الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: صلاة التطوع
التطوع لغة: فعل الطاعة.
اصطلاحاً: الطاعة غير المفترضة، وهي النفل والمستحب.
فقوله: " صلاة التطوع " أي الصلاة التي يتطوع بها صاحبها لله تعالى.
قال: (آكدها كسوف ثم استسقاء ثم تراويح ثم وتر)
قوله: " آكدها " أي آكد الصلاة المتطوع بها.
وذكر المؤلف أن أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الكسوف ثم صلاة الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر.
أما الكسوف: فلأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها مع ثبوت سببها وهو خسوف الشمس أو القمر، فكلما قام سببها صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليها في بابها.
وأما الاستسقاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما تركها مع وجود سببها وهو قحط الأرض فكانت الكسوف أفضل منها.
وفضلت صلاة الاستسقاء على غيرها لأنها تُصلى جماعة فأشبهت الفريضة.
ثم التراويح لأنها تُصلى جماعة، ثم الوتر لأنه يصليه منفرداً، وفُضِّل على السنن الراتبة بما فيه من الأحاديث المؤكدة له، هذا ما ذكره المؤلف.
والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل – كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)
قال الإمام أحمد: " ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام الليل "
والراجح أن صلاة الكسوف واجبة كما سيأتي دليل ذلك في بابه.
وعلى ذلك فإنه لا يفضل بينها وبين المستحبات فهي لا تدخل في هذا الباب لأنها ليست بتطوع بل فريضة.
وعن الإمام أحمد: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة ركعتا الفجر لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح)
والحديث وإن دل على فضلها وأنها أفضل السنن الراتبة، لكنه لا يدل على تفضيلها على قيام الليل، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم بتفضيله.
فالراجح: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل.
ثم إن قضية أن هذه الصلاة تُصلى جماعة أو فرادى، هذه ليس سبباً للتفضيل، فقد يكون المعنى الذي شرعت من أجله الصلاة إنما تشرع فيه الجماعة، فليس هذا بكونه فاضلاً على صلاة أخرى لا تشرع فيه الجماعة، وإنما شرعت فيه الجماعة لما فيه من المعاني المقتضية لأن يكون جماعة ولا يدل هذا على شيء من التفضيل.
كما أن تفضيلهم لصلاة الاستسقاء على صلاة التراويح – مع ثبوت الجماعة فيهما – يقتضي أن يكونا سواء بل صلاة التراويح أولى بأن تكون هي الفضلى من صلاة الاستسقاء لأنه قد ورد في التراويح من الترغيب ما لم يرد في صلاة الاستسقاء.
قال: " ثم وتر " إذن: الوتر مستحب، وليس بواجب وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الوتر ليس بواجب مع ما ورد من التشدد فيه، فقد قال الإمام أحمد – ونحوه قول الإمام مالك -:(من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة)
فهذا يدل على أن الوتر مؤكد غاية التأكيد، ومن تركه فإنه مظنة الضعف وشهادة الزور ونحو ذلك.
ودليل استحبابه ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الأعرابي عن الصلوات المكتوبة فذكر له ما أوجبه الله فيها قال: هل على غيرها قال: " لا إلا أن تطوع ".
فدل على أن ما سوى الفرائض الخمس ليس بواجب إلا ما سيأتي استثناؤه من صلاة الكسوف لأنها ليست من الصلوات الدائمة بخلاف الوتر فإنها صلاة يومية فلو كانت واجبة لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم له.
ولما ثبت في الترمذي والحديث حسن عن علي قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم) .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الوتر على الراحلة) وهذا يقتضي عدم وجوبها إذ لو كانت واجبة لفرض فيها القيام، لأن القيام فرض في المكتوبة.
- وذهب الأحناف إلى فرضية الوتر.
واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا) والحديث منكر فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحيح أنها سنة وليست بفرض.
- لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن الوتر واجب على المتهجد لمن قام الليل فيجب أن يوتر فيه.
فأصل قيام الليل والوتر ليس بواجب لكن من قام الليل فلا يجوز ألا يوتر بل يجب أن يوتر.
وهذا قول قوي ظاهر يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب – والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر -.
ورواه أبو عوانة والحاكم والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر بلفظ: (من صلى من الليل فليوتر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك) وهذا الحديث لا صارف له عن الوجوب.
بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتروا يا أهل القرآن) ونحوه من الأحاديث التي فيها الأمر بالوتر فإن صارفها عن الوجوب قوله النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إلا أن تطوع) .
وأما هنا فهذا الواجب قد طرأ بسبب كونه قد صلى الليل فلا يجوز والحالة هذه إلا أن يصلي وتراً. وهذا القول قوي ظاهر.
قال: (يُفعل بين العشاء والفجر)
فالوتر يُفعل بين العشاء والفجر وهكذا قيام الليل فهو مشروع ما بين صلاة العشاء والفجر.
والمراد بصلاة العشاء أداؤها ولو كان ذلك بغير وقتها كأن يجمع إلى المغرب جمع تقديم فإنه يبدأ وقت الوتر وإن لم يغب الشفق.
فوقته من صلاة العشاء سواء كانت صليت في وقتها أو جمعت إلى ما قبلها، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرها والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله زادكم صلاة هي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)
فتفعل بين صلاة العشاء وأذان الفجر، فإذا أذن الفجر فقد انتهى وقت الوتر فقوله الفجر:" أي أذان الفجر ".
ويدل عليه الحديث المتقدم وفيه: (ما بين العشاء إلى طلوع الفجر) وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتروا قبل أن تصبحوا) من حديث أبي سعيد الخدري.
وثبت في الترمذي – والحديث صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر)
- وعن الإمام أحمد أن وقتها إلى صلاة الفجر، فما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر وقت بصلاة الوتر.
وظاهره مطلقاً للمعذور وغيره، وظاهره أنه أداء وليس بقضاء.
ودليله ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن مسعود أنه سُئل عن الوتر فقال: (أوتر وإن أذن، فقال السائل: " أوتر بعد الأذان؟ " فقال: " نعم وبعد الإقامة " ثم حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس فصلى)
وهنا يحتمل أن يكون مراد ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلى صلاة الفجر قضاء فحينئذ يكون هذا من باب القياس فهو يلحق النظير بنظيره، فكما أن صلاة الفجر تقضي بعد وقتها فكذلك الوتر.
ويحتمل أن يكون مراده: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الوتر فقضاها، وهو الذي يقتضيه السياق، لكنه ضعيف لقوله:(حتى طلعت الشمس) وطلوع الشمس ليس وقتاً نهائياً لصلاة الوتر، بل هو وقت نهائي لصلاة الفجر.
فالظاهر أن ابن مسعود استدل بالقياس فذكر هذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نومه حتى طلعت الشمس ثم صلاها، وهو فريضة، فكذلك النافلة فإذا نام عنها فإنه يقضيها بين الأذان والإقامة وبعد الإقامة.
وروى محمد بن نصر آثاراً عن عائشة وغيرها فيها الإيتار بين الأذان والإقامة. وهذا القول يخالف الأحاديث المصرحة بأن الوتر ينتهي إذا طلع الفجر.
والراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عنه وأن طلوع الفجر ينتهي به وقت صلاة الوتر.
أما هذه الآثار فتحمل على أن ذلك من باب القضاء والوتر يقضى على القول الراجح الظاهر.
فقد روى الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن الوتر ونسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر)
وظاهر الحديث في قضائه أنه يقضي وتراً.
وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسلم من حديث عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) فهذا الحديث نوع آخر وصفة أخرى للقضاء، فعلى ذلك يكون القضاء له صفتان.
الأولى: أن يقضيه وتراً.
الثانية: أن يقضيه شفعاً.
أما قضاؤه وتراً فهو ظاهر حديث أبي سعيد وعليه أفعال الصحابة وأما قضاؤه شفعاً فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لِمَ لم تفسروا الحديث الأول بالحديث الثاني؟
فالجواب: أن يقال: هو قول قوي، لكن الذي جعلنا لا نقول به هنا هو تقوية القول الأول – وهو ظاهر الحديث تقويته - بأقوال الصحابة، فإنهم كانوا يقضونه وتراً كما تقدم في الأثر السابق عن ابن مسعود في الأثر المتقدم عن عائشة.
فعلى ذلك: من نام عن الوتر أو نسيه حتى طلع الفجر فقد ذهب وقت الأداء ويشرع له أن يقضيه شفعاً وله أن يقضيه وتراً.
فإن كان وتره بالليل سبع ركعات مثلاً، فله أن يقضيها بالنهار سبعاً وله أن يقضيها ثمان بأن يزيد ثامنة يشفع بها صلاته.
واعلم أن المستحب في صلاة الليل أن يصليها من آخره ما لم يخف عدم الاستيقاظ، فإن خاف ألا يستيقظ فيستحب له أن يصليها في أوله؛ لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقله ركعة)
أقل الوتر ركعة، فإذا صلى ركعة فقد أوتر ويجزئه ذلك عما يشرع له من فعل الوتر.
والمشهور في المذهب أنه لا يكره ذلك، وقد صح عن عثمان وسعد بن أبي وقاص الوتر بواحدة. أما أثر عثمان فرواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بإسناد صحيح، وأما أثر سعد فرواه الطحاوي بإسناد حسن.
قال: (وأكثره إحدى عشرة ركعة مثنى مثنى)
فأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، أي أكثره المستحب وسيأتي الكلام عن أكثره الجائز، فأكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً)
- وقد قال بعض الحنابلة: المستحب أن أكثره ثلاثة عشرة ركعة.
واستدلوا: بحديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر) فهذه ثلاث عشرة ركعة.
والراجح هو القول الأول.
أما ما ذكره ابن عباس فهذا بإضافة الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما قيام الليل، فإن عائشة لم تذكرهما في الحديث المتقدم، فقد قالت:(صلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) مع أنها قالت في صحيح مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين) .
وثبت الأمر بهما من حديث أبي هريرة في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم في الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) .
فعائشة لم تذكر الركعتين الخفيفتين، وذكرهما ابن عباس ومما يدل على ذلك ما ثبت في مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال قلت:(لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، فافتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة)
فعلى ذلك أكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
قال: " مثنى مثنى " فيصلى قيام الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين، يسلم من كل ركعتين، يدل عليه حديث ابن عباس وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى ركعتين ثم ركعتين
…
الحديث.
وحديث عائشة المتقدم في رواية لمسلم: (يسلم بين كل ركعتين)، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) وهو نوع من الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر. وسيذكر المؤلف الأنواع الأخر.
قال: (وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها)
ما تقدم – أي إذا صلى مثنى مثنى – فإن وتره يكون بواحدة، لكن إن أحب أن يوتر بخمس أو سبع فإنه يصليها سرداً لا يجلس إلا في آخرها بمعنى يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بخمس سرداً أو بسبع سرداً فهي السنة.
فالسنة لمن صلى الوتر سبعاً أو خمساً ألا يجلس إلا في آخرها.
ومرادنا بالإيتار بخمس أو سبع، سواء كان الوتر بخمس صلاته كلها أو كان صلى قبله مثنى مثنى.
دليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام)
وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد الصورة الثانية فيما إذا أوتر بخمس عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر، من الليل بثلاث عشرة ركعة " فقد أضافت الركعتين اللتين يفتتح بهما القيام " يوتر فيها بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها) فلم يفصل بينهن بجلوس ولا كلام.
أما الوتر بالسبع فقد ثبت في أبي داود ما يخالف ما تقدم في حديث أم سلمة، فقد روى أبو داود في سننه وأصله في مسلم وفيه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة) وفي رواية لمسلم: (أنه أوتر بسبع) .
بمعنى: صلى ست ركعات ثم قام ولم يسلم ثم جلس جلوساً ثانياً فسلم فيه.
وهذا هو مذهب الموفق ابن قدامة وهو وجه في مذهب الحنابلة وأنه إذا أوتر بسبع فإنه يصلي ستاً سرداً ثم يجلس بعد السادسة ثم يقوم فيصلي السابعة ثم يجلس فيها ويسلم.وهذا هو الأرجح.
أما حديث أم سلمة فهو على الشك، فإن فيه شك ومثله يوجب التوقف، فإنها قالت:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع أو بخمس) وهنا شك، وقد ثبتت الرواية في المتفق عليه فيما إذا أوتر بخمس وأنه لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام، أما السبع فإن هذا الشك يوجب التوقف فيها لا سيما وقد وردت في الرواية الأخرى المخالفة.
فعلى ذلك: الأرجح خلاف المشهور في المذهب وهو قول الموفق أنه إن أوتر بسبع فإنه لا يسردها كلها بل يسرد فيها ستاً فيجلس بعد السادسة فيذكر الله، ويدعو ثم يقوم من غير سلام فيصلي السابعة ثم يجلس فيتشهد ويسلم.
قال: (وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم)
فإذا أوتر بتسع، فيصلي ثماني ركعات سرداً لا يجلس في شيء منهن فإذا انتهى من الثامنة جلس فذكر الله وحمده ودعاه ثم قام فصلى التاسعة ثم جلس فتشهد وسلم، فحينئذٍ يتم له تسع ركعات بتشهدين وسلام واحد.
وهذه الصفة ثابتة في مسلم من حديث عائشة - وهو الذي تقدمت الإشارة إليه عند ذكر رواية أبي داود وأن أصلها في مسلم – عن عائشة أنها سألها سعد بن هشام فقال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كنا نعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس في شيء منها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعو وينهض ولا يسلم ويقوم إلى التاسعة ثم يجلس فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم)
قالت: - أي عائشة -: (ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول)
وهاتان الركعتان ثبت فعلهما من النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة، فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد وتره ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما " إذا زلزلت الأرض زلزلاها " و " قل يا أيها الكافرون ") .
قال ابن القيم: " هي كالسنة للفريضة ". أ. هـ.
فهنا الوتر كأنها عبادة مستقلة تشبه الفرائض فكان لها سنة كالفرائض فهذه كالفرائض فهذه سنتها، فحينئذٍ: لا يعارض هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) .
فإنه إذا أوتر استحب له أحياناً أن يصلي بعد وتره ركعتين خفيفتين وهو قاعد.
وقد قال الإمام مالك بعدم المشرعية.
وقال أحمد: إن فعلها فلا بأس وإن تركها فلا بأس.
قال: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين)
هذا أدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات، فالإجزاء أن يصلي ركعة، وأدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات لكن بسلامين هذا هو المستحب.
فلا يستحب الوتر بثلاث بمعنى: أن يصلي ثلاثاً سرداً لا يفصل بينهن بسلام، بل المستحب أن يفصل بينهن بالكلام والسلام.
فإن صلى ثلاثاً سرداً قالوا: فلا بأس.
وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول بالكراهية، فقد صح عن ابن عباس قال:(ولا أحب ثلاثاً تتراً) أي سرداً.
وعن عائشة قالت: (وأكره ثلاثاً تتراً) .
والأثران رواهما محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل.
ويدل على ذلك ما ثبت عند ابن حبان والحاكم بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب) .
فهذا فيه النهي عن الإيتار بثلاث، وهو حديث مطلق وظاهر إطلاقه النهي عن ذلك سواء كانت الثلاث سرداً بلا تشهد، أو كان فيها تشهد بلا سلام، لقوله:(لا توتروا بثلاث) ثم قال: (لا تشبهوا بصلاة المغرب)
فإن قيل: أنه إن سردها من غير تشهد فإنها لم يتشبه بصلاة المغرب؟
فالجواب: إن أصل المشابهة ثابت، إذ المشابهة لا تقتضي المماثلة.
ثم إن قوله: (لا توتروا بثلاث) شامل للصفتين كلتيهما، وأما قوله:(ولا تشبهوا بصلاة المغرب) فلا يخرج الصفة التي ليس فيها تشهد؛ لأن التشبيه ثابت لعدم السلام ولكونها ثلاثاً.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف المخاطب إلى أن أمره أن يوتر بخمس أو سبع، فدل ذلك على أن الإيتار بثلاث مكروه مطلقاً، وهذا هو الأظهر وأنه مكروه مطلقاً، وأن المستحب له أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي الثالثة.
وقد صح عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته)
إذن: الإيتار بثلاث مكروه سواء جلس للتشهد أو لم يجلس والمستحب أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يأتي بالثالثة.
والحمد لله رب العالمين.
الوتر: في لغة العرب: هو الفرد.
اصطلاحاً: فهو الركعة الواحدة وما أضيف إليها مما اتصل بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالكافرون وفي الثالثة بالإخلاص)
لما روى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي بن كعب – حديث صحيح -: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشرع له أن يقرأ في الثالثة بالمعوذتين مع سورة الإخلاص.
وهو المشهور في المذهب.
ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
لما روى أبو داود من حديث عائشة وفيه: (ويقرأ في الثالثة بقل هو الله أحد، والمعوذتين) والحديث فيه خصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف.
لكن الحديث ورد من طريق آخر عند الحاكم فحسن به الحديث، فعلى ذلك الحديث حسن بطريقه، وعليه فيشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
ولا بأس له أن يقرأ سواها من السور في الركعات الثلاث، وأما ما تقدم فهو على سبيل الاستحباب للقاعدة المشهورة: مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(فاقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
قال: (ويقنت فيها)
أي يقنت في ركعته الثالثة، فيدعو الله بالدعاء الوارد كما سيذكره المؤلف، أو بما شاء.
فالقنوت هو الدعاء الواقع في الركعة الأخيرة من صلاته.
– وظاهره أنه يقنت مطلقاً في جميع السنة، وأن القنوت مستحب في جميع السنة. وهو المشهور في المذهب، وإليه رجع الإمام أحمد فقال:" كنت أذهب إلى أن القنوت في النصف الأخير من رمضان ثم قنت هو دعاء بخير " وهو قول بعض الصحابة حكاه ابن تيمية عن ابن مسعود وغيره.
والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد أنه لا يستحب بحال لا في رمضان ولا في غيره.
والقول الثالث: أنه يستحب في النصف الأخير من رمضان.
هذه ثلاث أقوال لأهل العلم هي روايات عن الإمام أحمد وقد حكى ابن تيمية هذه الأقوال عن الصحابة رضي الله عنهم واختار ابن تيمية التخيير بين الفعل والترك وقال: (حقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة فمن شاء فعله ومن شاء تركه)
والظاهر: أنه يستحب لكن استحبابه ينبغي ألا يكون على هيئة الدوام بل يفعله تارة ويتركه تارة أخرى، لأن القنوت قد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن تعليمه.
فقد ثبت في سنن النسائي بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقنت في الوتر قبل الركوع)
وثبت عند الخمسة، وفيه أن الحسن قال:(علمني النبي صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر) وإسناده جيد.
وثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن علي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)
فهذه الأحاديث تدل على مشرعية القنوت.
وإنما لم نقل باستحباب مداومته، لأن من نقل لنا قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الليل كعائشة وابن عباس وزيد بن خالد وغيرهم لم يحكوا لنا قنوته، وإنما حكاه علي والحسن، وأبي بن كعب فكون عائشة وابن عباس ومن روى ذلك من الصحابة لا يذكر القنوت مع حرصه على استقصاء صفة قيامه، طولاً وقصراً وما كان يقرأ فيها ونحو ذلك، يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إذ الهمم والدواعي متوفرة لنقله منهم فلما لم ينقلوه دل على أنهم لم يروه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكاه من رآه كأبي بن كعب وعلي فدل على أنه كان يفعله برؤية هؤلاء ولم يكن يداوم عليه لعدم حكاية أولئك له.
فعلى ذلك، يستحب أحياناً من غير مداومة، لكن إن دوم عليه فلا بأس والمستحب له ألا يداوم لأنه من جنس الدعاء والمسألة في الصلاة. هذا الذي يتبين في هذه المسألة والله أعلم.
قال: (بعد الركوع)
ندباً، فيستحب القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قنوت النبي صلى الله عليه وسلم للنازلة وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع) وهو من حديث ابن عمر وغيره.
وهذا من جنسه، فالقنوت في الوتر من جنس القنوت في النوازل، وهذا التنظير وإن كان راجحاً لكن السنة تخالفه، فقد ثبت في النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم:(قنت في الوتر قبل الركوع) .
وإليه ذهب الإمام مالك وهو الراجح، وأن المستحب أن يقنت قبل الركوع، فإن قنت بعده فلا حرج إن شاء الله.
قال: (ويقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وآل محمد)
أما قوله: " اللهم اهدني " إلى قوله: " تباركت ربنا وتعاليت " فقد ثبت عند الخمسة بإسناد جيد عن الحسن بن علي قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر
…
الحديث) إلا أن لفظة " ولا يعز من عاديت " تفرد بها النسائي وإسنادها صحيح.
وقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت ": أي وفقني إلى معرفة الحق والعمل به.
" وعافني يمن عافيت ": أي عافني من الشرك والمعاصي وعافني من الأمراض والبلايا ونحوها.
" وتولني فيمن توليت ": أي قربني إليك وتولني بعنايتك وحفظك وتسديدك.
" وبارك لي فيما أعطيت " من الخير الديني والدنيوي، اجعله لي مباركاً من علم نافع أو رزق دنيوي.
" وقني شر ما قضيت ": أي قني المقضيات التي فيها شر والشر يُنسب إلى مقضيات الله لا إلى فعله كما في الحديث: (والشر ليس إليك)
" إنك تقضي ولا يُقضى عليك ": وفي رواية: " فإنك تقضي
…
" وزاد ابن خزيمة بعده: (لا منجى منك إلا إليك)
وقوله: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك " ثابت عند الأربعة بإسناد صحيح من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في وتره
…
أما قوله: " اللهم صل على محمد وآل محمد " فقد روى النسائي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث تعليمه للحسن: " اللهم صل على النبي" لكن الحديث إسناده ضعيف، فلا يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن فعله حسن لثبوته عن أُبي بن كعب كما عند ابن خزيمة فقد صح عنه في ابن خزيمة أنه كان يقول في آخر قنوته: " اللهم صل على آل محمد " فعلى ذلك هو مستحب لفعل هذا الصحابي له.
قال: (ويمسح وجهه بيديه)
كما روى الترمذي من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا رفع يديه في الدعاء لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) .
لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه: إلى أنه لا يشرع له ذلك لضعف الحديث فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف.
وهذه المسألة متضمنة لرفع اليدين وأنه يستحب له ذلك في دعاء قنوت الوتر، وهذا ظاهر لأنه من جنس الدعاء في قنوت النوازل.
وقد ثبت في مسند أحمد – في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم – للنوازل: (أنه كان يرفع يديه) ففيه مشروعية رفع اليدين لثبوت ذلك في قنوت النوازل.
وهنا ما ذكره من الدعاء هو دعاء المنفرد في قوله: " اللهم اهدني
…
... " أما دعاء الإمام فإنه يكون بصيغة الجمع فيقول: " اللهم اهدنا فيمن هديت
…
إلى آخره "
فإذا دعا الإمام أمَّن المأمومون خلفه ورفعوا أصواتهم بالتأمين بالاتفاق، قال الموفق:" لا نعلم فيه خلافاً "،
ويدل عليه ما رواه أبو داود في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم للنوازل وفيه: (يؤمن من خلفه) فعلى ذلك: يستحب لمن خلف الإمام أن يؤمن.
* وهنا اقتصار المؤلف وغيره من الحنابلة على الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت هل يدل على أنه لا يشرع سواه أم أنهم اكتفوا به لأنه هو المستحب وإن لم يكن متعيناً؟
هذا ما ذكره صاحب الفروع – إجمالاً – فقال: - أي من اقتصر على ذكر ذلك – لعله أراد أنه يستحب وإن لم يتعين؛ وذلك لأن الإمام أحمد نصَّ أن له أن يدعو بما شاء.
وصرَّح بذلك طائفة من أصحابه – وهذا هو الأظهر –، فهو محل للدعاء فله أن يدعو بما شاء من الدعاء فكما أن السجود محل للدعاء وله أن يدعو بما ورد وما لم يرد، نعم المستحب له أن يأتي بالوارد، فإن أطال فدعا بما لم يرد فلا بأس ومثل ذلك الدعاء في التشهد، فالمستحب أن يدعو بما ورد فإن زاد ما لم يرد أو دعا أصلاً بما لم يرد فلا بأس ولا حرج.
إلا أن يصحب ذلك اعتقاد ينقل الحكم كأن يعتقد في هذا الدعاء أنه أفضل من الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه أرجى للإجابة أو اعتقاد أنه سنة أو نحو ذلك فله حكم آخر.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض)
فيكره قنوت المصلي في غير الوتر – من الصلوات – كأن يقنت في صلاة الفجر أو صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فهو مكروه في المشهور من المذهب.
وهذا له حالتان:
الحالة الأولى: أن يقنت في صلاة الفجر.
الحالة الثانية: أن يقنت في بقية الصلوات.
أما القنوت في صلاة الفجر أي مشروعيته فقد ذهب إليه المالكية والشافعية وأنه مستحب.
وأما القنوت في بقية الصلوات فذهب إليه بعض الشافعية، وقد بدَّع شيخ الإسلام هذا الفعل، ولا ينسب إلى إمام من الأئمة وإنما هو قول قاله بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي.
أما القنوت في صلاة الفجر فهو مذهب الشافعية والمالكية.
وذهب الأحناف والحنابلة وعليه العمل عند أهل العلم كما قاله الترمذي: أنه لا يشرع.
استدل القائلون بالمشروعية: بما روى أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك وفيه: (أما الصبح فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا)
واستدل القائلون بعدم المشروعية بأحاديث:
منها: ما ثبت في الصحيحين عن انس قال: (قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في صلاة الفجر يقول: " اللهم أنج الوليد ابن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وفي مسلم: (ثم تركه) .
وفي أبي داود: قال: (فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال: " أو ما تراهم قد قدموا ") فكانت نازلة فانتهت فترك القنوت لزوالها.
ومنها ما رواه ابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم)
ومنها – وهو أصرح الأدلة – بما ثبت في الترميذي وصححه وهو كما قال من حديث: سعد بن طارق الأشجعي قال: (قلت لأبي: إنك صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكانوا يقنتون؟ فقال: أي بني محدث) أي هو بدعة. وهو حديث صحيح وعليه العمل كما ذكر الترمذي.
أما حديث: (أما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) فالحديث فيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف إذا تفرد، وقد تفرد بهذه الرواية وهو صاحب مناكير فلا يقبل حديثه.
ثم لو سلمنا بصحة الحديث فإنه يحتمل – جمعاً بينه وبين ما تقدم من الأدلة – بأن المراد إطالة القيام في الصلاة فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يطيل قيام صلاة الفجر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت " أي طول القيام ") رواه مسلم.
فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من عدم مشروعية القنوت في غير النوازل وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه.
وهل يكره أم يحرم؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: هو الكراهية.
القول الثاني: أنه محرم وهو قول قاله بعض الحنابلة، وقال بعضهم هو بدعة.
أما ابن القيم فذكر في زاد المعاد أنه ليس ببدعة وأنه من الخلاف السائغ، وحكاه عن أهل الحديث.
أما ما ذكره عن أهل الحديث من اتفاقهم على عدم تبديع هذا الفعل فإنه يحتاج إلى تثبت في نسبته إلى أهل الحديث لأنه جارٍ مجرى البدع وكون الأمر بدعة لا يعني أن فاعله مبتدع ما دام أنه مجتهد في فعله.
فكون الإمام الشافعي يشرع ويستحب القنوت استدلالاً بالحديث المتقدم، لا يعني ذلك أن ينسب إلى شيء من البدعة، وإن كان هذا الفعل بدعة كما أن البدعة قد نسبت إلى فعل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكون غير مشروعة والسنة بخلافها.
فعلى ذلك – وكما نص الصحابي المتقدم – وهو طارق الأشجعي في قوله: " أي بني محدث " فهو محدث وكل محدثة بدعة.
فالراجح: أنه بدعة لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما من فعله على أنه سنة فإن له نصيبه من الأجر والاجتهاد فإنه مجتهد مخطئ فله أجره على اجتهاده.
فالراجح من قولي المذهب: خلاف المشهور عندهم: أن ذلك محرم وأنه بدعة.
والمالكية والشافعية – كما تقدم – يستحبون القنوت في صلاة الفجر، لكن بينهم فيه اختلاف.
فمذهب المالكية: أنه مشروع قبل الركوع سراً.
ومذهب الشافعية: أنه مشروع بعده جهراً.
واختلفوا أيضاً: في اللفظ الذي يقنت به.
فالمشهور عند الشافعية أنه يقنت بحديث الحسن بن علي: (اللهم اهدني فيمن هديت) وهو قول ظاهر الضعف، لأن الحديث إنما ورد في قنوت الوتر ولم يثبت في قنوت الصلاة.
وذهب المالكية إلى القنوت بما ورد عن عمر رضي الله عنه، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى خلف عمر رضي الله عنه صلاة الفجر فسمعه يقول: قبل الركوع وبعد القراءة: (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد " أي نسارع " نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك في الكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك)
فبه استدل المالكية على استحبابه سراً وعلى أنه قبل الركوع لفعل عمر فإنه قد قنت قبل الركوع سراً لأنه لم يظهر من عمر بل سمع منه.
وهذا الأثر يحمل على أنه من قنوت النوازل كما تقدم.
أما قنوت النوازل فهو مشروع، كأن تقع بالمسلمين نازلة من تسلط عدو ونحو ذلك، للحديث المتقدم من حديث أنس وحديث أبي هريرة الذي فيه: (اللهم أنج الوليد بن الوليد
…
الحديث) .
واعلم أن السنة أن يكون بعد الركوع بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " لرواية في الصحيحين للحديث المتقدم: (أنه كان يقول ذلك بعد الركوع بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) .
فإن كان قبل الركوع فلا بأس للأثر المتقدم عن عمر، مع أنه قد صح عن عمر في البيهقي أنه (قنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء) .
ويدعو بألفاظ منبعثة عن هذه النازلة التي وقعت على المسلمين.
واعلم أن قنوت النوازل ليس خاصاً في صلاة الفجر بل عام فيها وفي غيرها من الصلوات المكتوبة.
فقد ثبت في أبي داود من حديث ابن عباس قال: (قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إذا قال: سمع الله لمن حمده، دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) .
ففيه أن القنوت مشروع في كل الصلوات المكتوبة، لذا قال المؤلف هنا:" فيقنت الإمام في الفرائض " فهو عام في الفرائض كلها.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (القنوت في الظهر العشاء والفجر) . وثبت في البخاري من حديث أنس: (القنوت في المغرب والفجر) ، ونحوه من حديث البراء بن عازب في مسلم في قنوت المغرب والفجر.فهذه أربع صلوات ثبتت في الصحيحين أو أحدهما.
وأما العصر فقد ثبت فيما تقدم من حديث ابن عباس في سنن أبي داود وهو جامع للصلوات الخمس.
والظاهر أنه يجهر بالقنوت مطلقاً سواء كانت الصلاة جهرية أم سرية.
وقد صرح بعض الحنابلة بخلاف ذلك وأنه يجهر فيما يجهر به من الصلوات.
وأطلق بعضهم، وظاهر إطلاقه أنه يجهر بها كلها، وهو الظاهر لحديث ابن عباس المتقدم:(دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) فظاهره أنه قد رفع صوته وجهر به فسمعه من خلفه فأمَّن.
فعلى ذلك لو قنت في صلاة الظهر أو العصر فإنه يجهر بالقنوت.
قوله: (غير الطاعون)
- المشهور في المذهب: أن الطاعون لا يشرع فيه القنوت، وذلك من وجهين:
الأول: أنه قد وقع في عهد الصحابة، كما وقع في عهد عمر في ناحية الشام فلم يثبت أنهم قنتوا.
الثاني: أنه شهادة، وثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الطاعون شهادة لكل مسلم)
- والمشهور عند الشافعية القنوت في الوباء من طاعون وغيره أي مشروعية ذلك.
ويُجاب عما استدل به الحنابلة من الوجهين:
أما كونه لم يثبت لنا عن الصحابة وأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فلا يقضي أنهم لم يفعلوه.
وأما كونه شهادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا فيما تقدم للوليد بن الوليد ومسلمة بن هشام وما هم عليه إنما هو شهادة أو بمعنى الشهادة فهم معرضون للشهادة أو بمعنى الشهادة من التعذيب في سبيل الله، فكونه شهادة لا يعني ذلك أنه لا يقنت منه.
فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية من مشروعية القنوت فيه، وأنه من النوازل فيجوز للمسلمين أن يقنتوا فيه إذا نزل بهم الطاعون أو غيره من الأوبئة الخطيرة التي تهلك الحرث والنسل.
واعلم أن ظاهر حديث أبي هريرة: أن النازلة وإن وقعت في طائفة من المسلمين من أسر أو تعريض لقتل أو وباء على القول به أنه وإن نزل في طائفة من المسلمين ولم يكن عاماً فإنه يشرع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قنت لطائفة مأسورة عند قريش.
قوله: (فيقنت الإمام)
أي الإمام الأعظم.
هذا هو المشهور في المذهب وأنه إنما هو الإمام الأعظم أي الحاكم أو السلطان أو الخليفة.
وعن أحمد: أنه نائبه إن أذن الإمام.
وعن أحمد: أن إمام الجماعة يشرع له ذلك.
وعن أحمد: كل مصل له ذلك.
فهذه أربع روايات عن الإمام أحمد: أظهرها وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه مشروع لكل مصل لأنه دعاء لله عز وجل لا يترتب عليه فتنة وشر ولا افتيات على السلطان والحاكم.
وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وقد تقدم أثر عمر، وفيه أنه دعا سراً، فهذا يدل على أنه وإن لم يكن مجهوراً به مختصاً بالمصلي نفسه فإنه يبقى مشروعاً.
فإذا فعله من يصلي وحده أو المرأة، فلا حرج في ذلك ويبقى على مشروعيته.
إلا أن يترتب على فعله فتنة أو يمنع منه السلطان أو الحاكم فيترتب على فعله مفاسد، فينهى عنه لهذه المفاسد. أما إن لم يكن ذلك، فإنه دعاء لله، الأصل فيه ألا مفسدة فيه، فلا ينهى عنه وإن لم أذن السلطان.
[في الفرائض]
تقدم أن القنوت عام في الفرائض كلها.
وتقدم أنه يستحب له أن يرفع يديه كما في أثر عمر بن الخطاب، وتقدم في مسند أحمد عند الكلام على رفع اليدين في قنوت الوتر.
ويجهر الإمام كما هو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا من قنوت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي هريرة، فظاهر أنه جهر، وحديث ابن عباس، وظاهر في ذلك، وأثر عمر فيه أنه جهر.
ويؤمن من خلفه كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنه، فعلى ذلك: يرفع يديه ويدعو الله بما يناسب المقام من الدعاء مما وقع في المسلمين من نازلة، ويؤمن من خلفه.
وقد استثنى الحنابلة في المشهور عندهم صلاة الجمعة، فقالوا: لا يشرع فيها القنوت.
واستدل بعضهم: على أنها يوم عيد، فلا يناسب ذكر النازلة فيه.
وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب القاضي من الحنابلة: إلى أن الجمعة كغيرها، يشرع فيها القنوت.
وهذا هو الأظهر؛ فإن حديث ابن عباس المتقدم عام في الجمعة وغيرها، في قوله:" دبر كل صلاة مكتوبة "، فيشمل الجمعة كما يشمل غيرها.
وليس هناك معنى يناسب لإخراج الجمعة عن هذا الحكم، فإن وقوع النازلة في المسلمين يقتضي دعاء الله عز وجل، وسواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها.
مسألة:
إذا قنت إمام في غير نازلة، كأن يقنت في صلاة الفجر، كما يقع هذا من الشافعية أو من المالكية بالسكوت منهم، فما الحكم في حق المأموم؟
المشهور في المذهب: أن المأموم يتابع الإمام، فيؤمن بدعائه، وعليه فإنه يرفع يديه وغير ذلك. وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام: في أن الإمام إذا فعل ما يسوغ له مما هو من الاجتهاد، فإن المأموم يتابعه، كأن يقنت أو أن يصل الوتر. هكذا قال شيخ الإسلام.
وقال بعض الحنابلة: لا يتابعه.
وهذا القول ضعيف من جهة إطلاقه، وفيه معنى صحيح.
أما إطلاقه فظاهره أنه يفارق الإمام، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا من الإمام فعل يسير في الغالب، ويمكن للمأموم أن ينتظره، ولا يعدو ذلك إلا أن يكون إطالة في ركن مشروع، فكونه يتابعه، هذا لا يؤثر في صلاته. وأما المعنى الصحيح فيها فهو كونه يفارقه في الفعل والقول، فهذا هو المعنى الراجح في ذلك.
فالأظهر أنه يتابعه في القيام والانتظار، فلا يسبق الإمام إلى النزول إلى السجود أو إلى الركوع إن قنت قبل الركوع، لكنه لا يرفع يديه ولا يؤمن على دعائه، وإنما ينشغل بذكر مشروع في هذا الموضع، كأن يطيل من تمجيد الله عز وجل والثناء عليه؛ لأن المقصود من متابعته عدم الخلاف على الإمام بأن يتقدم عليه في ركوع ونحوه.
أما أن يخالفه فيما يمكن مخالفته فيه من غير أن يكون ذلك مؤثراً في الصورة الظاهرة، فهذا لا حرج فيه.
فالظاهر أنه لا يتابعه وقد فعل أمراً محدثاً، لكنه يبقى منتظراً له قائماً مشتغلاً بما يشرع من غير أن يقع منه الحدث.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والتراويح عشرون ركعة)
التراويح: جمع ترويحة، وهي الجلسة اليسيرة للاستراحة وسمي قيام الليل تراويحاً: لأنهم – أي السلف – كانوا يجلسون بعد كل أربع ركعات جلسة يسيرة، وقد حكى صاحب الفروع اتفاق أهل العلم عليها.
ويستدل لذلك بحديث عائشة في الصحيحين أنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً
…
...ثم يصلي ثلاثاً) فأتت بلفظة " ثم " التي تفيد التراخي، بينما جمعت بين الأربع في قولها:" يصلي أربعاً " مع أنها قالت: " يسلم من كل ركعتين " كما في رواية مسلم فهذا يدل على ثبوت هذه الجلسة بين الأربع ركعات.
إلا أن الحديث المتقدم ليس فيه اختصاص هذه الجلسة لقيام رمضان فحسب، بل القيام كله، وأنه يستحب الراحة بعد صلاة أربع ركعات مطلقاً في رمضان وفي غيره.
وقد تقدم أن صاحب الفروع حكى اتفاق أهل العلم على استحبابها وقال: " وفعله السلف ولا بأس بتركه " وهو كما قال فهي سنة مستحبة من تركها فلا بأس.
وهي – أي التراويح – سنة مستحبة باتفاق العلماء وإجماعهم فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة فصلى أناس بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: قد رأيت ما صنعتم، فلم يمنعني من الخروج عليكم إلا أني خشيت أن تفرض) قال الراوي: وذلك في رمضان ".
فهذا هو أصل مشروعيتها من السنة النبوية.
وبقي الأمر كذلك في عهد أبي بكر الصديق وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما: ثم سنها عمر فجمع الناس إليها على أبي بن كعب.
كما ثبت في البخاري عن عبد الرحمن القارئ قال: (خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون فقال: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها خير من التي يقومون، كان وكان الناس يقومون أوله)
" التي ينامون عنها " من صلاة الليل في آخره فهي أفضل.
وكانوا مراعاة لمصلحة عامة الناس يصلون في أوله لا سيما قبل العشر الأواخر، فكان عمر يقول ذلك.
فهي سنة نبوية أولاً، فلما زال ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشاه من كونها تفرض بوفاته عليه الصلاة والسلام وانتهاء التشريع كان من عمر أن استأنف شرعيتها فجمع الناس إليها وهذا من موافقة أمير المؤمنين للحق كما هو معلوم فيما هو عليه - رضوان الله عليه – وفي الحديث:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) .
(عشرون ركعة) فتصلى عشرون ركعة كما هو مذهب جماهير العلماء وهو فعل أهل مكة حكاه عنهم الشافعي وغيره.
أما فعل أهل المدينة فكما حكاه الشافعي وغيره أنهم يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث.
فجمهور العلماء وهو مذهب أكثر الفقهاء كما حكى ذلك الترمذي وغيره على القول باستحباب صلاة عشرين ركعة ثم يوتر بواحدة أو بثلاث.
واستدلوا: بما رواه البيهقي بإسناده الصحيح وصححه شيخ الإسلام وغيره عن السائب بن يزيد قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان عشرين ركعة) الأثر إسناده صحيح ورواه مالك في موطئه عن يزيد بن رُومان قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة) فذكر فيها الوتر بثلاث، لكن السند هنا منقطع فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر رضي الله عنه.
فهذا الأثر يدل على أنها كانت تصلى في عهد عمر عشرين ركعة، وهو فعل أهل مكة.
وروى مالك في موطئه عن السائب بن يزيد قال: (أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نتكأ على العصي من طول القيام قال: فما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر) .
ولعل هذا يحمل – للجمع بينه وبين الرواية المتقدمة – على حدوث ذلك في العشر الأواخر وأنهم لا ينصرفون إلا عند طلوع الفجر، بخلاف صلاتهم قبل ذلك فإنهم يتركون قيام آخره كما في قول عمر:" والتي ينامون عنها خير من التي يقومون ".
والجمع بين الأثرين الصحيحين: أنه لا مانع من ثبوتهما جميعاً لاختلاف الأحوال فإن عصر أمير المؤمنين عمر، ثبت سنين طويلة فلا مانع أن يثبت هذا في بعض السنين ويثبت الآخر في بعضها الآخر أو أن يكون إمامين " أبي وتميم " ويكون ذاك من أئمة أخر.
ويحتمل أيضاً: أن هذا بالاختلاف في تطويل القراءة وتخفيفها فإذا طولت القراءة خفف الركعات، وإذا خففت القراءة أكثر الركعات، كما نص على ذلك الشافعي.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذين الاحتمالين للجمع بين الأثرين، فذكر أنه يحتمل أن يكون على اختلاف الأحوال أو اختلاف القراءة تطويلاً وتخفيفاً. وهذا جمع ظاهر بين الآثار.
قال شيخ الإسلام: " فإن فعل ذلك أو صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فقد أحسن " ونص على ذلك الإمام أحمد.
وقال شيخ الإسلام: " من ظن أن قيام الليل مؤقت بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ " وهذا ما نص عليه الأئمة أحمد والشافعي وغيرهما.
فليس هناك في قيام رمضان ولا غيره عدد مؤقت لا يزاد فيه ولا ينقص.
نعم المستحب أن يصلي إحدى عشرة ركعة مع تمام ركوعها وسجودها وإطالة القيام فيها.
لكن إن خفف ذلك – أي القراءة – فالأحب أن يزيد في السجدات فثبت له فضيلة السجود. فليس للقيام عدد مؤقت، والأدلة على ذلك كثيرة.
فمن ذلك الأثر المتقدم عن زمن عمر.
ومن ذلك – وهو أولى بالاستدلال – ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " صلاة الليل مثنى مثنى " وهذه اللفظة تفيد التكرار ولم يوقته بعدد، فلم يقل:" ولا يزيد على إحدى عشرة ركعة " ومعلوم أن فعله لا يقتضي الوجوب.
ومن ذلك: ما في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر) .
وعليه الصحابة، فقد روى البخاري بسنده الصحيح عن ابن عمر قال:(أصلى كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها)
وهذا – أيضاً – ما تقتضيه الأدلة الشرعية التي فيها النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فظاهرها أنه يصلي في غير وقت النهي ما شاء، وهذا ما يدل عليه ما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عبسة وسيأتي ذكره في أوقات النهي.
وعليه عمل السلف الصالح فإنهم يصلون بألوان كثيرة وأعداد مختلفة من غير أن يثبت نكير في ذلك والسنة تقرر هذا وتدل عليه.
قال: (تفعل في جماعة)
هذا هو المستحب في المشهور من المذهب، أن المستحب في قيام رمضان أن يكون في جماعة، ويكون في المسجد، كما دلت عليه الآثار المتقدمة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته في المسجد، ومن حديث عمر في البخاري ففيه أنها تشرع في المسجد.
قال صاحب الإنصاف: " وتُصلى في المسجد في كل عصر ومصر " فهذا عمل الأمة في كل أعصارها وأمصارها أنها تصلي في المساجد.
وذهب الإمام مالك إلى أن المستحب أن تُصلى في البيت.
واستدل بما في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أتى ليصلي بصلاته وقد صلى بصلاته أناس فأتى قوم من الليلة القابلة ليصلوا بصلاته فقال: (ما زال صنيعكم بكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فصلوا الصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)
أما أهل القول الأول: فدليلهم: فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها وسنية عمر، لكن هذا الدليل دليل على فضيلة ذلك ومشروعيته لا على أفضليته مع المعارض.
والدليل الثابت في مسلم يدل على أن الصلاة في البيت أفضل وهو قول بعض الأحناف وقول لبعض الشافعية، بل هو رواية عن الإمام أحمد.
فعلى ذلك المستحب له أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.
ومحل هذا – أي استحباب صلاته في البيت – حيث كان لا يكسل عن صلاتها في البيت، وحيث لا تتأثر الجماعة في المسجد بعدم حضوره كالإمام، فيشرع له أن يصليها في المسجد وتكون صلاته في المسجد في حقه أفضل من صلاته في البيت أما سوى ذلك وهو من لا يكسل عن الصلاة في البيت بل يقوى عليها ولا تتأثر الجماعة به فإن المستحب أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.
قال: (مع الوتر)
فيصلي التراويح عشرين ركعة في الجماعة مع الوتر، فالوتر يصلى جماعة في المسجد، يدل عليه حديث أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فإنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) ففيه أنه يصلي معه الوتر أيضاً.
وقد أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة فهو ظاهر في أنه أمره بالوتر وأن يقوم للناس بذلك.
قال: (بعد العشاء)
فهي سنة بعد العشاء كالوتر وقد تقدم دليله.
وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد فمن صلى قبل العشاء فلا تصح منه ولا تقبل.
أما قيام الليل فالمشهور في المذهب أن وقته يبدأ من بعد صلاة المغرب.
وقد أجازها بعض متأخري الحنابلة، وأنكر ذلك شيخ الإسلام وقال:" ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعين المخالفين للسنة " فهي مخالفة صريحة للسنة.
ويستحب أن يصليها بعد سنة العشاء لترتبط السنة بالفريضة، فإن الأصل في السنة أن تكون مرتبطة بفريضتها. لكنه إن صلى قبلها فلا بأس. فتسن بعد العشاء وسواء صُليت العشاء في وقتها أو قدمت جمعاً مع المغرب.
قال: (في رمضان)
فالتراويح إنما تُشرع في رمضان.
وقد تقدم الحديث المتفق عليه، قوله:(وذلك في رمضان)
فإن صلوا في غير رمضان جماعة فلا بأس لكن من غير أن يتخذ ذلك سنة ومن غير أن تكون ظاهرة في المساجد.
ودليل جوازه ما ثبت في الصحيحين من صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك صلاة جابر وجبار - في مسلم – مع النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل في سفر.
فهذا يدل على جوازه لكن من غير أن يتخذ سنة ومن غير أن يظهر في المساجد.
قال: (ويوتر المتهجد بعده)
بعده: أي بعد التهجد.
فمن أراد أن يصلي بعد التراويح، فإنه يجعل الوتر بعد تهجده، وعلى ذلك فإذا قام الإمام للوتر انصرف للحديث:(اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه.
قال: (فإن تبع إمامه شفعه بركعة)
إذا تابع إمامه فقام فصلى معه الوتر فإنه يشفعه بركعة فإذا سلم الإمام قام يصلي ركعة تشفع له ركعة الإمام، ليصيب الفضيلة المتقدمة في حديث أبي داود:(من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)
وإن سلم معه وتهجد بلا وتر فصلى من الليل بعد ذلك مثنى مثنى فلا بأس كما ثبت هذا من فعل أبي بكر وأقره على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في أبي داود.
وقد تقدم ثبوت ركعتين بعد الوتر، فهنا صلى مع الإمام اقتداءً وانصرف معه، وأحب أن يتهجد من آخر الليل فله أن يتهجد ويصلي مثنى مثنى.
وليس له نقض وتره، وصفة نقضه: أن يصلي ركعة واحدة تشفع له وتره المتقدم، فهذا غير مشروع لأنه وتر أيضاً وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا وتران في ليلة) رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما والحديث حسن. فلا يشرع في الليل إلا وتر واحد، له أن يشفع ذلك ما دام مع الإمام – كما تقدم – أما بعد ذلك فهو غير مشروع اتفاقاً.
قال: (ويكره التنفل بينهما)
فيكره أن يتنفل بين ركعات التراويح، وقد حكى الإمام أحمد كراهيته عن ثلاثة من الصحابة فقال رحمه الله:" عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عبادة وأبي الدرداء وعقبة بن عامر "
ولما فيه من الزيادة عن الإمام والرغبة عن البقاء على ما هو عليه من الصلاة، فلا يشرع له أن يتنفل ما دام في المسجد، أما لو كان هناك زمن طويل بينها، كأن يصلي الإمام بعض الركعات في أول الليل، ثم يصلي بعضها في آخره فهذا فاصل كثير له أن يتنفل به كما صرح بذلك الحنابلة.
قال: (لا التعقيب في جماعة)
صفة التعقيب: أن يصلي بعد التراويح التي صلاها مع الإمام يصلي جماعة.
كأن يشهد رجل التراويح مع المسجد في أول الليل، فصلى في مسجد آخر في آخر الليل، فله أن يصلي مع المسجد آخر.
أو أناس صلوا مع الإمام ثم أحبوا أن يجتمعوا فيصلوا جماعة فلا بأس بذلك، نصَّ عليه الإمام أحمد، لأنه لا مانع منه شرعاً، وأصل الاجتماع في ليالي رمضان مشروع فلا بأس به وإن تكرر.
واستحب الحنابلة أن يختم القرآن كله في التراويح لا يزيد على ذلك ولا ينقص إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة.
وقال بعض الحنابلة: بل ينظر إلى المأمومين مطلقاً، فله أن ينقص عن الختمة إذا آثر المأمومون ذلك.
والأظهر أنه ينظر فيها إلى السنة لأنها صلاة مستحبة ليس في فعلها إلزام فيطبق بها السنة، وإن شق ذلك على بعض المأمومون.
وكونه يختم بختمة أو بختمتين أو ثلاث لم أر دليلاً من السنة يدل على شيء من ذلك إلا ما تقدم من أثر عمر وفيه: (أن الناس يتكئون على العصي في صلاة أبي بن كعب وتميم الداري) .
فإن قيل: بالتخفيف في أول رمضان والتطويل في آخره فلا بأس بمثل هذا القول، ولم أر في السنة حداً محدداً.
ولو قيل: أنها من جنس قيام الليل إلا أنها يصحبها شيء من التخفيف لاجتماع الناس إليها، فإن هذا قول حسن، لكن لا ينبغي أن يكون هذا راجعاً إلى المأمومين مطلقاً بحيث أنه لو شق على طائفة منهم أن يصلي بختمة مثلاً فإنه يخفف. القول بهذا ضعيف؛ ذلك لأن تلك المشقة إنما هي في الفريضة.
أما في النافلة فإنها ليست إلزامية فمن أحب أن يصلي صلى مع الإمام ومن أحب أن يصلي وحده صلى وحده.
إلا أن يقال: إنها تدخل في عموم حديث: (من أمَّ الناس فليخفف، ومن صلى بنفسه فليطول ما شاء) فيكون قدرها ليس كقيام الليل، وإنما فيها شيء من الإطالة وإن كانت ليست كقيام الليل.
والمقصود من ذلك: أنه ليس في السنة تحديد لقدر الختمات أو نحو ذلك، وإنما تبقى أن تكون من قيام الليل إلا أنه يصحبها شيء من التخفيف الذي يطيقه المأمومون.
لكنها أن تكون تحت رغباتهم، فهذا محل نظر فإنها تذهب بالعبادة، فإن العبادة شرعت – في الأصل قياماً لليل – لا سيما في العشر الأواخر التي يشرع فيها إطالة العبادة والإكثار منها، والله أعلم.
ونص الإمام أحمد: أنه يستحب أن يفتتح قيام الليل في أول ليلة بأن يقرأ بسورة: " اقرأ " لكونها أول ما أنزل من القرآن. ولم أر أثراً يدل على ذلك، وقد قال صاحب شرح منتهى الإرادات في شرحه" ولعل عنده أثر ". وهذا الغالب في مثل الإمام أحمد أنه لا يذكر مسألة إلا وعنده أثر منها لكن الأثر لم يذكر.
وعن الإمام أحمد، وقال شيخ الإسلام:" وهو أحسن " أي من القول الذي قبله – أنه يقرأ بسورة " اقرأ " في صلاة العشاء الآخرة ثم يشرع في البقرة في التراويح.
وهذا لا دليل عليه، فيتوقف عن القول به إلا أن يرد دليل يدل عليه أو أثر عن الصحابة.
فعلى ذلك: الأولى – ما دام الأثر لم يثبت لنا – أن يشرع بسورة البقرة.
ثم إن ظاهر كلام الإمام أحمد استحباب قراءة سورة " اقرأ " كاملة، مع أن أول ما نزل منها إنما هو صدرها؟
ولقائل أن يقول: إنما شرع إتمامها لا لكونه أول ما نزل ولكن لاتصاله بأول ما نزل في السورة، والمستحب في السور أن تتم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم السنن الراتبة)
أي في الفضيلة، فلفظة " ثم " تفيد الترتيب، فبعد الوتر والتراويح تأتي فضيلة السنن الراتبة.
وقد تقدم تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل على الصلاة مطلقاً، وأن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل والتراويح من صلاة الليل فتكون داخلة في عموم هذا اللفظ فعلى ذلك: الراجح ما تقدم وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة ومن ذلك الوتر وقيام الليل ومنه التراويح.
وكون المؤلف يفرِّق بين التراويح وبين غيره من الصلاة محل نظر، بل التراويح نوع من أنواع صلاة الليل وصلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة.
" ثم السنن الراتبة " وهي السنن المؤكدة مع الفرائض.
والرواتب ذكرها المؤلف عشراً فقال:
: (ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر)
هذا المشهور في المذهب وأن الرواتب عشر وهي ما تقدم ذكره.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل صلاة الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد صلاة المغرب في بيته، وركعتين بعد صلاة العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح في بيته) وفي رواية (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فذكر عشر ركعات ومنها ركعتان قبل الظهر.
- وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن المستحب أربع قبل الظهر فتكون الرواتب اثنتي عشرة ركعة.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)
وثبت في مسلم من حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته يبنى له بهن بيت في الجنة) وفي رواية: (تطوعاً) .
ورواه الترمذي وزاد: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح) .
ففيه أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة.
وهذا القول هو القول الراجح، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وفي حديث عائشة وأم حبيبة زيادة علم على ما في حديث ابن عمر.
وجمع ابن القيم بين هذه الأحاديث بجمع آخر: فذكر احتمالين استظهر أولهما:
الاحتمال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين في المسجد وأربعاً في بيته واستظهر هذا.
والاحتمال الثاني: أنه كان يصلي تارة ركعتين وتارة أربعاً.
والأولى ما تقدم.
أما ما ذكره من الاحتمال الأول، فإن فيه نظر، لأن صلاة البيت أفضل من صلاة المسجد، فاللائق أن تكون الصلاة في المسجد مكررة زائدة على صلاة البيت ليجبر ما يكون من النقص في صلاة البيت، فتكون أربعاً في المسجد وركعتين في البيت. وصلاة البيت أفضل، فلو أن هذا يحتمل في هذه الأحاديث لكان أقوى، لكن هذا غير محتمل؛ لأن من حدثتنا وهي عائشة عن صلاة قبل الظهر فإنما حدثتنا عن صلاته في بيته – كما سيأتي التصريح في مسلم -.
وأما الاحتمال الثاني: فإنه وإن كان فيه شيء من القوة لكن ما تقدم ذكره أقوى، لأن غاية حديث ابن عمر الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين، وليس فيه نفي أن يكون قد صلى أربعاً لا سيما إذا صلى في بيته.
أو يحتمل أن يكون ابن عمر قد رآه صلى ركعتين في المسجد وكان قد صلى ركعتين في البيت مرة أو مرتين فحدث بذلك.
وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً ويقول: (أنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) فالراجح: أن المستحب له أن يصلي أربعاً قبل الظهر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما عند الخمسة بإسناد صحيح -: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار) .
والراجح أن السنن الراتبة اثنا عشرة ركعة.
قال: (وركعتان قبل الفجر وهما آكدها)
أي الركعتان قبل الفجر آكد السنن الراتبة.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) وفي مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)
ومن السنن المتصلة بركعتي الفجر:
فمن ذلك: أن المستحب له أن يقرأ بهما: {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} .
أو {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا
…
} الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
…
} الآية من سورة آل عمران.
فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ: ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} ) .
وثبت فيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين قبل صلاة الفجر، في الأولى بـ: ( {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا
…
} الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
…
} الآية من سورة آل عمران) (1) .
فالمستحب أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
كما أن المستحب له أن يقرأ بالسورتين في الركعتين بعد صلاة المغرب، فقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الركعتين بعد صلاة المغرب بـ ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} )
ومن ذلك: أن يخففهما، فالسنة في سنة الفجر التخفيف، ففي الصحيحين عن عائشة قالت:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) وهذا من باب المبالغة.
ومن ذلك: أن يضطجع على شقه الأيمن بعد هذه السنة أو أن يتحدث مع أهل أو غيرهم.
أما دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
(1) أخرجه مسلم.
وفي الصحيحين من حديثها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) .
وفي أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن) . والحديث معلول، فإنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وروايته عن الأعمش فيها مقال كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
ورواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
فالحديث المعلول فيه الأمر بذلك وبه استدل من ذهب على الوجوب، وأما الحديث الثاني فإنه يصف الفعل ثم لو صححناه قولاً فإن هذا الأمر ليس للوجوب بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما ذكرته عائشة من قولها:(فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) فهذه من سنن ركعتي الفجر.
ويستحب في هذه الصلوات الراتبة أن يصليها في بيته لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)
وفي مسلم عن عائشة – وهو الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه – قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته أربعاً قبل الظهر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين) فذكرت أن من سنته صلاة السنن الرواتب في البيت.
وآكد ذلك: سنة المغرب حتى روى عن الإمام أحمد القول بعدم الإجزاء إذا صليت في المسجد.
والقول المشهور عنه خلاف ذلك وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ودليله ما ثبت عند أبي داود والحديث صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد بني عبد الأشهل فلما قضوا صلاة المغرب قاموا يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)
فهذه الصلاة لا تشرع أن تصلى إلا في البيوت، لكن مع ذلك إن صليت في المسجد فهي صلاة مجزئة صحيحة.
قال: (ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه)
فمن فاته شيء من النوافل سواء كانت ركعتي الفجر أو غيرها سن له قضاؤه.
لعموم قوله النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) و " صلاة " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم.
وثبت ذلك من فعله، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام في سفره حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر) .
وثبت عن أم سلمة في الصحيحين: (أنه شغله وفد عبد القيس عن الركعتين التي بعد صلاة الظهر فصلاهما بعد صلاة العصر)
وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصليهما بعدها)
فهذه أحاديث تدل على مشروعية القضاء للسنن الرواتب.
واعلم أن وقت النافلة هو وقت الفريضة مجزءاً، فما كان من السنن قبلياً فوقته من دخول وقت الصلاة إلى صلاة الفريضة.
وما كان بعدياً فوقته من نهاية الصلاة إلى خروج الوقت.
فركعتا الفجر القبلية من أذان الفجر إلى صلاة الفجر.
وسنة المغرب البعدية وقتها إذا صلى المغرب ما لم يغب الشفق – كما ذكر ذلك الموفق – ولم يذكر فيه خلافاً والنظر يدل عليه.
فإذا صلى القبلية في وقت البعدية فهذا من القضاء، ومن ذلك ما ثبت في أبي داود والحديث صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين فقال له: (صلاة الصبح ركعتان) فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلها فصليتهما الآن فسكت مقراً له.
فإذا فاتته سنة الفجر القبلية فله أن يصليهما بعد الصلاة وله أن يؤخرها حتى تطلع الشمس، والأولى له أن يصليها بعدها لأن السنة في القضاء المسارعة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم:(فليصلها إذا ذكرها) .
وما ذكره المؤلف هنا هي السنن الرواتب اليومية.
وهنا سنن غير راتبة فهي صلوات مستحبة لكنها لا تتخذ راتبة كالسنن الراتبة المتقدمة.
فمن ذلك: أن يصلي ركعتين بعد الظهر زيادة على الركعتين اللتين تقدم ذكرهما، فتكون صلاته أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها.
ودليل ذلك الحديث المتقدم عند الخمسة بإسناد صحيح: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار)
ومن ذلك: أن يصلي قبل صلاة العصر أربعاً، فقد ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال فالحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً)
قالوا: ومن السنة أن يصلي ستاً بعد المغرب، ولعل مرادهم أربع مع الركعتين المتقدمتين فيكون مجموعها ستا.
واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضعيف جداً في الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد المغرب ستاً لا يتكلم بينهن بسوء عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة) لكن الحديث لا ثبت.
واستحبوا: أن يصلي بعد العشاء أربعاً أو ستاً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل عليَّ إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) لكن الحديث فيه مقاتل بن بشر البجلي وهو مجهول، فالحديث ضعيف.
وذكروا أن الركعتين قبل صلاة المغرب مباحتان أي بعينها مباحة وإن كانت مستحبة بالنظر إلى عموم الصلاة.
واستدلوا: - بما يقتضي استحبابهما – وهو الراجح.
ودليل ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)
في رواية أبي داود: (صلوا قبل المغرب ركعتين)
وثبت في ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى قبل المغرب ركعتين)
وفي البخاري ومسلم: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبتدرون السواري فيصلونها) حتى ثبت في مسلم: (فيأتي الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها)
وهذا في الحقيقة ليس خاصاً في صلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات، وأنه يستحب أن تقدم بين يديها ركعتان ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بين كل أذانين صلاة)
وثبت في ابن حبان بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صلاة مكتوبة إلا بين يديها ركعتان)
فهذا الحديث يدل على أنه يستحب بين الأذان والإقامة في العشاء أن يصلي ركعتين، وأن هذا مستحب بين الأذان والإقامة في الظهر وفي الفجر، لكن تلك قد وردت بها السنة في الصلاة المتقدمة، فعلى ذلك ما لم يرد فيه السنة يستحب أن يصلي ركعتان فيه بين الأذان والإقامة.
والصلاة بين أذان المغرب وإقامته آكد لحديث عبد الله بن مغفل ولفعل الصحابة ومواظبتهم عليها، فهذا يدل على أنها آكد لكن مع ذلك بين كل آذانين صلاة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار)
أي قيام الليل المطلق، فيخرج من ذلك التراويح والوتر فقد تقدم الكلام عليها – فهي – أي صلاة الليل المطلقة أفضل من صلاة النهار المطلقة " فيخرج الرواتب فقد تقدم ذكرها ".
فصلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)
وهذا الدليل أعم من المسألة، فهو يعمها ويعم المسائل المتقدمة فهو يدل على تفضيل صلاة الليل مطلقاً على صلاة النهار.
فقيام الليل أفضل الصلوات مطلقاً سواء كانت راتبة أو كانت استسقاء أو نهارية مطلقة، فصلاة الليل أفضل منها لعموم الحديث المتقدم.
فهم استدلوا بهذا الحديث وذكروا هذه المسألة لكن ليس على وجه التعميم المتقدم بل على وجه التخصيص المقيد أي صلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.
قال: (وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه)
فثلث الليل بعد نصفه أفضل وقت لصلاة الليل.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) فهذه أفضل الصلاة أن يصلي ثلث الليل بعد نصفه وهذا الثلث يأخذ من الثلث الأوسط نصفه الأخير، من الثلث الأخير نصفه الأول.
قال: (وصلاة ليل ونهار مثنى)
أما صلاة الليل فلحديث ابن عمر المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) فيكره أن يصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إلا ما تقدم مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلاة النهار كذلك قالوا: لما روى الخمسة بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وهذا الحديث معلول، فلفظة (والنهار) تفرد بعض الرواة، والمحفوظ (صلاة الليل مثنى مثنى) أما لفظة (النهار) فهي لفظة معلولة، وقد نص على خطئها النسائي والدارقطني وغيرهم من الأئمة. [نيل الأوطار: 3 / 31]
وإنما هي ثابتة عن ابن عمر كما عند ابن وهب – كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح، فهي من قول ابن عمر.
ولكن مع ذلك فالسنة دلت على ذلك، ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما صلى بمكة ضحى ثماني ركعات سلم بين كل ركعتين) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النهار مثنى مثنى، فالمستحب فيها أن تكون مثنى مثنى. كما دل هذا الحديث وغيره.
قال: (وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس)
فإن صلى صلاة النهار أربعاً فلا بأس ولا كراهية أما صلاة الليل تكره كما تقدم.
أما النهار فلا بأس بذلك، لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لها أبواب السماء) والحديث فيه عُبيدة الضبي وهو ضعيف.
وروى أحمد والترمذي والحديث إسناده جيد عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين) فهذا الحديث وإن كان إسناده جيد، لكن الاستدلال به محل نظر لأن لفظة التسليم فيها احتمال قوي مخالف.
فيحتمل أن المراد سلم التسليم الشرعي بأن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) يميناً وشمالاً فإن هذا تسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
ويحتمل أن يكون هذا لأنه جلس للتشهد بين الأربع فتشهد وقام ولم يسلم وفي الحديث في التشهد: (السلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الله الصالحين) وهذه تشمل الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
وكلا الاحتمالين قوي، وحملها على الاحتمال الأول هو الأولى لموافقة ما هو معلوم من النبي صلى الله عليه وسلم من كونه يصلي من النهار مثنى مثنى فالأظهر الاحتمال الأول.
وإنما ذكر ذلك ليبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها متوالية لم يفصل بينها إلا بالسلام المشروع الذي هو سلام على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، ولم يفصل بينها بكلام ولا غيره.
ولكن يستدل لها: بما ثبت من فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح: (أنه كان يصلي من النهار أربعاً أربعاً) وليس فيه إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم الدال على استحباب صلاة النهار مثنى، وابن عمر فعله يدل على الجواز وهو راوي حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) بخلاف صلاة الليل فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن المشروع فيها أن تصلى مثنى مثنى.
بل لو قيل: أن صلاة الليل لا تصح إلا مثنى مثنى لكان قوياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا الحديث أن صلاة الليل إنما تشرع مثنى مثنى وخلاف المشروع مردود لا يصح.
فعلى ذلك: صلاة الليل لا تشرع إلا مثنى مثنى.
أما صلاة النهار فالمستحب فيها أن تصلي مثنى مثنى فإن صلاها أربعاً فلا بأس لفعل ابن عمر.
قالوا: ولا كراهية أيضاً.
قال: (وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم)
فصلاة القاعد غير المعذور على نصف أجر صلاة القائم، لما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً - قال البخاري: " أي مضجعاً " - فله نصف أجر القاعد) فالمراد من كان بغير عذر.
أما إن كان معذوراً فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (إن العبد إذا مرض أو سافر ثبت له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) فالمعذور يكتب له أجر غيره لا ينقص له من أجره شيئاً.
وقد أجمع العلماء على صحة صلاة التطوع قاعداً مطلقاً، سواء كانت وتراً أو سنة فجر أو غير ذلك من الصلوات التطوعية لكن للمصلي أجر لا يساوي أجر القائم بل هو على النصف منه.
* وهل تصح صلاة المضطجع تطوعاً أم لا؟
قولان لأهل العلم:
المشهور في المذهب، وهو مذهب جماهير العلماء: أن ذلك لا يجوز، حتى قال شيخ الإسلام - فيمن قال: إن صلاة المضطجع صحيحة في التنفل -: " وهو قول شاذ لا يعرف له أصل في السلف ".
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك،قالوا: يصح للحديث المتقدم ففيه: (من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) فهذا حديث ثابت، وبثبوت أصل الثواب يدل على الصحة، ولا يحمل هذا على المعذور؛ لأن المعذور له الأجر كاملاً فوجب حمله على غير المعذور.
وأما ما ذكره شيخ الإسلام: أن هذا ليس له أصل في السلف، فهذا فيه نظر، فهذا القول قد ذهب إليه الحسن البصري كما رواه عنه الترمذي وغيره، وذهب إليه الإمام أحمد في رواية محكية عنه، وهو مذهب بعض أصحابه. والسنة تدل عليه لكن الأجر كما تقدم على النصف من صلاة القاعد. فالحديث ظاهر في ذلك.
هنا مسألتان في صلاة التطوع:
المسألة الأولى: جواز صلاة التطوع جماعة:
فيجوز - في المشهور في المذهب – أن تصلى صلاة التطوع سواء كانت نهارية أو ليلية أن تصلى جماعة.
ومما يدل عليه ما في الصحيحين عن أنس مالك من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم قال: (فصليت أنا واليتيم خلفه وأم سليم خلفنا) .
وثبت نحو هذا من حديث عتبان بن مالك في البخاري عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوره فيصلي في بيته فيتخذه مسجداً، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن ذهب إليه فصلى في بيته وصلى خلفه أصحابه.
وتقدم حديث ابن عباس المتفق عليه، وحديث جابر وجبار الذي رواه مسلم في صلاتهما مع النبي صلى الله عليه وسلم الليل.
فهذه الأحاديث تدل على صحة وجواز صلاة التطوع جماعة.
وقيَّد ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد بقيد صحيح معتبر وهو: ألا تتخذ سنة فتضاهي ما شرعت لها الجماعة.
فإن الشارع قد شرع لبعض الصلوات الجماعة كالتراويح في رمضان وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف على القول بسنيتها - ونحو ذلك – فكوننا نتخذ هذه الصلاة تطوعاً جماعة - نتخذها - سنة، يضاهي ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من مشروعية تلك جماعة، ولما كان مضاهياً للمشروع لم يشرع.
المسألة الثانية: هل الأفضل الإكثار من الركوع والسجود أم الأفضل أن يطيل القيام؟
1-
المشهور في المذهب: أن المستحب له أن يكثر من الركوع والسجود وأن ذلك أفضل من إطالة القيام.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم من حديث ربيعة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (سل) فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال (أو غير ذلك؟) قال: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) .
وفي مسلم من حديث ثوبان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب العمل إلى الله وما يدخل العبد الجنة؟ فقال: (عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعت بها درجة وحط عنك بها خطيئة) .
2-
وعن الإمام أحمد، وهو اختيار بعض أصحابه كالمجد ابن تيمية. قالوا: الأفضل هو طول القيام.
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي طول القيام. ونحن إذا نظرنا من غير ما ذكروه من الأدلة: فإنك ترى أن لكل منهما فضيلة، فالركوع والسجود لا شك أنه أفضل من ذات القيام، فإن في الركوع والسجود من التذلل لله والانكسار بين يديه ما ليس في القيام.
وإذا نظرت إلى ما في القيام من القراءة التي هي كلام الله تعالى، وجدت أنه أفضل مما في الركوع والسجود من ذكر الله تعالى، فإنه ليس فيه إلا الذكر حتى ثبتت الأدلة في النهي عن قراءة القرآن فيه، ولا شك بفضيلة القرآن على ذكر الله.
فلكل منهما فضيلة، ونصت السنة على فضيلة طول القنوت - فيما ذكره أهل القول الثاني – وهو الراجح؛ لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل.
والقيام وإن كان مفضولاً بالنسبة إلى الركوع والسجود فهو فاضل لما فيه من قراءة القرآن.
والأحاديث التي ذكرها أهل القول الأول تدل على ففضيلة الإكثار من الركوع والسجود لكن ذلك لا يدل على الأفضلية، بخلاف دليل أهل القول الثاني فهو يدل على الأفضلية.
وهذا ما تشير إليه الآيات القرآنية لقوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فسمى الله الصلاة قرآناً والمراد من ذلك صلاة الفجر في الآية – كما ثبت في الصحيحين.
ولا شك أن الجمع بين الإكثار من الركوع والسجود مع طول القنوت أفضل لكن المسألة هنا في التفضيل بينها في التعارض.
وعليه: فإذا صلى في التراويح إحدى عشرة ركعة فأطال قيامها وأطال القراءة فيها. فهو أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر من ذلك وخفف قراءتها.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتسن صلاة الضحى)
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد) ورواه مسلم من حديث أبي ذر نحوه، ورواه أحمد والنسائي من حديث أبي الدرداء ونحوه.
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على استحباب صلاة الضحى وهل يستحب ذلك على هيئة الدوام أم المستحب عدم المداومة بل يفعلها أحياناً؟
قولان لأهل العلم هما قولان في المذهب:
القول الأول، وهو المشهور: أنه لا يستحب أن يداوم عليها.
القول الثاني، وهو اختيار طائفة من الحنابلة كالمجد ابن تيمية والقاضي وغيرهما قالوا: باستحباب المداومة عليهما.
استدل من لا يرى استحباب المداومة: بما ثبت من الأحاديث التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحافظ عليها.
ممن ذلك ما ثبت في الصحيحين: أن ابن عمر سئل: (أتصلي الضحى؟ قال: لا، فقيل:فعمر؟ قال: لا، فقيل: أبو بكر؟ قال: لا، قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله) أي لا أظنه.
ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها) .
وثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى إلا أم هانئ) – الحديث وسيأتي تمامه –.
قالوا: فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ظاهراً يحافظ عليها، بل ظاهر هذه الأحاديث أنه لم يكن يصليها.
أما القائلون باستحباب المداومة فاستدلوا: بالأحاديث التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها، فمن ذلك:
ما ثبت في مسلم – عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) .
والجمع بينه وبين حديثها المتقدم: أن الحديث الأول فيه نفي الرؤية، أما هذا الحديث فهو رواية، فهي تروي عن غيرها ممن حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، ولم تنسب ذلك إلى رؤيتها، وإنما نسبت إلى رؤيتها نفي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو فعلها فقد ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن عائشة: (كانت تصلي الضحى ثماني ركعات وتقول: لو نُشر أبواي ما تركتهما) فهذا فيه تمام محافظتها ومداومتها على صلاة الضحى.
ومما يدل عليه أيضاً: ما ثبت في الحاكم بإسناد حسن من حديث علي ومن حديث جبير بن مطعم والحديثان إسنادها حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي الضحى) .
ومن حديث جابر في المستدرك بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي الضحى ست ركعات) .
وهذا الأحاديث وإن دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى فإنها لا تدل على المحافظة، كيف وقد نفى ذلك من هو أعلم الناس به عليه الصلاة والسلام وهي عائشة، وقد نفاه من هو من أتبع الناس لسنته وهو ابن عمر فقد ظن ظناً غالباً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها، فهو نفي منه للرؤية والسماع.
لكن هذه الأحاديث وإن دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحافظ عليها فإنها لا تدل على أن أصل المحافظة غير مستحب، فقد ثبت عن عائشة قالت:(ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) .
فهنا عائشة كأنها تستدل على استحباب المحافظة والمداومة على صلاة الضحى بأن النبي صلى الله عليه وسلم – وإن لم يكن يحافظ عليها فإنه - كان يدع العمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. والأحاديث القولية المتقدمة تدل على استحباب ذلك مطلقاً.
فالأظهر استحباب المداومة عليها.
وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحافظ فعلاً، فإنه قد حث عليها قولاً في الأحاديث المتقدمة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
ومما ثبت في فضل ركعتي الضحى إن سبقتا بذكر بعد صلاة الفجر – ثبت في ذلك ثواب عظيم – فقد روى الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) والحديث حسن لشواهده.
قال: (وأقلها ركعتان)
للحديث المتقدم: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) وقول أبي هريرة: (وركعتي الضحى) .
* وهنا مسألة في التطوع عامة وهي:
هل يجزئ في التطوع – سوى الوتر – أن يصليه ركعة أم لا يجزئه ذلك؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور عند الحنابلة: الإجزاء.
القول الثاني وهو اختيار الموفق: أنه لا يجزئ ذلك. وهو أصح القولين؛ لقول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس من هديه صلاة التطوع واحدة وهديه صلى الله عليه وسلم – حاكم على العبادات وكل عمل ليس على هديه فهو مردود.
قال: (وأكثرها ثمان) .
لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانئ، فإنها حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات قالت: لم يصل صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود) ، وقد صلاها في بيتها ضحى.
قالوا: هذا يدل على أن صلاة الضحى أكثرها ثماني ركعات هذا هو المشهور في المذهب.
- وعنه – رحمه الله – وهو اختيار طائفة من أصحابه: أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة.
واستدلوا: بما رواه الترمذي وضعفه – لجهالة فيه – من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الضحى اثنى عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) والحديث إسناده ضعيف عند الترمذي لكن له شاهدان:
1-
الشاهد الأول: عند البزار من حديث أبي الدرداء.
2 -
والثاني: عند الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر.
قال الحافظ ابن حجر: " فإذا صح عليه حديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر قوي وصلح للاحتجاج ".
وهو كما قال فالحديث حسن بشواهده ويشهد له حديث أم حبيبة المتقدم فيمن صلى اثتني عشرة ركعة تطوعاً، وإن كانت السنن الرواتب هناك، فإن هنا كذلك فإن العمل مستوٍ، وهذا يقتضي في الغالب استواء الأخر لاسيما وقد ورد الحديث هنا مع تعدد شواهده.
فالأظهر حسن الحديث، وعليه فالمستحب له – كما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار طائفة من أصحابه أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، وذلك أكثر صلاة الضحى.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم - يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله.
فلو زاد على اثنتي عشرة ركعة فلا بأس كما تقدم من قول ابن عمر: (ولا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء) .
وتقدم حديث جابر في أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات.
إذن: القدر المجزئ من صلاة الضحى ركعتان، فإن زاد على ذلك فهو حسن، وأكثر ذلك اثنتا عشرة ركعة فإن زاد على ذلك فلا بأس وهو مأجور على زيادته.
قال: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال]
وعبَّر بعضهم:" إلى الزوال ".
وإنما عبّر بـ" قبيل الزوال " ليبين أن الزوال ليس من وقتها.
والتعبير بقوله: (إلى الزوال) أولى؛ لأن الأصل فيما ورد في السنة من تحديد الوقت الثاني ألا يكون داخلاً في الوقت الأول كما تقدم في حديث المواقيت.
فهنا إذا قال: (إلى الزوال) فمعنى ذلك أنه ينتهي إلى الزوال وليس فيه أن الزوال داخل فيه كما نبَّه على ذلك صاحب الإنصاف.
وأما قوله: (إلى قبيل الزوال) فهذا للإيضاح، لكن ينبغي ألا يتوهم أن ذلك إلى وقت غير محدد؛ لأنه قد يفهم من ذلك أنه ينتهي بوقت قبيله أي بقليل وحينئذ يقع الإشكال في تحديد هذا الوقت الذي تحدد إليه الصلاة.
فالمراد من قوله: (قبيل الزوال) وقتها الداخل في الصحة، أي الوقت الذي هو وقت أداء لها فليس هو وقت تحريم أو نهاية وإنما وقت النهاية هو الزوال.
وما ذكره المؤلف يدل عليه المعنى، فإنها صلاة ضحى وتشرع في الضحى، والضحى من خروج وقت النهي وهو – ارتفاع الشمس قيد رمح – إلى الزوال.فإذا صلى الضحى في أي وقت فيه أجزأت عنه.
إلا أن المستحب أن يؤخرها إلى [أن] يشتد الحر، لما ثبت في مسلم من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) .
والفصال: جمع فصل وهي ولد الناقة، فإذا اشتد الحر قامت من مواضعها لشدة الحر.
* ومن الصلوات المستحبة – ولم يذكرها المؤلف هنا –:
صلاة التوبة: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً استحب له أن يتوضأ فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عن ذنبه.
لما روى الأربعة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ: {والذين فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} ) فهذه صلاة التوبة وهي صلاة مستحبة.
ومن الصلوات المستحبة: صلاة الحاجة: وهي إذا ما احتاج إلى أمر من أمور دينه أو دنياه صلى ركعتين ودعا الله تعالى.
ويدل عليه ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي والنسائي: أنه أعمى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شق علي ذهاب بصري، فادع الله لي، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد أتوجه إلى الله بك اللهم شفِّعه فيَّ وشفعني في نفسي)[اقتضاء الصراط المستقيم: 2 / 784] وفي رواية لأحمد: (وشفعني فيه) وهذه اللفظة تدل على أن المراد من ذلك الدعاء، أي كما أني توجهت إليك بدعائه فكذلك شفعني في دعائه فهو وسيلتي إليك في الدعاء وأنا وسيلته إليك.
وهذا اللفظ وإن كان الظاهر أنه إنما يكون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن فيه أصل الصلاة ثم يدعو بما شاء.
أما ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان لأحدكم إلى الله حاجة – أو إلى أحد من بني آدم حاجة فليقل: (لا إله إلا الله إلى قوله: والفوز بالجنة والنجاة من النار) وهو دعاء طويل فالحديث إسناده ضعيف جداً لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه راو متروك.
ومن الصلوات المستحبة: سنة القدوم من السفر:
فيستحب لمن قدم من السفر أن يصلي ركعتين في المسجد، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) .
ومن الصلوات المستحبة: ركعتا سنة القتل.
فقد ثبت في الصحيحين: (أن خبيب بن عدي لما أتى به ليقتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار وقد أسر في أيديهم قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين، قال الراوي: فكان أول من سن الركعتين عند القتل) فيستحب ذلك لمن حكم عليه بقتل يكون فيه شهادة.
*ومن ذلك صلاة الوضوء:
فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة فقال: ما عملت عملاً هو أرجى عندي إلا أني ما تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) .
ومن ذلك صلاة الاستخارة:
لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة) .
فلا يجزئ أن تكون الركعتان اللتان يصليها فريضة.
وظاهره أنه يجزئ وإن كانت نفلاً مقيداً إلا أن الأولى أن يفردها بركعتين لها.
وقد يقال – وهذا محل بحث – أن قوله: (فليركع ركعتين) إنشاء ركعتين لهذه الصلاة، بخلاف سنة الضحى أو الفجر فإنهما أصليتان سابقتان.
(ثم ليقل) ظاهره أن القول يكون بعد الصلاة.
واختار شيخ الإسلام أنه يدعو قبل أن ينصرف، لما دلت عليه السنة من ذلك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل انصرافه وهو الأليق فإن العبد في حال مناجاة لله تعالى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) وعلى ذلك يكون قوله: (ثم ليقل) أي قبيل السلام، ومعلوم أن الصلاة قبيل سلامها في حكم المنتهية، مما بقى إلا السلام منها، وهذا لا شك أنه تأويل لكن يرجحه المعنى من أن الأليق للعبد أن يدعو الله في حال مناجاته لله ولحديث:(ثم ليدع بما بدا له) .
فإن دعا بعد السلام فلا بأس: (اللهم أني أستخيرك بعملك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر " وفي أبي داود " ويسميه بعينه " خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال: عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسميه بعينه – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: وسمى حاجته) والواو لا تفيد الترتيب، ورواية أبي داود في كل موضع قال:(ثم يسمي حاجته بعينها) فهذه صلاة الاستخارة.
وظاهر الأحاديث أنها مستحبة في كل أمر ديني أو دنيوي.
أما الدنيوي فلا إشكال فيه.
أما الديني فقد يقال: كيف يستخار الله في أمر قد أمر به، فإن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما تركه خير؟
فالجواب: أن الأمر الذي يأمر به الشارع أو ينهى عنه وإن كان فيه خير مطلقاً وليس محلاً للاستخارة لكن قد يعتريه ما يجعل العبد يتردد به، كأن يتردد بين عملين صالحين كعلم وجهاد، وبين أن حج هذه السنة أو يتنفل بعمل آخر فهذه أمور تحتاج إلى استخارة، فإذا ثبت مثل هذا شرع له أن يستخير لعموم قول الراوي:(في الأمور كلها) .
مسألة: في صلاة التسابيح:
روى صلاة التسابيح الترمذي وغيره في حديث ابن عباس وفيه أن صفتها أن يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) خمس عشرة مرة، ثم يركع فيقولها عشراً ثم يقول سمع الله لمن حمده فيقولها عشراً، ثم كذلك في السجدتين وبين السجدتين عشراً، ويفعل ذلك في الأربع ركعات كلها – يفعل ذلك في كل يوم أو في كل جمعة أو في كل شهر أو في العمر مرة) كما وردت الرواية.
والحديث من حيث سنده مقبول، فالحديث حسن أو صحيح لكن النكارة في متنه، إذ مثل هذه الصلاة ليست كهيئة غيرها من الصلوات.
ولذا اختلف أهل العلم في تصحيحها، فصححتها طوائف كثيرة من المتأخرين كالعلائي وابن الصلاح وقبلهم الخطيب وابن مندة والآجري.
وضعفها الإمام أحمد والعقيلي وابن تيمية والنووي وغيرهم لنكارتها، فأنكرها الإمام أحمد ولم يستحبها. وصلاة التسابيح لم يستحبها إمام مطلقاً من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يستحبها إلا ابن المبارك لكن على غير الصفة الواردة في الخبر.
وهي صلاة محلها محل التوقف والتردد فالحديث فيه من ضعفه من الأئمة الكبار كالإمام أحمد ولم يستحبها إمام وهي صلاة تخالف الصلاة المشروعة مطلقاً فليست على هيئة غيرها من الصلوات ولذا فإن الأولى هو التوقف في فعلها حتى يثبت له ذلك بحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حتى القائلون من أهل العلم كالنووي وغيره من العمل بالحديث الضعيف لم يقولوا بالعمل هنا لأن هذه الصفة لا شاهد لها من السنة، فالتوقف عن فعلها أولى.
أما الإمام أحمد فقد نص على أن الحديث فيها منكر أو أنها غير مشروعة.
وأما ابن تيمية فقد حكم على الحديث بأنه كذب ووضع وأدخله ابن الجوزي في الموضوعات وأنكر ذلك عليه الحافظ.
والحديث كما تقدم: أما في متنه فهو إلى الوضع أقرب وأما في سنده فالسند فيه حسن أو صحيح.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وسجود التلاوة صلاة) .
سجود التلاوة هي: السجدة المشروعة عند تلاوة آيات فيها ذكر السجود.
وسجود التلاوة صلاة فهو صلاة فيفرض فيه ما يفرض في الصلاة فيشترط فيه ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة وغيرها من الشروط لأنها صلاة.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا: بأنها صلاة ذات تحريم وتحليل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) .
قالوا: ويشرع في سجود التلاوة التكبير والتسليم فهي صلاة، لأن كل ما شرع فيه تحريم وتحليل فهو صلاة، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء.
2-
وذهب طائفة من السلف وهو اختيار ابن جرير الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن سجود التلاوة ليس بصلاة وعليه فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من استقبال القبلة أو طهارة أو غير ذلك، فلو سجد محدثاً أو غير مستقبل القبلة فإن سجوده صحيح وإن كان يسن له ذلك.
واستدل: بأن الشارع إنما سماها سجدة فأثبت لها مطلق السجود ولم يثبت دليل شرعي يدل على أنها صلاة.
وأما ما ذكروه من ثبوت التحريم والتحليل فيها فليس بصحيح.
وسيأتي تقرير الأدلة على ذلك وأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سجدة التلاوة تكبير ولا تشهد ولا تسليم.
فعلى ذلك هي مطلق سجود وليست بصلاة فلا يجب فيها ما يجب في الصلاة إلا ما دل الدليل عليه
وهذا القول هو الراجح.
وقد ثبت في البخاري في صحيحه تعليقاً صحيحاً وصله ابن أبي شيبة: (أن ابن عمر سجد على غير وضوء) .
فالراجح: أن سجدة التلاوة ومثلها سجدة الشكر ليستا بصلاة خلافاً للحنابلة ومن وافقهم في أنهما صلاة.
قال: (يسن للقارئ والمستمع دون السامع)
" يسن " أي السجود فهو سنة وليس بواجب – وهو مذهب الجمهور، ودليل سنيته ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم فلم يسجد عليه الصلاة والسلام فترك النبي صلى الله عليه وسلم لسجودها يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لسجدها.
ويدل عليه ما ثبت في البخاري عن عمر بن الخطاب: (أنه كان يقول على المنبر في المدينة: (يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه)
وفي الموطأ: (إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) .
وذهب بعض العلماء إلى أن السجود واجب.
واستدلوا: بألفاظ الآيات التي هي السجدات فإن من هذه الآيات ما فيه أمر صريح كقوله تعالى: {فاسجدوا لله وعبدوا} . {فاسجد واقترب} أو فيه تأنيب لعدم السجود كقوله تعالى: {ألا يسجدوا لله} وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الباب.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه الآيات قد دلت على وجوب السجود مطلقاً وأنه يجب على المسلم أن يسجد لله عز وجل وأن يخضع له سبحانه بالسجود المطلق، وليس المراد هذه السجدة فإنها يسجدها من يقيم الصلاة ويسجد لله عز وجل السجدات الكثيرة، فالمراد مطلق السجود ومع ذلك فقد شرع استحباباً أن يسجد عندها.
ونظير هذا ما يذهب إليه كثير من العلماء من وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويرون استحباب الصلاة عليه عند ذكره عليه الصلاة والسلام.
فالأمر في السجود ليس موجهاً إلى سجدة التلاوة المشروعية عند سماع هذه الآيات بل وموجه إلى مطلق السجود له سبحانه وإنما شرع للمسلم أن يسجد عند سماع هذه الآيات لبيان أنه خاضع لله وسامع لأمره بدليل ما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكونه لم يسجد عندما قرئت عليه سورة النجم مع أن لفظها صريح في الوجوب في قوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} وكذلك قول عمر على المنبر وكان يقوله بمحضر المهاجرين والأنصار في المدينة، فلم يثبت منكر لقوله منهم.
فالراجح أن سجدة التلاوة سنة مستحبة.
(للقارئ والمستمع) فيسن للقارئ والمستمع السجود لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته)[فتح الباري لابن حجر: 2 / 647، 652] .
(دون السامع) فلا يسن له السجود لما ثبت في البخاري ووصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح: (أن عثمان قال: " إنما السجود على من استمع " والمستمع هنا هو من قصد الاستماع وأقبل إلى الآيات التي يقرؤها القارئ وقصد ذلك بالسماع.
أما المار والذي تقع في أذنه الآية والآيتان وفيها سجدة فلا يشرع له السجود.
قال: (وإن لم يسجد القارئ لم يسجد)
فإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع فلا يشرع له ذلك وظاهره مطلقاً سواء كانت السجدة في صلاة أو في غير الصلاة.
فإذا قرأ الإمام آية فيها سجدة فلا يشرع للمأموم أن يسجد إن لم يسجد إمامه.
أو كان خارج الصلاة فقرأ القارئ سجدة فلم يسجد فلا يشرع للمستمع السجود.
وهذا الإطلاق محل نظر.
وقد ذهب بعض الحنابلة فهو قول في مذهب أحمد، وفاقاً للشافعية: إلى أنه يسجد خارج الصلاة وإن لم يسجد القارئ بخلاف الصلاة فلا يشرع له ذلك لأن الصلاة ينهى المأموم فيها عن أن يسجد سجدتي السهو خلف إمامه فأولى من ذلك السجود المستحب لمتابعة الإمام، لحديث:(ولا تسجدوا حتى يسجد) .
أما خارج الصلاة فإذا لم يسجد القارئ فالأظهر أن المستمع يسجد؛ لأن السجود مشروع فكون القارئ أو الإمام لا يسجدها ليس هناك دليل يدل على منع المستمع من السجود، وإن كان قد يقال بأنه لا يتأكد له كتأكده عند سجود القارئ، لكن مع ذلك ليس هناك دليل يمنع، والأدلة عامة فيما لو سجد الإمام أو القارئ أو لم يسجد فهذا هو الراجح وهو قول في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية.
وقد روى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله سعيد بن منصور أن ابن مسعود وقد قرأ عليه تميم بن حذْلَم – وهو غلام - فقال له: (اسجد فأنت أمامنا فيها)[الفتح لابن حجر: 2 / 647] فهذا يدل على أنه إمام لهم سابق لهم بالسجود فيسبقهم في السجود استحباباً، وهذا هو الأليق فإن هم مستمعون وهو قارئ فالأليق أن يكون شروعه في السجود قبل شروعهم لكن هذا الأثر لا يدل على أنه إن لم يسجد فإنهم لا يسجدون، والأدلة مبقية لهذا الحكم ولا دليل صارف عنه.
واعلم أن المشهور عند الحنابلة – كما تقدم – أنه إن لم يسجد القارئ فإن المستمع أو المأموم لا يسجد ومثل ذلك لو كان القارئ لا تصح إمامته، فالقاعدة عندهم أن القارئ هنا في حكم الإمام فلا يجوز أن يقتدي به في السجود إن كانت لا تصح إمامته فلو كان القارئ امرأة أو صبياً فلا يصح السجود معهما – - على قول في المذهب –.
والمشهور في المذهب إن إمامة الصبي تصح في النافلة.
ولا يصح أن يتقدم عليه ولا أن يكون المصلي عن يساره يعني أنه في حكم الإمام مطلقاً.
وهذا في الحقيقة قول لا دليل عليه والسنة واردة في باب سجود التلاوة، ومثل هذا مما تتوافر الدواعي لنقله فلما لم ينقل دل على عدم مشروعيته وهذا بناء على أنه صلاة وأن القارئ فيه إمام وهذا لا دليل عليه.
قال: (وهو أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان)
فسجدات التلاوة - في المشهور من المذهب – أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان، وفي المفصل منها ثلاث وهي في سورة الانشقاق، وسورة اقرأ وسورة النجم فهذه خمس سجدات، وتسع سجدات في بقية القرآن من سوى المفصل وسورة الحج، وهي سجدات معروفة مشار إليها في المصحف العثماني.
ودليل ذلك: ما روى أبو داود من حديث عمرو بن العاص قال: (أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة ثلاث منها في المفصل وسجدتان في الحج) .فهنا ذكر خمس عشرة سجدة وهذا بإضافة سجدة سورة (ص) .
هذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة في بعض رواته لكن هذا الحديث له شواهد، فقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي الدرداء قال:(سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء) فهذا يشهد لبعض حديث عمرو بن العاص.
أما الشاهد لسجدات المفصل فهي شواهد صحيحه ثابتة فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق) .وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ بالنجم في مكة فسجد وسجد الناس معه) .
وأما شاهد السجدتين في الحج، فما رواه أبو داود في مراسيله من حديث خالد بن معدان وهو تابعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فضلت سورة الحج بسجدتين) والحديث مرسل لكنه يصح شاهداً.
وله شاهد من حديث عقبة في الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) .
وله شاهد موقوف من قول ابن عمر في الموطأ قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) وهو ثابت من فعله في موطأ مالك أنه سجد في الحج سجدتين.
وهو في مصنف ابن أبي شيبة من فعل علي بن أبي طالب وابن عباس.
أما سجدة (ص) فحديث عمرو بن العاص وشاهده يدل على مشروعيتها.
ويدل على مشروعيتها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: " (ص) ليست من عزائم السجود ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجدها) .
وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ يوماً [وهو] على المنبر (ص)[فلما بلغ السجدة] نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس -أى تهيؤوا - للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزَّنتم) فنزل فسجد وسجدوا) وإسناده صحيح.
وفي البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس عن سجدة سورة (ص) فقرأ: {ومن ذريته داود} إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} قال ابن عباس: (فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها النبي صلى الله عليه وسلم)[الفتح: 8 / 405] .
وفي أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) .
* وقد اختلف أهل العلم فيها على قولين:
الأول، وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية: أنه لا يشرع السجود فيها في الصلاة، أما خارج الصلاة فسجودها من باب سجود الشكر، أما سجودها في الصلاة فلا يشرع وتبطل الصلاة به عمداً، فإن كان غير متعمد ناسياً أو جاهلاً فإن الصلاة تصح به وتكون من باب السهو فيسجد.
فإن فعلها الإمام لم يجز للمأموم أن يتابعه – إن كان يرى أنها ليست سجدة – بل إما ينتظره أو يفارقه. والأولى كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه أن ينتظر حتى يأتي.
2-
الثاني، وهو مذهب المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن السجود لسورة (ص) مشروع في الصلاة وخارجها وإن كانت ليست من عزائم السجود.
وبالنظر إلى الأدلة المتقدمة يظهر التجاذب بين هذين القولين، فقد قال ابن عباس:(هي ليست من عزائم السجود) أي ليست مما يتأكد سجوده، ولم ينف السجود فيها، وقوله:(من عزائم السجود) مطلقاً في الصلاة وخارجها ونفى أن تكون عزيمة ولم ينف أصل السجود فيها.
وأثره المتقدم من الاقتداء بالأنبياء في الاستدلال بالآية يدل على مشروعيته في الصلاة لأن الاقتداء بهم مشروع في الصلاة وفي غيرها، فالقول بأن المصلي لا يشرع له أن يسجدها مبناه: أنها سجدة شكر كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ونسجدها شكر) ، والشكر بالاتفاق لا يشرع السجود له في الصلاة.
ومبنى من قال بمشروعيتها في الصلاة: أن سببها التلاوة فإنها سجدة مشروعة عند التلاوة لا مطلقاً كما في سجدة الشكر، بل عند التلاوة فهي مرتبطة بها، والتلاوة من الصلاة.
وهذا في الحقيقة قول قوي وقد قال تعالى: {فخر راكعاً وأناب} والركوع هنا هو السجود باتفاق المفسرين، فهذه الآية هي سبب السجدة، فهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم سماها سجدة شكر وسماها ابن عباس سجدة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجدها عند قراءة هذه الآية فهذا يدل على أنها تشرع عند التلاوة أي مشروعة عند التلاوة.
وأما كونها سجدة شكر فهو معنى من معانيها فليس مستقلاً بالسببية بل هناك سبب التلاوة، فيقتدي به عند تلاوتها فيسجد، وهي سجدة للاقتداء وهي متصلة بالتلاوة والتلاوة من الصلاة فليست بخارجه عنها فحينئذ تكون مشروعة لا تؤثر في الصلاة – فالأدلة متجاذبة في هذه المسألة.
والأحوط للإمام ألا يسجد عندها فإن سجد عندها فالأظهر أنه لا بأس بذلك كما هو مذهب الأحناف والمالكية وهو قول في المذهب.
مسألة:
هل يشرع عند سجود التلاوة القيام، بمعنى إذا قرأ بالسجدة قام فسجد؟
المشهور في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه يشرع له أن يسجد عن قيام، وهو اختيار شيخ الإسلام ورواه البيهقي عن عائشة.
والوجه الثاني عند الشافعية واختاره النووي وغيره: أن ذلك لا يشرع وأن الأثر عن عائشة ضعيف لجهالة بعض رواته.
واستدل من ذهب إلى مشروعية ذلك بقوله تعالى: {ويخرون للأذقان سجداً} {خروا سجداً وبكياً} والخرور إنما يكون عن قيام ونحوه لا عن قعود.
والأظهر أنه لا يشرع ذلك، نعم وإن وافق قياماً شرع له ذلك وكان فيه فضيلة الخرور، لكنه لا يشرع له أن يقوم فيسجد بدليل أن الصحابة رواة سجدة التلاوة لم يذكروها مع أنهم ذكروا ذلك في سجدة الشكر، مع كون سجدة الشكر الأحاديث فيها ثبتت كالأحاديث في سجدة التلاوة كثرة في المتون وكثرة في رواتها من الصحابة وكونها أصح وأبين، مع ذلك لم تذكر، وذكرت في سجدة الشكر.
فكونها لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ما ذكر الله في القرآن إنما هو من باب الموافقة كأن يكون في صلاة ونحو ذلك.
ولا شك أن القيام أحد ثلاثة أنواع لا يخلو الإنسان منها إما اضطباع أو قيام أو قعود فهي حال كثيرة. وكذلك ليس هذا في كل ألفاظ السجود، بل في بعضها الحث على السجود من غير ذكر للخرور.
ومن فعل ذلك فلا ينكر عليه، لكنه لا يشرع.
مسألة: ما يقال في سجود التلاوة؟
يقال فيها ما يقال في عامة السجود بأن يقال (سبحان ربي الأعلى) وما ورد في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
وورد في الترمذي بإسناد حسن: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأى شجرة ساجدة تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقولها في السجود) والشجرة هنا رمز لأمر آخر. هذا فيما يستحب أن يقال في سجدة التلاوة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع)
يكبر إذا سجد للتلاوة. هذا هو المشهور في المذهب وأنه يشرع له ذلك.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجود كبر وسجد وسجدنا معه)
والقول الثاني في المذهب: أنها لا تشرع.
واستدلوا: بأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح مع توافر الدواعي والهمم لنقله وهذا يدل على عدم ثبوته.
وأما الحديث فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف وقد خالفه عبيد الله بن عمر العمري المصغر وهو معه قراءة عن نافع عن عبد الله بن عمر من غير ذكر التكبير وهو اللفظ المتقدم عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) الحديث متفق عليه، فعلى ذلك ذكر لفظة التكبير منكر هذا هو القول الراجح.
وقوله: " إذا رفع " كذا ذكر المؤلف وغيره من متأخري الحنابلة وأما متقدموا أصحاب الإمام أحمد فلم يذكروا التكبير عند الرفع وليس له أصل في السنة.
والراجح أنه لا يشرع التكبير عند الرفع، فلا يشرع التكبير عند الخفض ولا عند الرفع.
هذا في غير الصلاة.
أما في الصلاة فيشرع له لعموم قول أبي هريرة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع) وهذا عام يدخل فيه من صلب الصلاة وما يطرأ على الصلاة من سجدات السهو وسجدات التلاوة، وكذلك لما فيه من مصلحة الصلاة في تمام اقتداء المأموم بإمامه.
قال: (ويجلس ويسلم)
هذا كذلك لا أصل له في السنة – حتى قال شيخ الإسلام في التسليم -: " بدعة "، وهو كما قال.
فإن الجلوس والتسليم لا أصل له في السنة، وقد تقدم أن الدواعي والهمم متواترة للنقل ومع ذلك لم ينقل فهذا يدل على أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمل ليس عليه هديه فهو رد.
قال: (ولا يتشهد)
من غير تشهد لعدم ثبوته، وهو كما قال فإن التشهد لا أصل له في السنة.
هذه صفة سجود التلاوة وهي: أن يسجد سواء كان ذلك خروراً عن قيام أو كان ذلك عن جلوس من غير أن يكبر خافضاً ولا رافعاً ومن غير أن يتشهد ولا يسلم. ويستحب له أن يقول فيها بما ورد في عموم السجود وقد نص عليه الإمام أحمد لعمومات الأحاديث.
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر لما نزل قول الله تعالى: ( {سبح اسم ربك الأعلى} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم) فقوله: " سجودكم " عام في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر.
ويستحب له أن يقول: ما رواه الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
والمستحب أن يقول ما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن: (اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً وجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود) .
قال: (ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر، وسجوده فيها)
فهذه المسألة ذات شقين:
الأول: أنه يكره له أن يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة وإن لم يسجد.
الثاني: أنه يكره له أن يقرأها فيسجد.
هذا هو المشهور في المذهب.
قالوا: يكره للإمام أن يقرأ في الصلاة السرية آية فيها سجدة، فإن لم يسجد عندها فيكره لأنه قد ترك سنة وإن سجد فإن في ذلك تشويشاً وخلطاً على المأمومين.
وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه لا يكره ذلك، وهذا هو الراجح.
وبيانه: أنه إذا قرأها فلم يسجد فقد قرأ آية من كتاب الله وترك سجوداً لا بأس له بتركه.
فإن سجود التلاوة إنما يكره تركه مطلقاً، وأما أنه يسجد أحياناً ويدع أحياناً فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فُقرأت عليه سورة النجم كما في البخاري ومسلم من حديث زيد بن ثابت، وقال عمر:(ومن لم يسجد فلا إثم عليه) .
والكراهية تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على أنه إن قرأ السجدة فتركها فقد فعل أمراً مكروهاً.
إلا أن يكون راغباً مطلقاً عن السجود فيقرأ الآيات كلها فلا يسجد مطلقاً للتلاوة فإن ذلك رغبة عن السنة.
أما إن سجد فلا يُقال هو مكروه مطلقاً، نعم ينبغي عليه أن يترك حيث كان فيه إرباك وتشويش على المأمومين.
أما إذا لم يقع من ذلك كأن يبين لهم قبل الصلاة أو أن تكون الصفوف قليلة بحيث يبين لهم أنه قد سجد سجوداً للتلاوة أو أن يسبح فيقول: سبحان الله، فيزول عنهم التشويش فإنه لا يكره فإنه لا كراهية في ذلك. إنما يُنهى عنه حيث كان ذريعة للتشويش وعلم أو ظن ظناً غالباً أنه يحدث لهم التشويش في ذلك فإنه قد يقال بالنهي عنه.
على أن المأموم إذا وقع في مثل ذلك فإنه لا حرج عليه ولا يؤثر في صلاته ومع ذلك فإنه ينبغي أن ينهى عنه حيث ثبت له أو ظن ظناً غالباً بثبوت التشويش على المأمومين.
أما إن لم يثبت له ذلك ودرأه بما استطاع من تسبيح أو تبيين قبل الصلاة أو كانت الصفوف قليلة يظن أنه لا يحدث لهم تشويش فإنه لا كراهية في ذلك.
وقد ورد في أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر) لكن الحديث إسناده فيه جهالة.
قال: (ويلزم المأموم متابعته في غيرها)
هنا هذه الجملة متضمنة لمسألتين:
المسألة الأولى: أنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في سجود التلاوة حيث سجد فيما يشرع له السجود " في الجهرية ".
فإذا سجد الإمام عند آية في صلاة جهرية فيلزم المأموم أن يتابعه فيسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم:(وإذا سجد فاسجدوا) وهذا عام في كل سجود مشروع.
فالسجود مستحب للإمام واجب على المأموم إن سجد إمامه.
أما كونه مستحب للإمام فللأدلة المتقدمة من استحباب سجود التلاوة.
وأما كونه واجباً على المأموم فلوجوب المتابعة كما يتابعه في سجود السهو، وفي الحديث:(وإذا سجد فاسجدوا) .
المسألة الثانية: أنه إذا سجد فيما لا يشرع السجود فيه كما يكون في الصلاة السرية فلا يلزم المأموم متابعته. وهذا ضعيف.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه أن يتابعه أيضاً، فإذا سجد الإمام في صلاة سرية وقلنا بالكراهية كما هو المشهور في المذهب فالراجح في المذهب وهو أحد القولين وهو خلاف المشهور عند الحنابلة، أنه يلزمه السجود.
وهذا لعوم حديث: (وإذا سجد فاسجدوا) .
فالراجح أن المأموم يجب أن يتابع إمامه مطلقاً فتكون المسألة ذات شق واحد، وهو أنه يجب على المأموم أن يتابع إمامه إن سجد سواء كان سجود الإمام في صلاة جهرية أو سرية.
مسائل:
المسألة الأولى: ورد في مسلم ما يدل على فضل سجدة التلاوة قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان فبكى وقال: يا ويلاه أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)
المسألة الثانية: أن المسافر إن قرأ آية فيها سجدة فإنه يومئ أي الراكب المسافر كما يومئ في سجود النافلة.
المسألة الثالثة: أنه إن قرأ آية فيها سجدة فركع فإن الركوع لا يجزئه كما أن السجود الأول من الركعة لا يجزئه؛ لأن ظاهر الأدلة الشرعية أن هذا السجود مشروع للتلاوة فهي سنة مستقلة كما أن الرواتب مستقلات عن الفرائض، فلذلك السجدة مستحبة وهي مستقلة عن السجدات التي هي من صلب الصلاة، فالركوع لم يشرع لها بل شرع لها السجود.
فلا يجزئه الركوع لأن المشروع إنما هو السجود والركوع ولم يرد في السنة قيامه مقام سجود التلاوة.
وأما السجدة الأولى فهي سجدة من صلب الصلاة والمشروع إنما هي سجدة مستقلة فشرع أن تكون مستقلة، فلا يجزئه أن ينوي السجدة الأولى سجدة عن التلاوة وعن الصلاة.
المسألة الرابعة: إن كانت السجدة في آخر السورة فإن قام فقرأ شيئاً من القرآن فهو حسن، فإن لم يقرأ فلا بأس بذلك. فيجب عليه أن ينصب قائماً لأن الركوع واجب عن قيام، فإن قرأ شيئاً من القرآن فهو حسن. وقد صح ذلك عن عمر كما عند الطبراني في الكبير:(أنه قرأ بالنجم فسجد ثم قام فقرأ سورة أخرى) وفي رواية: (أنها إذا زلزلت الأرض زلزالها) .
هذه مسائل من سجدة التلاوة يتمم بها المسائل التي ذكرها في الزاد.
قال: (ويستحب سجود الشكر)
فهو مستحب وقد دلت السنة على استحبابه.
فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بكرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله)
وقد ثبت عند الحاكم وأحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال أتاني جبريل فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت، فسجدت لله شكراً) والحديث إسناده حسن.
وثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن فكتب إليه بإسلامهم فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجداً شكراً له على ذلك)
فهذه الأحاديث الثابتة تدل على مشروعية سجود الشكر.
والمستحب أن يكون عن قيام أي يقوم فيسجد، لما تقدم من قوله:(خر ساجداً لله)، وفي رواية في المسند في حديث أبي بكرة قال:(قام ثم سجد) فدل على أنه قد أحدث قياماً فهذا يدل على مشروعيته.
قال: (عند تجدد النعم واندفاع النقم)
سواء كانت عامة أو خاصة وسواء كانت دينية أو دنيوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد سجد لخبر ديني وذلك لما أخبره جبريل وكذلك في خبر إسلام أهل اليمن.
فالأخبار الدينية والدنيوية داخلة في عموم قوله: (إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) وهو كذلك عام في الخير المختص والخير العام.
وإن كان الاستحباب ليس مطلقاً بل يفعله تارة ويدعه تارة كما تدل عليه السنة العملية فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسجد لكل خبر.
فعلى ذلك يستحب أن يفعله وإن تركه أحياناً فإن ذلك حسن لموافقة فعله صلى الله عليه وسلم.
ولا يشرع له تكبير عند الخفض ولا عند الرفع خلافاً للمشهور عند الحنابلة فإنهم عندهم أن عامة أحكام سجدات التلاوة يشرع في سجود الشكر، فسجود الشكر عندهم صلاة ويشرع له ما يشرع في سجود التلاوة.
والراجح خلاف ذلك كما تقدم ترجيح أن سجود التلاوة ليس بصلاة فكذلك سجود الشكر، ولا دليل من السنة يدل على استحباب تكبير عند الخفض ولا عند الرفع ولا تشهد ولا تسليم.
ويستحب له أن يقول ما يقوله في سجود الصلاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم)
قال: (ويبطل به صلاة غير جاهل وناس)
فإن صلى فسجد شكراً بطلت الصلاة لأنه فعل أجنبي عنها، وإن كان فعلاً مشروعاً.
بخلاف سجود التلاوة فإنه فيها فهو متصل بالتلاوة فكان مشروعاً، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في بعض الأحاديث. أما سجود الشكر فلا تعلق له بالصلاة بل هو أجنبي عنها هذا إن كان عمداً – أي يبطلها إن كان عمداً -.
أما إن كان عن جهل ونسيان فإنه لا يبطل الصلاة لكن يشرع منه مع النسيان السجود لما تقدم من الأفعال الأجنبية عندما يفعلها الجاهل أنها لا تبطل صلاته، والناسي عليه أن يسجد للسهو، والله أعلم.
مسألة:
إذا كرر آية فيها سجدة فهل يشرع له أن يكرر السجود أم لا؟
وجهان في المذهب:
الوجه الأول: مشروعية ذلك.
الوجه الثاني: عدم مشروعيته.
والأظهر أنه يستحب ذلك إلا لحاجة كأن يكرر ليحفظ أو ليتدبر أو ليستنبط، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأوقات النهي خمسة)
أوقات النهي هي الأوقات التي لا تصح الصلاة فيها، فالصلاة فيها باطلة لا تنعقد ولا تقبل وإن كان المصلي جاهلاً لأن هذه الصلاة قد انعقدت في غير وقتها.
ودليل بطلانها الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن الصلاة فيها.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)
وفي مسلم من حديث عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن ندفن فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) .
قوله: " حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع " فإذا طلعت الشمس بازغة فهو وقت نهي حتى ترتفع قيد رمح أي: " بقدر الرمح في رأي العين "
" وحين يقوم قائم الظهيرة " أي حين تقف الشمس في السماء وذلك قبيل زوال الشمس وذلك زمن قصير لا يتسع للصلاة لكنه يتسع لتكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة فيه.
" وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " أي حين تميل فتأخذ في الغروب حتى يتم غروبها.
قال: (من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس)
هذا هو الوقت الأول.
" من طلوع الفجر الثاني " أي من الوقت الذي يؤذن فيه للفجر الأذان الثاني وهو الذي تصح فيه صلاة الفجر ويحرم الطعام فيه على الصائم - وذلك بظهور الفجر الصادق – إلى طلوع الشمس.
أما دخول النهي عن الصلاة فيما كان بعد صلاة الفجر، فقد تقدم حديث أبي سعيد:(لا صلاة بعد الفجر) وفي مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) .
وأما دخول ما بين الأذان والإقامة في وقت النهي فلما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم والحديث صحيح بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) أي إلا سنة الفجر.
وقال الشافعية والمالكية: بل وقت النهي من بعد صلاة الفجر فلا يدخل فيه ما بين الأذان والإقامة.
لأن الحديث المتقدم فيه: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) وظاهر الحديث أن ما كان قبل الصلاة فلا ينهى عن الصلاة فيه – وهو مفهوم مخالفة له -.
ولما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عَبَسَة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار)[صحيح مسلم بشرح النووي: 6 / 116]
والشاهد قوله: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن وقت النهي أوله صلاة الصبح.
والراجح: القول الأول للحديث الصحيح: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) .
وثبت في الصحيحين عن حفصة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين)
فهذان الحديثان دلالتهما دلالة منطوق، وأما ما ذكروه فإن غايتها النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وليس فيها إلا مفهوم المخالفة، ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة مفهوم المخالفة.
ولنا أن نقول: إن أوقات النهي ستة:
الأول: بين أذان الفجر وصلاتها وقد دل عليه حديث أبي داود المتقدم.
والثاني: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وقد دل على حديث أبي سعيد المتقدم: (لا صلاة بعد الصبح) وفي رواية مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) .
قال: (ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح)
هذا هو الوقت الثاني من أوقات النهي، وقد دل عليه حديث عقبة المتقدم وفيه:(وحين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) وفي بعض الروايات: (قيس رمح) أي برأي العين.
قال: (وعند قيامها حتى تزول)
وهذا الوقت الثالث: إذا قام قائم الظهيرة، واستقل الظل بالرمح فكان ظل الشاخص محتسب ولم تزل الشمس بعد، وهذا لحظات يسيرة قد تقع التحريمة للصلاة فيها.
* وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً فيدخل في ذلك يوم الجمعة.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى استثناء يوم الجمعة من ذلك.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم[قال] مستثنياً من هذا الوقت: (إلا الجمعة) من حديث أبي قتادة لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
ومع ذلك فالراجح مذهب الشافعية لأدلة أخرى، فمن ذلك: ما ثبت في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم[قال] فيمن ذهب إلى الجمعة (فصلى ما كتب له) ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً.
وهو ما كان يفعل في زمن عمر بمحضر المهاجرين والأنصار كما روى ذلك مالك في موطئه عن كعب القرظي قال: (كان الناس يصلون قبل الجمعة في زمن عمر حتى يقوم الخطيب) هذا من جهة الأثر.
وأما من جهة المعنى، فإن هذا الوقت كما تقدم، وقت يسير وملاحظته - في مثل يوم الجمعة في اجتماع الناس وقد يكونون في أماكن مظللة ونحو ذلك - فيه مشقة فعُفي عنه في يوم الجمعة للمشقة الحاصلة في تتبعه.
قال الحنابلة: لا ينهى عن الصلاة حتى يثبت له الوقت المنهي عنه، أما إذا كان شاكاً فلا بأس وحينئذٍ يندفع ما ذكرتموه من مشقة انتظار ذلك الوقت والنظر فيه.
والجواب عن هذا أن يقال: إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فلو قلنا بالنهي عنه في يوم الجمعة فلا يجوز له أن يقدم على الصلاة حتى يتثبت من أنه ليس بوقت نهي، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فيجب فعله، ولا يتم ترك الحرام من وقوع الصلاة في ذلك الوقت المنهي عنه إلا بتتبع ذلك والنظر فيه، هذا هو محل المشقة.
فالراجح: مذهب الشافعية، وهو اختيار شيخ السلام وتلميذه ابن القيم من أنه يستثنى من ذلك يوم الجمعة فيصلي وإن ثبت له قائم الظهيرة.
قال: (من صلاة العصر إلى غروبها)
اتفق أهل العلم على أن ما بين أذان العصر وصلاتها أنه ليس من أوقات النهي، وأن وقت النهي مربوط بفعل صلاة العصر.
وعليه: فلو أن الصلاة قد شرع فيها من غيره وصليت لكنه لم يصلها فليس هذا بوقت نهي في حقه. ومثل ذلك من صلى العصر جمع تقديم فإنه يثبت النهي عليه لأنه قد صلى صلاة العصر لحديث: (لا صلاة بعد صلاة العصر) ، فمتى صلى العصر سواء كانت في وقتها أو جمعها جمع تقديم فما بعدها وقت نهي.
قال: (وإذا شرعت فيه حتى يتم)
أي إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغرب.
ودليل قوله عقبة فيما يحكيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) فهذا وقت النهي.
فهذه أوقات النهي التي لا يُصلى فيها.
ويُضاف إلى ذلك النهي عن الدفن في ثلاثة أوقات فيها وهي التي ذكرها عقبة بن عامر في الحديث المتقدم.
قال: (ويجوز قضاء الفرائض فيها)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) متفق عليه.
فقوله: " إذا ذكرها " يدخل فيه التذكر في وقت النهي، فإنه يصليها فيه وكذلك من استيقظ في وقت نهي فإنه يدخل فيه، وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال: (وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف وإعادة جماعة)
" في الأوقات الثلاثة ": ولا يعني ذلك أنه لا يفعلها في الوقتين اللذين هما تمام الخمسة، بل ذكره ذلك في الأوقات الثلاثة يدل من باب أولى على ثبوته في تمام الخمسة لأنهما آكد.
فالعلة مرتبطة في هذه الأوقات أكثر من ارتباطها في الأوقات الأخرى، وقد تقدم حديث عمرو بن عَبَسَة وفيه التعليل المتقدم ذكره.
وهي مرتبطة بهذه الأوقات الثلاثة، وقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي كما في حديث عقبة وأضاف إلى ذلك النهي عن الدفن فيها.
فمراد المؤلف هنا دفع قول قاله بعض الحنابلة في أن أوقات النهي الثلاثة لا تصح فيها هذه الصلوات، فهذا إشارة إلى خلاف عند فقهاء الحنابلة.
والمشهور عندهم ما ذكره المؤلف هنا، من أن أوقات النهي كلها يصح أن يصلي فيها ركعتي الطواف لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) وهذا عام في الأوقات كلها.
" وإعادة الجماعة ": لما ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح: من حديث يزيد بن الأسود قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف صلاة الفجر فلما انصرف رأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة)
فما بعد صلاة الفجر وقت نهي ومع ذلك أمر الرجلين أن يعيدا الصلاة جماعة، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بتفاصيلها في باب صلاة الجماعة.
قال: (ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب)
فيحرم أن يتطوع في غير ما تقدم ذكره.
ويستثنى من ذلك في المشهور عند الحنابلة صلاة الجنازة فهي جائزة في وقت النهي، إلا أنهم استثنوا في المشهور عندهم أوقات النهي الثلاثة لحديث عقبة المتقدم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة وعن الدفن، فذكر الدفن مع ذكر الصلاة إشارة إلى النهي عن صلاة الجنازة.
- وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يصليها حتى في أوقات النهي الثلاثة؛ ذلك لأن جوازها في وقتي النهي يدل على جوازها في أوقاته الثلاثة، والحديث ليس ظاهراً في ذلك، فإن فيه النهي عن الصلاة مطلقاً ونهي عن دفن الميت.
وما ذكره الحنابلة هنا قوي، لكن الذي يضعفه أن صلاة الجنازة من ذوات الأسباب وسيأتي ترجيح جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
فالحنابلة: استثنوا صلاة الطواف وإعادة الجماعة وصلاة الجنازة، كلها على سبيل الإطلاق سوى صلاة الجنازة فإنها تستثنى من ذلك أوقات النهي الثلاث.
" ويحرم التطوع بعدها " كصلاة الوضوء وتحية المسجد وصلاة الجنازة في المشهور من المذهب وصلاة الاستخارة فهذه تحرم في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما كان له سبب فإنه ينهى عنه، وهذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بحديث: (لا صلاة بعد العصر)(لا صلاة بعد الفجر) فهذا يدل على النهي مطلقاً فيدخل في ذلك الفرائض والنوافل إلا ما ورد استثناؤه من إعادة الجماعة وركعتي الطواف ومن صلاة الجنازة.
- وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه خلافاً للرواية المشهورة عنه، واختارها كثير من أصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب وهي ظاهر كلام الموفق في كتاب الكافي واختارها ابن تيمية وابن القيم وهي مذهب الشافعية: أن الصلوات التي لها سبب جائزة في أوقات النهي كتحية المسجد وسنة الوضوء وغيرها من التطوعات. والمنهي عنه التطوع المطلق الابتدائي الذي يفعله العبد من غير أن يكون له سبب.
قالوا: لثبوت الأحاديث فيها فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا عام فمتى دخل المسجد في وقت نهي أو غيره فيصلي ركعتين.
فإن قيل: كذلك حديث: (لا صلاة بعد العصر) حديث عام.
فالجواب: الأول حديث عام محكم لا تخصيص له.
وأما الثاني فهو حديث عام مخصص، ولا شك أن العام المحكم أرجح من العام المخصص.
واستدلوا: بصلاة الكسوف في قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا رأيتموهما فصلوا) فالنبي صلى الله عليه وسلم ربط الصلاة بسبب يثبت في وقت النهي وغيره وهو رؤية خسوف الشمس أو كسوف القمر.
وأما سنة الوضوء فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لبلال في قوله: (لم أتطهر طهوراً في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)
قالوا: والرابط بين هذه الصلوات التي ذكرناه والتي ذكرتموها أنتم - التي يجوز أن تصلي في وقت النهي - الربط بينهما أنها صلوات ذات أسباب والشارع لا يفرق بين المتماثلات فما كان مثيلاً لها من الصلوات ذات الأسباب كصلاة الاستخارة مما يخاف فوته، ونحو ذلك.
قالوا: ويدل على ذلك أن الصلاة ذات السبب ليس العبد متحرياً لها متقصداً لها بل قد فعلها لثبوت سنيتها بخلاف التنفل المطلق، إن العبد يفعله ابتداء من غير سبق سبب، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) متفق عليه من حديث ابن عمر.
ويدل عليه حديث عمرو بن عبسة فإن ظاهره في التطوع المطلق في قوله: (ثم صل) والظاهر أن غالبه من باب التطوع المطلق.
وهذا هو الراجح.
ومن ذلك قضاء النوافل، فهو منهي عنه عند الحنابلة لكونه ليس مما تقدم ذكره.
والحديث يرد عليه، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه شغل عن صلاة الظهر فصلاها بعد العصر، ولعموم حديث:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .
وقد أقَّر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره فيمن صلى الركعتين بعد الفجر وهو وقت النهي.
فالراجح مذهب الشافعية من أن الصلوات لا ينهى عنها إلا ما كان لا سبب له، وهو التطوع المطلق.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صلاة الجماعة
صلاة الجماعة مشروعة، ومن أدلة مشروعيتها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
وفي البخاري: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .
وفي المسند وأبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما أكثر فهو أحب إلى الله) وهو حديث صحيح.
وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وما كان يتخلف عنها – كما قال ابن مسعود – إلا رجل معلوم النفاق.
قال المؤلف رحمه الله: (تلزم الرجال)
" تلزم ": أي تجب عيناً
" الرجال ": أي تجب على الرجال عيناً، فهي واجب عيني.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر السلف كما قال ذلك شيخ الإسلام وهو مذهب طوائف كثيرة من أهل الحديث، كابن حبان وابن خزيمة والإمام البخاري وغيرهم من أهل العلم.
وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية.
وذهب المالكية والأحناف إلى أنها سنة مؤكدة.
والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة وأكثر السلف على القول به وأدلة ذلك كثيرة.
وفمن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدو الصلاة – في مسند أحمد: لا يشهدون الصلاة في الجميع، وفي أبي داود: يصلون في بيوتهم - فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً " أي عظماً ذا لحم " أو مرماتين حسنتين " المرماة: هي اللحم بين أظلاف الشاة أي أظافرها " لشهد العشاء) .
وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله إني لا أجد قائداً يقودني، فرخص له فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والأمر للوجوب.
وفي أبي داود بإسناد صحيح أن ابن أم مكتوم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم - من حديث مالك بن الحويرث - قال: (ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) فهذه الأحاديث تدل على فرضيتها على الأعيان.
واستدل من قال بسنيتها: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) .
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن صلاة الفذ فيها ثواب وأجر وفضيلة، فلو كانت محرمة لم يثبت فيها ذلك.
وهذا استدلال ضعيف، فإن ثبوت الفضل لا ينافي ثبوت الإثم فهي صلاة فيها فضل من جهة: لكونها صلاة مؤداة، لكنه آثم من جهة أخرى لكونه قد صلاها ناقصة نقصاً يجلب له الإثم وتوقعه بالتحريم.
بل الأحاديث التي تقدم ذكرها منها ما يدل على أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب كما استدل على ذلك ابن القيم في حديث: (فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا الحديث ظاهر أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب.
والحديث الذي تقدم، وهو حديث أبي هريرة في رواية البخاري منه، فيها أن الثواب المذكور وهو أن يكون له سبع وعشرون درجة أو خمس وعشرون درجة كما في حديث أبي هريرة ظاهره أن ذلك إن صلاها في المسجد لا في الجماعة مطلقاً فقد قال:(ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة) فشرط في ذلك حضور الصلاة في المسجد.
والظاهر أن الثواب المضاعف في صلاة الجماعة ليس ثابتاً له على هذه الهيئة إلا إذا حضرها في المسجد.
فالراجح مذهب الحنابلة من أن صلاة الجماعة واجب عيني، وأن من صلى في بيته فهو مثاب على صلاته لكنه آثم لكونها لم تكن في جماعة.
وقد ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) .
لكن هذه الفريضة مخصوصة بالرجال دون النساء، لذا قال المؤلف " تلزم الرجال " أما النساء فلا تجب عليهن الصلاة جماعة باتفاق أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن) .
بل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها بل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل كلما صلت فيما هو أستر من بيتها كلما كان أفضل، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد بإسناد جيد قال لأم حميد الساعدي، وقد قالت:(إني أحب الصلاة معك، فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، فصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك " والبيت هنا أستر من الحجرة فهي الغرفة التي تكون داخل الحجرة " وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك أفضل من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك أفضل من صلاتك في مسجدي) .
وفيه أن صلاة المرأة في بيتها بل فيما يكون من الغرف الداخلية في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو أفضل من الصلاة في الحرم المكي.
فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد لكنها لا تمنع من ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يخشى فتنة أو ضرر فينهى عن ذلك للفتنة والضرر من باب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
قال: (لا شرطاً)
أي ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة فلو صلى في بيته فصلاته صحيحة لكنه قد فوت على نفسه أجراً كثيراً وألحق نفسه إثماً عظيماً.
ودليل ذلك حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة المتقدمان: (صلاة الرجل جماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وحديث أبي هريرة: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
فهذان يدلان على ثبوت الفضل والأجر والثواب على صلاته في بيته فثبوت ذلك يدل على التصحيح، إذ إثبات الأجر فرع التصحيح فلا أجر إلا مع الصحة.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد واختيار جماهير أصحابه.
وذهب طائفة من أصحابه وهو رواية عنه وهو مذهب الظاهرية: إلى أن الجماعة شرط في صحة الصلاة وعليه فلو صلى فرداً بلا عذر فصلاته باطلة.
واستدلوا بما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) .
والحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً إلى ابن عباس. وثبت موقوفاً إلى أبي موسى في سنن البيهقي بإسناد صحيح.
قالوا: فهذا الحديث فيه نفي الصلاة والأصل في النفي نفي الذات ثم نفي الصحة ثم نفي الكمال فلما امتنع نفي الذات لأن الصلاة قد توجد من بعض المكلفين بقي نفي الصحة مقدماً على نفي الكمال، أي لا صلاة صحيحة فهي صلاة باطلة.
والراجح: ليست بشرط بدليل إثبات الفضل في صلاة الفذ، فإن صلاة الفذ فيها فضل، فثبوت الفضل فيها يدل على صحتها ومن هنا وجب أن ينصرف إلى الاحتمال الثالث في تفسير الحديث المتقدم، وهو أن يكون المعنى لا صلاة كاملة فلا صلاة كاملة لمن سمع النداء فلم يجب.
إلا أن كان معذوراً فصلاته كاملة وله الأجر واف لحديث: (أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) رواه البخاري.
وهل يجب أن تصلى الجماعة في المسجد أم له أن يصليها في بيته؟
روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى، وهي الرواية المشهورة: أن له أن يصليها في بيته، فإذا صلى في البيت جماعة فلا إثم والصلاة صحيحة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) .
قالوا: فهذا يدل على أن أي بقعة صلى فيها العبد فصلاته مقبولة سواء كانت المساجد أو غيرها.
والرواية الثانية، وهي اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المساجد.
وهذا القول الراجح، لما تقدم من الأحاديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والنداء إنما يكون في الأصل في المساجد.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجميع) أي لا يشهدون الصلاة معه مع أنه يحتمل [أنهم] كانوا يصلون في بيوتهم جماعة، وكذلك حديث الأعمى:(أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة) .
وأما الجواب عما ذكروه فيقال: هو حديث عام وإنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لبيان فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم من أن الصلاة ليست مخصوصة بمواضع، بل هي عامة في المساجد وغيرها ولا يعني ذلك أنه مع سماع النداء لا يحضره ولا يجيبه فيصلي في بيته جماعة وغيره، لا يدل على هذا.
وقد تقدمت الأحاديث وهي تدل على وجوب الإجابة فهو حديث عام مخصص بها. فيكون للعبد أن يصلي في أي بقعة شاء إلا أن يسمع نداء فيجب عليه أن يجيب نداء الله في المساجد
فالراجح إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهي غير المشهور عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المسجد ولا يثبت الثواب المذكور إلا بذلك. والله أعلم.
قال: (وله فعلها في بيته)
هذا على المشهور في المذهب وقد تقدم ترجيح خلافه.
قال: (ويستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد)
الذين يكونون على مواضع المخافة وهي الثغور الإسلامية التي تكون في حدود المسلمين مع الكفار ويخشى أن يتطرق إليها العدو فينبغي لهم أن يصلوا في مسجد واحد لأنه أهيب للعدو وأجمع للكلمة وأسرع للرأي وأسهل للمشورة ونحو ذلك من المصالح.
قال: (والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)
مثلاً كأن يحتاج لأن يكون إماماً، لما فيه من مصلحة عمارة المسجد وإقامة الجماعة وإعانة المكلفين على القيام بالواجب عليهم، فهذه مصالح ترجح على ما سيذكره المؤلف بعد ذلك.
قال: (ثم ما كان أكثر جماعة)
فإذا كثرت الجماعة في المسجد وكان أكثر من غيره، فالصلاة فيه أفضل لحديث (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (ثم المسجد العتيق)
لسبق الطاعة فيه.
والمشهور عند الحنابلة تقديمه على الأكثر جماعة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا، وهو قول لبعض الحنابلة.
وفضيلة المسجد العتيق تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على ذلك، فكونه عتيقاً لا يستفاد أنه أفضل من غيره لا سيما ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على تفضيله في قوله:(وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (وأبعد أولى من أقرب)
فالأبعد من المساجد أولى من الأقرب لما فيه من كثرة الخطا إلى المساجد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة وقد أرادوا أن يتركوا منازلهم وينزلوا قريباً من المسجد قال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) .
وما ذكروه من الأدلة صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر.
أما كونه يدل على فضيلة من كان يأتي إلى المساجد وبيته بعيد والآثار له تكتب وأنه أعظم الناس أجراً في الصلاة فنعم. وأما كونه يدل على ترك المسجد الأقرب إلى مسجد أبعد فإن الصحابة لم يكونوا يتكلفون ذلك، ولم يرد أن أحداً منهم ممن كان قريباً إلى المسجد تكلف البعد عنه لينال ذلك الثواب المذكور بل هذا الحديث فيه ترغيب من كان بعيداً عن المسجد أن يحضر إلى المساجد وأن يشهد الجماعة مع بعد منزله. ولا يدل على أنه يشرع تكلف ذلك وترك المساجد القريبة إلى مساجد بعيدة، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد جيد:(ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبَّع المساجد) .
فالراجح: أن المستحب له مطلقاً أن يصلي في المسجد الذي يليه لا سيما إن كان هذا المسجد لا تقام الجماعة إلا بحضوره، هذا هو الأفضل له.
فإن وافق ذلك أن هذا المسجد أكثر جماعة أو أنه بعيد عن منزله فإنه له فضيلة أخرى زائدة على الفضيلة المتقدمة.
نعم، في مسألة الاختيار هذا حسن: كأن يختار – عندما يرتاد منزلاً – محلاً فيه مسجد كبير ويرتاده الناس أكثر من غيره فينزل بهذا أصلاً من غير أن ينتقل بمنزله.
وأما أن يتكلف ذلك فلا؛ لأن السنة دلت على فضيلة هذه الأشياء مع وجودها من غير أن يحدث من المكلف تتبع لها: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد)
إذن: المشهور عند الحنابلة: أن المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره وهذا راجح ثم ما كان أكثر جماعة، - والمشهور تفضيل المسجد العتيق على ما كان أكثر جماعة - ثم ما كان عتيقاً، والأبعد أولى من الأقرب، وتقدم أنه لا يشرع تتبع المساجد.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره)
يحرم على المصلي أن يؤم في مسجد من المساجد قبل إمامه الراتب المعين لهذا المسجد، إلا بإذنه أو عذره.
وأصل النهي ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والمسجد سلطانه إمامه الراتب.
قوله: (أو عذره) أي ثبت عذر للإمام منعه من إمامة الناس فإنه يجوز أن يصلي بالناس غيره، فإذا ثبت له عذر وخشي المصلون فوات الوقت جاز لهم أن يقدموا غيره.
ومثل ذلك لو ظن عدم حضوره ظناً غالباً فالحكم كذلك فيجوز أن يتقدم غيره.
ومثل ذلك إن ظن حضوره لكن علم أنه لا يكره ذلك فهو حقه وهذا يكون بمعنى الإذن.
والأظهر أيضاً أنه متى ثبت الوقت المستحب المعتاد ولم يحضر الإمام جاز لهم أن يقدموا غيره لمصلحة المأمومين لئلا تلحقهم المشقة في انتظاره، ولمصلحة الصلاة في وقتها المستحب، يدل على ذلك ما ثبت في مسلم:(أن عبد الرحمن بن عوف صلى بالصحابة في غزوة تبوك وقد تأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن حضور الصلاة فلما صلى وراء عبد الرحمن وقضى ما فاته من الصلاة قال: أحسنتم أو قال: أصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ فقال: نعم، فصلى أبو بكر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر أبو بكر فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات فتأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم) – الحديث – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا أبا بكر ما منعك أن تثبت) وفيه أنه قال: (وحانت الصلاة) فظاهره أن ذلك وقتها المستحب.
فالأظهر أن حق الإمام يزول بحضور الوقت المعتاد والمستحب لئلا يلحق المأمومين المشقة في انتظاره وهذا من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
تقدم أنه لا يجوز أن يصلي إلا بإذنه، فإن صلى بغير إذنه فهل تصح الصلاة أم لا؟
قولان في المذهب:
- أظهرهما الصحة مع التحريم.
أما دليل من أبطلها فللنهي والنهي يقتضي الفساد.
وأما دليل من صححها فلأنها صلاة قد ثبتت فيها شروطها وأركانها واجباتها الشرعية وهذا الأمر خارج عنها فلا يؤثر فيها بطلاناً – هذا هو القول الراجح.
قال: (ومن صلى ثم أقيم فرضٌ سن له أن يعيدها إلا المغرب)
من صلى الفرض في جماعة أو منفرداً – هذا هو ظاهر إطلاقه وهو المذهب – ثم أقيم فرض من قبل مؤذن في مسجد - ولم يقيده المؤلف هنا بالمسجد، وقيده الشارح وغيره وهو قيد دل عليه الحديث – سن واستحب أن يعيد الصلاة إلا المغرب.
فالمسألة: أنه إذا صلى منفرداً أو في جماعة ثم أقيمت الصلاة في مسجد آخر سن له أن يعيد الصلاة إلا المغرب فلا يسن له أن يعيدها – هذا المشهور في المذهب – وهنا مسائل:
1-
المسألة الأولى: أن ظاهر إطلاق المؤلف هنا أن من صلى منفرداً أو جماعة أنه يشرع له أن يعيد الصلاة التي أقيمت وهذا هو ظاهر إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) فقوله: (إذا صليتما في رحالكما) فيحتمل أن يكون ذلك جماعة ويحتمل أن يكون فراداً، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال – كما هي القاعدة الأصولية – كما أن هذا اللفظ ظاهره الإطلاق. وهذا هو المشهور في المذهب.
2-
المسألة الثانية: أن يكون ذلك المسجد الذي أقيم الفرض فيه مسجد جماعة، لظاهر الخبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ثم أتيتما مسجد جماعة) وعليه فإنه إذا أقيمت الصلاة في غير مسجد جماعة فهذا الحديث لا يرد فيه.
المسألة الثالثة: عن قوله (سن) هذا هو المشهور في المذهب وأن ذلك سنة.
وعن الإمام أحمد: أنها تجب مع الإمام الراتب.
وعنه: أنها تجب مطلقاً – وهذا هو الأظهر – وأقربها إلى ظاهر الحديث، فإنه قد أمر بذلك، وأنكر ذلك على الصحابيين الذين حضرا معه وأمرهما بأن يصليا إذا حضرا في مسجد جماعة في قوله:(لا تفعلا) وهذا نهي وهو للتحريم، ثم قال:(إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) وهذا أمر وهو للوجوب. وهذا القول أظهر وهو رواية عن الإمام أحمد.
ولا شك أن تركه للصلاة مع إقامتها في مسجد جماعة مظنة سوء الظن فيه فلئلا يتطرق إليه الظن السيء بأنه لا يصلي أو نحو ذلك شرع مثل هذا، وهذه علة مستنبطة لا مانع أن تكون العلة سواها، لكن الحديث ظاهر في الوجوب.
المسألة الرابعة: وهي أن هذه الصلاة التي صلاها في جماعة أو فرادى هي الفرض بالنسبة له، والجماعة الثانية نافلة. فالأولى فرض، والثانية نافلة.
يدل عليه حديث: (تكن لكما نافلة)، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في أمراء السوء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) .
وفي قوله: (إلا المغرب) :
هذا المشهور في المذهب وهي الرواية الشهيرة عن الإمام أحمد: وأن المغرب لا يشرع فيها هذا الحكم؛ وذلك لأنه لا يشرع من الصلوات وتر إلا الوتر، وكونه يصلي مع الإمام ثلاث ركعات تكون له وتراً ولا يشرع له الوتر إلا في صلاة الوتر.
وعن الإمام أحمد: أنه يصليها مع الإمام ثم يشفعها رابعة لتكون صلاته شفعاً.
والقول الثالث، وهو وجه عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصليها وراء الإمام وتراً كما يصليها الإمام، لظاهر الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي معه وظاهر ذلك أنه يصليها كما يصليها الإمام بعدد ركعاتها.
ثم على القول بأن العلة هي مظنة إساءة الظن به فإن ذلك لا يزول إلا بأن يصليها وراء الإمام كما صلاها الإمام.
فالراجح: أنه يصليها وراء الإمام – وحينئذ – تكون مستثناة مما تقدم، فحينئذ لا يشرع الوتر بالتطوع سوى الوتر وإعادة الجماعة إن وافقت المغرب لأن الحديث صالح الاستثناء.
فالراجح في هذه المسألة بعمومها: أنه يجب على المصلي إذا صلى في جماعة أو منفرداً ثم أتى مسجد جماعة فيجب عليه أن يصلي معهم وتكون له نافلة وهو عام في الصلوات كلها حتى المغرب.
قال: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجدي مكة والمدينة)
إذا صلى في مسجد إمامه الراتب، ثم حضر بعدهم جماعة فهل يشرع لهم أن يصلوا جماعة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة: وهو مشروعية ذلك.
القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء: وهو القول بكراهية ذلك، فيكره أن تعاد الجماعة في مسجد من المساجد التي فيها إمام راتب ويستثنى من ذلك عندهم المساجد المطروقة وهي التي تكون في الأسواق ويطرقها الناس فإن المنع من ذلك يشق، وهي في الغالب ليس لها إمام راتب، لكن مع ثبوت الإمام الراتب فالناس يحتاجون لمرورهم من عندها أن يصلوا جماعة مرة بعد مرة.
واستدلوا: بما رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي بكرة الثقفي قال: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فعاد إلى بيته فجمع أهله فصلى فيهم) .
قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الصلاة في المسجد جماعة ورجع إلى أهله فصلى بهم، قالوا: فيدل ذلك على أنه لا يشرع له أن يصلي في المسجد جماعة.
واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتوا إلى المسجد وقد صلى فيه صلوا فرادى) قالوا: فهذا فعل الصحابة.
قالوا: ولأن هذا ذريعة إلى البغضاء والعدوان بين هؤلاء وبين إمامهم، ولأن ذلك يورث تهاوناً لحضور الجماعة الأولى.
وأما الحنابلة: فاستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – والحديث صحيح -: (ألا رجل يتصدق مع هذا فيصلي معه) قالوا فهذه جماعة.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وحديث أبي سعيد.
ولفظ حديث ابن عمر: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قالوا: فهذه صلاة جماعة وتلك صلاة فردية وصلاة الجماعة أفضل وهذا الحديث عام في فضليتها مطلقاً.
قالوا: وروى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله البيهقي وأبو يعلى الموصلي بإسناد صحيح: أن أنس بن مالك: (أتى إلى مسجد قد صلى فيه فأذن وأقام ثم صلى جماعة) ، وفي البيهقي " في عشرين من فتيانه "، وهو أثر صحيح عن أنس بن مالك.
واستدل الجمهور أيضاً بأثر رواه الطبراني في الأوسط والكبير بإسناد جيد: (أن ابن مسعود أقبل ومعه الأسود وعلقمة إلى المسجد فاستقبلهم الناس وهم خارجون من المسجد فرجع إلى بيته وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله) أي فصلى بهم.
قالوا: وهذا يدل على أنه لا يشرع أن يصلي في المسجد جماعة، إذا لو كانت مشروعة لصلى ابن مسعود بمن معه في المسجد. ومع ذلك فقد ذكر الحنابلة ولم أره معزواً عندهم في قولهم هذا أنه قول ابن مسعود.
ولا يبعد هذا، فإن ما ذكره الجمهور من أثر ابن مسعود ليس صريحاً في هذه المسألة، فإن ابن مسعود أتى ومعه صاحباه وقد صلي في المسجد فرجع فصلى في بيته، ولا مانع أن يكون ابن مسعود امتنع عن الصلاة جماعة في المسجد خشية الفتنة، إما أن يكون هناك سلطان فيخشى الفتنة وأنه تقصد التأخر عن الصلاة فيه.
ويحتمل أنه يرى أن حينئذ لا فرق بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت، فصلى بهم جماعة ولم يقصد المسجد لأنه لا فرق بينهما، فليس صريحاً عن ابن مسعود، بخلاف أثر أنس بن مالك فإنه صريح في ذلك.
وأما ما ذكروه من حديث أبي بكرة، ففيه الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعنه، وفيه علة أخرى وهو أنه من رواية معاوية بن يحيى وهو مختلف فيه توثيقاً وتضعيفاً، وله مناكير وقد ذكر ابن عدي والذهبي هذا الحديث من مناكيره.
على أن الحديث ليس صريحاً في هذه المسألة فغايته أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى بيته ولم يصل في المسجد، فيستفاد منه أنه إذا صلى في المسجد فلا فرق بين أن يصلي في المسجد جماعة أو في بيته جماعة.
وما ذكروه من أثر الحسن البصري في ابن أبي شيبة فالأثر ضعيف لأن فيه أبا هلال الراسبي وهو ضعيف.
ثم إنه قد ورد في رواية لابن أبي شيبة قال: (كانوا يكرهون أنه يجتمعوا مخافة السلطان) أي لئلا يظن أنهم يقصدوا عدم الصلاة خلفه.
وما ذهب إليه الحنابلة أرجح لصحة الأدلة.
إلا أن ما ذكره الجمهور مما يقع في الصلاة جماعة من إثارة الفتنة ونحو ذلك هذا – في الحقيقة – فيه قوة، لكنه لا يقوى على رد ما تقدم ومع ذلك فإن المخرج منه أن يقال: إن صلاة الجماعة الأولى صلاة واجبة لا يعذر المكلف بالتخلف عنها، فهى الجماعة الواجبة أصلاً لكن إن تخلف عنها بعذر جاز له أن يصلي جماعة.
أما إذا كان متقصداً التخلف فإنه يكون آثماً لتركه الواجب لكن الجماعة الأخرى تصح منه.
إذن: الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن إعادة الجماعة ليست بمكروهة بل هي مشروعة بل هي واجبة؛ لأن الصلاة في الجماعة واجب.
وقول المؤلف: (ولا يكره) لا يعني ذلك أنه مباح وإنما أراد دفع القول بالكراهية لكن يبقى الحكم على الوجوب كما تقدم.
وأما قوله: (غير مسجدي مكة والمدينة) :
هذا في المشهور من المذهب.
وعن الإمام أحمد أيضاً: والمسجد الأقصى؛ تعظيماً لهذه المساجد أن يتخلف عن جماعتها الأولى.
فكره الإمام أحمد أن يصلي في هذه المساجد الثلاثة الجماعة للمتخلفين، فلا يشرع لهم أن يصلوا جماعة في هذه المساجد إلا أن يكونوا معذورين كمن أتوا من سفر أو غيره.
وعن الإمام أحمد: أن هذه المساجد كغيرها من المساجد لا فرق، وهو القول الراجح.
لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) قد قاله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقضية العذر واردة في المسألتين كلتيهما، لكن مع البقاء على القول بمشروعية الجماعة.
أما كونه غير معذور فإن هذا يلحقه إثماً لتخلفه عن الجماعة الأولى لكن مع ذلك يحق أن يصلي جماعة.
فعلى ذلك: يشرع أن تعاد الجماعة في المساجد كلها لعذر أو غير عذر بل يجب ذلك لكن من كان غير معذور فإن الإثم يلحقه لتخلفه عن حضور الصلاة جماعة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها، إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها) .
فإذا أقيمت الصلاة أي شرع المؤذن في الإقامة، فلا صلاة مبتدأة المكتوبة.
فإذا سمع المقيم قد شرع في الإقامة فليس له أن يشرع بعد في صلاة مطلقاً، سواء كانت هذه الصلاة نفلاً مطلقاً أو كانت تنفلاً مقيداً من الرواتب أو غيرها سواء كان قد سمعه في بيته – والمراد وهو يحضر المساجد ويصلي فيها – أو كان ذلك في المسجد، فليس له أن يشرع، فإذا فعل ذلك فالصلاة باطلة.
ودليله: ما في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث أبي هريرة: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وثبت في الصحيحين عن ابن بحينة – وهذا لفظ مسلم – قال: (أقيمت الصلاة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم فقال: أتصلي الصبح أربعاً) فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعد الإقامة، وعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال:(دخل رجل المسجد والنبي في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا) رواه مسلم.
وضابط الشروع في الإقامة أن يشرع فيها الإقامة بقول: (الله أكبر
…
) وقد ثبت التصريح بهذا في ابن حبان: (إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة) هذا هو تقرير المذهب، فليس لأحد إذا شرع المؤذن بالإقامة ليس له أن يبتدأ صلاة مطلقاً سواء كانت تنفلاً مطلقاً أو من الرواتب.
واستثنى بعض العلماء: ركعتي الفجر، واستدلوا برواية للبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر) .
لكن هذه الزيادة لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإسنادها لا يثبت وحديث عبد الله بن سرجس في مسلم يرد ذلك.
فكل الصلوات لا يجوز الشروع فيها بعد الإقامة.
أما إذا كان قد شرع في صلاة قبيل الإقامة ثم أقيمت الصلاة فما الحكم؟
قال: (فإن كان في نافلة أتمها) حفيفة، كما في مسلم من حديث سليك الغطفاني في حديث ركعتي التحية في يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(صل ركعتين وتجوز فيهما) فإن كان في نافلة أتمها خفيفة.
قالوا: ولا يزيد على ركعتين فإن كان شرع في ثالثة فله – للعذر – أن يسلم ثلاثاً وإن كانوا ينهون عن التطوع بثلاث لكنه للعذر، وله أن يتمها أربعاً، فيجوز له كلا الأمرين.
ودليل إتمام النافلة قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} وهذا عمل قد شرع فيه فلا يبطل.
وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من إتمام النافلة المشروع بها قبل الإقامة.
وذهب الظاهرية: أنها تبطل، وهو الذي يدل عليه الحديث المتقدم:(إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فقد قال: (فلا صلاة) وهي نكرة سياق النفي فتفيد العموم أي لا صلاة مطلقاً سواء كانت الصلاة مشروعاً فيها أو كانت مبتدأة قبل ذلك، أي سواء كانت مبتدأة مع الإقامة أو أثناءها أو قبيل الإقامة.
وأما قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} فإن هذا ليس إبطالاً من المكلف وإنما إبطال من الله عز وجل، فإن الله قد أبطلها بكونه قد أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا صلاة إذا أقيمت المكتوبة.
كما أن حديث ابن بحينة ظاهر في ذلك فإن لفظه (أقيمت الصلاة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي) والظاهر أنه كان يصلي قبل الإقامة.
وعموم الحديث المتقدم كاف في ذلك.
وأما جمهور العلماء فإنهم لا يبطلون الصلاة – على تفصيل مختلف فيه بينهم -.
(إلا أن يخشى فوات الجماعة) هذا استثناء فهو يتمها خفيفة وإن فاتته تكبيرة الإحرام، وإن فاتته ركعة أو ركعتين ما لم يخش فوات الجماعة لأن الصلاة نفل وحضور الجماعة واجب، فوجب عليه أن يقطع صلاته ليشهد ما وجب عليه من حضور الجماعة فالبقاء على النفل قد عارضه واجب وهو حضور الجماعة فكان عليه ألا يتمها إذا خشي فوات الجماعة.
ومذهب الظاهرية: أنه متى ما أقيمت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، وهذا فيه من المصالح ما فيه من تسوية الصفوف وشهود تكبيرة الإحرام ومتابعة الإمام ونحو ذلك من المصالح.
وهذا القول هو الأظهر فهذا تنفل تعارضه المصالح الشرعية من إقامة الصفوف وتسويتها فكان هو المشروع نظراً لمصلحة صلاة الإمام ومن معه.
قال: (ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة)
رجل أتى والإمام يصلي وهو في التشهد الثاني فقبل أن يسلم الإمام كبر المأموم فقال: (الله أكبر) فإنه يدرك الجماعة – - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وقوله: (فما أدركتم فصلوا) ظاهر ذلك مطلق الإدراك وإن أدرك قدر تكبيرة الإحرام.
وذهب المالكية: إلى أنه لا يدركها إلا بإدراك آخر ركوع فيها.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وهذا عام في إدراك الوقت وإدراك صلاة الإمام، ولذا ورد في مسلم لفظ:(من أدرك ركعة من صلاة الإمام فقد أدرك الصلاة) .
قالوا: وقد روى النسائي في سننه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) قالوا: ولا يحصل إدراك الجمعة – حتى عند الحنابلة - إلا بإدراك ركعة منها، قالوا: فكذلك غيرها من الصلوات والمعتبر عند الشارع هو الركعة كما تقدم في إدراك الوقت وأما إدراك أي جزء وإن كان بقدر تكبيرة الإحرام فإن هذا لا يعلق به الشارع فالتعليق به غير معتبر.
وهذا ما رحجه شيخ الإسلام وهو الراجح: وأن صلاة الإمام إنما تدرك بإدراك الركوع الأخير من صلاته.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) فليس فيه أن من فعل ذلك فقد أدرك صلاة الإمام، وإنما فيه أنه يدخل مع إمامه فيصلي مما أدرك ويتم ما بقى وهو مشروع وسيأتي دليل مشروعيته.
ثم إن هذا الحديث عام، والحديث المتقدم يخصصه.
وليس معنى ذلك أن من أدرك الإمام قبل أن يسلم يثبت له فضل الجماعة، وهو الذي عليه السنة وأن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاته بل من أتى والإمام قد سلم من صلاته وقد توضأ وأحسن وضوءه وراح إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا فإنه يثاب كأجر المصلين مع الإمام.
فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً) .
وهذا مثال يتضح فيه الخلاف وفائدته:
لو أن رجلاً مسافراً دخل مسجداً - إمامه رجل مقيم - فأدركه في الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً لأنه قد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه.
أما إذا أدركه بعد الركوع فهو في حكم المسافر ولم ترتبط صلاته بصلاة إمامه فيصلي ركعتين أي قصراً وله أجر الصلاة كاملاً.
والمستحب لمن أتى والإمام على حال أن يصنع كما يصنع الإمام – كما صرح بذلك الحنابلة.
وظاهر ذلك وإن رجا حضور جماعة.
يدل عليه ما ورد في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) إسناده ضعيف لكن له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن.
قال الترمذي: " وعليه العمل عند أهل العلم "(انظر آخر هذا الدرس) .
قال: (وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة)
هذه مسألة في بيان أن الركعة تدرك بالركوع وهذا مذهب عامة أهل العلم.
ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة) والركوع معتبر في إدراك الصلاة.
وفي حديث أبي بكرة وفيه: أنه تعجل الركوع مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس لذلك فائدة إلا إدراك الركعة، وسيأتي ذكر الحديث في موضعه إن شاء الله.
فالركعة تدرك بالركوع. والمجزئ من ذلك أن يركع ركوعاً مجزئاً بحيث يصل إلى الركوع المجزئ ووافق إمامه فيه ولو كان هو في الهوي والإمام في الرفع فإذا هوى راكعاً فأمكنه أن يضع راحتيه على ركبته والإمام في مثل هذا الموضع من وضع الراحتين على الركبتين، فوافقه في ذلك وإن كان الإمام في الرفع وهو في الهوي فإنه يدرك بذلك الركعة لإدراك ركوعها.
(وأجزأته التحريمة)
فعندما يدخل والإمام راكع فيكبر تكبيرة الإحرام وهي ركن، ولا تصح إلا وهو قائم في الفريضة أما النافلة فلا يشترط وهو قائم.
ولكن: هل يجزئه تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع؟
قال عامة أهل العلم وحكاه الموفق عن ابن عمر وزيد بن ثابت قال: ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف،: أن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الركوع.
والنظر يدل عليه أيضاً: فإنه قد اجتمع واجبان من جنس واحد في محل واحد فأجزأ أحدهما عن الآخر مع حصول المعنى المقصود من الآخر كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى اليوم الثالث عشر فإنه يجزئه عن طواف الوداع لأن المقصود حصل لطواف الإفاضة وكذلك هنا فإن المعنى الذي شرعت له تكبيرة الركوع قد حصل حينئذ وهو الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع.
وظاهر كلام المؤلف أنه تجزئه مطلقاً.
لكن استثنى الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: استثنى ما لو نواهما جميعاً.
وليتبين ذلك هنا صور:
الصورة الأولى: أن يكبر للإحرام بنية الإحرام فإنها تجزئه عن تكبيرة الركوع.
الصورة الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع ولا ينويها تكبيرة الافتتاح، فإنه لا يجزئه اتفاقاً.
الصورة الثالثة: أن يكبر للافتتاح وينويها للركوع فيجمع بينهما بالنية. فما الحكم؟
قال الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: أن ذلك لا يجزئه.
وأنكر ذلك الموفق وذكر أن المنصوص عن الإمام أحمد خلاف ذلك وهو مذهب جماهير العلماء وأنه يجزئه.
أما دليل من قال إنه لا يجزئه فقال: إنه شرَّك بينهما فأثَّر هذا التشريك.
وأما دليل من قال: إنه يجزئه فقال: هذه النية وهي نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فقد نوى الافتتاح ونوى الركوع ونية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فلم تؤثر فيها، فكونه نوى الركوع، هذا لا يؤثر مطلقاً في نية الافتتاح فقد نواها فأي دليل يبطلها.
وأما كونه شرَّك لو بينها، فقد شرك بينهما على وجه لا يؤثر ولا ينافي وهذا هو الراجح.
الصورة الرابعة: أن يكبر للافتتاح ويكبر للركوع، وقد استحبه الحنابلة وهو كذلك ظاهر كلام الإمام أحمد؛ وذلك لأنه ليس بين أهل العلم خلاف في جواز هذه الصورة وهذا ظاهر، فإنه – حينئذ – ثبت منه تكبيرة الإحرام التي هي ركن وكذلك تكبيرة الركوع.
كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة فطافه ثم طاف طواف الوداع كان ذلك أفضل في حقه.
فالمستحب له أن يكبر للإحرام ويكبر للركوع.
وأما المجزئ فهو أن يكبر للإحرام بنية الافتتاح فقط على المشهور في مذهب المتأخرين من الحنابلة.
والقول الثاني: أنه ولو نوى أنها عن تكبيرة الإحرام والركوع معاً. وهو القول الراجح كما تقدم.
* صرح الحنابلة باستحباب الدخول مع الإمام على أي حال، وهو - أي هذا الاستحباب – غير ظاهر فيما إذا كان يدرك صلاة الإمام في واجب فهو واجب. أما إذا أتى وهو في التشهد الأخير فهو لا يدرك الجماعة فهو مستحب لأنه قد يصلي مع جماعة فيصيب أجر الجماعة.
وأما إذا كان يدرك الركوع فالظاهر أنه يجب عليه أن يدخل كما هو ظاهر الحديث، ولما تقدم من وجوب إدراك الجماعة الأولى ولا يتم إدراك الجماعة إلا بهذا.
* في مسألة: ما إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي نافلة فظاهر الحديث أنه يقطعها مطلقاً وإن كان في التشهد الأخير، لكن هذا في الحقيقة مشكل والقول بإخراجه قوي من باب أنه لا معنى مقصود من منعه من إتمام صلاته، فغايته أن يكون جالساً فيقوم فيسوي نفسه مع الصفوف وهذا هو الظاهر عندي، والله أعلم، لأنه لا معنى من إدخالها في العموم المتقدم.
* واعلم أن المسائل المختلف فيها، فالصحيح أنه يكون فيها الإنكار كما هو قول في مذهب الإمام أحمد وهو الراجح خلافاً للقول الثاني في المذهب.
وذلك لأن من مسائل الإنكار ما يكون مخالفاً لنصوص شرعية، نعم هناك مسائل غايتها الاجتهاد المحض والأذهان تختلف فيها اختلافاً قوياً فمثل هذه يقوى ترك الإنكار فيها أما المسائل التي يكون الحديث فيها ظاهر، فظاهر الحديث الإنكار.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا قراءة على مأموم)
أي يتحمل الإمام عن المأموم قراءة الفاتحة، فعلى ذلك لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم.
1-
وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء.
واستدلوا: بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا) رواه مسلم من حديث أبي موسى.
وبما رواه الأربعة عن أبي هريرة بإسناد صحيح قال: (انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ فقال رجل: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أقول ما لي أنازع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما جهر به حين سمعوا ذلك) .
وبما رواه أحمد وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)
2-
وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الآجرى من أصحابه، واستظهرها صاحب الفروع وهي اختيار البخاري ومذهب أهل الظاهر: إلى أن قراءة الفاتحة على المأموم فرض في الصلاة.
واستدلوا: بحديث عبادة بن الصامت المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) .
قالوا: فالحديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم وقد تقدم أن أهل العلم قد اتفقوا على فرضية الفاتحة على الإمام والمنفرد فهذا الحديث عام في المأموم كما هو عام في المنفرد والإمام.
قالوا: وقد ورد التصريح بفرضيتها في حق المأموم برواية رواها أبو داود والترمذي من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) فهذا الحديث نص في دخول قراءة المأموم الفاتحة في عموم الحديث (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم الكتاب) والحديث في أبي داود والترمذي فيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه صرح بالتحديث عند البيهقي والدارقطني وابن حبان وقد تابعه زيد بن أرقم في سنن أبي داود فلم يتفرد بها، وزيد بن أرقم ثقة.
والحديث أيضاً له شاهدان:
شاهد في مسند أحمد من حديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن.
وشاهد آخر عند ابن حبان من حديث أنس بإسناد حسن.
فالحديث حسن بطريقه الأول، وصحيح بطريقه الثاني، وهو صحيح أيضاً بشاهديه.
فالحديث لا مطعن فيه مطلقاً وقد صححه البخاري والبيهقي وصححه ابن القيم وحسنه الترمذي والدارقطني وغيرهم، وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه.
قالوا: ويقوى ذلك أنه مذهب الراوي، فإن عبادة ثبت في سنن أبي داود أن كان يقرأ بالفاتحة خلف الإمام. فهذا مذهبه وهو راوي الحديث المتقدم.
واستدلوا: بأنه قول عمر رضي الله عنه فقد صح في كتاب جزء القراءة للبخاري، والدارقطني بإسناد صحيح: أن شريك بن يزيد: (سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: وإن جهرت وإن جهرت) .
واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) فقيل لأبي هريرة: (إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث.
فهذا الحديث فيه أنه قول أبي هريرة، وفيه أيضاً استدلال أبي هريرة على فرضيتها على المأموم بقول النبي صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن الله عز وجل:(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) فقد سماها صلاة فلم تكن لتسقط بحال.
وهذه أدلة ظاهرة في فرضها. فالراجح مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
وأما الإجابة على ما استدل به الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام:
أما الآية الكريمة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فهي آية عامة في الصلاة وفي غيرها.
وعلى القول بأنها في الصلاة كما هو مذهب عامة المفسرين فإنها عامة في قراءة الفاتحة وغيرها، وحديث عبادة خاص فالحديث يخصصها.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه اللفظة قد قال البيهقي (أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة) وذلك لتفرد سليمان التيمي عن قتادة بها، وعامة أصحاب قتادة – كهمام وهشام الدستوائي وحماد بن سملة وغيرهم - لم يذكروا هذه اللفظة في حديثه، وممن أعلها البخاري وأبو داود وأبو حاتم وغيرهم. وعلى القول بتصحيحها فالجواب عنها: أنها عامة وحديث عبادة خاص.
وأما حديث أبي هريرة الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإني أقول ما لي أنازع القرآن) فكذلك حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص بالعموم.
وفي حديث عبادة التصريح بالتخصيص، ففي رواية لأبي داود عن عبادة:(مالي أنازع القرآن فلا تقرؤوا بشيء إلا بأم القرآن) .
وأما قوله: (فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي صلى الله عليه وسلم) فإنه ليس من قول أبي هريرة فيكون له حكم الرفع، بل هو من قول الزهري كما بين ذلك أبو داود في روايته، ونص على ذلك الإمام البخاري وأبو داود وأن هذه اللفظة من قول الزهري.
ومما يقوي ما تقدم من التخصيص بحديث عبادة أن هذا هو مذهب أبي هريرة راوي هذا الحديث، فقد تقدم أنه قال:(اقرأ بها في نفسك) فهذا قوله.
وأما حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) فالحديث لا يصح، بل اتفق الحفاظ على تضعيفه، قال البخاري:(لا يثبت هذا الحديث عند أهل العلم من أهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم لإرساله وانقطاعه) .
فتبين من ذلك القول بفرضيتها كما هو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد.
فما استدلوا به إما حديث ضعيف وإما حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص به العموم، على أنه سيأتي بيان لما يكون مخرجاً للإنصات والاستماع لقراءة الإمام في مسألة السكتة بعد قراءة الفاتحة من الإمام.
فعلى القول بها وهو الراجح لا يكون هناك إشكال فإن الإمام يسكت فيقرأ المأموم فاتحة الكتاب وحينئذ يستمع للفاتحة ويقرأ هو فاتحة الكتاب.
قال: (ويستحب في إسرار إمامه وسكوته)
أي يستحب للمأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب في إسرار إمامه وسكوته ويستحب ذلك ولا يجب وهما قولان في المذهب.
فالقول الأول: أنه يستحب للمأموم إذا سكت الإمام أو كان في سرية أن يقرأ بفاتحة الكتاب.
فعليه: لا يجب أن يقرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة السرية وإنما ذلك مستحب، وكذلك لا يجب عليه إذا كان الإمام يسكت بعد قراءة الفاتحة.
واستدلوا: بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) وتقدم ضعف الحديث.
والقول الثاني في المذهب: أنها تجب في سكوت الإمام وإسراره فيجب عليه أن يقرأ في الصلوات السرية بفاتحة الكتاب.
واستدلوا: بأن الأحاديث المتقدمة إنما هي فيما إذا جهر الإمام لقوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وحديث: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه تخصص حديث عبادة فيما إذا جهر الإمام، أما إذا أسر الإمام فلا.
وهذا القول أصح على القول بأن القراءة لا تجب على المأموم وإلا فقد تقدم وجوبها على المأموم مطلقاً لكن المسألة المتقدمة على المشهور في المذهب من عدم وجوب قراءتها على المأموم.
مسألة:
هل يستحب للإمام أن يسكت بعد فاتحة الكتاب ليقرأ المأموم أم لا؟
قولان لأهل العلم هما:
فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومذهب الأوزعي: أن ذلك مستحب.
وذهب الأحناف والمالكية وهو اختيار المجد ابن تيمية، وشيخ الإسلام: إلى أنها لا تستحب
أما أهل القول الأول فاستدلوا:
بما رواه أبو داود وهو ثابت في المسند وسنن ابن ماجه من حديث سمرة قال: (حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين إذا كبر وإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وفي رواية: (وإذا فرغ من القراءة) .
فهذا فيه أن للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتين، سكتة إذا كبر للافتتاح وهي السكتة التي يقفها الإمام والمأموم لقراءة دعاء الاستفتاح، ويدل عليها حديث أبي هريرة المتقدم في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبير.
والسكتة الثانية: إذا قرأ " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " والحديث صححه ابن حبان وقواه ابن القيم وابن حجر وحسنه الترمذي وهو كما قالوا والحديث أعل بعلتين:
الأولى: أن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة.
الثانية: أنه فيه تدليس الحسن البصري وهو قد عنعن.
أما العلة الأولى: فالجواب عنها: أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحسن سمع مطلقاً من سمرة ومن ذلك حديث العقيقة الثابت في البخاري، وحديثه المثلة الثابت في سنن النسائي وهو قول البخاري وابن المديني وغيرهم، وهما متعاصران والسماع ممكن جداً لا مانع منه فبينهما معاصرة، وسمرة قد سكن البصرة.
وأما العلة الثانية: وهي تدليس الحسن، فالجواب: أن تدليس الحسن محتمل عند الأئمة، وقد ورد في البخاري ومسلم وغيرها أحاديث مصححة عند أهل العلم فيها تدليس الحسن لذا ذكره ابن حجر في رسالته في المدلسين، وذكره في الطبقة الثانية وهو من احتمل الأئمة تدليسهم.
فعلى ذلك الصحيح أن الحديث صحيح لا علة فيه وله شواهد من الأثر والمعنى.
فمن شواهده الأثرية ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن: (أن عمر بن عبد العزيز كان له وقفتان: وقفة إذا كبر، ووقفة إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقد ثبت أن عمر بن عبد العزيز كان من أشبه الناس صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مشهوراً عند السلف، ففي البيهقي بإسناد صحيح أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف – من كبار فقهاء التابعين – سئل عن القراءة خلف الإمام، وقيل له:(إنا نكون وراء الإمام والإمام يقرأ فقال: اغتنمها في سكتة الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
وأما النظر فهو أن الله قد أمر بالإنصات والاستماع للقرآن وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة للمأموم كما تقدم فكان حينئذ الجمع بينهما أن يشرع مثل هذا.
ومن هنا قال شيخ الإسلام أن الأمر بقراءة الفاتحة مع الاستماع عبث تنزه عنه الشريعة "؛ وذلك لأنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالإنصات ثم يأمر بقراءة الفاتحة.
وعلى التسليم بما ذكره شيخ الإسلام فإن المخرج منه ما ذكرناه.
وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث وقواه ثم قال: (وقيل إن هذه السكتة لقراءة المأموم فاتحة الكتاب قال: وعلى هذا ينبغي أن تكون بقدر الفاتحة) .
فعلى ذلك الراجح: أنه يستحب للإمام أن يسكت سكتة بقدر الفاتحة ليتمكن المأمومون من قراءتها
قال: (وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش)
ويعني يستحب للمأموم أن يقرأ بالفاتحة إذا لم يسمع قراءة إمامه كأن يصلي رجل وراء إمامه ولا يسمع قراءة الإمام فإنه يستحب له أن يقرأ بالفاتحة.
وعلى القول بالوجوب – كما هو أحد القولين في المذهب – فإنه يجب عليه ذلك.
فإذا كان صوت الإمام لا يتضح، بل يصل المأموم ما يسمى بالهمهمة فهل يستحب له أن يقرأ أم لا؟
المشهور في المذهب أنه لا يستحب له ذلك.
الثاني في المذهب: وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وهو الراجح: أنه يستحب له؛ لئلا يخرج عن كونه قارئاً أو مستمعاً – وهذا على القول بأنها لا تجب على المأموم – ومتى قلنا بوجوبها فهي واجبة مطلقاً وهذا الترجيح على المذهب وعلى القول في المسألة السابقة بالوجوب فإنه يجب لئلا يخرج المأموم عن كونه قارئاً أو منصتاً، وهنا الإنصات ممتنع لأن القراءة لا تتضح له.
وأما إذا كان لا يسمع قراءة الإمام لطرش: (وهو ما دون الصمم) :
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقرأ.
والقول الثاني في المذهب: أنه يستحب له أن يقرأ ما لم يكن في ذلك تشويشاً على جاره في الصلاة وهذا القول الراجح. وعلى القول بالوجوب تجب.
قال: (ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه)
رجل جاء والإمام يقرأ فكبر فهل يستحب له أن يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؟
قال: هنا يستحب وأولى من ذلك في سكوت الإمام أي في صلاة سرية ونحو ذلك.
أما حال سكوته فإنه يستحب – كما تقدم – لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والمأموم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله:(صلوا كما رأيتموني أصلي) .
لكن هنا إذا كان الإمام يجهر فهل يستحب أن يستفتح ويستعيذ أم لا؟
قال: يستحب له وهو المشهور في المذهب.
قالوا: لأن قراءة الإمام لا تغني عن استعاذته واستفتاحه تحملاً، فالإمام إنما يحمل عنه القراءة والإمام قد أسر بالاستفتاح والاستعاذة فلم يجهر بهما فلم يتحمل ذلك عن المأموم فكان مستحباً له.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب ذلك، وهذا القول أصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول أكثر العلماء وأنه لا يستحب أن يستفتح، لقوله تعالى:{وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} .
وإنما استثنينا الفاتحة للدليل المتقدم.
أما الاستفتاح فلم يرد دليل يدل على استثنائه، فلا يشرع له أن يستفتح، بل يسمع وينصت.
وأما الاستعاذة، فالأظهر استحبابها على القول بفرضية الفاتحة؛ لأنها تبع للقراءة، وعلى القول بوجوب الاستعاذة، فتجب.
مسألة:
هل ما يقضيه المسبوق هو أول صلاته أو آخرها؟
رجل دخل مع الإمام، فأدرك ركعتين من الصلاة، فهل ما يدركه هو أو صلاته أو آخرها؟
إن قلنا: إنه أول الصلاة، فيستحب له أن يستفتح ويستعيذ ويقرأ السورتين.
وإن قلنا: إنه آخر صلاته، فلا يستحب له أن يستفتح.
قولان لأهل العلم، عما روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى، وهي المشهورة عند الحنابلة: أن ما أدركه هو آخر صلاته؛ نظراً لصلاة الإمام، وما يقضيه هو أولها.
واستدلوا: برواية النسائي: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) .
قالوا: والقضاء إنما يكون للفائتة، فدل على أن ما يصليه قضاء، فيشرع فيها قراءة سورة مع الفاتحة ونحو ذلك.
الرواية الثانية، وهو أصح: أن ما أدركه هو أول الصلاة، وما يقضيه هو آخرها.
للرواية الصحيحة المتفق عليها في هذا الحديث: (وما فاتكم فأتموا) ، ولفظ الإتمام إنما يكون في آخر الشيء.
وأما لفظة (فاقضوا) ، فإن القضاء في عرف الشارع ليس بمعنى القضاء في عرف الفقهاء – وهو ما يكون للفوائت -، بل القضاء في عرف الشارع هو الأداء والإتمام نفسه، كقول الله تعالى:{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ، أي إذا أديتموها، وغير ذلك من الأدلة الشرعية.
فالقضاء هو الإتمام.
ويدل عليه النظر الصحيح، فإن النظر يدل على أن المصلي تكون صلاته بحسب نفسه، وهو إنما قد صلى أولها، فكانت أولاً، وبقي عليه أن يتمها، وأما الإمام فإنما يتابع فيما لا يؤثر في صلاة المأموم، أما أن يؤدي ذلك إلى تعطيل صفة صلاة المأموم عن صفتها الشرعية فلا.
فالراجح أن ما يصليه المأموم إتمام؛ لحديث: (وما فاتكم فأتموا) .
وأما لفظة (فاقضوا) فهي بمعنى الإتمام، على أن لفظة الإتمام أصح منها؛ لثبوتها في الصحيحين.
والقضاء يأتي في عرف الشارع بمعنى الأداء، كما يأتي بمعنى الشيء الفائت، والحديث المتقدم يبين أن المراد به الأداء.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت)
هذه مسائل في متابعة الإمام في الصلاة.
اعلم أن للمأموم مع الإمام أربع أحوال:
الحال الأولى: المتابعة.
الحال الثانية: المسابقة.
الحال الثالثة: التخلف.
الحال الرابعة: المقارنة.
أما الحالة الأولى: وهي المتابعة التي أمر الشارع بها، فقد ثبت في سنن أبي داود والحديث أصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما جعل ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) .
والمتابعة أن يفعل المأموم ما فرض عليه من أفعال الصلاة عقيب إمامه وأثره كما يدل عليه: (فإذا كبر فكبروا) فإن الفاء للتعقيب فتفيد الترتيب مع التعقيب فلا يفعل الركن قبل إمامه متراخياً ولا معه ولا بعده (1) بل يكون عقيب فعل إمامه له.
أما الحالة الثانية: فهي المسابقة: وهي ما ذكرها المؤلف هنا وهي: أن يفعل الركن قبله ويشرع فيه قبله وهي حرام باتفاق العلماء؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – من حديث أبي هريرة -: (أما يخشى أحدكم – أو قال: ألا يخشى أحدكم – إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار) والشك فيه من شعبة وقد رواه الطاليسي في مسنده من وجه آخر بغير شك (أن يجعل الله رأسه رأس حمار) .
والمسابقة لها صورتان:
(1) لعل الصواب: فلا يفعل الركن قبل إمامه ولا معه ولا بعده متراخياً.
الصورة الأولى: أن يسبقه إلى الركن فينتظره ويأتي بالركن معه، كأن يسبقه إلى الركوع فينتظر حتى يركع الإمام فيرفع رأسه معه.
الصورة الثانية: أن يفعل الركن قبله، ومثله لو سبقه بركعتين أو أكثر، كأن يرفع من الركوع قبل إمامه، أو يرفع ويسجد.
قال المؤلف: (من ركع أو سجد قبل إمامه) هذه الصورة الأولى فيما إذا سبقه إلى الركن فركع قبل أن يركع إمامه أو سجد أو رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل إمامه قال: (فعليه) ، إذن الصلاة تصح (أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت) .
فيجب عليه إذا سجد أو ركع قبل الإمام ونحو ذلك أن يعود إلى الإمام ثم يأتي بالركن بعده، فمن ركع قبل إمامه فيجب عليه أن يعود فيركع بعد إمامه. .
(فإن لم يفعل ذلك عمداً بطلت صلاته) :
هذا القول الأول وهو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب – بعكسه – قالوا: الصلاة تصح، فإذا أتى بالركن بعد الإمام فالصلاة تبطل؛ لأن في الصلاة زيادة فإذا سبق الإمام إلى الركوع فلا يجوز له أن يرجع إلى الإمام فيأتي به بعده، لأن هذا الفعل يتضمن زيادة في الصلاة فوجب عليه أن ينتظره فيأتي بالركن معه.
والقول الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب أهل الظاهر: أن الصلاة تبطل، والمراد أن يتعمد السبق لأنه فعل في الصلاة فعلاً من جنسها لا يشرع فيها على وجه التعمد.
فإنه إذا سبق الإمام فقد أتى بالركن على صفة غير مشروعة وما كان في الصلاة من شيء أتى به على صفة غير مشروعة فإنه يبطل الصلاة.
وهذا القول أرجح، وأن الصلاة تبطل بذلك لثبوت النهي عنه ولأنه فعل في الصلاة على وجه غير مشروع يبطلها عمده وقد تقدم أن تعمد الركوع مبطل للصلاة فهنا قد [فعل] فعلاً في الصلاة غير مشروع فيها على وجه التعمد فبطلت به الصلاة.
قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت)
هذه الصورة الثانية: وهي ما إذا سبقه بركن ففعله قبل إمامه، فتبطل الصلاة بذلك إن كان عامداً، ويستدل لهذا بأنه فعل الركن على هيئة غير مشروعة وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد، فهو فعل غير مشروع وعلى وجه الزيادة وقد حصل ذلك على وجه التعمد فأبطل الصلاة.
قال: (وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط)
تقدم أن في مسابقة الإمام صورتين.
الصورة الأولى: فيما إذا سبقه إلى الركن لكنه لم يرفع منه حتى ركع إمامه فأتى به مع الإمام، فقد تقدم أنه إن فعل ذلك عمداً فالصلاة تبطل على الراجح. فإن فعله ساهياً أو جاهلاً فإن الصلاة صحيحة باتفاق العلماء للعذر، وقد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
الصورة الثانية: إذا سبقه إلى ركن أو ركنين فإن فعل ذلك عمداً بطلت الصلاة، فإن فعله جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط؛ لأنه قد فعل الركن على هيئة غير مشروعة فكما لو لم يفعله فكان مردوداً أو كان في حكم من لم يفعله، فهو وإن كان جاهلاً أو ناسياً لكنه وضع في غير موضعه فكان كأنه قد ترك هذا الركن فتكون الركعة باطلة.
ومحل ذلك حيث لم يأت به مع الإمام.
صورة إتيانه به مع الإمام: سبقه إلى ركن فرفع منه ناسياً فعلم أن إمامه لم يركع فركع مع الإمام فلا يضره ذلك وتصح ركعته، فيكون قد زاد في الصلاة زيادة على وجه السهو أو الجهل فلم يضره ذلك.
إذاً إن كان منه نسيان أو جهل فسبق الإمام بركن أو ركنين فلا يخلو من حالتين:
أن يأتي به معه فإنه حينئذ لا يضره ذلك ويعتد بركعته.
ألا يفعله مع الإمام بل فات فلا يعتد بركعته.
قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي ويصلي تلك الركعة قضاء)
هنا: فيما إذا سبقه بركنين فقد رفع وسجد قبل رفعه، فهي كالمسألة السابقة تماماً فلا فرق بين أن يسبقه بركن أو ركنين، فتبطل بها الصلاة عمداً.
وإن كان جاهلاً أو ناسياً فإنه يصلي تلك الركعة قضاء إن لم يأت بها مع الإمام أما إذا أتى بها مع الإمام فإنها لا تضر.
أما الحالة الثالثة: فهي التخلف وهي مثل المسابقة عند الفقهاء، والتخلف: هو أن يفعل الركن بعد إمامه متراخياً، وله صورتان:
أن يكون ذلك بأن يدرك الإمام في الركن كأن يدرك الإمام في آخر ركوعه، فهنا الصلاة صحيحة باتفاق العلماء، لكنه ترك ما يشرع له من المتابعة بل الظاهر أنه ترك ما وجب عليه من المتابعة.
أن يتخلف عنه بركن أو ركنين، كأن يركع الإمام ثم يرفع أو يسجد كذلك والمأموم قائم فهي كحكم السابقة المتقدمة.
فيقال: إن تخلف عنه بركن أو ركنين عامداً بطلت صلاته، وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل الصلاة، لكن الركعة تبطل لأنها قد اختلت بفعل ركن أو ركنين منها على وجه غير مشروع فكما لو لم يفعلهما فكان في حكم التارك لركن أو ركنين.
أما الحالة الرابعة: فهي المقارنة: وهي أن يفعل الركن مع الإمام بأن يركع أو يسجد أو يكبر للإحرام معه ونحو ذلك فهي مكروهة عند أهل العلم.
إلا أن التكبير معه تكبيرة الإحرام فإن الصلاة لا تصح، ومثل ذلك ما إذا سبقه – عندهم – بتكبيرة الإحرام؛ لأنه عقد صلاته قبيل تمام انعقاد صلاة الإمام فتكون متعلقة بعدم فلا تصح، لأنها قد سبقت انعقاد صلاة إمامه، وإن قارنه فإن صلاة الإمام لم يتم انعقادها بعد فتكون باطلة – وهذا مذهب جمهور العلماء.
أما المقارنة بغير تكبيرة الإحرام كأن يسلم معه ونحوه فهي مكروهة عندهم والصلاة صحيحة.
- وذهب بعض العلماء من الحنابلة: إلى أن الصلاة تبطل أيضاً مع التعمد، وهو قول قوي، لأن الشارع قد أمره بفعل الركن بعد إمامه وعقيبه كما في الحديث المتقدم:(فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر) ففيه أمر المصلي أن يكون ركوعه وسجوده عقيب فعل إمامه وذلك متضمن للنهي عن أن يكون ذلك مع إمامه، وحيث فعل ذلك فيكون مخالفاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً لهديه فتبطل به الصلاة ويكون الركن واقعاً غير مشروع. وهذا هو الأظهر وأنه إن فعل ذلك متعمداً فتبطل الصلاة، أما ناسياً أو جاهلاً فتصبح الصلاة للعذر.
فالصحيح أنه مبطل لها؛ لأن الشارع أمر بالمتابعة وأوجبها، والمقارنة ترك للمتابعة فهي ترك لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل أمر على غير هديه وسنته مما يفعل تعبداً فهو مردود على صاحبه فكان ذلك باطلاً غير صحيح. هذا الأظهر.
فإن قيل: ما هو أصل الحنابلة في أنه يعود إلى إمامه؟
فالجواب: ما رواه البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن مسعود قال: (لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود فمن رفع قبل إمامه فليسجد ثم ليمكث قدر ما سبقه به) ولا يعلم له مخالف.
لكن هذا الأثر ليس ظاهراً في أن ذلك في ما كان على وجه التعمد بل يحتمل أن يكون ذلك على وجه السهو والجهل.
فعلى ذلك: يبقى القول بأن من سها أو جهل فإنه يعود إلى إمامه فيأتي بالركن بعده؛ لأن ما فعله فقد فعله في غير موضعه ولا أثر له لأنه في غير موضعه.
* عندما يكون الإمام قد أسرع في فعل شيء من الأركان كالفاتحة فهل يتمه المأموم ثم يتابعه أم يدع الركن الذي هو فيه متابعاً لإمامه؟
الظاهر أنه يفارقه لكن ليس مطلقاً بل نوع مفارقة بقدرها لضرورة تعذر، فإذا جازت المفارقة لعذر عن الصلاة كلها، فأولى من ذلك – أن يجوز للعذر – المفارقة في بعض أركانها. هذا ما استظهره شيخنا.
مسألة:
أتى والإمام قائم ومعه وقت لا يكفي لقراءة كل الفاتحة، فما الحكم؟
الأظهر أنه يقرأ الفاتحة بقدر ما يتمكن من ذلك وحينئذ يتحمل عنه الإمام ما بقى فإذا كان الإمام يتحمل الفاتحة كلها فأولى من ذلك بعضها.
مسألة:
ما هو المعتبر في متابعة الإمام؟
في الأصل أن المتابعة مربوطة بالتكبير كما في الحديث السابق. لكن الأصل في قضية المتابعة أن تكون في فعل الأفعال، فلو تراخى الإمام في التكبير فالعبرة هي في الفعل، فمتى فعل الإمام الركن فعله المأموم وإن تأخر في تكبيره لأننا النبي صلى الله عليه وسلم ربطنا بالفعل عقيبه، فلو تأخر في التكبير فلم يفعل إلا بعد تكبيرة أدى ذلك إلى أن يكون فعلنا ليس عقيب فعله فتكون مخالفة من الإمام أدت إلى مخالفة السنة فلا عبرة بتكبيره.
أما هل يتابع الإمام عند بداية انحطاطه أم إذا وقع ساجداً تبدأ بفعل حركات السجود؟
روى البخاري عن البراء قال: (كنا إذا صلينا وراءه صلى الله عليه وسلم لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً) .
لكن ليس هذا مطلقاً بل حيث كان يعلم أنه يدرك الإمام أما إذا علم أنه لا يدركه إذا فعل ذلك فيعفى عن ذلك؛ لإدراك الركن وهو مقدم على فعل ما يستحب من أن يكون شروعه بعد وقوع الإمام ساجداً.
إذاً: إذا استقر الإمام راكعاً أو ساجداً شرع المأموم في الحركات المؤدية للركوع أو السجود إلا أن يخشى فواتاً فيرجح خلاف ذلك لإدراك الركن.
مسألة:
كبر إمام وكبر المأمومون خلفه ثم شك في تكبيره فكبر مرة أخرى، فما الحكم في المأمومين؟
فالأظهر أن تكبيرهم صحيح فلا يعيدوه لأن تكبيرهم وقع صحيحاً فلا دليل على إبطاله كما لو كبروا مع إمام فتبين محدثاً فاستخلف فكبر ذلك المستخلف، فالتكبير حينئذ يكون صحيحاً منعقداً لا شيء فيه.
الحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله: (ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام) .
تدل عليه السنة قولاً وفعلاً.
أما قولاً: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف) - وفي البخاري: (والكبير) وفي مسلم: (وذا الحاجة) - وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) .
وثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطول بنا، قال: فما رأيت رسول صلى الله عليه وسلم في موعظته أشد غضباً منه يومئذ فقال: (إن منكم منفرين فأيكم صلى للناس فليخفف فإنما يصلي وراءه الضعيف والكبير وذو الحاجة)، وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل:(أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً) وفيه: (فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة)، وثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص:(أنت إمامهم واقتد بأضعفهم) أي اقتد بصلاتك طولاً وقصراً بأضعف القوم وهم ذوو المرض والكبار وذوو الحاجات.
وأما فعلاً: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (ما كان أحد أخف صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم في تمام) فهذه الأحاديث تدل على استحباب التخفيف للإمام.
وضابطه عند الحنابلة: أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وغيره من أجزاء الصلاة، فهذا ضابطه في المشهور من المذهب وذلك بأن يسبح الله في ركوعه وسجوده ثلاثاً وهكذا.
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن المستحب له أن يصلي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، قال شيخ الإسلام:(وينبغي أن يفعل غالباً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل غالباً ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص للمصلحة) .
ومما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقصه للمصلحة ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا دخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به) فهنا كان يخفف للمصلحة.
كما أنه كان يطيل لها كما أنه كان يقرأ بالأعراف والأنفال في صلاة المغرب ونحو ذلك، فيفعل ذلك الإمام لبيان ذلك واستحبابه ولئلا يعتقد أن قراءة القصار من السنة المداومة عليها.
وليس ذلك – أي التخفيف - تبعاً لشهوة المأمومين كما قرره ابن القيم رحمه الله، بل ذلك التخفيف بالنظر إلى فعله، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس بالتخفيف ويخالفه، لذا قال ابن عمر – كما في النسائي بإسناد صحيح قال -:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويقرأ بالصافات) ليبين ابن عمر أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا يخالفه قراءته بالصافات.
فعلى ذلك الظاهر مذهب شيخ الإسلام وتلميذه: من أن المستحب للإمام أن يقرأ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وكذلك السجود والتسبيح وغيرها، وذلك هو التخفيف المشروع.
قال: (وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية)
يسمى له تطويل الركعة الأولى أكثر من الركعة الثانية كما تقدم في حديث أبي قتادة المتفق عليه وفيه أنه قال: (وكان يطول الركعة الأولى) ، فالسنة تطويل الركعة الأولى وتقصير الركعة الثانية.
والظاهر أنه لا أثر للتفاوت اليسير بين الركعة الأولى والركعة الثانية وإن كان ذلك من نصيب الثانية، وهذا هو الذي ذلك دلت عليه السنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسبح والغاشية، والغاشية أطول من سبح وهذا تفاوت يسير.
ومن ذلك أن الفلق أقصر من سورة الناس بشيء يسير وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالفلق في الأولى وبالناس في الثانية.
وظاهر المذهب مطلقاً في قصار السور وغيرها، كما أطلق ذلك في الفروع، والأظهر اختصاصه بالقصار.
قال: (ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، لكن إن شق على أحد من المأمومين فلا يسن له ذلك.
واستدلوا: بما رواه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم) .
والقول الثاني: مذهب الأحناف والمالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يستحب له ذلك.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)
قالوا: وكونه ينتظر الداخل فذلك مدعاة إلى الإسراع من الداخل وفيه تشويش على الإمام والمأموم في انتظار الداخل، وفيه مشقة في الغالب على بعض المأمومين.
وأما الحديث الذي استدلوا به: فالحديث ضعيف فإن فيه راو مجهول.
وهذا القول هو الأظهر؛ لظهور أدلته، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها)
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر – بإسناد لا بأس به – (وبيوتهن خير لهن)، ونحوه من حديث أبي هريرة في المسند وسنن أبي داود بإسناد صحيح:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات وغير متزينات.
وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) فنهى عن مس الطيب والزينة وتخرج تفلة.
إذن: لا تمنع المرأة ويكره منعها.
ولعل الصارف لهذا الحديث عن التحريم الذي هو ظاهر قوله: (لا تمنعوا) - فالصارف فيما يظهر: - أن المصلحة الدينية غير ثابتة، بل المصلحة الدينية تثبت لهن في صلاتهن في البيوت لقوله:(وبيوتهن خير لهن) فلو كان المصلحة دينية لهن لكان النهي للتحريم، لكن لما قال:(وبيوتهن خير لهن) كانت المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن كان المنع ليس محرماً بل مكروهاً، وإن كان ظاهر كلام الموفق ابن قدامة التحريم.
لكن الأظهر ما ذهب إليه الجمهور من كراهية ذلك؛ لأن المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن.
قال: (وبيتها خير لها)
وقد تقدم الحديث الثابت في مسند أحمد من حديث أبي حميد الساعدي.
وتقدم أنه يمنعها إن خشي ضرراً أو فتنة، قالت عائشة كما في مسلم:(لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء " أي من الطيب والزينة في الذهاب إلى المسجد " لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل) فإذا ثبتت الفتنة أو الضرر فإنها تنهى سداً للذريعة.
ومثل ذلك أنها تنهى أن تذهب منفردة كما ذكر ذلك الحنابلة؛ لأن انفرادها مظنة الفتنة.
أما إذا كانت غير منفردة أو في طرق ممتلئة بالذاهبين والآيبين فإنها ليست في حكم المنفردة، فرجع ذلك إلى أمن الطريق بإن كان آمناً لكثرة الذاهب والآيب ولا يخشى عليها فتنة. أما إذا كان انفرادها مظنة للفتنة فإنها تمنع.
إذن: المشهور في المذهب أنها تمنع إن كانت منفردة وظاهر ذلك مطلقاً.
والأظهر: ألا تمنع مطلقاً بل تمنع إن كانت منفردة وظنت الفتنة كأن تكون الطرق غير آمنة، فإن كانت الطرق آمنة فإنها لا تمنع.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الأولى بالإمامة)
قال هنا: (الأولى) وفيه أن ما يذكره من الأحكام من تقديم الأقرأ فالأفقه في الإمامة أن ذلك سبيله سبيل الأولية لا سبيل الوجوب والفرضية، وهذا باتفاق العلماء.
فإن خولف ذلك فلا بأس لكن الأولى ذلك. يدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) .
فهذا يدل على أنه إن صلى أحدهم ممن يحسن القراءة أجزأ ذلك وصح، لكن أولاهم بذلك وأحقهم به هو الأقرأ.
قال: (الأقرأ العالم فقه صلاته)
الأقرأ هو الأولى بالإمامة للحديث المتقدم: (وأحقهم بالإمامة أقرؤهم)، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلماً " أي إسلاماً " وفي رواية " سناً " ولا يؤُمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) .
ففي هذا الحديث تقديم الأقرأ لكن بالشرط المتفق عليه بين أهل العلم – وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (العالم فقه صلاته) أي الذي يعلم من الصلاة ما يحسنها بتمام شروطها وأركانها وواجباتها، فإن كان جاهلاً بأحكام الصلاة التي لا تصح ولا تقوم إلا بها فلا يقدم وإن كان هو الأقرأ.
وقول: (الأقرأ) قال في الشرح: (جودة) وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور، وأن الأقرأ هو الأجود قراءة أي الذي يحسن القراءة فيخرجها من مخارجها الصحيحة وغير ذلك من شروط القراءة الشرعية الصحيحة.
والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي وهو خلاف المشهور في مذهبيهما: أن المراد الأكثر قراءة.
لحديث عمرو بن سلمة في البخاري قال: (جاء أبي من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) .
فهذا يدل على أن الأكثر قرآنا يقدم على الأجود الأقل حفظاً.
والمسألة فيها تفصيل، وهو أن يقال: الأكثر يقدم إن كان مجوداً وتلاوته صحيحة، وإن كان غيره أرجح منه، أما إن كان غير مجيد للتلاوة وله لحن فإمامته مكروهة، كما اتفق العلماء على ذلك – والمقصود اللحن غير المحيل للمعنى – فحينئذ يقدم عليه الأجود وإن كان أكثر منه حفظاً.
إذن: الراجح هو التفصيل في هذا، أن يقال: إن الأكثر يقدم لكن ليس مطلقاً بل حيث كان مجوداً لتلاوته وإن لم يكن أجود من غيره لكن تلاوته صحيحة ليس فيها لحن وإن كان غيره أتقن تلاوة.
لكن إن كان في قراءته لحن فإنه يكون مرجوحاً على من كان أقل منه قراءة.
فالراجح التفصيل، ودليل ذلك قوله:(ليؤمكم أكثركم قرآناً) ولم يعلقه بالجودة مع اختلاف الناس فيها فإنه يحتمل أن يكون هناك من هو أقل منه قراءة وهو أجود، مع العلم أنه في العهد الذي كان فيه مثل عمرو بن سلمة حيث كانت اللغة العربية هي اللغة الدارجة عندهم لا يقال لوجود اللحن في القراءة – لقوله:(ليؤمكم أكثركم قرآناً) فكلهم مجيدون للتلاوة لأن القرآن نزل بلغتهم فحينئذ يكون التفاضل بالرجوع إلى الأكثر قرآناً.
قال: (ثم الأفقه)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) أي بالفقه وهذا باتفاق العلماء بل جمهور العلماء على أن الأفقه يقدم على الأقرأ – خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يقدم عليه الأقرأ.
واستدل الجمهور: بأن أبا بكر كان يؤم الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان منهم أبي بن كعب وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقرؤهم لكتاب الله أبي) فكان أقرأ من أبي بكر ومع ذلك فقد قدم عليه أبا بكر في الإمامة.
والجواب على ذلك أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدم أبا بكر توطئة لخلافته، لذا استدل الصحابة على أخصية أبي بكر بالخلافة بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الإمامة.
وجواب آخر أن يقال: معلوم أن أبا بكر كان شبيه النائب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمر معه وعمر في مصالح المسلمين، فكان كنائب السلطان ونائب السلطان أحق بالنيابة من غيره عند غياب السلطان فالراجح ما نص عليه الحديث:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) .
ويقدم الأفقه على الفقيه فيما إذا كان كلاهما فقيه.
ويقدم الأفقه في أحكام الصلاة على غيره ممن هو أفقه في أبواب أخرى كالجنايات والبيوع، لأن قوته في الفقه في أبواب الصلاة متعلقة بالصلاة وهو سبب في أدائها على أتم ما يكون وأكمل.
قال: (ثم الأسن)
يعني الأكبر سناً، لقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث:(إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) وسيأتي بيان الحق في هذه المسألة.
قال: (ثم الأشرف)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تقدموها) رواه أحمد. والأشرف المراد به القرشي، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(الإمامة في قريش) وشيخ الإسلام لا يرى التقديم بالنسب، قال في الإنصاف:"ولم يقدم تقي الدين بالنسب " وذكره – أي صاحب الإنصاف – عن أحمد وصوَّبه. وهو ظاهر، لأن الحديث الوارد في إمامة قريش إنما هذا في الإمامة العظمى.
فإن قيل: ألا تقاس الإمامة الصغرى على الكبرى؟
فالجواب: أولاً إن هذا القياس المذكور يقتضي أن يقدموا على الأقرأ كما قدموا على الأفضل والأصلح ممن هو ليس من قريش.
ثم أيضاً: إنما كانت الإمامة في قريش لأنهم رأس العرب وبهم تجتمع الأمة وتقوى شوكتها وتتآلف، ويبعد أن تتآلف على غيرهم فلذلك وضعهم الله في هذا الموضع وليس هذا في الصلاة فهي محل للعبادة الدينية أما هناك فلأنها تقوم بها مصالح الدنيا والدين.
قال: (ثم الأقدم هجرة)
وهذا هو المشهور في المذاهب
وظاهر كلام الإمام أحمد واختار ذلك طائفة من أصحابه: أن الأقدم هجرة يقدم على الأسن والأشرف.
فيكون الترتيب: الأقرأ فالأفقه فالأقدم هجرة أو سلماً أي إسلاماً.
ودليل ذلك الحديث المتقدم فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، وفي رواية: سناً) ، فهنا قدم النبي صلى الله عليه وسلم الأقدم هجرة على الأقدم سناً.
فإن قيل: فما الجواب على حديث مالك بن الحويرث؟
فالجواب: أنهم كانوا متقاربين في العلم والهجرة، فلذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم أن أمرهم أن يتقدم أكبرهم، ففي أبي داود قال:(وكنا متقاربين في العلم) وكانت هجرتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد.
وهذا القول الراجح، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه.
فالأقدم هجرة يقدم ثم بعد ذلك الأقدم سلماً، وهو يرجح على الأسن؛ لأن الأقدم سلماً أكبر سناً في الإسلام ولا شك أن من كان إسلامه سابق لغيره فهو أرجح في الأصل من غيره، إلا أن يكون هناك مرجح آخر من علم أو فقه أو غير ذلك. ثم بعد ذلك الأسن.
فعلى الراجح يكون الترتيب: الأقرأ ثم الأفقه ثم الأقدم هجرة ثم الأقدم سلماً ثم الأسن.
قال: (ثم الأتقى)
لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا شك أنه عندما تستوي التي تقدم ذكرها من المرجحات وهي (القراءة والعلم والهجرة والسلم والسن) فإن الأتقى له مزية على غيره.
وقال بعض الحنابلة: الأتقى يقدم على الأشرف.
وهو أصح، ولكن مع ذلك تقدم ترجيح كلام شيخ الإسلام: من أن النسب ليس له محل في هذه المسألة أصلاً.
قال: (ثم من قرع)
أي في القرعة، فتوضع القرعة بينهم لدخول المسألة في القاعدة الشرعية وهي إذا استوى الناس بالاستحقاق لشيء ما ولم يكن ثمت طريق للجمع بينهم فإنه يسلك باب القرعة.
وقبل ذلك من يختاره الجيران فهو مرجح. ومن كان أعمر للمسجد وبقاؤه أصلح لإمامة لمسجد، فهذا مرجح.
وقد يكون الأشرف يقدم ولكن هذا من باب الترجيح وليس أصلاً.
فالقول بأن الأشرف حيث استوت سابقٌ للقرعة قول قوي؛ لأنه يعتبر مرجحاً، ويكون على قول من قدم الأتقى على الأشرف فيكون من باب المرجحات.
قال: (وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان)
وقال: (ساكن البيت) ولم يقل (ورب البيت) ؛ لأنه قد يكون مستأجراً وإذا قيل (رب البيت) ، ظن أن ذلك للمالك فقط، لذا قالوا بتقديم المستأجر على المؤجر وتقديم المستعير على المعير؛لأنه أحق – حينئذ – بالبيت.
وذلك للحديث المتقدم: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بأذنه)، وفي رواية لأبي داود:(ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بأذنه)، وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم) .
فلا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في مسجده إلا بأذنه، فهذا أحق بالإمامة وإن كان الزائر أقرأ أو أفقه أو نحو ذلك إلا أن يأذن إمام المسجد أو ساكن البيت.
(إلا من ذي سلطان) : فصاحب السلطان له الأحقية؛ لأن له عموم الولاية ومثل ذلك نوابه من الأمراء وغيرهم فلهم أن يتقدموا في أي مسجد أو أي بيت شاؤوا؛ لأنه لهم الولاية العامة.
قال: (وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختون، ومن له ثياب أولى من ضدهم)
فالحر أولى من العبد، والحاضر أولى من البدوي، والمقيم أولى من المسافر، والبصير أولى من الأعمى، والمختون أولى من الأقلف، ومن له ثياب يستتر بها كمال الستر أولى ممن له ثياب يستر بها عورته فحسب. ولم أر دليلاً يدل على ما ذكره الحنابلة هنا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم) يدخل في ذلك العبد والحاضر والمسافر والبدوي وغيرهم – وإن كان من هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف ما يكون مرجحاً.
فلا شك في ترجيح إمامه المقيم على إمامة المسافر مع التساوي، ولا شك بتقديم المختون المطبق للسنة على الأقلف الغير مطبق لها، فيقدم؛ لأنه أطوع لله عز وجل وأكثر تطبيقاً للسنة.
أما أن يكون هذا أولى مطلقاً فليس بصحيح.
فإذن: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله مطلقاً، أما في مسائل الترجيح فإنه يرجح مثل من تقدم كالمقيم وغيره.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تصح خلف فاسق ككافر)
أي لا تصح الصلاة خلف الفاسق كما أنها لا تصح خلف الكافر، فالصلاة خلف الكافر فقد اتفق أهل العلم على بطلانها.
وهنا يقيس الفاسق في الإمامة على الكافر بجامع أن كلا منهما لا يقبل خبره لمعنى في دينه، فهذا للكفر وهذا للفسق.
وفي ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
فالمشهور من المذهب: أن الصلاة خلف الفاسق باطلة لا تصح.
وهل المقصود بالفاسق من ظهر فسقه أم من خفي؟
قولان للحنابلة:
الأول: أن المقصود من ظهر فسقه.
الثاني: أنه وإن خفي فسقه فحكمه كذلك.
واستثنوا من ذلك صلاة العيد والجمعة، فقالوا: تصح خلف الفاسق؛ لأن صلاة الجمعة والعيد تكون في الأصل وراء إمام واحد فهذا هو أصل مشروعيتها ففي إبطالها وراء الفاسق تفويت لها.
وعليه فإذا كانت الجمعة تصلى مع أكثر من إمام وكذلك في العيد فيجب أن يتحرى الإمام العدل.
فرأوا بطلان الصلاة خلف الفاسق لكن إن رأى أن المصلحة في الصلاة وراءه ودرء المفسدة بذلك صلى وأعاد صلاته.
وله أن يصلي معه بنية المفارقة فيقتدي به في الظاهر وينوي في الباطن مخالفته.
وإن كان مجهول الحال لم تثبت عدالته ولم يثبت فسقه فيصح الاقتداء.
والمستحب عدم ذلك وذلك - أي صحة الصلاة خلفه –؛ لأن الأصل في المسلمين العدالة.
وكذلك عندهم الحكم في المبتدع فالفسق يدخل فيه الفسق في الاعتقاد والفسق في العمل.
أما الفسق في الاعتقاد فهو أن يفعل بدعة لا تكفره، وأما الفسق بالعمل فهو أن يفعل كبيرة أو يصر علي صغيرة.
فإذن: الصلاة خلف الفاسق باطلة سواء كان فسقه في الاعتقاد أو الفعل، هذا هو تقرير مذهب الحنابلة.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الصلاة صحيحة، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة:
ما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)
وما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أئمة الجور: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) فصححها النبي صلى الله عليه وسلم.
وبما رواه أبو داود في سننه من حديث مكحول عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) وفي إسناده انقطاع، ومع ذلك فهو أصح مما استدل به أهل القول الأول وله شواهد تدل عليه.
وبما رواه الدارقطني بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا خلف كل من قال لا إله إلا الله وعلى كل من قال لا إله إلا الله)
قالوا: وعليه عمل السلف الصالح، فقد كانوا يصلون وراء أئمة الجور مع ثبوت فسقهم، كما صح ذلك عن أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وعن ابن عمر في البخاري، وعن الحسن والحسين في البيهقي وابن أبي شيبة حتى حكاه بعضهم إجماعاً للصحابة، والمراد في صلاتهم خلف من كان فسقهم فسق عمل.
كما ثبت في البخاري أن عثمان أتاه عبيد الله بن عدي بن الخِيَار (1) فقال له - وهو محصور –: " إنك إمام عامة وقد نزل بنا ما ترى وإنه يصلي بنا إمام فتنة فقال عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإن أحسنوا فأحسن معهم وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم)
وقال الحسن البصري كما في البخاري: (صل وعليه بدعته) .
فهذا القول هو الذي تعضده الأدلة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعال الصحابة.
لكن اتفق أهل العلم على كراهية الصلاة خلف الفاسق المبتدع وأنهم لا يولونه الإمامة، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة أو فوات مصلحة أو يحتاج إلى الصلاة خلفه فحينئذ يصلى خلفه والصلاة صحيحة، لكن إن أمكنه أن يصلي مع غيره فهو المشروع في حقه.
وأما الكافر فقد اتفق أهل العلم على عدم صحة الصلاة خلفه سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو صاحب بدعة مكفرة أخرجته من الإسلام كالرافضة والجهمية على قول طوائف كثيرة من السلف.
وأما الصلاة خلف من جهلت عقيدته، فقد ذكر شيخ الإسلام اتفاق العلماء على صحة الصلاة خلفه وأنه لا يشرع امتحانه أو سؤاله.
وهو كما قال شيخ الإسلام لأن الأصل في المسلمين حسن الاعتقاد لكن يستثنى من ذلك، حيث كان مظنة سوء الاعتقاد كأن يأتي من بلاد تشتهر فيها البدعة فإنه يسأل عن الاعتقاد؛ لأنه مظنة العقيدة التي تعتقدها أهل بلده.
أما إذا كان من بلد أصحابها أهل سنة وعقيدة فلا يشرع سؤاله ولا امتحانه بل يصلى خلفه وإن جهل اعتقاده.
(1) هو عبيد الله بن عديّ بن الخِيَار، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، قتل أبوه ببدر، وكان هو في الفتح مميِّزاً، فعدَّ في الصحابة لذلك، وعَدَّه العجلي وغيره من ثقات التابعين، مات في آخر خلافة الوليد بن عبد الملك / خ م د س.التقريب.
وحكى شيخ الإسلام أيضاً: أن من أنكر صحة الصلاة خلف المخالف في المذهب فإنه قد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف وأنه ضال مبتدع، وذلك مع صحة اعتقاده في الإمام، لأن الصحابة كان بينهم خلاف في مسائل كثيرة – من الفروع مما يسوغ فيه الخلاف في مسائل الطهارة والصلاة ونحو ذلك - ومع ذلك كان بعضهم يصلي وراء بعض من غير نكير لذلك فمخالفتهم مخالفة للسنة، كأن يصلي خلف من لا يعتقد نقض الوضوء بأكل لحم الجزور وهو يعتقد ذلك.
قال: (ولا خلف امرأة)
باتفاق العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)
لكن هل تستثنى النافلة؟
في رواية عن الإمام أحمد: استثناؤها.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار أكثر أصحابه وهي من مفردات المذهب: أن الصلاة خلف المرأة في التراويح صحيحة جائزة.
وقيده بعضهم: بأن تكون ذات محرم.
وقيده بعضهم بأن تكون عجوزاً – أي كبيرة في السن –.
إلا فإطلاق بعضهم أنها تصلي مطلقاً - هذا في الحقيقة - من الغرائب.
لكن قالوا: تصلي خلفهم ولا تصلي أمامهم.
وهل يقتدون بها بمطلق الصلاة أم بالقراءة فقط؟
قولان:
الأول: أنهم يقتدون بها في مطلق الصلاة.
الثاني: أنهم يقتدون بها في القراءة فحسب، فتسمعهم القراءة ثم يركعون ويسجدون مع إمام آخر.
ودليلهم: ما رواه أبو داود في سننه: عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها وكانت قد جمعت القرآن فجعل لها مؤذناً وأمرها أن تؤم أهل بيتها) والحديث إسناده ضعيف لجهالة في عين بعض رواته.
ولو صح فالحديث عام في الفريضة والنافلة وقد ذهب إليه بعض العلماء وأن الصلاة صحيحة خلفها فرضاً ونفلاً، لكن هذا ضعيف باتفاق العلماء –في الحديث -:(لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)
قال: (ولا خنثي للرجال)
لاحتمال أن يكون امرأة، وهو من التبس في أمره خلقةً فلم يثبت بعد أذكر هو أم أنثى، وهذا هو الخنثى المشكل.
فإن تبين أنه ذكر صحت، وإن تبين أنه أنثى لم تصح وذلك إذا ظهر. أما قبل الظهور فلا تصح الصلاة خلفه لاحتمال أن يكون امرأة وهذه من المسائل النادرة.
قال: (ولا صبي لبالغ)
الصبي: هو ابن سبع أو ست أو خمس سنين ممن ثبت تمييزه.
فالصبي لا يجوز أن يؤم البالغين في الفرض، أما في النفل فتصح.
هذا هو المشهور في المذهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: والصبي يصلي بنية النفل، والبالغ يصلي بنية الفرض وهذا اختلاف في النية بينهما، وقد قال:(فلا تختلفوا عليه) وهذا بناء على أنه لا تصح الصلاة خلف المخالف بالنية – وسيأتي الراجح – إن شاء الله.
وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن صلاة الصبي صحيحة بالبالغين فرضاً ونفلاً، لحديث عمرو بن سلمة وفيه:(فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين) رواه البخاري.
فهذا فعل الصحابة، وهو عموم الأدلة الشرعية:(يؤمكم أكثركم قرآناً)
وأما ما ذكروه من اختلاف النية فإن هذا الحديث لا يفسر به على الصحيح.
بل تفسر بالاختلاف في الأفعال الظاهرة كما دل عليه الحديث في قوله: (ولا تركعوا حتى يركع)
وأما المخالفة في النية فإنه لا أثر لها على الصحيح وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فالراجح أن الصلاة خلف الصبي فرضاً ونفلاً صحيحة لحديث عمرو بن سلمة الذي رواه البخاري وغيره.
وأما النفل فاتفق العلماء على صحتها من الحنابلة وغيرهم؛ لأن النفل له نفل ولهم نفل فالنية غير مختلفة.
قال: (ولا أخرس ولو بمثله)
الأخرس: هو الذي لا ينطق.
فلا تصح إمامته لأنه ترك ركناً من أركانها وهو الفاتحة بغير بدل.
ثم إن الإمامة قوامها القراءة والتكبير والتسميع وهذا لا يكون منه، وهو باتفاق العلماء.
لكن إن كان بمثله؟
فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح.
وقياس المذهب وهو اختيار بعض الحنابلة: صحة ذلك.
لكن يجب أن يقيد هذا – مع ترجيحه – بألَاّ يوجد إمام غير أخرس فيصح أن يقتدي به.
قال: (ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام)
فالمذهب أنه لا يجوز أن يولى الإمامة من كان عاجزاً عن القيام أو القعود أو الركوع أو السجود.
وقيَّدوه " إلا بمثله "، لذا ذكرنا أن قياس المذهب صحة الصلاة بمثله في الأخرس.
فلا تصح إمامة العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود إلا بمثله.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى صحة إمامته لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) وهو وإن ترك الركوع والسجود أو القيام أو القعود أو نحو ذلك من الأركان التي لا تتأثر بها الإمامة إنما تركه على سبيل العذر فهو معذور في ذلك ومن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ولا دليل شرعي يمنع من ذلك.
وكونه عاجزاً عن فعلها هو معذور في ذلك فلا مانع من إمامته.
وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية. ومن صحت صلاته، صحت إمامته.
قال: (إلا إمام الحي المرجو زوال علته)
يستثنى من ذلك - أن في صحته أن يصلي قاعداً – مثلاً - إمام الحي الراتب إن أصيب بعلة يرجى زوالها.
وهنا قيدان اثنان:
القيد الأول: أن يكون إمام الحي.
القيد الثاني: أن يكون مرجو زوال علته.
واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمَّ على ذلك، ففي الصحيحين عن عائشة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم قالت:(فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر يصلي قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر)
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: قال لا يشترط ذلك لعدم الدليل عليه، ولأن الأحاديث عامة في ذلك:(وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) فلا يقيد بالإمام الراتب ولا بمرجو زوال العلة؛ ولأنه معذور في نفسه، صحيحة صلاته، وقد ترك ركناً لا يؤثر بالمأمومين تركه – أي من حيث الائتمام –، فلم يكن ذلك مؤثراً في اقتدائهم، فصحت الصلاة خلفه.
وهذا القول أظهر، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما صلى بهم لا يظهر لنا أنه كان مرجو زوال العلة فقد كان ذلك في مرض موته، وقد خشي الصحابة عليه الموت كما هو مشهور في قصة مرضه صلى الله عليه وسلم، فلا يُسلَّم – أنه كان مرجو زوال العلة.
قال: (ويصلون وراءه جلوساً ندباً)
إن صلى جالساً فإنهم يصلون وراءه جلوساً، بخلاف ما إذا ترك الركوع أو السجود فإنهم يسجدون.
أما إن صلى جالساً فيصلون وراءه جلوساً لحديث: (فإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)
وثبت في مسلم عن عائشة قالت: (اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بعض أصحابه يعودونه فصلى بهم جالساً وصلوا قياماً فالتفت إليهم وأشار أن اجلسوا) .
وفي مسلم نحوه من حديث جابر وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود)
" ندباً ": فلا يجب ذلك، فلو صلوا قياماً صحت صلاتهم ولم يتركوا بذلك واجباً من واجبات الصلاة.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة: بل ذلك فرض عليهم أي الجلوس.
واستدل أهل القول الأول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاتهم لما صلوا خلفه قياماً.
أما دليل أهل القول الثاني: فهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قوله:(إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود) وهو تشبه بهم والتشبه بهم محرم.
فعلى ذلك يجب عليهم أن يصلوا قعوداً وعليه: إن صلوا قياماً بطلت صلاتهم.
وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاتهم؛ لأنهم فعلوا ذلك جهلاً، فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نظائر كثيرة وقواعد الشريعة تدل عليه. وهذا القول الراجح.
قال: (فإن ابتدأ لهم قائماً ثم اعتلَّ فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً)
هذا استثناء:
وهو أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً فشرعوا في الصلاة في حال القيام ثم اعتلَّ الإمام فجلس فإنهم يتمون صلاتهم قياماً كما شرعوا فيها قياماً.
إذن المسألة السابقة: حيث كان الإمام مبتدئاً جالساً فكبَّر بهم تكبيرة الإحرام جالساً. أما إن شرع بهم قائماً ثم جلس فإنهم يتمون الصلاة قياماً.
واستدلوا: بحديث أبي بكر المتقدم فإن فيه أن أبا بكر صلى بالناس قائماً فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عن يسار أبي بكر فكان المأمومون مع إمامهم الأول قد شرعوا في الصلاة قائمين ثم اعتلَّ الإمام حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم وبه علته المقتضية للجلوس، فأتموا صلاتهم قائمين.
1-
هذا المشهور في المذهب من الجمع بين حديث أبي بكر وحديث: (إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين)
فالجمع: أن يقال: إن صلى جالساً من أول صلاته فإنهم يصلون خلفه جلوساً أجمعين.
أما إن اعتل أثناء الصلاة فجلس، أتموا صلاتهم قائمين لحديث أبي بكر، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث وهو اختيار ابن المنذر وابن خزيمة.
2-
وقال جمهور العلماء: يصلون خلفه قياماً مطلقاً سواء ابتدأ الصلاة جالساً أو اعتلَّ أثناءها، لحديث أبي بكر.
قالوا: وحديث أبي بكر في مرضه فهو حديث ناسخ للأحاديث المتقدمة فهو الحديث المتأخر.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لأن الجمع أولى من النسخ.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (وتصح خلف من به سلس البول بمثله)
فتصح الصلاة خلف من به سلس بول وهكذا كل من به حدث متجدد كأن تصلي المستحاضة بغير المستحاضة، وهكذا في كل من ثبت به الحدث المتجدد، فتصح الصلاة خلف من به سلسل البول بمثله.
ومفهومه أنها لا تصح إن كان يصلي بمن ليس فيه سلس بول.
- هذا هو المشهور في المذهب، وأن إمامة من به سلس بول لا تصح إلا أن يؤم مثله.
ودليله ما تقدم: لكونه عاجز عن شرط، وقد تقدم العجز عن الركن وهنا عجز عن الشرط وهو الطهارة.
- وقال بعض الحنابلة: تصح؛ لأنه وإن كان عاجزاً عن الطهارة فهو عجز بعذر به وصلاته صحيحة ولا ينقص ذلك من صلاته شيئاً، فلا وجه – حينئذ- لإبطال صلاته. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، فإنه قد صلى صلاة صحيحة وقد ترك شرطاً من شروطها معذوراً فيه لكونه عاجز عنه.
قال: (ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك)
فإذا علم الإمام أنه محدث أو متنجس فالصلاة باطلة أي صلاة المأمومين، أما الإمام فصلاته باطلة بالإجماع، لكن الخلاف في صلاة المأمومين خلفه:
فالمذهب أن صلاتهم باطلة لا تصح، فيما إذا صلى وهو محدث أو متنجس يعلم ذلك فصلاته باطلة إجماعاً، وصلاة المأمومين كذلك باطلة أيضاً.
وظاهره سواء علم المأموم طهارته أو نجاسته أو لم يعلم ذلك فالحكم إنما هو بعلم الإمام، هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى القول بأن الصلاة صحيحة، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
قالوا: المأموم ليس منه تفريط ولا خطأ بل قد عمل ما يجب عليه من الاقتداء، وكون الإمام يكون محدثاً أو غير ذلك هذا تفريط من الإمام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)
وهذا هو القول الراجح، لأن هذا المأموم صلى خلفه صلاة صحيحة واقتدى به والخطأ إنما هو من جهة الإمام والتفريط إنما هو من جهته ولا ينسب إلى المأموم تفريط ولا خطأ فكانت صلاته صحيحة.
وعلى القول الراجح – وهو قول الشافعية -: إذا علم أثناء الصلاة بحدث إمامه أو نجاسة ثوبه أو بدنه فيجب عليه أن ينفرد بالصلاة فيصلي خلفه منفرداً أو بجماعة، فإن ائتم به ولو لحظة عالماً بطلت صلاته؛ لأنه عقد صلاته بمن لا تصح إمامته فكانت الصلاة باطلة.
قال: (فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده)
فإن جهل الإمام فالضمير الظاهر " هو " يعود على الإمام، فإن جهل الإمام والمأموم حتى انقضت صحت للمأموم وحده.
أما كون صلاة الإمام تبطل فللإجماع المتقدم، وأن من صلى محدثاً بطلت صلاته وإن كان جاهلاً أو ناسياً. وأما من صلى بنجاسة فقد تقدم ترجيح أن من صلى بنجاسة جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
فهنا: إذا جهل الإمام بالحدث أو النجس على المذهب، وجهل المأموم بالحدث أو النجس – على المذهب – حتى انقضت الصلاة، صحت للمأموم وحده لأنه معذور بالجهل، هذا على خلاف القياس عند الحنابلة.
لذا ذهب طائفة منهم إلى أن الصلاة تبطل أيضاً ولو كان الإمام جاهلاً، وهو القياس عندهم وإنما خالفوه هنا لثبوت الأثر عندهم عن عمر وعثمان وعلي كما روى ذلك الأثرم وابن المنذر.
إذن: المشهور من المذهب – لآثار ذكروها عن عمر وعثمان وعلي عند الأثرم وليس كتابه بين أيدينا فننظر في سنده، وذكره ابن المنذر، تركوا القياس لذلك وإلا فالقياس - أن الصلاة باطلة، وهو رواية عن الإمام أحمد أي البطلان.
وقوله: " حتى انقضت " يدل على أنهم لو علموا أثناء الصلاة لبطلت.
بمعنى: صلى الإمام جاهل بالحدث والمأموم كذلك جاهل بحدث الإمام فعلموا جميعاً أو علم أحدهم أثناء الصلاة بطلت ووجب على من علم الاستئناف، فهذا أي قوله " حتى انقضت " قيد مقيد، فهو يدل على أن الإمام أو المأموم لو ثبت من أحدهما أو جميعاً العلم بالحدث أثناء الصلاة وجب استئناف الصلاة، أي تبطل الصلاة من الجميع، هذا هو المشهور في المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنها لا تبطل بل يبني المأموم، فإذا قطع الإمام صلاته أثناء الصلاة فتذكر حدثاً فقطعها، فإن المأموم يتم صلاته سواء أتموها جماعة أو فراداً، هذا هو الراجح؛ لأن صلاة المأمومين قد ثبتت صحتها وانقطع الإمام عن الصلاة لعذر فكان لهم أن يتموها منفردين أو جماعة ولا دليل على بطلان هذه الصلاة والمأموم لم يحدث منه خطأ ولا تفريط.
وهي أولى من المسألة السابقة إذا تمت صلاتهم أو لا فرق بينهما، فكما أنهم لو أتموا الصلاة صحت فكذلك إذا علم الحدث أثناءها.
أما على القول المرجح وهو مذهب الشافعية: فإن هذه المسائل كلها ظاهرة الرجحان، فسواء كان التذكر أثناء الصلاة أو بعدها فعلى مذهب الشافعية الذي تقدم ترجيحه أن صلاة المأموم صحيحة، بل لو كان الإمام يعلم ذلك حتى أتم الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، وهذا أولى من جهل الإمام.
* القاعدة – على الراجح –: أن الإمام إذا صلى جاهلاً أو ناسياً أو عالماً متعمداً فصلاة المأمومين صحيحة مطلقاً إلا أن يثبت العلم فتبطل صلاة من علم؛ لأن علمه يزيل عذره فيكون – حينئذ – مخطئاً مفرطاً.
ومذهب الحنابلة: أنه إذا علم أحد المأمومين ثبت الحكم للجميع فبطلت. وهو ضعيف ظاهر الضعف.
لذا ذهب الموفق وهو مذهب القاضي إلى أن الحكم على من علم فحسب، فمن علم الحدث في الإمام فيجب عليه أن ينفرد عن إمامه.
قال: (ولا إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها ما لا يدغم أو يبدل حرفاً أو يَلْحَن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله)
أي لا تصح إمامة الأمي.
والأمي هو من لا يحسن الفاتحة أي لا يحفظها.
أو " يدغم فيها ما لا يدغم " فحينئذ يذهب حرف من حروف الفاتحة.
أو " يبدل حرفاً بحرف " كالألْثَغ (1) وهو الذي يبدل حرفاً من الحروف الهجائية بحرف آخر كالراء غيناً أو نحو ذلك.
أو " يلحن فيها لحناً يحيل المعنى " كأن يقول " إياكِ " أو " أنعمتَ (2) " أو " أهدنا " من الهدية.
" إلا بمثله " فتصح إمامته.
فتقرير المذهب: أن الأمي لا يصح أن يؤم غيره إلا من كان مثله.
وقوله " إلا بمثله " مطلق وظاهره وإن كان للمأموم الذي لا يحسن الفاتحة إمام آخر يمكنه أن يأتم به وهو قارئ.
هذا ظاهر إطلاقه.
وذهب بعض الحنابلة: أن ذلك لا يجوز، بل إنما يجوز ذلك للضرورة أي عند عدم الإمام القارئ. وهذا القول الراجح.
هذا ما اتفق أهل العلم من عدم صحة إمامته إلا بمثله.
- وذهب بعض أهل العلم إلى أن إمامة الأمي صحيحة مطلقاً، وهو رواية عن الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك وقول قديم للإمام الشافعي واختاره طائفة من أصحابه كالمزني وأبي ثور وابن المنذر.
وذلك لأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة وهو الفاتحة فكان كالعاجز عن القيام، ومحل هذا حيث كان عاجزاً كما ذكروا كالألثغ، أما إذا كان يمكنه التعلم ويقدر على إصلاح الفاتحة فإنه لا يجوز الائتمام به ولا تصح إمامته.
وهذا قياس قوي ظاهر.
ومع ذلك فالأحوط مذهب الجمهور، وقلت: الأحوط، لأن الترجيح غير بيّن ظاهر في هذه المسألة فالتجاذب بين الدليلين قوي.
والفارق بين ما ذكروه من الأصل والفرع فارق يترتب الحكم عليه حيث قلنا: هو مؤثر أو غير مؤثر.
فالفارق: أن العاجز عن القيام والقعود ونحو ذلك عجزه عن القيام والقعود لا يؤثر في صلاة المأموم.
(1) المعجم الوسيط: 2 / 815.
(2)
لعلها: أنعمتُ
بخلاف العاجز عن قراءة الفاتحة فإن الصلاة قرآن كما قال تعالى {وقرآن الفجر} ويرفع صوته ليسمع المأموم لاسيما على القول بأن الإمام يتحمل عن المأموم فاتحة الكتاب، فإن هذا يكون قولاً ظاهراً جداً.
أما على القول الراجح وهو أن الإمام لا يتحمل عن المأموم الفاتحة فيكون ذلك أضعف.
فهنا قراءة الإمام مؤثرة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فلتأثير القراءة في الإمامة قدم الأقرأ على غيره، حتى يقدم على من هو أفقه ومن هو أسن ومن هو أقدم هجرة وغيره، فالقراءة لها أثر في الصلاة ومع ذلك فكما تقدم القول بصحة إمامته قول قوي وهو رواية عن الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك، والقول القديم للشافعي وهو اختيار طائفة كابن المنذر وغيره، وهو قول قوي لكن الأحوط العمل بما ذهب إليه الجمهور.
قال: (وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته)
أي إن قدر على إصلاح هذا اللحن الذي يحيل المعنى أو قدر على أن يحسن الفاتحة فيحفظها لم تصح صلاة نفسه فضلاً عن أن تصح إمامته فصلاته باطلة، وهذا محل الخلاف في المسألة السابقة، فصحة إمامته وعدمها إنما هو حيث كان عاجزاً عن إحسان الفاتحة أو إزالة الخطأ الواقع منه فيها.
أما إذا كان قادراً على ذلك فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا قادراً عليه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال: (وتكره إمامة اللحَّان)
أي لحناً لا يحيل المعنى، أي المكثر من اللحن في الفاتحة وغيرها فإمامته مكروهة، والمراد بذلك اللحن غير المحيل للمعنى.
ويمكن أن يدخل فيه اللحن المحيل للمعنى في غير الفاتحة لأنه لا يبطل الصلاة.
قال: (والفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف)
" الفأفاء " الذي يكرر الفاء عجزاً.
" والتمتام " الذي يكرر التاء عجزاً.
" ومن لا يفصح ببعض الحروف " كالذي لا يفصح بالقاف أو الضاد.
وهنا في مسألة " الضاد والظاء " كما في الفاتحة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين ".
ففي الفاتحة الضاد " ض " فإذا قرأها ظاءً فهل تصح الفاتحة أم لا؟
ظاهر قوله " أو يبدل حرفاً بحرف " أنها لا تصح، لأنه إذا قال " ولا الظالين " فإنه قرأ بالظاء التي هي أخت الطاء.
هذا هو ظاهر قوله، وهو قول لبعض الحنابلة.
والمشهور عندهم: أن الصلاة تصح؛ وذلك لقرب المخرج فيهما، فيتجوز عنهما.
وقد قال ابن كثير: " والصحيح عند أهل العلم أن الصلاة تصح لقرب مخرجهما " فكان ذلك سبباً في التساهل والتجاوز وهذا هو القول الظاهر الذي لا يسع الناس إلا القول به وهذا هو المشهور في المذهب.
إذن: إبدال الحرفين أحدهما بالآخر يتساهل فيه لقرب مخرجهما.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن)
أي ويكره أن يؤم أجنبيةً لا رجل معها سواء كانت أجنبية واحدة أو أكثر من ذلك.
لما ثبت في الصحيحين من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلو رجل بامرأة وليس ثمَّ ذو محرم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)
قالوا: فهذا الحديث يدل على الكراهية.
والصحيح في هذه المسألة أن المسألة دائرة بين التحريم والكراهية والإباحة:
وأما التحريم: فهو إذا كانت الخلوة محرمة، فإن الإمامة محرمة مع الخلوة، وذلك للحديث المتقدم فإن ظاهره التحريم، والإمامة – حينئذٍ – من الخلوة، فكانت محرمة. وهذا إذا كان في امرأة أو امرأتين فإن مثل هذه الخلوة - حيث كانت مظنة الفتنة والشر فإنها - محرمة.
وأما الكراهية: فهو إن لم يكن كذلك بأن كان داعي الفتنة موجود لكنه أضعف فإنها تكون مكروهة.
وأما الإباحة فهي مما سوى ذلك.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤم النساء ومنهن من يأتي وليس لها محرم ولم يشترط في حضورهن للمساجد المحرم، فدل على الجواز مع أمن الفتنة، ولا كراهية في الإمامة حينئذٍ.
وقوله: " لا رجل معهن " ظاهره مطلق رجل، وهو ضعيف، بل المؤثر في هذه المسألة أن يكون هناك محرم أو رجال تزول بعددهم مظنة الفتنة فحينئذٍ لا كراهية ولا تحريم.
فإذا كان هناك محرم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأم سليم في بيتها ومعه أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين.
قال: (أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق)
أي: أو أمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحق.
أما إذا كان يكرهه بغير حق فإن هذا لا يؤثر.
مثال كراهيته بحق: أن يكرهه لضعف في دينه أو لضعف في إقامة الفريضة أو نحو ذلك مما يورث كراهيته وهو حق.
ومثل ذلك: إذا كرهه لدنيا كأن يكون بينهما شحناء لدنيا، أو شحناء من جنس الشحناء التي تقع بين أهل المذاهب والأهواء فإن الإمامة – حينئذٍ – تكره لأن المقصود من الإمامة الاجتماع والائتلاف وهذا ينافي ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) .
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بإسناد حسن: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون) .
وإنما يستثنى من ذلك أن تكون الكراهية بغير حق كأن يكره لدينه أو فعله السنة فإن الإمامة لا تكره.
لكن استحب القاضي من الحنابلة: استحب له ألا يؤمهم صيانة لنفسه وإلا فإنها لا تكره.
وذلك لأن هذا أقام بما يشرع أو يفرض عليه، ومنعه أو كراهية إمامته يؤدي إلى مفاسد كثيرة من ترك السنة وهجرها وإماتتها، ولا يشاء لفاسق أو نحوه أن يحكم بمنع إمامة أحد من أهل الصلاح إلا فعل.
قال: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما]
فتصح إمامة ولد الزنا ولا تكره، والأولى أن يقال:" ولا تكره "، خلافاً للجمهور الذين قالوا: بكراهيتها؛ قياساً على العبد؛ لأن الإمامة فضيلة، فيمنع منها. لكن هذا ضعيف.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو من مفرداتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا عام، وقال تعالى:{ولا تزور وازرة وزر أخرى} ، وقال:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
ثم إنه لا يقاس على العبد؛ لوجود فوارق بينهما، فهو حر له حريته من بيع وشراء وليس ثمة تمليك عليه.
ثم إن العبد لا تكره إمامته على الصحيح، لكن الأولى أن يكون حراً.
فولد الزنا متى سلم دينه وكان تقياً، فقد قال تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا يلحقه من معرة والديه شيء، فقد قال تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} .
" والجندي إذا سلم دينهما ": الجندي هو العسكري، وليس المقصود نوعاً من الجنود، بل عامة من يعمل عند السلطة، من أعوان السلطان والقائمون بشؤون السلطة من شتى أنواع العسكر، فتصح إمامته ولا تكره إذا سلم دينه.
لأن ذلك مظنة الظلم، فإن أعوان السلطان مظنة الظلم، فكان الشرط هذا معتبراً وهو أن يكون سالم الدين ومع ذلك فقد قال الإمام أحمد:" أحب إلى أن يصلي خلف غيره " وذلك لأنه مظنة الظلم.
ونحن في هذا العصر أعمال العسكر ليست بمرتبة واحدة فأشبهت أعمالاً كثيرة كان يقوم بها في الزمن وغيره.
لكن إن كان الجندي من أعوان الظلمة فيمنع من إمامته لأنه ظالم إن أقام بالظلم، وأما إن كان عمله لا ظلم فيه فإنه لا يمنع من إمامته لذا قال:" إذا سلم دينه " لأنه عدل ولا دليل على منعه من الإمامة.
قال: (ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه)
كأن تصلي الظهر وراء من يصلي الظهر لكن الإمام بنية الأداء وأنت بنية القضاء، أو هو بنية القضاء وأنت بنية الأداء فصلاة الظهر واحدة لكن الفارق بينهما أن أحدهما بنية الأداء والآخر بنية القضاء فهنا قال: يصح الاقتداء والائتمام؛ لأن الفرض واحد، فليس ثمت اختلاف على الإمام ولا يؤثر في ذلك نية الأداء والقضاء، لأن نية الأداء والقضاء لا تؤثر مع اتفاق الفرض.
قال: (لا مفترض بمتنفل)
إذا صلى من نوى الفريضة بمن يتنفل، فالإمام بنية النفل والمأموم بنية الفرض، فلا يصح اقتداء المفترض بالمتنفل.
وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: وكونه ينوي الفرض والإمام النفل هذا اختلاف على الإمام بالنية.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختيار طائفة من أصحاب أحمد كالموفق ابن قدامة وهو اختبار ابن تيمية: أن ائتمام المفترض بالمتنفل صحيح.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيح من حديث معاذ: (أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيؤم قومه – في مسجد بني سلمة)، وفي البيهقي والدارقطني ومصنف عبد الرزاق والطحاوي بإسناد صحيح قال:(هي له تطوع ولهم فريضة)
وثبت في أبي داود من حديث أبي بكرة في صلاة الخوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين) فهنا صلى الصلاة مرتين الأولى فريضة، والثانية له نافلة، والثانية كانت بمفترضين.
قالوا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تختلفوا عليه) فإن المراد منه الاختلاف الظاهر بدليل سياق الحديث أي ليس له أن يركع قبل ركوعه أو يسجد قبل سجوده أو أن يكون قائماً والإمام جالس وهكذا فهذا هو الاختلاف الظاهر المنهي عنه.
قالوا: ويدل عليه اتفاقنا نحن وأنتم على صحة ائتمام المتنفل بالمفترض وهي عكس المسألة السابقة، لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) وهذا اختلاف عليه في النية ومع ذلك صحت الصلاة. وهذا هو القول الراجح.
قال: (ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما)
تقدم أن من صلى الظهر وراء من صلى الظهر ولكن هذا بنية الأداء والآخر بنية القضاء فالصلاة صحيحة.
أما هنا فقد اختلفت الصلاة فهذا يصلي الظهر وهذا يصلي العصر فما الحكم؟
قال: " ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما " من الصلوات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تختلفوا عليه) وهذا اختلاف عليه فإنه يصلي ظهراً والمأموم يصلي عصراً.
والجواب عليه كما تقدم.
- وذهب إلى صحة ذلك الشافعية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: وأن المفترض بنية صلاة تخالف صلاة الإمام أنه لا بأس بذلك.
ويدل عليه حديث معاذ فإذا صحت من المفترض خلف المتنفل ومن المتنفل خلف المفترض، فإن هذا يدل على أن النية جائز أن تخالف نية الإمام وأن ذلك لا يؤثر في الصلاة وإنما المنهي عنه الخلاف الظاهر.
وعليه: فإذا كانت صلاة الإمام ثنائية، وصلاته رباعية، فإذا سلم الإمام قام فأتم لنفسه كما يقتدي المقيم بالمسافر فإذا سلم قام فأتم صلاته.
والعكس كذلك: فإذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم، فكان الإمام يصلي العشاء والمأموم يصلي المغرب فإنه إذا قام الإمام للرابعة جلس ثم سلم.
الراجح في هذه المسألة كلها ما ذهب إليه الشافعية من الائتمام مع اختلاف النية واتفاق الفعل الظاهر جائز، وقد ثبت له في السنة نظائر كثيرة تقدم ذكر بعضها، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقف المأمومون خلف الإمام)
اتفاقاً وقد تواترت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
قال: (ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه)
فيصح أن يكون المأمومون عن يمين الإمام أو عن يمينه ويساره اتفاقاً.
لما ثبت في مسلم عن ابن مسعود: (أنه صلى هو والأسود بن يزيد وعلقمة – وهما صاحباه – فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره) فهذا يدل على جواز ذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول. لذا اتفق أهل العلم على استحباب أن يقوموا وراءه.
قال: (لا قدامه)
فلا يصح أن يصلي قدام الإمام.
والاعتبار بمؤخرة القدم لا بمقدمتها كما تقدم في الكلام على إقامة الصفوف. فإذا صلى قدامه فإن الصلاة تبطل، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
قالوا: لأن هذا فعل غير مشروع في الائتمام، وما لم يكن مشروعاً مما يتصل بالديانة فهو مردود، فعليه: العبادة لا تصح لأنه وقف منها وقوفاً غير مشروع في باب الائتمام فبطلت صلاته كما لو وقف خلفه فإنها تبطل،وسيأتي تقريره.
فكما أن الوقوف خلف الإمام منفرداً غير مشروع تبطل به الصلاة، فكذلك قدامه بل أولى، لأن من وقف خلف الإمام أمكنه أن يأتمَّ به وهو في معنى الائتمام به ومع ذلك تبطل الصلاة مع تفرده وكونه فذاً فأولى من ذلك تقدمه.
قال: (ولا عن يساره فقط)
أي ولا يصح أن يصلي عن يساره فقط فتبطل.
قالوا: لأنه وقف وقوفاً في الصلاة غير مشروع فبطلت به الصلاة.
هذا مذهب الحنابلة.
وذهب الجمهور وهو اختيار الموفق وصوبه في الإنصاف واستظهره في الفروع: أن الصلاة لا تبطل بل هي صحيحة.
قالوا: لأن الائتمام يمكن والحالة هذه ولا يناقض الائتمام أن يساويه بل إنما يناقضه أن يتقدم عليه، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس – كما في الصحيحين – من يساره إلى يمينه هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، وهذا القول قول قوي؛ لأن الأصل صحة الصلاة، وقوفه عن يسار الإمام نعم هو يخالف السنة لكن إبطال الصلاة به لم يظهر الدليل الدال عليه.
ومما استدلوا به أيضاً: أن ابن عباس لما وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وكذا جابر جبار لم يبطل الصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرهم بإعادتها مع أنه أمر المسيء صلاته لما أساءها جهلاً أمره أن يعيدها.
إلا أن الحنابلة تجاوزوا عن الوقوف الذي لا تتم به الركعة كما سيأتي الكلام عليه عند الصلاة فذاً خلف الصفوف.
ومع ذلك فالراجح مذهب الجمهور من أن الصلاة تصح إن وقف عن يسار إمامه لكنه تارك للسنة، لكن هذا الترك لا يناقض الائتمام، فإن من الائتمام ما يكون فيه المأموم محاذياً للإمام – وقد تقدم اتفاق أهل العلم على أنهم إن صلوا عن يمينه ويساره فالصلاة تصح – فثبت أن اليسار موقف للصلاة وإن لم يكن موقفاً هنا، لكنه ثبت كونه موقفاً، فمثل هذا يخفف في حكمه.
فالراجح: أنه إن وقف قدامه فالصلاة باطلة، لكن إن كان عن يساره فالصلاة لا تبطل.
واستثنى شيخ الإسلام وهو قول في مذهب أحمد وهو قول إسحاق بن إبراهيم قالوا: إن فعل ذلك لعذر صحت الصلاة، كأن يكون المسجد ممتلأً بالمصلين بحيث أنه لا يمكن أن يصلوا كلهم خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فاحتاجوا إلى التقدم عن يمينه أو يساره شيئاً، فإن ذلك جائز لأن المصافة على الصورة المتقدمة واجبة، والواجبات تسقط عند العجز عنها، قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وفي الحديث:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فهذا اتقى الله ما استطاع وصلى كما أمر، عاجزاً عن واجب وهو التخلف عن الإمام في المصافة أو الوقوف عن يمينه أو عن يساره، فـ[إن] عجز [عن] ذلك [و] وقف قدامه فإن الصلاة تصح للعذر، والقاعدة: أن العجز عن الواجب يسقطه.
قال: (ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة)
أي ولا تصح صلاة الفذ خلف الإمام أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة.
فلا يصح للمصلي أن يصلي فذاً خلف الصف أو خلف الإمام، ومراده " خلفه " إن كان المأموم واحداً ومثل ذلك: لو كان وراء الإمام صف أو صفوف فوقف وراء الصف منفرداً فإن الصلاة تبطل. ودليل ذلك:
ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي بإسناد صحيح، والحديث صححه ابن حبان وهو كما قال، من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه قال:(رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة)
وفي ابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)
ففي الحديث الأول أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد صلاته، وفي الحديث الثاني أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه لا صلاة صحيحة لمنفرد خلف الصف.
وقال جمهور العلماء: تصح الصلاة؛ لما ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة – وسيأتي سياقه – أنه ركع دون الصف فدخل في الصف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة فقال:(زادك الله حرصاً ولا تعد)
ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاته وقد صلى مِنْ صلاته خلف الصف، لكن هذا الاستدلال يخالف الأدلة الصريحة التي تقدم ذكرها.
ولحديث أبي بكرة استثنى الحنابلة: من صلى خلف الصف وحده دون الركعة أي لم يرفع من الركوع وهو منفرداً خلف الصف.
وفيما من ذكروه فيما يظهر نظر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة خلف الصف، وأمر من صلى خلف الصف أن يعيد، وفرق بين من وقف في الصف فكبر، وبين من كبر دون الصف وهو يعلم أن له موضعاً فيه فتقدم إليه، فهذا فاعل لما لا يتم الواجب إلا به فهو يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف، وأما الآخر فإنه قائم وليس بمتقدم إلى الصف ففرق بين المسألتين.
والذي يظهر لي أنه متى صلى خلف الصف بطلت صلاته لعموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وإذا كبر وقام وركع فإن هذا من الصلاة فتكون الصلاة باطلة.
إلا أنّ ما يقع ولابد من وقوعه، معفو عنه حيث أن تكبيرة الإحرام تقع ولابد من بعض المأمومين متقدمة على بعضهم فمثل هذا لا يؤثر اتفاقاً.
بخلاف ما إذا قام في [خلف] الصف فإنه يظن بقاء نفسه في هذا الموقع وهو غير متأكد من إتيان أحد من الناس إليه.
نعم إذا ثبت له إقبال أحد من المصلين فهذا يكون بمنزلة من ركع ودب حتى دخل في الصف، أما حيث لم يظن ذلك فالأظهر هو بطلان صلاته والله أعلم.
وظاهر قول الحنابلة: أن الصلاة تبطل مطلقاً سواء كان معذوراً أو غير معذور.
فلو أن رجلاً دخل المسجد فنظر فلم يجد فرجة في الصف يمكنه أن يقف فيها فصلى خلف الصف وحده فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ لأنه قد صلى خلف الصف فيدخل في عموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه إن كان معذوراً في ذلك بحيث أنه نظر فلم يجد فرجة بين الصفوف، ولم يمكنه أن يرص المصلين فيجد فرجة فإنه يصلي خلف الصف وصلاته صحيحة.
وهو القول الراجح؛ للقاعدة السابقة المأخوذة من قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهي: أن الواجبات تسقط عند العجز عنها.
" إلا أن يكون امرأة " فإن المرأة موقفها أن تكون خلف الصفوف باتفاق أهل العلم كما ثبت ذلك في حديث أنس في الصحيحين قال: (فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا) فالمرأة تصف خلف الصف.
لكن قوله " إلا أن يكون امرأة " يوهم مسألة تخالف المذهب:
فيما إذا صلت المرأة خلف صفوف النساء منفردة وكان يمكنها أن تصلي معهن، فالمذهب قالوا: كذلك يبطل صلاتها قياساً على الرجل والنساء شقائق الرجال.
فمراد المؤلف هنا: المرأة تكون خلف الإمام أو تكون خلف صفوف الرجال، أما إذا كانت منفردة خلف صف النساء فإن الصلاة تبطل إن كانت غير معذورة قياساً على الرجل.
قال: (وإمامة النساء تقف في صفهن)
لما ثبت عن أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن) رواه البيهقي. ونحوه عن أم سلمة أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن.
قالوا: ندباً واستحباباً، فإن وقفت أمامهن كما يقف الرجال فالصلاة صحيحة، وذلك لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجل يصلي أمام المصلين فالمرأة كذلك.
وتلك الآثار تدل على أن هذا هو المستحب للنساء، أما إن صلت المرأة إمامة متقدمة فإن الصلاة تصح لأن النساء شقائق الرجال.
قال: (ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم)
فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء.
" كجنائزهم ": فكذلك الجنائز في القبر وعند صلاة الإمام يقدم الرجال ثم الصبيان ثم النساء، فعند الصلاة يوضع الرجال مما يلي الإمام ثم الصبيان ثم النساء.
وفي القبر: فعندما يُراد دفنهم في قبر واحد فيوضع الرجل في اللحد ثم يوجه إلى القبلة، وبعده الصبي ثم المرأة، وسيأتي الكلام على هذا في صلاة الجنازة.
أما هنا: فذكر المؤلف أنه يستحب أن يلي الإمام: الرجال ثم الصبيان ثم النساء، وهذا باتفاق العلماء، لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
وروى الترمذي بإسناد فيه شهر بن حوشب وهو مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب أن أبا مالك الأشعري رضي الله عنه قال: (لأحدثنكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فأقام الصلاة ثم صف الرجال ثم صفَّ الغلمان ثم صلى بهم) هذا باتفاق العلماء ودليله حديث مسلم.
وأقربهم إلى الإمام أكملهم وأفضلهم.
* فإن تقدم إلى موضعه المفضول فهل للفاضل أن يؤخره عن موضعه أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الشافعية قالوا: ليس له أن يؤخره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم – نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وقال الإمام أحمد: أنه يجوز له ذلك، لأنه في مكان ليس له، بخلاف من جلس في مجلس فلا يجوز أن يقام منه. واستدل بحديث:(ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد جيد: من حديث قيس بن عبَّاد أنه صلى مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتى أبيّ بن كعب فنحاه وقام محله فلما انصرف من صلاته قال: يا بني لا يسوؤك الله فإني لم آتك الذي لم آتيتك بجهل وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كونوا في الصف الذي يليني) فهذا يدل على جواز ذلك؛ لأنه هو الأحق به.
قال الإمام أحمد: " يليه الشيوخ وأهل القرآن ثم الذين يلونهم "، فعلى ذلك: يصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء،، وليس المراد أن يصف الصبيان في صف بمفردهم وإن كان في الصف المقدم الذي فيه الرجال مواضع يمكن للصبيان أن يصفوا فيها، بل المراد أنه إذا تمت صفوفهم صلى الصبيان خلفهم.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو من علم حدثه أحدُهما أو صبي في فرض ففذّ)
أي من لم يقف معه في مكانه الذي صف فيه خلف الإمام إلا امرأة أو كافر أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض فهذه أربع مسائل فيمن تكون صلاته صلاة فذ:
الأولى: إذا كان مصافاً لكافر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن الكافر لا تصح صلاته فلم تصح مصافته فيكون فذا فتبطل صلاته إلا من عذر.
الثانية: مصافة المرأة فيكون فذاً – حينئذٍ –، وهو مذهب الحنابلة خلافاً لجمهور العلماء.
قالوا: لأن هذا الموضع الذي تقف فيه المرأة مع الرجل في الصف غير معتد به فكان كعدمه، وهو قول ظاهر.
الثالثة: إذا علم حدثه أحدهما: أي إذا علم أحد المتصافين حدث الآخر أو علم المحدث حدث نفسه وإن جهل ذلك المصاف فيكون فذا.
وهذه شبهة بمسألة سابقة، فيقال هنا كما قيل هناك من التفصيل، والتفصيل أن يقال: إنْ علم المصلي حدث من صافه فإنه كالفذ، وأما إن لم يعلم فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه غير مفرط وإن كان الآخر قد علم حدث نفسه، فكون الشخص يعلم حدث نفسه لا يؤثر في غيره، لكن المؤثر أن يكون الآخر قد علم بالحدث، فحينئذٍ تكون صلاته كصلاة الفذ.
الرابعة: " أو صبي في فرض " فمصافة الصبي في الفريضة تصير المصاف له كالمصلي خلف الصف فذاً.
قالوا: لأن صلاته نفل، وهذا يصلي مفترض فلم يجز أن يصاف المفترض المتنفل.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو القول الراجح: إن مصافة الصبي صحيحة كإمامته.
وهذه المسألة تبنى على الإمامة، فحيث قلنا إن إمامة الصبي في الفرض صحيحة، قلنا بصحة مصافته، وإن قلنا أنها باطلة قلنا ببطلان مصافته. وقد تقدم ترجيح صحة إمامته في الفريضة فكذلك صحة مصافته في الفريضة.
ويدل على صحتها: حديث أنس المتقدم وإن كان في النافلة لكن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً: في قوله في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم قال: (قمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
ولأن إمامته صحيحة فأولى من ذلك أن تصح مصافته ولما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رجل يتجر على هذا فيصلي معه) فإنه يصلي معه ويصافه – أي المتجر – وهو متنفل، وأما الآخر فهو مفترض، فصاف المتنفل المفترض ولم يؤثر ذلك في مصافته شيئاً.
فعلى ذلك: الراجح أن الصبي تصح مصافته كما هو قول لبعض الحنابلة.
قال: (ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام)
إذا أتى من يريد الصلاة فوجد فرجة في الصف فإنه يدخلها لقوله صلى الله عليه وسلم: (من وصل صفاً وصله الله) وقوله: (ولا تذروا فرجات للشيطان) وقد تقدم تخريجها.
" وإلا عن يمين الإمام " فإن لم يجد فرجة في الصف فإنه يقف عن يمين الإمام.
- هذا هو المذهب.
لأنه موقف للمنفرد مع الإمام، وتصح أيضاً باتفاق العلماء في الجماعة أن يصلي بعضهم عن يمين الإمام وبعضهم عن يساره فثبت موقفاً أصلاً فجاز أن يقف هنا عن يمينه.
- وقال بعض الحنابلة: بل يصلي فذاً، وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا القول هو الراجح.
وإن كان القول بجواز وقوفه عن يمين الإمام جائزاً لأنه موقف في الصلاة، ولأن أبا بكر صلى عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم فكان مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس أن يصلي عن يمينه إلا أن الأولى أن يصلي وراء الصف فذاً كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار طائفة من الحنابلة.
قال: (فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه)
فإذا لم يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من يقوم معه بنحنحة أو تسبيح أو نحو ذلك من غير جر، بل ينبه لغيره – هذا هو المشهور في المذهب.
- وذهب بعض الحنابلة وهو الراجح: أنه يصلي فذاً من غير أن ينبه لأن في تنبيهه شيء من التشويش على المنبَّه، وفيه ترك فرجة في الصف قد لا يوصل فكان الأولى أن يترك المصلي في موضعه ويصلي خلف الصف معذوراً وتصح صلاته.
وهل له أن يجرَّ أم لا؟
قال جمهور العلماء: ليس له أن يجرَّه، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو المشهور في المذهب وأن ذلك مكروه.
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق: أن ذلك لا يكره، لحديث الطبراني من حديث وابصة بن معبد وفيه:(ألا دخلت معهم أو اجتررت أحداً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه راو متروك.
وقال ابن عقيل من الحنابلة بتحريم ذلك، وهو قوي لما يترتب على ذلك من تشويش على المأموم، ومن نقل له من محل فاضل إلى مفضول، ومن حركة في الصلاة بلا حاجة، ومِنْ تَرْك فرجة في الصف قد أمر الشارع بسدها، فكان هذا القول فيه قوة، وإن كان المقطوع به هو الكراهية، لكن القول بالتحريم قول قوي.
قال: (فإن صلى فذاً ركعة لم تصح)
تقدم الكلام على هذا، في أن من صلى خلف الصف فذاً ركعة لم تصح صلاته.
وظاهر قوله: " ركعة " ركوعها وقيامها وسجدتيها. فإذا صلى معه أحد قبل أن يتم الركعة أو دخل هو في الصف صحت صلاته– هذا ظاهر كلامه.
قال: (وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت)
" وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف " بمعنى: رأى الناس راكعين، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم دب راكعاً فدخل في الصف، فهل تصح صلاته أم لا؟
1-
قال جمهور العلماء: تصح صلاته ويجزئه ذلك، واستدلوا بحديث أبي بكرة في البخاري: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(زادك الله حرصاً ولا تعد)
وفي أبي داود من حديثه: (فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف)
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة)
ورواه البيهقي عن أبي بكر بإسناد ضعيف.
ورواه عن زيد بن ثابت وابن مسعود وهما من كبار فقهاء الصحابة بإسنادين صحيحين. وهو قول جمهور العلماء.
2-
وعن الإمام أحمد: أن الصلاة تبطل للعالم، أما إن كان جاهلاً فصلاته تصح لقوله:(زادك الله حرصاً ولا تعد) لكن هذا معارض لما دلت عليه قواعد الشريعة من أن الجاهل يكون معذوراً بالفعل عن الإثم، لكن يؤمر بالإعادة كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته بأن يعيد الصلاة ولحديث عبد الله بن الزبير:(فإن ذلك السنة)
إنما نفسر قوله: " زادك الله حرصاً ولا تعد " بالنهي عن الإسراع، ومن ذلك الركوع دون الصف، فإنه إسراع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فهذا الفعل مكروه، لكنه ليس بمبطل للصلاة ولا محرم هذا القول الراجح – وهو المشهور في المذهب.
" أو وقف معه آخر " بأن يكون دخل معه آخر وهو يدب إلى الصف فوقف قبل سجود الإمام.
وظاهره أنه لو سجد الإمام السجدة الأولى وهو لم يدخل في الصف أنه لا يدرك بذلك الركعة، ويكون كذلك قد صلى خلف الصف فذاً فبطلت صلاته.
وقال في المغني وهو أظهر: قبل تمام الركعة.
وهو أظهر، فلا يقال قبل سجود الإمام وإنما يقال – على الأظهر – " قبل تمام الركعة " لما تقدم – وقد تقدم قوله – " فإن صلى ركعة فذاً ركعة لم تصح " فكذلك هنا قبل تمام الركعة.
وعليه: فإن دخل في الصف والإمام ساجد في السجود الثاني أجزأه ذلك.
وإن كان ظاهر الأحاديث كحديث ابن الزبير مطلق ذلك، وأنه بتكبيرة الإحرام والركوع يكون بذلك أدرك الصلاة، وإن لم يدرك الإمام إلا بعد تمام الركعة.
لكن جمهور العلماء قد اتفقوا على أنه إذا أدركه بعد تمام الركعة فإن الصلاة تبطل ويكون قد صلاها فذاً خلف الصف.
إذن: إذا دخل في الصف قبل تمام الركعة أو وقف معه أحد قبل تمام الركعة فإن الصلاة تصح منه، وإن أدركه بعد تمام الركعة فإنه يكون بحكم من صلى خلف الصف وحده، وقد تقدم بطلان صلاته كما هو مذهب الحنابلة، والله أعلم.
استدراك:
هنا قيد لم يذكره المؤلف – وهو معتبر عند الحنابلة – وهو أن يكون ذلك بقيد خشية فوات الركعة.
فإن ركع قبل الصف وكان قد خشي الركعة أجزأه، وإن لم يخش فوات الركعة لم يجزئه.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجزئه ذلك مطلقاً وإن لم يخش فوات الركعة، ما دام أنه يسعى إلى الدخول في الصف.
قالوا: لأن التفريق في مثل هذه المسألة بين خشية فوات الركعة وعدمه تفريقٌ غير مؤثر، لقوله صلى الله عليه وسلم:(فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)
فعليه يجوز مطلقاً مع الكراهية، أي سواء خشي فوات الركعة أم لا.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره ولا من ورائه إذا سمع التكبير، وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين)
هنا مسائل:
الأولى: في حكم صلاة المأموم مع إمامه في المسجد:
فهنا قال: " يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره " إذن يصح اقتدائه وإن لم ير الإمام ولا من وراء الإمام بشرطٍ وهوا أن يسمع التكبير.
كأن يصلي بعض المأمومين في سطح المسجد أو ساحته أو منارته أو في حجرة منه ولم يروا الإمام ولا المأمومين فإن الصلاة تصح بشرط وهو مكان الاقتداء. فإذا أمكن الاقتداء صحت الصلاة بإجماع العلماء.
ومثل ذلك: صلاة النساء اللاتي يصلين في غرفة في المسجد مع إمكان الاقتداء بسماع تكبيرة الإمام وقراءته ولو لم يرين الإمام أو المأمومين.
وهل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟
قالوا: لا يشترط اتصال الصفوف، وهذا باتفاق أهل العلم حتى حكاه المجد بن تيمية إجماعاً ولم أر فيه خلافاً.
وهذا يقع في المساجد الكبيرة عندما يصلي بعض الناس متأخراً في مؤخرة المسجد صفاً، والناس يصلون وبينهم وبين هذا الصف مسافات كبيرة، فإن الصلاة تصح باتفاق أهل العلم.
ولكن هذا الفعل يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بأن يتراصوا في الصفوف كما تراص الملائكة، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بل ظاهر ذلك التحريم، لكن الصلاة [تصح] باتفاق أهل العلم مع ثبوتهم في المسجد، والمراد إن لم يقف فذاً – على الراجح -.
الثانية: عند قوله: " وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين "
أي الحكم كذلك إذا صلى المأموم خارج المسجد لكن بشرط أن يرى الإمام أو المأمومين.
فلو صلى رجل في بيت بجوار المسجد مرتفع على المسجد يرى الإمام أو يرى المأمومين كما يقع هذا في المسجد الحرام فإن الصلاة تصح لما ذكر المؤلف هنا – هذا هو المشهور في المذهب.
- وقال بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية: لا تشترط الرؤية أيضاً بل الشرط هو إمكان الاقتداء، فإذا كان يسمع التكبير صحت ولو لم يره – وهذا القول أصح من هذا القيد المتقدم – إلا أن في المسألة من أصلها نظراً كما سيأتي.
والراجح الثاني: لأن المقصود من الرؤية الاقتداء، وسماع التكبير يحصل به المقصود من الاقتداء فلم تشترط الرؤية.
* لكن النظر هو هل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟
1-
قال الحنابلة في المشهور عندهم: لا يشترط ذلك كما هو ظاهر قول المؤلف هنا.
وعليه فلو صلى في بيته وسمع القراءة والتكبير فله الاقتداء في مذهب المالكية ومن تقدم ذكره، وفي مذهب الحنابلة إذا كان يرى الإمام وبعض المأمومين.
2-
وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: يشترط اتصال الصفوف وهذا هو الراجح، وذلك لأن الإمام والمأموم إذا كانا في المسجد فهما في موضع الجماعة، فتجاوزنا عن اشتراط الاتصال لكونهما في محل الجماعة.
أما والحالة هذه - فبعض المأمومين خارج المسجد -، فاشترط الاتصال ليكون حكم الخارج عن المسجد حكم الداخل فيه لوجود الاتصال بينهما وللعذر، فهذا هو القول الراجح، ولولا الإجماع المتقدم المذكور في المسألة السابقة لقلنا باشتراط اتصال الصفوف في المسجد لأنه هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمل ليس على هديه فهو رد.
فعلى ذلك هنا مسألتان:
الأولى: إذا اقتدى المأموم بالإمام في المسجد فهنا لا تشترط الرؤية للإمام ولا لبعض المأمومين، وإنما الشرط هو إمكان الاقتداء، ولا يشترط أيضاً – بإجماع العلماء – اتصال الصفوف، لكنه يجب على الراجح كما تقدم.
الثانية: إذا كان المأموم خارج المسجد فالصحيح: أنه يشترط أن يتصل صفه بالصفوف التي في المسجد، وهو اختيار الموفق. ولا يشترط – حينئذٍ – لا الرؤية بل الشرط هو إمكان الاقتداء برؤية أو سماع أو غيره فلا فرق بين الرؤية ولا السماع.
مسألة:
إن كان بين المأمومين خارج المسجد وداخله – طريق أو نهر أو نحو ذلك – فهل يصح الاقتداء مع إمكانه " أي مع السماع أو الرؤية أم لا؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور في المذهب: أن الاقتداء لا يصح لثبوت هذا الفاصل بينهما، فهو كالجدار ونحوه لأنه ليس محلاً للصلاة، فكان كالحجاب الذي يمنع الرؤية.
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق ابن قدامة وهو مذهب الجمهور: يصح الاقتداء لإمكانه، وكون هذا الفاصل بينهما – الذي هو ليس محلاً للصلاة – كونه موجوداً مع كونه لا يمنع الاقتداء، هذا لا يؤثر، فلا يمنع من الاقتداء، وكونه ليس محلاً للصلاة هذا لا يؤثر في الاقتداء.
فكون الموضع لا يصلى فيه لا يعني أنه لا يجوز أن يكون فاصلاً بين الإمام وبين المأمومين، فهذه مسألة الصلاة، وهذه مسألة الاقتداء. وهذا هو القول الراجح.
فلو فصل بين المأمومين بعضهم عن بعض نهر أو طريق – كأن يصلي الناس في محل بينهم وبين المسجد الجامع طريق، وهذا الطرق لا يمكن أن يشغل بالمصلين لكونه طريقاً لمرور الناس فلا تتم المصلحة إلا بتركه مفتوحاً، فلو قدر مثل هذا فالراجح صحة الاقتداء مع إمكانه.
استدراك:
تقدم وجوب اتصال الصفوف فما هو ضابط ذلك؟
للحنابلة ثلاثة أقوال فيه:
منهم من قال: أن يكون بين كل صف وصف ثلاثة أذرع، وهذا هو الذي يكفي للمصلي في ركوعه وسجوده.
وقال بعضهم: ألا يكون بينهما ما يصح أن يكون صفاً، وذلك ما يقارب ستة أذرع أو خمسة.
وقال الموفق ابن قدامه: ألا يكون بينهما بعدٌ لم يجر العرف به.
والقول الثاني: لا دليل عليه، فكونه يكون بينهما خمسة أذرع أو أربعة أذرع هذا يخالف الشرع.
وأما الثالث: وهو كونه راجعاً إلى العرف، هذه المسألة لا ضابط لها، فهذه مسألة شرعية قد حددها الشارع فلا ينبغي الرجوع فيها إلى العرف.
فكان أولاها بالصواب القول الأول: وأنه ثلاثة أذرع، لكن يخفف فيما لو كان نحوه كأربعة أذرع أو نحوها وإن كان خلاف السنة لكن مثله لا يؤثر، كما أن الصفوف تصح مع عدم وجود المراصة في الأكعب والمناكب ويتجاوز عن الشيء اليسير فيها، فكذلك هنا.
فالتحديد ينبغي أن يكون بثلاثة أذرع ونحوها وهو قول طائفة من الحنابلة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتصح خلف إمام عال عنهم، ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر)
هذه مسائل في صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين.
الأولى قوله: (تصح) .
الثانية قوله: (وتكره) .
الثالثة قوله: (إذا كان العلو ذراعاً فأكثر) وظاهره أنه إذا كان أقل من ذراع أن الصلاة لا تكره.
فهذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى – وهي أصل المسألة – كراهية ذلك وأن صلاة الإمام في موضع عال أنها مكروهة.
ودليله ما رواه أبو داود والحديث صحيح بشواهده: (أن حذيفة صلى في المدائن على دكان " موضع شاخص مرتفع " فأخذ أبو مسعود بقميصه فلما فرغ من صلاته قال أبو مسعود: (ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟) وفي رواية بن حبان: (أليس قد نهى عن ذلك؟ فقال: بلى قد ذكرت حين مددتني) أي حين أخذت قميصي فجبذته) فهذا الأثر فيه كراهة ذلك.
وقوله: (كانوا ينهون عن ذلك) يحتمل أن يكون المراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويحتمل أن يكون المراد أصحابه على وجهه يحتج به فيكون إجماعاً لاحتجاج أبي مسعود وإقرار حذيفة رضي الله عنهم– وهو مذهب جمهور العلماء، وأن صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين أنها تكره.
2-
والثانية: قوله: (وتصح) هذا المشهور في المذهب وهو الراجح خلافاً للقول الثاني فيه.
والأول هو الراجح وأنها صحيحة وإن صلى الإمام في موضع عال؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة، ولأن أبا مسعود وحذيفة لم يثبت عن الأول منهما الأمر بالإعادة ولا عن الثاني الإعادة، فدل ذلك على صحة الصلاة.
ومعلوم أن ما يقع من الصلاة جهلاً يؤمر المكلف بإعادة الصلاة حيث كان مبطلاً لها.
3-
الثالثة: وهي كراهيته بقيد أن يكون ذراعاً فأكثر.
قاعدة الاستثناء عند المذهب: أن يكون العلو يسيراً.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد إلى المنبر، فلما فرغ من صلاته قال: (أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) .
قالوا: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان رقيه على الدرجة الأولى وذلك نحو ذراع قالوا: فهذا العلو اليسير لا يكره.
- وقال بعض الحنابلة: بل يكون ذلك إلى قامة المأموم أي إلى ارتفاعهم، لأن ذلك يحوجهم إلى رفع البصر المنهي عنه للإقتداء بالإمام، فالمأموم يحتاج أحياناً إلى النظر إلى الإمام للإقتداء به.
وما ذكروه - أهل القول الأول والقول الثاني – فيه نظر، والأظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رقي على المنبر كما يرقى عليه إذا خطب، وذلك أن يكون رقيه ثلاث درجات كما كان يفعل ذلك في خطبته.
لكن الحديث يحمل على الراجح – كما حملها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهي غير مشهورة وهو مذهب الشافعية يحمل - على استثناء ذلك للتعليم.
فيكون لا بأس به للتعليم، ومثل ذلك عامة المواضع التي يحتاج الإمام فيها أن يكون مرتفعاً كأن يضيق المسجد وتكون مقدمته ضيقة فلا بأس بذلك.
فالمشهور عند الشافعية حمل هذا الحديث على جواز الارتفاع من الإمام عن المأمومين بلا كراهية حيث كان للتعليم ونحوه، وهو الراجح وهو رواية عن أحمد.
أما ما ذكره الحنابلة من أن ذلك علواً يسيراً وهو نحو ذراع فإن ذلك فيه نظر، وكون ذلك للإقتداء موضع نظر فإن الاقتداء يتم بسماع التكبير ونحوه.
فعلى ذلك الأظهر مذهب الشافعية من كراهية العلو للإمام مطلقاً إلا أن يحتاج فعل ذلك للتعليم.
أما الحنابلة فمذهبهم أنه يكره مطلقاً للتعليم وغيره، لكن استثنوا من ذلك ما إذا كان دون الذراع أي الارتفاع اليسير، والأظهر الأول.
قال: (كإمامته في الطاق)
الطاق هو المحراب أي يكره كذلك كما يكره له أن يؤم في المحراب - وهو مشهور معروف –.
- وهذا هو المشهور في المذهب من كراهية صلاة الإمام في المحراب.
قالوا: لأنه يستتر عن بعض المأمومين فيفوت بعض الاقتداء. وعليه: سجوده فيه لا بأس به؛ لأنه لا يفوت ذلك شيئاً من الاقتداء، وكذلك إذا كان المأمومون قليلين بحيث يقتدون به وإن صلى في المحراب فإنه لا يكره ذلك.
وهل يشرع وضع المحراب في المسجد؟
المشهور عند الحنابلة: أن ذلك مباح؛ لأنه يستدل به على معرفة القبلة.
وعن الإمام أحمد: استحبابه، واختاره بعض أصحابه؛ ليستدل به على معرفة القبلة.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: تدل على الكراهية، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف، وهي الراجحة وهي كراهية ذلك. وهي قول الحسن البصري فقد قال:(الطاق في المسجد أحدثه الناس) وكرهه.
وحكى للإمام أحمد الكراهية عن علي وابن مسعود وابن عمر وأبي ذر - أى كراهية الصلاة في المحراب -.
وهو بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه كما ذكر ذلك السيوطي، وإنما كان ذلك في المائة الثانية، وكما يدل على ذلك قول الحسن المتقدم.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح اليهود والنصارى)
والمذابح هي المحاريب لكونها يذبح فيها، أي تذبح فيها القرابين، فهي المحاريب كما ورد هذا في لسان العرب وغيره من كتب اللغة.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – من حديث ابن عمر -: (اتقوا هذا المذابح يعني المحارب) فسر ذلك ابن الأثير بأن المراد من ذلك صدور المجالس.
وفسره السيوطي في كتابه بالمحاريب، وهو الأظهر عندي؛ لثبوت ذلك عن ابن مسعود، فقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بإسناد صحيح إلى إبراهيم عن ابن مسعود وروايته عنه صحيحة، قال:(اتقوا هذه المحاريب) فالأظهر أن هذا الحديث يحمل على المحاريب.
قال ابن مسعود – وقد كره الصلاة في الطاق – كما عند البزار: (إنما كانت للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب) ، وهذا الوجه الثاني في النهي عنها أنها تشبه بأهل الكتاب وأنها ليست من سنن المسلمين، وإنما استحبها من استحبها من أهل العلم للاستدلال بها على القبلة، لكن هذا قد وجد مقتضاه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الحاجة إلى الاستدلال إلى القبلة فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بل كان – كما في الطبراني – بإسناد جيد:(كان قد أتخذ لقوم مسجداً فنصب في قبلته خشبة) . فنصب الخشبة - ونحوها مما يصح سترة - يكفي في معرفة القبلة فحينئذ يكون اتخاذها بدعة كما تقدم في كراهية ذلك، فإنه لا يكره ما كان مشروعاً، فدل على أن ذلك بدعة.
وكونه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين بل أحدث في المائة الثانية، وكما نص على ذلك الحسن، ووجود مقتضاه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم فعله والاستغناء به عن غيره يدل على عدم مشروعيته.
قال: (وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة)
أي يكره للإمام أن يتطوع في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة كضيق مسجد، كما أن الصلاة في المحراب إذا احتيج إليها لكثرة المصلين فإنه يصلي فيه للحاجة فهنا كذلك. فيكره له أن يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره من حديث المغيرة: والحديث صحيح لشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلي الإمام في موضعه الذي صلى فيه حتى يتحول) فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما المأموم فقالوا: الأولى له ترك موضعه والصلاة في موضع غيره من غير كراهية.
واستدلوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن يعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السُبحة) والحديث ضعيف فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو مجهول، فالحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن ابن عمر ما يخالف ذلك فقد ثبت في البخاري معلقاً:(أن ابن عمر كان يصلي التطوع في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة) ، وثبت ذلك عن محمد بن القاسم، وهو من الفقهاء السبعة، وعن سالم بن عبد الله بن عمر، ثبت عنهم فعل ذلك، وليس في السنة ما يدل على كراهية هذا الفعل. فإن صلى في موضعه فلا بأس وإن تنحى فصلى في موضع آخر فلا بأس أيضاً.
قال: (وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة)
أي يكره للإمام أن يطل القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، وعليه: فإن القعود اليسير لا بأس به.
- وعن الإمام أحمد: كراهيته أيضاً – أي القليل – وهو أظهر.
قال: (فإن كان ثمَّ نساء لبث قليلا لينصرفن)
تقدم البحث في هذا في مسألة سابقة في الكلام على الذكر في صفة الصلاة.
قال: (ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف)
أي يكره وقوف المأمومين المصطفين وراء إمامهم، يكره وقوفهم بين السواري إذا كانت السواري تقطع الصفوف، وكما تقدم فإن الكراهية تزول عند الحاجة، فإذا ازدحم المصلون فاحتاجوا إلى أن يصلوا بين السواري فإنه تزول حينئذ الكراهية.
لأن القاعدة: أن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل.
واستدلوا: على الكراهية بما رواه الخمسة بإسناد صحيح عن أنس قال: (كنا نتقي هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الصلاة بين السواري) .
فإذن: يكره ذلك لأنه يقطع الصفوف لكن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل – كما تقدم -.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض)
هذا الفصل في الأعذار التي يجوز فيها ترك الجمعة والجماعة.
(مريض) المريض: هو الذي يشق عليه حضور الجماعة فلا يجب عليه حضورها، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس في سنن أبي داود، وقد تقدم الحديث:(من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) والمرض عذر، وقد عذر الله به عن الصيام ونحوه من الأحكام، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض صلى في بيته، وقال كما في الصحيحين:(مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
ومثل ذلك: لو خشي المرض كانتشار وباء أو تعرض لريح شديدة أو نحو ذلك وهو يخشى المرض بها.
ومثل ذلك: تباطؤ المرض وتأخره، فكله من هذا الباب فيعذر في ترك الجمعة والجماعة – وهذا باتفاق العلماء أي أنه معذور في حضور الجمعة والجماعة حيث كان يشق عليه ذلك.
قال: (ومدافع أحد الأخبثين ومن بحضرة طعام محتاج إليه)
تقدم هذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) في مكروهات الصلاة.
قال: (وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رُفقة)
الخوف عذر لترك الجمعة والجماعة، وهو ثلاثة أنواع: 1- خوف على النفس.
2-
وخوف على المال. 3- وخوف على الأهل والولد.
فالخوف على النفس من سلطان أو سبع أو سيل أو غير ذلك.
والخوف على المال بتفويته، من سرقة أو فساد مال أو نحو ذلك. كأن يصلح رجل مالاً له فخشي إن ذهب فسد فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
وكذلك لو أن رجلاً له دواب يخشى ضياعها فيجوز له ترك الجماعة.
والخوف على الأهل والولد: كأن يكون رجل معه أهله وولده في مدينة غير آمنة فخشي إن وقف عند المسجد ضاع أهله أو ولده فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.
(وخائف من ضياع ماله أو فواته) الفرق بين الضياع والفوات أن الضياع مع حصوله، وأما الفوات فقد لا يكون مع حصوله.
فمثلاً: رجل يظن أنه يجد عبده الآبق في وقت صلاة الظهر فيجوز له أن يدعها جماعة لحصول ماله.
أو يظن أنه يجد بهيمة أو دوابه في وقت من أوقات الصلاة ويخشى إن فات هذا الوقت أن يضيع هذا المال أو يفوت عليه فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.
(أو موت قريبه) سواء كان بمرضه أو لا.
قالوا: لأنه إن كان يمرضه فهذا لحاجة هذا الحي إليه، وإن كان لا يمرضه فلأن المشقة التي يجدها في نفسه من فوات توديعه قبل موته أعظم في نفسه مما أمر الشارع بترك الجمعة والجماعة له من طعام ونحوه، فنفسه تتوق إلى رؤية ميته وتوديعه قبل موته، وهذا أكثر مشقة من الطعام الذي أمر الشارع بترك الجماعة له.
(أو على نفسه من ضرر أو سلطان)
كأن تكون هناك عقوبة من سلطان ما على حضور الجمعة والجماعة، فيجوز تركها لثبوت العذر عليه.
وكل هذه دليلها قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}
(أو ملازمة غريم ولا شيء معه) مثال: رجل يقول: أنا إذا ذهبت إلى الجمعة أو الجماعة لازمني غريمي ولا مال معي وأخشى أن يحبسني بماله وأنا عاجز عن السداد، فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
فإن كان مماطلاً فليس له ترك الجمعة والجماعة ولا عذر له.
ومثله قالوا: لو كان عليه قود أي قصاص وهو يرجو العفو، ويعلم إنه إن حبس ثبت القود وهو يرجو العفو فيجوز له أن يترك الجمعة والجماعة.
ولا يجوز له أن يتركها لقصاص أو حد أو نحو ذلك لأنه حق فلا يترك به حق، فلا يكون معذوراً بذلك.
(أو من فوات رفقة) كرفقة في سفر مباح فيجوز له ترك الجمعة والجماعة لثبوت الحرج في ذلك.
قال: (أو غلبة نعاس)
كأن يصاب رجل بسهر فيغلبه النعاس فيؤذن الفجر وهو مصاب بالسهر الشديد وقد غلبه النعاس، فخشي إن انتظر الإمام أن يشق عليه، فحينئذ يجوز له أن يصلي قبل إقامة الصلاة؛ لأنه معذور بغلبة النعاس الذي هو أشق من تطويل الإمام، وقد تقدم في قصة معاذ المتفق عليها أن تطويل الإمام عذر في ترك الجمعة والجماعة والصلاة منفرداً.
قال: (أو أذى بمطر أو وَحَل) .
الوَحَل: بفتح الحاء وهي اللغة الفصيحة، وأما بتسكينها (الوَحْل) فهي لغة ضعيفة.
فإذا كان هناك أذى بمطر أو وحل فله أن يترك الجمعة والجماعة.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه: (أمر مؤذنه في يوم مطير إذا قال: (أشهد ألا أله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) قال له: (لا تقل حي على الصلاة) وقل: (صلوا في بيوتكم) فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: " أتعجبون من ذا، فإنه قد فعله من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض) والدَحْض هو الطين الزلق.
فهذا يدل على أن اليوم المطير أو الليلة المطيرة التي يكون فيها دحض ووحل يجوز أن يترك الجمعة والجماعة.
بل ولو كان المطر يبل الثياب حيث كان به أذى فيجوز فيه ترك الجمعة والجماعة، وقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي المليح عن أبيه:(أنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية في يوم مطير لم يبتل أسفل نعالهم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلون في رحالهم) .
فهذا يدل على أنه متى كان مطر يثبت به الأذى أو شيء من الحرج أو كان هناك طين أو دحض فإن ترك الجمعة والجماعة جائز لرفع الحرج عن الأمة.
قال: (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة)
أي لفظة (مظلمة) فلم يذكرها بعض الحنابلة، والظاهر هو تركها؛ لأن الحديث الوارد في هذه المسألة المستدل به ليس فيه ذكر أنها مظلمة، وكذلك لفظة (شديدة) ليست شرطاً عندهم.
قال في الإقناع: (ولو لم تكن شديدة خلافاً لظاهر المقنع)
ودليل الجواز: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأمر مؤذنه في الليلة الباردة أو المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) .
قوله: (الليلة الباردة) قالوا: هذا دليل على أن الليلة إذا كانت باردة فيها ريح بارد وإن لم يكن ذلك شديداً كما تقدم فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة.
إذن: إذا كانت هناك ليلة باردة، بقيد أن يكون فيها ريح فإنه يجوز له ترك الجمعة والجماعة.
- وقال الشافعية: إذا كان البرد شديداً تركت الجمعة والجماعة ليلاً أو نهاراً.
والظاهر أن مرادهم بالبرد الشديد ما يقع به الحرج، وذلك فيما لم يكن مألوفاً عند الناس كما قيده صاحب حاشية المربع، ولم أرها لغيره لكنه قيد معتبر، فإن المألوف ليس في ذلك حرج عند أهل البلدة الذين ألفوا هذا النوع من البرد بخلاف من لم يألفوه أو كان برداً شديداً خارجاً عما ألفوه.
قال الشافعية: وكذلك الريح الشديدة في الليل فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة.
والظاهر أيضاً: أنه لا فرق بين ليل أو نهار حيث كانت شديدة يلحق بها الحرج.
والقاعدة: في مثل هذه المسائل: أنه متى ثبت الحرج في برد أو ريح شديد سواء كان ذلك في ليل أو نهار فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة – على الراجح -.
أما المشهور في المذهب فإنهم يقيدونه بالبرد الذي يكون بريح في ليل، والظاهر عدم اعتبار كون ذلك في ليل أو نهار، لأن الحرج الحاصل بالليل قد حصل مثله بالنهار فلا فرق – حينئذ –.
ولا يقيَّد باجتماع الريح والبرد الشديد لحصول الحرج بأحدهما، فإذا وجد أحدهما جاز حينئذ الجمع.
- وقال بعض الحنابلة: إذا كان حراً مزعجاً شديداً يفوت معه الخشوع فكذلك، وهو قياس ظاهر لفوات الخشوع كما ذكر.
إذن: القاعدة في هذه المسائل كلها: أنه متى ثبت العذر من مرض أو خوف، أو ثبت الحرج من غلبة نعاس أو من مطر أو من ليلة باردة أو من ريح شديدة مما يثبت الحرج بمثله فإنه يجوز الجمع، وقد قال ابن عباس – كما تقدم –:(إني كرهت أن أحرجكم) أي أن أوقعكم في الحرج، فدل ذلك على أن المعتبر في مثل هذه المسائل هو الحرج، لوجوب الجمعة والجماعة وقد قال صلى الله عليه وسلم للأعمى – الذي له قائد لا يلائمه:(لا أجد لك رخصة) ، فدل على وجوب حضورها، وأنه ليس بأي حرج بل بالحرج الذي يلحق المكلف منه شيء من المشقة.
لذا إذا كان للأعمى قائد لا يلائمه الملائمة التامة فيجب عليه الحضور وتحمل ذلك، بخلاف الأعمى الذي ليس له قائد أصلاً فإنه معذور عن حضور الجمعة والجماعة؛ لأن الواجبات تسقط عند العذر، وتسقط عند الحرج؛ لأن الله عز وجل قال:{ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} ومن الدين الجماعة والجمعة.
مسألة:
الخوف المعتبر هو ما يكون مظنة لذلك كمظنة السرقة ونحوها، أما مجرد الخوف فلا يجيز ترك الجمعة والجماعة.
مسألة:
إذا كان العمل تفوت فيه الجماعة فما حكمه؟
فيه تفصيل: فإن كان طارئاً فلا بأس.
لكن إن كان أصلياً فيه فإنه يتقدم إلى وظيفة يعلم أنه يصلي فيها الجماعة، والأولى له ألا يعمل فيها إذا كانت تفوته فيها الجماعة؛ لأنها أدت إلى محرم وهو ترك صلاة الجماعة.
لكن يستثني من ذلك: ما كان فيه مصلحه عامة كالشرط ومن في الثغور ونحوهم؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال) فقد همَّ بترك الصلاة والذهاب لإنكار المنكر.
مسألة: حكم دخول المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً؟
الأظهر أن النهي للتحريم كما هو رواية عن الإمام أحمد.
وهل يعذر بترك الجماعة أم لا؟
الظاهر أنه يمنع من ذلك عند قرب وقت الصلاة؛ لأن أكلها سبب لمنعه من حضور الجماعة، وما كان سبباً إلى ترك واجب فإنه يمنع منه.
* وهل يخرج من المسجد أم لا؟ (1)
قولان لأهل العلم:
الظاهر منهما أنه يخرج إلا أن يترتب على ذلك مفسدة كما ذكر ذلك بعض الحنابلة.
* وهل يقاس عليهما الدخان؟
يقاس عليهما الدخان وغيره مما له رائحة كريهة يتأذى منها الملائكة.
والظاهر كذلك: أن النهي عن حضور الجماعة ليس خاصاً بما إذا كانت في المسجد، بل هو عام فيما إذا كانت في المسجد أو لم تكن، لأن الجماعات لها حكم المساجد في حضور الملائكة.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صلاة أهل الأعذار
أهل الأعذار من مريض ومسافر وخائف وغيرهم من أهل الأعذار.
وقد شرع في ذكر صلاة أحد المعذورين وهو المريض.
فقال المؤلف رحمه الله: (تلزم المريض قائماً)
لما ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً فإن لم تسطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) فإن أمكنه القيام استناداً إلى حائط أو عمود أو إلى أحد جنبه، وجب عليه ذلك لثبوت القيام، وقد تقدم البحث في هذا في الكلام على أركان الصلاة ومنها القيام.
فإذاً: يجب عليه القيام سواء كان قائماً بنفسه أو معتمداً على غيره من حائط أو جدار أو عمود أو نحو ذلك.
قال: (فإن لم يستطع فقاعداً)
فالمريض الذي لا يستطيع الصلاة قائماً فإنه يصلي قاعداً وكذلك إذا كان يخشى المرض أو زيادته بصلاته قائماً فإنه يصلي قاعداً مع قدرته على الصلاة قائماً؛ لأنه وإن قدر على أن يصلي قائماً لكن ذلك يترتب عليه خشية الضرر، إما تباطؤ البرء وإما بزيادة المرض وقد قال تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
فإذن: إن لم يستطع القيام فإنه يصلي قاعداً.
(1) وقد ثبت في الصحيحين إخراج من أكل الثوم والبصل من المسجد من حديث عمر.
قالوا: ويندب له أن يكون متربعاً لما ثبت في النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي متربعاً) وهذا في حال القيام، وفي الأصح أيضاً في حال الركوع.
وأما في حال الجلوس والسجود فإنه يثني رجليه كما يثنيهما في جلوسه في الصلاة؛ لأن هذا هو الأصل في السجود والجلسة بين السجدتين، والجلوس للتشهد.
أما التربع فإنه في القيام خاصة.
* وأما الركوع ففيه قولان للحنابلة:
الأول: أنه يثني رجليه كما يثنيهما في حال الجلوس والسجود أي يفترش.
والثاني: أنه يتربع للركوع، وهذا أصح؛ لأن هيئة الراكع في قدميه كهيئة القائم فكان أولى بأن يلحق به بخلاف الساجد والجالس فإن هيئة رجليه ليست كهيئة رجلي الراكع.
فالأرجح وهو اختيار الموفق من الحنابلة أنه في الركوع يكون متربعاً.
وإنما قلنا بندبه؛ لأنه ليس فيه إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله لا يدل على الوجوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً) وأطلق فيدخل في ذلك التربيع وغيره.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك واجب.
والأصح أنه مستحب كما تقدم.
قال: (فإن عجز فعلى جنبه)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تستطع فعلى جنب) وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقيد الاضطجاع على جنبه الأيمن أو جنبه الأيسر، فسواء اضطجع على جنبه الأيمن أو الأيسر فلا بأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين أحدهما ولا دليل على التعيين.
ويكون مستقبلاً القبلة، فيضع وجهه وسائر بدنه تجاه القبلة، هذا هو مذهب جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم:(فإن لم تسطع فعلى جنب) وقد أوجب الشارع استقبال القبلة، فكان واجباً عليه أن يضطجع على جنبه متجهاً ببدنه إلى القبلة.
قال: (فإن صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة صح)
فيصح ذلك وإن قدر على أن يضطجع على جنبه، وذكر الموفق والمجد ابن تيميه أن في رواية للنسائي:(وإلا فمستلقياً) ولم أر هذه اللفظة لا في السنن الكبرى ولا الصغرى، وكذلك قال محققا المغنى: إنهما لم يجداها.
وقال صاحب الفروع لما حكى ذلك عن المجد قال: " كذا قال "، ففي ثبوت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر.
ثم إن الحديث لو صح فإنما هو بعد قوله: (على جنب) أي فعلى جنب فإن لم يستطع فإنه يصلي مستلقياً.
قالوا: ولأنه إذا فعل ذلك فقد أثبت نوع استقبال للقبلة، فإن فيه نوع استقبال للقبلة بوجهه فيصح بذلك.
والقول الثاني في المذهب – وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن ذلك لا يصح، قال الموفق:(والدليل يقتضي ألا يصح، لأن ذلك خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم) وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن الإمام أحمد وهو القول الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فإن لم تستطع فعلى جنب) .
وكونه يثبت فيه نوع استقبال هذا لا يدل على صحته بدليل أن القاعد لا تصح صلاته قاعداً وإن كان مستقبلاً القبلة مع قدرته على القيام.
ولأن كونه يصلي على جنب أتم في استقباله، فإن سائر بدنه الذي يستقبل به القبلة يكون في حال الاضطجاع على جنب قد استقبل به القبلة.
فالصحيح أن ذلك لا يجزئه وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن أحمد وهو اختيار الموفق ابن قدامة.
لكن إن عجز أن يصلي على جنب فإنه يصلي مستلقياً ولا نزاع في صحة ذلك لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذا فيه نوع استقبال.
قال: (ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع)
مع العجز أن يصلي راكعاً وساجداً، فإنه يومئ بالركوع والسجود، لما روى البزار والبيهقي والحديث صحيح عن جابر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ بالركوع والسجود واجعل سجودك أخفض من ركوعك) وكل هذا - لا شك - مع الاستطاعة، فإنه إذا سقط أصل السجود فأولى من ذلك أن يسقط كون السجود أخفض من الركوع.
قال: (فأن عجز أومأ بعينه)
وهذا مذهب جمهور العلماء، فيومئ بعينه في حال الركوع والسجود والقيام وغير ذلك من أفعال الصلاة قياساً على الإيماء بالرأس.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد ضعفها الخلال من أصحابه: أن ذلك يسقط الصلاة عنه؛ لأنه قد عجز عن أفعالها حيث أمر، فهو عاجز عن فعل ما يجب عليه، فحينئذ تسقط عنه الصلاة.
وقال شيخ الإسلام – في الإيماء –: " هو عبث " وذلك لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس فيه شيء من أفعال الصلاة، فإن الإيماء بالركوع والسجود جزء من الركوع والسجود، فإنه يشرع بالسجود والركوع بالإيماء بالرأس فإنه فعل الصلاة بخلاف الإيماء بالعينين.
وذهب بعض الحنابلة – كما قال صاحب الفروع -: " وظاهر كلام جماعة – أي من الحنابلة – أنه لا يلزمه الإيماء بطرفه وهو متجه لعدم ثبوته ".
فهذا قول ثابت هو ظاهر كلام طائفة من الحنابلة أنه لا يومئ لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه ليس فيه فعل شيء من
أفعال الصلاة.
لكن الصلاة تثبت عليه فلا يلزمه الإيماء لكنه يكتفي بالنية في قلبه – وهذا أظهر؛ لفرضية الصلاة ولأن النية من أفعلها، ولأن من عجز عن أفعالها فإن منهم من يمكنه القراءة، والقراءة هي الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الاستلقاء – وهو فعل لا يعجز عنه أحد – ينوب عن القيام فكان نائباً عن ركن من أركانها، وحيث عجز عن الإيماء فإن الصلاة تبقى وتثبت عليه لكنه لا يومئ بعينه لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لا فائدة فيه لكنه يفعل ما يستطيع من النية والقراءة والاستلقاء على ظهره أو صلاته على جنب واستقبال القبلة بقدر استطاعته لأن الله عز وجل قال:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} . وهذا القول أظهر وأحوط.
قال: (فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر)
إن قدر على القيام بعد أن كان عاجزاً عنه أثناء الصلاة فإنه ينتقل إليه لزوال عذره، لكن إن شرع في الفاتحة فإنه لا يتمها في ارتفاعه (1) ؛ لأنه يجب أن يقرأ حال القيام.
وإذا عجز عن القيام بعد أن كان قادراً عليه في أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى القعود، و – حينئذ – إن استمر في قراءة الفاتحة في انحطاطه فإنها تجزئ عنه؛ لأن قراءته في حال الانحطاط أولى من قراءته في حال الجلوس، بخلاف المسألة الأولى فإنه يجب أن يقرأها في حال القيام.
وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وذلك لثبوت العذر فيها وفي مسألة العذر الذي تقدم في ترك الجماعة نحو هذا. فإذا حصل له العذر الذي يثبت به ترك الجماعة لتطويل إمام فحصل له أثناء الصلاة، فإن له أن يتمها خفيفة، وله أن يقطعها.
(1) المقصود حال نهوضه قبل أن يستتم قائماً. انظر حاشية الروض المربع: 2 / 372.
وإن كان التمثيل في مسألة التطويل يوجب عليه أن يتمها خفيفة. بخلاف ما إذا كان يخشى فوات مال أو نحو ذلك فإن له أن يتمها خفيفة، وله إن خشي وقوع الضرر أن يقطعها.
فإذا وقع عليه عذر في أثناء الصلاة، فله أن يتمها خفيفة إن أمكنه ذلك ولم يشق عليه، وإلا قطعها.
قال: (وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وبسجود قاعداً)
فإذا كان يمكنه أن يصلي قائماً أو قاعداً، لكنه يعجز عن الركوع وعن السجود، ففرض عليه أن يصلي قائماً لقوله صلى الله عليه وسلم:(صل قائماً) ، لكنه يومئ في حال القيام عن الركوع؛ لأن الركوع يكون عن قيام، ولأن القيام جزء من الركوع فإن حالة القدمين في حال الركوع تكون في حالة القيام.
والسجود كذلك، فإذا أراد أن يسجد فيسجد عن قعود مع قدرته على ذلك؛ لأن القعود جزء من السجود ولأن السجود إنما ينشأ عن قعود.
قال: (ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم)
إذا قال طبيب مسلم ثقة لمريض أصيب في عينيه إذا سجدت فإن ذلك يؤثر في عينيك ويبطئ في المرض فيك فوضع له حمية أن يصلي مستلقياً على ظهره، فهل يفعل ذلك؟
الجواب: نعم يفعل ذلك فيصلي مستلقياً وإن كان قادراً على أن يصلي قائماً أو قاعداً إذا ذكر له أن في الصلاة مستلقياً سبب لإسراع برئه أو ثبوت البرء.
وذلك لأن في ترك ذلك حرج، وقد جاءت الشريعة بنفي الحرج في قوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
والأظهر أنه لا يقيد الطبيب بكونه مسلماً، وإنما يقيد بالثقة الذي يرجى صوابه، لأن العلة في ذلك هي الحرج الواقع في القلب من منع ذلك، وكذلك رجاء الانتفاع بالشفاء، وهذا لا يثبت بكونه مسلماً فقط بل إذا كان ثقة، فالأظهر أنه لا يقيد بكونه مسلماً بل من كان ثقة في قوله ورجي صوابه، والنفع بقوله مثبت.
قال: (ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادر على القيام)
إذا كان قادراً على أن يصلي قائماً وهو في السفينة أو في سيارة أو نحو ذلك – ففرض عليه القيام لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً) .
وثبت في البزار والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الصلاة في السفينة فقال: (صل قائماً إلا أن تخشى الغرق) لكن إن كان يشق عليه القيام مشقة شديدة كأن يكون فيها حركة واضطراب فلا يمكنه أن يصلي قائماً إلا مع مشقة شديدة فحينئذ لا حرج في أن يصلي قاعداً لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
ومثل ذلك: إذا كان في السفينة ولا يمكنه الخروج منها إلا بعد فوات الوقت، فلا يمكنه أن ينزل فيصلي قائماً إلا بعد خروج الوقت – ومثل ذلك السيارة – فحينئذ يصلي قاعداً للعذر لأنه عاجز عن ركن القيام في الوقت.
وهل يجب عليه أن يستقبل القبلة في صلاته كلها فيدور مع القبلة كما دارت؟
هذا هو المشهور في المذهب، وأن السفينة إذا اتجهت عن القبلة فإنه يتحرك إلى جهة القبلة. وهذا قول ظاهر إلا أن يشق عليه.
لذا ذهب بعض الحنابلة إلى أن ذلك لا يلزمه كالنفل.
والأظهر هو التوسط بين القولين: وأن ذلك واجب عليه مع الاستطاعة بلا مشقة، أما إن كان في استدارته مشقة فإنه يسقط ذلك عنه للحرج والمشقة.
قال: (ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحَل)
وقد تقدم الوحَل: وهو الطين سواء كان زلقاً أو لم يكن كذلك مما يتأذى منه.
فإذا كان على راحلته وخشي فوات الوقت والأرض فيها طين وحرج عليه أن يصلي في الطين حيث أن الوحل فيها، فإنه يصلي على راحلته ويومئ بالركوع والسجود.
لما روى أحمد والترمذي عن يعلى بن أمية قال: (انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضيق والسماء من فوقهم والبلة أسفل منهم فأمر المؤذن أن يؤذن، فصلى وهو على راحلته يومئ بالركوع والسجود) والحديث في إسناده جهالة وضعفه الترمذي لكن قال: (العمل عليه عند أهل العلم) .
وذكره الإمام أحمد عن أنس بن مالك ولا يعلم له مخالف وقواعد الشريعة تقتضي ذلك لرفع الحرج – كما تقدم – في قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والمشقة تجلب التيسير – ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم – لكن مع القدرة على النزول لا يجزئه ذلك.
قال: (لا للمرض)
فالمريض لا يجزئه أن يصلي على راحلته.
وقال بعض الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجزئه ذلك. وهذا القول ظاهر، لكن بشرط ألا يكون في نزوله فعل أركان لا يمكن فعلها في حال صلاته على الراحلة.
فإذا كان المريض مثلاً: يومئ بالركوع والسجود على النافلة ويمكنه أن يسجد على الأرض ويركع ويقوم فيجب عليه أن ينزل للقيام والركوع والسجود وفعل غيرهما من الأركان، لكن هذا الشرط ألا يشق عليه مشقة ظاهرة، فإنه يصلي على راحلته وإن ترك شيئاً من الأركان المتقدمة.
إذن: الظاهر: أنه إن كانت أفعاله كأفعاله على الأرض فإنه لا فرق بين أن يصلي على الراحلة أو على الأرض، لكن إن كان قادراً على فعل شيء من الأركان في حال النزول فيجب أن ينزل إلا أن يُلحقه ذلك مشقة ظاهرة فإن المشقة تجلب التيسير.
والحمد لله رب العالمين.
فصل في صلاة المسافر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر رباعية ركعتين، إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
هذه الجملة فيها مسائل:
المسألة الأولى: مشروعية صلاة السفر وأنها مشروعة قد دل على ذلك الكتاب في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} ، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم في فعله وقوله، وبإجماع أهل العلم على مشروعية قصر الصلاة للمسافر.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه المشروعية للاستحباب أم للفرضية؟
أ – مذهب جمهور العلماء: إلى أن ذلك للاستحباب، وهو المشهور في مذهب الحنابلة، فهي مستحبة وفعلها قصراً أفضل من فعلها تماماً، وإن أتم جاز ذلك وصح من غير كراهية.
ب – وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن الإتمام مكروه.
فهذا هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
استدل جمهور أهل العلم على استحبابها بما يلي:
قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فنفى الله الجناح، ونفي الجناح يدل على الإباحة.
وهذا الاستدلال ضعيف، بل نفي الجناح لا يدل على نفي الإيجاب بل يدل على نفي الإثم والتحريم أي لا أثم ولا تحريم.
أما مسألة نفي الإيجاب فلا تدل عليها هذه الآية بدليل أن الله تعالى قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} والطواف بين الصفا والمروة - وهو باتفاقهم - فرض وركن أو واجب.
ولو قالوا بظاهرها هو الإباحة المطلقة فضلاً عن أن يكون ذلك للاستحباب فهذه الآية ليس فيها نفي الإيجاب ولا إثبات الاستحباب بل فيها الإخبار أنه لا تحريم في ذلك ولا حرج ولا جناح.
وبما ثبت في النسائي ورواه أبو داود والطيالسي وقال الدارقطني إسناده حسن: أن عائشة قالت: (اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام وأفطرت وقصر وأتممت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (أحسنت) لما ذكرت ذلك له ".
قال الدارقطني: إسناده حسن (لكن قال في كتاب العلل وهو أقوى في التضعيف والحكم على الأحاديث: (الراجح أنه مرسل) أو نحو ذلك وهو كما قال، وأنكر هذا الحديث شيخ الإسلام فإنه لا يعقل أن عائشة تخالف النبي صلى الله عليه وسلم، فتخالف هديه بكونها تصوم وهو مفطر وتتم وهو يقصر فالحديث لا يثبت، وإن كان قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر وتقول:(إنه لا يشق علي) رواه البيهقي لكن كما قال عروة: (تأولت كما تأول عثمان) .
فتأولت أن القصر إنما شرع للمشقة، فرأت أنه لا مشقة فيه عليها فكانت لا تقصر، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون تأولاً منها.
أما الرواية عنها بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أحسنت) فلا يثبت ذلك، فالحديث مرسل وقد أنكره شيخ الإسلام.
وأما ما رواه الدارقطني من حديثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يتم ويقصر، ويصوم ويفطر) فالحديث إسناده ضعيف. فهذه أدلة جمهور العلماء.
وذهب طائفة من أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو مذهب الأحناف: إلى أنه فرض في السفر، وهو مذهب ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والثوري وحماد بن أبي سليمان.
فقد قال ابن عباس – كما في سنن سعيد بن منصور -: (من صلى في السفر أربعاً فكمن صلى في الحضر ركعتين) وهذا منه إبطال للصلاة، فإن من أتم في السفر تبطل صلاته كما لو قصر في الإقامة، ولما سئل – رضي الله عنه – عن قصر الصلاة فقال:(ليس تقصيرها ولكن إتمامها وسنة النبي صلى الله عليه وسلم) رواه عبد الرزاق.
ودليل هؤلاء:
ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) فقولها " وأقرت " يدل على أنها أقرت على الفريضة لكن يشكل عليه ما تقدم من مذهب عائشة، وهذا هو لفظها.
لكن يقال: إن هذا من باب الرواية، وأما ما تقدم فهو من باب الرأي ولا يعارض رأي الراوي بروايته، بل تبقى الرواية على وجهها.
واستدلوا – وهو أصرح في الاستدلال – بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: (فرضت الصلاة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة)
فقال: " فرضت " والفرضية لفظ صريح في الإيجاب.
وبما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم) .
وما ذكروه أصح، فإن الأدلة ظاهرة في إيجاب ذلك ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح القصر [لعلها: الإتمام] ، بل كان يتم [لعلها: يقصر] حتى ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود لما قيل له: (أن عثمان قد أتم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر بمنى ركعتين، ومع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) لكن مع ذلك فقد صلى أربعاً وقد قال: (الخلاف شر) . فالراجح فرضية القصر.
2 -
والمسألة الثانية: عند قوله: (من سافر سفراً مباحاً) :
- هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء، وأن ذلك إنما يشرع للمسافر سفراً مباحاً. ويدخل في ذلك السفر لنزهة أو نحوها، فإنه سفر مباح ويخرج من ذلك السفر المحرم، فمن سافر لتجارة محرمة أو فعل محرم، وكذلك المكروه من تكاثر ونحو ذلك فإنه لا يقصر بل يتم.
واستدلوا بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} قالوا: والباغي هنا هو الخارج على السلطان، والعادي هو العادي على المسلمين، فمن كان كذلك فلا يباح له الميتة بل تحظر عليه، قالوا: وكذلك غيرها من الرخص.
وقالوا: إن في مشروعية القصر له إعانة له على السفر المحرم أو المكروه، وهذا يناقض مقصود الشارع من التحريم أو الكراهية.
- وذهب الأحناف وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن تيمية: إلى أن هذه الرخصة تشمل المسافر العاصي في سفره كما تشمل المطيع، فضلاً عمن بينهما ممن سفره سفر مكروه أو مباح.
واستدلوا: بعمومات النصوص: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} وغيرها، فهذه ثابتة للمسافر مطلقاً سواء كان في سفره عاصياً أو مطيعاً.
قالوا: وأما الآية فإن التفسير الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وهو أن المراد بقوله:{غير باغ} في كونه يأكل الميتة مع إمكان الاستغناء عنها، و {لا عاد} في كونه يتجاوز ضرورته. وهذا التفسير أصح فيها لتعلقه بفعل المحرم نفسه، ولأن قوله:{فمن اضطر} عام في كل مسلم عاصياً كان أو مطيعاً وللعمومات المتقدم ذكرها.
* ثم أن كان خارجاً عادياً على المسلمين خارجاً عن إمامهم مؤذياً لهم، فإنه له حكم خاص لإهدار دمه، فكونه - على التسليم بالتفسير الأول، كونه - لا يرخص له بأكل الميتة ونحوها من الرخص التي فيها بقاء حياته؛ هذا لأنه حياته مهدرة بخلاف من سافر سفر معصية أو نحو ذلك فإن حياته ليست بمهدرة.
والراجح التفسير الثاني كما تقدم.
وهذا القول – أي الثاني – هو الراجح؛ لعمومات النصوص.
وأما كونه فيه إعانة: فإن هذا أمر مشروع ولا دخل له في كونه له إعانة على المعصية، فهي حسرة له هكذا في السفر، أما كونه عاصياً أو مطيعاً فإنه لا يعان على معصية أو ما يكره له، وأما هذا فهو حكم شرعي لا تعلق له بما تقدم بل قد يكون في ذلك إعانة له على فعل ما فرض عليه من إقامة الصلاة.
إذن الراجح مذهب الأحناف والظاهرية واختيار شيخ الإسلام.
المسألة الثالثة عند قوله: (أربعة برد) :
هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
1-
فذهب جمهور العلماء إلى هذا القول وأنه أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، فالأربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون المجموع ثمانية وأربعين ميلاً وهي تزيد على 80 كيلو متراً وهذا – كما ذكروا – تقريب لا تحديد.
واستدلوا: بما رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: (يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة إلا في أربعة برد من مكة إلى عسفان) والحديث لا يثبت بل هو ضعيف، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس.
لكن ثبت هذا من فعل ابن عباس وابن عمر – كما ثبت في البخاري معلقاً – ووصله البيهقي: (أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ستة عشر فرسخاً) والأثر صحيح.
فإذا سافر أربعة برد سواء كان ذلك يومان قاصدان كما كان في القديم أو أقل بساعة أو ساعتين فلا عبرة بالزمن في السفر بل العبرة بالمسافة.
وما ذكروه من أثر ابن عباس وابن عمر: قد ثبتت آثار تخالف هذا الأثر فلا يقال: إنهما لا يعلم لهما مخالف من الصحابة، فقد صح عن ابن عمر نفسه آثار تخالف ذلك، فمن ذلك:
في مصنف ابن أبي شيبة – أنه قال: (لو خرجت ميلاً لقصرت) وفيه: (إنه كان يقصر في ثلاثة أميال)، وفي مصنف عبد الرزاق:(أنه كان يقصر في ثلاثين ميلاً)، وفي مصنف ابن أبي شيبة:(أنه كان أدنى ما يقصر فيه خيبر يخرج لأرض له) وكان بين خيبر والمدينة نحو تسعين ميلاً، فالرواية مختلفة عن ابن عمر.
وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه: (أنه استأذن حذيفة – وكان في المدائن – أن يذهب إلى أهله فأذن له وشرط عليه ألا يقصر ولا يفطر، وكان بين المدائن والكوفة نيف وستون ميلاً) والأربعة برد 48 ميلاً، فهذا أثر يخالف.
كما أن السنة خالفت ذلك صراحة فقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر امرأة يوماً وليلة) الحديث، قال البخاري:(سمى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة سفراً) واليوم والليلة إنما يكون فيهما بردان أي 8 فراسخ، فإن الأربعة برد يومان تامان، واليوم والليل يكونان بردين.
وثبت في أبي داود ما هو أقل [من] ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة بريداً) فدل على أن السفر بريد.
وقد ثبت أن أهل مكة كانوا يقصرون مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، وكان بين منى ومكة نحو بريد.
لذا أنكر الموفق رحمه الله تعالى: هذا القول من جمهور العلماء وأنه يخالف السنة وظاهر القرآن، وأنه لا دليل عليه من نص ولا إجماع ولا قياس، وهو كما قال.
وذهب شيخ الإسلام وهو اختيار ابن القيم: إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، فما تعارف الناس أنه سفر فهو سفر، لكن هذا القول لم يتبين لي أنه قول منضبط ينضبط لسائر الناس في معرفة أن هذا سفر وهذا ليس بسفر والناس مضطريون في أعرافهم كما هو ظاهر.
وذهب الظاهرية إلى أن مرجع ذلك إلى اللغة، فإن الله عز وجل قد خاطب العرب في كتابه بالسفر، والسفر عندهم هو البروز عن دار الإقامة، فالسفر في اللغة هو الكشف والبروز، فالسفر من دار الإقامة هو البروز عنها فليس هناك إلا داران دار حضر ودار سفر.
فدار الحضر هي دار الإقامة، وأما خارجها فهو سفر، فمن برز عن دار الإقامة قصر.
قال ابن حزم: ميلاً؛ لأثر ابن عمر المتقدم.
وقال داود من الظاهرية: ثلاثة أميال؛ لأثر ابن عمر المتقدم الذي رواه ابن أبي شيبة، وهذا القول تدل عليه السنة.
فقد ثبت في مسلم أن أنس: سئل عن قصر الصلاة؟ فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة) وهنا شك من الراوي في قوله: (ثلاثة أميال أو فراسخ) وهو من شعبة.
واليقين أنه ثلاثة فراسخ وهو نحو تسعة أميال أي 16 كيلو متراً، ومع ذلك فليس هذا تحديداً وإنما فيه أخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين.
ويحتمل أن يكون ذلك ثلاثة أميال وهو أوفق للغة العرب لأن الثلاثة أميال غالباً ما تخرج عن حيِّز المدينة.
واستثنى الظاهرية من ذلك ما يتصل بالمدينة من بساتينها ونحو ذلك؛ لأن الصحابة كانوا يخرجون إلى البقيع وإلى أحد وقباء وكذا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت عنهم القصر وكل هذا متصل بدار الحاضرة، والسفر ليس من هذا القبيل وإنما هو البروز عن دار الإقامة وما اتصل بها، وهذا القول هو أظهر هذه الأقوال الثلاثة.
المسألة الرابعة: (قصر رباعية ركعتين)
خص ذلك بالرباعية، فيخرج من ذلك الثنائية وهي الفجر والثلاثية وهي المغرب، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر.
ويدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث عائشة المتقدم في فرضية صلاة السفر وفيه: (إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة) .
المسألة الخامسة: قوله: (إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
فإذا خرج من الحاضرة وما اتصل بها من عمران ونحو ذلك فإنه حينئذ يقصر، فبمجرد ما يخرج من الحاضرة كمطار الطائرات عندنا ونحو ذلك فإنه يقصر الصلاة في ذهابه وإيابه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فقيده الله بالضرب بالأرض، وهو يثبت بمجرد الخروج من الحاضرة أو خيام القوم.
وكذلك لا ينتهي من الضرب في الأرض حتى يدخلها.
وثبت هذا عن علي بن أبي طالب ولا يعلم له مخالف فقد ثبت عنه كما في البخاري معلقاً: أنه خرج فقصر الصلاة وهو يرى البيوت حتى رجع فقيل له: هذه الكوفة فقال: (لا حتى ندخلها) .
ومن هنا تبين لنا: أن حديث أنس بن مالك المتقدم: لا يحمل على أن المراد من ذلك أثناء خروجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف قوله ما ثبتت الشريعة بمثله من قول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف، وهو مذهب الجمهور، وهم يشرعون القصر بمجرد الخروج ولا يقيدونه بثلاثة أميال ولا بثلاثة فراسخ، والحديث المتقدم عن أنس قد قيده بثلاثة أميال أو فراسخ.
ثم إنه قد سئل عن قصر الصلاة فدل على أن المراد من ذلك المسافة التي يقصر فيها.
إذن: متى ما فارق قريته أو مدينته أو خيام قومه فإنه يقصر الصلاة حتى يرجع، ويستمر في القصر حتى يدخلها – وهو مذهب جمهور العلماء وهو ثابت عن علي ولا يعلم له مخالف.
فإن قيل: قد قال تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقيده الله بالخوف وقد أمن الناس؟
فالجواب: أنه ثبت في مسلم عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر عن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس فقال: " أني عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة الله تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ".
ويمكن أن يستدل بهذا على الإيجاب لقوله: " فاقبلوا " وظاهر الأمر الوجوب.
والحمد لله رب العالمين.
هنا ثلاث مسائل تتفرع عن المسألة السابقة وهي أن مسافة القصر أربعة بُرد:
المسألة الأولى: أن من شك في المسافة هل هي أربعة برد أم لا؟
فلا يقصر حتى يتيقن ذلك لأن الأصل – في المشهور من المذهب – عدم السفر، فإذا ثبت هذا فإنه لا يقصر حتى يتيقن أن البلدة التي يسافر إليها بعدها مسافة قصر.
وقد تقدم أن الراجح أنه متى ثبت كونه مسافراً فإنه يثبت بذلك القصر.
وما ذكره الحنابلة ينبني على القول الراجح، فإذا أراد أن يذهب إلى محل ولم يثبت له كونه سفراً فإنه لا يقصر، إن شك في هذا الموضع هل هو موضع سفر أم لا.
المسألة الثانية: أن من سافر ليترخيص في فطر أو قصر أو نحو ذلك:
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقصر. ولم أر دليلاً على هذه المسألة أي دليلاً صحيحاً.
لذا ذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الأحناف: إلى أنه يثبت له رخص السفر، لأنه مسافر فيدخل في عموم الأدلة الشرعية وإن كان ينهى عن ذلك لكنه يثبت كونه مسافراً متعلق به أحكام السفر من قصر أو فطر أو نحو ذلك.
فالراجح أن من سافر ليترخص أنه يثبت له أحكام السفر وإن كان ينهى عن ذلك.
والترخص أقوى ما يقال فيه: أنه معصية وقد تقدم أن من سافر سفر معصية فإن أحكام السفر تثبت له لعمومات الأدلة الشرعية.
المسألة الثالثة: فهي فيمن كان تائهاً في طريقه لم يثبت قصداً له:
فإنه لا يقصر في المشهور من المذهب، لأنه منتهى قصده لم يثبت كونه سفراً ولا يقصر حتى يثبت له أن منتهى قصده سفر.
يعني: أن من خرج ولم يقصد موضعاً يكون خروجه إليه سفراً ثم تاه فإنه لا يترخص بأحكام المسافرين، لأنه لا يعد مسافراً، وهذا إذا كان الموضع الذي قصده في الأصل ليس بسفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أحرم حضراً ثم سافر أو سفراً ثم أقام
…
أتم)
كأن يكون رجل في سفر فكبر تكبيرة الإحرام في حال كونه مسافراً فوصلت السفينة إلى بلدته – أي بلدة الإقامة – فإنه يتم صلاته.
والعكس كذلك: فلو أن رجلاً أحرم في حال الإقامة، كأن تكون السفينة في بلدته فخرجت ثم سافر أثناء الصلاة فإنه يتم صلاته كذلك.
وحكي في هاتين المسألتين الإجماع على أنه يتم.
أما المسألة الثانية: فظاهر أنه يتم لأنه قد عقد الصلاة في حال الإقامة فوجب إتمامها كذلك.
وأما المسألة الأولى: وهي فيما إذا أحرم مسافراً ثم أقام، قالوا فكذلك وقد حكي الإجماع على ذلك.
والدليل على ذلك – وهو دليل للمسألة الثانية كذلك قالوا: أنها صلاة اجتمع فيها الحضر والسفر فوجب أن يصلي على هيئة الحضر.
وهذا الدليل ظاهر في المسألة الثانية؛ لأنها قد انعقدت على أنها صلاة حضر، وأما في المسألة الأولى: فالترجيح بتقديم صلاة الحضر على صلاة السفر غير ظاهر، لأنه قد عقدها وهو مسافر فانعقدت على وجه السفر، فلم يلزمه إتمامها، ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً.
فإن كان الإجماع المتقدم صحيح ثابت فلا خلاف فيه، وإن لم يثبت الإجماع فهذا القول قوي أي أنه يصليها صلاة سفر لأنه قد عقدها مسافراً فانعقدت على وجه السفر وكونه يصل إلى دار الإقامة فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قال: (أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها)
أو ذكر صلاة سفر في حضر: كأن يتذكر مسافر أنه لم يصلي صلاة الظهر في الحضر. فإنه يصليها تماماً وهذا بالإجماع، لأن القضاء يحكى الأداء والواجب في القضاء أن يكون على هيئة الأداء، فقد لزمت في ذمته تماماً غير قصر وبقيت متعلقة بذمته وخرج ومنها على هذه الصورة فكان الواجب عليه أن يصليها تماماً.
أما إن سافر بعد دخول الوقت وقبل خروجه فإنه يصليها صلاة سفر، عند جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر إجماعاً.
ولكن عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يصليها صلاة حضر، لأنه قد وجبت عليه الصلاة حيث أذن، وقد أذن في الحضر فوجبت كذلك، لكن هذا القول ضعيف، لأن الصلاة واجب موسع فكل وقتها تجب فيه، والنظر هنا إلى حال الأداء فقد أداها في حال السفر فكانت صلاة سفر هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور وحكاه ابن المنذر إجماعاً كما تقدم.
(أو عكسها) : إذا ذكر في الحضر صلاة سفر:
كأن تكون عليه فائتة في السفر لم يذكرها إلا في الحضر فهنا قال: يجب عليه أن يصليها تماماً - هذا هو المشهور في المذهب -.
قالوا: لأن القصر رخصة فزال بزوال سببه، وليس هو السفر.
- وذهب الأحناف وهو قول لبعض الحنابلة: إلى أنه يصليها قصراً، وهو القول الراجح؛ لأن الصلاة قد وجبت عليه بخروج وقتها فتعلقت في ذمته على وجه القضاء، والقضاء يحكي الأداء، فلو أنه صلاها في السفر أداء لكانت قصراً لا تماماً، والقضاء يحكي الأداء.
فالراجح أنه يقصر؛ لأن هذه الصلاة تعلقت في ذمته على أنها قصر والقضاء يحكي الأداء، فالذي فاته إنما هو ركعتان لا أربع فلم يفته من الصلاة أربع ركعات وإنما فاته ركعتان والقضاء إنما يكون للشيء الفائت.
قال: (أو ائتم بمقيم)
يعني مسافر ائتم بمقيم سواء كان هذا الائتمام من أول الصلاة أو في أثنائها.
أما كونه من أول الصلاة: فصورته: رجل مسافر فكبر خلف مقيم وأدرك معه تكبيرة الإحرام.
وأما في أثنائها: كأن يكبر خلف إمام مسافر ثم يطرأ على المسافر عذر يقتضي الاستخلاف فيستخلف مقيماً.
فهاتان الصورتان كلاهما لمسألة واحدة وهي صلاة المسافر خلف المقيم فيجب أن يصلي تماماً لصلاة الإمام، وهذا باتفاق أهل العلم (والمراد: هنا المذاهب الأربعة) .
ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: أن ابن عباس رضي الله عنه قيل له: (إنا إذا صلينا في رحالنا – أي في حال السفر – صلينا ركعتين، وإذا صلينا معكم صلينا أربعاً؟ وكان ابن عباس من المكيين وكان يصلي تماماً " فقال: (سنة النبي صلى الله عليه وسلم) .
وهو ثابت من فعل ابن عمر رضي الله عنه كما في البيهقي بإسناد صحيح ولا يعلم لابن عمر مخالف، وهو كذلك السنة كما تقدم.
إلا أن الإمام مالك – وهو الراجح في هذه المسألة – يستثنى ما إذا فاته الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يصلي قصراً وقد تقدم الكلام على ذلك.
وخالف إسحاق رحمه الله تعالى – المشهور عند أهل العلم – فقال: إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه له أن يصلي قصراً؛ لأن الإقتداء لا يزيل هذا الحكم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر فإنه يتم صلاته بالإجماع، فكذلك هنا.
وهذا قياس يخالف النص ولعله لم تبلغه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (أو بمن يشك فيه)
هذه المسألة تنبني على هل تشترط النية في القصر أم لا؟
يعني: هل يشترط لمن أراد أن يصلي في السفر أن ينوي القصر أم لا؟
المشهور من المذهب – كما سيأتي –: أن ذلك فرض.
وقال بعض الحنابلة: لا يشترط ذلك، وهو مذهب الجمهور.
ولم يثبت عن الإمام أحمد نص يخالف هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن الاشتراط لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة نبيه ولا أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فلا يشترط له أن ينوي القصر كما لا يشترط له – في الحضر – أن ينوي الإتمام، لأن التمام هو صلاة الحاضرين، فكذلك في القصر لا يشترط له أن ينوي القصر؛ لأن القصر هو صلاة المسافرين، فلا دليل على اشتراط نية القصر.
فالأصل في السفر هو القصر كما أن الأصل في الحضر هو الإتمام، وكما أنه لا يشترط نية الإتمام في حال الحضر فكذلك لا يشترط نية القصر في حال السفر، فإن صلاة السفر ركعتان كما تقدم في الأدلة الصحيحة، وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنابلة فقالوا: أنه إذا أطلق فكبر ولم ينو فإنها تصرف إلى الأصل وهو التمام.
وهذا ليس بصحيح، فإن التمام أصل في صلاة الحاضرين وليس بأصل في صلاة المسافرين، لما تقدم من الأدلة كما في حديث عمر:(صلاة السفر ركعتان)
فالأصل في صلاة السفر القصر فلم تشترط النية، بل لو نوى الإتمام ثم رأى القصر فإنه يقصر ولا يؤثر فيه هذه النية، فالنية ليست بمؤثرة؛ لأن هذه هي السنة فصلاة السفر ركعتان.
وهذا لا يشكل على فرضيتها فيما تقدم ترجيحه.
وكذلك لا يشكل – في الحقيقة – على القول بمشروعيتها؛ لأنها قد شرعت ركعتان فلم تشترط فيها النية.
فهذه المسألة مبنية على ذلك.
فإذا ائتم بمن يشك فيه فلا يدري هل هو مسافر أم مقيم؟
فإنه يجب عليه الإتمام في المشهور من المذهب.
لكن استثنوا من ذلك: إذا كانت هناك غلبة ظن كأن يكون المسجد في طريق المسافرين أو أن يظهر على الإمام هيئة السفر أو نحو ذلك.
أو أن ينوي أنه أتم، أتم، وإن قصر، قصر، فيعلِّق صلاته بصلاة الإمام فيجوز.
لكن الصحيح في هذه المسائل كلها، أنه إذا صلى وراء إمام ولا يدري أهو مسافر أم مقيم، فإنه يصلي خلفه فإن أتم، أتم خلف. وأن قصر، قصر؛ لأن النية ليست بشرط.
قال: (أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها)
هذه مسألة غريبة.
صورتها: رجل أحرم بصلاة - يلزمه - في السفر يلزمه إتمامها، كأن يصلي خلف مقيم، فبطلت صلاته كأن يتذكر أنه محدث أو نحو ذلك ثم أراد أن يصلي وحده فهل يصلي قصراً أو تماماً؟
قال هنا: (أتم) فيجب عليه الإتمام، لكن هذا قول غريب؛ لأن وجوب إتمامها في الصلاة الأولى وهي الفاسدة الباطلة كان ذلك لتعلقها بصلاة الإمام فوجب إتمامها لكونه قد اقتدى بمقيم. وأما في الصلاة الأخرى فلا تعلق لها بشيء يوجب الإتمام. وهذا قول ضعيف.
- وقد ذهب الأحناف إلى خلاف هذا القول، والراجح ما ذهبوا إليه.
قال: (أو لم ينو القصر عند إحرامها)
تقدم هذا: وأن المشهور في المذهب وجوب نية القصر.
فلو أن رجلاً كبر في السفر وغاب عن ذهنه أنه مسافر فلم ينو القصر فيجب عليه الإتمام. وهذا ضعيف وهو مبني على اشتراط نية القصر، وهو قول ضعيف.
قال: (أو شك في نيته)
أي في الركعة الثانية شك هل نوى القصر أم لا؟
فيجب عليه أن يتم قالوا: ولو تذكر بعد ذلك، فمثلاً يبقى حائراً لحظات ثم تذكر أنه نوى القصر، فلو بقى لحظة حائراً فإنه يلزمه أن يصلي تماماً؛ لأنه قد بقى زمناً شاكاً في نيته، فوجب الإتمام؛ لأن من شك في نية فيجب عليه الإتمام، فتذكره بعد ذلك لا يغير من الحكم شيئاً بل يلزمه الإتمام.
وكل هذه الأقوال تنبني على شرطية نية القصر، وهو قول ضعيف، والقول الراجح هو عدم اشتراط ذلك كما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء.
مسألة:
رجل مسافر فدخل مسجداً في الطريق ووجد رجلاً يصلي فدخل معه وأدرك معه ركعة واحدة ولا يدري هل هو قد أتم صلاته فيتمها أم قصرها، فما الحكم؟
إن غلب على ظنه أحدهما فإنه يبني عليه وإلا فإنه يصلي قصراً، لأننا إنما فرضنا وشرعنا الإتمام له حيث ثبت له أن هذا مقيم، والأصل له أن يصلي مسافراً حتى يثبت له أن هذا الإمام مقيم؛ ولأنه إنما شرع ذلك في الأصل.
وإن كانت المسألة قد ثبت فيها بعض الأحكام تبعاً، إنما شرع ذلك لئلا يخالف الإمام، والمخالفة إنما تكون إذا سلم قبل سلام إمامه، وإن كان قد ثبت له في هذه المسألة تبعاً أنه وإن أدرك من الصلاة شيئاً وهو يعلم أنه مقيم أنه يتم، فهذا قد ثبت تبعاً للمسألة السابقة؛ ولاتباع صورة صلاة الإمام تماماً، لكن هنا لم يثبت له ذلك فيبقى على الأصل من كونه يشرع له أو يفرض أن يصلي قصراً.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أو نوى إقامته أكثر من أربعة أيام)
هذا في سياق من يجب عليه الإتمام، فإن هذه المسألة عطف على ما قبلها من المسائل.
فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أي صلاة إحدى وعشرين صلاة فإنه يتم، وإذا نوى أكثر من ذلك أتم الصلاة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة – في رواية لمسلم " إلى الحج " – فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة) .
قالوا: والثابت عنه في سياق حجته أنه دخل مكة في صبيحة اليوم الرابع وأنه خرج منها إلى منى في ضحى اليوم الثامن فهذه أربعة أيام.
قالوا: فعلى ذلك يقصر إن أقام أربعة أيام فإن زاد أتم.
قال المالكية والشافعية: إذا قام ثلاثة أيام فأقل قصر فإن أقام أكثر من ثلاثة أيام فإنه يتم.
واستدلوا: بهذا الحديث أيضاً ولم يحسبوا يومي الدخول والخروج لما في حسبهما من المشقة، فإن الاعتبار إنما يكون باليوم التام في حق المسافر، وأما بعض اليوم فإن فيه مشقة.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث: العلاء الحضرمي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً: أي ثلاثة أيام) .
قالوا: فهذا الحديث فيه أن الثلاثة أيام هي الإقامة.
- وذهب إسحاق بن راهويه: إلى أنها تسعة عشر يوماً.
واستدل: بما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) قال ابن عباس: (فنحن إذا أقمنا تسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا) .
والمقصود من كونه يتم من أول مكثه وإقامته.
ورد جمهور الفقهاء على هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعزم الإقامة بل كان عليه الصلاة والسلام ينوي الخروج غداً أو بعد حتى خرجت هذه المدة فكانت اتفاقاً، ونحن وأنتم نقول: إن من مكث في بلدة ما ولم يعزم إقامة فإنه يقصر أبداً – كما سيأتي -.
ورُدَّ هذا: بأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه أقام تسعة عشر يوماً بنية، ويؤيده القرائن:
() إن ذلك كان في فتح مكة كما في رواية لأبي داود: (وذلك في عام الفتح) فأقام فيها تلك المدة، ويبعد أن يكتفي بمدة أقل منها إذ مكة كانت محل أهل الشرك، وكان العرب يقتدون بهم في سلمهم وكفرهم حتى لما آمنوا وأسلموا، دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي مكة التي كان فيها صناديد الكفار فيبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نوى إقامة يوم أو يومين أو ثلاثة.
() والقرينة الأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم: يبعد أن يضعف في التقدير هذا الضعف من تسعة عشر يوماً إلى أربعة أو ثلاثة أيام فيقدر ثلاثة أيام أو أربعة، فتصل المدة إلى تسعة عشر يوماً.
- وذهب أهل الظاهر: إلى أنها عشرين يوماً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) لكن الحديث قد اختلف فيه علي: (يحيى بن أبي كثير) فرواه معمر عن يحيى موصولاً، ورواه الثقات عنه مرسلاً وهو الراجح كما رجح ذلك الدارقطني وغيره فهو مرسل، والمرسل ضعيف.
واعلم أن جمهور الفقهاء إنما حددوا مدة للإقامة والسفر – كما نبه على ذلك غير واحد – بناءً على أن الأصل في الإقامة هي ترك النقلة، فمتى ترك التنقل فأقام فهو مقيم وليس بمسافر، وإنما السفر هو التنقل.
قالوا: ولو لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حال مكثه لقلنا إنه في حال المكث لا يقصر كما هو مذهب الحسن البصري وهو مروي عن عائشة أو نحوه.
لكنه قصر عليه الصلاة والسلام فرأينا أن أكثر مدة لقصره هي كذا. فالقائلون أنها أربعة أيام قالوا: هي أكثر مدة قصر فيها وتأولوا الأحاديث الأخر – وكذلك الباقين.
لكن هذا المنطلق فيه ضعف فيما يظهر. ومحل ضعفه أن يقال: إن ما ذكرتموه من أن السفر ينقطع بالإقامة والمكث وترك النقلة قد عارضه الأحاديث الثابتة وكون النبي صلى الله عليه وسلم يقصر يوماً أو يومين أو ثلاثة باتفاقنا.
يقصر في حال كونه ماكثاً تاركاً للنقلة، يدل على أن ترك النقلة ليست منافياً للسفر، فإنه وإن ترك النقلة فيبقى مسافراً بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قد قصر وهو تارك للنقلة.
فدل على أن مجرد المكث وترك النقلة أثناء السفر لا ينافي السفر، ولا يخرج المسافر عن السفر إلى الإقامة بل يبقى مسافراً، وإن ترك التنقل ومكث ما لم ينو إقامة يثبت بها حكم الإقامة.
- ولذا ذهب شيخ الإسلام وهو مذهب طائفة من أهل العلم إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، وذلك لأن الشرع لم يثبت فيه تحديد لهذه المسألة واللغة أيضاً.
بخلاف المسألة السابقة فإنا نرى أن اللغة قد حددت السفر بأنه من حيث الانتقال من بلدة إلى أخرى.
أما كونه من حيث المدة يكون مسافراً أو مقيماً فليس للغة بحث في هذا، فيبقى العرف - كما هو اختيار شيخ الإسلام - ولو بقى شهوراً. هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه، وهو مروي عن مسروق من التابعين، وهو قول قوى، وهو أظهر الأقوال السابقة لأن اللغة العربية والشرع لم يثبت فيهما تحديد للمدة التي يثبت بها كون الإنسان مسافراً أو مقيماً فوجب الرجوع إلى العرف كما هو مقرر في أصول الفقه.
وقد ثبت في سنن البيهقي يإسناد صحيح وأن ابن عمر: (أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) .
ولا يصح أن يقال: أنه لم يعزم تلك المدة، فإن مثل هذه المدة قد حبسه بها الثلج، فيستبعد أن يكون قد ظن أن يذهب بيومين أو ثلاثة أو أربعة فذلك في الغالب في أول الشتاء، لكونه قد استمر هذه المدة وهي ستة أشهر. فيبعد أن يظن ذهابه في مدة يسيره.
ثم إنه – رضي الله عنه – لما سئل عن القصر في ذي المجاز – كما في المسند بإسناد حسن – وهو سوق يجتمع فيه ويباع فيه ويمكث فيه عشرين يوماً أو خمسة عشر يوماً؟ فقال: " يقصر الصلاة به " وقال: " إني كنت بأذربيجان فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يصلي ركعتين ركعتين ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فهنا استدل بفعل أصحابه بأذربيجان وأنهم قد مكثوا شهرين أو أربعة أشهر – كما في مسند أحمد، وفي الرواية المتقدمة (ستة أشهر) ، فاستدل بهذا على القصر عشرين أو خمسة عشر يوماً، فدل على أنه لم يكن ينو المكث المدة التي تقدم ذكرها عند جمهور الفقهاء.
ويدل على أنه استنبط ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفيه أنه رأى ذلك سفراً، وأن إقامته بأذربيجان شهرين أو أربعة كما في رواية أحمد، وفي رواية البيهقي " ستة أشهر ": أن ذلك سفر، وإن مكثهم بذي المجاز عشرين أو خمسة عشر يوماً سفر وأن في القصر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقوله يخالف قول ابن عباس،
ومأخذ ابن عباس تقدم لكم وما فيه من النظر، فهو مخالف بقول ابن عمر، وهذا القول أظهر وأن مرجع ذلك إلى العرف والله أعلم.
قال: (أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم)
ملاح في السفينة أو سائق أجرة – كما في هذه الأزمنة - أو في الأزمنة القديمة: الساعي أو البريد ونحو ذلك.
فمن كان معه أهله وهو ملاح ولا ينوى الإقامة ببلد فيلزمه أن يتم – وقد تقدم التنبيه على هذه المسألة –.
قالوا: هو وإن كان مسافراً لكن سفره دائم لا ينقطع فلم يترخص برخص السفر؛ لأن سفره دائم لا ينقطع.
وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن أحمد واختارها الموفق: إلى أنه يثبت له القصر وغيره من رخص السفر.
وكونه ذا سفر لا ينقطع لا يعني ذلك ألا يكون له حكم المسافرين؛ لدخوله في عمومات النصوص، بل هو أشق – كما قال ذلك الموفق -.
فالراجح: أن من كان سفره دائم لا ينقطع كسائق سفينة ونحوه أنه يقصر لكونه مسافر، ولأن ما كان منه لا يعتبر إقامة بل سفراً، وكون سفره الغالب فيه أنه لا ينقطع هذا لا يؤثر في الحكم، فإنه مسافر داخل في عموم المسافرين بل هو أشق منهم فكان أحق بالرخصة المتقدمة.
* ومن كان له أهل أو مال في بلد من البلاد وإن لم يتخذها دار إقامة:
- فالمشهور عند الحنابلة: أنه يتم فيها سواء كان له أهل فقط أو مال فقط، فمن كان له بستان في بلدة أو ماشية فإنه يتم.
واستدلوا: بما رواه أحمد من حديث عثمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم) .
وبما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: (فإذا قدمت إلى بلد لك فيها أهل أو ماشية فأتم) رواه الشافعي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
- ذهب الشافعية وهو مذهب ابن المنذر: إلى أن من كان كذلك فإنه يقصر؛ لأنه في حكم المسافرين ما لم ينو الإقامة، فما دام لم ينو الإقامة ولم يتأهل فيها تأهلاً تاماً فإنه مسافر وإن كان له فيها أهل أو مال.
قالوا: وأما الحديث الذي ذكرتموه، فإسناده ضعيف منقطع.
وأما أثر ابن عباس: فإنه مخالف، فإن الصحابة كان لهم أموال في مكة وكانوا يقصرون فيها وأنكروا على عثمان القصر [لعلها: الإتمام] ، وتقدم أثر ابن عمر في قصره في خيبر وكان له أرض فيها.
فهي آثار تخالف ما روى عن ابن عباس، فهو رأي له قد خولف فيه فلم يحتج به.
فالراجح مذهب أهل القول الثاني: أن من كان له أهل أو مال في بلدة فذهب إليها ولم ينو إقامة فإنه يقصر لأنه مسافر.
أما إذا تأهل فيها تأهلاً تاماً فأقام فيها الإقامة التي ينتفي بها حكم السفر فإنه يكون في حكم المقيمين ولا مانع أن يكون له بلدتان فأكثر متى ما ثبتت الإقامة.
فإذا كان له في هذه البلدة أشهر يمكث فيها وفي البلدة الأخرى بقية السنة فإنه يعتبر مقيماً في البلدتين؛ لأنه قد تأهل تأهلاً تاماً واتخذ كلاً منهما سكنى له فكان له حكم المقيمين لا المسافرين.
قال: (وإن كان له طريقان فسلك أبعد هما)
وكان أقصرهما لا يثبت به حكم السفر، فسلك أبعد هما فإنه يثبت له حكم المسافرين، وإن كان لو سلك أقصرهما لم يثبت له ذلك.
قالوا: لأن سلوكه الأبعد فيه ترك لما كان سلوكه أولى، ولا يكون ذلك إلا لأن سلوك ذلك مظنة خوف أو مشقة، فهذا طريق شاق أو فيه مخاوف فتركه وسلك الطريق الآخر غيره، فكان الطريق الأبعد هو الطريق الأصلي لهذه البلدة لأنه آمن وسالم من المتاعب.
- وقال بعض الحنابلة: يستثنى من ذلك ما ذكرتموه فيما إذا كان ذلك مظنة الخوف أو المشقة.
أما إذا لم يكن ذلك فلا. وهذا أظهر؛ لأنا إذا قلنا بخلاف ذلك فإنه يقتضي أن يكون اثنان قد أتيا من بلد واحدة وأحدهما له حكم السفر والآخر لا، مع أن [من] له حكم السفر قد اتخذ طريقاً خلاف الأولى، فمثل هذا ضعيف في النظر.
أما إذا كان الطريق الآخر فيه مخاوف ومشاق فإنه يكون الطريق الأصلي للبلدة هو هذا الطريق الآمن السالم من المتاعب.
فحينئذ يثبت في سلوكه السفر وإن كان غيره أقرب منه لمشقة سلوكه وللمخاوف فيه.
فالراجح: أنه إذا كان هناك معنى لسلوك الأبعد لكون الأقرب فيه مخاوف أو مشاق فسلك الأبعد فإنه يقصر الصلاة.
قال: (أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر)
رجل مسافر فذكر أنه ترك صلاة في سفر آخر فإنه يصليها قصراً؛ لأنه قد فعلها في السفر وقد وجبت في السفر فلا معنى لقضائها تماماً.
ثم إن القاعدة السابقة " القضاء يحكي الأداء " تفيد هذا.
لكن المذهب لا يقول بهذه القاعدة في المسألة السابقة فلم يستدل به على هذه المسألة لعدم التناقض.
أما على الراجح فإنه يستدل بها.
أما دليلهم هم فإنهم قالوا: إنها وجبت عليه فعلها في حال السفر فكانت صلاة سفر.
قال: (وإن حبس ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة، قصر أبداً)
رجل حبس ظلماً أو حبسه مطر أو ثلج ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة من الحوائج بلا نية إقامة، وظن أن إقامته أنها يكفيها أربعة أيام احتمالاً، فيحتمل أنها تنتهي في أربعة أيام وقد تزيد فإنه يقصر.
إذن: إذا أقام لقضاء حاجة فله حالان:
1-
الأولى: أن يعلم أنه لا يقضي حاجته إلا بعد أربعة أيام فيحتاج للمكث في هذه البلدة أكثر من أربعة أيام، أو يظن أنه يحتاج أربعة أيام وإن كان ربما قضاها قبل ذلك، فإنه حينئذ يجب عليه الإتمام.
2-
الثاني: أن يظن أنها تحتاج أربعة أيام، أو يعلم ذلك فإنه يقصر، ولو أقام أبداً. وهذا مذهب جماهير العلماء وحكاه الترمذي وابن المنذر إجماعاً.
إلا أن الأصح عند الشافعية خلاف ذلك، وحدوده في الأصح عندهم بثمانية عشر يوماً، وهو خلاف مذهب عامة أهل العلم.
والراجح مذهب جماهير العلماء؛ لأنه لم ينو إقامة فلا يكون في حكم المقيمين.
واستدلوا: بأثر ابن عمر، لكن تقدم أنه لا يستدل به عليها.
لكن دليلها ما تقدم وأنه مسافر وليس مقيم؛ لأنه لم ينو إقامة فلم يكن مقيماً، فلو بقى ما بقى فإنه في حكم المسافر، وحكاه ابن المنذر والترمذي إجماعاً.
فإن ثبت أن الشافعي خالف في هذه المسألة، فإن الإجماع منقوض.
ومع أن المسألة تحتاج إلى بحث عن كلام الشافعي لكني استبعد ذلك على الشافعي مع أن ابن المنذر من أعلم الناس بمذهبه ومع ذلك حكى الإجماع في هذه المسألة.
فالظن أن هذا مذهبٌ لأصحابه، وذلك لا ينقض الإجماع.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما في سفر قصر) .
هذا فصل في الكلام في الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وهما الظهران، والمغرب والعشاء وهما العشاءان من باب التغليب.
وقد أجمع العلماء على أن الجمع لا يشرع بين غيرهما من الصلوات، فلا جمع بين عصر ومغرب، ولا عشاء وصبح، ولا صبح وظهر، فهذا بالإجماع لا يصح فيه الجمع.
فيجوز الجمع في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً، فتقديماً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء في وقت المغرب، وتأخيراً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، أو المغرب والعشاء في وقت العشاء.
(في سفر قصر) : فيجوز الجمع بين الصلوات في السفر الذي يصح فيه القصر وقد تقدم الكلام عليه.
دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب) قال في البلوغ: " وفي رواية الحاكم في الأربعين بالإسناد الصحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) ".
وروى الإسماعيلي نحوه – كما في الفتح – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا كان في سفر فارتحل بعد أن زالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) فهذا الحديث يدل على ثبوت الجمع في السفر.
وثبت في مسلم عن معاذ بن جبل قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) .
وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وصححه من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت العصر، وإذا ارتحل بعد أن زاغت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت الظهر، وهكذا المغرب والعشاء) .
فهذه أحاديث تدل على ثبوت الجمع في السفر، وهي حجة على من أنكر ذلك من الأحناف في تخصيصهم الجمع بعرفة ومزدلفة.
قالوا: لأن الأحاديث في المواقيت متواترة فلا تخصص بذلك.
لكن صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبوتها يخصص به المتواتر كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
بل الأحاديث متواترة في أصل الجمع في السفر أو مستفيضة في ذلك، وحينئذ قوله:(يجوز) ، ظاهره أن ذلك مباح وليس بمستحب.
وهو المشهور في المذهب قالوا: وتركه أفضل.
وعن الإمام أحمد: أن الجمع في السفر أفضل، وهذا القول أرجح في موضع، والأول أرجح في موضع آخر.
أما كون الثاني أرجح، فهو في موضع الارتحال حيث جد به السير.
فالمستحب له الجمع لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ومداومته على هذا الفعل تدل على أنه هو المستحب.
وأما إذا كان نازلاً فإن المشهور من فعله – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يصلي الصلاة في وقتها كما صح ذلك في حجته في صلاته في منى، فإنه كان نازلاً في منى وكان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع ولم يصح عنه أنه جمع في نزوله إلا ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح – وهو دليل الجواز – عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم:(أخر الصلاة في غزوة تبوك يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً) .
لكن الذي كان يداوم عليه – صلى الله عليه وسلم – هو الجمع حيث جد به السير، فإن نزل فإنه كان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع إلا في أحوال نادرة كما تقدم في حديث معاذ الدال على جواز الجمع في حال النزول.
قال: (والمريض يلحقه بتركه مشقة)
فالمريض يجوز له الجمع إن كان في صلاته الصلوات في وقتها مشقة عليه، لأن الشريعة قد أتت بنفي الحرج، وقد قال ابن عباس – كما في الصحيحين – (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر) وفي مسلم (بالمدينة من غير خوف ولا مطر فسئل عن ذلك فقال: أراد ألا يحرج أمته) .
فدل أنه حيث وقع الحرج فإنه يجوز له أن يجمع.
وقد وردت السنة بالجمع للمستاحضة كما ثبت هذا في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي، قال الإمام أحمد:" ومثل ذلك المرضع التي يشق عليها أن تغسل ثوبها لكل صلاة " أي من نجاسة الطفل فيجوز لها الجمع للحرج، وهذا واضح في مثل الشتاء حيث يشق ذلك عليها.
ومثل ذلك: حيث خاف على نفسه أو أهله أو ماله – كما تقدم – في العذر في ترك صلاة الجماعة.
وهذا هو المشهور في المذهب – أي الجمع للمريض – ونص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
قال: (وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو وحل)
فإذا كان المطر يبل الثياب وحينئذ تحصل المشقة، فلا تحصل المشقة في المطر القليل أو الطل الذي لا يثبت بمثله أذى.
أما الذي يبل الثياب وهو الذي يثبت بمثله الأذى فإنه يجوز الجمع فيه بين العشاءين.
واستدلوا: بما في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم)، وثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عمر بن عبد العزيز: (أنه كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر)، وأن سعيد بن المسيب وعروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معه ولا ينكرون ذلك قالوا: فكان ذلك إجماعاً.
وظاهر قوله: (بين العشاءين) أنه لا يجمع بين الظهر والعصر في المطر – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
قالوا: لعددم وروده كما ورد هذا في المغرب والعشاء؛ ولأنه لا يقاس مطر النهار على مطر الليل، لأن المطر في الليل يكون في الظلمة فتكون المشقة أعظم، كما أنه مظنة للبرد ونحوها فكانت المشقة فيه أظهر فلا يقاس هذا على هذا لوجود الفارق.
- وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب الشافعية: إلى جواز الجمع – في المطر – بين الظهر والعصر.
قالوا: لقول ابن عباس: (من غير خوف ولا مطر) فدل على أن المطر عذر يجمع له، وقال:(أراد ألا يحرج أمته) فالعلة والمناط إنما هو الحرج، والحرج ثابت بالمطر في النهار كما هو ثابت بالمطر في الليل.
وكون المطر في الليل أشق من المطر في النهار لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في المطر في النهار، والحكم إنما علق بالمشقة فمتى ثبتت المشقة فإنه يثبت الحكم، وإن كان هناك ما هو أشق، فكون مطر الليل أشق للظلمة ونحوها لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في النهار فالحكم إنما يعلق لوجود الحرج والمشقة فمتى ثبت ذلك جاز.
وقد تقدم أثر ابن عباس في حديث (ألا صلوا في رحالكم) في البرد الشديد فلا فرق فيه بين الليل والنهار. فالراجح مذهب الشافعية وهو اختيار أبي الخطاب.
ومثل ذلك: الوحل لذا قال هنا: (ووَحل) والوحل أشق من المطر الذي يبل الثياب فكانت الرخصة فيه أولى، وقد تقدم في أثر ابن عباس في قوله:(وكرهت أن أخرجكم في الطين والدحض) .
فهذا يدل على أن متى ثبت ذلك فهذا عذر في الجمعة في حضورها جماعة ومثلها سائر الصلوات، وكذلك في الجمع لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس:(لئلا يحرج أمته) والخروج في حال الوحل والطين الزلق فيه حرج ومشقة.
قال: (وريح شديدة باردة)
كذلك إذا كانت الريح شديدة باردة يقع الحرج في أن يصلي الناس الصلوات في وقتها فيجوز الجمع – هذا هو المشهور في المذهب –.
والأدلة ظاهرة فيه لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس – كما تقدم -:(لئلا يحرج أمته) وهذا من جنس العذر في المطر والدحض ونحو ذلك.
والظاهر كما تقدم – أن يقيَّد هذا بألا يكون مما ألفته تلك البلاد، لأن الجمع فيما يكون مألوفاً يؤدي ذلك إلى التفريط في حضور الجماعات – في صلاة الصلوات في وقتها –.
فالمراد ما يقع به الحرج وذلك إنما يكون متى لم يؤلف، وأما من وقع عليه الحرج فلا بأس أن يصلي في بيته لوقوع الحرج عليه.
إذن: الريح الباردة الشديدة التي لم تجر العادة لأهل تلك البلدة بمثلها وخروجهم مع وجودها يُلحقهم حرجاً ومشقة، يجوز لهم أن يجمعوا بين الصلوات فيها.
قال: (ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقُهُ تحت ساباط)
الساباط: هو ما كان يوضع في الدور في السابق – على السقف، فيوضع على الدور بحيث تكون الطرق مظللة ويكون مظللاً عن المطر نحوه.
فلو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط فيجوز له الجمع.
قالوا: لأن الرخص العامة كالسفر وبيع السلم تثبت وإن انتفت المشقة أو الحرج عن شخص ما، فإن الحكم يثبت له حيث ثبت له غيره.
وهذا ظاهر في الشريعة فقد أباحت القصر في السفر، والأصل في ذلك المشقة ولو انتفت المشقة عن بعض المسافرين فإن الحكم يبقى حقاً لهم، ومثله بيع السلم فإنه إنما استثنى من البيع المحرم – لحاجة الناس إليه – ودخل في ذلك الأغنياء وغيرهم ممن ليس لهم حاجة إلى تعاطي هذه الصورة من البيع.
فمتى كانت الرخصة عامة فإن حكمها يثبت مطلقاً حتى للشخص الذي لا تقع فيه العلة التي هي باعث الحكم الشرعي، وهذا ظاهر.
قال بعض الحنابلة: لا يثبت له هذا الحكم؛ لأن الحكم علق بالمشقة والمشقة منتفية عنه فليس له أن يترخص بذلك.
والأظهر القول الأول؛ لما تقدم من أن الرخص العامة إذا ثبتت في حق عموم المكلفين فإنها تشمل كل مكلف وإن كان في شخصه قد انتفت منه العلة التي من أجلها شرع الحكم، كما في السلم والسفر ونحوه، وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم.
قال: (والأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير)
فالأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير، وهو اختيار شيخ الإسلام.
وهو ظاهر فإن الجمع إنما شرع لنفي الحرج، وفي كونه يفعل الأرفق به تمام لرفع الحرج.
وكوننا نحدد له شيئاً من الاثنين فإن في ذلك ما ينافي تمام توسع الأمر ورفع الحرج فيه، فكان الأولى أن يقال: افعل الأرفق بك؛ لأن الحكم شرع لرفع الحرج عنه، فمتى كان الحرج رفعه أتم وأظهر فإن هذا الأفضل في حقه.
وهذا ما دلت عليه السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم بأن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس استمر حتى يأتي وقت الصلاة الثانية ثم ينزل فيصلي الظهر والعصر تأخيراً) ؛ لأن للمكلف أن ينزل في الصلاة الأخرى، كما إنه إذا أراد أن يسافر وقد زاغت الشمس فإن الأرفق فيه أن يصلي الصلاتين ثم يرتحل وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
مسألة:
اختار شيخ الإسلام وهو مذهب ابن سيرين وابن المنذر: أن الجمع جائز مطلقاً عند الحاجة إليه من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة. فمتى احتاج إليه ولو كان ذلك لمصلحة دينية كاجتماع ناس لخطبة أو لأمر ما جاز ذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة.
ودليله حديث ابن عباس: فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر) وقال ابن عباس: (أراد ألا يحرج أمته) وهكذا كان فعله رضي الله عنه – فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: (خطبنا ابن عباس بالبصرة بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقيل: الصلاة الصلاة فقال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء) قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فسألت أبا هريرة فصدَّق مقالته.
وقد فعل هذا ابن عباس لمصلحة اجتماع الناس وتفرقهم وكان يخشى أن يتفرقوا عن سماع الحق الذي يريد أن يبينه، وهي مصلحة شرعية، ولعلها فيما كان يدور في الأمة من الخلاف بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فإن قيل: فلعله جمع صوري؟
فالجواب: هذا ضعيف من أوجه:
منها: أن عبد الله بن شقيق لا يمكن أن يخفى عليه جواز الجمع الصور والمراد به: أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يجلس حتى إذا دخل وقت الأخرى قام فصلاها، هذا جاز بإجماع المسلمين وهو واضح لعامة الناس فضلاً عن علمائهم فيبعد أن يحيك هذا في صدر مثل عبد الله بن شقيق وهو من علماء المسلمين فدل على أنه ليس المراد من ذلك الجمع الصوري.
وكذلك ابن عباس: ما كان يحتاج تبيين ذلك والناس يعلمون أنه يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة – أي المغرب – وإن بدت النجوم ما لم يغب الشفق.
ويدل عليه ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح: " أنه ذكر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الأولى " أي الظهر " والعصر ثمان سجدات " أي ركعات " ليس بينهما شيء " أي ليس بينهما انتظار، فليس جمعاً صوري.
فإن قيل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً كما قال ذلك بعض أهل العلم والمرض عذر، فإنه نفى الخوف والمطر والسفر فبقى المرض؟
فالجواب: أن هذا ضعيف؛ لأن المرض عذر للشخص نفسه، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، والعذر حيث كان كذلك إنما يكون مختصاً بالشخص نفسه.
إذن: ما ذهب إليه أهل هذا القول راجح لكن لا يتساهل بهذه المسألة، فقد ثبت عند سفيان الثوري في جامعه وقد ذكره شيخ الإسلام – والأثر صحيح – عن عمر قال:(الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر) ورواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح مرفوعاً بل هو موقوف على عمر.
قال: (فإن جمع في وقت الأولى اشتراط نية الجمع عند إحرامها ولا يفرِّق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما، وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى)
هذه شروط ثلاثة لمن أراد أن يجمع جمع تقديم:
نية الجمع عند إحرامها – أي الأولى –.
الموالاة.
أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى والثانية وسلام الأولى.
فالشرط الأول: (اشتراط نية الجمع عند إحرامها) :
فيجب إذا كبر للأولى أن ينوي الجمع، فلو لم يفعل، كأن ينزل المطر مثلاً وهو يصلي المغرب فلا يصح الجمع؛ لأنه يشترط أن يكون قد نوى الجمع عند افتتاح الأولى وهو لم ينوه.
وذهب الحنابلة في الوجه الثاني عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن نية الجمع ليست بشرط، وأن هذا القول لا دليل عليه – كما قال شيخ الإسلام – ومثل هذا ينبغي أن يشتهر عنه حيث كان شرطاً، وترك البيان عند الحاجة إليه لا يجوز وهو ممتنع في الشريعة، فيمتنع أن تكون النية للجمع شرطاً ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته فلا ينقل ذلك عنه لا بإسناد صحيح ولا حسن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه.
وهذا القول هو الراجح – وأن نية الجمع ليست بشرط لأنه لا دليل على ذلك – فهذا الشرط غير صحيح.
الثاني: (ولا يفرق بينهما)
فالموالاة واجبة قالوا: لأن لفظ الجمع يقتضي الموالاة وعدم المفارقة، والاتصال، فوجب أن تكون الصلاتان متصلتين ببعضهما وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته التي جمع فيها.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك ليس بشرط، وهو اختيار شيخ الإسلام،وهو القول الراجح.
لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الموالاة لا يقتضي الإيجاب.
وأما كونهما يثبت فيهما الجمع، فإن الجمع لا يقتضي إلا الجمع بينهما في الوقت نفسه، فالمراد من قولنا: جمع أن كليهما صليا في وقت إحداهما، وهذا هو الجمع المقصود من صلاة الصلاتين في وقت إحداهما.
وأما كونهما يتصلان أو يفترقان فإن هذا لا يقتضيه لفظ الجمع.
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب ولا معنى يقتضي إيجاب ذلك. وهذا القول الراجح وأنه ليس بشرط.
وعلى المذهب: إذا حدث بينهما فارق: فإما أن يكون يسيراً عرفاً أو كثيراً عرفاً.
فإن كان يسيراً عرفاً لم يضر، ومثّل له بإقامة ووضوء خفيف. وإن كان كثيراً ضر، ومثّل له بصلاة راتبة بينهما.
فإذن: الفارق مرجعه إلى العرف فإن كان كثيراً فإنه يضر ولا يصح الجمع، بل ينتظر ويصلي الصلاة في وقتها.
أما الشرط الثالث فقال: (وأن يكون العذر موجوداً) العذر كالمطر ونحوه (عند افتتاحهما) أي الأولى والثانية (وسلام الأولى) :
ونازع في قوله: (وسلام الأولى) ابن عقيل من الحنابلة وقال: " هذا لا أثر له "، وهذا هو الظاهر.
فإنه لا أثر له فكون المطر يستمر نازلاً عند افتتاح الأولى فهذا لنية الجمع كما تقدم، وعند افتتاح الثانية فهذا لإثبات العذر في إجازة الجمع.
أما قضية سلام الأولى فإن هذا غير مؤثر وهو كما قال.
ويقول: كذلك افتتاح الأولى، فإنه إنما اشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى لاشتراط نية الجمع، وتقدم أن نية الجمع ليست بشرط وعليه فلا يشترط ذلك، فلو لم ينزل المطر إلا بعد سلامهم من المغرب – مثلاً – فإنه يجوز لهم الجمع خلافاً للمشهور من المذهب، لأن اشتراط العذر في الصلاة الأولى هذا لا أثر له، فالصلاة الأولى إنما صليت في وقتها والعذر إنما هو للصلاة الثانية لتضم إلى الصلاة الأولى لوجود العذر، ولا أثر للصلاة الأولى مطلقاً لا في افتتاحها ولا سلامها.
قال: (وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى)
هذه شروط جمع التأخير.
قال: (اشتراط نية الجمع في وقت الأولى) هذا شرط صحيح ظاهر؛ لأنه إن لم ينو الجمع في وقت الأولى، فإن ذلك يكون من باب القضاء.
رجل في سفر فدخل عليه وقت صلاة الظهر حتى خرج وقتها ولم ينو الجمع فدخل وقت الثانية فإن هذا لا يكون من باب الجمع لأن هذا التأخير منه لغير نية الجمع وحينئذ يكون ذلك من باب القضاء لا الأداء، فإنه مفرط في إخراج الصلاة عن وقتها من غير أن ينوي الجمع تأخيراً شرعياً؛ لأن الواجب عليه أن يصلي الصلاة في وقتها، وحيث صلاها خارج وقتها فهذا من باب القضاء وليس له عذر في أن يؤخرها عن وقتها إلا إذا كان ناوياً الجمع، فإن نوى جاز له ذلك.
قال: (إن لم يضق عن فعلها)
لأنه إذا أخرها ولم ينو الجمع حتى ضاق وقتها عنها فإنه قد فعل أمراً محرماً، وقد تقدم البحث في هذه المسألة.
قال: (واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية)
هذا هو الشرط الثاني: وهو استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.
فمثلاً: أذن الظهر وهو في سفر، وأرد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر في وقت العصر لكنه قدم إلى البلد وقد بقي وقت لأذان العصر، فما زالت في وقت الظهر، فلا يجوز أن ينتظر فيؤخر صلاة الظهر فيؤخرها مع العصر؛ ذلك لأن العذر قد زال بزوال المقتضي، وزوال السبب يمنع من الجمع.
وكذلك من زال مرضه: فمثلاً مريض أراد أن يؤخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء فزال مرضه أثناء وقت المغرب فإنه لا يجوز له الجمع لزوال عذره، وهو السبب المقتضي للجمع.
إذن: عندنا شرطان في جواز جمع التأخير:
أن ينوي الجمع في أثناء وقت الأولى.
ألا يزول العذر إلا وقد خرج وقت الأولى.
وقد قال عمر: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) .
قال في الأنصاف: " بلا نزاع بين أهل العلم "، فلا نزاع في هذه المسألة.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
في الكلام على صلاة الخوف حكماً وصفة ومسائل.
والمراد بصلاة الخوف: هي الصلاة المكتوبة عند الخوف وليس المراد بها أنها يشرع عند الخوف كصلاة الاستسقاء تشرع عند طلب السقيا. وإنما المراد الصلاة المكتوبة كيف تصلي عند الخوف.
واعلم أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الثابت في القرآن في باب صلاة الخوف إنما كان في الخوف من الكفار عند القتال وقاس عليه أهل العلم: كل خوف جائز كالخوف من ظالم أو سبع أو سيل أو نحو ذلك.
ولو كان الخوف في قتال ليس مع الكفار كقتال أهل بدعة أو بغي ونحو ذلك فإن هذا حيث ثبت الخوف فيه تشرع عنده صلاة الخوف.
أما إن كان القتال قتالاً محرماً فإنه لا يرخص له، وحكاه النووي إجماعاً، كالخارج على إمام أو المعتدي على المسلمين أو نحو ذلك وهو ظاهر، وليس كالمسألة السابقة، فإن هنا إعانة ظاهرة، فإن كونه يصلي الصلاة على راحلته كصلاة الخائف – كما سيأتي تفصيله على مراتبها - فإن في ذلك إعانة له على هربه أو تقوية له، وفي هذا ما ينافي مقصود الشارع من إضعافه فلم يرخص له في ذلك.
إذن: القياس يكون حيث ثبت الخوف في أمر مشروع كالقتال في سبيل الله أو في أمر مباح كالهرب من سيل أو سبع أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (صلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة)
فهي ثابتة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها.
وهو أيضاً – أي أصل صلاة الخوف – ثابت في القرآن في قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآية فإنها في صلاة الخوف وكذلك قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} فهي أيضاً في صلاة الخوف.
وليس هذا مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم خلافاً لمن زعم ذلك في قوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ....} لأن ما كان ثابتاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت لأمته إلا أن يدل دليل على التخصيص.
ولفعل الصحابة بعده كما صح ذلك عن طائفة منهم، وهو مذهب عامة العلماء.
وقد صحت صلاة الخوف بصفات عدة، ذكر الإمام أحمد أنها ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بستة أوجه أو سبعة أوجه كلها ثابتة جائزة، قال الإمام أحمد: (فمن ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره " وسيأتي ذكره وصفة الصلاة فيه.
ومقتضى كلام الإمام أحمد – كما قال ذلك الموفق وصاحب الفروع – خلافاً للمشهور عند الحنابلة – مقتضى كلامه: صحة صلاة الخوف ركعة؛ لأنها من الأوجه الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قول ابن عباس ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:(وصلاة الخوف ركعة) رواه مسلم.
وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا) .
وهذا في الحضر والسفر، ومقتضى كلام الإمام أحمد جواز [ذلك] حضراً وسفراً سواء كان ذلك من الإمام والمأمومين، أو من المأمومين فقط، وهو قول ابن عباس وإسحاق وطائفة من التابعين لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما عامة أهل العلم فإنهم لم يجيزوا ذلك ورأوا أن صلاة الخوف تبع لصلاة الحضر وصلاة السفر، فصلاة الخوف تصلى في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.
وهذا ظاهرٌ إلا ما استثنى في حديث ابن عباس المتقدم.
إذن: جماهير العلماء يرون أن الخوف لا أثر له في عدد الركعات لكن الخوف قد أثَّر في هيئتها، فأصبحت في هيئة يُؤمن على المسلم فيها، فهي هيئة مأمونة.
وقولهم أصح، وأما حديث ابن عباس فيحمل على شدة الخوف حيث كان الخوف شديداً يقتضي أن تتأثر الركعات فحينئذ يجوز ذلك.
فالأظهر: أنه لا يجوز التصرف بركعاتها حضراً ولا سفراً وأما التصرف في الهيئات فهو الوارد إلا أن يكون الخوف شديداً - لا يبلغ أن يصلي راكباً أو قائماً كما سيأتي – لكنه يحتاج المسلم فيه إلى أن يختصر الركعات فيصليها ركعة كأن تقام قبل التقاء الصفوف ويكون في صلاتها أربع ركعات أو ركعتين أو ثلاثاً فيه مشقة فحينئذ يصلونها ركعة.
ومما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} و" أل " هنا في الظاهر أنها العهدية أي إذا أقمت لهم الصلاة المعهودة وهي المكتوبة فحينئذ هي على ركعاتها المشهورة حضراً وسفراً.
* واعلم أن أولى هذه الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في العمل هو ما اختاره الإمام أحمد؛ لأن هذه الصفة هي التي وافقها القرآن وهي الصفة التي تفعل في كل حال سواء كان العدو في تجاه القبلة أو ميمنتها وميسرتها أو معاكساً لها.
وصفتها:
أن يقسم الجيش طائفتين، ولا يشترط في هاتين الطائفتين التساوي لكن يشترط أن تكون كل طائفة فيها تثبت بها الكفاية في الوقوف أمام العدو لو حدث منه ميل إلى المسلمين، فيصلي بهم ركعة ثم يثبت قائماً فيتموا لأنفسهم ثم ينصرفون، فيقفوا وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم يثبت جالساً فيتموا لأنفسهم ثم يسلم بهم، فيكون لهؤلاء ميزة التسليمة وللآخرين ميزة التكبيرة.
ودليل ذلك: ما ثبت من حديث صالح بن خوات: عمن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع – وفي مسلم – عن سهل بن أبي حثمة.
لذا قال الإمام أحمد – كما تقدم – (وأما حديث سهل فأنا أختاره) –.
وهو عند البيهقي (عن صالح بن خوات عن أبيه) ولا مانع أن يكون رواه عن أبيه ورواه عن سهل بن أبي حثمة – عمن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: (أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة ثم جلس فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم) وهو أنكى للعدو وأحفظ للمسلمين، فإنها تفعل حيث كان العدو في أي جهة.
ومن الصفات: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر:
وصفتها: (أن تقوم طائفة مع الإمام وطائفة تبقى وجاه العدو، فيصلي بالطائفة التي قامت معه ركعة، ثم ينصرفون عن الإمام إلى مواقعهم ويتمون لأنفسهم لكنهم ينتظرون الآخرين في الإتمام ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم) .
هذه صفة أخرى لكنها حيث كان الخوف أخف من الوضع المتقدم لأنهم يبقون يتمون جميعاً لكن معلوم أن الإتمام حيث كان منهم جميعاً لابد فيه من مفارقة، فهذا قائم وهذا جالس وهذا ساجد فيكون هناك نظر للعدو – وإن كانت هذه الصفة إنما تبقى أن يفعل حيث كان العدو وجاه القبلة وإلا فقد تحدث – حينئذ – غرة من الكفار لذا لا ينبغي أن يفعل إلا حيث كان العدو أمامهم وحيث كان الخوف أخف مما يحتاج فيه إلى الصورة المتقدمة.
وهناك صفة ثالثة: ثبتت في الصحيحين من حديث جابر، وصفتها: أن يصلي الإمام ويصلي الناس معه جميعاً ويقسمهم إلى صفين، فيركع ويركعون معه ويرفع ويرفعون معه ويسجد ويسجد الصف الأول معه فقط، ويبقى الصف الثاني قائماً، فإذا قام إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني ثم يقومون ويتأخر الصف الأول ويتقدم مَنْ في الصف الثاني ويفعلون كما فعلوا في الركعة الأولى، وهذا حيث كان العدو تجاه القبلة.
وهناك صفة أخرى: وهي ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعة وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا كما في حديث حذيفة وتقدم أن هذا حيث كان الخوف شديداً.
وهناك صفة أخرى ثبتت في النسائي من حديث جابر – وفي أبي داود من حديث أبي بكرة وهي صفة ظاهرة، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم) .
وهذا لا إشكال فيه. ومن هنا يجوز لهم أن يقسموا أنفسهم إلى جماعات، فتصلي هذه الجماعة الآن والجماعة الأخرى في وقت آخر، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ما تقدم لفضيلة إمامته – عليه الصلاة والسلام – وإلا فلو قسموا أنفسهم قسمين فصلت الطائفة الأولى ثم صلت بعدهم الطائفة الأخرى فذلك لا بأس به.
ولنقف عند الصفة المختارة التي اختارها الإمام أحمد رحمه الله.
مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان في الإقامة فأراد أن يصلي أربعاً أو في السفر وأراد أن يصلي المغرب فحينئذ هل يكون انتظار الإمام عند القيام أم عند التشهد.
قولان لأهل العلم في الأولى: وعليه: فإن أي الصفتين فعل فلا بأس.
فسواء قام وانتظرهم قائماً أم جلس فلا بأس لكن أيهما الأولى؟
الأظهر أن الأولى أن ينتظرهم وهو جالس؛ لأن الانتظار إنما فعل في حال القيام في الصورة المتقدمة للاحتياج إليه – حينئذ –، وإلا فإن فيه مشقة على الإمام في التطويل في القيام في انتظاره هؤلاء حتى يسلموا ثم هؤلاء حتى يأتوا.
وأما الجلوس فإنه لا مشقة عليه ما في انتظارهم فيه، وفيه مصلحة أخرى: وهي أن تدرك الطائفة الثانية أول شروعه في الركعة الثالثة.
المسألة الثانية: في الانتظار حيث كانت الصلاة ركعتين فقد تقدم أنه ينتظر في حال قيامه، فينتظر الطائفة الأولى حتى تسلم وتأتي الطائفة الأخرى، وفي حال جلوسه ينتظر الطائفة الثانية حتى تتم صلاتها فيسلم بها.
فهل يشرع بالتشهد ويشرع بالقراءة في حال انتظاره أو ينتظرهم حتى يأتوا فيشرع؟
قولان لأهل العلم:
أظهرهما أنه يشرع بمجرد قيامه؛ لأن هذا هو الأصل فيما يشرع، ولأن خلاف ذلك يتضمن سكوتاً وهو ليس بمشروع في الصلاة، فحينئذ بمجرد قيامه يشرع بالفاتحة لكنه يطيل القراءة حتى تأتي الطائفة الأخرى فيدركون معه الفاتحة.
لكن إن ركع قبل أن يقرؤوا الفاتحة فذلك جائز لكنه خلاف السنة.
قال: (ويستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدافع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه)
من غير أن يكون ذلك يثقله كدرع ونحوه.
واستدلوا بقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم}
قالوا: هذا يدل على مشروعية حمل السلاح أثناء الصلاة؛ ولأنه لا يؤمن أن يأتي الكفار على حين غرة من المسلمين فيتمكنون منهم.
وما ذكروه من الدليل ظاهر في مشروعية ذلك لكنه واضح في الوجوب كما هو مذهب الشافعية والظاهرية ومال إليه الموفق: وأنه يجب ذلك لظاهر الآية الكريمة ولأن الله قال: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فنفى الحرج - نفاه - حيث كان المرض والأذى، فدل ذلك على ثبوت الجناح حيث لم يكن أذى ولا مطراً أو عذراً يقتضي ذلك.
وهذه الآية ظاهرة في وجوب ذلك كما هو اختيار الموفق ومذهب الشافعية والظاهرية وهذا القول هو الراجح.
والمعنى يقتضي ذلك أيضاً وهو حفظ المسلمين من إغارة العدو على حين إقبالهم على صلاتهم ولا سلاح معهم يتمكنون به الدفاع عن أنفسهم.
أما إذا كان الخوف شديداً لا يتمكن به المسلم أن يصلي على الصور المتقدمة فإنه يصلي على حاله راكباً وماشياً ومستقبل القبلة وغير مستقبلها وهو يقاتل العدو ويضرب بسيفه، فإنه يصلي على حاله حيث حضرت الصلاة.
ودليله قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال ابن عمر – كما في الصحيحين: (فإن كان خوف هو أشد من ذلك فرجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) وهذا من تخفيف الله لهذه الأمة.
وهنا مسائل – على هذه الصورة:
الأولى: وهي داخلة في هذه المسألة والمسائل قبلها – أنه إذا صلى صلاة الخوف على هذه الصورة وغيرها من الصور من غير خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل؛ لأن هذه الصلاة على هيئة لا تصح في حال الأمن لما فيها من مفارقة الإمام بلا عذر وترك متابعته، والصلاة مع العمل أو ترك استقبال القبلة سوى ما تقدم من صلاته ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة أخرى فإن هذه الصلاة صحيحة أمناً وخوفاً.
إذن: إذا صلى صلاة الخوف المفارقة لصلاة الأمن فصلاها ولا خوف أو لا خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل.
الثانية:
فإن ظن شيئاً كأن يرى شيئاً فيظن أنهم الكفار قدموا عليهم وكأن تأتيهم مدد من المسلمين فيظنوهم الكفار – فيصلون صلاة الخوف بناء على أن هذا شيء يقتضي صلاة الخوف فتبين لهم أنه ليس بعدو فهل يعيدون الصلاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الحنابلة قالوا: يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة؛ لأنهم تركوا واجباً من واجباتها وهو ما تقدم مما يترك في صلاة الخوف.
قال الشافعية - وهو أرجح –: بل لا يعيدونها؛ لأنهم صلوا الصلاة مع ظنهم القوي الغالب المؤثر في الحكم، أن الصلاة تجوز لهم – حينئذ –، فقبلت الصلاة منهم وصحت، فإذا تبين لهم سوى ذلك فإنه لا يؤثر، فإنهم قد أدوا الصلاة مع وجود السبب المقتضي لذلك.
الثالثة: إذا تغير الأمر من أمن إلى خوف، أو من خوف إلى أمن أثناء الصلاة فما الحكم؟
يجب على كل منهما أن ينتقل إلى الصلاة الأصلية لزوال السبب المقتضي لخلافها.
فمثلاً: رجل يصلي راكباً وهو يقاتل العدو غير مستقبل القبلة فزال الخوف وانتصر المسلمون – وهو يصلي – فيجب عليه أن ينزل فيتم صلاته مستقبلاً القبلة.
والعكس كذلك: فلو كان يصلي صلاة الآمنين فحدث أمر يخيف كأن يكون المسلمون يصلون صلاة الآمنين فأتاهم الكفار على حين غرة فإنهم يتمون صلاتهم رجلاً وركباناً.
إذن: إذا حدث السبب المجيز لصلاة الخوف فإنهم يتمون كصلاة الخوف.
الرابعة: هل يلحق في كونه يصلي راكباً أو راجلاً – هل يلحق بذلك إذا خاف فوات طلبه، كأن يكون يلحق عدواً له من الكفار مثلاً، فخشي أن يمكث على الأرض فصلى أن يفوته هذا العدو وعلم أنه إذا لحقه وصلى راكباً أو راجلاً فإنه يدركه، فهل يجوز له أن يصلي كذلك؟
قال الحنابلة: يجوز ذلك. واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثه إلى قتل خالد بن سفيان الهذلي فأدركه وعلم أنه إذا مكث للصلاة أنه يفوته فصلى ماشياً يومئ بصلاته حتى أدركه فقتله) وهو وجه عن الشافعية.
والوجه الثاني – عند الشافعية – وهو الأصح عندهم: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأنه محصل لا خائف، والصلاة إنما شرعت عند الخوف، وهذا في الحقيقة ليس بخائف لكنه محصل لأمر.
قالوا: والجواب - لم أره لهم لكن هذا مقتضى قولهم، الجواب - على الحديث المتقدم فهو ضعيف؛ لأن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس.
والراجح مذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور: وأنه لا يجوز ذلك لضعف الحديث الوارد، ولأنه محصل لا خائف والصلاة إنما شرعت عند الخوف.
لكن يستثنى من ذلك – كما استثنى الشافعية – ما إن ترك متابعته أن يعود إليه العدو فيدركه ويكون منقطعاً عن أصحابه فيخشى على نفسه فيكون حينئذ بحكم الخائفين.
الخامسة: قال الحنابلة: إذا كان ذاهباً إلى عرفة وخشي أنه إن وقف وصلى أن يفوته الوقوف فيها، بحيث أنه لا يمكنه أن يدرك إلا الشيء اليسير من ليلتها، فخشي أن يفوته الوقوف بعرفة، فيجوز له أن يصلي صلاة الخائف، وهو هنا محصل كما تقدم فهي مقيسة على المسألة السابقة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو وجه عند الشافعية.
والوجه الثاني، وهو المصحح عندهم: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه محصل لا خائف، والصلاة فرض على الهيئة المشروعة لا يستثنى من ذلك إلا ما ورد في النصوص، ومثل هذا لم يرد في النصوص الشرعية.
وهذا أظهر وأنه لا يجوز ذلك؛ لأنه لا دليل على الاستثناء.
أما مسألة الجمع فنعم لكنه غير وارد في صلاة الفجر، فليست المسألة جمعاً ليقبل بذلك.
والحمد لله رب العالمين.