاء، وإذا أدركت ما يكفيها للطهارة وأربع ركعات فإن المغرب والعشاء تلزمانها.

مثال آخر: امرأة طهرت قبل أذان المغرب، فهل يجب أن تصلي الظهر والعصر؟

يجب عليها إن أدركت من الوقت ما يتسع للطهارة وصلاة أربع [ركعات](1) وركعة، لأنها بالأربع ركعات قد صلت الظهر، وبالركعة أدركت العصر.

فإن أدركت أقل من ذلك فلا يجب عليها إلا العصر.

فإن أدركت أقل من ذلك بحيث لا تتمكن من إدراك ركعة من العصر مع الطهارة، فلا يجب عليها شيء من ذلك.

وهذا القول هو الراجح لما تقدم، فقد تقدم أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة كاملة، وهذه المرأة الحائض قد أدركت من الوقت ما لا يكفيها لإدراك ركعة كاملة، والطهارة واجب عليها، فلم تتمكن من الطهارة وإدراك الركعة إلا بعد خروج الوقت فأدركت من الوقت ما لا يمكن أن تصلي فيه فلم تكن الصلاة واجبة عليها؛ لأنها عاجزة عن الصلاة، لأنها لم تدرك من الوقت ما تتمكن به من الطهارة والصلاة الواجبة عليها.

قال: (وما يجمع إليها قبلها)

ودليله: ما تقدم: من أن وقتها وقت واحد للمعذورين، ولأن ذلك قد صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس كما في البيهقي (2) وغيره ولا يعلم لهما مخالف فكان حجة.

والحمد لله رب العالمين

الدرس الستون

(يوم الأربعاء: 26 / 2 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتبة]

في هذه الجملة ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: وجوب قضاء الفوائت.

المسألة الثانية: وجوبه على الفور.

المسألة الثالثة: وجوبه على الترتيب.

(1) في الأصل تكرار " أربع ".

(2)

تقدم.

ص: 29

أما المسألة الأولى: وهي وجوب قضاء الفوائت، دليلها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إذا ذلك)(1) . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لصلاتها عند ذكرها، وأمره للوجوب.

وظاهر الحديث أنه واجب على المعذورين بنوم أو نسيان، بدليل قوله:(لا كفارة لها إلا ذلك) ، ومعلوم أن من تركها غير معذور فإن كفارتها ولاشك التوبة إلى الله، ولا قائل بأنه يكتفى بقضائها فحسب، بل يجب أن يتوب إلى الله من تفريطه في إضاعتها عن وقتها.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط)(2) ، فالنوم عذر، فحيث كان معذوراً في فواتها فعليه القضاء.

أما إذا كان مفرطاً فيه وأداه ذلك إلى فوات الصلاة فإنه لا يكون معذوراً.

[ولكن](3) المذهب أن ذلك بمفروض مطلقاً، وأن المعذور وغير المعذور يجب عليهما قضاء الفوائت، فمن ترك الصلاة عامداً مفرطاً فيجب عليه قضاؤها وعليه أن يضم إلى ذلك التوبة. وهذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه النووي إجماعاً.

لكن ذهب بعض أهل العلم كابن حزم وابن تيمية وابن القيم: إلى أن القضاء ليس بمشروع.

(1) أخرجه البخاري (1 / 157) ومسلم (2 / 142) ، وأبو داود (442) ، وكذا أبو عوانة (2 / 260، 261) والنسائي (1 /100) والترمذي (1 / 335) وغيرهم، الإرواء [1 / 291] رقم 263.

(2)

تقدم.

(3)

في الأصل: ولفظة.

ص: 30

وحكاه ابن حزم عن عمر وابن عمر وسلمان وأنس بن مالك وابن مسعود ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن العزيز، قال:" ولا يعلم لهم مخالف "(1) .

وعمدة استدلالهم: أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد به، وليس عندنا أمر جديد بقضاء الفائتة غير المعذور صاحبها، وأما الحديث الوارد المتقدم فإنه في المعذورين.

وكون الجمهور يقيسون غير المعذور على المعذور هذا قياس ظاهر البطلان؛ لأن هذا عاص لله بفوات الصلاة، وهذا غير عاص له، بل قد وقع ذلك منه على وجه يعذر به، فكيف يقاس عليه من أخرها متعمداً.

وهذا القول هو الراجح: وأن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يشرع له القضاء،بل يتوب إلى الله ويكثر من النوافل، فإن الله يقول يوم القيامة:(انظروا هل لعبدي من تطوع فأتموا به فريضته)(2) كما في المسند وغيره، فلا يقضيها إذاً؛ لأنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مردوداً على صاحبه، ولم يرد أمر جديد بالقضاء.

المسألة الثانية: فهي قوله " فوراً ": وأن الفوائت يجب قضاؤها فوراً. وهذا مذهب الجمهور. ودليلهم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليصلها إذا ذكرها) ، وظاهره أنه يصليها على وجه الفورية لا على التراخي، فقد أمره بالصلاة بمجرد الذكر، فمتى زال عنه النسيان أو استيقظ من النوم فيجب عليه أن يصلي الصلاة فوراً.

(1) المحلى [2 / 238] قال رحمه الله: " وممن قال بقولنا في هذا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وسليمان – كذا، ولعل الصواب: سلمان - وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، ومحمد بن سيرين، ومطرف بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ".

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (16731)(23590) ، وعن تميم الداري (17079)(17073) .

ص: 31

وذهب بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعية: إلى أنه لا يجب على الفور، بل يسن أن يكون فوراً ولا يجب، فتبقى في ذمته، فمتى صلاها أجزأه ذلك، لكن المستحب أن يصليها فوراً.

واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح، ،فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا خير، ارتحلوا، فارتحل ثم نزل فتوضأ فنودي بالصلاة، فصلى بالناس)(1) .

وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في نومه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر عن صلاة الغداة، قال:(ليأخذ كل رجل فيكم برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة)(2) .

قالوا: فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الفجر وقد فاتته إلا بعد أن ارتحل ثم نزل.وهذا على وجه التراخي.

والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول.

والجواب على استدلال أهل القول الثاني: أن يقال: إن هذا الحديث قد وقع فيه التأخير لمصلحة الصلاة، فإن هذا موضع غفلة وحضر فيه الشيطان، فمن مصلحة الصلاة وتمامها وتمام خشوعها أن ينتقل لموضع آخر، فكان هذا لمصلحة الصلاة.

ومثله لو أخرها يسيراً لانتظار اجتماع الناس ليصلوها جماعة، فإذا احتاج هذا لوقت ليجتمع الناس عليها بالوضوء ونحوه، فيشرع ذلك؛ لأن هذا من مصلحتها.

إذاً: الراجح مذهب الجمهور، وهو وجوب ذلك على الفورية، ولكن تأخيرها لمصلحتها مشروع، كأن يكون ذلك لإقامتها جماعة أو للانتقال عن هذا الموضع الذي وقعت فيه الغفلة وحضر فيه الشيطان ونحو ذلك.

(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم (344) ، ومسلم (682) .

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.. (680) . ولم أجده من حديث أبي هريرة في فهرس البخاري، طبعة بيت الأفكار.

ص: 32

المسألة الثالثة: وهي وجوبها على الترتيب:

والمذهب: أنها ولو كثرت فإنه يجب أن يقضيها مرتبة، أي عن اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، وهكذا، وهذا وإن كان لا يتصور في مسألة النسيان والنوم، لكنه متصور فيمن تركها عمداً، فمن ترك الصلاة عمداً شهراً، فمذهب الجمهور أن عليه القضاء.

وصورة القضاء: أن يقضي الصلاة مرتبات وأن يقضيها مرتبة على الأيام، أي أيام الشهر، أولاً فأول حتى ينتهي ذلك.

فالمشهور في المذهب وجوب الترتيب، وهو شرط لصحتها، فلو لم يرتب لم تصح الصلاة التي قد اختل الترتيب فيها، فمثلاً: لو صلى العصر ثم الظهر، فصلاة العصر باطلة، فيجب عليه أن يعيدها بعد الظهر.

ص: 33

واستدلوا بالأحاديث الواردة في ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث غزوة الخندق. فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب لهويِّ من بالليل كفينا، وذلك قوله تعالى:{وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً} (1) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمر فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمر فأقام المغرب فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل الله قوله تعالى في صلاة الخوف:{فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (2) ، والحديث رواه النسائي (3) إلا أنه ليس فيه ذكر المغرب، والحديث صحيح، وتقدم حديث ابن مسعود في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء مرتبات (4) .

قالوا: فهذه أحاديث تدل على فرضية الترتيب بين الفوائت. قالوا: ومثل ذلك الترتيب بين الحاضرة والفائتة، فرجل عليه فائتة وهي صلاة العصر، وحاضرة وهي صلاة المغرب، فيجب عليه أن يرتب بين الفائتة والحاضرة.

(1) سورة الأحزاب.

(2)

سورة النساء.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (11216) ، (11485) ، (11667) .

(4)

أخرجه النسائي في كتاب المواقيت باب (55) كيف يقضي الفائت من.. (622) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهن يبدأ من أبواب الصلاة، والبيهقي. المغني [2 / 336] .

ص: 34

واستدلوا بما ثبت في الصحيحن أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: " ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(والله ما صليتها، فتوضأ وتوضأنا ثم صلى بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب)(1) .

وذهب الشافعية: إلى أنه ليس بفرض بل مستحب، قالوا: لأن ما ذكرتموه فعل، والفعل لا يدل على الوجوب.

وهذا القول قول – في الحقيقة – قوي ظاهر؛ ذلك لأن الصلاة أوجبها الله تعالى مرتبة حيث تصلى في وقتها، فالترتيب مستحق الوقت، فيسقط بسقوطه، فمادام الوقت سقط فالترتيب تبع له،فيسقط بسقوطه. هذا هو الذي يظهر ويتبين، ونحتاج إلى دليل على فرضية الترتيب ولا دليل يدل على ذلك.

والترتيب فرض الوقت وقد سقط الوقت فيسقط بسقوطه، ومن صلى الصلاة فقد فعل ما أمر به، وكوننا نفرض عليه الترتيب، هذا يحتاج إلى دليل، فإن الوقت قد سقط وكوننا نوجب عليه الترتيب وقد أدى الصلاة على ما أمره بها الشارع، فإن ذلك محل نظر ظاهر. إذ لا دليل على ذلك.

إذاً: الراجح أن الترتيب بين الفوائت وبين الحاضرة والفائتة إنما هو مستحب. وهو مذهب الشافعية.

وهذه المسألة التي سيأتي ذكرها مبنية على المشهور في المذهب، وهو مذهب الجمهور من وجوب الترتيب بين الفائتة والحاضرة وبين الفوائت.

قال: [ويسقط الترتيب بنسيانه]

فلو صلى غير مرتب ناسياً فالصلاة تصح؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)(2)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما صلينا، (641) ، ومسلم (631) .

(2)

قال في الأربعين: " حديث حسن ".

أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق (2043) قال رحمه الله: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (7 / 356) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله: أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير.

أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا: نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم، فذكره، وقال: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال: أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال: سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".

ص: 35

وهذا محل نظر، فإن الترتيب فرض على قول الجمهور، وحيث كان فرضاً فلا يسقط بالنسيان، فغاية النسيان أن يسقط الإثم والحرج، وأما أن يسقط الترتيب فلا.

لذا ذهب الإمام مالك: إلى أنه لا يسقط بالنسيان، فلو صلى غير مرتب ناسياً فصلاته غير صحيحة.

وعلى القول الراجح فأصل الترتيب ليس بواجب.

قال: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة]

إذاً: هذا فيما إذا كان بين فائتة وحاضرة.

مثال: رجل استيقظ من النوم أثناء وقت صلاة العصر وقد نام عن الظهر، [فـ](1) يجب عليه الترتيب إلا إذا خشي إن صلى الظهر قبل العصر أن تصفر الشمس وإذا اصفرت فقد خرج وقت الجواز.

إذاً: إذا خشي فوات وقت الجواز للحاضرة فيجب عليه أن يصليها قبل الفائتة.

قالوا: لأن الحاضرة آكد، وهذا هو وقتها الذي هي مختصة به، وتأخيرها عن وقت الجواز محرم، فحينئذ يقدم الحاضرة فيصليها في وقتها الجائز ثم يصلي الفائتة.

فإن كان يخشى فوات الوقت كله، فحينئذ يقدم ولا شك الحاضرة؛ لأنه متى لم يصلها اجتمع عليه فائتتان، فتكون الحاضرة فائتة أيضا، لأنه يصلي الفائتة في وقتها، فتكون الحاضرة فائتة، فيجتمع عليه فائتتان.

ويسقط الترتيب أيضاً إذا تذكر الفائتة بعد الحاضرة، بمعنى: رجل لما صلى العصر وانتهى منها تذكر أنه لم يصل العصر (2) فيسقط عند جمهور العلماء الترتيب، فيصلي الفائتة بعد صلاته الحاضرة، وهذا يدل عليه الحديث المتقدم:(فليصلها إذا ذكرها) ، وهو لم يتذكرها إلا بعد الحاضرة، فقد تذكرها حيث لا يمكن الترتيب فيسقط.

أما المسألة التي فيها البحث والنظر هي: ما إذا تذكر أثناء الصلاة الحاضرة، بمعنى: رجل كبر للعصر واشتغل بها سواء كان إماماً أو مأموماً أو انفرد، فتذكر أنه لم يصل الظهر، فما الحكم؟

(1) في الأصل: فهل.

(2)

كذا في الأصل، ولعل الصواب: الظهر.

ص: 36

قالوا: يتم صلاته مع الإمام لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (1) ثم يصلي الفائتة ثم يعيد الحاضرة.

هذا مذهب جمهور أهل العلم.

واستدلوا بما رواه أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق صلى المغرب فقال لأصحابه: (هل أحد منكم يذكر أنا صلينا العصر قالوا: ما صليتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ثم المغرب)(2) ، والحديث ضعيف، فيه ابن لهيعة، ولا يحتج بحديثه.

واستدلوا بما رواه أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام ثم ليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام)(3) . والحديث ليس بصحيح مرفوعاً. وإنما هو ثابت عن ابن عمر موقوفاً كما في الموطأ، لذا صحح وقفه الدارقطني والبيهقي وأبو زرعة والنسائي. فالصحيح أنه من قول ابن عمر كما صح في الموطأ.

وعن الإمام أحمد: أنه يقطع صلاته.

وهذا لو قلنا بوجوب الترتيب، وأنه يجب عليه أن يعيد الصلاة لكان هذا أوجه، وذلك لأنه عمل ليس بمقبول وليس بصحيح، فإبطاله لا حرج فيه. أو أن ينقله إلى نفل مطلق، فيقلب نيته من فرض إلى نفل مطلق، وهذا أظهر ليبقى أصل الصلاة.

وذهب الشافعي: إلى أنه لا يعيد، وهذا بناء على أن الترتيب ليس بواجب، وهو مذهب ابن عباس كما حكاه عنه شيخ الإسلام، ورجّح هذا القول مع أنه من القائلين بوجوب الترتيب.

(1) سورة محمد 33.

(2)

المسند 4 / 106. المغني [2 / 336] .

(3)

أخرجه الإمام مالك في باب العمل في جامع الصلاة من كتاب قصر الصلاة في السفر، والدارقطني في باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى من كتاب الصلاة، والبيهقي في الباب نفسه. المغني [2 / 337] .

ص: 37

وترجيحه مبني على تصحيحه صلاته الأولى؛ لأنها صلاة قد أمر بها وأمر بإتمامها، والعبد لا يؤمر بالصلاة مرتين، وقد أداها، فقد أدى الصلاة أولاً، وأمر بإتمامها، فليس من الشرع أن يؤمر بالصلاة مرة أخرى.

إذاً: الراجح أنه إذا تذكر في أثناء الصلاة، صلاة فائتة فإنه يتم الحاضرة ثم يصلي بعد ذلك المنسية سواء قلنا بوجوب الترتيب أم لم نقل بوجوبه.

أما إذا لم نقل بوجوبه فهذا واضح؛ لأن الترتيب ليس بواجب وغاية الأمر أن يكون قد ترك الاستحباب. وأما إن قلنا بوجوب الترتيب، فكما قال شيخ الإسلام: قد أمرناه بالصلاة وأمرناه بإتمامها، فهي صلاة شرعية قد أمر بها فكيف يؤمر بها مرة أخرى.

مسألة:

إذا كثرت عليه الفوائت، فما الحكم؟

الجواب: يجب أن يقضيها كلها كما تقدم، ويجب كذلك أن يكون هذا على الفور، كما تقدم.

لكن بشرط وهو ألا يكون عليه مشقة في بدنه أو ماله، فإن كانت عليه مشقة وضرر في بدنه أو ماله فلا يجب عليه أن يشتغل بها على هذه الصورة من الفورية، بل يصلي بحيث لا يحلقه الضرر ببدنه وماله.

ببدنه: بتعب أو إعياء أو مرض ونحوه.

وبماله: بضياع شيء من ماله أو بقطع رزقه بالعمل ونحو ذلك، فإنه لا يؤمر بها متواصلة فورية، بل يؤمر بها على الوجه الذي لا يلحقه الضرر، فيصلي بقدر ما لا يلحقه الضرر ثم يقوم بمصالح نفسه ثم يعود إلى إتمام ما فاته، وهكذا.

هل يشرع له أن يقضي نوافل هذه الصلوات أم لا؟

كرجل فاتته خمس صلوات، فهل يشرع أن يقضي نوافلها؟

الظاهر: كما هو المشهور في المذهب التفصيل في هذا: فإن كانت الصلوات كثيرة فإنه لا يقال باستحباب قضاء النوافل، وإن كانت قليلة يسيرة فيشرع له ذلك.

أما الدليل على عدم استحباب قضاء النوافل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى الفوائت يوم الخندق وكانت أربعاً لم يصل نوافلها.

ص: 38

وأما إذا كانت يسيرة فإنه يصلي نوافلها، فدليله: حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: " فدعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة "(1) . والسجدتان هما سنة الفجر.

وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ولم أر قولاً يخالف هذا القول.

مسألة:

إذا نسي صلاة من يوم لا بعينها؟

كأن يقول: أذكر أنه في يوم الجمعة تركت صلاة ناسياً ولا أذكر هذه الصلاة أي صلوات اليوم، فما الحكم؟

قالوا: يصلي الخمس صلوات كلها؛ لأن التعيين فرض، والصلاة يجب أن يعينها أظهرا أم عصراً، ولا يتم ذلك إلا بإعادتها كلها، فلا يتم التعيين إلا بذلك، حيث إن الاحتمال يبقى ولا يكون التعيين إلا بإعادتها كلها. وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

مسألة:

إذا ما ترك الترتيب بين الفوائت جاهلاً؟

المذهب: أن الترتيب لا يسقطه الجهل.

والقول الثاني: أن الترتيب يسقطه الجهل، كما هو مذهب شيخ الإسلام، فإن الفرائض لا تجب إلا بعد العلم بها؛ لقوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (2) .

وهذا القول هو الراجح، وأن الجهل يسقط الواجبات، فلا تجب عليه إلا الصلاة الحاضرة كما تقدم، وأما الفوائت وما فعله سابقاً فلا تجب عليه. فالفرائض لا تجب إلا بعد العلم، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام، أن الواجبات [لا تجب](3) إلا بعد العلم بها.

ومثل هذه المسألة: من ترك صلوات جاهلاً بها، لكونه حديث عهد بإسلام، فكذلك:

المذهب: أنه يجب عليه القضاء.

والصحيح أنه لا قضاء عليه؛ لأن الواجبات لا تجب إلا بعد العلم بها.

مسألة:

إذا خشي فوات الجماعة بصلاة الفائتة؟

رجل نام عن صلاة العصر حتى أذن المغرب، فقال: أخشى إن اشتغلت بالفائتة أن تفوتني الجماعة، فما الحكم؟

قولان في المذهب:

(1) أخرجه مسلم، وقد تقدم.

(2)

سورة الإسراء.

(3)

ليست في الأصل.

ص: 39

الأول: إن الترتيب يسقط؛ لأنه قد اجتمع عليه واجبان، الواجب الأول هو الترتيب، والواجب الثاني هو صلاة الجماعة، فيسقط حينئذ الترتيب.

لكن هذا القول فيه تحكم ظاهر، فإن ترجيح إسقاط أحد الواجبين يحتاج إلى دليل، كيف والدليل يدل على إسقاط واجب الجماعة؛ لأن الترتيب شرط في صحة الصلاة – هذا على المذهب – أما الجماعة فليست شرطاً في صحتها بل تصح الصلاة من المنفرد عن الجماعة وإن لم يكن معذوراً في ذلك، فالصلاة صحيحة إلا إن أجره ينقص ويأثم، بخلاف الترتيب، فحيث قلنا بفرضيته فإن تركه يبطل الصلاة، فهو أرجح من الجماعة، ففوات الجماعة مرجح على فواته؛ لأنه آكد منها.

أما على القول الراجح وأن الترتيب ليس بواجب، فهذا ظاهر وواضح، فحينئذ يصلي الحاضرة ويؤديها جماعة، فهو مأمور بتأديتها جماعة ثم يقضي الفائتة.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الحادي والستون

(يوم السبت: 29 / 2 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها ستر العورة)

ستر العورة: الستر بفتح السين هو التغطية، وبكسرها هو ما يستر به، سِتر وسَتر.

وسترها شرط بالإجماع، قال ابن عبد البر:" وأجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً " وقد قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} (1) أي عند كل صلاة.

قال: (فيجب بما لا يصف بشرتها)

(1) سورة الأعراف.

قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع [2 / 145] : " لم تأت كلمة ستر العورة في الكتاب أو السنة ومن أجل أنه لم تأت ينبغي أن لا نعبر إلا بما جاء في القرآن والسنة

ونظير هذا.. تعبير بعضهم في باب محظورات الإحرام بلبس المخيط بدلَا عن القميص والسراويل.. ولما قال العلماء " ستر العورة " اشتبه على بعض الناس عورة الصلاة وعورة النظر

والذي جاء في القرآن {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} .. "

ص: 40

أي لا تصف بشرتها من سواد أو بياض أو حمرة أو نحو ذلك فهذا هو الواجب في سترها وهو أن يسترها بثوب من خرق أو جلد أو نحوه بما لا يصف بشرتها.

فإذا وصف البشرة فبان بياض أو نحو ذلك فهو غير ساتر لعورته فالثوب الذي يصف البشرة لا يستر العورة باتفاق أهل العلم لأن العورة ليست بمستورة.

وأما حجمها فاتفق أهل العلم على أن ظهور الحجم إذ سترت البشرة أنه ليس بمعتبر في سترها، وذلك لمشقة التحرز من ذلك.

فظهور حجمها لا يعد مخالفاً للستر الواجب الشرعي.

قال: (وعورة رجل وأمة وأم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة) .

فعورة الرجل من السرة إلى الركبة.

اتفق أهل العلم على أن السوأتين القبل والدبر أنهما من العورة في الرجل.

واتفقوا على أن السرة ليست من العورة.

واختلفوا في الفخذين والركبتين.

فأما الفخذان:

فجمهور أهل العلم على أنهما عورة واستدلوا: -بحديث جَرْهَد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غط فخذك فإن الفخذ عورة)(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، ونحوه من حديث ابن عباس رواه أحمد والترمذي. ونحوه من حديث محمد بن جحش رواه الترمذي. وبحديث علي بن أبي طالب في سنن أبي داود – وهذه الأحاديث كلها فيها أن الفخذين عورة.

وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب ابن جرير الطبري والنووي وابن المنذر ومذهب الظاهرية واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد وصاحب الفروع: وهو أن الفخذين ليسا بعورة.

(1) أخرجه أبو داود (3140، 4015) في باب النهي عن التعري، من كتاب الحمام، والبيهقي (2 / 228) ، ولفظه " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " والترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء أن الفخذ عورة. والإمام أحمد في المسند 3 / 478، 479، الإرواء، والمغني [2 / 285] .

ص: 41

واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه " - وفي المسند والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان – " فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدثا، ثم استأذن عثمان فجعل يسوي ثيابه، قالت عائشة: فسألته فقال: (ألا استحي ممن تستحي منه الملائكة)(1) .

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف فخذيه عند أبي بكر وعمر ولو كانتا عورة لما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الشك، فقد ورد في رواية أحمد والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان فتبين أن هذا شك من الراوي.

واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك – في غزوة خيبر – وهو حديث طويل وفيه: (وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه – وفي رواية (ثم انحسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم (2) متفق عليه.

والاستدلال به من وجهين:

الوجه الأول: كون ركبة أنس تمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم والعورة لا يجوز مسها.

الوجه الثاني: انحسار الثوب عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونظر أنس بن مالك، والنبي صلى الله عليه وسلم مصون عن أن تنكشف له عورة.

(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان (2402) . وأخرجه الطحاوي في المشكل (2 / 283 – 284) ، وأحمد (6 / 62) الإرواء [1 / 299] .

(2)

أخرجه البخاري (1 / 105) برقم (371) ، ومسلم (4 / 145، 5 / 185) ، وأحمد (3 /102) والبيهقي (2 / 230) الإرواء [1 / 301] .

ص: 42

ومن الأدلة على الوجه الأول: ما في البخاري عن زيد بن ثابت قال: (أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم – أي القرآن – وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خشيت أن ترض فخذي)(1)

والشاهد منه ما تقدم: من مس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم لفخذ زيد والعكس وهذا لا يكون في العورة.

وأجاب أهل القول الثاني على أهل القول الأول:

بأن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة.

فحديث جرهد: حديث مضطرب وقد ضعفه البخاري وغيره.

وحديث ابن عباس فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف.

وحديث محمد بن جحش فيه أبو كثير وهو مجهول.

وحديث علي إسناده ضعيف جداً.

وهذه الأحاديث إنما تحسن لشواهدها لو لم يكن لها هذا المعارض وهي الأحاديث التي فيها ما اتفق عليه الشيخان ومنها رواه البخاري أو مسلم.

والقول الثاني هو الراجح؛ لأن الأحاديث كلها ضعيفة، وهذه الأحاديث صحيحة صريحة في أن الفخذ ليس بعورة.

وحيث قلنا إن الفخذ ليس بعورة، فكما قال شيخ الإسلام: " موضع هذا خارج الصلاة، أما في الصلاة، فيجب سترها، لقوله صلى الله عليه وسلم – في الثوب الواحد – (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به)(2) .

ثم إن الفقهاء يقع منهم في هذا الباب شيء من الخلط الكثير – كما قال شيخ الإسلام – في مسألة العورة في الصلاة وفيها خارج الصلاة وليس بينهما اجتماع.

(1) ذكره البخاري تعليقاًَ مجزوماً به في باب (12) ما يذكر في الفخذ من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً مسنداً موصولاً في كتاب الجهاد والسير، باب (31) قول الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (2832) .

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة / باب إذا كان الثوب ضيقاً (361) ، ومسلم في الزهد / باب حديث جابر الطويل (3010)، ولفظه عند مسلم:" إذا كان واسعاًَ فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك "، الشرح الممتع [2 / 146] .

ص: 43

فالعورة في الصلاة عورة ثابتة في الخلوة وغير الخلوة وعند حضور من يجوز أن ينظر إلى العورة ونحوه، فيجب ستر العورة لعمومات الأحاديث.

وأما خارج الصلاة فهي عورة حيث وجد من لا يحل أن ينظر إليها ممن ليس بزوج أو نحوه، أما نظر الزوج إلى الزوجة فهو جائز وهذا في خارج الصلاة.

ثم إن عورة المرأة على الصحيح – كما سيأتي – كلها إلا الوجه والكفين والقدمين، ولا يستثنى شيء من ذلك في العورة خارج الصلاة.

فإذن: من يربط المسألتين فقد أخطاء، فهذه مسألة وهذه مسألة.

إذن: المقصود أن العورة إنما هي السوأتان فقط أما الفخذان فليس بعورة.

وأما في الصلاة فيجب أن يستتر بثوب بحيث تغطى الفخذان والسوأتان – كما قرر هذا شيخ الإسلام -.

أما الركبة:

فجمهور أهل العلم على أنها ليست بعورة.

وهي عورة عند أبي حنيفة، لحديث وارد في الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الركبة من العورة)(1) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.

فالراجح مذهب الجمهور.

وعلى القول بأن الفخذين ليسا بعورة – كما هو الراجح – فأولى منهما الركبتان.

قوله: (وأمة أم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة)

فعورتها كعورة الرجل، لحديث أحمد والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة فإنه عورة)(2) .

(1) أخرجه الدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها، من كتاب الصلاة، سنن الدارقطني [1 / 231] ، المغني [2 / 286]

(2)

أخرجه أبو داود في باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة، وفي باب قوله {غير أولي الإربة} من كتاب اللباس، والدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلاة والضرب عليها.. من كتاب الصلاة، المغني [2 / 285] .

ص: 44

والحديث – في الحقيقة – ليس بصريح في أن هذا عورة، وأن غيره ليس بعورة وإنما فيه أنه عورة بالنسبة إلى السيد إذا زوج أمته فلا يجوز أن ينظر إلى ما بينهما، وأما الركبة فما دون فإنه ليس بعورة بالنسبة إلى السيد المالك، فليس فيه أن الركبة فما دون والصدر ونحو ذلك أنه ليس بعورة مطلقاً على السيد وغيره.

- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن عورتها كالحرة وهذا في الصلاة – فالبحث هنا إنما هو في عورتها في الصلاة –. وهذا القول هو الراجح؛ لعمومات النصوص الشرعية، كقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)(1) رواه الخمسة إلا النسائي وهو عام في الحرة والأمة، وكلاهما تصح فيها أن تكون حائض، فتوصف بأنها حائض وإخراج الأمة لا دليل عليه.

والدليل المتقدم إنما فيه ذكر العورة بالنسبة إلى السيد.

إذن الراجح: أن الأمة وأم الولد والمعتق بعضها والمكاتبة أن عورتها إنما هي كعورة الحرة تماماً لعمومات النصوص الشرعية.

وأما عورتها خارج الصلاة: فالأظهر ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب مالك والشافعي: إلى أن عورتها ما لا يظهر غالباً.

فما لا يظهر غالباً منها فهو العورة – فالوجه واليدان والشعر هذا يظهر غالباً فليس من العورة، وأما ما لا يظهر غالباً فهو عورتها.

وألحق أهل العلم بالرجل من بلغ عشر سنين، فمن بلغ عشر سنين فعورته كعورة الرجل، وأما ما دون ذلك فالفرجان – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد – وتقدم أن الصحيح أن العورة إنما هي الفرجان.

(1) أخرجه أبو داود في باب المرأة تصلي بغير خمار، من كتاب الصلاة، والترمذي في باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار من أبواب الصلاة، وابن ماجه في باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، من كتاب الطهارة، والإمام أحمد في المسند: 6 / 150، 218، 259، المغني [2 / 283] .

ص: 45

وأما كشف ذلك فإن مرجعه إلى الفتنة، فإذا كانت الفتنة فلا يجوز كشفه مطلقاً، وأما حيث لا فتنة فيجوز كشفه.

إذن: ابن عشر سنين في المشهور من المذهب عورته كعورة الرجل ولم أر دليلاً يدل على هذا وأما ما دونه فعورته الفرجان.

والذي ينبغي أن يكون من لم يبلغ كهو بعد التمييز دون عشر سنين، فإنه لا فرق بين ما إذا ميز وكان دون عشر سنين فيه [وبين ما] إذا بلغ عشر سنين ولم يبلغ بعد.

وقد تقدم ترجيح أن الفخذين ليسا بعورة، فإذا ثبت هذا فيمن هو بالغ فأولى منه فيمن بلغ عشر سنين أو من دونه.

ومما يبين أن ما ذكره الفقهاء لا دليل عليه: أن المرأة غير البالغة جعلوها كعورة الرجل وهي المميزة التي لم تبلغ بعد ابنة عشر أو أصغر أو أكبر ما لم تبلغ فعورتها كعورة الرجل أي السوأتان والفخذان – ولم يجعلوها كالحرة.

وهنا جعلوا ابن عشر سنين كالبالغ، ولم يجعلوا بنت عشر ونحوها ممن لم تبلغ لم يجعلوها كالبالغة وهذا تفريق بين مسألتين يعتبر فارق مؤثر.

فالمقصود: أن المرأة إذا بلغت فعورتها ستأتي وما لم تبلغ فعورتها كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)(1) وما لم تبلغ فليست بحائض.

إذن: من دون البلوغ من النساء عورتها في الصلاة ليست كعورة الحرة البالغة.

قال: (وكل المرأة عورة إلا وجهها)

كل المرأة عورة، كما ثبت في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(المرأة عورة)(2) فهذا يدل على أن المرأة كلها عورة.

وقد أجمع العلماء على أن المرأة يجب عليها أن تستر كل شيء من بدنها من شعر أو بشرة أو ظفر (3) سوى الوجه واليدين والقدمين، فهذه المسائل الثلاث هناك منها ما أدخله بعض أهل العلم فيما يجب ستره ومنه ما لم يدخله في هذا فهو محل خلاف.

(1) تقدم قريباً.

(2)

أخرجه الترمذي في باب حدثنا محمد بن بشار، من أبواب الرضاع، المغني [2 / 328] .

(3)

كذا في الأصل.

ص: 46

إلا أن الوجه قد اتفقوا على جواز إخراجه فالوجه لا يجب لها ستره للحاجة إليه.

واختلفوا في الكعبين والقدمين.

فأما الكفان:

فالمشهور في المذهب أنه يجب تغطيتهما لعموم الحديث المتقدم: (المرأة عورة)(1) .

وذهب الشافعية والمالكية والأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الكفين يجوز كشفهما في الصلاة قياساً على الوجه.

وهذا قياس واضح، فإن الكفين يحتاج إلى كشفهما كما يحتاج إلى كشف الوجه تماماً، والشارع يسوى بينهما فكما سوى بينهما في الإحرام في النهي عن التغطية، فبينهما في الشرع اتفاق.

وهنا بينهما اتفاق في المعنى، فإن المعنى واحد فإن الحاجة إلى كشف الكفين واردة كالحاجة إلى كشف الوجه. وهذا هو الراجح.

وأما القدمان:

1-

فجمهور أهل العلم: على النهي عن كشفهما.

واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمه: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أتصلى المرأة في درع وخمار بغير إزار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)(2)

على أن هذا الدليل: ليس دليلاً تاماً لهم؛ لأنه ليس فيه تغطية باطن القدمين وإنما فيه تغطية ظاهرهما وظاهر كلامهم تعميم ذلك في باطن القدمين وظاهرهما.

2-

وذهب أبو حنيفة وهو اختيار المزني من الشافعية واختيار شيخ الإسلام: إلى أن القدمين لا يجب تغطيتهما في الصلاة؛ قياساً على الوجه، فإن القدمين مما يظهر غالباً في المرأة في بيتها وحيث لا يراها الأجنبي، وفي تغطيتهما مشقة، والحاجة القاضية بكشفهما، كالحاجة تماماً في كشف الوجه قال شيخ الإسلام: وأما حديث: (المرأة عورة) إنما هو حيث ينظر إليها الأجنبي، ففي تمام الحديث:(فإذا خرجت استشرفها الشيطان)

(1) أخرجه الترمذي، وتقدم قريباً.

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كم تصلي المرأة. المغني [2 / 329] .

ص: 47

وقد تقدم أنه لا جامع بين ستر العورة في الصلاة وسترها خارج الصلاة.

والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني.

وأما حديث أم سلمه فقد تفرد برفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وحفظه ضعيف.

ورواه عامة الثقات موقوفاً على أم سلمة كمالك وابن أبي ذئب وإسحاق وحفص بن غياث وغيرهم، فالراجح أنه موقوف.

ثم إن فيه أم محمد بن زيد وهي لا تعرف كما قال ذلك الذهبي، فلا يبنى - على مثل هذا - هذا الحكم العظيم.

فعلى ذلك الراجح أن القدمين ليستا من عورة الصلاة وكذلك الوجه والكفان.

وأما خارج الصلاة فإنها من العورة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة) أي كلها عورة شعرها وبشرتها كلها عورة.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثاني والستون

(يوم الأحد: 30 / 2 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاته في ثوبين]

يستحب للرجل أن يصلي في ثوبين، قميص ورداء يلتحف به أو إزار ورداء، أو قميص وإزار، أو قميص وسراويل، ونحو ذلك، بأن يكون عليه ثوبان يصلي فيهما.

فالمستحب باتفاق أهل العلم أن يصلي في ثوبين، قميص ورداء، قميص وإزار، قميص وسراويل، إزار ورداء، نحو ذلك.

ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولكلكم ثوبان)(1) فمفهومه مشروعية واستحباب أن يصلي الرجل في ثوبين.

فإن صلى في ثوب واحد فيجزئه اتفاقاً مادام أن ستر العورة ثابت فيجزئه إجماعاً.

(1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، وباب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء من كتاب الصلاة، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه من كتاب الصلاة، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد، المغني [2 / 293] .

ص: 48

والمستحب أن يصلي في ثوبين كما تقدم، قال عمر رضي الله عنه:(إذا وسع الله فأوسعوا)(1) رواه البخاري.

قال: [ويجزئ – يكفي – ستر عورته في النفل]

فيجزئه أن يستر عورته في النفل.

فإذا صلى الرجل بثوب واحد قد ستر به عورته – السوأتين والفخذين، على المذهب – فإن الصلاة صحيحة في النفل.

فلو صلى تطوعاً فلم يكن عليه إلا ثوب يستر عورته فالصلاة صحيحة كأن يصلي بإزار فقط.

وهذا لأن النفل مبناها على التخفيف والتيسير. هذا المشهور في المذهب.

وعن الإمام أحمد: أنه لا يجزئ ستر العورة فقط،بل يجب عليه أن يضيف إلى ذلك تغطية أحد المنكبين أو كليهما، كما سيأتي.

قال: [ومع أحد عاتقيه في الفرض]

العاتق: هو ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء في أعلى البدن أو موضع الثوب.

قال: يجب في الفرض أن يغطي أحد منكبيه، فإذا صلى بإزار فقط ولم يغط أحد منكبيه وكانت فرضاً فلا تصح.

واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)(2) .

قالوا: هذا يدل على نهي المصلي أن يصلي وهو مكشوف المنكبين، بل يجب أن يرد طرف الثوب على أحد عاتقيه، فإذا فعل ذلك فإن الصلاة تكون صحيحة.

واستثنوا النفل لما تقدم وأن مبناها على التخفيف.

وعن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي: أن النفل كالفرض، فلا فرق بينهما.

وهذا هو الأصل، فالأصل في الأحكام الشرعية الثابتة للفرض أن تثبت للنفل، فما كان شرطاً في الفرض فهو شرط في النفل إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك.

(1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، من كتاب الصلاة، المغني [2 / 294] .

(2)

أخرجه البخاري في باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، من كتاب الصلاة، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد، المغني [2 / 289] .

ص: 49

كيف والحديث المتقدم عام في النفل كما هو عام في الفرض.وهذا هو الراجح، أن النفل والفرض يجب أن يستر عاتقيه فيهما.

المسألة الثانية: قوله " ومع أحد عاتقيه ":

فلا يجب عليه أن يستر العاتقين، فإذا اكتفى بستر أحدهما أجزأه. هذا هو المشهور في المذهب.

وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره: أنه لا يجزئه إلا أن يستر العاتقين كليهما. وهذا القول أظهر؛ لقوله في الحديث المتقدم (ليس على عاتقيه منه شيء) ، فظاهره أنه فرض في العاتقين كليهما.

وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن سلمة (1) قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة واضعاً طرفيه على عاتقيه) (2) . هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: يجب عليه أن يغطي عاتقيه في الفرض والنفل على الصحيح في المذهب.

والجمهور على أن ذلك سنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الثوب: (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به)(3) ، وإذا اتزر به وشده على حقويه فإنه لا ينال العاتقين منه شيء.

والجواب على هذا أن يقال: إن هذا الحديث عند الضرورة، فإنه ليس عنده إلا ثوب واحد فيتزر به لضيقه، وإن كان واسعاً فإنه يلتحف به ، فظاهر هذا الحديث وجوب تغطية المنكبين كليهما، لقوله (إن كان واسعاً فالتحف به) ، وحقيقة الالتحاف أن يغطي به بدنه كما يوضع الجلباب ونحوه على البدن.

فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من الوجوب، ولكن هل هو واجب فقط أم هو واجب لا تصح الصلاة إلا به؟

(1) في صحيح البخاري ومسلم: عمرو بن أبي سلمة، كما سيأتي.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به (356)(355)(354) ، وأخرجه مسلم (517) في آخر باب من كتاب الصلاة وهو باب (52) الصلاة في ثوب واحد.. .

(3)

متفق عليه، وقد تقدم.

ص: 50

فإذا صلى وقد كشف منكبيه وهو قادر على تغطيتهما، فهو آثم على القولين، لكن هل تصح الصلاة؟

قولان في المذهب:

فالمشهور عند الحنابلة: أنه واجب لا تصح الصلاة إلا به. فإذاً: أدخل في شرط ستر العورة، فأصبح مما يشترط ستره.

والرواية الأخرى: أنه ليس شرطاً في صحة الصلاة. وهذا القول هو الأظهر (1) ؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوجبه وفرضه، وليس تركه يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها، فإنه قد ستر عورته وتم بذلك شرط الصلاة من ستر العورة، وأما ستر أعلى اليدين بتغطية المنكبين فإنه لا يدخل في الصلاة ولا في شرطها، بل قد قام بالصلاة على وجهها الشرعي إلا أنه قد فعل أمراً محرماً لكونه لم يضع ثوبه على عاتقيه، لكن صلاته صحيحة؛ لأنه قد قام بها أركاناً وشروطاً، وكونه يفعل أمراً محرماً فيها ككونه يلبس ثوب حرير ونحو ذلك. ومن صلى وقد ستر عورته بثوب حرير فإن صلاته صحيحة على الراجح، وسيأتي الكلام عليه.

إذاً: الراجح هذه الرواية، وأنه واجب وليس شرطاً في صحة الصلاة.

فعلى ذلك: حاصل أقوال أهل العلم ثلاثة أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد:

الرواية الأولى: السنية، وهذا مذهب الجمهور.

الرواية الثانية: أنه شرط في صحة الصلاة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة.

الرواية الثالثة: وهي أصحها أنه واجب ليس بشرط، فلو ترك تغطية المنكبين عامداً ذاكراً عالماً بالحكم، فتصح صلاته مع لحوق الإثم له.

قال: [وصلاتها في درع وخمار وملحفة]

الدرع: هو القميص، وهو المفصل على البدن.

وخمار: هو ما تغطي به المرأة رأسها.

(1) قال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به في شرحه لأخصر المختصرات عام 1420 هـ صْ 43 ما نصه: " فإن صلى وأحد عاتقيه مكشوف لم تصح صلاته في المشهور في المذهب، وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي يقتضي الفساد " ا. هـ

ص: 51

وملحفة: وهي ما نسميها العباءة، وهي الجلباب ونحو ذلك مما تغطي به المرأة بدنها.

هذا هو المستحب لها؛ لأن ذلك أستر لها.

فإن قيل: فلم يذكر الخمار، مع أن الخمار تغطية الرأس، وتغطية الرأس شرط في صحة صلاة الحرة؟

فالجواب على ذلك: أن الاستحباب إنما هو في كونه خماراً، فلو لبست برقعاً أو نقاباً أو نحوه مما يغطي الرأس فإنه خلاف الأولى، والأولى لها أن تغطيه بخمار، وهو قول عمر وعائشة.

قول عائشة رواه عنها سعيد بن منصور.

وقول عمر، كما حكاه عنه في المغن (1) ي، وقال صاحب الفروع: رواه محمد بن عبد الله الأنصاري في جزئه عن عمر بإسناد صحيح " أي استحباب أن تصلي المرأة بدرع وخمار وملحفة.

فالمستحب أن تصلي بدرع وخمار وملحفة، هذا هو الأفضل لها باتفاق العلماء.

قال: [ويجزئ ستر عورتها]

هذا هو المجزئ، فلو سترتها بأي ثوب ولو لم يكن خماراً أو اكتفت بالقميص ولم يظهر شيء من عورتها، فصلاتها صحيحة؛ لأنها قد قامت بالشرط، فسترت العورة، وحينئذ قد قامت بالشرط المفترض عليها، وما فضل وزاد فهو خير وليس ذلك على هيئة الفرضية.

قال: [ومن انكشف بعض عورته وفحش أو صلى في ثوب محرم عليه أو نجس أعاد لا من حبس في محل نجس]

هنا أربع مسائل:

المسألة الأولى: من انكشف بعض عورته وفحش.

" فحش ": حجماً وزماناً عرفاً؛ لأن المسائل التي لا تحدد في اللغة ولا في الشرع مرجعها إلى العرف.

فما فحش: خرج - منه خارج من - عورته، كالفخذين – على المذهب – فانكشف شيء منهما وفحش زماناً أي طال وقته، وحجماً، أي من رآه ونظر إليه قال: هذا كثير فاحش، فمرجعه إلى العرف، وقد تقدم أن ذلك إلى أوساط الناس.

فلو خرج منه شيء كثير من الفخذين، لكن الزمن قليل فلا تبطل الصلاة.

وكذلك إذا خرج شيء يسير في زمن كثير أي فحش الزمن ولم يفحش الحجم الخارج فإنه لا تبطل الصلاة بذلك.

(1) المغني [2 / 330] .

ص: 52

إذاً: لابد وأن يفحش حجماً وزماناً، فإن لم يفحش حجماً وزماناً فهو معفو عنه؛ قالوا: لأن اليسير لا يمكن التحرز منه حيث لم يقصد ذلك.

فإن قصد قالوا: بطلت، وإن كان يسيراً، يسيراً في الزمان أو الحجم. هذا هو المشهور في المذهب.

وذهب الشافعية: إلى أنه إذا خرج منه أي خارج سواء كان يسيراً أم فاحشاً سواء في زمن كثير أو زمن قليل، أنه إذا خر ج منه شيء بقصد أو غير قصد، الصلاة باطلة تجب إعادتها.

قالوا: لأن الواجب هو ستر العورة، ومتى انكشف أي شيء منها فيجب حينئذ أن يعيد الصلاة، وهي باطلة.

وهذا القول أقيس وأصح من مذهب الحنابلة، لكن بقصد، وهو مذهب المالكية.

فمذهب المالكية هو مذهب الشافعية، لكنهم استثنوا من ذلك النسيان ونحوه.

فلو خرج منه شيء بغير قصد فيعفى عنه سواء كان فاحشاً أو لم يكن فاحشاً، كأن يكون جاهلاً أو ناسياً.

وإذا خرج منه أي شيء وإن كان يسيراً فالصلاة تبطل إن كان عن قصد.

وهذا القول هو الراجح.

أما كون أي خارج يناقض ستر العورة؛ فلأن الواجب هو سترها كلها وجميعها، وحيث خرج شيء منها فإن هذا ينافي سترها.

وكوننا لا نبطل الصلاة حيث نسي أو جهل؛ فلأن هذا من فعل المحذور، ومن فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه كما سيأتي الاستدلال عليه في شرطية الطهارة من النجاسة في الثوب والبقعة ونحوها.

فالراجح: أنه مادام أنه فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه.

فالراجح مذهب المالكية وأنه إذا خرج شيء من عورته في الصلاة، فلا تفسد صلاته إلا إذا خرج على وجه القصد والتعمد، أما إذا خرج على وجه النسيان والجهل ونحوه فذلك لا يضر صلاته.

المسألة الثانية: " أو صلى في ثوب محرم عليه أعاد ":

ص: 53

رجل ستر عورته بثوب محرم كثوب حرير أو مغصوب فإنه يعيد؛ قالوا: لأن لبسه للثوب يلحقه به الإثم، فهو عاص لله بلبسه لهذا الثوب؛ لأنه محرم، وهو يفعل قربة فلا يمكن أن يكون هذا قربة وهو مع ذلك إثم ومحرم، بمعنى: لا يمكن أن يلحقه في آن واحد ثواب وإثم،فهو آثم للبسه للحرير،وإذا قلنا بصحة صلاته فهو مأجور على الصلاة ولا يمكن أن يجتمع في الشخص هذان الوصفان في آن واحد.

والجواب على هذا – وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره وهو مذهب أكثر أهل العلم -: أن الصلاة في الثوب الحرير ونحوه أنها صحيحة؛ لأنه قد قام بالصلاة شروطاً وأركاناً، وهذا المحرم الذي فعله لا يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها، فإنه قد ستر العورة وقد صلى الصلاة بشروطها الباقية وأركانها.

وكونه يجتمع عليه إثم وثواب لا مانع من ذلك، فلا مانع أن يكون مثاباً من جهة وآثما من جهة أخرى. فالأجر الذي يلحقه ليس للبسه هذا الثوب، لكنه يلحقه لصلاته، فهو مثاب لكونه صلى، وهو آثم لكونه لبس ثوب حرير، فلا مانع أن يجتمع عليه هذان الوصفان؛ لأن كلا منهما له جهته الخاصة به.

فالصحيح أنه لا تجب عليه الإعادة إذا ستر عورته بثوب حرير، وهو آثم على لبسه، ومثله من صلى في ثوب مسبل أو مغصوب، فالصلاة صحيحة، لكنه آثم لفعله.

المسألة الثالثة: " أو نجس أعاد ":

رجل لم يجد ثوباً يستر به بدنه إلا ثوباً نجساً، فصلى، فيجب عليه أن يعيد صلاته.

قالوا: لأنه قد اختار ما يمكنه اختيار (1) غيره في الواقع، فإنه كان بين خيارين أن يصلي عرياناً وأن يصلي في ثوب نجس، فاختار أوكدهما وهو أن يسترها بثوب نجس، فاختار أوكدهما عند التزاحم، وعند وجدان الثوب الطاهر يزول هذا التزاحم، فيجب أن يصلي مرة أخرى.

قال: [لا من حبس في محل نجس]

فمن صلى في موضع نجس محبوساً فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة، فكيف يفرق بين الأمرين؟

(1) في الأصل: اختياره.

ص: 54

أنه في هذا الموضع والمحل النجس لا يمكنه أن يفعل أمراً آخر، فلا خيار له، فلم يجب عليه الإعادة، ومثل ذلك ما لو حبس في محل مغصوب، فكذلك لا تجب عليه الإعادة؛ لأنه لا خيار له في ذلك.

فإن كان مسجوناً سجناً يمكنه أن يخرج نفسه منه؟

بمعنى: رجل غصب أحداً حقه، فيمكنه أن يخرج برد ذلك الحق؟

فيجب عليه أن يعيد؛ لأن له خيار آخر، وهو أن يخرج من السجن بأداء الحق الواجب عليه، هذا كله بناء على هذا التعليل.

لكن في الحقيقة هذا الفرق ليس له أثر في الشرع،بل كلاهما قد فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع، فكانت صلاته صحيحة.

وكون هذا لا خيار له، وهذا له خيار، فهذا في الحقيقة لا أثر له، أو كون هذا نادراً وهذا ليس بنادر، هذا في الحقيقة لا أثر له.

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام.

إذاً: الراجح أن من صلى في ثوب نجس سواء كان محلاً نجساً أو لم يكن كذلك فلا تجب الإعادة عليه مادام أنه فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع،وقد قال تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} (1) . ولم يأمر الله تعالى العبد بأداء الفرض مرتين، فقد أدى الفريضة على حسب ما أمره الله به، فلم يكن هناك ما يدعى إلى إيجاب الصلاة عليه مرة أخرى وقد قام بها على الوجه المأمور به شرعاً.

فالراجح: أنه لا يجب عليه أن يعيد مطلقاً سواء كانت الصلاة بثوب نجس، وهو معذور في لبسه وحيث له خيار أو كان ذلك حيث لا خيار له إذا صلى في محل نجس أو في محل مغصوب ونحو ذلك.

فمن صلى في ثوب محرم ناسياً فصلاته صحيحة بالإجماع، فكأن المذهب علقوا البطلان في الإثم، فإذا أثم بطلت صلاته وإلا صحت.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثالث والستون

(يوم الاثنين: 1 / 3 / 1415 هـ)

اعلم أن المشهور في المذهب أنه لا يجب أن يكون الساتر للمنكبين - لا يجب أن يكون - كثيفاً لا يظهر البشرة.

ص: 55

لكن هذا فيه نظر كما قال ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ وذلك لأنه في حكم في ما يجب تغطيته في الصلاة،فيجب أن يكون مغطٍ (1) للبشرة فلا يظهر لونها. هذا هو الراجح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر]

هذه مسألة في الحقيقة من المسائل النادرة، وهذا معروف عن الفقهاء وأنهم يذكرون المسائل النادرة وغيرها.

قوله: " ومن وجد كفاية عورته ": العورة في المذهب: هي الفرجان والفخذان.

فمن وجد ما يكفي عورته ولا يغطي المنكبين فإنه يجب عليه أن يستر الفرجين والفخذين، ويكتفي بذلك عن المنكبين؛ ذلك لأن الفرجين والفخذين هما العورة الواجب سترها على المشهور في المذهب، ومع ما ذكر شيخ الإسلام أن العورة في الصلاة هي الفرجان والفخذان فهما لاشك أولى من المنكبين المختلف في وجوب سترهما.

فقد اختلف العلماء في وجوب ستر المنكبين، والحنابلة يخففون فيهما في تغطية البشرة.

والجمهور لا يرون فرضية سترهما، فلاشك أنهما أولى بالترك مما ثبتت فرضية ستره.

وأما إذا قلنا بالمذهب المتقدم ترجيحه، وهو رواية عن الإمام أحمد من أن المنكبين يجب تغطيتهما من غير أن يكون شرطاً في صحة الصلاة فإن ترجيح ستر الفرجين والفخذين واضح؛ لأن سترهما شرط في صحة الصلاة.

إذاً: يغطي عورته، وأما المنكبان فيكشفان ويرجحان في الكشف لأنهما مرجحان كما تقدم.

قال: [وإلا فالفرجين]

هل يقدم الفرجان أم الفخذان؟

يقدم الفرجان؛ لأنهما أفحش في العورة.

قال: [فإن لم يكفهما فالدبر]

قالوا: لأنه أفحش.

وفي قول آخر: القبل؛ لأنه يواجه به الله تعالى، فكان الواجب أن يستر لاستقبال الله تعالى.

وقيل: يخير بينهما والأولى هو الدبر.

(1) اسم فاعل، وليس اسم مفعول.

ص: 56

وهذه في الحقيقة مسألة وإن كانت نادرة، لكن المرجح هو وجوب ستر القبل لاسيما في المرأة، ولاسيما - كما قال بعض الحنابلة - إن كان ثمت رجل، فيترجح تغطية قبلها.

فإن كان ثمت رجل فيترجح تغطية قبلها – أي المرأة -، وإن كان ثمت امرأة فيترجح تغطية قبله.

فإذاً: الأرجح في أصل المسألة تغطية القبل كما هو قول في مذهب الإمام أحمد، فإن كان هناك رجل وهي امرأة فهو ظاهر، وكذلك إن كانت امرأة وهو رجل فهذا ظاهر؛ للفتنة العظيمة في هذا.

قال: [وأن أعير سترة لزمه قبولها]

لأن العارية لا منة فيها، فمادام أنه ليس فيها منَّة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،فيجب عليه قبولها.

فإن لم يقبلها وصلى عرياناً فصلاته باطلة؛ لأنه كان يمكنه أن يستر عورته بما لا يلحقه مِنَّة.

فإن وُهبها هبة، فهل يلزمه القبول أم لا؟

قولان في المذهب:

فالمشهور في المذهب: أنه لا يلزمه قبولها؛ لأن الهبة تحلق بها المنة، فلم يجب عليه قبولها.

والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه قبولها.

والذي يتبين لي التفصيل في هذا:

فإن كان يترتب على ذلك انكشاف عورة، كأن يكون في محل لا يحفظ عورته،فإنه يجب قبولها؛ لأن المفسدة المترتبة على كشف العورة أعظم من المنة، ويجب ترجيح المفسدة الصغرى وقوعاً، وهروباً من المفسدة الكبرى.

فأما إن كان في بيت ونحوه فلا يلزمه القبول للمنَّة المتقدمة.

وإن كانت بثمن فيلزمه شراؤها إن كان يمكنه ذلك بالقيود المتقدمة بماء الوضوء، فإن الوضوء إذا بيع بمثن فيجب شراؤه بشروط تقدم ذكرها، وهنا كذلك.

قال: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما]

هذه صفة صلاة العاري.

أن يصلي قاعداً قد ضم فخذيه بعضهما إلى بعض ويومئ بالركوع والسجود، استحباباً فيهما لا وجوباً.

فلو صلى قائماً بالركوع والسجود فالصلاة صحيحة.

ص: 57

فالمشهور في المذهب: استحباب الصلاة قاعداً ويومئ بالركوع والسجود، ولو صلى قائماً بالركوع والسجود، فالصلاة صحيحة.

وقال الشافعية والمالكية: يجب عليه أن يصلي قائماً بركوع وسجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)(1) . قالوا: وهو مستطيع للقيام بلا ضرر.

والراجح كما هو قول في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد،وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجب عليه أن يصلي قاعداً ويومئ بالركوع والسجود.

ودليل هذا: هو ترجيح ستر العورة على القيام، دليله وجهان:

الوجه الأول: أن ستر العورة لا يسقط في الفرض والنفل، وأما القيام فهو ركن في الفرض مستحب في النفل، فستر العورة مثقل ليس فيه شيء من التخفيف، وأما القيام ففيه تخفيف بحيث أنه لا يجب في التطوع.

الوجه الثاني: أن ستر العورة فرض وواجب في الصلاة وفي غيرها،فقد أمر الله تعالى بستر العورة في الصلاة وفي غيرها.

وأما القيام فلا يجب إلا في الصلاة، فالمحافظة على الفرض الذي أمر الله به عباده في الصلاة وفي غيرها أولى من المحافظة على القيام الذي لم يؤمر به إلا في الصلاة.

فالراجح أنه يصلي قاعداً وجوباً؛ لأنه يجب عليه أن يستر عورته بقدر الإمكان، وحيث كان قاعداً فإن فيه ستر للعورة بقدر الإمكان، فكان ذلك فرضاً عليه.

فعلى ذلك: صفة صلاة العاري: أن يصلي قاعداً قد انضم بعضه إلى بعض يومئ بالركوع والسجود.

قال: [ويكون إمامهم وسْطهم]

فلا يجوز أن يتقدم؛ لأنه في تقدمه كشفاً للعورة والواجب هو سترها بقدر الإمكان كما تقدم.

قال: [ويصلي كل نوع وحده]

كل نوع من ذكور وإناث، فالإناث يصلين وحدهن، والذكور يصلون وحدهم.

(1) أخرجه البخاري في باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب من كتاب التقصير، وأبو داود في باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة، والترمذي وابن ماجه وأحمد، المغني [2 / 570] .

ص: 58

قال: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا]

بمعنى: إن كانوا في موضع واحد ولا يمكنهم أن يصلوا فيه منفردين، فكيف يكون الحكم؟

يصلي الرجال مستقبلين القبلة، وتكون النساء مستدبرات القبل، ثم بعد ذلك يكون العكس، فتصلي النساء مستقبلات القبلة ويؤدين فريضتهن، ويكون الرجال مستدبرين النساء مستدبرين القبلة.

هذا كله على القول بفرضية الصلاة جماعة، وهو المذهب، وهو فيما يظهر لي ضعيف جداً، وأن القول بفرضية الصلاة جماعة مع كشف العورة ضعيف جداً.

استدلوا هم: بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على فرضية الجماعة.

وذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف، وهو قول للشافعية: إلى أن الجماعة تسقط، فيصلون فراداً إلا في ظلمة شديدة لا تنكشف لأحد منهم عورة.

وذلك: لأن ما يلحقه في كشف العورة من المذمة والعار والفتنة ونحو ذلك أعظم مفسدة مما يترتب على فوات الجماعة. والواجب هو إسقاط ما يترتب عليه مفسدة صغرى والقيام بما يترتب عليه المفسدة الكبرى، فحينئذ الواجب أن يصلوا فراداً إلا في ظلمة، فإن الجماعة يبقى وجوبها لعدم المعارض لذلك.

قال: [فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ]

وجد سترة لا تقطع صلاته، فهي تحتاج إلى عمل يسير لا يؤثر في الصلاة، فيجب عليه أن يستر بها عورته ويبني على صلاته ولا يستأنفها.

وأما إن كانت السترة بعيدة عرفاً بحيث تحتاج إلى عمل كثير مبطلٍ الصلاة فحينئذ يجب أن يقوم بالستر، حيث استطاعه، والصلاة لم تتم بعد فتثبت صحة، فيجب عليه أن يستتر بها ويستأنف صلاته.

إذاً: الواجب عليه مطلقاً أن يستر عورته.

ويبني إن كان العمل قليلاً لا يؤثر في الصلاة.

وأما إن كان عملاً كثيراً يؤثر في الصلاة فإنه يستأنفها.

ص: 59

* واعلم أن ما تقدم من كونه يصلي قاعداً ظاهر المذهب،سواء كان في بيته أو جماعة، فإنه يصلي قاعداً، لكنهم قالوا: بالاستحباب، والراجح الوجوب كما تقدم.

فليس هذا مختصاً حيث ترى عورته، بل هو عام في هذا الموضع وفي غيره مما لو لم يكن ذلك، كأن يكون في ظلمة أو يكون في بيته.

فإن قيل: فلم لم نبق القيام على وجهه؟

فالجواب: إن ستر العورة شرط مطلقاً حيث كان في خلوة أو لم يكن فيها.

ثم إن الله عز وجل أولى بأن تستر له العورة، لذا النظر إلى العورة ليس هو مناط العلة في هذا الباب، بل مناطها هو نفس ظهور العورة، كيف وهو في الصلاة في موضع يناجي الله تعالى فيه، فكان الستر فيه أولى منه في غيره.

إذاً: ظاهر المذهب، وهو الراجح، لكنهم قالوا بالاستحباب، والراجح الوجوب، وجوب الصلاة قاعداً والإيماء بالركوع والسجود سواء كان في موضع ترى فيه العورة أولم يكن ذلك.

فإن كان في موضع ترى فيه العورة، فهو ظاهر.

وإن كان في موضع لا ترى فيه، فإن الله أحق أن يستحى منه، كيف وهو يناجي الله تعالى، ثم إن العورة شرط سترها في الصلاة حيث يرى أو لا يرى.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الرابع والستون

(يوم الثلاثاء: 2 / 3 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة السدل)

السدل: هو ترك الثوب على المنكبين من غير أن يرد طرفه على جانبه الآخر أو من غير أن يضم جانبيه بعضهما إلى بعض.

وقيل: السدل هو: هو الإسبال أي إسبال الثوب.

ص: 60

والحديث الوارد في النهي هو: ما رواه أبو داود وغيره والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه)(1) .

والراجح هو التفسير الأول؛ وذلك لأن الإسبال قد ورد تحريمه في الأدلة أو كراهيته – على القول المشهور في المذهب أنه مكروه بغير خيلاء – فالمقصود أن الأدلة دلت على النهي عن الإسبال في خارج الصلاة والصلاة تدخل في عموم النهي بخلاف السدل فإنا عندما نقول بالنهي عنه فإنا نخص ذلك بالصلاة دون غيرها فكان حكمه مختصاً بالصلاة، فعلى ذلك يكون هذا الحديث قد أتى بحكم تأسيسي، بخلاف ما لو فسرناه بالإسبال فيكون قد أتى بما أتى به غيره.

ثم إن الإسبال – على الصحيح – محرم في الصلاة وفي غيرها فتخصيص النهي في الصلاة محل نظر، فليس له فائدة – وقد نهى عنه الشارع في غير الصلاة.

ثم إنا لو قلنا تنزلاً إنه لفظ مشترك فاللفظ المشترك يفسر بجميع المعاني المحتملة فيه ما لم يدل دليل يمنع من تفسيره بأحدها.

فالراجح هو التفسير الأول؛ لأن الحكم فيه يكون حكماً تأسيسياً ولأن الإسبال محرم في الصلاة وفي غيرها فلا معنى لتخصيصه في الصلاة، ولو قلنا تنزلاً أن المعنيين كليهما يحتمل في الحديث فهذا من المشترك ويصح تفسير المشترك وحمله على جميع المعاني التي يصح أن يفسر بها ما لم يأت دليل يمنع من ذلك.

وهذا السدل في المشهور من المذهب مكروه مطلقاً أي سواء كان تحته ثوب آخر أم لم يكن تحته ثوب.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة (643) قال:" حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، عن ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان، عن سليمان الأحول، عن عطاء، قال إبراهيم: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) ، وأخرجه الترمذي مختصراًَ على الأول (378) .

ص: 61

- وعن الإمام أحمد: أنه لا يكره إلا إذا لم يكن تحته ثوب، أما إن كان تحته ثوب فلا يكره.

وهذا إنما يبنى على أن العلة هي خشية ظهور شيء من العورة.

ولكن الذي يظهر أن العلة ليست هذه فحسب بل التشبه باليهود، وفي الحديث:(من تشبه بقوم فهو منهم)(1) ومما يدل على أن هذا السدل من فعل اليهود ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود)(2) أي لا يلقيه على عاتقه ويسدله كما يفعل اليهود.

ومما يدل على أن تفسير هذا الحديث هو السدل المذكور، ما صح عن علي رضي الله عنه – كما رواه الخلال وغيره أنه رأى قوماً يسدلون في صلاتهم فقال:(كأنهم اليهود خرجوا من فُهْرهم)(3) - بضم الفاء وإسكان الهاء - أي من مدارسهم، فهو من فعل اليهود.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه (بعثت بالسيف بين

) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد. وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] .

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به (635) قال: " حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال عمر رضي الله عنه: (إذا كان لأحدكم ثوبان..) .

ص: 62

فعلى ذلك ينبغي أن يقال بالتحريم؛ لأن التشبه يقتضي التحريم وهو رواية عن الإمام أحمد وهذا القول هو الراجح لأن التشبه فيه ثابت باليهود ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وأقل أحوال التشبه – كما قال شيخ الإسلام – أن يقال بالتحريم وإلا فظاهره الكفر.

قال: (واشتمال الصماء)

له تفسيران:

التفسير الأول: تفسير اللغويين: أن يتخلل بالثوب الواحد تخللاً يشمل بدنه كله بحيث لا يكون لإخراج اليد موضع فهذه صفة مكروهة؛ لأنه يترتب عليها فوات شيء كثير من السنن كرفع اليدين ومن صفة النزول إلى السجود ونحو ذلك.

التفسير الثاني: هو تفسير الفقهاء وهو أن يضطبع بالثوب الواحد ليس عليه غيره.

وصورة ذلك: ما يفعله المحرم بردائه أثناء طواف القدوم هذا هو الاضطباع بأن يضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن ثم يرد الطرف على عاتقه الأيسر فحينئذ: يبدو شقه الأيمن أو العكس فكلاهما اضطباع وهو اشتمال الصماء في تفسير الفقهاء.

وهذا التفسير أصح لوجهين:

الوجه الأول: أن هذا قد وردت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن اشتمال الصماء)(1) وفي رواية للبخاري: (أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء)

وإن كان ما فسره اللغويون من حيث المعنى فالنهي عنه صحيح لكنه ليس تفسيراً لهذا الحديث كما تقدم من الرواية.

الوجه الثاني: أن الفقهاء أعلم بألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم من اللغويين كما أن اللغويين أعلم بعبارات أهل اللغة من الفقهاء، لذا قال أبو عبيده – في تفسير الفقهاء – " وهم أعلم بالتأويل "(2) أي أعلم بتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم بالشريعة من أهل اللغة.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (10) ما يستر العورة (367) ، وأخرجه مسلم (1512) .

ص: 63

إذن: الراجح ما قاله الفقهاء من أن اشتمال الصماء من أن يضطبع بالثوب فيظهر أحد شقيه، وهي صفة مكروهة.

- والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد: وهو القول بالتحريم وأن اشتمال الصماء محرم – وهو الراجح -.

وحينئذ: نعود إلى المسألة السابقة وهي فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهذا من الأحاديث التي تدل على ذلك – فإن هذا الحديث مناط النهي فيه بدو أحد شقيه لذا قال في الحديث المتقدم (فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء) فجعل العلة من النهي أو التحريم بدو أحد الشقين عارياً ليس عليه شيء.

وظاهر الحديث أن الاضطباع إنما يكون منهياً عنه حيث لم يكن تحته ثوب لقوله: (فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء) وحيث كان عليه ثوب يغطي هذا الشق فإنه لا يقع عليه النهي لأنه مغطى.

إذن: اشتمال الصماء ألا يكون عليه إلا ثوب واحد فيشتمل به مضطبعاً قد بدا أحد شقيه، فالصحيح أن هذه الصفة محرمة لما تقدم من فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهو رواية عن الإمام أحمد وظاهر كلام الخرقي – كما تقدم.

قال: (وتغطية وجهه واللثام على فمه وأنفه)

تغطية الوجه مكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي غير مغطي الوجه، ولتكون أعضاؤه مباشرة لمواضع السجود، وللحديث الصحيح في النهي عن تغطية الفم وحيث غطى الوجه فإنه يترتب عليه تغطية الفم.

قالوا: قياساً على المحرم في النهي عن تغطية الوجه، فإن الصلاة إحرام أيضاً لحديث:(وتحريمها التكبير)(1) .

(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ:(مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) .

ص: 64

وأما تغطية الفم، فلما يثبت في سنن أبي داود في الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه)(1) .

والأنف يقاس على الفم في الكراهية فيكره تغطية الأنف كما يكره تغطية الفم. وهذا كله – أي الحكم بالكراهية – حيث لا سبب يدعي إلى التغطية فإذا كان هناك سبب كحر أو برد أو نحو ذلك فإنه تزول الكراهية.

قال: (وكفه كمه ولفه)

والعبارتان (الكف واللف) بمعنى واحد، ولم تتكرر - كما قال المحشي على الروض المربع – إلا في عبارة صاحب الزاد، وفي عبارة الشارح، وإلا فإن عبارات الفقهاء إما بأن يقال: اللف أو الكف فهما في معنى واحد.

هذه الجملة فيها كراهية كف الثوب أو لفه فيكره في الصلاة أن يكف ثوبه أي أن يضمه ويجمعه كأن يجمع شيء من أطراف ثوبه.

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً) قالوا: فهذا يدل على كراهية كف الشعر والثوب.

فعلى ذلك ما يلبسه الشخص من العمامة يكره له أن يكف أطرافها وكذلك الثوب فيكره أن يكف أطرافه بل يجعله ينزل معه في السجود ونحو ذلك فيكره الكف.

- وذهب بعض أهل العلم إلى أنه محرم، وهو مذهب الظاهرية وقول الحسن البصري – وهذا القول أظهر لقوله:(أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً)(2) وظاهر الأمر الوجوب.

قال: (وشد وسطه كزنار)

(1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب ما جاء في السدل في الصلاة (643) وابن خزيمة (772)(918) ، وابن حبان (2353) الإحسان، والحاكم 1 / 253، والبغوي (519) والبيهقي 2 / 242 عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، الشرح الممتع [2 / 190] .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم (809) وباب السجود على الأنف (812) . وأخرجه مسلم (490) .

ص: 65

الزُنَّار: ما يشد على الكتابيين لما كانت للإسلام عليهم سلطة وكانوا في بلاد الإسلام فكانوا يؤمرون بما يتميزون به عن المسلمين بأي شيء مما يكون عليه أمر (1) السلطان بما يتميز به الكافر عن المسلم.

وكانوا يؤمرون بأن يشدوا زناراً رقيقاً جداً على وسط الواحد منهم، حتى قيل في المثل:" إذا عطس الذمي انقطع زُنَّاره "(2) من دقته وشدة ربطه على وسطه.

فيكره للمسلم أن يشد وسطه بزنار، كفعل النصارى لما فيه من التشبه، لكن هذا – كذلك – للتحريم لما فيه من التشبه ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وفي قوله: (كزنار) يدل على أنه لو شد وسطه بشيء غليظ لا يشبه الزنار أنه لا كراهية فيه وهذا هو الظاهر.

وأن الكراهية مختصة بما يكون على هيئة فعل النصارى، وهذا في الحقيقة ليس مختصاً بالصلاة، بل في الصلاة وفي غيرها لأن التشبه محرم وهو عام في الصلاة وفي غيرها.

قال: (وتحريم (3) الخيلاء في ثوب وغيره)

يحرم الخيلاء في ثوب وغيره في الصلاة وفي غيرها.

فيحرم الخيلاء في الثوب من قميص أو عمامة ونحو ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه)(4) .

قالوا: فهذا يدل على أن جر الثوب خيلاء محرم بل من كبائر الذنوب. فإن كان لغير خيلاء فيكره – كما هو المشهور في المذهب –.

- وعن الإمام أحمد التحريم.

فعلى المشهور في المذهب – إذا فعل الإسبال لحاجة فلا بأس.

(1) في الأصل: اخر.

(3)

كذا في الأصل، وفي الزاد: وتحرم.

(4)

أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} ، وباب من جر إزاره من غير خيلاء، وباب من جر ثوبه من خيلاء، من كتاب اللباس، ومسلم في باب تحريم جر الثوب خيلا.. الخ من كتاب اللباس وغيرهما، المغني [2 / 298] .

ص: 66

لكن الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه محرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)(1) فهذا الحديث عام فيما يكون للخيلاء وفيما لا يكون كذلك وثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والإسبال فإنه من المخيلة)(2) .

فدل هذا الحديث – كما قرر ذلك ابن العربي وغيره – أن مجرد جر الثوب أنه من المخيلة، فإن كان وافق ذلك في قلب فاعله خيلاء، فحينئذ لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وإن لم يكن كذلك فإن الأمر يكون محرماً ويكون صاحبه متوعداً بالعقوبة بالنار.

واستدل الحنابلة وغيرهم القائلون بالكراهية، بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فقال أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أتعاهده فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)(3) .

(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار (5787)

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (23592)[5 / 378] ، (16733)[4 / 65] عن رجل من قومه.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا، (3665) ، ومسلم (2085) .

ص: 67

لكن هذا الحديث في الحقيقة ليس ظاهراً في ذلك، ذلك لأن أبا بكر لم يكن يقصد جره بل كان يقع ذلك منه من غير قصد ولا إرادة ومتى كان ذلك فإنه لا يكون من المخيلة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري – (لما كسفت الشمس خرج وهو يجر إزاره) (1) وهذا جر للإزار وهو في الأصل محرم لكنه لم يكن مخيلة لأنه فعله بغير قصد فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنك لست ممن يفعله – أي على هذه الحال المذكورة – خيلاء) وحيث كان كذلك فإن الفاعل لا يكون فعله مخيلة، وإنما يكون مخيلة حيث قصد ذلك وأراده ووضعه على هيئة يجر فيها.

أما إذا لم يكن كذلك بل كان مرفوعاً ثم وقع فيه استرخاء ونحو ذلك فلا يكون ذلك من المخيلة.

إذن: الراجح: أن جر الثوب محرم مطلقاً وكما قال صلى الله عليه وسلم – في النسائي: (لا حق للكعبين في الإزار)(2) فالكعبان فما دونه ليس لهما حق من الإزار ومتى فعل ذلك كان واقعاً في التحريم.

فإن صلى في ثوب قد أسبل وقلنا بالتحريم مطلقاً، أو بالكراهية لكنه فعله خيلاء، فهل تصح صلاته؟

تقدم تقرر هذا في الصلاة في الثوب المحرم، وأن الراجح أن من صلى في ثوب محرم فإن صلاته صحيحة مع الإثم.

قال: (والتصوير واستعماله)

التصوير محرم " واستعماله " في ستر وثوب وأي شيء تقع الصورة عليه فهو محرم.

(1) أخرجه البخاري في أول كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس (1040) .

(2)

أخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب (102) موضع الإزار (5329) عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار) .

ص: 68

سواء كانت الصورة منسوجة أو كانت مجسمة أو مرسومة رسماً أو فتوغرافية ونحو ذلك فكل هذا محرم، لعمومات الأدلة الشرعية وفيها قوله صلى الله عليه وسلم:(كل مصور في النار)(1) متفق عليه.

وقد تقدم البحث في هذا في شرح كتاب التوحيد.

فإن فعل ذلك بأن صلى في ثوب فيه صورة فصلاته صحيحة لكنه آثم بلبسه فيكون مثاباً للصلاة وآثماً للبسه هذا الثوب الذي وضعت فيه هذه الصورة.

وقد تقدم أن ذلك مخصوص في ذوات الأرواح لقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم – في الترمذي والحديث صحيح: (مر برأس التمثال فليقطع حتى تكون كهيئة الشجرة)(2) فدل ذلك على أن ما كان على هيئة الشجرة ونحوها مما ليس فيه روح أنه تصويره جائز.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الخامس والستون

(يوم السبت: 6 / 3 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم استعمال منسوج أم مموه بذهب قبل استحالته)

هذه الجملة فيها تحريم استعمال الذهب سواء كان منسوجاً أو كان مموهاً أو مكفتاً أو نحو ذلك، فلبسه محرم على الذكور.

(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب (26) تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه (2110) ، ولم أجده بهذا اللفظ في البخاري باب (104) بيع التصاوير من كتاب البيوع، وكتاب اللباس: باب (88) التصاوير، وباب (89) عذاب المصورين يوم القيامة، وباب (90) نقض الصور، وباب (91) ما وُطئ من التصاوير، و (92) باب من كره القعود على الصورة، وباب (93) كراهية الصلاة في التصاوير، وباب (94) لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، وباب (95) من لم يدخل بيتا فيه صورة (96) من لعن المصور، وباب (97) من صورة صورة.

(2)

أخرجه أبو داود، آخر حديث في كتاب اللباس (4158) ، وأخرجه الترمذي في الأدب 2807،، وقال:" حديث حسن صحيح "، سنن أبي داود [4 / 389] .

ص: 69

ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها)(1) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز للرجال لبس الذهب مطلقاً سواء كان على هيئة النسج أو التمويه أو نحوه وهو مذهب جماهير أهل العلم.

أما الفضة فكذلك لا يجوز لبسها عند جمهور أهل العلم.

ودليلهم: تحريم الآنية، فقد حرم الشارع آنية الذهب والفضة فكذلك اللباس، فلا يجوز لباس الفضة كما لا يجوز آنية الفضة.

لكن هذا الاستدلال ضعيف، لذا ذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى جواز لبس الفضة للرجال خاتماً أو مقبضة سيف أو نحو ذلك.

(1) حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) ، أخرجه الإمام أحمد 4 / 394، 407، والترمذي في اللباس / باب ما جاء في الحرير والذهب (1720) ، والنسائي في الزينة / باب تحريم لبس الذهب على الرجال 8 / 160، والطيالسي (506) ، والطحاوي في الشرح 4 / 251، والبيهقي 3 / 275، وقال الترمذي:" حسن صحيح "، وقد أعل بالانقطاع؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئاً فيما قاله الدارقطني وغيره، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله ثم رفع يده وقال:(هذا حرام على ذكور أمتي) ، أخرجه أحمد 1 / 96، 115، وأبو داود في اللباس (4057) ، والنسائي في الموضع السابق، وابن ماجه في اللباس (3595) وغيرهم. الشرح الممتع [2 / 206] .

ص: 70

ولا نص ولا إجماع – كما قال ابن القيم - في تحريم الفضة بل الأصل في الأشياء الإباحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث الحسن –:(ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها)(1) .

وثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم (لبس خاتماً من فضة)(2) وفي سنن أبي داود والنسائي والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح: (أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم من فضة)(3) .

فالراجح: أن الفضة يجوز لبسها مطلقاً، للرجال والإناث للأدلة المتقدمة، ولا نص ولا إجماع على التحريم، بل الأصل في الأشياء الإباحة، والسنة قررت ذلك، فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم في لبسه خاتم الفضة مع تحريم خاتم الذهب، واتخاذه السيف ذي القبيعة من فضة هذا كله يدل على جوازه، ويقرره أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) .

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الخاتم، باب ما جاء في الذهب للنساء (4236) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحبّ أن يُحلّق حبيبه حلقة من نار

ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) . وأخرجه أحمد في مسنده برقم (8397) ، (8897) من حديث أبي هريرة في مسند المكثرين.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب خاتم الفضة (5866) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة

ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة.. ورقم (5865) . وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة (2091) .

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السيف يحلى (2582) عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة " وأخرجه الترمذي (1691 في الجهاد،، وفي الشمائل 99، والنسائي في الزينة 5376، سنن أبي داود [3 / 69] .

ص: 71

أما الجواب عما ذكره الجمهور: فالجواب: أن تحريم الآنية لا يلزم منه تحريم اللبس والتحلي. بدليل: أن آنية الذهب محرمة على النساء والتحلي بالذهب مباح لهن مطلقاً.

فإذن: لبس الفضة جائز مطلقاً للرجال والنساء ولا شك أنه بشرط عدم التشبه بالنساء وإنما يلبسونها بما جرت طبيعة الرجال بلبسه كالساعة من فضة أو الخاتم.

وأما الذهب، فإن ما تقدم يدل على تحريمه

* ولكن هل كل الذهب محرم أم أنه يستثنى منه اليسير؟

- جمهور العلماء وهو المشهور عن الإمام أحمد: أن الذهب محرم مطلقاً، لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه ينهى عن أبعاضه وأجزائه فما دام الأمر كذلك فاتخاذ الشيء اليسير من الذهب محرم.

فمثلاً: لا يجوز له أن يتخذ قبيعة من ذهب ولا يجوز أن يضع الشيء اليسير في ساعته من ذهب – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد –.

- وعن الإمام أحمد قول آخر اختاره أبو بكر من كبار أصحابه واختاره المجد ابن تيمية، واختاره شيخ الإسلام: أن اليسير جائز.

فإذا وضع في شيء من ملبوساته علماً من ذهب فإن ذلك لا حرج فيه.

واستدلوا: بما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الذهب إلا مقطعاً)(1) ومعلوم أن الذهب، باتفاق أهل العلم – جائز للنساء مطلقاً، فيبقى أن يكون هذا الحديث في الرجال.

قال شيخ الإسلام: " إلا مقطعاً " أي تابعاً لغيره، فالمقطع هو التابع لغيره.

وهذا هو القول الراجح.

(1) أخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال (5152) قال:" أخبرنا أحمد بن حرب قال أنبأنا أسباط عن مغيرة عن مطر عن أبي شيخ قال: بينما نحن مع معاوية في بعض حجاته إذ جمع رهطا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ألستم تعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً، قالوا: اللهم نعم ".

ص: 72

ويدل عليه القياس على الحرير، فإن اليسير في الثوب جائز كما دلت السنة الصحيحة عليه، فمثله كذلك الذهب من باب القياس.

قال: (أو مموه بذهب قبل استحالته)

أما إذا استحال إلى مادة أخرى فما بقيت فيه طابع الذهب بل انتقل إلى طبيعة أخرى فإنه يجوز أن يلبس وهذا مما اتفق عليه أهل العلم؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحكم يدور مع ثبوت الشيء، وحيث انتفى واستحال إلى مادة أخرى فإن الحكم ينتقل عنه، فإن الحكم إنما ثابت للاسم مع مسماه وحيث انتقل إلى مادة أخرى فإنه لا معنى للقول بتحريمه.

قال: (وثياب حرير)

فثياب الحرير محرمة على الرجال أيضاً.

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)(1) والنهي للتحريم.

وتقدم حديث أبي موسى الأشعري: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها)(2) وهو صريح في التحريم.

فالحرير محرم على الذكور لبسه والجلوس عليه والاتكاء عليه سواء كان ما يُتكأ عليه من حرير أو أن يكون ما يتوسد من حرير أو أن يتخذ نمرقة أو ستر من حرير فكل هذا محرم لا يجوز وقد ثبت في البخاري عن حذيفة قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة أو أن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج أو أن نجلس عليه)(3)

قال: (وما هو أكثر ظهوراً على الذكور)

إذا كان عليه ثوب من نوعين من قطن وحرير، وكان الغالب ظهوراً هو الحرير فإنه لا يجوز؛ إعطاءً للغالب حكم الكل، أو لأن الشارع إذا حرم شيئاً حرم أبعاضه إلا إذا دل دليل. لكن الغالب له حكم الكل في أكثر الأحكام الشرعية.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب (29) الأكل في إناء مفضَّض (5426) ، ومسلم (2067) .

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب (27) افتراش الحرير (5837) ، وأخرجه مسلم 2067 باختلاف.

ص: 73

قال: (لا إذا استويا)

فإذا كان ثوب نصفه في الظهور من حرير ونصفه من قطن أو نحوه فإنه يجوز لبسه – إبقاءً على الأصل فإن الأصل هو الحل – والحرير هنا: ليس هو الكل وليس هو الغالب.

هذا أحد لوجهين في مذهب الإمام أحمد.

والوجه الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يحرم. وهو الراجح لما تقدم من أن الشارع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه.

ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع)(1) فهذا يدل على أن لبس الحرير محرم مطلقاً سواء كان هو الغالب أو كان كثيراً ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فإنه يجوز.

وهذا الدليل يصلح للاستدلال على المسألة السابقة وهو أن ما كان أكثره حرير فإنه يحرم، ومن الأدلة الدالة على تحريم الكثير من الحرير الظاهر وإن كان ليس هو الغالب ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن القسِّي والمعصفر)(2) .

والمعصفر: سيأتي الكلام عليه.

أما القسِّي: فهو نوع من الثياب يخلط فيه الحرير مع القطن – بحيث يكونان ظاهرين فيه.

(1) أخرجه مسلم (2069) في كتاب اللباس، باب (2) تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ....، وأخرجه البخاري بلفظ:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصفَّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه " وفي لفظ: ".. وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام "، كتاب اللباس، باب لبس الحرير وافتراشه للرجال.. (5828)

(2)

أخرجه مسلم (2078) من حديث علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي والمعصفر.. " وهو في باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر من كتاب اللباس والزينة، وأخرج البخاري في كتاب اللباس، باب لبس القَسِّيِّ (5838) عن البراء بن عازب قال: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحُمْر والقسي " وانظر (1239) .

ص: 74

وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حرمه مطلقاً ولم يستثن من ذلك استواءهما ولا أن يكونا النوع الآخر هو الأكثر بل حرمه مطلقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الثياب شامل لما كان الحرير فيه هو الأكثر أو كان هو الكثير المساوي أو كان هو الكثير الأقل فهو شامل لهذه الأنواع كلها ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فقد دل الحديث المتقدم على جوازه.

قال: (ولضرورة أو حكة أو مرض)

" لضرورة ": من حر أو برد، بأن لا يكون عنده إلا ثوب حرير ويخشى على نفسه الهلكة إن لم يلبسه.

أو كانت هناك حاجة وليست ضرورة: كأن يكون فيه حكة أو نحو ذلك فيحتاج إلى أن يلبس الحرير مع أنه إذا لبس غيره فإنه يزول المرض الذي عليه – وهو مع لبسه للحرير لا يقطع بزوال المرض فليس هذا ضرورة بل حاجة.

مع ذلك: لبس الحرير للحاجة من حكة أو مرض - ومن باب أولى للضرورة - جائز، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير في سفر من حكة كانت فيهما)(1)

ولبس الحرير للحكة من الحاجات وليس الضروريات؛ لأنه لا يعلم اندفاع الحكة به، فلا يثبت به زوال الحكة قطعاً بل هو نوع من أنواع التداوي (2) ، ومعلوم أن الدواء لا يقطع بزواله بل هو سبب قد يتم به الشفاء وقد لا يتم به. فاستعمال الحرير لحاجة لا بأس به.

قال: (أو حرب)

في الحرب يجوز للمسلم أن يلبس فيها الحرير لإرهاب أعداء الله وإظهار قوة المسلمين.

وإظهار ما يكون فيه خيلاء في الحرب محمود لإرهاب الأعداء فلهذه المصلحة العامة جاز أن يلبس الحرير.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الحرير في الحرب (2919) ، ومسلم 2076) .

(2)

في الأصل: التدواي.

ص: 75

– هذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وهو المشهور فيه وهو اختيار شيخ الإسلام: وأن لبس الحرير في الحرب جائز لما فيه من إظهار قوة المسلمين وإظهار غناهم وبأسهم ونحو ذلك.

فلبسه في الحرب جائز حيث أدى إلى هذه المصالح أما إذا لم يثبت فيه شيء منها، كأن يكون خفياً غير ظاهر فلا يجوز له أن يستعمله في الحرب.

قال: (أو حشو)

إذا اتخذ الحرير حشواً في ثوب، كأن يضع ثوباً من قطن أو صوف ونحوه، فيضع الحرير حشواً له أي ليس في ظهارته ولا بطانته.

فالبطانة هي ما تكون مباشرة للبدن، وأما الظهارة فهي ما تكون خارجة للناس.

فهنا ظهارته وبطانته من نوع آخر غير الحرير، لكنه حشاه بالحرير، أو حشا وسادة به.

فهل يجوز أم لا؟

نعم يجوز ذلك، فلا حرج في مثل هذا؛ لأن النهي لا يشمله وقد ثبت عن الصحابة أنهم لبسوا ثوب الخز وثوب الخز هو نوع من الثياب يكون سداه من حرير ولحمته من نوع آخر.

والسدا: هو ما يكون عرضاً عند النسج.

أما اللحمة: فهي ما تكون طولاً عند النسج، واللحمة تغطى السدا فيجوز أن يكون الثوب سداه من حرير، وقد لبس الصحابة ثياب الخز.

قال أبو داود: " وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أكثر لبسوا ثياب الخز منهم أنس والبراء "(1)

قال الحافظ ابن حجر: " وقد أوردها ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جيدة "(2) فهذه أفعال للصحابة لا يعلم لهم فيها مخالف.

وقد دلت السنة على ذلك – في قول ابن عمر – كما في سنن أبي داود: (إنما نهى عن الثوب المصمت من الحرير)(3)

(3) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب الرخصة في العلم وخيط الحرير (4055) قال: " حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، حد

ثنا خُصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:" إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسَدَى الثوب فلا بأس به "

ص: 76

أي ما كانت لحمته وسداه من الحرير أي هو خالص حريراً.

ومن كان سداه حرير ولحمته من غيره فهو جائز، وأما العكس فهو محرم: فلو كانت اللحمة من حرير والسدا من نوع آخر فهو محرم؛ لأن الظاهر هو الحرير.

إذن: الحشو بالحرير جائز، وكذلك يجوز أن يكون السدا من حرير.

أما البطانة فلا يجوز أن تكون من حرير؛ لأنها – في الحقيقة – ظاهرة، أي الحرير فيها ظاهر في الثوب وإن كان لا يبدوا للعيان، لكنه ظاهر وثبتت مباشرته للبدن.

فإذا كانت البطانة من حرير والظهارة من غيره فإنه محرم.

قال: (أو كان علماً)

فإن كانت خطوط أو طرزٍ على الثوب.

" أربع أصابع فما دون " مضمومة من الثوب كله.

يعني: جميع ما في الثوب أربع أصابع، ففي عرضه أصبع وفي عرضه الآخر أصبع وفي وسطه أصبعين فيجوز، أما إذا كان مجموعه خمسة أصابع فيحرم.

إذن: تكون مضمومة وهذا باتفاق أهل العلم.

ودليل ذلك حديث عمر المتقدم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع)

قال: (أو رقاعاً)

إذا رقع الثوب بشيء من الحرير فيجوز ما لم يكن ذلك أكثر من أربعة أصابع.

قال: (أو لبنة جيب)

" لبنة جيب ": هي طوقه، فطوق من العنق يسمى لبنة الجيب، فهذا جائز بشرط ألا يزيد على أربعة أصابع، ولو وضع أزراره من حرير فهو جائز أيضاً ما لم يجتمع من ذلك أربعة أصابع.

قال: (وسَجْف فراء)

الفراء: هو ما يلبس في الشتاء من الثياب الغليظة ونحوها، فحواشيها تسمى السجف.

فإذا وضع في أطرافه وحواشيه حريراً وكان مجموعه لا يتجاوز أربعة أصابع فإنه جائز.

قال: (ويكره المعصفر والمزعفر للرجال)

" المعصفر ": هو المصبوغ بالعصفر وهو نوع من النبات تصبغ به الثياب فتكون حمراء.

دليل ذلك: الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن القسي والمعصفر)(1) رواه مسلم.

(1) تقدم.

ص: 77

وفي مسلم عن ابن عمرو قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبست ثوبين معصفرين فقال: (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها)(1) .

فلبس المعصفر محرم، وهو المصبوغ بالحمرة بحيث تكون الحمرة خالصة منه (2) .

أما إذا كانت الحمرة غير خالصة فيه، بأن كانت الحمرة خطوطاً فيه وإن كانت غالبة فهو جائز، لما ثبت في البخاري عن البراء قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً وقد رأيته عليه حلة حمراء ما رأيت شيئاً أحسن منه)(3) فهنا قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء فدل على جواز لبس الحلة الحمراء وهنا ليست حمرتها خالصة بل هي من أنواع البرُد اليمانية – كما ذكر ابن القيم – وهي ذات خطوط حمر مع سواد في بقية الثوب، فهو ثوب أسود فيه خطوط حمراء.

وسميت حلة حمراء نسبة إلى هذه الخطوط الحمراء التي فيه وليس أن هذه الحلة كلها حمراء بل مع الحمرة غيرها.

وأما الثياب الحمراء الخالصة فلا يجوز لبسها.

وهنا قد ذكروا الكراهية.

والراجح هو التحريم للأحاديث المتقدمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قوله:(إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها)(4) فهذا فيه نهي، وفيه أن هذه الثياب في لبسها تشبه بالكفار والتشبه بالكفار محرم.

وقد ذكر ابن حجر في هذه المسألة سبعة أقوال قال: " وأصحها المنع "(5) وهو كما قال.

فالراجح: أن لبس الثوب الأحمر إن كان خالصاً بحتاً ليس مشوباً فهو محرم، وأما إن كان مخلوطاً بغيره فإنه جائز.

(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (2077) .

(2)

لعلها منه.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الثوب الأحمر (5848) ، وفي كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3551) . وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجهاً (2337) .

(4)

تقدم.

ص: 78

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المياثر الحمر " (1) .

والمياثر هي السروج التي يركب عليها، فهذا يدل على أن الجلوس على شيء من الفرش الحمراء أنه محرم وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

" والمزعفر للرجال ": المزعفر: هو الثوب الذي قد صبغ بالزعفران.

ودليل النهي عنه: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يتزعفر الرجل)(2)

* وهل هذا التحريم للونه وهو الصفرة أو أن ذلك لرائحته؟

(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب لبس القسي (5838) ، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة

(2066) من حديث البراء بن عازب ولفظه في مسلم: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع .... ونهانا عن خواتيم

وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي.. "

(2)

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب التزعفر للرجال (5846) من حديث أنس قال:" نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل " وأخرجه مسلم بنفس اللفظ في كتاب اللباس والزينة، باب نهي الرجل عن التزعفر (2101) .

ص: 79

الأظهر أن التحريم ليس للونه بل لرائحته، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود وأصله في الصحيحين والحديث إسناده صحيح: أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلأ ثيابه منها، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: (إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها، وكان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته)(1)

فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، وهذا دال على جواز ذلك ما لم تكن الصفرة عن زعفران فإنه يكون محرم للنهي المتقدم.

والحنابلة يرون الكراهية، والحديث ظاهر التحريم وهو مذهب الأحناف والشافعية وهو القول الراجح وأنه محرم لظاهر النهي.

فلا يجوز له أن يلبس ثوباً مزعفراً، أما إذا كان الثوب أصفراً من غير زعفران فإنه جائز لا حرج فيه.

والحمد لله رب العالمين

الدرس السادس والستون

(يوم الأحد: 7 / 3 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها اجتناب النجاسات)

ومنها: أي من شروط الصلاة.

فاجتناب النجاسات في الثوب والبدن والبقعة من شروط الصلاة.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في المصبوغ بالصفرة (4064) قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، حدثنا عبد العزيز - يعن ابن محمد - عن زيد - يعني ابن أسلم - أن ابن عمر كان يصبغ لحيته

" وأخرج البخاري في اللباس، باب النعال السبتية وغيرها (5850) ، عن ابن عمر: " أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها "، وأخرجه مسلم في الحج مثل رواية البخاري، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة رقم (1187) .

ص: 80

ومن أدلة ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في دم الحيض يصيب الثوب – (تحته ثم تقرصه [بالماء] ثم تنضحه وتصلي)(1) وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أن يراق على بول الأعرابي في المسجد ذنوباً من ماء)(2) من حديث أنس.

قال: (فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها)

فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها فصلاته لا تصح لذا قال بعد ذلك: (لم تصح صلاته) .

فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها وإن لم يباشرها بيده بل كانت بإناء ونحوه فإن الصلاة لا تصح.

وإنما قال: لا يعفى عنها، لأن النجاسة المعفو عنها حملها لا يبطل الصلاة.

مثال ذلك: حمل الطفل مع ثبوت النجاسة الباطنة فيه، فهذا لا يؤثر في الصلاة لأنها نجاسة معفو عنها، لذا ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حمل أمامة بنت زينب وهو يصلي فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها)(3) .

فحمل الطفل حيث لم يكن على بدنه وثوبه نجاسة لا يبطل الصلاة.

ومثل ذلك: حمل أحد في الصلاة يحتاج إلى حمل مع أثر استجمار، فإن أثر الاستجمار في محله معفو عنه فلم يكن ذلك مؤثراً في الصلاة.

وذلك: لأن النجاسة في معدتها فهي في باطن الآدمي فهي معفو عنها للحديث المتقدم في حمل أمامة بنت زينب.

أما لو حمل طفلاً وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة فصلاته باطلة؛ لأن النجاسة غير معفو عنها فليست في معدتها.

فإذن: من حمل شيئاً فيه نجاسة وإن لم يكن يباشر النجاسة بيده فإن الصلاة لا تصح؛ لأنه حامل للنجاسة أما إذا كانت النجاسة في معدنها الأصلي فالصلاة صحيحة.

(1) متفق عليه وقد تقدم في الطهارة.

(2)

متفق عليه وقد تقدم في الطهارة.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (516) عن أبي قتادة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة

) ، وأخرجه مسلم (543) .

ص: 81

قال: (أو لاقها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته)

لاقي النجاسة بيده أو رجله أو ثوبه فإن صلاته باطلة؛ للأحاديث المتقدمة، فإنه إذا لاقها وباشرها فإنه خالف ما يجب عليه من اجتناب النجاسة، كما أنه إذا حملها فكذلك، والواجب عليه أن يجتنب النجاسة فإن من شروط الصلاة اجتنابها وهو حيث حملها أو باشرها فإنه لا يعد مجتنباً لها فيكون حينئذ: مخالفاً لشرط من شروط الصلاة، فتبطل الصلاة به.

قال: (وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت)

صورة ذلك: أرض نجسة فطينها بطين أو وضع عليها فراش فصلى عليها فصلاته صحيحة مع الكراهية.

ومثل ذلك: ما يوضع الآن في البيوت من مجمع النجاسة فإنه يوضع عليه شيء من العازل من الأسمنت وغيره فإذا صلى عليه، فصلاته صحيحة مع الكراهية.

أما كونها صحيحة فلأنه لم يباشر النجاسة ولم يحملها فهو مجتنب للنجاسة في ثوبه وبدنه وبقعته.

وأما كونه يكره فقالوا: لأن هذه البقعة الطاهرة المباشرة له التي صلى عليها وهي معتمدة على أرض نجسة فالكراهية للاعتماد على الأرض النجسة.

- وعن الإمام أحمد: ألا كراهية – وهو الظاهر والراجح –؛ لأن الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.

فإنه قد فعل ما يجب عليه من اجتناب النجاسة في ثوبه وبدنه وبقعته فصلى على بقعة مباشرة له متصفة بالطهارة فلا معنى – حينئذ – للكراهية ولا دليل يدل على ذلك.

نعم الأولى أن يصلي في بقعة غير هذه البقعة، ولكن لو صلى فيها فصلاته صحيحة بلا كراهية.

قال: (وإن كانت بطرف مصلى متصل به صحت إن لم ينجر بمشيه)

هنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: صلى على فراش في طرفه نجاسة أي صلى في جهة فيه وفي الجهة الأخرى نجاسة فهنا لا يؤثر ذلك في صلاته؛ لأن البقعة التي باشرها في الصلاة بقعة طاهرة – وهذا باتفاق أهل العلم.

ص: 82

- وإن كانت النجاسة تتحرك بتحرك المحل الطاهر، بمعنى: هو فراش واحد فصلى في أحد طرفيه وفي الطرف الآخر نجاسة فإذا حركنا الطرف الطاهر تحرك الطرف النجس ولكن مع ذلك الصلاة صحيحة؛ لأن بقعته بقعة طاهرة، وقد صلى فيها، فهو مجتنب للنجاسة.

الصورة الثانية: رجل صلى على بقعة طاهرة وهو مرتبط ببدنه بشيء نجس، يعني: ليس بحامل له.

ولكن مرتبط به فهنا صورتان:

أ) الصورة الأولى: أن ينجر بمشيه كأن يربط به كلب أو خنزير وهو يصلي فهذا الكلب والخنزير ينجر بمشيه. فالصلاة باطلة.

ب) الصورة الثانية: رجل ربط به سفينة مصنوعة من عظام نجسة وهي لا تنجر بمشيه، فالصلاة صحيحة.

فالصورة الأولى: هذه النجاسة ليست متصلة ببقعة بل متصلة ببدنه بحيث أنه لو تحرك لتحركت النجاسة معه قالوا: ولو لم تتحرك النجاسة معه ولو لم يمش فإن النجاسة هو مستتبع لها فيكون كحاملها.

أما إذا كانت لا تنجر بمشيه بطبيعتها فإنها حينئذ ليست بمستتبعة له.

هذا هو المشهور في المذهب.

ونظَّر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة؛ لأنه ليس من فرق بين الصورتين، إلا أن الأولى نجاسة ثقيلة لا يمكن استتباعها وهنا النجاسة خفيفة يمكن استتباعها، وهذا في الحقيقة – فرق غير مؤثر، فإنه مرتبط بالنجاسة في كلتا الحالتين إلا أن هذه ثقيلة لا تنجر بالمشي وهذه خفيفة تنجر بالمشي وهذا ليس بمعتبر، وهو في الخفيفة ليس بمباشر للنجاسة وليس بحامل لها، فلا معنى للقول بأن الصلاة تكون باطلة، لأنه مجتنب للنجاسة فليس بمباشر لها ولا حامل لها بل بينه وبينها عازل فمثله لا يبطل الصلاة ولا يعد مواقعاً للنجاسة.

وهذا هو الراجح، وأنه إن كانت النجاسة متصلة به مستتبعة له أو غير مستتبعة ما لم يكن حاملاً لها أو مباشراً لها فصلاته صحيحة؛ لأنه مجتنب للنجاسة مباشرة وحملاً.

ص: 83

وهي – في الحقيقة – شبيهة بالمسألة المتفق عليها التي تقدمت، عندما يصلي على فراش طرفه نجس فإنه شبيهة بهذه المسألة.

فالأظهر أن الصلاة تكون صحيحة في هذه الصور الثلاث كلها.

قال: (وأن رأى عليه نجاسة بعد صلاته وجهل كونها فيها لم يعد)

رجل لما انتهى من الصلاة رأى على ثوبه نجاسة، ولم يعلم هل حدثت فيه قبل الصلاة أو أثناءها أو بعدها فهو جاهل في وقت حدوثها.

فصلاته صحيحة، لأنها قد صحت وثبتت شرعاً وإبطالها يحتاج إلى دليل، والأصل عدم وقوع النجاسة عليه في الصلاة، فالأصل أنه صلى صلاة صحيحة متعرية عن أي مبطل من مبطلاتها والشك هنا لا يزيل اليقين.

قال: (وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد)

رجل صلى فلما انتهى رأى نجاسة على بدنه وقد كان يعلم بها قبل الصلاة لكنه نسيها أو كان جاهلاً بها بمعنى: جهل أنها نجاسة كأن يقال له: بعد أن صلى، هذا الماء الذي على ثوبك ماء نجس.

1-

فعلى المشهور في المذهب: يجب عليه أن يعيد.

قالوا: لأنه شرط كالطهارة من الحدث، فكما أن المحدث يجب عليه إذا نسى حدثه أو جهله يجب عليه بالاتفاق أن يعيد الصلاة، فما دام الأمر كذلك، فكذلك في اجتناب النجاسة فهو شرط كالطهارة من الحدث.

2-

والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب إسحاق وابن المنذر واختيار شيخ الإسلام: أنه لا يجب عليه أن يعيد.

ص: 84

واستدلوا: بما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذا خلع نعليه، فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن عليها قذراً أو قال أذى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما)(1)

قالوا: في هذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم جهل النجاسة فلم يعلم بها إلا أثناء الصلاة فأتم صلاته ولو كان ذلك مبطلاً للصلاة لأبطل أولها ولوجب عليه أن يعيد الصلاة، كما أنه لو تذكر أنه محدث أثناء الصلاة فيجب عليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة.

قالوا: والفرق بين الطهارة من الحدث والطهارة من النجس فرق واضح فلا يصح قياس أحدهما على الآخر فإن الطهارة من الحدث وهي الغسل والوضوء – من باب الأفعال – والطهارة من النجس من باب التروك.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (650) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي نُعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القول ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:(ما حملكم على إلقاء نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن جبريل أتاني فأخبرني أنفيها قذراً) أو قال: أذى، وقال:(إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما) .

ص: 85

وما كان من قسم التروك فإن الشارع يطالب العبد باجتنابه والبعد عنه، وحيث فعله مخطئا أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع، فالشارع يريد منه ألا يفعله أي متعمداً وحيث فعله مخطئاً أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع فلم يكن ذلك مبطلاً للعبادة، والحديث المتقدم يدل على هذه القاعدة الصحيحة.

ومثل ذلك لو تذكر أو أخبر أثناء الصلاة فإنه يستمر في صلاته بعد إزالة النجاسة فإن لم يمكنه إزالة النجاسة إلا بعمل كثير مبطل للصلاة فإنه يجب أن يقطع الصلاة ثم يزيل النجاسة ويعيد الصلاة من جديد؛ لأنه لا يمكنه أن يزيل النجاسة –حينئذ- إلا بعمل كثير مناقض ومناف للصلاة.

قال: (ومن جبر عظمه بنجس لم يجب قلعه مع الضرر)

رجل جبر بعظم نجس أو خيّط جرحه بخيط نجس أو نحو ذلك فهنا الواجب عليه إذا صلى أن يجتنب النجاسة، والنجاسة ثابتة فيه فيما وضع لجبر عظمه أو لخيط جرحه، فحينئذ لا يجب قلعه مع الضرر، لحديث (لا ضرر ولا ضرار)(1)

(1) قال في الأربعين: " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً.

ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً ".

وقد أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) .

(2340)

حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ".

وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) .

نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) .

نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا إضرار) .

نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".

ص: 86

والشارع لا يأمر ولا ينهي فيما يترتب على المسلم فيه الضرر في ماله أو بدنه أو نحو ذلك، وهنا يترتب عليه الضرر فلم يجب ذلك عليه.

أما إن لم يثبت الضرر فيجب عليه أن يزيله، لأن الواجب عليه أن يجتنب النجاسة، وحيث كان ذلك عليه، فإنه مباشر للنجاسة غير مجتنب لها مع قدرته على إزالتها فحينئذ: صلاته باطلة.

قال: (وما سقط منه من عضو أو سن فطاهر)

لأن ما كان من الآدمي فإنه طاهر، فالمسلم لا ينجس ومثله الكافر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(ما أبين من حي فهو كميتته)(1) .

فما وقع من الإنسان من عظم أو سن ثم أعيد إليه ووصل به فصلاته به صحيحة؛ لأنه ببينونته وانفصاله لم ينجس بذلك فإذا أعيد فإنه عضو طاهر وحينئذ: فلا يكون مواقعاً للنجاسة. فصلاته صحيحة وإن كان قادراً على إزالته لأنه ليس بنجس.

قال: (ولا تصح الصلاة في مقبرة، وحش وحمام وأعطان إبل ومغصوب)

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في صيد قُطع منه قطعة (2858) قال:" حدثنا عثمان أبي شيبة، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة) . وأخرجه الترمذي أتم منه في الصيد حديث (1480) باب ما قطع من الحي فهو ميت، وقا ل: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه عن ابن عمر في الصيد حديث (3216) ، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، سنن أبي داود [3 / 277] .

ص: 87

لا تصح الصلاة في المقبرة لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو داود والترمذي -: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)(1)

وإن كان هناك موضع فيه قبر أو قبران فهل تصح فيه الصلاة أم لا؟

ينبني على هذا الموضع هل يسمى مقبرة أم لا؟

فالمشهور في المذهب: أنه ليس بمقبرة، فعليه: يجوز أن يصلي فيه.

والقول الثاني في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن الصلاة لا تصح فيه؛ لأن اسم المقبرة شامل له، فإن المقبرة ما يقبر فيها سواء كان فيها قبر أو قبران.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492) قال:" حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة) ، وأخرجه ابن ماجه (745) والترمذي في الصلاة (317) وقال: " وهذا حديث فيه اضطراب، روى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكأن عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت وأصح مرسلاً.. " سنن أبي داود [1 / 330] .

ص: 88

ثم إن العلة التي من أجلها نهى الشارع عن الصلاة في المقابر ثابتة فيه، فإن العلة هي سد ذريعة الشرك فإن تعظيم القبور هو أصل الشرك الواقع في العالم، والصلاة في الموضع الذي فيه قبر أو قبران ثابتة فيه هذه العلة سواء سميناه مقبرة أو لم نسميه.

فالراجح أنها صلاة باطلة.

وعليه – فكذلك – خلافاً للمشهور في المذهب ولو صلى في موضع في بيته قد دفن فيه ميت من أمواتهم كأن يدفنوا ميتهم في ناحية من نواحي البيت، فهذا الموضع الذي حول القبر لا يجوز أن يصلي فيه للعلة المتقدمة وقد قال صلى الله عليه وسلم:(صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً)(1) فدل على أن القبور ليست موضعاً للصلاة.

فإن نبشت القبور فيجوز أن يصلي في هذا الموضع لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نبش قبور المشركين التي كانت في حائط لبني النجار ثم صلى فيه، وبنى فيه مسجده)(2)

* وهل تدخل في ذلك صلاة الجنازة أم لا؟

ثلاث روايات عن الإمام أحمد:

الرواية الأولى: أن صلاة الجنازة تدخل في هذا فعلى ذلك صلاة الجنازة في المقبرة باطلة.

(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت (451) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كراهية الصلاة في المقابر (432) بلفظ: " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) ، وفي آخر كتاب التهجد، باب التطوع في البيت (1187) ، وأخرجه مسلم (777) .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة،باب هل تبنش قبور مشركي الجاهلية.. (428) عن أنس قال: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم

"، وأخرجه مسلم (524) في كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في بناء المسجد (453) .

ص: 89

والرواية الثانية: أنها صحيحة مع الكراهية.

والرواية الثالثة: أنها تصح بلا كراهية.

وأصحها القول الأول وأن الصلاة على الجنازة في المقابر باطلة لا تصح، لما ثبت في المختارة والطبراني في الأوسط بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور)(1) ولكن يستثنى من ذلك الصلاة على الميت في قبره بعد دفنه حيث فاتته الصلاة فإنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إذن: هل تدخل صلاة الجنازة في عموم النهي أم لا؟

قولان في المذهب:

الأول: أنها تدخل وهو رواية عن الإمام أحمد.

الثاني: أنها لا تدخل وإذا قلنا بعدم دخولها فهل تكره أم لا؟ قولان في المذهب.

والصحيح أنها باطلة في المقابر إلا ما ورد عن الشارع من الصلاة على الميت في قبره لمن فاتته الصلاة. (2)

(1) قال في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 36

في باب الصلاة على الجنازة بين القبور: " عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي على الجنائز بين القبور رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن " ا. هـ. من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

(2)

قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات ما نصه: " الفرع الثاني: - أنه إذا أتي إلى مقبرة، فبني فيها مسجدا، فالأرض أرض مقبرة: فإن الصلاة لا تصح بحال، لأنها مقبرة، ولا حكم للمسجد، لم لا حكم للمسجد؟ لأن المسجد هنا منهي عنه، فهو كالمغصوب.

- الحال الثانية: أن تكون الأرض أرض مسجد ثم يبنى فيها قبر: فهنا تصح الصلاة فيها، لأنها أرض مسجد، وهذا القبر أجنبي، وليس لعرق ظالم حق، لكن لا يستقبل القبر، فالمساجد التي توجد فيها قبور، كالمسجد الأموي فيه قبر لكن في الأصل لم يكن فيه قبر. وهذا ما قرره شيخ الإسلام في شرح العمدة. إذاً: إذا كانت الأرض أرض مسجد ثم دفن فيها قبر أو قبران أو ثلاثة، فالصلاة تصح، لكن لا يستقبل القبر، لأنه لو استقبله، دخل في قول النبي- صلى الله عليه وسلم:(لا تصلوا إلى القبور) .

ويدخل في المقبرة، والمقبرة تتناوله: الفناء وحريمها، كل ذلك داخل في المقبرة، لأن ذلك كله يتناوله اسم المقبرة، فليس له أن يصلي فيه.

ص: 90

قال: (أو حش)

هو موضع قضاء الحاجة.

وأما الحمام فهو موضع الاغتسال والاستحمام، فالصلاة في الحش باطلة لأن (1) إبطالها أولى من إبطال الصلاة بالحمام فهي أولى وأظهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)(2) ولما ثبت عن ابن عباس – في مصنف عبد الرزاق – أنه قال: (لا تصلين إلى حش ولا إلى حمام ولا في مقبرة)(3) وإذا ثبت عنه النهي عن الصلاة إلى الحش فأولى منه الصلاة في الحش، فهي صلاة باطلة.

(أو حمام)

للحديث المتقدم، حديث أحمد والترمذي:(الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) .

قال: (وأعطان إبل)

جمع عطن أي المواضع التي تبرك فيها وتأوي إليها، فالصلاة فيها باطلة للحديث المتقدم في باب نواقض الوضوء من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تصلوا في معاطن الإبل)(4) والنهي هنا يعود إلى ذات الصلاة وحيث كان ذلك فإنه يفيد بطلان الصلاة.

قال: (أو مغصوب)

إذا صلى في أرض قد اغتصبها فهل تصح الصلاة أم لا؟

قال هنا: لا تصح. هذا هو المشهور في المذهب.

للمعنى المتقدم: لأنه آثم حيث اغتصب هذه الأرض فلا يمكن أن يكون مثاباً مأجوراً على الصلاة فيكون في آن واحد مثاباً آثماً.

(1) في الأصل: لأنها.

(2)

أخرجه أبو داود والترمذي، وقد تقدم.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [1 / 405] برقم (1584) في باب الصلاة على القبور قال عبد الرزاق: عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس.. "

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل (493)، وفي باب الوضوء من لحوم الإبل من كتاب الطهارة (184) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل (348) مختصراً بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل) .

ص: 91

والقول الثاني وهو مذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه: أن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة.

قالوا: لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فهي صلاة صحيحة لا معنى ببطلانها والنهي لا يعود إليها.

ولا مانع من أن يكون آثماً مأجوراً في آن واحد فهو آثم بكونه قد اغتصب الأرض وهو مواقع للاغتصاب مشتغل به.

وهو مأجور لكونه يصلي.

فليس ذلك من جهة واحدة بل من جهتين فحينئذ: الصلاة صحيحة وهو الراجح.

ومثل ذلك: المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق في المشهور من المذهب فلا تصح الصلاة فيها لما روى الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلى في سبعة مواضع: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام وأعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله)(1) لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف.

إلا أن للفظ " قارعة الطريق " شاهداً عند ابن ماجه (2) من حديث ابن لهيعة.

لذا ذهب بعض أهل العلم من الحنابلة كالموفق وغيره وهو مذهب الجمهور: إلى أن الصلاة في هذه المواضع صحيحة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)(3)

والحكم ببطلان الصلاة في موضع والنهي عنه يحتاج إلى دليل يدل على ذلك، والحديث الوارد فيها ضعيف.

(1) قال في الإرواء: 1 / 318] : " ضعيف، رواه الترمذي (2 / 177 – 178) وابن ماجه (746) وعبد بن حميد في " المنتخب من المسند " (ق 84 / 2) والطحاوي في شرح المعاني (1 / 224) وأبو علي الطوسي في مختصر الاحكام (ق 36 / 1) والبيهقي (2 / 229 – 230) عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر به ".

(2)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق (330) .

ص: 92

إذن: الصلاة فيها صحيحة، لكن الأولى ولا شك ترك ذلك. (1)

فلو صلى في قارعة الطريق فالصلاة صحيحة لكنه مخطئ حيث زاحم الناس في طرقهم فإن قارعة الطريق ما يقرعه الناس ويطرقونه ويحتاجون إلى المشي عليه ويكثر ذلك فيه.

قال: (وأسطحتها)

فأسطحة هذه المواضع لا تصح الصلاة فيها فلو صلى في سطح حمام أو مقبرة أو غير ذلك قالوا: فلا تصح صلاته، لأن الهواء تبع للقرار.

فالشخص إذا ملك بقعة من الأرض فهو مالك لهوائها. قالوا: فكذلك هنا.

والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق: أن الصلاة صحيحة – وهذا هو القول الراجح (2)

(1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات الذي شرحه بداية عام 1420 ما نصه: " والقول الثاني في المسألة: أن الصلاة تصح في المزبلة والمزجرة وقارعة الطريق. وهو اختيار الموفق ابن قدامة.

لكن الراجح الأول لما تقدم، لأن القياس يدل عليه " ا. هـ.

(2)

قال شيخنا في شرح أخصر المختصرات ما نصه: " والراجح: هو التفصيل: إن كان السطح بحيث يصدق عليه اسم ما أسفل منه – فهو تبع له -، فإن الصلاة لا تصح.

وإن كان بحيث لا يتبعه ولا يتناوله اسمه، فإن الصلاة تصح فيه.

مثال: عندما يصلي في مسجد بني في مقبرة، فيصلي في سطحه، فهل يمنع من ذلك؟

نعم، لم؟ لأن الاسم يتناوله، منع من الصلاة في المقبرة فيدخل في ذلك هواؤها، وهذا المسجد قد بني في المقبرة، فسطحه وأسفله داخلان. لكن إذا بنى دورا علويا ووضع فيه غرفة، والذي أسفل من هذه الغرفة حش، فهل هذه الغرفة تتبع هذا الحش في الاسم؟ لا، إذا: الصلاة تصح.

مثال آخر: هذه الحشوش التي تكون في المساجد – كما تعلمون منفصلة -، فهل سطحها يدخل فيها؟ الظاهر: نعم، لأن الأصل في السطح أنه يتبع، وهذه لم يبن فوقها ما يخرجها عن أن تدخل في الاسم الحش. لكن لو بنى بيتا، وفي أسفله قبر أو قبران – رجل مات والده، فدفنه في أرضه، ثم إنه بنى فوق هذا القبر فأصبح القبر في القبو، فهل يدخل في المنع؟ الظاهر: أنه لا يدخل في المنع، لأن ما فوق لا يصدق عليه أنه مقبرة. إذاً: إذا صدق عليه أن له هذا الاسم، وأن هذا الاسم يتناوله، وأنه يتبعه، فينهى عن ذلك، وإلا فلا. وهذا نحو ما قرره شيخ الإسلام في شرحه للعمدة " ا. هـ

ص: 93

؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة والنهي عن الصلاة وإبطالها يحتاج إلى دليل.

وإنما نهى الشارع عن هذه المواضع لعلل ثابتة فيها ولا يثبت ذلك في أسطحتها.

فمثلاً: نهى الشارع عن الصلاة في المقبرة لوجود القبور فيها وهذا أصل شرك العالم.

أما لو صلى فوقها على سطح يغطي المقبرة كلها أو يغطي موضعاً فيه قبراً أو قبرين أو ثلاثة فإنه – حينئذ – لا معنى للقول بأن الصلاة باطلة وإن كان الهواء تبعاً للقرار، لأن المعنى الموجود في القرار ليس موجوداً في الهواء فحينئذ: لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار.

مع أن المشهور في المذهب أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى – وحيث قالوا بذلك: وهو خلاف الحق – فإن القياس باطل، لأن شرط القياس معرفة العلة وثبوتها وألا تكون العلة تعبدية. وما دام أنهم قالوا: إنها تعبدية فإنه لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار لأن القياس باطل لعدم ثبوت العلة.

إذن: الراجح أن الصلاة في أسطحتها صحيحة.

قال: (وتصح إليها)

فلو صلى إلى أعطان إبل أو حمام أو حش أو مقبرة قالوا: الصلاة صحيحة، لأن النهي إنما ورد في الصلاة وفي هذه المواضع، وحيث كانت في قبلته وصلى إليها فإنه لم يصل فيها فلا معنى – حينئذ – لإبطال الصلاة.

وهذا صحيح، لكن ليس في كل هذه المسائل، بل قد وردت الأدلة الشرعية في استثناء بعض المسائل، فالصلاة إلى المقبرة صلاة باطلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المجد بن تيمية وشيخ الإسلام.

واستدلوا: بما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)(1) فهذا يدل على أن الصلاة إلى القبور محرمة وحيث كانت محرمة فهي باطلة لأن النهي يعود إلى ذات العبادة فالصلاة إلى المقبرة باطلة.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (972) .

ص: 94

ومثل ذلك: الصلاة إلى الحش وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره بعض أصحابه، للأثر المتقدم عن ابن عباس:(لا تصلين إلى حش)(1) ولا يعلم له مخالف فيكون قوله حجة.

فالصلاة إلى الحش وإلى الحمام قد ثبت عن ابن عباس، والنهي عائد إلى الذات فتفيد البطلان.

وليس عندنا من يخالف ابن عباس فيكون قوله حجة.

إذن الصلاة إلى المقبرة والحمام والحش باطلة.

أما الصلاة إلى أعطان الإبل، أو إلى أرض مغصوبة - على القول ببطلان الصلاة فيها - فإن الصلاة صحيحة ولا أثر إلى استقبالها.

وكيف يكون استقبالها؟

المشهور في المذهب أنه إذا كان بينه وبين الحش أو المقبرة ما يستتر به من كان متخلياً بأن يكون بينه وبينها مؤخرة الرحل، فإن الصلاة تكون صحيحة.

وعليه فحائط المسجد ساتر، فإن كانت أمام المسجد مقبرة فحائطه يكون ساتراً.

وهناك قول ثاني في المذهب اختاره المجد ابن تيمية وهو القول الراجح: أن حائط المسجد لا يكفي بل لابد أن يكون هناك فاصل آخر يفصل بينهما، ومثل مؤخرة الرحل لا يعد ذلك شيئاً، فإن الرجل يعد مستقبل القبلة وإن كان بينه وبين القبلة شيئاً.

ولكن حيث كان بينه وبين المقبرة شيء فلا حرج في ذلك إذ المشقة تلحق بالنهي عن استقبالها حيث كانت هناك بيوت أو حوائل أو نحو ذلك.

وأما إيجاد ساتر بينهما فإنه لا مشقة فيه فعليه لا يكفي حائط المسجد ولا حائط المقبرة بل لابد أن يكون بينهما عازل آخر بحيث لا يكون المسجد مستقبلاً المقبرة.

ومثل ذلك الحش فلو صلى في غرفة تتوجه إلى الحش أو الحمام فالصلاة كذلك باطلة ولا يكفي الحائط بينهما بل لابد أن يكون هناك حائل آخر.

فلو كان هناك غرفة بينهما فإن ذلك يجزئ.

(1) رواه عبد الرزاق، وقد تقدم.

ص: 95

هذا هو الأصح من الوجهين في المذهب وأنه لا يكفي ما هو كمؤخرة الرحل ولا حائط المسجد ولا حائط الغرفة التي يصلي فيها بل لابد أن يكون بينه وبين ذلك حائط يجعل هذا الموضع غير مستقبل لذاك الموضع والعلم عند الله تعالى.

قال: (ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخص فيها)

أما كون النافلة تصح في الكعبة وعلى ظهرها فهذا قد أجمع عليه أهل العلم، وثبتت السنة الصحيحة فيما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم:

(دخل البيت فصلى فيه)(1) .

ولكن هل يشترط أن يستقبل شاخصاً منها أم لا؟

يعني: رجل صلى في سطحها وليس أمامه إلا هواءها فهل تصح أم لا؟

هنا قال: (باستقبال شاخص فيها) .

والقول الثاني في المذهب: أنه لا يشترط ذلك.

إذن: إذا صلى في سطح الكعبة حيث لا يستقبل شيئاً منها – أو صلى في الكعبة – واستقبل بابها وهو مفتوح فهو ليس بمستقبل شاخص منها فهل الصلاة صحيحة؟

قالوا: لا تصح – هذا هو المشهور في المذهب – قالوا: لأنه ليس بمستقبل شيئاً منها، والواجب أن يستقبل شيئاً منها أي من جدارها أو نحوه.

والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وهو الراجح: أن ذلك ليس بشرط لأن الواجب هو استقبال هوائها وموقعها وليس الواجب هو استقبال بنيانها.

بدليل: أن من صلى إلى جنب الكعبة على علو فإن صلاته صحيحة، مع أنه يواجه ويسامت هواءها لا بنيانها.

فكذلك هنا فالواجب إنما هو استقبال هوائها وقد استقبله وليس الواجب أن يستقبل شيئاً منها. وهذا القول هو الراجح.

أما الفريضة فقال هنا: (لا تصح في الكعبة ولا فوقها)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة (504)(505) . ومسلم (1329)

ص: 96

قالوا: لأن الله تعالى قال {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (1) وهذا لم يتوجه إلى الكعبة حيث صلى فيها أو إلى شيء منها، فالواجب أن يتوجه إليها، وهو فيها أو عليها فليس متوجهاً إليها.

والنافلة فيها تسامح وتخفيف فجازت دون الفريضة هذا هو المشهور في المذهب.

والقول الثاني وهو مذهب الجمهور: أن الصلاة فريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة؛ قالوا: لأنها صحت نافلة وحيث صحت نافلة فالفريضة كذلك؛ لأن الأصل أن الفرائض والنوافل في حكم واحد وتخصيص الفرائض يحتاج إلى دليل ولا دليل.

وكونه يؤمر بالتوجه إليها ليس المقصود أن يتوجه إلى جميعها: بدليل أنه لو صلى إلى طرف الكعبة خارجاً عنها واستقبل ركناً من أركانها فإن الصلاة صحيحة اتفاقاً وهو إنما استقبل شيئاً منها، وهو كذلك حيث صلى فيها أو في سطحها فقد استقبل شيئاً من هوائها، فيكون قد استقبل منها ما تصح به الصلاة.

وهذا القول هو الراجح فصلاة الفريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة؛ لأنه مستقبل لشيء منها، كما لو كان خارجاً عنها وقد استقبل شيئاً من أركانها وإن لم يستقبلها جميعاً، فإن الصلاة صحيحة.

وأما الآية الكريمة: فإنها فيمن كان خارج الحرم فإنها في أهل المدينة ونحوهم وأن الواجب عليهم أن يتوجهوا إلى شطرها أي ناحيتها وجهتها ومثل ذلك: من كان في مكة خارجاً عن الحرم فإنه يستقبل جهتها.

وأما من كان في الحرم فإنه يستقبل عينها ولا يشترط – كما تقدم – أن يستقبل جميعها بل لو استقبل بعضها يصح كما لو صلى خارجها مستقبلاً لركنها، فكذلك إذا صلى مستقبلاً لشيء من جوانبها.

وقد تقدم عدم اشتراط الشاخص فيها وأن هواءها كاف؛ لأن الواجب إنما هو استقبال هوائها وقرارها وموضعها لا استقبال بنيانها.

والحمد لله رب العالمين

الدرس السابع والستون

(يوم الاثنين: 8 / 3 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها استقبال القبلة)

(1) سورة البقرة.

ص: 97

أي من شروط الصلاة استقبال القبلة – باتفاق أهل العلم لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته: (ثم استقبل القبلة فكبر)(2) .

قال: (فلا تصح بدونه)

فلو صلى إلى غير القبلة مع قدرته على استقبالها فإن صلاته باطلة.

قال: (إلا لعاجز)

أي عاجز عن استقبالها، كمربوط أو مصلوب إلى غير القبلة فإن هذا لا يمكنه أن يستقبلها، فيجب عليه أن يصلي الصلاة على حسب حاله لقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} (3) والحديث:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)(4)

(1) سورة البقرة.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251) ، وأخرجه مسلم (397) .

(3)

سورة التغابن 16.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) "

وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337)[صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ".

وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357)[صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) .

وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء.

حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ".

ص: 98

متفق عليه.

ومثل ذلك بعض صور صلاة الخوف – وسيأتي الكلام عليها في بابها -.

قال: (ومتنفل راكب سائر في سفر)

" راكب " لا ماشي وسيأتي الكلام على الماشي.

" سائر " لا نازل، فإذا كان نازلاً فيجب أن يصلي مستقبل القبلة.

" في سفر " سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً.

والسفر القصير عند الفقهاء: هو السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وهو ما دون 4 برد أو 16 فرسخاً وهي ما تزيد على 80 كم.

فلو سافر إلى بلدة دون هذه المسافة فهذا هو السفر القصير.

وأما إذا كان أربعة برد فهذا الذي يحل فيه قصر الصلاة – هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور – من تقسيم السفر إلى سفر طويل وقصير – وسيأتي ترجيح الظاهر في هذه المسألة وأن السفر مطلق ليس منه القصير والطويل، بل متى ثبت السفر فإن القصر يكون مشروعاً ولا فرق بين طويل السفر أو قصيره.

فعلى المذهب: لو خرج إلى قرية قريبة لا يقصر فيها الصلاة فيجوز له أن يصلي النافلة على راحلته غير مستقبل القبلة وأولى منه لو سافر سفراً تقصر فيه الصلاة.

هذا مذهب جمهور العلماء وأن السفر هنا مطلق يدخل فيه القصير والطويل.

وذهب الإمام مالك: إلى أن الصلاة على الراحلة في النفل لا تشرع إلا في السفر الطويل والسفر الطويل هو ما ثبت فيه القصر، وما لم يثبت فيه القصر فلا يشرع فيه ذلك.

وعن الإمام أحمد قول ثالث: وهو جوازه في الحضر وهو قول أبي يوسف من الأحناف وهو مذهب الظاهرية ومذهب بعض الشافعية.

إذن في المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه يجوز حضراً وسفراً – وهو رواية عن الإمام أحمد –.

القول الثاني: أنه لا يجوز في الحضر، وإنما يجوز في السفر مطلقاً طويلاً كان أو قصيراً – وهذا المشهور في مذهب الحنابلة –.

القول الثالث: وهو مذهب المالكية أنه لا يشرع إلا في السفر الطويل.

ص: 99

والصحيح منها ما ذهب إليه المالكية، للأحاديث الواردة في هذا الباب، فمن الأحاديث الواردة في أصل الرخصة في صلاة النفل على الراحلة – ما ثبت في الصحيحين عن عامر بن ربيعة قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به) زاد البخاري: (يومئ برأسه ولم يكن يصنعه في المكتوبة)(1)

وهذا الحديث ليس فيه أن ذلك في السفر، بل هو مطلق في السفر وفي غيره. وبه استدل من رأى أن النافلة يجوز أن تصلى على الراحلة في الحضر وهو رواية عن أحمد كما تقدم.

والحديث الثاني في هذا الباب: ما ثبت في البخاري عن عبد الله بن دينار قال: (كان عبد الله بن عمر إذا كان في السفر يصلي على راحلته أينما توجهت يومئ، وذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله)(2) وهنا فيه قيد السفر.

(1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة الطوع على الدواب وحيثما توجهت به (1093) بلفظ:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على راحلته حيث توجهت به "، وفي باب ينزل للمكتوبة (1097) بلفظ:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبح، يومئ برأسه قبل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة ". وأخربجه مسلم مختصرا (701) في كتاب الصلاة،باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.

(2)

أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب (8) الإيماء في الدابة (1096) بنفس اللفظ إلا أن في بدايته:" كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي في السفر على راحلته.. "

ص: 100

والحديث الثالث: ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد عن أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه)(1) .

وفي هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور في أن ذلك إنما يكون في السفر، فإن مفهوم هذا الحديث أنه إن لم يكن في سفر فإنه لا يفعل ذلك – وهذا هو الأصل فإن الأصل في الصلاة أن تصلى إلى القبلة وأن يركع ويسجد وأن يفعل فيها ما يفعله المفترض إلا أن يدل دليل على ذلك، فقيد أنس هذا الفعل بأنه في السفر فيحمل عليه حديث عامر بن ربيعة فيقيد به إطلاق حديثه.

وإنما نرجح مذهب مالك؛ لأن ظاهر لفظة السفر في الشريعة السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإن الشارع شرع القصر في السفر، وهنا قد أتى لفظ السفر، فالأصل أن يكون هو السفر الذي رخص فيه بالقصر وغيره من الأحكام المختصة بالسفر، فيحمل لفظ السفر في حديث ابن عمر وأنس على السفر الذي يشرع فيه القصر.

وتقسيم السفر إلى طويل وقصير لا دليل عليه شرعي، وإطلاقات الشريعة ظاهرها أن السفر واحد وأن السفر الذي شرع فيه القصر هو السفر الذي شرعت فيه الصلاة على الراحلة تطوعاً حيث توجهت الراحلة.

إذن أرجح هذه المذاهب هو مذهب المالكية من أن هذا مشروع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وأما ما يسميه الفقهاء من السفر القصير فلا تشرع فيه، ومثله الحضر فكذلك لا تشرع فيه.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (277) التطوع على الراحلة والوتر (1225) قال:" حدثنا مسدد، حدثنا رِبْعي بن عبد الله بن الجارود، حدثني عمرو بن أبي الحجاج، حدثني الجارود بن أبي سَبْرة، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجّهه ركابه " قال المنذري: إسناده حسن ". سنن أبي داود مع المعالم [2 / 21] .

ص: 101

والسنة له أن يومئ بركوعه وسجوده، كما تقدم في حديث عامر بن ربيعة (يومئ رأسه) وحديث ابن عمر في قوله (أينما توجهت يومئ) وذكر عبد الله بن عمر أن:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أي من الصلاة والإيماء)(1) .

والسجود أخفض من الركوع لما ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث صحيح عن جابر قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع)(2) .

وفي صفته ما ذكره المؤلف بقوله:

(ويلزمه افتتاح الصلاة إليها)

هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختارها أكثر أصحابه أنه يلزمه افتتاح الصلاة إليها، فعلى ذلك يجب عليه أن يستقبل بركابه أو ببدنه جميعه القبلة فيكبر ثم يتوجه حيث توجه ركابه.

واستدلوا بحديث أنس المتقدم وفيه: (استقبل بناقته القبلة فكبر) قالوا: فهذا يدل على أن هذا الاستقبال فرض؛ لأنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيص الصلاة تنفلاً عن التوجه إلى القبلة في الراحلة في السفر، فيبقى على الأصل من استقبال القبلة فيكون توجهه إذا كبر مبق لهذا الركن على الأصل.

- والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه لا يجب عليه ذلك. وهذا أظهر، فيحمل حديث أنس على الاستحباب؛ لأنه فعل مجرد، والفعل المجرد يدل على الاستحباب.

فإن قيل: فلم لم تحمله على الفرضية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص هذا الركن بالتوجه إلى القبلة عن سائر الأركان وهو الأصل فوجب أن يبقى على الأصل؟

(1) تقدم قريبا.

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (277) التطوع على الراحلة والوتر (1227) ، وأخرجه الترمذي في الصلاة، باب الصلاة على الدابة حديث 351، سنن أبي داود [2 / 22] .

ص: 102

فالجواب أن يقال: إنه لا فرق بين التكبير وغيره فالتكبير جزء من أجزاء الصلاة لا فرق بينه وبين غيره، ولم يُذكر في حديث عامر بن ربيعة ولا في حديث عبد الله بن عمر ولا في حديث جابر، وحيث لم يذكر فإنه يدل على أنه لم يفعل في تلك الأحاديث.

فإن قيل: لم لا تقيد تلك الأحاديث بحديث أنس؟

فالجواب: إن الأفعال لا يقيد بعضها بعضاً، فإن كل فعل حكاية عين وحكاية واقعة، فهذا يحكي الواقعة التي رآها وهذا يحكي الواقعة التي رآها وهكذا.

وظاهر - ما ذكره (1) - من لم يذكرها أنها لم تقع من النبي صلى الله عليه وسلم.

فأظهر الروايتين عن الإمام أحمد أن ذلك لا يجب وهو الذي يقتضيه النظر والقياس فإنه لا فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها من سائر الأركان.

ولعل النبي صلى الله عليه وسلم حيثما فعل ذلك: أنه كان نازلاً فركب راحلته، وفي تلك الحال لا يشق أن يتوجه إلى القبلة فكبر متوجهاً إلى القبلة.

بخلاف ما إذا كان سائراً فإن هناك مشقة أن يقف فيستقبل القبلة ويكبر تكبيرة الإحرام.

ومعلوم أن من أحب أن يصلي ركعات كثيرة، كمن له ورد من الليل، فإنه على ذلك يحتاج أن يقف بعد كل ركعتين فيستقبل القبلة فيكبر، إن صلى مثنى مثنى.

ففي هذا مشقة ظاهرة، فالأولى ما تقدم وأنه ليس بواجب وهذا ما يقتضيه التخفيف والتسهيل في أمر النافلة، فمعلوم أن هذا أسهل للمحافظة عليها.

وهذا هو أصل مشروعية التنفل على الراحلة غير مستقبل القبلة وإخراجها عن الأصل من إيجاب الركوع والسجود ومن استقبال القبلة، وكذلك ما يكون في الحضر من كونه يصلي قاعداً – كل هذا من باب تخفيف وتسهيل أمر النافلة لتتم المحافظة عليها – والعلم عند الله تعالى.

قال: (وماشٍ)

كذلك الماشي من باب القياس، فلو كان ماشي في سفر فإنه يصلي حيث توجه.

(1) كذا في الأصل.

ص: 103

قالوا: لأن المعنى الموجود في الراكب موجود في الماشي فكل منهما يحتاج إلى أن يحافظ على النافلة، وكل منهما إذا وقف للنافلة فصلاها نازلاً فإنه ينقطع عن السير وربما فاتت عليه صحبته ونحو ذلك – فكان الماشي في هذا الحكم كالراكب لا فرق بين الاثنين وهو أحد نوعي المسافر. فالمسافرون: إما ركباناً أو مشاة.

- وعن الإمام أحمد: أن الماشي لا يشرع له ذلك ولا يجوز؛ لأن النص إنما ورد في الراكب وليس الماشي كالراكب؛ لأنه يحتاج إلى مشي كثير، والمشي الكثير مبطل للصلاة.

والأظهر هو القول الأول، لأنا حيث أسقطنا عنه استقبال القبلة وحيث أسقطنا عنه الركوع والسجود ونحو ذلك من فرائض الصلاة، فمثل ذلك أن يسقط عن الماشي ما هو من طبيعة سيره من المشي على قدميه فهذا أولى أن يسقط مما تقدم ذكره.

فالأظهر ما هو مشهور في المذهب من قياس الماشي على الراكب.

وحيث قلنا بوجوب استقبال القبلة عند الافتتاح، فيجب عليه ذلك، لذا قال:

(ويلزمه الافتتاح)

فهو في حكم الراكب.

وحيث قلنا أن الاستقبال عند الافتتاح لا يجب على الراكب فكذلك الماشي.

قال: (ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها)

فلا يجوز له أن يومئ بل يجب عليه أن يقف فيركع ويسجد إلى القبلة، لأنه يجب عليه الركوع والسجود – عندهم – وحيث وجب عليه فإنه لا حاجة إلى ألا يستقبل القبلة أي لا حاجة إلى إسقاط استقبال القبلة عنه.

- وعن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها المجد بن تيمية أنه يومئ بالركوع والسجود كالراكب.

وهذا هو الراجح، لأنا حيث قلنا بكونه يصلي وهو ماشي كان من الممكن أن يقف، والركوع والسجود يتكرر في الصلاة.

ص: 104

وحيث أمرناه بالوقوف والركوع والسجود في كل ركعة، فإن ذلك سيؤدى إلى انقطاع سيره، وسيلحقه شيئاً من المشقة، فلا فرق – حينئذ – بين أن يؤمر فيقف فيصلي وبين أن يؤمر بأن يقف فيركع ويسجد؛ لأن هذه الأفعال متكررة في الصلاة، فالركوع والسجود وما بينهما هذا يأخذ أكثر من شطر الصلاة، فيناقض ما هو المقصود من التخفيف والتسهيل في أمر النافلة.

فالأظهر: أنه يومئ بركوعه وسجوده وهذا كذلك الذي يقتضيه القياس على الراكب.

فالراجح: أنه لا يجب عليه الركوع والسجود ولا يجب أن يكون ذلك إلى القبلة، بل أصل الركوع والسجود ليس بواجب، فيكفيه أن يومئ إيماء عن الركوع والسجود، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع.

فعلى ذلك: صفة صلاة الماشي أن يكبر للإحرام مستقبل القبلة استحباباً ثم يتوجه حيث شاء ثم يومئ بالركوع والسجود.

أما صفته على المذهب: فيجب أن يستفتح الصلاة تجاه القبلة ثم يتوجه حيث شاء ثم إذا حان الركوع والسجود يقف فيركع أو يسجد إلى القبلة – والصحيح خلاف ذلك كما تقدم –.

قال: (وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها، ومن بعد جهتها)

فالقريب من القبلة الذي ليس بينه وبينها شاخص ولا ستر يغطي القبلة عنه يجب عليه أن يصيب عينها اتفاقاً فلا يكون مائلاً عنها ولو شيئاً يسيراً، بل يجب أن يكون بدنه كله متوجهاً إلى عين الكعبة، لأنه قادر على ذلك.

فإن لم يكن كذلك بل كان بينه وبينها ستر أو جدران ويشق عليه إصابة عينها – بخلاف الجدران التي في الحرم وما حوله فإنه لا يشق عليه أن ينظر فيتوجه إلى القبلة عيناً – أما حيث كان على خلاف ذلك – فالواجب عليه أن يصيب جهتها، لذا قال:

(ومن بعد جهتها)

ص: 105

وهذا باتفاق أهل العلم، لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بين المشرق والمغرب قبلة)(1)

فإن كنت من أهل المدينة فجعلت المشرق عن يسارك، والمغرب عن يمينك فأنت متوجه إلى القبلة، وإن كان هناك انحراف يسير فهذا لا يؤثر.

فالواجب أن يصيب جهتها، لأن إصابة عينها متعذر.

وعندما يكون قريباً إلى الحرم فإنه يشق عليه أن يتقصد إصابة عينها وحيث كان كذلك فالمشقة تجلب التيسير وحيث تعذر ذلك فالعجز عن الواجب يسقطه.

قال: (فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها)

إن أخبره ثقة ممن يجب قبول خبره وهو العدل المكلف ذكر كان أو أنثى حراً كان أو عبداً – أخبره عن القبلة عن يقين لا عن اجتهاد ونظر – فيجب عليه أن يقبل خبره؛ لأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد. وثبت في الصحيحين عن البراء قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن يتوجه قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر فصلى معه رجال، فخرج رجل منهم فمر على أهل مسجد وهو راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل البيت فداروا كما هم قبل الكعبة)(2) فقبلوا خبر الواحد.

أما إذا كان الخبر عن اجتهاد فإنه لا يجوز أن يقبل خبره – وهذا على المجتهد.

(1) أخرجه الترمذي، في كتاب الصلاة، باب (139) ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة (342) ، (344) .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (7252) ، وفي كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40) وفي كتاب الصلاة، باب (31) التوجه نحو القبلة حيث كان (399) وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم (525) .

ص: 106

فمن كان عارفاً بأدلة القبلة، فسأل آخر فأخبره باجتهاد فلا يجوز له قبول خبره، بل يجب أن يجتهد لأنه قادر على الاجتهاد، والاجتهاد الأول – أي اجتهاد المخبر – قابل للصواب والخطأ، فلا يجوز له إلا أن يجتهد فينظر وهذا باتفاق أهل العلم وأن المجتهد لا يجوز أن يقبل خبر المجتهد مثله.

بخلاف المقلد وهو غير العارف بأدلة القبلة – فإنه إذا لم يمكنه أن يتعلمها ودخل وقت الصلاة وتضايق الوقت فإنه يجوز له تقليد المجتهد.

أما إذا كان يمكنه أن يتعلم فيجب عليه أن يتعلم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

فإذا دخل وقت الصلاة وأمكنه أن يتعلم ما به يعرف القبلة فيجب عليه ذلك ولا يَقبل الاجتهاد.

أما إذا كان غير بصير ونحوه ممن لا يمكنه أن يتعرف على القبلة ويصل إليها فإنه يجوز له أن يقلد غيره.

(أو وجد محاريب إسلامية)

فإنه يصلي إليها ولا يجتهد لأنها – في الحقيقة – تجري مجرى الخبر بل أولى منه فإن وضعها عند هؤلاء المسلمين واستمرارها بعد ذلك تقطع بثبوت صحة اتجاهها إلى القبلة وإن كانت منحرفة يسيراً فهذا لا يؤثر كما تقدم. ولا يجوز له الاجتهاد في هذه الحالة.

قال: (ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما)

القطب: هو ما يكون في ناحية الشمال، فمن كان في مثل بلدنا هذه يتوجه إلى الجهة المغايرة له، فيكون في ظهره.

فهذه أساليب وطرق الاجتهاد، ومثل ذلك " البوصلة ".

إذن يبحث ويتحرى جهة القبلة سواء كان ذلك بالشمس والقمر ومنازلهما، أو بالرياح واتجاهاتها، أو كان ذلك بالنجوم، المقصود من ذلك أن يجتهد وينظر ويتجه إلى القبلة بعد ذلك.

قال: (وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر)

لأن كلاً منهما مجتهد والواجب على المجتهد أن يعمل بما تبين له، وهو يعتقد صواب نفسه وخطأ غيره.

ص: 107

فإن صلى إلى الجهة الأخرى مقلداً فلا تصح صلاته، لأنه صلى إلى ما يعتقد أنه غير القبلة، فهو يعتقد أن القبلة في الناحية الأخرى – وهو من أهل الاجتهاد -، لأنه توجه إلى غير القبلة في اعتقاده.

لكن هل يقتدي أحدهما بالآخر أم لا؟

قولان لأهل العلم:

1-

القول الأول وهو مذهب الشافعية وهو المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر.

قالوا: لأنه يعتقد خطأ اتجاهه، وحيث كان يعتقد خطأ اتجاهه فلا يجوز أن يصلي خلفه.

2-

وقياس المذهب كما قال ذلك الموفق: أن الصلاة صحيحة. وهذا هو الظاهر.

فالراجح أن الصلاة صحيحة إذا ائتم بعضهم ببعض؛ لأن كلاً منهما يعتقد صحة صلاة الآخر.

وهذا كصلاة من يعتقد النقض بنقض [من](1) نواقض الوضوء خلف من لا يعتقد ذلك فإنه يعتقد خطأه في هذه المسألة ولكنه يعتقد صحة صلاته – وفي هذه المسألة كذلك، وحيث اعتقد خطأه في اتجاهه لا يبرر ذلك عدم ائتمامه.

فالراجح: ما رجحه الموفق وقال إنه قياس المذهب من أن الائتمام صحيح؛ لأن كلا منهما يعتقد صحة صلاة الآخر.

قال: (ويتبع المقلد أوثقهما عنده)

ظاهره وجوباً وهذا هو المشهور في المذهب.

والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس على هيئة الوجوب بل الأولى له أن يقلد الأوثق وليس ذلك واجباً عليه.

حجة أهل القول الأول: قالوا: إن هذا هو الأقرب للصواب، فلما كان الأقرب للصواب وجب التزامه.

وحجة أهل القول الثاني: أن كليهما دليل بمفرده يجوز أن يقلد لو لم يعارض، وحيث كانا كذلك فهما كالمجتهدين في المسائل الشرعية لا يجب على المقلد أن يقلد أوثقهما ولا أورعهما؛ لأن الله لم يوجب ذلك، بل أوجب عليه أن يسأل أهل العلم ولم يوجب عليه أن يسأل أعلمهما أو أوثقهما أو أورعهما، وللمسلم أن يقلد من العلماء خلاف الأوثق ما لم يكن ذلك عن هوى وشهوة لعموم قوله تعالى:{فاسألوا أهل الذكر} (2) وهذه كتلك.

(1) ليست في الأصل.

(2)

سورة الأنبياء 7.

ص: 108

وكون أحدهما أوثق لا يكون ملزماً بتقليده بل يدل على أن الأولى هو تقليده – وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الظاهر في هذه المسألة – وأنه لو اختلف مجتهدان أحدهما أوثق من الآخر فكما لو اختلف عالمان أحدهما أوثق فلا يجب على المقلد أن يقلد الأوثق أو الأعلم بل يجوز أن يقلد أحدهما لعموم قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}

قال: (ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده)

إذا صلى بغير اجتهاد وهو يمكنه الاجتهاد، أو صلى بغير تقليد وهو واجد لمن يقلده، فيجب عليه أن يعيد الصلاة، لأنه قد ترك فرضه.

فمن هو من أهل الاجتهاد وصلى بلا اجتهاد أو هو من أهل التقليد فلم يكن منه ذلك – فلم يكن منهم فعل ما فرض الله عليهم من الاجتهاد أو التقليد فالواجب عليهم: أن يعيدوا الصلاة وإن أصابوا القبلة، لأنهم تركوا الفرض مع الاستطاعة، فإن الفرض هو التوجه إلى القبلة عن علم إما بتقليد عالم حيث لا يمكن الاجتهاد أو باجتهاد ونظر أو بخبر (1) متيقن – والحالة هنا ليست على هذه الصور فكان الواجب عليهم أن يعيدوا الصلاة.

فإذن: من صلى إلى غير القبلة أو إلى القبلة بغير اجتهاد وهو قادر عليه أو هو من أهل التقليد وهو قادر عليه ومع ذلك لم يقلد سواء أصاب أم لم يصب فيجب عليهم الإعادة؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم والفرض عليهم من وجوب تحري القبلة والصلاة إليها.

وهم صلوا على هيئة التخمين والظن غير المشروع مع قدرتهم على الظن الغالب المشروع أو اليقين.

أما من صلى باجتهاد أو تقليد ولم يصب القبلة فصلاته صحيحة اتفاقاً، لأنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع فلم يجب عليه أن يعيد الصلاة مرة أخرى وقد صلاها على الوجه المشروع حيث أمر الله تعالى.

(1) في الأصل تكرار بخبر، أو أنها: يخبر بخبر.

ص: 109

ومثل ذلك: المجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد مطلقاً كأن يكون في غيم أو ليلة مظلمة شديدة الظلمة وهي مصحوبة بقتر أو غيم فلم يمكنه أن يجتهد فصلى على حسب حاله فصلاته صحيحة.

يدل على هذا: ما ثبت في الترمذي والحديث حسن بشواهده: عن عامر بن ربيعة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزل قول الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} (1) أي أقر الله تعالى صلاتهم وقبلها منهم لأنهم قد فعلوا ما أمر الله به وهذه هي استطاعتهم وقدرتهم، فقد اتقوا الله ما استطاعوا فلم يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى.

قال: (ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول)

(1) سورة البقرة، وقد أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (140) ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم (345) قال:" حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، حدثنا أشعث بن سعيد السَّمَّان عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا عل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل {فأينما تولوا فثم وجه الله} ، قال أبو عيسى:" هذا حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يُضَعَّف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق " وقد أخرجه أيضا في كتاب تفسير القرآن، باب (2) ومن سورة البقرة (2957) .

ص: 110

فيجب عليه لكل صلاة أن يتحرى وينظر في أدلة القبلة فلو صلى بناءً على اجتهاده في الصلاة الأولى فلا تصح صلاته، بل يجب أن يجدد اجتهاده؛ لأن هذه الواقعة جديدة فيجب الاجتهاد لها. قال في الفروع:" في الأصح ".

وحيث قال ذلك: فإنه يدل على أن هناك قول آخر والقول الآخر هو الظاهر، فالظاهر أن ذلك لا يجب؛ لأنه قد اجتهد للصلاة الأولى وظن ظناً غالباً أن هذا هو اتجاه القبلة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، إلا أن يتبين له أن اجتهاده كان خاطئاً أو أن شيئاً من النظر والبحث الذي فعله كان على خطأ فحينئذ: يجب عليه أن يجدد الاجتهاد.

(ويصلي بالثاني) : أي يصلي بالاجتهاد الثاني ولا يعيد الصلاة الأولى لأنه صلاها عن اجتهاد صحيح وفعل ما أمر به.

ومثل ذلك: لو تبين له أثناء الصلاة – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – فلو تبين في الصلاة أنه إلى غير القبلة فإنه ينحرف وما تقدم من الصلاة صحيح.

* وإذا اجتهد اجتهاداً ثانياً فناقض الاجتهاد الأول، فإن هذا الاجتهاد الثاني لا ينقض الأول للقاعدة الشرعية:" الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد " فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وإنما ينقض بنص، فهنا حيث اجتهد ثم رأى اجتهاداً آخر، فإن الاجتهاد الآخر لا ينقض الأول فلا تبطل الصلاة لأنه قد صلاها على ما أمره الله به.

لذا قال: (ولا يقضي ما صلى بالأول) لأنه صلاها صلاة شرعية صحيحة باجتهاد صحيح ففعل ما أُمر به واتقى الله ما استطاع فلم يؤمر بإعادة الصلاة مرة أخرى.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثامن والستون

(يوم الثلاثاء: 9 / 3 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ومنها النية)

ص: 111

أي من شروط الصلاة النية، وهي شرط بالإجماع، لحديث:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)(1)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (54) فقال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى

) الحديث.

في كتاب بدء الوحي (1) فقال رحمه الله: " حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال حدثنا سفيان، قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع عَلْقَمَةَ بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .

ومسلم في كتاب الإمارة (1907) - شرح النووي المجلد الخامس [13 / 53] – قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فما كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .

حدثنا محمد بن رُمْح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثنا أبو الربيع العَتَكي حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب يعني الثقفي ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حفص يعني ابن غياث ويزيد بن هارون ح وحدثنا محمد بن العلاء الهَمْدَاني حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا ابن أبي عُمر حدثنا سفيان، كلهم عن يحيى بن سعيد بإسناد مالك، ومعنى حديثه وفي حديث سفيان سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يُخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 112

متفق عليه من حديث عمر. وهذا الحديث أصل لمسائل هذا الباب وغيرها من مسائل النيات.

فلا يقبل الله عملاً إلا بنية، فالنية تمحض العمل أو تمحضه لله تعالى، والنية أيضاً تميز العبادات بعضها عن بعض، تميز الفريضة عن الفريضة، والفريضة عن النافلة، فالعبادات التي فيها نوع التباس أو بينها اختلاف فالنية تفارق بينها وتميز.

فمن صلى بلا نية فصلاته باطلة.

وهي شرط في الصلاة كلها لا يستثنى شيء منها.

فينوى من تكبيرة الإحرام إلى السلام، فإذا اختل شيء من ذلك عن النية فالصلاة باطلة كما سيأتي.

وتقدم أن الفرق بين الركن والشرط، أن الركن جزء العبادة، أما الشرط فهو شامل للعبادة كلها.

قال: (فيجب أن ينوي عين صلاة معينة)

فينوي صلاة الظهر أو العصر أو الوتر أو راتبة الفجر ونحو ذلك، فينوي الصلاة معينة.

فلو أنه صلى أربع ركعات في وقت صلاة الظهر ولم ينو أنها ظهراً فلا يجزئه ذلك.

ولو صلى ركعتين قبل صلاة الفجر ولم ينو أنهما ركعتا الفجر لم يجزئه ذلك عنهما.

فلابد أن ينوي الصلاة معينة بحيث تتميز عن غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيشترط أن يعين الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً.

- وظاهر هذا أنه لو نوى فريضة الوقت فإنه لا يجزئه.

بمعنى: رجل صلى في وقت الظهر ولم ينو ظهراً وإنما نوى أن هذه فريضة وقته.

وذهب بعض الشافعية: إلى الإجزاء وهو الظاهر لأنه حيث نوى ذلك فقد نوى ما يجب عليه.

فإنه إذا نوى الصلاة الحاضرة، فإنها في الحقيقة هي صلاة الظهر مثلاً، فحيث نوى ذلك فإنه تقع العبادة على ما يجب عليه فقد نوى فريضة الوقت وهي الظهر فيجزئه ذلك.

وهذا ما يقع كثيراً حيث أن الصلوات لتكرارها قد يذهل الذهن عن استحضار الصلاة الحاضرة فينوي فريضة الوقت، فإن ذلك على الراجح – يجزئه؛ لأنه قد ميز هذه العبادة عن غيرها من العبادات المماثلة لها، حيث أنها فريضة الوقت وغيرها ليست كذلك.

ص: 113

قال: (ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن)

فلا يشترط في الفرض أن ينويه، كيف هذا؟

عندما يريد أن يصلي الظهر فلا يشترط أن ينوي أن هذه فريضة بل بمجرد ما ينوي أن هذه الظهر فهذا كاف، فإن كان بالغاً فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه فريضته، وإذا كان غير بالغ فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه نافلته؛ لأنه بمجرد نيته أنها ظهر اليوم هذا كاف في تمييز هذه العبادة عن غيرها، ولكل امرئ ما نوى، وهذا قد نوى الصلاة الحاضرة سواء كانت على حسب حاله فرضاً أو نفلاً.

فلا يجب ذلك لأنهما عير مؤثرين في تمييز العبادة، فهي متميزة من غير ذلك.

وكذلك نية الأداء والقضاء.

فالأداء هو: القيام بالصلاة في وقتها.

وأما القضاء: فهو القيام بها بعد خروج وقتها.

فإذا صلى الصلاة في وقتها فلا يجب عليه أن ينويها أداء، وإذا صلاها بعد وقتها فلا يجب عليه أن ينويها قضاءً، لأن هذا غير مؤثر في تمييز العبادة، فالعبادة متميزة من غير نية الأداء ولا نية القضاء.

وعليه: فلو أن رجلاً صلى صلاة الفجر يظن الشمس لم تطلع فبان أنها قد طلعت وأن صلاته كانت قضاء وهو قد نواها أداءً.

أو رجل يظن أن الشمس قد طلعت فصلاها والشمس لم تطلع في الحقيقة وكان قد نواها قضاء وهي في الحقيقة أداء؛ لأن الوقت باق، فإن هذا لا يؤثر في صلاته بل تكون الصلاة صحيحة فنية القضاء والأداء غير مؤثرة لأن النية قد ميزت هذه العبادة، فنيته أنها صلاة الفجر قد ميزت العبادة ولا فرق بين أن يكون أداءً أو قضاءً.

" والإعادة " رجل صلى الصلاة وقد اختل شيء من شروطها فكانت باطلة فوجب عليه أن يعيد الصلاة، فإذا أعاد فلا يجب أن ينوي الإعادة بل يكفي أن ينوي الصلاة الواجبة عليه؛ لأنه بذلك تتميز عبادته، فنيته أنه يصلي الصلاة الواجبة عليه وحيث نوى ذلك فإن العبادة تقبل منه لأنها مميزة بذلك.

ص: 114

والمقصود من النية هو تمييز العبادة وهي هنا مميزة من غير نية الإعادة.

مسألة:

إذا نوى فائتة من الفوائت في وقت نظيرتها فبان ألا فائتة عليه فهل تجزئه عن فريضة اليوم؟

يعني: رجل صلى قبل أن يصلي المغرب صلى مغرباً على أنها فائتة فبان ألا فائتة عليه، فهل تجزئه هذه الصلاة عن فريضة الوقت أم لا؟

قولان في المذهب:

القول الأول: أن الصلاة تجزئه؛ لأنه قد نوى صلاة معينة، وحيث نوى صلاة معينة فإن ذلك يجزئه عن فريضة الوقت وفريضة اليوم.

القول الثاني، وهو القول الراجح: أن هذه الفائتة لا تجزئه عن فريضة اليوم، لأن الواجب عليه هو تعين الصلاة الحاضرة ولم ينوها بل قد نوى صلاة فائتة ولكل امرئ ما نوى.

فإذن: من نوى فائتة فتذكر ألا فائته عليه وكانت موافقة عن فريضة اليوم فهل تكفي عن فريضة اليوم أم لا؟ قولان: أظهرهما أنها لا تكفي؛ لأن الواجب عليه أن ينوي الصلاة الحاضرة فريضة اليوم بعينها وهو إنما نوى مماثلاً لها وهذا غير كاف، فالواجب عليه هو فريضة اليوم ولم ينو ذلك ولكل امرئ ما نوى.

قال: (وينوي مع التحريمة)

هذا هو الواجب عليه، فينوي فيكبر أي تكون النية قبيل تكبيرة الإحرام فتكون – حينئذ – النية شاملة للعبادة كلها. وقد تقدم أن الشرط يجب أن يكون شاملاً، وحينئذ تكون النية شاملة لتكبيرة الإحرام.

ولكن إن قدمها قبل ذلك بيسير قال هنا:

(وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت)

فلو قدم النية على التكبيرة بزمن يسير عرفاً فإن هذه النية تجزئ عنه.

- وهنا قول آخر هو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه ولو كان ذلك زمناً كثيراً ما لم يقطع النية، فما دام أنه مستصحباً للنية لم يقطعها فإن ذلك يجزئ عنه.

فإذا خرج من بيته وهو يريد المسجد فخرج قبل الصلاة بزمن كثير فلم يقطع النية فإن الصلاة تصح بهذه النية – وهذا القول هو الراجح –.

ص: 115

وهذا هو الذي يسع الناس، فمتى خرج من بيته إلى المسجد سواء كان قبل الصلاة بزمن يسير عرفاً أو كثير عرفاً ولم ينو قطع النية فإن هذه النية تجزئه، لأن النية ثابتة باقية وقد نواها فلم يقطعها فتكون كافية لصلاته.

إذن: لا يشترط الزمن اليسير للنية عرفاً بل لو قدمها قبل الصلاة بزمن كثير عرفاً لكنه لم يقطع هذه النية فإن هذا كاف مع نيته، لأن النية باقية والواجب أن تكون شاملة للصلاة، وقد شملتها لأنه لم يقطع هذه النية، فعدم قبول هذه النية وإبطال الصلاة بمثلها باطل؛ لأن النية باقية فلم يقطعها، وليس ثمت دليل يوجب أن تتقدم بزمن يسير أو تكون مقارنة للتكبير بل متى نوى ولم يقطع فإن ذلك مجزئ.

قال: (فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت)

إن قطعها أثناء الصلاة، كأن يصلي رجل وهو في صلاته قطع النية، أو تردد أي قال: هل أقطع الصلاة أم لا، فهو لم يقطع النية لكنه تردد، وهناك جزم.

إذن هنا صورتان.

وأصل هذه المسألة: أنه يجب عليه أن يستصحب حكمها، واستصحاب حكمها ألا ينوي قطعها، فإذا نوى قطعها فإن الصلاة تبطل.

أما إذا تردد فقولان في المذهب:

القول الأول: هو هذا، وأنه متى تردد فإن الصلاة تبطل؛ لأن التردد يخالف الجزم الواجب، والنية يجب أن تكون جازمة، ويجب عليه أن يكون مستديماً للنية، وما دام متردداً فليس بمستديم لها.

والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بمبطل للصلاة؛ ذلك لأنه قد نوى نية متيقنة واستصحب حكمها وتردد ولم يقطع، فهو لم يقطع ومجرد تردده ليس بقطع، وإن نافى الجزم فإنه لم يبطل النية الجازمة.

فإنه قد نوى نية متيقنة جازمة في أول صلاته ثم كان الواجب عليه أن يستصحب حكمها بأن لا ينوى قطعها فهو ما لم ينو القطع فهو مستصحب للحكم، وهذا التردد خارج عن النية، فالنية ما زالت مستصحبة وإنما وقع تردد في قلبه هل يبطل هذه النية أم لا.

ص: 116

بخلاف التردد في أول الصلاة فإنه لم يدخل بنية متيقنة فلا تصح؛ لأن النية غير مجزوم بها.

وهذا القول هو الأظهر: وأنه إن تردد تردداً مجرداً عن نية القطع فإن الصلاة تكون صحيحة، ومثل ذلك الصيام وغيره من الأحكام التي يجب أن يكون مستصحباً للنية حكماً بألا ينوي القطع.

بخلاف فالو قال: قطعت الصلاة، ثم قال: لا بل أبقى - أي في قلبه -، فإن هذا قطع، فهذا التردد ليس كالسابق، بل هذا قطع، فإذا فعل مثل ذلك فهذا باطل وليس هو المقصود فيما تقدم.

قال: (وإن شك فيها استأنفها)

رجل في أثناء الصلاة [شك](1) هل نوى أم لا؟ فحينئذ يجب عليه أن يعيد الصلاة فينوى ويكبر، لأنه وهو في أثناء الصلاة قد شك في نيته والأصل عدم النية، ولما وجد الشك ثبت لنا الحكم بأنه لا نية له؛ لأن الأصل هو عدم النية وحيث شك فإنا نعود إلى الأصل، هذا ما لم تكثر الشكوك والوسوسة في الصلاة.

فإن كثرت الشكوك والوسوسة فإنه حينئذ: لا يحكم له بذلك، لأن الأصل هو بقاء النية لا عدمها.

فإن شك بعد الصلاة فلا يؤثر ذلك إجماعاً؛ لأن الصلاة قد ثبتت صحيحة فلا يؤثر فيها الشك، واليقين لا يزول بالشك، فإن الأصل هو ثبوتها وصحتها ما لم يثبت مبطل لها، وهذا المبطل مشكوك فيه فنبقى على الأصل من صحة الصلاة وهذا بالإجماع.

إذا شك في نيته في أثناء الصلاة ثم تذكر أثناء الصلاة أنه قد نوى الصلاة؟

فهذا لا يؤثر في صلاته بل يتمها، لأنه لم ينو قطعها، والنية ثابتة وحكمها مستصحب لكنه شك في ثبوتها، فمثل هذا لا يؤثر في النية، لأنه لا يجب أن تكون النية متذكرة في الذهن، وإنما الواجب ألا يكون قد نوى قطعها.

فإذا غابت عن ذهنه فأداه ذلك إلى الشك فتذكرها بعد شكه قبل أن ينوى القطع فإن ذلك لا يؤثر فيها.

قال: (وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز)

(1) ليست في الأصل.

ص: 117

" منفرد ": ومثله المصلي مطلقاً ولعل هذا للتمثيل، فإن في عبارة بعضهم " مصل " أي سواء كان هذا المصلي إماماً أو مأموماً أو منفرداً، وإنما نص على المنفرد؛ لأنه في الغالب هو الذي يحتاج إلى قلبها لأنه قد تحضر جماعة فيحتاج إلى أن ينقطع من صلاته هذه ويدخل مع الجماعة فيؤديها جماعة.

ولئلا يبطل عمله، فإنه يقلب فريضته هذه إلى نفل.

والظاهر أن مرادهم: نفل مطلق لتعليلهم، فإنهم قالوا في تعليلهم هذه المسألة: بأن نيته الأولى شاملة للنفل فهي نية فريضة لكنها شاملة للنفل أيضاً حيث أنه إذا صلى الفريضة فإنه ينوي أنها صلاة وأنها صلاة فرض أو أنها ظهر فيقوم مقام النية أنها فرض.

فالذي يصلي الفريضة يجتمع في نيته شيئان أنها صلاة وأنها فرض.

فإذا ألغى الفريضة وقطعها بقى أصل الصلاة له، وهذا هو المشهور في المذهب، وأن من نوى قلب فريضته نفلاً - والظاهر أنه نفل مطلق لإطلاقاتهم ولتعليلهم، لأن النفل المقيد ليس بصلاة فقط بل هو صلاة مقيدة، فكما أن الفريضة صلاة مقيدة بكونها فرض، فالنفل المقيد صلاة مقيدة بكونها مثلاً راتبة ظهر ونحو ذلك، فهي صلاة مقيدة فلم يتضمنها نية الفريضة.

إذن: المشهور في المذهب أن من قلب فريضة إلى نفل - والظاهر أنه مطلق - فإن ذلك يصح منه.

- والقول الثاني في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه لا يجزئه ذلك؛ لأن الواجب في العبادة فرضاً كانت أو نفلاً أن تكون النية من أولها إلى آخرها وهنا لم ينو من أولها.

ولكن هذا القول مع قوته هو ظاهر حيث كان التنفل مقيداً.

أما إذا كان مطلقاً فإن نية الفريضة شاملة لنية النفل، فإنه إذا كبر بنية الفريضة فإن هذا شامل لكونها صلاة ولكونها فريضة، فإذا نوى النفل إلى مطلق الصلاة فإنه يبقى على النية الأولى.

ص: 118

ومع ذلك في القول الثاني قوة فينبغي التريث في مثل هذه المسألة من نقل الفريضة إلى نافلة، وأن يتم صلاته فريضة على هيئتها، فإن هذه النية وإن كانت متضمنة لكونها صلاة، لكنها هنا صلاة مطلقة وهناك صلاة بقيد أنها فريضة، وفرق بين نية الفريضة ونية النافلة. والعلم عند الله تعالى.

قال: (وإن انتقل بنية من فرض إلى فرض بطلا)

كأن ينوي الانتقال من فريضة العصر إلى فريضة الظهر فلا يجزئ ذلك؛ وذلك لأن النية يجب أن تكون شاملة لأول الصلاة وآخرها وهو قد قلبها في آخر الصلاة فلم تكن شاملة لأول الصلاة كما شملت آخرها، والواجب فيها أن تكون شاملة لأولها وآخرها.

فلم تصح الثانية؛ لأن الواجب في الصلاة أن تكون نية الظهر من أول الصلاة إلى آخرها، وهو لم ينوها ظهراً إلا آخر الصلاة.

وكذلك الأولى لا تصح؛ لأنه أبطلها بقطعها لذا قال " بطلا "

أما الفرض الأول فإنه بطل لأنه قطعه.

وأما الثانية فإنها بطلت؛ لأن النية فيها لم تكن شاملة لها من أولها.

والأولى ألا يُعبَّر لها بالبطلان لأنها لم تنعقد أصلاً، فهذه الصلاة لم تنعقد أصلاً حتى يحكم لها بالبطلان، ولكن لعل هذا من باب التغليب مع الحكم على الفريضة الأولى.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس التاسع والستون

(يوم الأربعاء: 10 / 3 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (وتجب نية الإمامة والمأموم (1))

فشرط في صحة الصلاة نية الإمام والمأموم سواء كانت الجماعة فرضاً كالفرائض الخمس أو نفلاً كصلاة التراويح ونحو ذلك.

فيجب ويشترط أن ينوي المأموم الائتمام والاقتداء، وأن ينوي الإمام الإمامة – هذا هو المشهور في المذهب.

وعليه: إن لم تثبت النية فالصلاة باطلة.

- والقول الثاني في المذهب: أن الصلاة صحيحة فراداً، فلا يكون لهم أجر الجماعة، ويأثمون على أنهم صلوا فرادى.

(1) وفي نسخة للزاد: " والائتمام " بدل: " المأموم "

ص: 119

فعلى ذلك تكون هذه النية شرط في صحة الجماعة فتصح الصلاة دون الجماعة.

وحجة ما ذهب إليه أهل القول الأول: ما يترتب على الجماعة من الأحكام فيترتب عليها ترك سجود السهو للمأموم، ووجوب المتابعة وسقوط الفاتحة – على المذهب – على المأموم، فلما كان ذلك كانت شرطاً في صحة الصلاة، فحيث لم ينو الإمامة أو الائتمام فالصلاة باطلة.

والقول الراجح هو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية، فالراجح أن نية الإمام والمأموم شرط في صحة صلاة الجماعة، فتصح الصلاة؛ لأنها قد توفرت فيها أركانها وواجباتها وإنما يترتب عليها ما ذكروه من الأحكام المتقدمة حيث شرع في النية، فإذا دخل المأموم بنية الائتمام فترتب عليه تلك الأحكام وحيث لم ينو ذلك فإن الأحكام لا يثبت فيها شيء من ذلك، فهي إنما ثبتت حيث تعلقت صلاتهما ببعضهما وذلك إنما يكون بالنية وحيث لا نية فلا ارتباط ولا تعلق – وحينئذ تثبت لهم فرادى.

وإنما لم نقل ببطلان الصلاة لأنها قد ثبتت على الوجه الشرعي الذي يطالب به المكلف.

ويجب عليه أن يصليها جماعة بنية الجماعة والائتمام، وحيث لم يفعل ذلك فإنها تصح لكنها تصح على أنهم فرادى لا على أنهم جماعة.

فعلى ذلك: لو دخل في الصفوف ولم ينو الائتمام بل نوى أن يصلي فرداً وإن كان ظاهر صلاته المتابعة فإن صلاته تصح.

قال: (وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح كنية إمامته فرضاً)

هنا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أن ينوي الإمامة وقد كان منفرداً وكان ذلك في نفل – كالتراويح –.

المسألة الثانية: أن ينوي الإمامة في الفرض.

مثال: رجل منفرد يصلي صلاة الظهر فدخل معه أحد أثناء الصلاة، فهل يقلب نيته إلى إمام بعد أن كان ناوياً الانفراد أم لا؟

المسألة الثالثة: أن ينوي الائتمام أثناء صلاته منفرداً فرضاً أو نفلاً.

مثال: رجل يصلي منفرداً فحضرت جماعة فهل له أن ينوى الائتمام معهم فيصلي جماعة معهم أم لا؟

ص: 120

وإنما جعلت هذه مسألة مع أنه يمكن أن تقسم إلى مسألتين لأن الحكم فيها – على المذهب – واحد.

أما المسألة الأولى:

- فالمذهب على القول بصحتها، وهي ما إذا نقل صلاته من منفرد إلى إمام أو من مأموم إلى إمام، فالمذهب على القول بصحتها.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس في بيتوته عند خالته ميمونة وفيه: أنه قال (فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر)(1) الحديث – فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا قد نقل نيته من نية الانفراد إلى نية الإمامة.

لذا قال هنا المؤلف: (لم تصح كنية إمامته فرضاً) وظاهره أنه إذا نوى الإمامة في الصلاة نفلاً فإنها تصح.

أما المسألة الثانية:

فهي أن ينقل صلاته إلى صلاة جماعة من منفرد إلى إمام في صلاة فريضة:

فالمشهور في المذهب: أن هذه النية لا تصح، لأن هذه النية لم تشمل أول الصلاة.

والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وصححه الموفق: أن نية الإمامة تصح هنا قياساً على النفل، والأصل أن ما يثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يدل على التخصيص، والأعمال بالنيات في الفرائض والنوافل، فهنا لما صحت في النافلة فالأصل أنها تصح في الفريضة إلا أن يدل دليل على ذلك، ولا دليل على تخصيص النافلة في هذا الحكم.

وهذا القول الراجح وأنه في الفريضة يجوز له ذلك.

أما المسألة الثالثة:

فهي في نية الائتمام:

- فالمذهب أن ذلك لا يجوز ولا يصح سواء كانت الصلاة فرضاً [أم نفلاً](2) .

مثال: رجل منفرد فنوى الائتمام أثناء الصلاة فلا يصح ذلك سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً.

والعلة ما تقدم وهي أنه لم ينو الائتمام من أول الصلاة.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التخفيف في الوضوء (138) ، وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم (763) .

(2)

ليست في الأصل.

ص: 121

- والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد: أن هذا الفعل يصح؛ لأنها نقل من الانفراد إلى الجماعة، فأشبهت النقل إلى الإمامة.

تقدم أن النقل إلى الإمامة جائز فرضاً ونفلاً والأدلة تدل عليه، فهو نقل من الانفراد إلى الجماعة.

وهنا كذلك نقل إلى الجماعة من الانفراد إلى الائتمام، فإذا ثبت جواز نقل المنفرد صلاته إلى إمام ليصلي جماعة، فكذلك نقله صلاته إلى مأموم ليصلي جماعة، لا فرق بينهما.

وهذا القول الراجح.

فالراجح في هذه المسائل كلها أنه يصح أن ينقل المنفرد صلاته إلى صلاة جماعة سواء كان ذلك بنية الإمامة أو الائتمام وهو قول في المذهب.

قال المؤلف: (إن نوى المنفرد الائتمام لم تصح)

ظاهره فرضاً ونفلاً، هذا ظاهر الإطلاق.

" كنية إمامته فرضاً "

وظاهره أنه لو نواها نفلاً فإنه يصح.

قال: (وإن انفرد مؤتم بلا عذر بطلت)

إذا كان رجل يصلي مأموماً ثم فارق إمامه.

هو عندما صلى مأموماً فقد تعلقت صلاته بصلاة إمامه حيث نوى، فهنا فرق بين هذه المسألة، والمسألة السابقة.

فالمسألة السابقة: صلى بلا نية الائتمام، أما هنا فقد نوى الاقتداء بالإمام ثم فارق إمامه فما حكم ذلك؟

له حالتان:

1-

أن يفارق المأموم لعذر، فالصلاة تصح.

والعذر: ما يباح له ترك الجماعة كأن يخشى فوات رفقة أو ضياع مال أو نحو ذلك فيفارق الإمام ويتم صلاته منفرداً.

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن معاذاً صلى بأصحابه العشاء فافتتح البقرة فتأخر رجل من أصحابه فصلى وحده فقيل له: نافقت يا فلان، فقال: ما نافقت لآتين النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(أفتان أنت يا معاذ)(1) .

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لمير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا (6106) ، راجع (700) ، وخرجه مسلم 465.

ص: 122

فهنا طرأ عليه العذر وهو إطالة الإمام وهو في صلاة العشاء وكانوا يعملون بأعمال فيكون ذلك متعباً لهم فيكون في ذلك مشقة وحرجاً ففارقه وأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالإعادة.

2-

أن يفارقه بلا عذر: فإنها تبطل لأنه فارق الإمام.

ومفارقة الإمام ترك لواجب، ومن ترك واجب عمداً بلا عذر فإن الصلاة تبطل، أما إن كان عاجزاً فيسقط عنه، وإن كان ساهياً فيجبره بسجود سهو.

قال: (وتبطل صلاة مأموم بصلاة إمامه فلا استخلاف)

فيه أن صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام مطلقاً بعذر أو غير عذر؛ لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام.

فنية الائتمام تربط صلاة المأموم بصلاة إمامه فيحمل عنه سجود السهو، ويسقط الفاتحة وهناك أحكام كثيرة تترتب على ذلك فهي مرتبطة بها، وحيث كان ذلك فإنها تبطل ببطلانها، وهنا فلا استخلاف؛ لأن صلاة المأمومين باطلة، والاستخلاف إنما يبنى على الصحة، وحيث كانت باطلة فلا استخلاف.

والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية: أن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة إمامه، لقوله صلى الله عليه وسلم:(يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطؤوا فلكم وعليهم)(1) .

ثم إن هذا المأموم قد قام بما يجب عليه من الائتمام وبما يجب عليه من فرائض الصلاة وواجباتها فلا دليل على إبطال صلاته.

وعليه: فيتمون صلاتهم فرادى، وللإمام أو لهم أن يستخلفوا خلافاً للمذهب أيضاً.

كما ثبت في البخاري: (أن عمر بن الخطاب لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة)(2) فهنا قد استخلف عمر عبد الرحمن بن عوف وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر ذلك فكان حجة.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا لم يُتم الإمام وأتم من خلفه (694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة (3700) ، وراجع (1392) .

ص: 123

وعلى ذلك: فإن المأمومين يتمون صلاتهم إما فرادى، ولهم – كذلك – وهو الأولى أن يستخلفوا، إما بأن يستخلف الإمام من يتم الصلاة، وإما بأن يتقدم أحد منهم فيتم الصلاة بهم – هذا هو القول الراجح في المذهب.

فالقول الراجح: أن صلاة المأموم مرتبطة متعلقة بصلاة الإمام، لكن له أن يفارقه حيث كان معذوراً كما تقدم فإنه من المعلوم أن المأموم – وهو الذي دلت عليه السنة – يفارق الإمام حيث كان معذوراً، وهنا هو معذور عن متابعة الإمام، فالإمام قد بطلت صلاته وهو معذور حيث انفرد وفارق وصلى وحده، فكما أنها انقطعت العلاقة بينهما في الصلاة حيث كان معذوراً ففارق إمامه، فهنا أولى.

قال: (وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح)

يعني: رجل له نائب في المسجد، فصلى النائب فحضر الإمام فتقدم الإمام وتأخر النائب، فكان أن أحرم إمام الحي وهو الإمام الراتب، بمن سبق أن أحرم بهم نائبه، فذلك يصح.

فهنا: أتى الإمام الراتب فنوى الإمامة فهذا صلاته لا إشكال فيها لأنه من أول الصلاة قد نوى الإمامة – أي على المذهب لا إشكال في ذلك –.

وانتقل الإمام إلى مؤتم، فيتحول النائب من نية الإمامة إلى نية دونها وهي نية الائتمام، والاقتداء لمصلحة راجحة وهي ثبوت صلاة الإمام الراتب.

ودليله: ما ثبت في الصحيحين في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وفيه: (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر)(1) لأنه هو القائم الظاهر لهم.

فهذا فعله والأصل عدم خصوصيته وإلحاق غيره به.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (47) من قام إلى جنب الإمام لعلة (683) . وأخرجه مسلم (418) مطولا.

ص: 124

فمتى كان إماماً راتباً فتقدم وتأخر النائب، فالصلاة صحيحة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل هو عدم الخصوصية.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى باب شروط الصلاة.

ويليه باب صفة الصلاة.

ص: 125