المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

باب: صلاة الجمعة الجمعة: الميم حكي كسرها، وكذلك بالضم وبالفتح وبالسكون، - شرح زاد المستقنع - حمد الحمد - جـ ٨

[حمد الحمد]

فهرس الكتاب

باب: صلاة الجمعة

الجمعة: الميم حكي كسرها، وكذلك بالضم وبالفتح وبالسكون، ففيها أربع أوجه، ولغة الحجاز ضمها وهي التي نزل بها القرآن.

وسمي يوم الجمعة بذلك: لأن القيامة تقوم فيه وهو يوم الجمع، وثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في يوم الجمعة -:(وفيه تقوم الساعة)

والناس – أيضاً – فهم يجتمعون فيه لأداء الصلاة المكتوبة فيجتمعون في مسجد واحد في المقر الكبير فسمي بذلك، وسمي جمعة أيضاً لأنه هو اليوم الذي جمع الله فيه خلق آدم، كما ثبت هذا في مسند أحمد وصححه ابن خزيمة بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان:(يوم الجمعة يوم جمع فيه أبوك أو أبوكم)

فهو يوم الجمعة لأن الجمع للخلق في الآخرة يكون فيه، والجمع للمسلمين في الدنيا يكون فيه، ولأن الله جمع فيه خلق أبي البشر آدم صلى الله عليه وسلم.

وصلاة الجمعة مستقلة عن صلاة الظهر، والظهر بدل عنها، ودليل ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح وتقدم –من حديث عمر– وفيه: (وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر)

وعند الإمام أحمد: أنها ظهر مقصورة وهو ضعيف بدليل أن الإمام لا يجوز فيها باتفاقهم، بخلاف الصلوات المقصورة في السفر فإنها لو أتمت لصحت خلافاً لأبي حنيفة.

فإذن الصحيح أنها مستقلة والظهر بدل عنها.

قال: (تلزم)

فهي فرض عين وهذا بالإجماع فحضورها فرض عين على من سيأتي ذكره.

يدل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر وهو للوجوب وقال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) وقال في النسائي بإسناد صحيح: (رواح الجمعة واجب على كل محتلم)

ص: 1

وقال – كما في سنن أبي داود والحديث صحيح -: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا لمملوك أو امرأة وصبي ومريض) وقد تقدم الخلاف في صلاة الجماعة، أما الجمعة فإنها فرض بإجماع أهل العلم.

قال: (كل ذكر حر مكلف مسلم)

" كل ذكر ": فلا تلزم الأنثى.

" حر": فلا تلزم المملوك.

" مكلف ": فلا تلزم الصبي والمجنون.

" مسلم ": فلا تلزم الكافر ولا تصح منه.

أما الكافر فهذا ظاهر، وأما من تقدم ذكره: فللحديث المتقدم: (إلا مملوك وامرأة وصبي ومريض) ، فلا تجب الجمعة على الصبي غير المكلف ومثله المجنون لأنه غير مكلف فهو أولى، ولا تصح من المجنون فهو أولى من الصبي لأنها تصح منه، والمرأة لا تجب عليها الجمعة كما أنها لا تجب عليها الجماعة، والمملوك لا يجب عليه أن يحضر الجمعة.

إذن: هي واجبة على المسلم الذكر الحر المكلف للحديث المتقدم، وهذا باتفاق أهل العلم.

واتفقوا على أنهم لو صلوها لصحت، فلو أن امرأة أو مملوكاً أو مريضاً أو صبياً شهدوا الجمعة فصلوها ركعتين صحت، على أنهم لو صلوها في بيوتهم لصلوها أربعاً، وهذا باتفاق أو إجماع العلماء.

قال: (مستوطن ببناء)

لابد للوجوب عليه من أن يكون مستوطناً ببناء معتاد، سواء كان هذا البناء بلبن أو حجر أو قصب أو خوص أو نحو ذلك، فإن كان مستوطناً بخيام وهو لا يرتحل شتاءً ولا صيفاً فإنها عند جمهور العلماء لا تصح منه ولا يجزئ عنه، ولا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة بل يصلوها ظهراً أو يشهدوا الجمعة فيما حولهم من المساجد التي في القرى التي تصح الجمعة منهم إذا حضروها، وأما إن يقيموها في محلهم وإن كانوا لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فلا تجوز.

ص: 2

- وقال الشافعي في أحد قوليه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال في الفروع: " وهو متوجه ": إن إقامة الجمعة لهم صحيحة جائزة، وهذا هو الظاهر؛ إذ المناط إنما هو الاستيطان، فما داموا مستوطنين بهذا الموضع لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فإنه لا فرق بينهم وبين أصحاب البناء من حجر أو غيره، وهذا هو الراجح.

أما أصحاب الخيام الذين يرتحلون شتاءً وصيفاً فإنه لا خلاف بين أهل العلم أنه لا يجزؤهم أن يصلوا الجمعة.

وإقامة الجمعة في القرى مع عدم ثبوت المصر الجامع هو مذهب جمهور العلماء.

ودليلهم: ما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أول جمعة جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في قرية بالبحرين (1)) فهي قرية ومع ذلك صحت فيها الجمعة.

وقال عمر – كما في مصنف أبن أبي شيبة -: (جمعوا حيث شئتم) فتقام في القرى والأمصار.

وقال الأحناف: لا تقام إلا في الأمصار.

واستدلوا: بقول علي كما في مصنف عبد الرزاق: (لا جمعة إلا في مصر جامع)

والجواب عنه: أنه يخالف ما ثبت عن عمر رضي الله عنه كما تقدم بل ما أقر عن جماعة الصحابة في إقامة الجمعة في القرية التي تقدم ذكرها، وكان ذلك إما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإما في عهد أبي بكر وعمر ومع ذلك لم تنكر.

ثم إنه لا فرق بين المصر والقرية في إقامة الجمعة، ويحمل كلام علي رضي الله عنه جمعاً بينه وبين كلام عمر رضي الله عنه أنه لا جمعة كاملة إلا في مصر جامع.

ولو كان مراده " لا جمعة صحيحة " فإن أثر عمر يخالفه وأثر ابن عباس يخالفه، والنظر مع ما رواه ابن عباس ووافقه عمر رضي الله عنه إذ لا فرق بين المصر الجامع وبين القرية بخلاف الخيام التي لا يستوطن أهلها بمكان فإن المعنى يفارقها ففرق بينها وبين المصر الجامع.

قال: (بناء اسمه واحد ولو تفرق)

(1) المقصود به الأحساء والمسجد يعرف بمسجد جُواني.

ص: 3

يعنى يجوز وإن كان متفرقاً - بيتاً هنا وبيتاً هناك - ما دام أن اسمه واحد وقد كانت المدينة متفرقة البيوت، وكانت بريداً في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ وكان أهلها متفرقون فيها ومع ذلك يجمعها اسم واحد ولم يقم في أي دار من دورهم جمعة على أنها قرية مختصة.

فالجمعة كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكل محلة من محلاتهم ودار من دورهم يثبت له اسم المدينة – وهذا هو الثابت في العرف واللغة – فكون البيوت متفرقة مع اتحاد الموضع هذا لا يؤثر، ومعلوم أن هذا من طبيعة العرب في بنائهم للبيوت وهو التفرق ومع ذلك يطلقون على محلاتهم اسماً واحداً فلها حكم واحد.

قال: (ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ)

هنا: المصلي الذي توفرت فيه الشروط المتقدمة له حالتان:

الأولى: أن يكون في هذا المصر وفي هذه القرية فحينئذ يجب عليه أن يجيب النداء ويشهد الجمعة وإن كان بينه وبينها أكثر من فرسخ. فلو كان بينه وبينها فرسخان أو أكثر فيجب أن يحضرها لأن الجمعة قد أقيمت له، والجمعة – كما سيأتي – إنما تقام في مسجد واحد لأهل البلد كلهم.

فأهل المصر الواحد يجب عليهم جميعاً أن يحضروا الجمعة وإن كان بعضهم في أطرافها يبعد أكثر من فرسخ ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.

فالمدينة كانت بريداً في بريد ومن كان في أقصاها ويبعد عن المسجد فرسخان أو ثلاثة، فيجب

لأنه لا جمعة إلا ....

الثانية: أن تكون خارج المصر أو القرية كالبيوت النائية التي لا تتصل بالقرى وليس عندهم جمعة يقيمونها وكالخيام النائية فهل يجب عليهم حضور الجمعة أم لا؟ وإن قلنا بوجوبها فما هو المسافة المحددة لوجوب ذلك؟

أ – ذهب الأحناف: إلى أنه لا يجب عليه ذلك بل تجب على من كان في المصر.

ب – قال الشافعية: يجب على من سمع النداء وإن كان أكثر من فرسخ.

ص: 4

جـ – وقال الحنابلة والمالكية: يجب عليه إذا كان فرسخاً فأقل وما كان قريباً من الفرسخ كأن يكون فرسخاً وشيئاً قليلاً فإن الحكم فيه واحد فالمسألة تقريبية لا تحديدية أي فمن كان فرسخاً ونحو الفرسخ فأقل فيجب عليه حضور الجمعة.

أما الأحناف: فدليلهم أن الجمعة قد أقيمت في أهل المصر فلا يجب على غيرهم حضورها.

وهم محجوجون بما سيأتي ذكره من الأدلة.

وأما دليل الشافعية: فهو قوله صلى الله عليه وسلم: للأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) وهذا الحديث عام فيمن كان من أهل القرية نفسها ومن كان قريباً منها وهو يسمع النداء.

قالوا: وأصرح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في سنن أبي داود – قال: (الجمعة على من سمع النداء) لكن الحديث الراجح وقفه - كما رجح ذلك البيهقي – فهو موقوف على ابن عمرو.

لكن الحديث الأول الثابت في مسلم فيه غُنية عنه مع أنه موقوف على صحابي.

وأما المالكية والحنابلة: فقالوا: إن جعلنا لهذا الضابط مع ورود السنة فيه، إن جعلنا له ضابطاً هو ليس بضابط فيضبط لأن هذا يختلف باختلاف صوت المؤذن خفة ورفعاً.

ويختلف باختلاف صدور الأصوات شدة وخفة. ويختلف أيضاً بحسب الريح كذلك، فإن الريح إذا أتت بخلاف الصوت خفضته بل لا يكاد يسمع، وإذا كانت الريح معه نشرته، وهكذا فإن هذا باختلاف الريح شدة وخفة وباختلاف الأصوات شدة وخفة وصحيحاً، وتختلف باختلاف المؤذن وعلوه ورفعه لصوته.

ص: 5

قالوا: ونظرنا فوجدنا أن المؤذن إذا أذن في موضع عال على السنة، وكان رفيع الصوت صيتاً – كما وردت به السنة – وكان الصوت هادئاً والريح ساكنة فإن أذانه يصل إلى فرسخ وهو ثلاثة أميال أي نحو 5 كيلو مترات، وهذا ظاهر، فإذا جعلنا هذا ضابطاً فهذا يكون منضبطاً ظاهراً، وحينئذٍ يكون كما لو كان المؤذن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما لو كان في الأحوال العادية الطبيعية من سكون الريح ومن كون الأصوات هادئة.

ولأن خلاف هذا يؤول إلى إيجاب الجمعة على قوم وعدم إيجابها على قوم هم مما يكون لهم أولى منهم، فإن الصوت إذا ذهب به الريح إلى جهة أدى ذلك إيجابه على هذه الجهة دون غيرهم ممن هم أقرب منهم. وكذلك باختلاف سمع الناس وباختلاف صوت المؤذن.

فإذا: أذن مؤذن حيث وصل الأذان إليهم فوجبت فإذا أذن في جمعة أخرى مؤذن خفيف الصوت لم تجب ذلك عليهم، فحينئذٍ لا يكون ذلك منضبطاً.

فالراجح ما ذهب إليه أهل هذا القول: من أن الحساب يكون بفرسخ – وهذا لا شك حيث لم يكن فيه مشقة – إذ المشقة متى ثبتت فإنه لو كان قريباً من المسجد فلا يجب على الحضور.

وهذا في العادة ليس فيه مشقة إذا كان ست كيلو مترات أو نحو ذلك فإن هذا أحياناً يكون ممن في أطراف المدينة يبعد أكثر من ذلك، والمدينة كانت بريداً في بريد يعني أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، فكان بعض الناس يبعد عن المسجد النبوي وهو من أهل المدينة فرسخان أو أكثر أو نحو ذلك فهذا إذاً لا مشقة فيه.

- وذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن من آواه بيته ومنزله قبل الليل فإنه يجب عليه أن يحضرها.

فإذا ذهب صباحاً وعلم أنه يعود قبل الليل فيجب عليه حضورها.

واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي: (الجمعة على من آواه الليل) لكن الحديث لا يثبت وإسناده ضعيف جداً.

والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تجب على مسافر سفر قصر)

ص: 6

تقدم البحث عن سفر القصر وهو السفر الذي يثبت به سفر القصر.

وقوله: " سفر قصر " بناءً على أن السفر قسمان:

سفر طويل: وهو سفر قصر.

وسفر قصير: وهو السفر الذي لا يثبت به القصر.

فما كان دون أربعة برد فهو السفر القصير، وما كان أربعة برد فما فوق فهو السفر الطويل، وتقدم أن هذه القسمة لا تصح ولا دليل عليها من الشرع ولا اللغة ولا العرف.

والمقصود هنا: أنه على اختلاف أهل العلم، فمتى قلنا: إن السفر سفر قصر تقصر فيه الصلاة، وأن هذا مسافر سفراً تقصر بمثله الصلاة فإنه لا تجب عليه الجمعة.

فإذن: المسافر لا تجب عليه الجمعة.

ويريدون بالمسافر: من ليس بمستوطن ولا مقيم، والمستوطن من اتخذ البلدة أو القرية أو المصر ونحو ذلك اتخذه وطناً.

وأما المقيم فهو من لم يتخذه وطناً لكنه نوى إقامة تمنعه من القصر، والذي لا تجب عليه الجمعة هو المسافر وهو: من نوى إقامة أربعة أيام فأقل.

إذن: المقيم والمستوطن تجب عليهم صلاة الجمعة.

وأما المسافر الذي يحق له أن يقصر الصلاة يجوز له أن يدع الجمعة فلا يحضرها ويصليها حينئذٍ ظهراً.

- والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون هذا في جماعة من المسافرين ليس تحضرهم جمعة كأن يكونوا في الطريق فيدركهم الوقت أو يكون في بلدة فينزل فيقيم فيها إقامة يثبت فيها القصر، ففي كلا الصورتين لا يجب عليه حضور الجمعة ومن هنا عبر المؤلف بقوله:" ولا تجب على مسافر " لتدخل هذه الصورة الثانية بظهور.

لأن الأولى غير جائزة ولا مجزئة فلوا صلوا جمعة لبطلت والواجب عليهم أن يصلوا ظهراً.

والنبي صلى الله عليه وسلم – وهذا باتفاق العلماء – لم يكن يصلي في سفره جمعة لا في حجته ولا في غزواته وعمرته.

ص: 7

ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى عرفة فصلى بها الظهر ثم أقام فصلى العصر) وكان ذلك يوم جمعة، ودل عليه فعل الخلفاء الراشدين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عامة فإنهم كانوا لا يقيمون الجمعة في السفر.

وروى الدارقطني مرفوعاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسافر جمعة) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وكلا الإسنادين ضعيف، لكن كلاً منهما يشهد للآخر وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه يشهد لذلك.

واحتمل شيخ الإسلام: أن المسافر الذي يكون في مكان ينادى فيه لصلاة الجمعة تلزمه للمقيمين، وقال في الفروع:" وهو متوجه " وقاله بعض الحنابلة وحكي رواية عن الإمام أحمد.

فهذا قول ثاني في الصورة الثانية، أما المسألة الأولى فلا خلاف فيها كما تقدم.

أما المسألة الثانية: فالجمهور على أنه لا يجب عليه حضورها.

- وقال ابن تيمية محتملاً: إنه تلزمه تبعاً للمقيمين، وحكي ذلك رواية عن أحمد وهو وجه عند الحنابلة وهو قول متوجه كما قال ذلك صاحب الفروع.

ودليل توجهه عمومات النصوص الشرعية التي تأمر بإجابة النداء عند سماعه، ومن ذلك - في خصوص الجمعة – قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا عام في كل من سمعه من أهل المصر أو القرية سواء كان مسافراً أو مقيماً، وهذا القول أظهر في صلاة الجمعة وفي غيرها من الصلوات فيجب عليه أن يجيب منادي الله عز وجل، لعمومات النصوص الشرعية.

قال: (ولا عبد ولا امرأة)

تقدم الدليل على هذا وهو باتفاق أهل العلم لحديث: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة – وذكر منهم – المرأة والمملوك)

قال: (ومن حضرها منهم أجزأته)

ص: 8

اتفاقاً: فمن حضرها من هؤلاء الأربعة – المريض أو المسافر أو المرأة أو العبد - أجزأت عنه بإجماع العلماء وقد تقدم ذكر هذا.

قال: (ولم تنعقد به)

أي لم تنعقد بالعبد والمرأة والمسافر، وسيأتي استثناء المريض.

فإذا قلنا إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين كما هو المشهور في المذهب – وسيأتي الكلام فيه – فهل يدخل في هذا العدد المرأة والمملوك والمسافر فتنعقد بهم أم لا؟

قال: (ولم تنعقد بهم)

أما المرأة فهذا باتفاق أهل العلم ولا خلاف بينهم في ذلك، لأنها ليست في الأصل محلاً للاجتماع لها، فالمرأة بإجماع أهل العلم واتفاقهم لا تنعقد بها الجمعة.

وأما المملوك والمسافر:

فهذا مذهب الجمهور: وهو أنها لا تنعقد بهم.

وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: بل تنعقد بهم، وهذا القول هو الراجح، لأنهم رجال مكلفون حضروها فانعقدت بهم، وقد صحت منهم، وهم أهل للاجتماع وإنما خفف عنهم هذا الحكم لمعنى يقتضي ذلك.

فأما في المسافر فلعل ذلك لمشقة ذلك عليه أو لرفع الحرج عنه، وأما المملوك فلرفع الحرج عن سيده أو نحو ذلك، فإذا حضروها فإنها تنعقد بهم ولا دليل يدل على عدم انعقادها بهم.

قال: (ولم يصح أن يؤم فيها)

أما المرأة فظاهر، وقد تقدم البحث في هذا.

وأما المسافر والمملوك:

فكذلك عندهم.

وقال الجمهور " الشافعية - والمالكية: المسافر فقط – والأحناف ": بل المسافر والمملوك يصح أن يؤم فيها.

ومذهب المالكية أنه يصح في المسافر دون المملوك.

والصحيح صحة ذلك خلافاً للمشهور في المذهب، وأن المسافر والمملوك يصح أن يؤموا فيها، وما ذكروه علة فهو ضعيف.

فقد ذكروا أن المسافر والمملوك تبع لأهل البلدة في انعقاد الجمعة فلا يصح أن يكون التابع متبوعاً.

ص: 9

لكن هذا ضعيف ظاهر الضعف؛ لأن هؤلاء قد صحت صلاتهم ولا دليل شرعي يبطل إمامتهم بل الأدلة الشرعية تدل على أنهم أولى من غيرهم بالإمامة إذا توفرت بهم الشروط على وجه التمام والكمال، وهذا هو الصحيح.

فإذن: المسألة على الراجح: المرأة لا تنعقد بها ولا تؤم، والمريض تنعقد به ويؤم – هذا بالاتفاق وسيأتي – والمسافر والمملوك – على الراجح – تنعقد بهم ويؤموا أيضاً.

إذن: كل من حضرها من الذكور المكلفين سواء كانوا مسافرين أو مقيمين أحراراً أو مماليك تنعقد بهم الجمعة وتصح إمامتهم – هذا الراجح – وهو مذهب الأحناف في هذه الصور كلها، ووافقهم في بعض الصور طائفة من أهل العلم كما تقدم.

لذا قال هنا في استثناء المريض:

قال: (ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه بحضوره)

فالمريض إذا حضر المسجد وجبت عليه الجمعة، لأنها إنما سقطت عنه في الأصل لمشقة حضورها فإذا حضر فإنها تكون واجبة.

ولكن هذا في الحقيقة ليس على إطلاقه إذ قد يكون المرض يمنعه من إطالة البقاء فقد يشق عليه البقاء فيرى مشقة ذلك على نفسه فيجوز له أن يرجع إلى بيته، لكن المقصود من ذلك أنه متى حضر إلى المسجد فإنه حينئذٍ تكون واجبة عليه إلا أن تطرأ مشقة أخرى تقتضي إسقاطها عنه.

إذن: المريض باتفاق أهل العلم إذا حضر الجمعة فالجمعة واجبة عليه – وحينئذٍ – تنعقد به ويصح أن يكون إماماً فيها؛ وذلك لأنها إنما أُسقطت عنه لمشقة ذلك عليه فإذا حضرها فقد زالت المشقة المسقطة للحكم فكانت الجمعة واجبة عليه منعقدة به وكان إماماً فيها إذ لا معنى يقتضي خلاف ذلك وإنما سقطت عنه في الأصل لكونه مريضاً فإذا أتاها جاز أن يكون إماماً وانعقدت به.

قال: (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح)

ص: 10

رجل صلى في بيته أربع ركعات ظهراً ممن عليه حضور الجمعة فيستثنى – حينئذٍ – المرأة والمريض والمسافر والمملوك؛ لأنه ليس عليهم حضور الجمعة – وسيأتي في المتن استثناؤه – فإذا صلى قبل صلاة الإمام أو معه ما لم يفرغ الإمام فإنها لا تصح. بل عليه [أن] ينظر فإذا تيقن أن الإمام قد سلم فحينئذٍ يصليها، وهذا باتفاق أهل العلم.

ودليل ذلك: أن هذا المكلف مخاطب بحضور الجمعة لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} والظهر بدل عنها، وهو الآن مخاطب بالأصل ويمكنه أن يأتيه وليس ثمت عذر يقتضي إسقاط الجمعة عنه، وقد صلى البدل في غير موضعه فكان باطلاً، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر؛ لأنه مخاطب فإنه مخاطب بحضور الجمعة في الأصل والظهر إنما هو بدل عن الجمعة لمن كان معذوراً أو فاتته الجمعة أما هذا فليس بمعذور ولم تفته الجمعة فكان الواجب عليه ألا يصليها إلا بعد صلاة الإمام.

وظاهر كلامهم: أنه لابد وأن ينتظر حتى يفرغ الإمام من صلاته، فإذا فرغ من صلاته وسلم فإنه يشرع في الصلاة، هذا هو ظاهر كلامهم في غير هذا المتن كما في المغني.

- وذهب بعض الحنابلة: إلى أن ذلك ليس بشرط بل متى ما علم أنه لو ذهب إلى المسجد فإنه لا يدركها فإنه يجوز أن يصليها ظهراً، لأنها في حكم الفائتة عنه فلا يمكن أن يدركها، فحينئذٍ لا يكون مخاطباً بالحضور لأن المخاطب بالحضور إنما هو القادر على حضورها وهذا ليس بقادر على حضورها لكنه آثم بتأخيره وعدم ذهابه في وقت يدرك به الجمعة، وهذا أظهر، لأنه متى ضاق عنه الوقت للذهاب لإدراكها فإنه في حكم من فاتته فيكون ليس مخاطباً بحضورها بل مخاطب بالقضاء وبالصلاة بدلها، والصلاة بدلها إنما هي الظهر.

ص: 11

- وخالف في ذلك الأحناف في أصل هذه المسألة وقالوا: لو صلى الظهر لصحت وإن كان يمكنه أن يحضر الجمعة، فلو صلاها من غير المعذورين قبل الجمعة لصحت.

قالوا: لأن الأصل إنما هي الظهر والجمعة بدل عنها، وهذا ضعيف في غاية الضعف لأن الجمعة أصل في يومها بدليل أنه باتفاق الجمهور والأحناف أنه يجب عليه أن يصليها جمعة في ذلك اليوم، ومعلوم أنه لا يمكن أن يقال بالبدل مع إمكان إيجاب أصله.

إذن: الراجح مذهب الجمهور وأنه لا يجوز له ذلك ولا تصح منه إذا أقيمت صلاة الجمعة وأمكنه إدراكها، وقد تقدم أن إطلاقهم – كما في المغني - شامل حتى يفرغ الإمام من الصلاة. - وحينئذٍ- فلو أن قرية من القرى يمكنهم أن يقيموا الجمعة فلم يقيموها فصلوها ظهراً في وقت الجمعة لم تصح منهم لأن الفرض عليهم هو الجمعة.

لكن يستثنى هنا مسألة - في كون الرجل يصلي قبل الإمام الظهر – إذا تأخر الإمام تأخراً منكراً يشق على المأمومين فقام بعضهم فصلى منفرداً ظهراً فإن ذلك يجوز له ويعذر بذلك كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد، وقد صرح به المجد بن تيمية.

قال: (وتصح ممن لا تجب عليه)

فالذي لا تجب عليه الجمعة وهم المسافر والمريض والمرأة والمملوك إذا صلوا في بيوتهم فيجوز لهم أن يصلوا قبل صلاة الإمام؛ لأن العلة المتقدم ذكرها ليست فيهم فإنهم غير مخاطبين بالجمعة، فالخطاب الشرعي ليس بموجه إليهم لأنهم غير مكلفين بحضورها، وحينئذٍ الواجب عليهم بدلها وهو الظهر.

فلو أن مسافراً أو امرأة في بيتها صلوا الظهر بعد زوال الشمس قبل أن تُصلى الجمعة جاز ذلك، وهذا باتفاق أهل العلم.

قال: (والأفضل حتى يصلي الإمام)

الأفضل له أي هذا المعذور في بيته الأفضل له حتى يصلي الإمام.

قالوا: خروجاً من الخلاف.

وهو خلاف أبي بكر عبد العزيز من كبار الحنابلة فإنه قد ذهب إلى أنه يجب عليهم أن ينتظروا فلا يصلوا حتى يصلي الإمام.

ص: 12

قال: لأنهم لا يتيقنون زوال العذر وحينئذ فتستثنى المرأة من هذا القول.

فمثلاً: المسافر لا يتيقن زوال العذر فقد ينوي الإقامة والمريض قد يشفى والمملوك قد يعتق ونحو ذلك.

وأجيب عن هذا: بأن الأصل غير ذلك فإن الأصل هو بقاء العذر لا زواله، كما أن الرجل إذا كان مسافراً وتيمم في أول الوقت فإن ذلك يجوز له مع أنه لا يتيقن زوال العذر لكن الأصل عدمه واستمراره.

والخروج من الخلاف فيه نظر، والصحيح أن الخلاف لا يترتب عليه حكم، إلا أن يقوى الخلاف فتكون المسألة من المشتبهات أما مطلق الخلاف فإنه لا يترتب عليه حكم شرعي.

قال: (ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال)

إذا زالت الشمس فلا يجوز لمن وجبت عليه الجمعة – سوى من استثنى كالمريض – فإذا زالت الشمس وإن لم يؤذن فلا يجوز له أن يسافر.

قالوا: لأن الوجوب يستقر في أول وقتها، فأول وقت الجمعة الواجب هو زوال الشمس مع أن أول وقتها الجائز مختلف فيه وسيأتي، فتستقر في ذمته، فلا يجوز له السفر؛ لأن الزوال قد دخل فاستقرت الصلاة في ذمته.

والصحيح أن الصلاة لا تستقر في الذمة إلا بالأذان وأنه إذا أذن ونودي فقد استقرت، لقوله تعالى:{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فربط الله ذلك بالنداء فالراجح أن ذلك إنما هو بالنداء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر لأنه مخاطب بحضورها مكلف بذلك موجهاً إليه الخطاب الشرعي بذلك فلا يحل له أن يسافر والحالة هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر.

وقال هنا: " بعد الزوال " وتقدم أن الظاهر أن الحكم مرتبط بالأذان لا بالزوال.

ص: 13

أما إذا سافر قبل زوال الشمس أو قبل الأذان فيجوز له ذلك، لقول عمر رضي الله عنه – كما ثبت ذلك عنه في مصنف عبد الرزاق – بإسناد صحيح أنه قال:(أن الجمعة لا تحبس مسافراً إلا أن يحين الرواح) أي إلا حين يجب الرواح وإنما يجب الرواح عند الأذان.

وأما ما رواه أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث عبد الله بن رواحة في سرية يوم الجمعة فمكث بعض أصحابه فشهد الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يلحق بأصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم) والحديث إسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس. فالحجة هو قول عمر ولأنه غير مكلف بحضورها حينئذٍ فجاز له أن يسافر.

إذن: - على الراجح – إن سافر وقد أذن فقد فعل أمراً محرماً إلا أن يكون في طريقه جمعة يغلب على ظنه أن يدركها فإن هذه مسألة أخرى، كأن تكون الخطبة فيها طول فيعلم أنه يحضر الصلاة في مسجد قريب من المدينة في قرية قريبة وتيقن من ذلك فلا بأس. أما سوى ذلك فلا يجوز له.

والسفر قبل زوال الشمس جائز لكن قال الحنابلة بالكراهية.

وقال بعض الحنابلة: لا يكره، وهو أظهر؛ فإن الكراهية حكم شرعي ولا دليل عليه.

فإذن السفر قبل زوال الشمس يوم الجمعة جائز وليس فيه أي كراهية لعدم الدليل الدال على الكراهية.

مسألة:

ذكر الحنابلة أن من فاتته الجمعة فإنه يتصدق بدينار أو نصفه؛ لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الجمعة بغير عذر فعليه دينار أو نصف دينار) ، والحديث ضعيف لا يثبت فلا يحتج به، وقد ذكره صاحب الفروع: وحكى الإجماع على عدم وجوب ذلك، والاستحباب فيه نظر؛ لأن الحديث ضعيف فلا يستدل به على مسألة إيجاب ولا استحباب.

والحمد لله رب العالمين

فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشترط لصحتها شروط ليس فيها إذن الإمام)

ص: 14

فلصحة الجمعة شروط يذكرها المؤلف، وليس فيها إذن الإمام.

فالمسألة: هل يشترط لإقامة الجمعة في قرية أو مصر أو في خيام على القول بصحتها قد استوطن أصحابها فيها لا يرتحلون عنها صيفاً ولا شتاءً هل يشترط في إقامتها إذن الإمام أم لا؟

قولان لأهل العلم:

1-

المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: وأن إذن الإمام ليس بشرط، وهو الذي يترجح في هذه المسألة.

واستدلوا: بقول عثمان رضي الله عنه: في الأثر المتقدم في صلاة إمام الفتنة فيهم وفيه أنه قال: (إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم) والصلاة تشمل المكتوبة كلها، ومن ذلك الجمعة.

وقال الإمام أحمد: " وقعت الفتنة في الشام تسع سنين فكانوا يجمعون " أي من غير إذن الإمام.

قالوا: ولأن الجمعة فرض كما في حديث: (الجمعة حق واجب على كل محتلم في جماعة) وغيره من الأحاديث وفعل هذه الفريضة لا يشترط فيها إذن الإمام.

- وقال الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يشترط فيها إذن الإمام.

واستدلوا: بأن الجمعة إنما يقيمها في كل الأعصار الإسلامية الأئمة، قالوا: فهذا إجماع يدل على أنها لا تشرع إقامتها إلا بإذنهم.

وفي هذا نظر – كما قرر ذلك الموفق في المغني – من وجهين:

الأول: أن يقال: إن الإجماع هنا لا يسلم، فإن كونهم يقيمونها – أي الأئمة – لا يعنى ذلك أنهم مجمعون على أنهم لو لم يقيموها فإنها باطلة، بل فيه أن الأئمة يقيمونها، ففيه الإجماع على صحة الصلاة التي يقيمها الأئمة، وأن المشروع فيها في الأصل إقامة الأئمة، وليس فيه المنع من أن تقام بغير إذنهم.

إن هذا لا يسلم فإنها كانت تقام في قرى كثيرة في العصور الإسلامية بغير إذن الإمام، وادعاء وقوع ذلك بإذنه فيه عسر أي أن ذلك كله كان يقع بإذنه فيه عسر.

ص: 15

فما ذهب إليه أهل القول الأول هو الراجح وهو صحة الجمعة وإن لم يأذن الإمام، وسيأتي البحث في هذه المسألة إن شاء الله في مسألة تعدد الجمعات، وهل هذا الإذن غير معتبر من الإمام مطلقاً أو حيث كانت الجمعات متعددة.

فالراجح في أصل هذه المسألة أن إقامة الجمعة لا يشترط فيها إذن الإمام.

قال: (أحدها: الوقت)

فهو شرط للجمعة إجماعاً لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} والجمعة صلاة فدخلت في الصلوات المؤقتة، فالجمعة لها أول وآخر بإجماع أهل العلم، فلا تصح قبله ولا تصح بعده، وفرض أن تصلى فيه، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض جزئيات هذه المسألة.

قال: (أوله أول وقت صلاة العيد وآخره آخر وقت صلاة الظهر)

أما كون آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر وهو وجوب أذان العصر فهذا بالإجماع.

* وإنما اختلفوا في أول وقتها:

فالمشهور عند الحنابلة: أن أوله أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وقد نص عليه الإمام أحمد.

والثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن أول وقتها في الساعة السادسة أي قبل زوال الشمس بنحو ساعة، وهو اختيار الموفق وأبي بكر عبد العزيز، وظاهر كلام الخرقي.

الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور واختارها الآجري من أصحاب أحمد: أنها لا تصح إلا بعد زوال الشمس.

أما أدلة الجمهور:

فهو القياس على صلاة الظهر، فإن الجمعة وإن كانت أصلاً في يوم الجمعة فهي بدل عن الظهر فيه، وإن كان الظهر في يوم الجمعة بدلاً عنها من جهة أخرى.

فالأصل الظهر لكن الشارع جعل الأصل في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فكانت الظهر بدلاً عنها، فالأصل إنما هو في سائر الأيام هو صلاة الظهر، لكن الشارع استثنى من ذلك يوم الجمعة فجعل الجمعة أصلاً فيه، والظهر بدلاً عنها، وكون الظهر بدلاً عن الجمعة يدل على ارتباط بعضها ببعض.

قالوا: فحينئذٍ وقتها هو وقت صلاة الظهر.

ص: 16

قالوا: وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه من حديث سلمة بن الأكوع – كما في الصحيحين – قال:(كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به)، وفي مسلم:(كان يصلي إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء) وثبت من حديث أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس) أي حين تزول.

أما دليل من قال: إنها في الساعة السادسة: فهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن راح في الساعة الخامسة فكمن قرب بيضة فإذا خرج الإمام

.) الحديث.

فرتب النبي صلى الله عليه وسلم خروج الإمام بعد انتهاء الساعة الخامسة أي قبل الجزء الأخير - السادس - من الوقت الذي بين أول الرواح إلى الجمعة المستحب وبين زوال الشمس.

قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإمام يجوز أن يخرج بعد انتهاء الساعة الخامسة، وزوال الشمس يكون بعد انتهاء الساعة السادسة، وهم كانوا يقسمون النهار إلى اثني عشرة ساعة، فما بين الفجر إلى زوال الشمس ست ساعات، وما بين زوالها إلى غروبها ست ساعات، وإن كان مقدار الساعة يختلف صيفاً وشتاءً طولاً وقصراً.

ولما ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس "

ولما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) قالوا: والقيلولة والغداء إنما يكون قبل زوال الشمس.

قالوا: والذي منعنا من أن نطلق فنقول كما قال أهل القول الثالث وهو قول الجمهور: أن الأصل هو قياس الجمعة على الظهر كما تقدم ولم نستثن إلا ما وردت به النصوص الشرعية، وهو ما كان قبيل الزوال في الساعة السادسة.

أما القول الثالث، وهو نص الإمام أحمد وهو المشهور عند الحنابلة: أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد.

ص: 17

واستدلوا: بالأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني.

قالوا: هذه الأحاديث التي استدللتم بها تدل على أن وقت الجمعة ليس كوقت الظهر، فكون الشارع يثبت فرقاً بينهما فلا يصح – حينئذٍ – القياس؛ لأنه قياس مع الفارق، فهذه أحاديث صحيحة تدل على أنه كان يصلي قبل زوال الشمس فدل على أن الجمعة لا تقاس بالظهر، لأن الظهر لا تصح إلا إذا زالت الشمس.

قالوا: والمعنى يقتضي ذلك، فعندنا قياس هو أظهر من هذا القياس وهو قياس الجمعة على العيد، فإن الشارع قد فرَّق بين وقت الجمعة ووقت الظهر كما تقدم من كون النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قد صلى الجمعة قبل الزوال فدل على أن القياس ضعيف.

أما قياسنا على العيد فهو أظهر، فإن الجمعة عيد الأسبوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم – في أبي داود -:(اجتمع في يومكم هذا عيدان) أي عيد السنة وعيد الجمعة، فكان القياس في هذا أظهر، فهي عيد الأسبوع، وأما كون الشارع لا يصليها كصلاة العيد فلمصلحة حضور الناس واجتماعهم لها.

وقد أجزأت صلاة العيد عن الجمعة فدل على أنها في حكمها، فكونه يجزئ عنها دل على أنها في حكمها.

إذن: الراجح مذهب الحنابلة: وأن الجمعة لو أقيمت كما يقام العيد أي بعد ارتفاع الشمس قيد رمح فإنها تصح.

لكن قالوا: الأفضل أن يكون ذلك إذا زالت الشمس خروجاً من الخلاف.

ولا شك أن الخروج من الخلاف في هذه المسألة قوي؛ لأنه أحوط كما أنه أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غالب أمره، إما أن يصلي إذا زالت الشمس أو قبيل الزوال، وإن كانت الأحاديث في كونه يصليها بعد الزوال أكثر من التي فيها أنه صلاها قبيل الزوال، وكذلك هو أفضل لما فيه من مصلحة اجتماع الناس.

فهو الأحوط ومع ذلك لو فعل لصحت جمعته.

وظاهر قولهم أن هذا في الجمعة كلها بخطبتيها وصلاتها؛ لأن الخطبتين – عندهم – عن ركعتين.

ص: 18

فلو خطب الناس قبل الوقت – وإن صلى الجمعة بعد دخول الوقت – فإنها لا تصح، فالواجب أن يدخل في الوقت خطبتاها؛ لأنهما منها وسيأتي الكلام عن هذا - ونحوه - عند الكلام على شروط الخطبة.

وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن ابن سيدان قال: (شهدت مع أبي بكر خطبته وصلاته فكان ينصرف قبل أن ينتصف النهار، ثم شهدت عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدت عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار)

لكن الأثر ضعيف فإن ابن سيدان قال فيه البخاري: " لا يتابع على حديثه " وهذا قد استدل به الحنابلة، ولكن في الأحاديث المتقدمة غُنية عن هذا الأثر الضعيف.

قال: (فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً وإلا فجمعة)

خرج وقت الجمعة قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنهم يصلون ظهراً، لأن الوقت لا يدرك بأقل من تكبيرة الإحرام.

أما إذا أدركوا تكبيرة الإحرام فجمعة لذا قال: " وإلا فجمعة " وهذا على القول المرجوح الذي تقدم، وتقدم أن الراجح خلافه وأن الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، خلافاً للمشهور من المذهب، لحديث:(ومن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فالصلاة لا تدرك إلا بركعة. فإذا أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الجمعة.

فمثلاً: رجل خطب الناس ثم نزل فكبر للصلاة فأذن المؤذن للعصر وقد أتم ركعة فحينئذٍ يصلي ركعة أخرى جمعة. أما إذا أذن المؤذن وهو لا زال في الركعة الأولى فإنه يصليها ظهراً.

والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها)

هذا الشرط الثاني من شروط انعقاد الجمعة وصحتها، وهو أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها.

وتقدم من هم أهل وجوبها وهم: كل ذكر حر مكلف مسلم غير مسافر ويستثنى من الحر المملوك والمسافر، ومن المسلم المرأة فإن الجمعة لا تنعقد بها.

ص: 19

ولا يستثنى من ذلك المريض لأنه من أهل وجوبها وقد تقدم البحث في أهل وجوبها، وتبيَّن الراجح وعليه، فإن المملوك تنعقد به والمسافر تنعقد به فهم من أهل وجوبها لأنها تنعقد بهم على الراجح.

أما على المذهب: فيستثنى من ذلك المسافر والمرأة، والمملوك والصبي فهؤلاء ليس من أهل وجوبها، أما المريض فإنه من أهل وجوبها، وإنما عذر لمشقة ذلك عليه، فإذا حضر فقد زال عذره.

فيشترط أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها.

واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد حسن: أن كعب بن مالك كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زراره فسئل عن ذلك فقال: (لأنه أول من جمَّع بنا في هَزْم - المطمئن من الأرض - النَّبيت - موضع حول المدينة - من حرَّة بني بياضة - الحرة هي المكان الذي يكون فيه الحجارة السوداء - في نقيع - وهو ما ينتقع به ماء المطر ونحوه - يقال له: نقيع الخَضَمات - وهو موضع حول المدينة إلى قبل منها - فقيل له: كم كنتم يومئذ؟ فقال: أربعون " (1)

وبما رواه الدارقطني عن جابر قال: (مضت السنة في أربعين فما فوق جمعة) .

هذا دليل الحنابلة والشافعية في هذه المسألة.

وقال أبو حنيفة: يشترط لها أربعة.

واستدل: بما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربع) .

وذهب شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: إلى أن الشرط أن يحضرها ثلاثة، لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) .

وقال الظاهرية وهو مذهب النخعي والطبري صاحب التفسير: يشترط لها اثنان.

وقيل غير ذلك حتى ذكر الحافظ ابن حجر أن الأقوال فيها تصل إلى خمسة عشر قولاً.

أما دليل الحنابلة والشافعية:

(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب الجمعة في القرى، رقم 1068. [1 / 644] .

ص: 20

أما قول جابر فهو ضعيف؛ لأن فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو متروك فهو ضعيف جداً.

وأما حديث كعب بن مالك في تجميع أسعد بن زراره بهم، فهو وإن كان حديثاً حسناً، فإن هذا قد وقع اتفاقاً، وليس فيه أنهم لو كانوا أقل من ذلك كأن يكون ثلاثين أو عشرة – أنه لم يجمع بهم إنما فيه جواز التجميع بأربعين وإقامتها بأربعين.

ويرد هذا القول بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً) فنزل قوله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} ، فقد بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، قال الحنابلة ومن ذهب إلى قولهم: لا مانع من أن يكونوا قد رجعوا وقد سمعوا من الخطبة ما يجزئ وأقاموا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه دعوى تحتاج إلى دليل فقد أخبرنا الله عن انفضاضهم ولم يخبرنا عن رجوعهم وتعليق الحكم برجوعهم يحتاج إلى دليل يدل على ذلك. فعلى ذلك هذا القول ضعيف كما تقدم.

وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فكذلك، فإن الحديث فيه راو متروك، وقد ورد من طرق في أسانيده رجال ضعاف جداً فلا يرتقي إلى درجة الحسن.

وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة وهو قولهم: أن الجمعة تصح بثلاثة، واستدلوا بالحديث المتقدم:(إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم)

والجواب عنه: أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وليؤمكما أكبركما) فصحت الجماعة باثنين فالجماعة اثنان فما فوق، فكوننا نفرق بين الاثنين والثلاثة هذا تفريق لا دليل عليه، فإذا جوزنا الثلاثة فكذلك الاثنين.

لذا ذهب أهل القول الأخير وهم الظاهرية وهو مذهب الطبري: إلى أنها تجزئ باثنين.

واستدلوا:

ص: 21

بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) الحديث، فقد قال:" في جماعة " وقد دلت السنة على أن اثنين فما فوق جماعة - كما تقدم هذا في باب صلاة الجماعة – ويدل عليه حديث: (وليؤمكما أكبركما) فهذا القول هو أرجح الأقوال.

- وقال المالكية، وهو قول قوي: إن العدد المشروط هو ما تتقرَّى به القرية أي: إذا كان هناك عدد يصبح به هذه المحل المستوطن به قرية فإنهم يجوز لهم أن يجمعوا، ويرجع ذلك إلى العرف، فالبيت مثلاً أو البيتان في عرف الناس ليس بقرية فلا يجوز لهم أن يجمعوا. قالوا: ويستثنى من ذلك الثلاثة والأربعة وما في معناها فإنهم لا يجوز لهم أن يجمعوا.

وهذا القول مع قوته لكونه ضابطاً يرجع إلى العرف، لكن ما ذهب إليه أهل القول الأخير وأنها تصح باثنين أظهر مع هذا الشرط ولابد. فإن ما ذكره المالكية إنما هو شرط في الموضع الذي تقام فيه الجمعة، فإذا كان هناك موضع فيه بيوتات يصح أن يطلق عليها قرية في عرف الناس فإنهم يقيمون جمعة وإن لم يحضرها إلا اثنان أو ثلاثة منهم.

فأرجح الأقوال وهو مذهب الظاهرية وقول الطبري والنخعي: أنها تصح باثنين فأكثر لكن بشرط أن يكون الموضع – وهو ما ذهب إليه المالكية وينبغي أن يكون شرطاً عند هؤلاء لأنه قد تقدم أن المسافر لا يقيم جمعة وأهل البادية غير المستوطنين فيها، الذين يرتحلون صيفاً وشتاءً لا يقيمون الجمعة، فإذا كان هناك - في قرية، في عرف الناس، فصلوا الجمعة صحت منهم وإن لم يشهدها إلا جماعة منهم والجماعة اثنان فصاعداً كما تقدم.

ص: 22

وهذا الحضور شرط في الخطبة والصلاة، ولابد أن يحضر هذا العدد قدر الإجزاء من الخطبة – وسيأتي –، لذا لو أن الإمام خطب في عشرين فلما أقيمت الصلاة تموا أربعين فليس لهم أن يقيموا الجمعة إلا وأن يعيدوا الخطبة؛ لأنها وقعت غير مجزئة للجمعة؛ لأن الشرط فيها أن يحضرها أربعون كالصلاة. فإن حضر فيها قدر الإجزاء أي سمع ما تصح وما يجزئ خطبة فإن ذلك يجزئ.

قال: (الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين)

تقدم هذا الشرط وأن الاستيطان شرط فلا يقيمها مسافر ولا من كان في بادية ينتقل عن موضعه شتاءً وصيفاً وإنما من كان مستوطناً قد اتخذ الموضع وطناً له فإنه يقيم الجمعة بالعدد المذكور المتقدم.

قال: (وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء)

أي يصح لهم أن يقيموا الجمعة في المصر أو القرية بل لهم أن يقيموها في موضع فسيح عن البلدة.

فلو كانت البلدة ليس فيها موضع يتسع للناس فصلوا الجمعة في الصحراء – كما يكون ذلك في العيد والاستسقاء – فإنه لا بأس بذلك.

ودليله: حديث كعب بن مالك المتقدم وفيه: أنهم أقاموا الجمعة في حرة بني بياضة، وهي على ميل من المدينة -. ولكن هذا الإطلاق يقع في النفس منه شيء، وهو أن يقال: إنها حينئذ تكون مضاهية لما يشرع له الخروج إلى الصحراء وإن وقع ذلك مجزئاً، فإن القول بمثل هذا لا ينبغي إلا أن يحتاج إليه كأن يكون الموضع في الحاضرة في الاجتماع فيه عسر ويسبب ازدحاماً أو نحو ذلك.

أما أن يخرجوا مع عدم الحاجة فإن ذلك خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرَّق بين الجمعة وغيرها كالعيد والاستسقاء، فكان يصلي العيد والاستسقاء في الصحراء، ويصلى الجمعة في البلدة، فالذي يظهر أن ذلك خلاف السنة لكن مع ذلك تقع مجزئة، إلا أن يحتاجوا إلى ذلك فلا بأس.

قال: (فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً)

هنا مسألتان:

ص: 23

المسألة الأولى: ظاهر قول المؤلف هنا: أنهم لو نقصوا عن الأربعين فأصبحوا – مثلاً – تسعاً وثلاثين أو ثمانياً وثلاثين فإن الجمعة لا تنعقد ولا تصح منهم، وحينئذٍ فإنهم يستأنفون ظهراً.

وظاهر قوله هنا: سواء أدركوا ركعة أو لم يدركوها.

فمثلاً: لما انتهوا من الركعة الأولى حدث عذر لبعض المصلين فانصرف - فأصبحوا تسعاً وثلاثين – فإنهم تبطل جمعتهم.

- والقول الثاني، وهو مذهب الإمام مالك أنها لا تبطل، ومثل هذا في الحقيقة هو القوي، لأن إبطالها بخروج رجل واحد، هذا محل مشقة على المصلين، فكان الأولى ما ذهب إليه الإمام مالك فيما إذا أدركوا ركعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم:(من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، وهؤلاء قد أدركوا ركعة من الجمعة، وهو قول لبعض الحنابلة وهو الراجح.

المسألة الثانية: فهي أنه إذا دخل مع الإمام فلم تصح له الجمعة فإنه يجب عليه أن يستأنفها، فبطلان الجمعة يوجب استئنافها لا إتمامها.

فمثلاً: كبروا ثم ثبت أنهم ليسوا بأربعين أو حدث عذر كما تقدم، فإن الواجب أن يستأنفوها ظهراً، فيقطع الإمام صلاته ويكبر مرة أخرى بنية الظهر.

فإذا بطلت أثناء صلاتهم الجمعة بنقص العدد المذكور، فالواجب عليهم أن يستأنفوها ظهراً، ولا يتموها ظهراً بل يستأنفونها من جديد.

قالوا: لأن الجمعة صلاة مستقلة فليست بظهر، وقد دخل فيها بنية الجمعة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

وقال بعض الحنابلة: يتموها ظهراً بلا استئناف.

واستدل: بأنها ظهر مقصورة.

وتقدم أن هذا ضعيف، وأن الجمعة صلاة مستقلة على الصحيح، فيشترط فيها أن ينويها جمعة.

ويتضح هذا في مسألة ذكرها المؤلف بعد ذلك وهي قول:

قال: (من أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)

ص: 24

فمن أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة فإنه يتمها جمعة. فمثلاً: رجل أدرك مع الإمام الركوع، فإنه يدرك الجمعة فيضيف لها ركعة أخرى. لما ثبت في النسائي من حديث أبي هريرة، بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة) ولا يكون إدراك الركعة إلا بإدراك ركوعها. أما إن لم يكن ذلك بأن يدرك أقل منها فإنه يصليها ظهراً لذا.

قال: (وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً)

فإذا أدرك من الصلاة أقل من ركعة، كأن يأتي والإمام رفع رأسه من الركوع أو في التشهد فإنه يصليها ظهراً، لما ثبت عن ابن مسعود – في مصنف ابن أبي شيبة ومعجم الطبراني في الكبير – أنه قال:(من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعاً) والأثر صحيح، وإجماع أهل العلم عليه. وهو ثابت من فعل الزبير بن العوام في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف فكان ذلك إجماعاً.

لكن هنا: شرط المؤلف شرطاً:

قال: (إذا كان نوى الظهر)

أي إذا دخل بنية الظهر، فمثلاً: دخل رجل والإمام قد رفع من الركوع فقد فاتته الجمعة فحينئذٍ يكبر بنية الظهر فيتم الصلاة ظهراً، فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقوم فيتم أربعاً.

وهناك شرط آخر ذكره الحنابلة: وهو أن يكون ذلك في وقت الظهر.

وعليه: فلو كان ذلك قبل زوال الشمس فلا يتمها ظهراً بل نفلاً؛ لأن الواجب في الظهر أن تصلى في وقتها ووقتها بعد زوال الشمس.

فإذا أتى والإمام في التشهد في صلاة الجمعة فعليه أن ينوي إذا دخل معه أنها ظهر، ويشترط كذلك أن يكون في ذلك في الوقت الذي تصح به الظهر أي بعد الزوال وليس في الوقت الذي تصح فيه الجمعة.

ص: 25

فإذا دخل بغير نية الظهر فإنه يبطلها ويستأنفها ظهراً، فلو كبر مع الإمام بنية الجمعة فتبين أن الإمام قد ركع الركوع الثاني وقد فاتته الركعتان فحينئذٍ يستأنفها ظهراً، لأنه قد نواها جمعة، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى والجمعة صلاة مستقلة.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويشترط تقدم خطبتين)

أي ويشترط في صحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين، فمن شروط صلاة الجمعة أن تتقدمها خطبتان؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باتفاق العلماء، وأن الخطبة شرط في الجمعة.

ودليل ذلك: أن الله أمر بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر من الله يوجب السعي إلى ذكره، وذكره يوم الجمعة في الخطبة وصلاتها، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس)، وفي صحيح مسلم عن جابر قال:(كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الله) .

فهذه الأحاديث التي فيها فعله الراتب الذي قد داوم عليه عليه الصلاة والسلام هو بيان لمجمل قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} فكانت الخطبتان يوم الجمعة قبل صلاتها فرضاً من فروضها، فلا تصح الجمعة إلا بذلك – كما هو مذهب جماهير العلماء -.

قال: (ومن شروط صحتها (1) حمدُ الله تعالى)

أي من شروط الخطبة، فالخطبة لها شروط لا تصح إلا بها.

فهذه أركان الخطبة التي لا تصح الخطبة إلا بها، وهذه الأركان أو الشروط التي يذكرها المؤلف في الخطبتين كلتيهما الأولى والثانية.

وقال الحنابلة – في المشهور عندهم -: أن الخطبتين تقومان مقام الركعتين من صلاة الظهر، وهذا على أن الظهر هي الأصل وهي تمام، وأن الجمعة بالنسبة إليها ظهر مقصورة في يوم الجمعة، وهذا خلاف الراجح.

(1) في نسخة: صحتهما.

ص: 26

والراجح ما تقدم وأن الجمعة تمام وليست بظهر مقصورة، وقد تقدم قول عمر: (والجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم رواه النسائي بإسناد صحيح.

" حمد الله تعالى ": فحمد الله ركن في الخطبة.

واستدلوا: بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) والحديث الصواب أنه مرسل كما رجح ذلك الدارقطني وغيره.

لكن ذلك ثابت من فعله – صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم من حديث جابر قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله ويثني عليه ثم يقول إثر ذلك وقد علا صوته

) الحديث وفيه: (أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هدي محمد " وتصح: خير الهَديْ هدي محمد " وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " وفي رواية: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)

وقال شيخ الإسلام: بأن الواجب إنما هو التشهد بأن يتشهد فيقول: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله " وهو اختيار ابن القيم.

واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم، - رواه الترمذي وأبو داود والحديث حسن -:(كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)(1) أي كاليد المقطوعة، فقال بوجوب ذلك وإن لم يكن ذلك شرطاً عنده في صحتها.

وما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح، وهو وجوب التشهد فيها فهو واجب للحديث المتقدم، لكن ذلك ليس شرطاً في صحتها، والحمد فيها مستحب لحديث جابر المتقدم.

قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

قالوا: لأن كل موضع ورد فيه ذكر الله فإنه يشرع فيه الذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة عليه كالأذان، ففيه شهادة أنه لا إله إلا الله، وفيه شهادة أن محمداً رسول الله.

(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب: باب في الخطبة، برقم 4841، [5 / 173] .

ص: 27

لكن يرد هذا: بعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح لنا أنه كان يصلي على نفسه في خطبته، وإن كان ذلك مشهوراً عند أصحابه كما ذكر ذلك ابن القيم.

ولكن ما ذكره شيخ الإسلام وجيه: أي في فرضية التشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أي في قوله: " وأشهد أن محمداً رسول الله " أي وجوب الشهادة بأنه رسول الله.

ولا شك أن شهادة أن محمداً رسول الله أولى من الصلاة عليه، فإن الشهادة لا يصح الإيمان إلا بها. بخلاف الصلاة عليه فإن غاية أمرها الوجوب كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم.

لكن الراجح: أن الواجب أن يصلي عليه ولو مرة وأن ما سوى ذلك مستحب.

فلا شك أن الإخبار بأنه رسول الله وإعلان ذلك على الملأ ذلك أبلغ من مجرد الصلاة عليه.

ولكن مع ذلك على القول بعدم وجوبها، فإن الصلاة عليه أمر مستحب لشهرته عن الصحابة.

قال: (وقراءة آية)

فقراءة الآية شرط في صحة الخطبة، لما تقدم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يقرأ القرآن ويذكر الله) رواه مسلم.

لكن هذا الحديث لا يدل على فرضية ذلك، نعم هو أفضل المواعظ وأعلاها قدراً وأولاها بالاتعاظ والعبرة لكن ذلك لا يدل على فرضيته، فتصح الخطبة ولو لم تقرأ فيها آية، هذا هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ الموفق.

وإن كان الأولى في الخطبة والأفضل أن تشتمل على آيات قرآنية لأن الآيات القرآنية هي أعظم المواعظ وفيها أعظم التأثير والاعتبار.

قال: (والوصية بتقوى الله عز وجل

وليس مراده هنا: تخصيص هذا اللفظ بأن يقول: اتقوا الله أو نحو ذلك.

لكن المقصود من ذلك أن يعظهم بأن يحثهم على طاعة الله ورسوله وترك معصيتهما خوفاً من الله. لذا عبَّر بعضهم: بلفظ: " الموعظة " محل قوله " الوصية بتقوى الله ".

ص: 28

ولا شك أن الموعظة هي الشرط الأساسي في الخطبة فهي المقصود الأعظم منها – وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم– كما في مسلم -: (يقرأ القرآن ويذكر الناس)

وروى أحمد عن علي أو الزبير بن العوام – والشك في الرواية – قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبنا ويذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه) .

فكانت خطبته تذكيراً للناس بالله عز وجل، وهذا هو الذي يناسب يوم الجمعة، وهو اليوم الذي خلق فيه آدم وفيه يبعث الناس وفيه الصعقة والنفخة كما صحت بذلك الأحاديث، ولذا شرع أن يقرأ في صبيحته " بالسجدة " و " هل أتى على الإنسان "؛ لما فيهما من التذكير العظيم والاعتبار والموعظة.

فإذن: روح الخطبة الموعظة والتذكير، فكانت خطبته موعظة للناس وتعليماً لهم وتفقيهاً في قواعد الإسلام وشرائعه.

لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم – في خطبته -: كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم " أي: كان في غاية ما يكون من التأثير والتأثر في خطبه كالتأثير الخارج من منذر الجيش الذي يقول لهم: " صبحكم أو مساكم ".

وهي شرط في الخطبتين كلتيهما، فكل خطبة يجب أن تشتمل على التذكير بالله وبأوامره وبشرعه وبقواعد الإسلام فإن الخطبة إنما شرعت لذلك.

- وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام مالك: الشرط فيها ذكر الله فقط، فإذا ذكر الله ولو قال:" سبحان الله " ونحو ذلك صحت.

لكن هذا ضعيف، لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يبين مجمل القرآن ويوضحه فإن الله قد أمر بذكره وذكره ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خطبتين مشتملتين على التذكير والمواعظ.

فإذن: الخطبة المجزئة هي الخطبة المشتملة على المواعظ والتعليم والتفقيه في الخطبتين كلتيهما، ولا يشترط فيهما على الصحيح الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا قراءة آية من القرآن وإن كان المستحب هو ذلك – أي الصلاة وقراءة القرآن - ولا يشترط فيهما الحمد والثناء وإن كان مستحباً.

ص: 29

ويجب فيهما على الراجح – وإن لم يكن شرطاً – أن يشهد لله بالألوهية ولنبيه بالرسالة يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ".

قال: (وحضور العدد المشترط)

تقدم أن المذهب: اشترط عدد أربعين في الجمعة وقد تقدم وصفهم.

فذلك الشرط المذكور شرط في الخطبة أيضاً؛ لأن الخطبة من الجمعة، فالجمعة خطبة وصلاة، فالشرط شرط فيهما جميعاً.

وقد تقدم أن الراجح أن القرية إذا أقيمت فيها الجمعة فإنه لا يشترط فيها عدد بل لمّا صحت به الجماعة فإن الجمعة تصح منه على القول الراجح، وقد تقدم.

ومن شروط صحة الخطبة: الوقت، فلا تصح قبل دخول الوقت وإن كانت الصلاة بعد دخوله.

وقد تقدم أن المذهب أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، فلا يصح أن يخطب قبل ذلك وإن صلى بعده، فكما أن الوقت شرط في الصلاة فهو شرط في الخطبة كذلك؛ لأن الجمعة تشمل الخطبة والصلاة جميعاً، فما كان شرطاً في الصلاة فهو شرط في الخطبة، وهذا باتفاق أهل العلم.

ومن شروطها: الموالاة بين أجزائها.

فإذا قطعها بقاطع طويل عرفاً فإنها تبطل، لأن الخطبة لا تسمى خطبة إلا إذا اتصل بعضها ببعض.

وهل تبطل بالكلام اليسير المحرم؟

قال الحنابلة: تبطل.

وقال بعض الحنابلة: لا تبطل كالأذان، وقد تقدم أن الأذان لا يبطله الكلام اليسير المحرم، فكذلك الخطبة ثم إن الخطبة قد توفرت فيها شرائطها وأركانها، وكونها يقع فيها النهي هو يعود إلى ذاتها ولا إلى شرط فيها فلم يبطلها. ومثال اشتمالها على الكلام المحرم، كأن يتكلم ببدعة ونحوه.

ومن شروطها – في المشهور في المذهب – أن تكون باللغة العربية مع القدرة على ذلك، أما مع غير القدرة والعجز فإنها تصح بغير العربية، لقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .

ص: 30

أما مع القدرة على التكلم بالعربية فهي شرط، فلا تصح الخطبة إن كان هناك من يمكن أن يتكلم باللغة العربية.

وظاهر كلامهم مطلقاً وإن كان من يحضرها من العجم: لذا قال بعض الحنابلة، بل تصح، وهذا أرجح، وأن الخطبة بغير العربية تصح إن كان الحاضرون لها لا يفهمون إلا بذلك، لأنه لا يحصل المقصود من الخطبة إلا أن يكون الفهم فيها، ولا يكون الفهم إلا إذا كانت باللغة التي يتخاطب بها المستمعون.

فحينئذٍ: الراجح وهو قول للحنابلة خلافاً للمشهور عندهم أن الخطبة بغير اللغة العربية تصح، وإن كان الخطيب قادراً على أن يتكلم باللغة العربية إذا كان من يسمعها من غير العرب.

ثم إن الخطبة ليست قرآناً أو ذكراً من الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم الموقوفة عليه، لا تصح إلا بهذا الذكر بلفظه أو آية قرآنية التي لا يجوز أن يترجم إلى لغة أخرى.

فالخطبة المقصود منها الوعظ من غير أن يتوقف بلفظ محدد، فحينئذ لا معنى لاشتراط أن تكون بلغة عربية، فإذا خطب بلغة أعجمية لعجم لصحت بل هو أولى لأن التفاهم لا يحصل إلا بذلك وهو مقصود الخطبة.

قال: (ولا يشترط لها الطهارة)

فلا يشترط للخطبة الطهارة فلو خطب الخطيب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر فإن الخطبة تصح، وإن كان المستحب له أن يخطب طاهراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة.

لكنه إن خطب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر، فالخطبة صحيحة وهو المشهور في المذهب وأحد قولي الشافعي.

والرواية الأخرى عن أحمد وهي أحد قولي الشافعي: أن الخطبة تشترط لها الطهارة.

ولا دليل على ذلك فهي كالأذان، وإنما الطهارة شرط في الصلاة.

ص: 31

لكن عن الإمام أحمد - وقال الموفق: وهو الأشبه بأصول المذهب -: أن تكون الطهارة من الجنابة شرط في صحتها، لأن قراءة آية في الخطبة فرض، ولا تصح ولا يجزئ أن يقرأها وهو جنب، وهذا القول بناءً على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن وعلى القول بأن الآية فرض أن تقرأ في الخطبة.

والصحيح: في هاتين المسألتين كلتيهما أنه لا يجب أن يقرأ آية في الخطبة وأن قراءة القرآن للجنب جائزة كما تقدم ترجيحه في باب الغسل.

إذن: الصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: وأن الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر ليس بشرط في الخطبة، وإن كان المستحب له ألا يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة.

قال: (ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة)

هذا المشهور في المذهب، وأنه لا يشترط أن يتولى الصلاة من تولى الخطبة، فلو خطب خطيب وصلى آخر فلا بأس؛ لأن الواجب هو إقامة الخطبة والصلاة من غير شرط أن يكون ذلك من إمام واحد، وإن كان المستحب والأولى أن يتولاهما إمام واحد كما كان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر الخلفاء الراشدين.

لكن لو خطب خطيب وتولى الصلاة آخر فإنه لا بأس بذلك لأنه لا دليل على اشتراط أن يتولاهما واحد، لأنهما كالصلاتين المختلفتين، فكما لو جمعت الصلاتان فصلى أحدهما إمام والأخرى إمام آخر فلا بأس بذلك.

قال: (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال)

" أن يخطب على منبر " إجماعاً؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشهور عنه ومن ذلك ما ثبت في البخاري عن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة على المنبر يقول: " من جاء إلى الجمعة فليغتسل) .

" أو موضع عال " فلا بأس أن يخطب على موضع عال وإن كان الأولى له أن يخطب على منبر، فإن لم يجد المنبر فإنه يخطب على موضع عال لحصول المقصود به.

ص: 32

وعليه: فلو خطب على الأرض فلا بأس وخطبته صحيحة لأنه قال: " ومن سننهما " وهذا بالإجماع، فالمنبر سنة فيها، والموضع العالي يجزئ فيها، وإن خطب على الأرض فإن ذلك لا بأس وإن كان خلافاً للسنة.

قال: (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم)

يستحب له إذا ارتقى على المنبر أن يستقبل المأمومين بوجهه ويسلم عليهم، لما ثبت في ابن ماجه وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد على المنبر سلم) وله شاهد عند الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، فعلى ذلك الحديث حسن.

ولو قال: " السلام عليكم " أجزأه، فإن السلام يصدق على قوله:" السلام عليكم "، والمستحب زيادة:" وبركاته ".

قال: (ثم يجلس إلى فراغ الأذان)

فإذا سلم جلس إلى فراغ الأذان، لقول ابن عمر كما في سنن أبي داود قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم[يخطب خطبتين، كان] يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ قال الراوي: " أراه قال "المؤذن " أي حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم - وهي الجلسة بين الخطبتين-[ثم يقوم فيخطب] )(1)، وثبت في البخاري من حديث السائب بن يزيد قال:(كان النداء يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر) .

قال: (ويجلس بين الخطبتين)

لحديث ابن عمر المتقدم، وهي مستحبة وليست بواجبة فلو لم يجلس فلا بأس، لكن الغرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين، فإذا انتهى من الخطبة الأولى استحب له أن يجلس، فإن لم يجلس ففرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين؛ لأن الواجب فيها خطبتان ولا يتم الواجب إلا بأن يفصل بينهما بسكوت.

قال: (ويخطب قائماً)

(1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الجلوس إذا صعد المنبر [1 / 657] .

ص: 33

هذا هو المستحب، فخطب جالساً فلا بأس لكن المستحب هو القيام، لحديث ابن عمر المتقدم، وفيه النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يخطب خطبتين وهو قائم) فهذا هو المستحب؛ لأنه فعل والفعل لا يدل على الوجوب، وهو فعل الخلفاء الراشدين.

وأول من جلس على المنبر – وهو محمول على العذر – هو معاوية رضي الله عنه، فقد ثبت في سنن سعيد بن منصور أن أول من جلس في الخطبة معاوية رضي الله عنه، وذلك لعله لعذر فيه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدين فلم يصح عن أحد منهم خلاف السنة.

قال: (ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا)

لما ثبت في سنن أبي داود عن الحكم بن حَزْن الكُلَفي قال: (وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه قلنا: يا رسول الله، زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر والشَّانُ إذ ذاك دونٌ] فأقمنا [بها] أياماً فشهدنا [فيها الجمعة] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى [عليه] كلمات خفيفات مباركات)(1) ، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على قوس أو عصا.

وأما السيف فلم يصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ذلك ابن القيم، لأن الاتكاء على القوس لا يراد منه إظهار شيء سوى استعانة الخطيب به، فالاتكاء ليس المقصود منه إظهار قوة الإسلام أو نحو ذلك وأن الإسلام قام بالسيف – كما قال ذلك الحنابلة –، فإن ذلك ليس بصحيح إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتكأ على سيف مطلقاً.

(1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس [1 / 658] .

ص: 34

ولأن الإسلام قد قام بالدعوة والبيان، وإنما احتيج إلى السيف عند امتناع من امتنع عن قبوله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكأ على عصا كما تقدم، فالمقصود هو ذات الاتكاء، وما يستعين الخطيب من ذلك تقوية نفسه أو نحو ذلك، وليس المقصود إظهار شيء مما ذكره بعض الحنابلة كما رد على ذلك ابن القيم أو غيره.

قال: (ويقصد تلقاء وجهه)

فالمستحب للخطيب في خطبته أن يقصد تلقاء وجهه، فلا يأخذ يميناً وشمالاً أي لا يلتفت أثناء الخطبة إلى ميمنة المسجد أو ميسرته، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن هذا أسمع لكلامه فإنه إذا أخذ تلقاء وجهه استوى أهل المسجد في سماع كلامه، بخلاف ما إذا أخذ يمنة فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميسرة المسجد، وهكذا إذا أخذ ذات اليسار فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميمنة المسجد، فكان المستحب أن يكون تلقاء وجهه ليكون ذلك أسمع لكلامه وليكون أعدل بينهم.

قال الموفق: " وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم "، ولم أر ما يدل عليه نصاً، وإن كان اتفاق أهل العلم على ذلك والمصلحة تقتضي أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

- والمستحب للمأمومين أن يقبلوا بوجوههم على الإمام حتى من كان في ميمنة المسجد أو ميسرته، وقد وردت في ذلك حديث وآثار.

أما الحديث فهو ما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم) لكن الحديث ضعيف مرسل.

وقد قال الترمذي: " ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، لكن ذلك ثابت عن أصحابه، قال البخاري: " واستقبل ابن عمر وأنس الإمام وهو يخطب " ولا يعلم لهما مخالف.

لذا قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يستحبون أن يستقبل الناس الإمام بوجوههم " وليس المقصود بالنظر بالأعين، وإنما المقصود أن يعطيه وجهه، فيستقبل الخطيب بوجهه.

ص: 35

قال: (ويقصر الخطبة)

هذا هو المستحب، لما ثبت في مسلم عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّةٌ من فقهه)

فقصر الخطبة وطول الصلاة مئنَّة الفقه، فالمستحب قصر الخطبة وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، أما فعله فقد تقدم في قول الصحابي:(فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات مباركات) ، وأما قوله فهذا الحديث.

فالمستحب للخطيب أن يقصر خطبته، ويورد على السامعين جوامع الكلم، والألفاظ المشتملة على المعاني الكبيرة، ويقصر ذلك لئلا يضجرهم ويوقع الملل في نفوسهم ولئلا ينسي الكلام بعضه بعضاً، والعلم إنما يلقى شيئاً فشيئاً كما قال ابن عباس في قوله:" كونوا ربانيين، قال: الذين يعلمون صغار المسائل قبل كبارها " فالخطباء الربانيون هم الذين يعلمون الناس الشيء اليسير حتى يتدرجون معهم إلى الشيء الكبير ويعلمونهم الأساس والأصل قبل أن يعلمونهم الفرع.

قال: (ويدعو للمسلمين)

فيستحب له أن يدعو للمسلمين، قال في الإنصاف:" بلا نزاع " واستدلوا: بمثل استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة فهذا يدل على جواز الدعاء فيها، ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية الدعاء واستحبابه.

ولما ثبت في مسلم عن عمار بن رؤيبة (1) : أنه رأى بشر بن مروان وهو يخطب رافعاً يديه فقال: (قبَّح الله هاتين اليدين ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يشير بأصبعه) وأشار بأصبعه السباحة " وفي رواية لأحمد: " يدعو على المنبر "، وهذا هو الشاهد.

وأما رفع اليدين فإنه بدعة كما صرح بذلك المجد ابن تيمية وقد قال شيخ الإسلام: " ويكره للخطيب أن يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة والمشروع له أن يشير بإصبعه السبابة ".

(1) في التقريب: عمارة بن رُوَيْبة.

ص: 36

فإذن: يكره للخطيب وغيره من المستمعين أن يرفعوا أيديهم أثناء خطبة الإمام إذا دعا والمستجيب أن يشيروا بأصابعهم.

فإن دعا لولي أمر المسلمين: فاستحسن ذلك الإمام أحمد وعدد من أهل العلم، ولا شك أن صلاح الإمام صلاح للمسلمين عامة؛ لكونه أولى بتخصيص الدعاء من عامة المسلمين، لما في إجابة الدعوة من الله فيه من المصلحة له ولغيره من المسلمين ممن هم رعية له وتحت ولايته.

وأنكر ذلك بعض أهل العلم وقال: هو محدث كعطاء بن أبي رباح.

لكن الأظهر هو جوازه، لكن لا يكون ذلك على سبيل المداومة فلا يتخذ ذلك سنة في كل خطبة، وإنما يفعل ذلك أحياناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يثبت عن أحد منهم المداومة على ذلك واتخاذه سنة.

أما فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فإن الخطبة موضع إجابة بدليل استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

وفيها اجتماع المسلمين فيرجى أن تجاب الدعوة، فإذا خصص بذلك إمام المسلمين والطائفة المجاهدة، أو نحو ذلك فلا بأس، وأما اتخاذ ذلك سنة فإنه في الحقيقة ليس بسنة، كما أنكر ذلك وأدخله في البدع صاحب الاعتصام وأن الاستمرار في الدعاء للمرابطين والمجاهدين أن ذلك بدعة – وهو كما قال – فغنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستمرار في الدعاء للمجاهدين والمرابطين ونحو ذلك.

أما إذا احتاج المسلمون إلى ذلك فإنه يفعل لكن لا يكون على سبيل الدوام، ومثل ذلك الدعاء لولي أمر المسلمين فلا بأس به لكن لا يكون ذلك على سبيل الدوام، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.

فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الجمعة ركعتان)

وهذا بإجماع العلماء، وقد تقدم من الأحاديث ما يدل على ذلك كقول ابن عباس:(فرض الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ركعتان) رواه مسلم.

وفي النسائي قال عمر: (والجمعة ركعتان

تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 37

فلا تصح بأربع، وإنما اختلفوا هل هي ظهر مقصورة أم صلاة مستقلة تامة، وقد تقدم أن الراجح أنها صلاة مستقلة تامة.

قال: (يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين)

كما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة " ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، ويقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة وبالمنافقين)

واختلف الحنابلة: هل المستحب أن يداوم عليها أم لا؟

أى قراءة السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة:

فالمشهور عندهم: كراهية ذلك؛ لئلا يظن وجوبها ولئلا يعتقد فضيلة السجدة وأنها إنما شرعت للسجدة فيها، ولذا نص شيخ الإسلام على كراهية تحري آيات أو سور فيها سجدة وقراءتها في صلاة الفجر يوم الجمعة، لأن هذا عن عقيدة أن المستحب هو اختيار سورة فيها سجدة وليس المراد ذلك، وإنما لما فيها من المعاني الشرعية المناسبة لذلك اليوم الذي هو يوم النفخة والصعقة ويوم البعث، وما تضمنه تلك السورة من المعاني المناسبة لذلك.

والقول الثاني – وهو الراجح –: أن المستحب له أن يداوم على ذلك، وقد ورد في الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليها، والحديث المتقدم شاهد له، فإن لفظة " كان " في الأصل تدل على المداومة ما لم يرد ما ينافي ذلك، وهنا كذلك.

أما ما ذكروه من أن ذلك يؤدي إلى اعتقاد وجوب قراءتها فإن هذا يدفع بتركها أحياناً مع كونه مداوماً عليها إلا الشيء اليسير، ولعل هذا مراد أهل القول الأول.

ثم إن هذه المظنة قد تندفع حيث تبينت السنة، فإذا كان أهل البلدة أو أهل المسجد يعلمون أنها سنة وليست بواجب، وأن السجدة ليست هي المقصودة، بل المعاني التي فيها، فإنهم يستحب لهم أن يداوموا عليها مطلقاً، لأن هذا المظنة مدفوعة عنهم.

ص: 38

إذن: المستحب أن يداوم على ذلك، لكن إن خشي اعتقاد الوجوب فإنه يتركها أحياناً لئلا يعتقد ذلك.

أما تحري آية أو سورة من القرآن فيها سجدة محلها، فإن هذا ليس من السنة بل هو من البدعة، لأن هذا تابع عن اعتقاد أن هذه السورة إنما خصت لما فيها من السجدة، وليس الأمر كذلك، فهي إنما خصت لما فيها من المعاني التي هي مناسبة ليوم الجمعة الذي هو اليوم الذي يبعث فيه العباد وفيه النفخة والصعقة وفيه خلق الله آدم وهذه السورة متضمنة لهذه المعاني كلها.

ويستحب أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية، لما ثبت في مسلم من حديث النعمان بن بشير قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وبهل أتاك حديث الغاشية)

وهاتان السورتان فيهما من المعاني المتقدمة ما هو ظاهر وواضح، فإنه يستحب: أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية أو الجمعة والمنافقون.

فسبح والغاشية: فيهما ما هو ظاهر من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال، وفيهما ما فيهما من الكلام عن الذكرى والتذكير، وأنه إنما يستحب إلى التذكير من هو متصف بالتقوى بخلاف الآخر فهو أشقى، ومعلوم أن الجمعة فيها من التذكير والوعظ والدعوة إلى الله ما يوجب التنبيه لذلك.

وأما سورة الجمعة والمنافقون:

أما سورة الجمعة: فإن فيها بيان حكم الجمعة ووجوب السعي إليها ووجوب العلم والقيام به.

وأما سورة المنافقون: ففيها من التحذير من النفاق، ومعلوم أن اجتماع الناس الكثير مظنة وجود المنافقين. فلهذه اختيرت هذه السور لمناسبتها لهذا الموقف العظيم.

قال: (وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة)

هذه مسألة كبيرة والناس يقعون – كما هو معلوم – في مخالفتها وهي: أنه لا يجوز أن يقام في المدينة – وإن كبرت – أو القرية أن يقام فيها جمعتان، وهذا قد اتفقت عليه المذاهب الأربعة وأنه يحرم ذلك وليس بمشروع بل هو بالإجماع ليس بمشروع.

ص: 39

قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يقام في المدينة جماعات كثيرة كما كان في مسجد قباء ومسجد بني سلمة وغيرهما فإنها كانت تقام فيها الجماعة، وأما الجمعة فلم تكن تقام في غير مسجده صلى الله عليه وسلم، فدل على أن إقامتها إنما تشرع في مسجد واحد، فلا يقام في أكثر من مسجد؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعل خلفائه الراشدين وهكذا كان الأمر في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، فلم تكن تقم في البلدة إلا جمعة واحدة.

وكانت المدينة بريداً - × - في بريد، أي ما يقارب 18كم × 18كم، كانوا جميعاً يحضرون جمعته، ولم تقم في المدينة سواها.

واستثنى الحنابلة الحاجة، فإذا كان هناك حاجة إلى إقامة جمعة أخرى فإنه لا بأس بذلك، لأن الشريعة قد أتت برفع الحرج.

فإذا كانت المدينة كبيرة كما يكون هذا في العواصم ويشق على الناس أن يأتوا من أقطارها المتباعدة، أو يكون المسجد لا يسعهم فتزدحم شوارعه ونحو ذلك فإن هذا حرج يقتضي إباحتها وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح.

- وقال الجمهور: لا يجوز ذلك مطلقاً حتى للحاجة فلا تقام إلا في مسجد واحد.

وعليه: فإن الناس يصلون ظهراً.

فمثلاً: إذا ازدحم المسجد أو كان في الحضور مشقة فإنهم يصلون في مساجدهم ظهراً ولا يقيمون جمعة أخرى؛ لأنه لم يقم في مدينته صلى الله عليه وسلم – مع كونها متباعدة الأطراف إلا جمعة واحدة.

وأجاب عنهم الحنابلة: بأن الحاجة لم تثبت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأن المدينة وإن كان في أطرافها تباعد لكنها سهلة السُبل فلم يكن هناك ازدحام شديد وكان المسجد يسعهم. ثم لو أثبتنا الحاجة لهم فإنهم إنما لم يقيموها لكونهم يؤثرون جمعته ولا يرغبون بخطبة بغير خطبته صلى الله عليه وسلم مع سهولة حضورها وإن كان يلحقهم شيء من الحرج، بخلاف الصلوات المتكررة فإنهم يشق عليهم أن يرتادوا مسجده مع تباعد محالهم، وهذا جواب ظاهر.

ص: 40

فما ذهب إليه الحنابلة – وهو اختيار شيخ الإسلام – ظاهر وهو استثناء الحاجة، كأن تكون المدينة كبيرة متباعدة الأطراف أو أن يكون المسجد لا يسعهم، أو أن يكون هناك عداوات تقتضي إقامة الجمعة أكثر من موضع لئلا تقع الفتنة بين الناس.

ومثل ذلك صلاة العيد عندهم فإنها لا يجوز أن تقام إلا في مصلى واحد إلا أن يحتاج الناس إلى مصليات أخر، فإنها تقام فيها بقدر الحاجة إلى ذلك.

قال: (فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه فالثانية باطلة وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا)

فإن فعلوا: فأقيمت جمعة أخرى ولا حاجة لذلك ففي مسألة الصحة والبطلان تفصيل وهو:

أنه إذا تميزت أحد هذه الجمعات بميزة كأن تكون هي جمعة الإمام أي التي يصلي فيها الأمير أو الحاكم أو تميزت بأن لها إذن الإمام، وأما غيرها من الجمعات فلا إذن له، أو تميزت بأنها في وسط البلد كما يكون هذا في الجوامع الكبيرة، فإذا تميزت جمعة بأحد هذه الميزات فإنها هي الصحيحة وما سواها فجمعة باطلة، وعليهم حينئذٍ أن يعيدوا صلاتهم ظهراً.

" فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه ": يعني كلاهما مأذون فيه أو كلاهما ليس بمأذون فيه، أو كان كلاهما له ميزة يتميز بها عن الآخر فالثانية باطلة، فالسابقة هي الصحيحة؛ لأن لها السبق ولأنها صليت حيث شرع ذلك ولا مزاحم لها فكانت هي الجمعة الصحيحة.

أما الجمعة الأخرى فإنها باطلة لأنها مسبوقة بجمعة مجزئة فتكون باطلة.

واعتبار ذلك في المشهور من المذهب بتكبيرة الإحرام، فإذا كبر تكبيرة الإحرام إحدى الطائفتين قبل الأولى فصلاتهم هي الصحيحة، ومن كبرت بعدها فصلاتها هي الباطلة.

وقال بعض الحنابلة: بل بالشروع في الخطبة، فإذا شرع أحد المسجدين بالخطبة قبل الآخر وإن شرع بعده بتكبيرة الإحرام فإن جمعته هي الصحيحة.

ص: 41

وهذا القول أرجح، لأن الجمعة شاملة للخطبة والصلاة فوقعت شيء منها صحيحاً مجزئاً فلا يصح بعد ذلك إبطاله.

" وإن وقعتا معاً " سواء قلنا إن ذلك بتكبيرة الإحرام أو بالشروع في الخطبة فإنهما تبطلان جميعاً، لأنه لا ميزة لإحداهما على الأخرى، لأنه لابد وأن نبطل إحداهما، وتصحيح إحداهما دون الأخرى تحكم لا دليل عليه فوجب أن يبطلا جميعاً.

وقبل ذلك أيضاً: إذا جهلت الأولى، فمثلاً: صلت طائفة في طرف البلد وصلت طائفة أخرى في طرفه الآخر ولا يعلم أيهما السابق، ولابد أن تكون إحداهما باطلة، والحكم لأحداهما بالصحة دون الأخرى تحكم.

ويحتمل في كل واحدة فيهما أن تكون مسبوقة – فحينئذٍ كان الحكم بإبطالهما جميعاً.

وما ذكره المؤلف هنا من التصحيح والبطلان هو مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية والأحناف.

- وعن الإمام أحمد، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار الشوكاني كما في السيل الجرار، قالوا: إن الجمعة الأخرى تصح.

قالوا: لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدل على المشروعية، ولا بدل على اشتراط ذلك، نعم الصلاة في أكثر من مسجد مع عدم الحاجة لا يشرع ذلك، أما أن يكون ذلك شرط في صحتها فلا، وهذا القول – فيما يظهر عندي – فيه نظر.

ص: 42

ذلك لأن الجمعة شاملة للاجتماع لها وإقامة الخطبة ونحو ذلك وحيث إنها وقعت على غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك اجتماع غير مشروع، وحيث كان اجتماعاً غير مشروع فهو اجتماع محدث، وكل محدث فهو بدعة وضلالة ورد على أصحابه كما في الحديث:(كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فالنهي هنا المتضمن للتبديع، لأن السنة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقام الجمعة في مسجد واحد، وهذا يقتضي أن تكون الجمعة الأخرى غير مشروعة، وهذا شامل للاجتماع إليها وإقامة الخطبة فيها، فحينئذٍ يكون النهي قد عاد إلى ذات الجمعة، فكان حينئذ الاجتماع على هذا الصورة غير مقبول وحينئذٍ يكون العمل مردوداً على أصحابه.

فإذن: أصح المذاهب ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم: وهو أن يقال: إن أقيمت جمعة أخرى في بلدة فيها جمعة ولم تكن حاجة لإقامتها فإنها باطلة ويجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

قال: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست)

هذا في السنة يوم الجعة:

وما ذكره المؤلف في السنة البعدية، فقال:" وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست " وهو ما نص عليه الإمام أحمد فقال: " إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ستاً ".

أما الصلاة ركعتين فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم

إلى أن قال: (وركعتين بعد الجمعة في بيته)

وأما الأربع: فما ثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً)

وأما الست: فدليله ثبوت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا صلى بمكة الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً، وإذا صلى بالمدينة أتى أهله فصلى ركعتين، وكان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) .

ص: 43

وهو ثابت عن علي بن أبي طالب، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:(كان عبد الله: أي ابن مسعود " يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً ثم جاء علي فأمرنا أن نصلي بعدها ركعتين ثم أربع) .

وقال شيخ الإسلام: إن صلى في بيته صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد صلى أربعاً، وفيه قوة، وذلك لأن حديث أبي هريرة المتقدم:(من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً) مطلق، وأما حديث ابن عمر ففيه:(أنه كان يصلي في بيته ركعتين) ولا شك أن صلاة السر أفضل من صلاة الجهر، فضوعفت في صلاة الجهر، فكانت في المسجد أربعاً أو ستاً، وأما الصلاة في البيت فكانت ركعتين، هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

وأما السنة القبلية:

فقد تقدم عن ابن مسعود أنه كان يأمر الناس أن يصلوا قبلها أربعاً.

وروى ابن المنذر عن ابن عمر: (أنه كان يصلي قبلها اثنتي عشر ركعة)، وعن ابن عباس:(أنه كان يصلي قبلها ثماني ركعات) ، وثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي مالك القرظي قال (أدركت عمر وعثمان " وهو العصر الذي كان فيه الصحابة في المدينة متكاثرون من المهاجرين والأنصار " فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة وإذا تكلم تركنا الكلام) وفيه أنهم كانوا يصلون حتى يخرج الإمام.

فالسلف لهم في الصلاة قبل الجمعة طريقتان:

الأولى: أن بعضهم يصلي ما كتب له، أربعاً أو ستاً أو غيرها ثم يجلس يقرأ القرآن ويذكر الله حتى يخرج الإمام.

الثاني: أن منهم من كان يصلي حتى يخرج الإمام كما في أثر أبي مالك القرظي، وقد ثبت في مسلم حديث وفيه:(ثم صلى ما كتب له)

إذن: ليس للجمعة سنة قبلية مؤقتة، وإنما يصلي المسلم ما كتب له.

فذهب بعض علماء الحنابلة إلى أنها مقيسة على صلاة الظهر فيستحب أن يصلي فيها ركعتين، وقد تقدم أن راتبة الطهر عندهم ركعتان.

ص: 44

وهذا القياس قياس مع الفارق لثبوت الفوارق الكثيرة المتقدمة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، على أن النبي صلى الله عليه وسلم صح (1) عنه ذلك، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الجمعة إلا أنه كان يصلي بعدها ركعتين في بيته وأمر أن يصلى بعدها أربعاً.

بخلاف الظهر فإنه ثبتت سنته بصلاة أربع قبلها، وأما الجمعة فقال:(ثم صلى ما كتب له) فهذا القياس يخالف ظاهر السنة.

واستدلوا: بما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسليك الغطفاني: (أصليت ركعتين قبل أن تجيء) وهذه قد أخطأ بها بعض الرواة كما قرر هذا شيخ الإسلام والحافظ أبو الحجاج المزي، فقرروا أن هذا اللفظ خطأ، وأن الصواب:(أصليت ركعتين قبل أن تجلس) وهما تحية المسجد وليست ركعتي الجمعة القبلية.

مسألة:

ولم يذكر المؤلف – هنا – مسألة ذكرها صاحب المقنع وهي:

فيما إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصليت العيد فهل يجزئ عن الجمعة أم يجب على المسلمين أن يصلوا الجمعة؟

لم يتعرض لها المؤلف هنا، وذكرها صاحب المقنع – وهذا الكتاب اختصار له، فالأولى ذكرها فيه -.

- والمسألة عند الحنابلة: أن العيد إذا صليت في يوم الجمعة فإنها تجزئ عن الجمعة ويجب على الناس أن يصلوا الظهر فلا يسقط عنهم الظهر.

ويستثنى من ذلك الإمام فتجب عليه الجمعة – هذا عند الحنابلة – خلافاً لجمهور الفقهاء.

واستدل الحنابلة: بأحاديث ثبتت بمجموعها هذه السنة.

(1) لعلها: لم يصح.

ص: 45

فقد روى الخمسة إلا الترمذي عن زيد بن أرقم قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة وقال: من شاء أن يصلي فليصل)، لكن الراوي عن زيد: إياس بن أبي أرملة، قال فيه ابن خزيمة:" لا أعلم فيه جرحاً ولا تعديلاً "، لكن يشهد له ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه ذلك عن الجمعة وإنا مجمعون)، ويشهد له ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال:(صلى بنا عبد الله بن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدانا، وكان ابن عباس في الطائف فلما جاء سألناه فقال: أصاب السنة)، وفي النسائي بإسناد صحيح: أن ذلك بلغ عبد الله بن الزبير فقال: (رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) .

فهذه الأحاديث حجة على جمهور الفقهاء، فهي أحاديث بعض أسانيدها صحيح وبعضه حسن، وبعضه قابل للتحسين وبمجموعها ثابتة لا شك في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذن: إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة، فإن العيد يجزئ عن الجمعة لهذه الأحاديث، والمعنى يقتضي ذلك، فإن يوم العيد يوم سرور وفرح فلم يناسب أن يجتمع فيه موعظتان أو خطبتان، فرخص في إحداهما وأقيمت الأخرى.

قال الحنابلة: ويستثنى من ذلك الإمام فيجب عليه أن يصلي الجمعة.

وذهب بعض الحنابلة، كالمجد بن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الإمام كذلك، فلو لم يقمها الإمام فلم تصح (1) في البلدة جمعة فلا بأس، ودليله: أثر ابن الزبير المتقدم فإنه لم يخرج إليهم وصلوا وحدانا وقال ابن عباس: (أصاب السنة)، وقال ابن الزبير:(رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) فظاهره أن عمر لم يخرج إلى الناس فيقيم فيهم الجمعة.

(1) لعلها: تُقم.

ص: 46

إذن الراجح: أن الإمام لا يجب عليه أن يقيم الجمعة، هذه الألفاظ في بعضها ما يدل على أن الواجب عليهم أن يصلوا ظهراً، وهو قول عطاء:(فصلينا وحدانا) ولم ينكر ذلك عليهم ابن عباس ولا ابن الزبير.

واختار الشوكاني سقوط الظهر أيضاً، لكن هذا ضعيف، ولا دليل على إسقاطها وهي الأصل فإذا سقطت الجمعة للمعاني المتقدمة بقيت الظهر واجباً إقامتها.

وهل يجزئ الجمعة عن العيد؟

فمثلاً: لو صلوا الجمعة في أول النهار، فهل تجزئ عن العيد.

أو صليت بعد الزوال وتركت العيد واكتفوا بالجمعة، فهل يجزئ ذلك؟

المشهور في المذهب: أن الجمعة تجزئ عن العيد، والمعنى يقتضي ذلك، وهو المعنى المتقدم بل أولى، فإذا كانت العيد قد أجزأت عن الجمعة، فأولى من ذلك أن يجزئ الجمعة عن العيد.

واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة: أنها إنما تجزئهم إذا صلوا في أول النهار، لكن هذا تفريق لا دليل عليه، لأن العيد تصح عندهم بعد زوال الشمس، فلو أخرها الناس في يوم العيد إلى أن زالت الشمس فهي وإن خالفت السنة فهي عند أهل العلم صحيحة، وإذا أجزأت العيد عن الجمعة، فأولى أن تجزئ الجمعة– لأنها فرض - عن العيد - وهي مختلف في وجوبها -، سواء كان ذلك في أول النهار أو بعد الزوال.

والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن أن يغتسل لها وتقدم)

أي: يسن له أن يغتسل يوم الجمعة قبل رواحه إليها، وقد تقدم البحث في هذا وبيان فضيلته وأنه سنة كما هو مذهب جمهور العلماء في حكم الاغتسال في باب الغسل.

وأن هذا على وجه الاستحباب إلا إذا كانت هناك روائح كريهة يُتأذى منها فهو واجب كما هو اختيار شيخ الإسلام، وتقدمت الأدلة على ذلك. لذا قال المؤلف هنا:(وتقدم) .

قال: (ويتنظف ويتطيب)

ص: 47

أي يستحب له أن يتنظف ويتطيب، فقد ثبت في البخاري عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر - أي يتنظف من استطاع من التنظيف من تقليم أظفار وحلق عانة وغير ذلك من إزالة الأوساخ التي يكون بها التنظيف - ويدهن من دهنه - أي يذهب شعث رأسه بالدهن - أو يمس من طيب بيته - وفي أبي داود من حديث ابن عمرو: أو يمس من طيب امرأته، وفي مسلم من حديث أبي سعيد: ولو من طيب المرأة (1) - ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) ففيه فضيلة التنظف والتطيب.

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيباً أن وجد)، وفي رواية مسلم:(ولو من طيب امرأته) ، وفيه أيضاً فضيلة الاستياك فيه.

* ويستحب تطييب المسجد، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن نعيم المجمر قال:(كان عمر يجمر المسجد يوم الجمعة إذا انتصف النهار) .

قال: (ويلبس أحسن ثيابه)

(1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 132] ، كتاب الجمعة.

ص: 48

كما في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو وفيه: (ويلبس من أحسن ثيابه)، وفي أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)(1) أي سوى الثياب التي يمتهن بها ويعمل فيها. وفي الصحيحين: (أن عمر رأى حلة سيراء – أي من حرير – عند باب المسجد فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة) والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على التزين يوم الجمعة.

قال: (ويبكِّر إليها ماشياً)

فيستحب له أن يبكِّر فيذهب إليها مبكراً، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة، ثم راح - في موطأ مالك: " في الساعة الأولى " - فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)، وفي مسلم:(إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤا يستمعون الذكر، ومَثَل المهجِّر كمثل من يهدي بدنة ثم من يهدي البقرة ثم من يهدي الكبش ثم من يهدي الدجاجة، ثم من يهدي البيضة) .

(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب اللبس للجمعة. [1 / 650] .

ص: 49

وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وغسَّل يوم الجمعة - وفي أبي داود: من غسل رأسه - واغتسل، وبكر وابتكر " الابتكار هو أدراك الشيء في أوله، أي أدرك الجمعة في أولها ولم يفته من الخطبة شيء - ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) الحديث إسناده صحيح وحسنه الترمذي في سننه.

وقوله " بكر وابتكر " أي بكر في الذهاب، وابتكر في الوصول.

* وقد اختلف أهل العلم في وقت التهجير أو الرواح إليها على قولين:

1-

فقال الإمام مالك: وقت التبكير من زوال الشمس، وقد تقدم أن مذهب مالك أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس إلى أن يجلس الإمام، فتكون الساعات ساعات لطيفة جداً هي شبيهة باللحظات تكون خلال هذا الوقت البسيط، فيكون الوقت من زوال الشمس إلى جلوس الخطيب.

واستدل: بلفظة (راح وهجر) فقال: الرواح يكون إذا زالت الشمس كما أن الغدو يكون قبل زوالها. قال: والتهجير هو الذهاب إذا انتصف النهار واشتد الحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(ومثل المهجر كمثل من يهدي بدنة) .

2-

وقال جمهور العلماء: بل يكون ذلك من أول النهار وهو طلوع الفجر الصادق، فالساعة الأول هي التي يكون فيها أذان الفجر وما بين الأذان والإقامة وصلاة الفجر وما يكفيه للتهيؤ والرواح فهذه الساعة الأولى وبعدها الساعات الباقية.

واستدلوا: بالحديث المتقدم، فإنه قال:(ومن راح في الساعة الأولى) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت في النسائي وأبي داود من حديث جابر بإسناد صحيح قال:(الجمعة اثنتا عشرة ساعة) الحديث وسيأتي تمامه.

وهكذا سائر الأيام وهو التوقيت الثابت الذي لا يختلف صيفاً ولا شتاءً، فقبل زوال الشمس ست ساعات وبعد زوالها ست ساعات يختلف طولاً وقصراً صيفاً وشتاءً.

ص: 50

فمثلاً إذا أذن الفجر في الساعة الخامسة، وكان زوال الشمس في الساعة الثانية عشرة فهذه سبع ساعات، فتكون كل ساعة من الساعات الثانية ساعة وعشرة دقائق وهكذا.

واستدلوا: بالحديث المتقدم، وهو حديث ظاهر على ما ذكروه.

ويبقى الجواب على ما ذكره الإمام مالك، قالوا الجواب عليه: أن ما ذكره من جعل الساعات ما بين زوال الشمس وجلوس الإمام لا يعقل أن يعلق الشرع فيه هذا التفضيل الكثير ما بين البدنة والبيضة في وقت لا يتجاوز أربع دقائق أو خمس دقائق، فهذا التعريف غير مؤثر.

أما ما ذكره من الرواح والتهجير:

فأما الرواح: فهو في لغة الحجاز هو الذهاب مطلقاً سواء كان ذلك قبل الزوال أو بعده، وقد ذكر الأزهري في تهذيبه ذكر على ذلك شواهد.

قالوا: وإنما يراد به الذهاب بعد زوال الشمس إذا قوبل بالغدو، فإذا قيل: غدا أو راح، فيراد بالرواح ما بعد زوال الشمس، أما إذا أطلق فيقال: راح في أول النهار وراح في آخره، وهنا الحديث قد أطلق.

وأما التهجير فالمراد به في لغة الحجاز ومن حولها من قيس - المراد بها عندهم -: التبكير في أول الوقت، فالتبكير لأول الوقت يسمى تهجيراً.

قال الخليل بن أحمد: " التهجير هو التبكير إلى الشيء في أول وقته "، فالتهجير هو أدراك الشيء في أوله في لغة الحجاز ومن حولها من قيس.

فالتهجير ليس مختصاً بوقت الهاجرة أي عند اشتداد الحر وهو منتصف النهار، بل يطلق على التبكير إلى الشيء فإنه يسمى تهجيراً.

إذن الراجح: ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الرواح يكون من أول النهار.

وتقدم أنه عندهم: يكون من طلوع الفجر الصادق.

ص: 51

وقال بعض العلماء من المالكية والشافعية واختيار بعض الحنابلة: يكون من طلوع الشمس، وهذا القول فيه قوة، وذلك لاستبعاد إمكان الرواح قبل طلوع الشمس، فإن الساعة الأولى قد تذهب للاستعداد لصلاة الفجر والذهاب إليها، ولا سيما مع المحافظة على الذكر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إلا أنه يمكن أن تكون صلاة الفجر في المسجد الجامع – ومن هنا الاحتياط لمن أراد إصابة الثواب أن يكون حسابه من طلوع الفجر الصادق.

وقد أنكر الأئمة على الإمام مالك قوله عدم مشروعية الرواح إليها إلا بعد الزوال. فإنه يرى أن الرواح إليها لا يشرع قبل زوال الشمس، فأنكر عليه الأئمة كأحمد وغيره، بل قد أنكر عليه بعض أصحابه كابن حبيب المالكي والسنة حجة عليه كما تقدم.

قال: (ويدنو من الإمام)

تقدم هذا في حديث أبي داود: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) وفي ذلك مصلحة سماع الخطبة وتمام ذلك، وفضيلة القرب من الإمام ثابتة للصلوات مطلقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم:(ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) .

قال: (ويقرأ سورة الكهف في يومها)

يستحب أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، ويكون ذلك من طلوع الفجر الصادق إلى أذان المغرب، فهذا كله وقت لقراءتها، فليس ذلك مختصاً قبل الصلاة بل هو مطلق في اليوم كله لإطلاق ذلك في الأثر الوارد في الباب.

والأثر الوارد فيه: ما ثبت في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري موقوفاً قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) ، وهذا الأثر ليس للعقل فيه محل فيكون له حكم الرفع، فهو مرفوع حكماً.

ص: 52

وقد روي مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري نحو الأثر لكن الحديث فيه: نعيم بن حماد وله مناكير برواية الحاكم في مستدركه، ورواه ابن مردويه في تفسيره – كما في الترغيب والترهيب لكن في سنده سعيد بن أبي مريم وهو مجهول الحال.

قال ابن القيم: " وهو الأشبه " ا. هـ أي الوقف.

إذن: هذه السنة التي أقر بها أهل العلم أصلها هذا الأثر الصحيح عن أبي سعيد.

وفي قوله: (وقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة) هذا عام في اليوم كله فيكون ذلك من أوله إلى آخره.

قال: (ويكثر الدعاء)

ليصيب ساعة الإجابة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – وقد ذكر يوم الجمعة قال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) أي يقلل زمنها، ويدل على أن المراد تقليل زمنها وأنه زمن يسير، قوله في رواية مسلم:(وهي ساعة خفيفة) فهي ساعة خفيفة تكون في يوم الجمعة من دعا الله فيها بشيء من أمر الدنيا أو الآخرة أعطاه الله عز وجل إياه.

ويحتمل أن يكون مراده: " يقللها " أي يزهد هذا الفعل اليسير من الدعاء الذي ينال به العبد الثواب والأجر الكبير، والتفسير الأول أولى، لما تقدم ولأن الضمير في " يقللها " يعود إلى الساعة نفسها ولو كان المراد به ما تقدم، لقال:" يقلله " أي يقلل هذا العمل، وإن كان يحتمل أن يكون الضمير يعود إلى الدعوة، أي يقلل هذه الدعوة التي ينال بها هذا الثواب والأجر. والاحتمال الأول أولى – كما تقدم –.

واختلف أهل العلم اختلافاً كثيراً في وقت هذه الساعة حتى ذكر الحافظ أن فيها أكثر من أربعين قولاً، وإن كان بعض هذه الأقوال يدخل بعضه في بعض فبعضه أعم أو أطلق من بعض.

وأصح هذه الأقوال قولان – كما قال ابن القيم -:

ص: 53

1-

القول الأول: أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، فيكون الدعاء أثناء الخطبة من ساعة الإجابة وبين الخطبتين من ساعة الإجابة، وأثناء الصلاة من ساعة الإجابة، فهو ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة.

واستدلوا بحديث مرفوع رواه مسلم في صحيحه رواه مخرمة عن أبيه (1) عن أبي بردة (2) عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن ساعة الإجابة يوم الجمعة: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة) ، لكن هذا الحديث وإن كان ثابتاً في مسلم فهو مما انتقد عليه – رحمه الله – فقد انتقده الدارقطني وضعف هذا الحديث، وبيَّن أنه من قول أبي بردة التابعي، فيكون مقطوعاً، وليس بمرفوع ولا موقوف.

واستدل بأن بكير رواه عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعاً وبكير مدني ثقة، فرواه عنه كوفي وهو أبو بردة مرفوعاً، ورواه الثقات الكوفيون عن أبي بردة رووه مقطوعاً من قول أبي بردة كمعاوية بن قرة (3) وواصل الأحدب، وأبي إسحاق السبيعي فهؤلاء ثقات يحصل بمجموعهم ترجيح روايتهم على رواية بكير على أنهم كوفيون فهم أعلم بحديث الكوفيين من بكير وهو من أهل الحجاز.

فعلى ذلك: ما ذكره الدارقطني من تضعيف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الصواب أنه مقطوع على أبي بردة – راجح ظاهر -.

2-

القول الثاني: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر واستدلوا بأدلة منها:

(1) هو بُكَيْر.

(2)

هو أبو بردة بن موسى الأشعري، صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 140]

(3)

لم يذكره المزي من الذين رووا عن أبي بردة.

ص: 54

ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة اثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)، وثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح: أن عبد الله بن سلام كان من علماء أهل الكتاب وأسلم – قال: (إنا نجد في كتاب الله – يعني التوراة – في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى الله حاجته)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أو بعض ساعة فقال: صدقت أو بعض ساعة، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام قال: أي ساعة هي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي آخر ساعة من ساعات النهار) .

وهنا إشكال وهو أن يقال: إن ما بعد العصر ليس بوقت صلاة وقد قال: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي) فاستشكل ذلك عبد الله فقال: (إنها ليست ساعة صلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة) .

وهو مذهب جمهور الصحابة، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:(أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فما افترقوا إلا وقد اجتمعوا على أنها آخر ساعة بعد العصر) فهذا هو مذهب جمهور الصحابة، وهو نص الإمام أحمد ومذهب جمهور التابعين.

إذن: هي ساعة خفيفة تكون بعد العصر من يوم الجمعة وهذا في آخر النهار.

قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

أي يستحب له في يوم الجمعة أن يكثر الصلاة عليه، بل ذلك مستحب في يوم الجمعة وليلته، فقد ثبت في البيهقي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلته) .

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فرجة)

ص: 55

أي ينهى الذاهب إلى الجمعة أن يتخطى رقاب الناس، لما ثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جابر:(أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت وآنيت) أي أبطات المجيء.

وروى الترمذي بإسناد ضعيف فيه رشدين بن سعد وهو ضعيف – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تخطى الرقاب يوم الجمعة فقد اتخذ جسراً إلى جهنم) لكن الحديث إسناده ضعيف.

والمشهور عند الحنابلة – وهو مذهب الجمهور أن النهي للكراهية.

وذهب ابن المنذر وهو اختيار شيخ الإسلام ومذهب طائفة من الحنابلة: إلى أن التخطي محرم. واستدلوا بالحديث المتقدم فإن فيه الأمر في قوله (اجلس) وظاهر الأمر الوجوب، وفيه قوله " فقد آذيت " وأذية المسلم محرمة، فيستدل بهذا الحديث على تحريم التخطي من وجهين:

1-

الأمر بالجلوس. 2- والأذية في قوله " فقد آذيت ".

وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في أبي داود وابن خزيمة بإسناد حسن: (ومن لغى أو تخطى رقاب الناس كانت جمعته ظهراً) أي لم يصب ثواب الجمعة وإن كان قد أصاب الصلاة صحيحة، فيثاب ثواب الظهر لا الجمعة. واستثنى المؤلف فقال:(إلا أن يكون إماماً) فالإمام يجوز له ذلك إذا لم يكن له طريق يسلكه فاحتاج إلى تخطي رقاب الناس للرقي على منبره فلا بأس للحاجة.

(أو إلى فرجة) : أي يجوز للقادم إلى المسجد إن رأى فرجة في صف يحتاج إلى الوصول إليها إلى أن يتخطى رقاب الناس فيجوز له التخطي حتى يصل إلى هذه الفرجة.

قالوا: لأنهم بتركهم الفرجة لم يصح له حرمة في مسألة تخطي الرقاب، فهم الذين فتحوا هذا الباب على أنفسهم، فإنهم قد تركوا فرجة لا يشرع لهم تركها فلم يكن له حرمة من هذا الباب.

ص: 56

وعن الإمام أحمد: أنه ليس له ذلك مطلقاً وإن كانت هناك فرجة، وبيَّن الموفَّق أن هذه الرواية لا تحمل على هذا المذكور وهو أنه ينهى مطلقاً، قال: بل يحمل على ما إذا كان هناك في الصف سعة يمكنه مع ازدحام أهل الصف بعضهم ببعض أن يكون له فرجة يدخل فيها، فحينئذ يكره ذلك.

أي يكون في الصف سعة يسيرة لا تسع المصلي، ويمكنه أن يأتي إليها ويتراص الناس فيكون له فرجة، فقال الإمام أحمد في رواية عنه: إنه يكره له التخطي – وحمله الموفق على ذلك – وهذا لا شك أنه أولى، فحمل روايات الإمام أحمد أو غيره من الأئمة على مواضع مختلفة أولى من حملها على موضع واحد يختلف فيه.

فحينئذ: الظاهر أن يقال: أن مذهب الإمام أحمد: أنه إذا كانت هناك فرجة تسعه من غير أن يحتاج إلى الناس لتوسعة هذا الموضع ليصلي فيه، فإذا كان الوضع كذلك فإنه يتخطى رقاب الناس إليها، وأما إن لم يكن له فرجة إلا مثل ما يصلي فإنه ليس له أن يتخطى الرقاب، ومن أمامه من المصلين ليس منهم تفريط فإن المصلي عندما يجلس في الموضع قد يحتاج أن يكون الموضع متسعاً له لسماع الخطبة، فإذا أتى أحد من المصلين وسع له وإن كان يحتاج إليه فلم يكن فيه تفريط في هذا.

إذن: عن الإمام أحمد روايتان:

الأولى: أنه لا يكره أن يتخطى الرقاب إلى فرجة.

الثانية: أنه يكره ذلك، وحملها الموفق على الوفاق لا على الخلاف فقال: المراد من ذلك إذا كانت هناك سعة لا يمكنه أن يصلي فيها إلا بأن يزدحم الناس فإنه لا يتخطى الرقاب لكن، هذه الرواية – وهي مذهب الشافعية -: استثنوا فيها تخطي الواحد والاثنين فقالوا: إذا كان هناك موضع يمكنه أن يصلي فيه وهو يحتاج إلى توسيع وتراخي المصلين بعضهم ببعض، فإذا كان يمكنه أن يصل إليه بتخطي رقبة اثنين أو واحد فلا بأس بذلك لأن هذا شيء يسير معفى عنه.

ص: 57

والظاهر أنه النهي مطلق، وأنه لا يعفى عن الواحد والاثنين إلا أن يكون فرجة أو تكون هناك توسعة محتاج إليها. وصورة السعة المحتاج إليها:أن يأتي والمسجد ممتلئ بأهله وليس له موضع يصلي فيه إلا في موضع مشقة كأن يكون في برد أو حر أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يتخطى الرقاب ليصلي إلى صف يزدحم أهله فيكون له فيه فرجة – هذا إذا احتاج إلى ذلك كأن يزدحم المسجد بأهله، أو يكون هناك مواضع لكنه يشق عليه أن يصلي فيها إما لحر شديد أو برد شديد أو نحو ذلك.

قال: (وحرم أن يقيم غيره ويجلس مكانه)

وذلك لما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا) ؛ وذلك لأنه بسبقه إليه كان أحق به، فلا يجوز أن ينزع هذا الحق منه وقد سبقه إليه غيره. واستثنى من ذلك فقال:

(إلا من قدم من صاحباً له أو غلاماً له في موضع بحفظه له)

فمثلاً: جلس الابن في موضع مسبق لأبيه، أو سبق أحد من الناس لأحد من أهل الفضل فإذا أتى قام له، قالوا: فيجوز ذلك لأنه قام باختياره، والنهي المتقدم إنما هو نهي أن يقيم غيره من موضع فيقوم من غير رضى.

وهذا إنما ينبني على المشهور في المذهب من جواز وضع فراش ونحوه مما تحجز به المواضع، وسيأتي بيان أن هذا لا يجوز وحينئذ: تكون هذه المسألة كذلك، فلا يجوز له أن يقدم صاحباً له أو غير ذلك، فإن الجالس في الموضع إنما يجلس فيه ليستمع وليكون هذا المحل له، أما إذا ذهب بهذا الغرض فإنه – حينئذ – غير ما قاصد الجلوس بنفسه فلا يجوز له ذلك ويكون بالحجز بالفرش ونحوها.

فعليه لا يجوز ذلك، لأن هذا حجز لهذا الموضع بغير حق.

ص: 58

قالوا: وكذلك يجوز لأحد من الناس أن يقوم أو يقام له من مجلس، قالوا: فلا بأس بذلك ويجوز له أن يجلس فيه. قالوا: لأنه قام باختياره، والنهي إنما هو أن يقام. قالوا: لكن يكره لأنه إيثار في القرب فهو في مكان فاضل فآثر به غيره، وهذا نوع زهد عن العمل الصالح فتكون مكروها.

واحتمل الموفق: أنه لا كراهية في ذلك؛ لأنه من باب تقديم الفاضل، وتقديم الفاضل إلى القربة وإيثاره بالقربة لا بأس به لقوله صلى الله عليه وسلم:(ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) .

وما ذكره الموفق ظاهر: إن كان المقوم له من أهل الفضل.

ويدل على ذلك: أن عائشة آثرت عمر بن الخطاب في موضعها من بيتها، وقد وضعت لها وموضعاً تقبر فيه، فاستأذنها عمر أن يقبر عند صاحبيه فأذنت له وآثرته في هذه القربة رضي الله عنهما، فهذا من باب الإيثار لمن كان أحق بالشيء وأولى به. قالوا: وأهل الفضل أولى بالدنو من الإمام والقرب منه فكان الإيثار لهم جائزاً.

وأما إطلاق ذلك فلا، فإن فيه إيثاراً بالقربة.

قال: (وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة)

فإذا حضرت الصلاة فيجوز أن يرفع هذا المصلى، هذا أحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وأنه من وضع فراشاً أو نحوه فلا يجوز رفعه إلا أن تحضر الصلاة. قالوا: لأنه قد سبق بوضع هذا الفراش أو غيره إلى هذا الموضع، ولما يترتب على رفعه من الخصومة أو العداوة والبغضاء.

والوجه الثاني: قالوا: بل له رفعه، وقالوا: لأن تركه ذريعة إلى تخطي الرقاب فيتأخر صاحب هذا الموضع الذي حجزه بهذا الشيء ويتعدى أو يتجاوز رقاب الناس.

ص: 59

قالوا: ولأن السبق إنما هو بالأبدان ولا بغيرها من الفراش ونحو ذلك فهذا الموضع موضع مباح من سبق إليه فهو أحق به، والسبق المشروع إنما يكون بالبدن، فإذا ذهب إلى المسجد وتكلف الذهاب في أول الوقت وفوت على نفسه شيئاً من مصالحه أو مراداته أو نحو ذلك وتقدم واشتغل بالعبادة، فكان هذا الموضع على هذه الصفة هو أحق به من غيره.

أما إن لم يكن الأمر كذلك بل قدم إليه شيئاً أو حجزه فإنه ليس أحق به – وهذا القول هو الراجح -.

وشدد شيخ الإسلام فأصاب بهذه المسألة وأنكرها وبيَّن أن ذلك منه اغتصاب لهذا الموضع وأن ذلك محرم؛ لأن هذا الموضع لمن سبق إليه وكونه يحوطه بشيء أو يحجزه هذا أمر محرم لأنه [لا] يملك هذا الموضع واغتصبه بغير حق والحق أن يسبق إليه ببدنه وإنما سبق إليه بغير بدنه، ومثل ذلك المسألة السابقة فيمن قدم أحداً من الناس لا يقصد هذا الموضع بل يقصد حجزه فالحكم كذلك.

إذن لا يجوز حجز المواضع ومن وضع فراشاً فلغيره رفعه بل يجب كما قال شيخ الإسلام رفعه لأنه من باب إنكار المنكر إلا أن يترتب مفسدة أعظم من ذلك فإنه يترك.

قال: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به)

كأن يقوم ليتوضأ أو يأتي بحاجة له قريبة، فإذا رجع فهو أحق بهذا الموضع فله أن يقيم غيره من الناس لأنه أحق به.

ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) وقال – كما في الترمذي وصححه وهو كما قال -: (الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه) والمراد بالحاجة التي لا تعتبر قاطعة - في العرف – الجلوس، فهي حاجة قريبة كوضوء ونحوه.

قال: (ومن دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما)

ص: 60

وهي تحية المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم – لما دخل رجل المسجد وهو يخطب الناس قال:(أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين)، وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا دخل أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فلا يجلس حتى يركع ركعتين وليتجوز فيهما) أي ليخففهما.

إذن: يشرع – والراجح كما تقدم: يجب - على الداخل إلى المسجد أن يصلي تحية المسجد وإن كان الإمام يخطب، وإن كان الإمام يخطب فليتجوز فيهما.

قال: (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب)

لا يجوز لأحد من الناس أن يتكلم والإمام يخطب لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذ قلت لصاحبك: انصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)، وقال - كما في مسند أحمد بإسناد فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف -:(الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً، ومن قال له أنصت فليست له جمعة) لكن الحديث ضعيف، لكنه ثابت بهذا اللفظ عن ابن عمر – كما روى ذلك حماد بن سلمة بإسناد قوي – كما قال ذلك الحافظ في الفتح.

وأما كونه ليست له جمعة فقد دلت عليه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في المسند من حديث علي – وهو شاهد: (ومن لغا فليست له جمعة)، وقال في حديث آخر – رواه أبو داود وابن خزيمة:(ومن لغا أو تخطى الرقاب كانت جمعته ظهراً) .

إذن: يجب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، والإنصات هو ترك الكلام والسكوت، بخلاف الاستماع فإنه هو الإصغاء إليه.

فالإصغاء إليه مستحب مشروع، وأما الإنصات وهو ترك الكلام فهو فرض وواجب.

ص: 61

أما دليل فرضية الإنصات فقد تقدم. وأما دليل استحباب الاستماع فهو ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر، رجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة ولم يؤذ أحداً فهي له كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله يقول: {ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ) .

والشاهد قوله: (ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فدل على أن من لم يستمع إلى الخطبة واشتغل بدعاء أو صلاة أو نحو ذلك ولم يؤذ أحداً برفع صوته فإن الجمعة تصح منه لكنه تارك للمستحب.

وأما الكلام فهو مضاد للإنصات قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} " استمعوا " أي أصغوا إليه بآذانكم " وأنصتوا " أي كونوا ساكتين غير متكلمين غير مشتغلين مما يمنع الاستماع.

قال: (إلا له أو لمن يكلمه)

أي يجوز للخطيب أن يخاطب الناس بما هو خارج عن خطبته لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لسليك الغطفاني، وقد دخل يوم الجمعة وهو يخطب قال:(أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين) فقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم غيره من المصلين.

ومثل ذلك: الكلام مع الخطيب، فإنه لا يؤثر ولا ينافي الإنصات المتقدم، كما ثبت في الصحيحين عن أنس:(أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله وهو قائم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُبل فادع الله يغثنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رفع يديه: (اللهم أغثنا ثلاثاً) وقد تقدم ما دار بين عثمان وعمر لما تأخر عن الجمعة، فكلام الخطيب والكلام معه لا يفسد الجمعة.

قال: (ويجوز قبل الخطبة وبعدها)

فقبل الخطبة يجوز الكلام، كأن يتكلم الناس وهو صاعد على المنبر لا بأس بذلك.

ص: 62

ودليل ذلك: ما تقدم من أثر أبي مالك القرظي وفيه: (وإذا تكلم تركنا الكلام) .

وكذلك بعد الخطبة وهذا باتفاق أهل العلم، ولأن الأحاديث الواردة قد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " والإمام يخطب ".

ومثل ذلك جلوسه بين الخطبتين فيجوز لأحد أن يكلم غيره أثناء ذلك، لأن النهي إنما ورد في حال كونه يخطب، وأما بين الخطبتين فلا بأس بذلك.

وهنا مسائل لم يذكرها المؤلف:

الأولى: النهي عن العبث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في مسلم:(من مس الحصى فقد لغا) ، وقد تقدم أن من لغا كانت جمعته ظهراً.

الثانية: النهي عن الحبوة وهي أن يجلس على أليتيه ناصباً ساقيه وقد وضع على ذلك خيطاً أو يديه.

وقد ورد ما يدل على كراهيتها وهو ما ثبت في الترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب) .

فإذاً: قبل الخطبة وبعدها وبين الخطبتين لا بأس بالاحتباء أما أثناء الخطبة فإنه ينهى عن ذلك.

وإلى ذلك ذهب ابن المنذر واختاره المجد ابن تيمية والموفق ابن قدامة.

وأما المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور: أنه لا بأس بالاحتباء، واستدلوا: بما رواه أبو داود عن يعلى بن شداد قال: (شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فإذا جُل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب) لكن الحديث فيه سليمان بن الزبرقان (1) وهو ضعيف.

قالوا: وثبت الأثر عن ابن عمر: (أنه كان يحتبي والإمام يخطب) والسند إليه صحيح، لكن هذا الأثر مخالف بالسنة الصحيحة المتقدمة في كراهية الاحتباء.

فإذن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب مكروهة.

(1) هو سليمان بن عبد الله بن الزبْرقان، ويقال ابن عبد الرحمن بن فيروز، لين الحديث من السابعة / ق. ا. هـ من التقريب.

ص: 63

الثالثة – وهي داخلة في الكلام –: هل يجوز له أن ينبه من يخشى عليه هلكة كضرير متعرض لحريق أو نحو ذلك – والإمام يخطب؟

الجواب: يجب عليه ذلك لوجوبه في الصلاة مع أنه مفسد لها، فهو مفسد للصلاة غير مفسد للجمعة، فإذا وجب مع كونه مفسداً للصلاة فيجب من باب أولى مع كونه غير مفسد للجمعة.

الرابعة: وهل يجب تشميت العاطس ورد السلام؟

روايتان عن الإمام أحمد:

الرواية الأولى: أنه يجوز قياساً على المسألة السابقة. قالوا: فكما أنه يجب عليه أن يتكلم بالكلام الواجب من إنقاذ ضرير ونحوه فكذلك يجب عليه تشميت العاطس ورد السلام؛ لأن تشميت العاطس واجب وكذلك رد السلام.

الرواية الثانية وهي مذهب جمهور أهل العلم: أنه ينهى عن ذلك.

قالوا: وعندنا قياس أصح من قياسكم، وهو أنه يقاس على النهي عن إنكار المنكر المتصل بالخطبة الذي يفوت إنكاره بتركه، وهو ما إذا تكلم أحد من الناس أثناء الخطبة فإنه ينهى عن أن يقول له أنصت، وهذا من باب إنكار المنكر وهو واجب فكذلك تشميت العاطس ورد السلام. وأما ما ذكرتموه من القياس على المسألة السابقة فبينهما ما هو من الفرق ظاهر فإن هذا واجب هو من الكماليات وإن كان واجباً في الشريعة. أما ذاك فإنه به تحفظ النفوس فلو ضاعت الخطبة على أن ينقذ مسلم لكان ذلك واجباً.

أما تشميت العاطس ورد السلام فإنه من المعلوم أنه يترك، فالرجل وهو يبول لا يجب عليه تشميت العاطس ولا يرد السلام كما تقدم في حديث أبي داود:(إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) .

الراجح: أنه لا يشرع له أن يشمت عاطساً ولا أن يرد سلاماً.

وهل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مع الإمام؟

الجواب: نعم وهو نص الإمام أحمد.

ص: 64

وفرق بينه وبين المسألة السابقة، فإنه إن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطاب للرب، وأما تشميت العاطس ورد السلام فهو خطاب للآدمي، ولأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الخطيب لا تؤثر لا في الإنصات الواجب ولا في الاستماع المستحب، وقد تقدم حديث:(ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أولى من ذلك لأنها لا تقتضي انشغالاً عن سماع الخطبة أو الإنصات إليها.

ومثل ذلك: التأمين على دعوة الإمام فهو كلام لله عز وجل، ولا يشغله عن الإنصات ولا عن الاستماع المستحب فكان لا بأس به.

الخامسة: أن من تكلم يوم الجمعة، فلا بأس أن يشار إليه باليد ونحوها ليسكت. وذلك لما ثبت في حديث معاوية بن الحكم في إشارة الصحابة له عندما تكلم، وإذا ثبت هذا في الصلاة فأولى منه أن يثبت في الخطبة، ولأنه لا يؤثر فيها، ولا في ترك الإنصات الواجب ولا في ترك الاستماع المستحب.

وبهذا ننتهي من الكلام على أحكام الجمعة.

والحمد لله رب العالمين. انتهى باب صلاة الجمعة.

باب صلاة العيدين

العيدان: مثنى عيد، من العود وهو التكرار، فكونه يعود ويتكرر في أوقاته السنوية المعلومة سمى عيداً لذلك.

وعيدا المسلمين: عيد الفطر وعيد الأضحى.

قال المؤلف رحمه الله: (وهي فرض كفاية)

وهي: أي صلاة العيدين صلاة عيد الأضحى وصلاة عيد الفطر فرض كفاية، فإذا قام بها بعض المسلمين ممن يظهر بهم هذه الشعيرة فإنه يسقط الإثم عن الباقين مع أنها مستحبة لكل مكلف ومباحة للنساء.

هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

ص: 65

وذهب الشافعية والمالكية: إلى أنها سنة مؤكدة، ودليلهم على سنيتها هو مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ومواظبة الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم عليها، فلذلك هي مشروعة مؤكدة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها منذ شرعت فكانت مؤكدة بذلك.

وأما الحنابلة فدليلهم على فرضيتها فرض كفاية، لأنها شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة والقاعدة في الشعيرة الظاهرة كالأذان وغيره أنها واجبة كالجمعة، فهذه أشياء ظاهرة واجبة على المكلفين لكنها ليست واجبة على الأعيان بل على الكفاية عندهم لأن دليلهم فحسب هو أنها شعيرة ظاهرة والشعائر الظاهرة متى قام بها من يكفي في إظهارها وإبرازها، فإن الحكم يسقط عن الباقين فيبقى في حقهم على الاستحباب.

وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام: إلى أنها فرض على كل مكلف من الذكور البالغين دون الإناث.

واستدلوا على فرضيتها بما ثبت في الصحيحين أن أم عطية حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور في العيدين ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. قالت: قلت يا رسول الله: إن إحدانا لا يكون لها جلباباً؟ فقال: لتلبسها أختها من جلبابها) وهذا الدليل – في الحقيقة – لو استدل به الأحناف، فإنه إنما يصح دليلاً على الذكور والإناث جميعاً.

ولعل دليلهم قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} فإن هذه الآية قد فسرت عند طائفة من المفسرين بأن المراد بها صلاة العيد وهذا في صلاة عيد الأضحى، ومثله الفطر.

لكن الصحيح أن هذه الآية: آية فيها أمر من الله بالصلاة أي بإقامتها، وبالنحر أي بأن يكون الذبح لله سواء بالأضاحي أو غيرها، بدليل أن هذه الآية مكية، وأن صلاة العيد لم تشرع إلا في المدينة.

ص: 66

لكن ما ذكره الأحناف من الدليل المتقدم يصح أن يستدل به على ما ذهب إليه طائفة من العلماء: من أن صلاة العيد فرض على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر العواتق والحيض وذوات الخدور – في العيدين – أن يشهد الخير ودعوة المسلمين، وبالغ في ذلك حتى أمر من ليس لها جلباب أن تلبسها أختها من جلبابها، وظاهر أمره الإيجاب.

ويؤيده ما ثبت في مسند أحمد بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واجب على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) .

ويشهد لهذا الحديث أثر موقوف ثابت عن أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال:(حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) .

وإلى ذلك ذهب طائفة من العلماء، وهو مذهب ابن حزم والصنعاني والشوكاني، واحتمل هذا القول شيخ الإسلام فقال:" وقد يقال بوجوبها على النساء وغيرهم "(1) ، وهذه الأدلة ظاهرة فيما ذكره شيخ الإسلام من هذا القول المحتمل.

فالراجح ما ذهب إليه طائفة من السلف وذهب إليه من تقدم ذكرهم واحتمله شيخ الإسلام فهو أظهرها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بذلك، وإذا ثبت هذا في حكم النساء فهو في حكم الرجال أولى.

قال: (إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام)

إذا ترك أهل بلد صلاة العيد فلم يقيموها في بلدتهم وهجروا هذه الشعيرة فإنهم يقاتلون، لدخولهم في القاعدة المتقدم ذكرها من أن القرية أو المدينة التي تخالف شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، فإنها تقاتل، كمن ترك الأذان ونحوه، وقد تقدم الكلام على هذا في باب الأذان.

فإذن يقاتلهم الإمام لاجتماعهم على ترك هذه الشعيرة، والجهاد قد أقيم لإقامة الدين أو بعضه، فكما يقاتل من ترك الدين فكذلك يقاتل من أصر على ترك شيء من شعائره الظاهرة.

(1) قال في مجموع الفتاوى [24 / 183] : " والقول بوجوبه على الأعيان أقوى من القول بأنه فرض على الكفاية ".

ص: 67

قال: (ووقتها كصلاة الضحى وآخره الزوال)

باتفاق أهل العلم، وأن وقتها كوقت صلاة الضحى ويكون ذلك من طلوع الشمس بارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس – هذا وقت صلاة العيد -.

ودليل هذا: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن عبد الله بن بُسْر – صاحب النبي صلى الله عليه وسلم – خرج مع الناس في يوم فطر أو أضحى [فأنكر] إبطاء الإمام فقال: (إن كنا- يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم – قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح)(1)، وعند الطبراني وصححه ابن حجر:(وذلك حين تسبيح الضحى) أي حين صلاة الضحى.

ومما يدل على أنها ينتهي وقتها بزوال الشمس ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار قال: (جاء ركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس – أي هلال شوال – فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم)(2) عند الطحاوي: (وذلك بعد زوال الشمس) أي كان إتيانهم وقد زالت الشمس، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد بل أخرها إلى الغد.

إذن وقتها بالاتفاق من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح حتى زوال الشمس.

قال: (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد)

بعده: أي بعد الزوال، ودليله الحديث المتقدم وفيه:(وإذا أصبحوا أن يغدو إلى مصلاهم) .

(1) سنن أبي داود [1 / 675] .

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا لم يخرج الإمام للعيد.. (255) قال:" حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن جعفر بن أبي وحشية عن أبي عُمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ركباً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم ".

ص: 68

ومثل ذلك لو علموا قبيل الزوال بحيث لا يمكنهم الاجتماع وعلموا أنهم لو اجتمعوا فإن الصلاة لا يمكن أداؤها إلا وقد زالت الشمس – فإنهم يؤمرون بالخروج من الغد.

قال: (وتسن في صحراء)

أي يستحب أن تصلي صلاة العيد في الصحراء، فلا يصلي في المساجد لا الجامعة ولا غيرها.

ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى)(1)

واستثنى الحنابلة من ذلك: مكة، فقالوا يستحب لهم أن يصلوا في المسجد المكي.

قال الشافعي: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد إلى المصلى بالمدينة وكذلك من بعده وهكذا في سائر البلدان إلا مكة فلم يبلغنا أن أحداً من السلف ممن صلى بهم خرج بهم إلى المصلى.

قيل: لعظمة المكان.

وفي هذا نظر، والله أعلم.

(1) أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب الخروج إلى المصلى بغير منبر (956) : " حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن أبي سرْح عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان

".

وأخرجه مسلم (889) في كتاب صلاة العيدين وفيه: " عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة.. " وليس فيه ذكر المصلى إلا في آخر الحديث في قصته رضي الله عنه مع مروان. صحيح مسلم بشرح النووي [2 (6 / 177) ] .

ص: 69

والذي يظهر لي: أن ذلك لضيق أطرافها، وضيق ممراتها بالجبال بحيث أنه يشق عليهم الخروج إلى مكان يسعهم كما يكون هذا في المدينة ونحوها، وذلك لفضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد خرج عنه وصلى في الصحراء، ولأن المقصد هو إظهار هذه الشعيرة للناس فكان المستحب أن يكون في الصحراء سواء في مكة وفي غيرها، وإنما استثنيت مكة لضيق أطرافها فإن ممراتها ضيقة بالجبال فلما كان كذلك كان المستحب – حينئذ – أن يصلي في المسجد، والله اعلم.

قال: (وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر)

المستحب في صلاة الأضحى أن يبكر بها، فإذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح صليت الأضحى.

وأما الفطر فبالعكس تؤخر شيئاً ما.

واستدلوا بتعليل، فقالوا: صلاة عيد الأضحى يعجل بها ويبكر ليتسع الوقت للأضاحي.

وبالعكس في صلاة عيد الفطر فأخرت ليتسع الوقت للناس لأداء صدقة الفطر، فإن المستحب في صدقة الفطر أن تخرج قبل صلاة العيد.

وهذه المسألة ورد فيها حديث رواه الشافعي ورواه عنه البيهقي وفيه إبراهيم بن يحيى وهو متروك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كتب إلى عمرو بن حزم أن عجل صلاة الأضحى وأخر صلاة الفطر) لكن الحديث في إسناده متروك، ومع ذلك فإن المسألة لا خلاف بين أهل العلم فيها.

قال الموفق: " ولا أعلم فيها خلافاً "(1) .

وفي التعليل بأن الأضحى تقدم لأجل الأضاحي، نظر.

ولو قيل إنما يستحب تعجيلها لاستحباب تعجيل الصلاة والمبادرة بها، فيكون هذا التعليل لصلاة الأضحى.

وأما صلاة الفطر فهو ما ذكروه سابقاً.

إذن: ما ذكره أهل العلم ظاهر، أما صلاة الأضحى فتعجل في أول وقتها لاستحباب الصلاة في أول وقتها فإن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها كما تقدم في الكلام في المواقيت، وإنما تؤخر صلاة الفطر ليتسع ذلك للمسلمين فيؤدوا صدقة فطرهم.

(1) قال الموفق في المغنى [3 / 267] : " ولا أعلم فيه خلافاً ".

ص: 70

قال: (وأكله قبلها)

يستحب له أن يأكل قبلها أي قبل صلاة عيد الفطر، وقد ثبت ذلك في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أراد أن يغدو إلى صلاة الفطر يأكل تمراً)(1) وعن رواية معلقة للبخاري: (يأكلهن وتراً) ووصلها الإمام أحمد بإسناد صحيح.

فإن أكل طعاماً آخر فإن ذلك يجزئ عنه لإدراك هذه السنة، لكن المستحب له أن يأكل تمراً.

وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن وصححه ابن حبان عن بريد بن الحصيب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي)(2)

فيستحب للمسلم قبل أن يغدو إلى صلاة عيد الفطر أن يأكل شيئاً والمستحب أن يكون تمراً، والمستحب أن يكون وتراً.

وأما في يوم الأضحى فيستحب له أن يطعم بعد الصلاة؛ ليكون ذلك من أضحيته لذا قال:

قال: (وعكسه في الأضحى إن ضحى)

(1) أخرجه البخاري في باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج من كتاب العيدين (953) : " حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا عُبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " وقال مُرَجّا بن رجاء: حدثني عبيد الله قال حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويأكلهن وتراً ".

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج قال:" حدثنا الحسن بن الصَّبّاح البزار البغدادي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن ثواب بن عُتبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي " قال: وفي الباب عن علي وأنس. قال أبو عيسى: حديث بريدة بن حصيب الأسلمي حديث غريب. وقال محمد: لا أعرف لثواب بن عتبة غير هذا الحديث ".

ص: 71

وهذا قيد، فإن لم يضحِّ فإنه لا يترتب عليه شيء من السنة سواء أكل قبل الصلاة أو بعدها، فإنما استحب له ذلك ليكون طعامه من أضحيته.

قال: (وتكره في الجامع بلا عذر)

أي يكره للناس أن يصلوا في المساجد بلا عذر، فإن كان عذر من مطر أو برد شديد لا يتحملون أو يشق عليهم فإنهم يصلون في المساجد، لقوله تعالى:{ما جعل عليكم في الدين من حرج} .

وروى أبو داود بإسناد ضعيف عن أبي هريرة: (أنهم أصابهم يوم عيد مطر فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد)(1) لكن الحديث وإن كان ضعيفاً فإن الآية مقررة لذلك.

(1) أخرجه أبو داود في باب يصلي بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر (1160) : حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد ح وحدثنا الربيع بن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا رجل من الفرويين وسماه الربيع في حديثه عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة سمع أبا يحيى عبيد الله التيمي يحدث عن أبي هريرة أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد "، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 686] .

ص: 72

فإن لم يكن هناك عذر فالصلاة في المساجد مكروهة بل هي من البدع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظهر هذه الشعيرة في المصليات، واتخاذ المساجد لها خلاف السنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي

. وإياكم ومحدثات الأمور) (1)

(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607) قال رحمه الله تعالى:" حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات والأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ".

وأخرجه الترمذي في كتاب العلم (2676) قال رحمه الله: " حدثنا علي بن حُجر حدثنا بقية بن الوليد عن بَحِير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وقد روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.

حدثنا بذلك الحسن بن علي الخلاّل وغير واحد قالوا: حدثنا أبو عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

والعرباض بن سارية يكنى أبا نجيح.

وقد روى هذا الحديث عن حُجر بن حُجْر عن عرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ".

ص: 73

فهذه محدثة في الدين وكل محدثة بدعة.

وصلاة العيد كصلاة الجمعة لا تشرع إلا في موضع واحد فيجتمع الناس عامة في موضع واحد.

لكن إن كان في ذلك مشقة عليهم فإن لهم أن يزيدوا من المصليات ما يدفع عنهم الحاجة بقدرها كما تقدم في صلاة الجمعة.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً)

أي يسن أن يبكر المأموم لصلاة العيد وذلك لفضيلة الدنو من الإمام.

(ماشياً) : لما روى الترمذي بإسناد ضعيف لكن له شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن، ولذا حسنه الترمذي عن علي قال:(من السنة أن يخرج إلى العيدين ماشياً)(1) فالمستحب أن يغدو إليها ماشياً سواء كان إماماً أو مأموماً.

قال: (بعد الصبح)

أي بعد صلاتها، وهنا قيده الحنابلة بأن يكون ذلك بعد الصلاة، وإن كان ظاهر لفظه هنا (بعد الصبح) أي بعد أذانه، ولكنه مقيد عندهم بأن يكون ذلك بعد صلاة الصبح لا قبلها، فلا يستحب أن يذهب قبل صلاة الصبح بل بعدها.

وقد ثبت في الدارقطني بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان يخرج إلى العيدين من المسجد - أي إذا صلى الصبح - فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) وسيأتي الكلام على التكبير إن شاء الله تعالى.

وظاهر قول المؤلف أن المستحب له أن يغدو قبل طلوع الشمس، ولم أر دليلاً يدل على ذلك، وحكى الموفق عن ابن عمر أنه كان يخرج إليها إذا طلعت الشمس، فإن كان ثابتاً عنه فهذا هو المستحب.

(1) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في المشي يوم العيد من كتاب الجمعة (530)، قال:" حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال: " من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم.. ".

ص: 74

فإذن: يستحب للمسلم أن يغدو إليها بحيث يدرك خطبتها وصلاتها، وأما أن يستحب له ذلك بعد صلاة الصبح فإنه يحتاج إلى دليل.

وأما ما ثبت عن ابن عمر فليس فيه أنه بعد الصلاة مباشرة بل كان يغدو إليها من المسجد ويحتمل أن يكون هذا بعد ذكره وطلوع الشمس فيكون خروجه من المسجد إلى المصلى.

قال: (وتأخر إمام إلى وقت الصلاة)

فالإمام لا يستحب له أن يبكر كما يبكر المأمومون، بل المستحب له أن يتأخر فيكون ذهابه إلى المصلى بحيث يكون الوقت المستحب لإقامته للصلاة.

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة)(1) أي يذهب فيقيمها.

قال: (على أحسن هيئة) .

فيسن أن يكون الخروج على أحسن هيئة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر المتقدم في رواية عنه: أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابتع هذه فالبسها للعيد والوفد)(2) ؛ ولأن الجمعة عيد وهذا عيد فكان المستحب لهما جميعاً التزين باللباس والطيب.

وثبت عن ابن عمر من فعله بإسناد جيد عند البيهقي: (أنه كان يلبس في العيد أحسن ثيابه)

قال الإمام مالك: " سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد " أي في عيد الفطر وعيد الأضحى وفي الجمعة.

قال: (إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه)

(1) راجع صْ 51 الحاشية (19)

(2)

أخرجه البخاري في أول كتاب العيدين (948) : " حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شُعيب عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنما هذه لباس من لا خلاق له)

". وأخرجه مسلم (2068) .

ص: 75

لأن هذه الثياب فيها أثر العبادة والنسك فاستحب له أن يغدو إلى المسجد بها.

واستثنى بعض الحنابلة الإمام الأعظم، ومثله إمام الصلاة؛ لأنه منظور إليه، فاستُحب ألا يغدو بثياب اعتكافه بل يلبس أحسن ثيابه ويتطيب.

- وقال بعض الحنابلة: بل المعتكف كغيره في اللباس من الزينة والطيب، وهو قول القاضي من الحنابلة – وهو القول الراجح – فإنه لا دليل يدل على استحباب ذلك.

والأصل هو استحباب التزين والتطيب في العيد وهذا عام للمعتكف وغيره.

قال: (ومن شرطها: استيطان وعدد الجمعة لا إذن إمام)

أي من شرط العيد:

" استيطان " كما تقدم توضيحه في الكلام على صلاة الجمعة.

" وعدد الجمعة " ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه كان يقيم العيد في السفر بل كان لا يقيمها في السفر ولا خلفاؤه من بعده، فدل ذلك على أن العيد يشترط فيها الاستيطان وعدد الجمعة كما يشترط ذلك في الجمعة.

ولأن الجمعة عيد فاشترط في العيد ما اشترط في الجمعة، وقد تقدم أن العيد يجزئ عن الجمعة فكان القياس ظاهراً حينئذ، فإن الجمعة عيد وتجزئ عن العيد وكذلك العيد يجزئ عنها، فكان القياس بينهما ظاهر وواضح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في سفره ولا خلفاؤه الراشدون من بعده.

وقد تقدم البحث في مسألة العدد في باب الجمعة فكذلك العيد.

" لا إذن إمام " فلا يشترط أن يأذن الإمام، قياساً على الجمعة فهذه فريضة الله على عباده – وقد تقدم أنها عند الحنابلة فرض كفاية وأن الراجح أنها فرض عين. فهي فرض من فرائض الله فلم يكن للإمام أن يتطرق بعدم الإذن فكان حكم الله فوق حكمه، فلا يرجع إلى إذن الإمام أو عدمه.

قال: (ويسن أن يرجع من طريق آخر)

ص: 76

يستحب له أن يكون ذهابه من طريق وإيابه من طريق آخر، وذلك لما ثبت في البخاري عن جابر قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق)(1) .

وقد ذكر أهل العلم لذلك عللاً كثيرة منها إظهار شعيرة الله بالذهاب والإياب لأداء هذه الفريضة.

ومنها إغاظة المنافقين.

ومنها السلام على أهل الطريقين، وغير ذلك.

ولا مانع من صحة بعض ما ذكروه من العلل كما أنه لا مانع أن تكون هناك عللاً أخرى، وكما أنه لا مانع أن تكون هذه العلل بمجموعها علة لهذه السنة، فإن السنة النبوية مشتملة على الحكم الكثيرة.

قال: (ويصليها ركعتين قبل الخطبة)

فصلاة العيد قبل الخطبة، فيبدأ بالصلاة ثم يخطب الناس.

فإن من أهم (2) بالخطبة قبل الصلاة لم يعتد بالخطبة وإن كانت الصلاة صحيحة بالاتفاق؛ لأن الخطبة سنة كما سيأتي تقريره فليست شرطاً في صلاة العيد بخلاف الخطبة يوم الجمعة فهي شرط فيها، لكن هذه الخطبة مردودة لأنها لم تقع حيث وضعها الله عز وجل.

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال:(صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يصلون قبل الخطبة)(3)

(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد من كتاب العيدين (986) .

(2)

لعلها: ابتدأ

(3)

أخرجه البخاري في باب الخطبة بعد العيد من كتاب العيدين (963) : " حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة " وأخرجه أيضاً في باب المشي والركوب إلى العيد.. (957) ، وأخرجه مسلم (888) .

وأخرجه البخاري (962) قال: " حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: " شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة ". وأخرجه مسلم (884) .

ص: 77

قال: (يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً وفي الثانية قبل القراءة خمساً)

يستحب له أن يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً مع الركعة الثانية.

والسبع الأولى مع تكبيرة الإحرام، والخمس الأخرى دون تكبيرة الانتقال.

ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود، وصححه أحمد والبخاري وابن المديني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(التكبير يوم الفطر سبع في الأولى، وفي الآخرة خمس)(1) .

وثبت بيانه في أثر ثابت عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه: (كان يكبر في العيدين سبعاً في الأولى فيهن تكبيرة الافتتاح ويكبر في الآخرة ستاً مع تكبيرة الانتقال) .

وفي قوله: " قبل التعوذ والقراءة "؛ فللرواية المتقدمة وفي آخرها (ويقرأ بعدهما كلتيهما)(2) أي بعد هذا التكبير في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية تكون القراءة.

قال: (يرفع يديه مع كل تكبيرة)

واستدلوا: بعموم الأدلة، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث وفيه:(وكان يرفعهما عند كل ركعة وتكبيرة قبل الركوع حتى تنقضي صلاته) ، فهذا الحديث عام في كل تكبيرة قبل الركوع وأنه يستحب له أن يرفع يديه فيها.

(1) أخرجه أبو داود في باب التكبير في العيدين (1151) قال: " حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما) . وأخرجه عن عائشة (1149) : أن سول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً ".

(2)

بلفظ: " والقراءة بعدهما كلتيهما " كما تقدم في الحاشية (31) .

ص: 78

وثبت نحوه في أبي داود من حديث وائل بن حجر بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه مع التكبير)(1) وهذا عام، لذا قال الإمام أحمد – عند هذا الأثر – قال:(أرى أنه يدخل فيه هذا كله) أي يدخل فيه تكبيرات العيد وتكبيرة صلاة الجنازة لعموم هذا الأثر.

ورووا عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه في تكبيرات العيد والجنائز، رواه الأثرم كما في كتاب المغنى وغيره ولم أقف على سنده.

وقال الموفق: " ولا يعلم له - أي لابن عمر - مخالف من الصحابة "، وهو مذهب الجمهور.

وخالف في ذلك بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام مالك، فرأوا أن ذلك لا يشرع لعدم ثبوته نصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. والراجح ما تقدم؛ لعمومات الأدلة.

قال: (ويقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً) .

أي يقول ذلك بين التكبيرات في الصلاة، فإذا كبر تكبيرة الإحرام واستفتح قال:" الله أكبر " ثم قال هذا الذكر ثم كبر وهكذا

حتى ينتهي من التكبير، ومثله الركعة الثانية.

قال: (وأن أحب قال غير ذلك)

لعدم التنصيص عليه، فإنما ذكره لأنه يحصل به ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقد روى المحاملي بإسناد جيد:" أن عبد الله بن مسعود كان بين كل تكبيرتين يحمد الله ويثني عليه "، ورواه الأثرم وزاد: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم . واحتج به الإمام أحمد.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة تحت: أبواب تفريع استفتاح الصلاة (725) : " حدثنا مسدد حدثنا يزيد يعني ابن زريع حدثنا المسعودي حدثني عبد الجبار بن وائل حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبيرة "، قال المحقق في الحاشية:" في النسخة الهندية: " مع التكبير ".

ص: 79

فقد ثبت لنا أن ابن مسعود كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين من تكبيرات العيد، وما ذكره المؤلف رأى أنه يحصل به ذلك، فلو قال غيره مما يكون فيه حمد وثناء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما لو قال:" الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد " فإنه يحصل به الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ثم يقرأ جهراً في الأولى بعد الفاتحة بسبح وبالغاشية في الثانية)

لما تقدم من حديث النعمان بن بشير الثابت في مسلم (1)، ويستحب له أن يقرأ أحياناً ما ثبت في مسلم من حديث أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يقرأ في الفطر والأضحى بـ " (ق) واقتربت " (2) .

فالمستحب له أن يقرأ هاتين تارة، وأن يقرأ بسبح والغاشية تارة أخرى.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله: (فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة)

تقدم ما ذكره المؤلف من المسائل في خطبة الجمعة، فما ثبت فيها فهو ثابت في خطبة العيد، ومن ذلك أن خطبة العيد خطبتان، كما ذكر ذلك أهل العلم من الحنابلة والشافعية وأهل الظاهر وغيرهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (878) قال: " حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق جميعاً عن جرير قال يحيى: أخبرنا جرير عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين ".

(2)

أخرج مسلم في كتاب العيدين باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (891) .

ص: 80

ووردت أحاديث تدل على ذلك، منها أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما رواه ابن ماجه في سننه عن جابر قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام)(1) والحديث فيه أبو بحر وإسماعيل بن مسلم وهي ضعيفان فالحديث إسناده ضعيف جداً.

وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (يكبر الإمام إذا صعد المنبر يوم العيد قبل الخطبة الأولى تسع تكبيرات وقبل الثانية سبع تكبيرات) لكن الحديث مرسل، ومع ذلك فإن عمل أهل العلم على ذلك، ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة فتكون المسألة إجماعاً، ويمكن أن يستدل على هذه المسألة: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (شهدت صلاة الفطر مع نبي الله وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب فنزل - أي كان يخطب – نبي الله (أي مما ارتقاه سواء كان ذلك منبراً أو شيئاً عالياً) كأني أنظر إليه يجلس الرجال يشير بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات ....} الآية فقال: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتصدقن) (2)

(1) ضعيف ابن ماجه للألباني رحمه الله تعالى ص94.

(2)

أخرجه البخاري في باب موعظة الإمام النساء يوم العيد من كتاب العيدين (979) قال: " قال بن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر عثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجلِّس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال، فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية ثم قال حين فرغ منها: (أنتن على ذلك) قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها: نعم، لا يدْرِي حسنٌ من هي، قال: (فتصدقن) فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكُنَّ فداء أبي وأمي " فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. قال عبد الرزاق: الفَتَخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية ". وأخرجه البخاري أيضاً في كتاب التفسير، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك (4895) . وأخرجه مسلم في أول كتاب العيدين (884) .

ص: 81

والشاهد فيه قوله: (كأني أنظر إليه يجلس الرجال) لما انتهى من الخطبة الأولى وذهب إلى النساء يخطبهن، فدل على أنها خطبة أخرى، وإن كان السنة أن تكون هذه الخطبة الثانية موجهة إلى النساء، ولكن مع ذلك هي خطبة أخرى يجلس لها الرجال أي يستحب للرجال أن يجلسوا لها فتكون هي الخطبة الثانية.

* وهل يستحب له إذا قام على المنبر أن يجلس أم يشرع في خطبته من غير جلوس؟

قولان لأهل العلم من الحنابلة وغيرهم:

الأول: أنه يستحب له الجلوس كجلوسه يوم الجمعة؛ وذلك ليتراد إليه نفسه ويستريح.

2-

الثاني: أنه لا يستحب له ذلك، لأن هذا الجلوس الذي شرع يوم الجمعة إنما هو للأذان بين يديه، فللأذان واستماعه كان المستحب أن يجلس ولا فائدة من القيام حينئذ.

وأما العيد فلا يستحب له أذان ولا إقامة كما تقدم في الأذان فكان المستحب له أن يشرع في خطبته من غير جلوس.

وهذا أولى؛ فإن ظاهر الأحاديث الواردة في سنته في الخطبة ليس فيها ذكر الجلوس، بل فيها أنه كان يقوم فيخطب، لكن إن جلس محتاجاً إلى ذلك ليستريح ويتراد إليه نفسه فلا بأس بذلك للحاجة.

قال: (يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع)

هذا هو المستحب عند جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم.

قالوا: يستحب أن يفتتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متواليات لا يفصل بينها بفاصل من ذكر ولا غيره ويفتتح الثانية بسبع تكبيرات.

واستدلوا بالأثر المتقدم الذي رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأخرجه سعيد بن منصور وغيره.

ص: 82

لكن الحديث – كما تقدم – ضعيف مرسل، ولذا اختار شيخ الإسلام وتلميذه إلى أنه يفتتحها بالحمد؛ لأن الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه كلها الافتتاح بالحمد له، وأما الافتتاح بالتكبير فلم يثبت عنه، وما روي عنه لا يصح ولا يثبت، فكان المستحب له الافتتاح بالحمد له، ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه والصواب أنه مرسل:(كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع)(1)، وروى ابن ماجه في سننه – بإسناد ضعيف – من حديث سعد المؤذن أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يكثر من التكبير بين أضعاف خطبة العيد)(2) .

قال: (يحثهم في الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يُخرجون، ويرغبهم في الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها)

الوارد عنه – عليه الصلاة والسلام – في خطبة العيد في الفطر والأضحى – هو التذكير والوعظ والأمر بالتقوى والحث على طاعة الله عز وجل.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4840) وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (1894) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ".

(2)

أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1287) :" حدثنا هشام بن عمّار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد المؤذن حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبّر بين أضغاف – كذا في الطبعة التي بين يدي - الخطبة يُكثر في خطبة العيدين ".

ص: 83

كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (شهدت يوم العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم)(1) .

وأما ما ذكره المؤلف من كون الخطيب يستحب له أن يذكرهم بمسائل الفطر في عيد الفطر، فإن في هذا نظراً؛ لعدم ثبوته أولاً – عن النبي صلى الله عليه وسلم –.

وثانياً: فوات محله، فإن صدقة الفطر تشرع بل لا تجزئ إلا أن يكون قبل صلاة العيد، فإذا صلى الناس العيد فقد فات وقتها فلم يكن للتنبيه على مسائلها فائدة، بل كان الاشتغال بوعظ الناس وتذكيرهم وأمرهم بالتقوى وحثهم على الطاعة ونهيهم عن المعصية ونحو ذلك أولى من بيان ذلك.

- أما الأضحى فإنه قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد قال في خطبة كما في الصحيحين من حديث البراء، قال صلى الله عليه وسلم:(من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)(2) . وفي المسند وابن ماجه: (فاستقبلهم وهم جلوس وقال: تصدقوا)(3) فقد أمر الرجال بالصدقة.

(1) أخرجه البخاري في باب المشي والركوب إلى العيد.. (961) مختصراً دون آخره. وأخرجه مسلم في كتاب العيدين (885) .

(2)

أخرجه البخاري في أول كتاب الأضاحي (5545) و (954) بلفظ قريب منه، وأخرجه مسلم (1962) .

(3)

أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1288) قال: " حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله أخبرني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول: (تصدقوا، تصدقوا) فأكثر من يتصدق النساء.. "

ص: 84

فهنا النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن شيء من أحكام الأضاحي في خطبة في عيد الأضحى ولا شك أن الفائدة واضحة في هذا، فإن الأضاحي إنما تشرع بعد الصلاة فيكون في بيان أحكامها فائدة للمصلين وتعليم لهم.

إذن: ما ذكره المؤلف هنا وهو مذهب الحنابلة وغيرهم أن الكلام في خطبة عيد الفطر يكون عن إخراج الفطرة، في هذا نظراً لفوات وقته وعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الكلام عن الأضاحي في خطبة عيد الأضحى فإن محل ذلك لم يفت، والمصلحة مقتضية الكلام على هذا ولثبوته أولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (والتكبيرات الزوائد والذكر بينها والخطبتان سنة)

التكبيرات الزوائد: وهي ستة تكبيرات زوائد في الأولى وخمساً في الثانية، فهذه التكبيرات سنة والذكر بينها المروي عن ابن مسعود من ذكر الله وحمده والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم – كذلك سنة –، ولا خلاف بين العلماء في أن ذلك سنة، فلو صلى الإمام ولم يكبر التكبيرات الزوائد فإنه قد ترك سنة ولا يؤثر ذلك في صلاته باتفاق العلماء.

(والخطبتان سنة) فإن الصلاة تصح ولو لم يخطب، ولا يجب على الناس من الذكور والإناث أن يستمعوا إلى الخطبة.

يدل على ذلك ما ثبت في أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن السائب قال: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس [للخطبة] فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب)(1) والحديث إسناده صحيح، وقد اتفق العلماء على القول به.

قال: (ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها)

(1) أخرجه أبو داود في باب الجلوس للخطبة من كتاب الصلاة (1155) ، وأخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة من كتاب إقامة الصلاة (1290) .

ص: 85

أي يكره لمن أتى للعيد أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال:(صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما)(1) .

*وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة.

قال الإمام أحمد: " الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا يصلون قبلها ولا بعدها ".

وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك والحسن البصري: (أنهما كانا يصليان قبل خروج الإمام) .

وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن عجرة أنه قال في الصلاة قبل العيد: (بدعة وترك سنة) .

فالصحابة ومن بعدهم قد اختلفوا في هذه المسألة.

والمشهور في المذهب – خلافاً للشافعية –: أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها.

والصحيح في هذه المسألة: أنه إن صلى بعدها فحسن – وهو مستحب -، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت ذلك في ابن ماجه بإسناد حسن كما قال الحافظ وهو كما قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين)(2) .

فإن قيل: قد نفى ذلك ابن عباس في حديثه المتقدم؟

فالجواب: أن المثبت مقدم على النافي، فالمثبت معه علم زائد موجب للإثبات، وأما النافي فليس معه إلا العدم.

وأما قبل صلاة العيد فالصحيح أنه لا بأس له أن يصلي إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح؛ لأنه لا دليل يمنع من ذلك فيكون ذلك من التطوع المطلق كما يكون ذلك في صلاة الجمعة في سنتها القبلية، لأن هذا وقت جواز للصلاة ولا دليل يدل على المنع.

(1) أخرجه مسلم في باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى (884) بلفظ قريب منه، وأخرجه البخاري في باب القُرْط للنساء من كتاب اللباس (5883) .

(2)

أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها من كتاب إقامة الصلاة (1293) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 86

وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي – كما في حديث ابن عباس –، فإنه كذلك لم يكن يصلي يوم الجمعة قبلها، فيكون ذلك هو المشروع للخطيب، فالخطيب لا يشرع له أن يصلي قبل الجمعة وقبل العيد، وأما الناس فإن ذلك من التطوع المطلق أن يصلي ما كتب له.

وقال بعض الحنابلة: يصلي تحية المسجد.

وهذا ظاهر فيما إذا كانت صلاة العيد قد أقيمت في مسجد فإن هذا ظاهر، بل القول بوجوبه واضح لوجوب تحية المسجد سواء كان ذلك في وقت نهي أو لا.

وأما المصلى فظاهر كلام هذا القائل من الحنابلة: أنه كذلك، وهو قول قوي من إلحاق المصلى بالمسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء الحيض:(ويعتزل الحيض المصلى)(1) ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المصلى حكم المسجد من وجوب اعتزال الحيض له، فكان كذلك في حكمه ذلك الوقت في تحية المسجد.

فالأظهر: أنه إذا أتى صلى ركعتين تحية المسجد، وإذا تأخر الإمام حتى ارتفعت الشمس صلى ما كتب له من الصلوات من باب التطوع المطلق، وعليه فيكون حكم العيد كحكم الجمعة، وهذا ما يدل عليه القياس فإن الجمعة عيد.

ويدل على ثبوت هذا القياس ثبوت صلاة الركعتين عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كما كان يصليها بعد الجمعة في بيته.

فعلى ذلك التنفل يوم العيد: أما قبل صلاة العيد فإنه من التنفل المطلق إلا أنه يشرع له أن يصلي تحية المسجد.

وأما بعد العيد فيستحب له أن يصلي ركعتين في بيته.

والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله: (ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها)

" لمن فاتته " أي صلاة العيد.

فيسن القضاء لصلاة العيد ويسن أن يكون ذلك على هيئتها وصفتها، فهنا مسألتان:

(1) متفق عليه، راجع صْ 49.

ص: 87

المسألة الأولى: مشروعية قضاء صلاة العيد، وذكر المؤلف هنا أن ذلك سنة وهذا بناءً على أن صلاة العيد فرض على الكفاية فتكون على أفراد المكلفين على الاستحباب، وما كان مستحباً فإن قضائه مستحب. وعلى القول بأنها فرض عين – كما تقدم ترجيحه – فيجب قضاؤها؛ لأن فعلها واجب فقضاؤها واجب أيضاً وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)(1) .

ويترتب الخلاف على ما تقدم في قضاء الصلاة هل يقضي المعذور وغيره، أم القضاء فقط للمعذور؟

وتقدم أن الراجح أن القضاء للمعذورين فقط، وأن غير المعذورين لا قضاء عليهم كما هو اختيار شيخ الإسلام.

المسألة الثانية: فهي داخلة تحت القاعدة المشهورة: وهي أن القضاء يحكي الأداء، فمن فاتته صلاة العيد قضاها على هيئتها وصفتها ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً كهيئتها للقاعدة المشهورة: القضاء يحكي الأداء، والأدلة الشرعية تدل على هذه القاعدة.

فقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها) الضمير يعود إلى الصلاة المتروكة نفسها فكان قضاؤها يحكي أداءها.

وقال ابن مسعود: يقضيها أربعاً، وهو قول لبعض الحنابلة.

وقال بعضهم: إن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين.

وأثر ابن مسعود رضي الله عنه ثابت عنه في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من فاتته صلاة العيد فليصل أربعاً) .

وأثره مخالف بأثر رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس: (أنه قضاها على هيئتها وصفتها) فيخالف الأثران والقياس مع قول أنس.

(1) أخرجه البخاري في باب من نسي صلاة.. من كتاب مواقيت الصلاة (597) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها..) ، وأخرجه مسلم (684) في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.

ص: 88

فإن القياس والنظر يقتضي أن يصلي هذه الصلاة التي هي من باب القضاء على هيئتها في الأداء.

وأما أثر ابن مسعود فإن هذا فيما يظهر من باب إلحاق العيد بالجمعة فإن الجمعة عيد، وإذا تركت صليت أربعاً فكذلك العيد.

لكن القياس هنا: ضعيف للفارق بين هاتين المسألتين في أن لصلاة الجمعة بدلاً وهو صلاة الظهر، وهو بدل في يومها فإذا فاتت رجع إلى المبدل، وأما صلاة العيد فليس لها بدل أصلي في سائر الأيام وإن كان غير أصلي في ذلك اليوم.

إذن: ما ذهب إليه جمهور العلماء أصح وأن صلاة العيد إن تركت صليت على هيئتها وصفتها بتكبيراتها الزوائد ونحو ذلك مما تقدم.

(ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيد)

يريد الفقهاء بالتكبير المطلق، التكبير في غير أدبار الصلوات المكتوبة.

وإنما التكبير المقيد هو التكبير المرتبط بأدبار الصلوات، وأما المطلق فهو ما يكبره الشخص في سوقه وممشاه ومجلسه وفي بيته ونحوه.

فيسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين، ليلة عيد الفطر وليلة عيد الأضحى.

أما ليلة عيد الأضحى فستأتي الآثار الدالة على ذلك، وأما عيد الفطر فدليله قوله تعالى:{ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} أي لتكملوا عدة رمضان، ولتكبرون على ما هداكم من صيامه وقيامه ولعلكم تشكرون، فهذه الآية فيها أن التكبير يكون عند تمام عدة الشهر ويكون ذلك من رؤية الهلال، فيكبر من رؤية الهلال أو من ثبوت دخول الشهر الآخر بتمام عدة رمضان، فيكبر الله عند ثبوت رؤية الهلال وليلته تلك وصبيحته حتى يغدو إلى المسجد، وقد تقدم أثر ابن عمر:(أنه كان إذا غدا يوم فطر أو أضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) .

وروى نحوه ابن أبي شيبة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلا أن فيه: (إلى أن يقضي الصلاة) ، ومعلوم أن الإمام يكبر في صلاته.

ص: 89

وله شاهد عند البيهقي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ثابتاً على وجه الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه الوقف عن ابن عمر رضي الله عنه – وهذا مذهب الجمهور –.

- وقال المالكية: لا يستحب له إلا عند غدوه بعد طلوع الشمس على خلاف بينهم إذا غدا قبل طلوع الشمس هل يكبر أم لا؟

لكن المقصود: أنهم لا يرون التكبير إلا في يوم العيد.

واستدلوا بأثر ابن عمر المتقدم.

والظاهر أن الآية عامة فيدخل فيها أثر ابن عمر والتكبير الوارد في الصلاة وفي أضعاف الخطبة، فإن ذلك كله من التكبير الداخل في قوله تعالى:{ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}

إذن: المشهور عند الحنابلة: أنه يكبر مع رؤية الهلال وأثناء ليلته تلك وصبيحتها ومن غدوه إلى الصلاة داخلة في ذلك، وما يكون في الخطبة داخل ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه التكبير في الغدو، وشرع التكبير في الصلاة، وكما تقدم عند عامة أهل العلم من التكبير أثناء الخطبة والآية أيضاً تشمل التكبير في ليلته.

قال: (وفي فطر آكد)

للآية، فإن الله أمر بالتكبير فيه فقال:{ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ....} حتى ذهب بعض الظاهرية إلى وجوب التكبير، وهو قول قوي من أنه يجب عليه التكبير سواء كان ذلك في تكبيره في الصلاة، المقصود أنه يكبر الله عند تمام عدة رمضان.

قال: (وفي كل عشر ذي الحجة)

لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معلومات} والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة.

كما أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وثبت في البخاري معلقاً:(أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق في أيام عشر ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)(1) فهذا الكلام على التكبير المطلق.

(1) ذكره البخاري في باب فضل العمل في أيام التشريق من كتاب العيدين قبل حديث (969) .

ص: 90

قال: (والمقيد عقب كل فريضة في جماعة من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق)

إذن: يسن التكبير المقيد.

أما المحرم فيسن له من صلاة الظهر يوم النحر، وأما غير المحرم فيسن له من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر صلاة من أيام التشريق وهي صلاة العصر، ويكبر بعد العصر ما لم تغب الشمس.

ودليل ذلك: الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد:" الإجماع " أي إجماع الصحابة، عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، أما أثر عمر فلم أقف عليه.

وأما أثر علي فهو ثابت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر بعد صلاة الصبح من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويكبر بعد العصر) .

ونحوه عن ابن عباس عند البيهقي. ونحوه عن ابن مسعود عند الحاكم وهي أسانيد صحاح إليهم.

وقال ابن تيمية: " هو إجماع من أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أ. هـ

أما المحرم فإنه يكبر بعد صلاة الظهر من يوم النحر؛ لأنه منشغل قبل ذلك بالتلبية، فإذا صلى الظهر وقد رمى جمرة العقبة ضحى فإنه بعد صلاة الظهر يكون التكبير المقيد.

وعليه: فإن رمى - كما يكون هذا للضعفة، إن رمى - قبل الفجر عل قول فيكون قد انتهى من التلبية فإنها تنتهي برمي جمرة العقبة، وحينئذ يكبر بعد صلاة الفجر.

فإذن: قالوا بعد صلاة الظهر؛ لأنه هو الوقت الغالب في انتهاء الناس من رمي الجمار فيكبرون لانتهائهم من التلبية وحينئذ يكون انشغالهم بالتكبير.

ولكن مع ذلك فالأظهر أنه لا بأس أن يكبر ولا ينكر عليه، بدليل ما ثبت في البخاري وغيره عن أنس قال في غدوهم والنبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفة:(يلبي الملبي فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) .

فإذن: إن كبر يوم عرفة فلا بأس.

ص: 91

ثم إن التكبير في الحقيقة لا يمنع من التلبية، فإن التلبية مشروعة على الإطلاق، وكونه يكبر بعد الصلوات المكتوبة هذا لا يشغله عن التلبية المشروعة، فإن التلبية ليست مشروعة في كل لحظة من لحظاته.

وهنا قال: " في جماعة ": فإذا صلى الصلاة المكتوبة في جماعة كبر، فإن صلاها منفرداً لم يكبر.

فالتكبير يشرع عقب الصلاة المكتوبة، لأن الصحابة كانوا يكبرون بعد صلاة الفجر، فكان التكبير مختصاً بالصلوات المكتوبة.

قالوا: ويكون ذلك في جماعة – خلافاً لمذهب مالك – فإن صلى المكتوبة منفرداً فإنه لا يكبر.

واستدلوا: بأثر رواه ابن المنذر واحتج به أحمد ولم أقف على سنده: أن ابن مسعود قال: (إنما التكبير على من كان في جماعة)، قالوا: ولا يعلم له مخالف من الصحابة.

وهذا قوي في النظر، من باب أن التكبير إنما يشرع الجهر به وإظهاره وذلك إنما يكون بعد الصلوات التي يجتمع عليها الناس فيجتهدون في رفع أصواتهم وتظهر هذه الشعيرة من شعائر الله من التكبير.

وأيام التشريق يستحب فيها التكبير المطلق، فقد ثبت في البخاري معلقاً:" أن عمر كان يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد تكبيره فيكبرون، ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى "، " وكان ابن عمر يكبر تلك الأيام خلف الصلوات وعلى مجلسه في فسطاطه وممشاه، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز أيام التشريق) (1)، وهي الأيام المعدودات التي قال الله فيها:{واذكروا الله في أيام معدودات} .

قال: (وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد)

إن نسى التكبير المقيد وهو ما زال دبر الصلاة المكتوبة، فإنه يقضيه؛ لأن السنة لم يفت محلها.

(1) ذكره البخاري في باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة من كتاب العيدين قبل حديث (970)

ص: 92

(ما لم يحدث أو يخرج من المسجد) : أما الخروج من المسجد فنعم، فإنه قاطع عرفاً، فإذا خرج من المسجد فإنه يكبر من باب التكبير المطلق، وأما التكبير المقيد فقد فاته لأن السنة قد فات محلها.

وأما الحدث، فاختار الموفق: أنه لا يؤثر في ذلك؛ لأن التكبير ليس من شرطه الطهارة.

وقال الحنابلة: الذكر تبع للصلاة فكان الحدث قاطعاً، والصحيح خلاف ذلك كما هو اختيار الموفق.

قال: (ولا يسن عقب صلاة عيد)

أي لا يسن له أن يكبر التكبير المقيد بعد صلاة العيد.

- أما عيد الفطر فهذا واضح؛ لأن التكبير المقيد بعد الصلوات المكتوبة لا يشرع في يوم الفطر بل في يوم النحر وفي يوم عرفة وأيام التشريق.

أما عيد الفطر فالتكبير فيه تكبير مطلق فلا يكون بعد الصلوات المكتوبة.

- وأما عيد النحر فكذلك، فإذا صلى صلاة عيد الأضحى فلا يكبر بعدها.

قالوا: لأن الوارد عن الصحابة إنما هو التكبير خلف الصلوات المفروضة، وصلاة العيد ليست من الصلوات المفروضة فلا يكبر بعدها.

- وقال بعض الحنابلة، كما هو اختيار الموفق: أنه يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ قال: لأن صلاة العيد صلاة مفروضة فهي مفروضة على الكفاية – كما تقدم في مذهب الحنابلة – فيسن لها التكبير كغيرها من الصلوات المفروضة.

قال: بل هي أولى؛ لأن صلاة العيد مختصة بذلك اليوم، والتكبير مختص بالعيد فكانت أحق من غيرها بالتكبير لاختصاصها بيوم العيد – وما ذكره أظهر –.

فالمستحب له أن يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ لأنها صلاة مفروضة كسائر الصلوات المفروضة.

قال: (وصفته شفعاً: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)

" شفعاً " أي لا يثلث.

وهكذا ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يقول في تكبيره: (الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) .

ص: 93

واختار الشافعية أنه يثلث، فيقول:(الله أكبر الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) لثبوت ذلك عن ابن عباس كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح.

وكلا الصفتين ثابتتان عن هذين الصحابيين فأي منهما فعل فهو حسن.

قالوا: وتجوز التهنئة يوم العيد، وقد ثبت ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الإمام أحمد وذكره ابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي عن أبي أمامة وغيره من الصحابة أنهم كانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض:(تقبل الله منا ومنك)، قال الإمام أحمد: وإسناده جيد.

وإن هنأ بما يتعارف عليه الناس من الألفاظ فلا بأس، فإن هذه من مسائل العادات ولا حرج في مثل ذلك.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى باب العيدين

باب صلاة الكسوف

صلاة الكسوف من الصلوات المشروعة بإجماع أهل العلم.

والكسوف والخسوف: يطلقان على الشمس والقمر إذا ذهب نورهما واسود، فيقال في الشمس أو القمر: انكسفت أو انخسفت، فإذا ذهب ضوؤهما أو شيء منه يقال ذلك، وإن كان الغالب أن يطلق الكسوف على الشمس، والخسوف على القمر، ولكن مع ذلك فإن الخسوف يطلق على الشمس كما صحت بذلك الأدلة كما ثبت في قول عائشة: (انخسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال المؤلف رحمه الله: (تسن)

أي يسن صلاة الكسوف، وهذا مذهب جماهير أهل العلم حتى حكاه النووي وابن الوزير إجماعاً – أي أنها سنة مؤكدة -.

- وذهب طائفة من العلماء إلى وجوبها، وقد صرح به أبو عوانة صاحب المستخرج على صحيح مسلم فقال:(باب: وجوب صلاة الكسوف) ومال إليه الشوكاني والصنعاني.

ص: 94

قال الشوكاني: " والظاهر الوجوب إلا أن يصح الإجماع وإلا فلا صارف) أي ما ورد من الأوامر من النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بإقامة الصلاة يوم تكسف الشمس أو القمر أوامر ظاهرها الوجوب لا صارف لها إلا أن يصح الإجماع المذكور، ومعلوم ما في حكاية الإجماع من التعسر.

فعلى ذلك القول بوجوبها قول قوي، فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – من حديث المغيرة قال:(انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس: انكسفت الشمس بموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف)، وفي رواية للبخاري:(حتى يتجلى) .

فظاهر الأمر هو الوجوب فيتوجه ويقوي القول بوجوب ذلك إلا أن يثبت الإجماع، وفي إثباته – كما تقدم - عسر، فإن عامة ما مع من يذكر الإجماع عدم معرفة الخلاف بين العلماء، ومعلوم أن التفريق بالتلفظ بالسنية والإيجاب قليل عند السلف الصالح، فإنهم يقولون بالسنية ويريدون بذلك – كما هو مشهور من أقوالهم – الإيجاب.

وأما التفريق فهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين، والمقصود من ذلك أن حكاية الإجماع المتقدم فيها شيء من الصعوبة، فالقول بالإيجاب قول قوي وهو الذي يقتضيه المعنى، فإن هذه حال شديدة حيث كسفت الشمس أو خسف القمر وهما ما هما من نعم الله اللذان يقوم بهما مصالح العباد في حياتهم الدنيوية، فلا شك أن عليهم أن يلجؤوا إلى الله بالدعاء والصلاة وغير ذلك لرفع ما فيهم، وقد يكون ذلك من باب العقوبة فناسب أن يقبلوا إلى الله ويلجؤوا إليه ويسألوه كشف ورفع ما هم فيه مما قد يكون عقوبة من الله عز وجل.

قال: (جماعة وفرادى)

يسن صلاة الكسوف للمنفرد في بيته، وللجماعة في المسجد.

ص: 95

أما كونها تشرع جماعة في المسجد فهذا ظاهر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت:(انكسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد وصف الناس وراءه) وفيه أن صلاة الكسوف تشرع في المساجد لا في المصليات.

وأما إقامتها فرادى فلإطلاقات الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (فادعوا الله وصلوا)، وقوله:(وصلوا) لفظ مطلق يشمل الأمر بالصلاة على هيئة الجماعة أو على هيئة الانفراد.

قالوا: لكن الأفضل أن يصلي جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

والأظهر على القول بوجوب صلاة الكسوف أن يقال بوجوب صلاتها جماعة وإن صحت فرادى، لأنها من الواجبات فأشبهت صلاة الفريضة، فكما أن الفريضة يجب أن تقام في الجماعة فكذلك صلاة الكسوف يجب أن تقام في الجماعة.

كما أنه يشرع حضور النساء لها، فقد ثبت حضور عائشة وأسماء بنت أبي بكر، لها كما ثبت في الصحيحين، فقد صليتا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (إذا كسف أحد النيرين)

الشمس أو القمر.

فإن قيل: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى في كسوف الشمس فما هو الدليل الدال على صلاتها عند خسوف القمر؟

فالجواب: أنه قد ثبت في نص قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا) أي رأيتم إنكسافهما.

قال: (ركعتين)

لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات " أي ركوعات " في ركعتين وأربع سجدات) .

فصلاة الكسوف ركعتان بأربع ركوعات وأربع سجودات.

قال: (يقرأ في الأولى جهراً) .

لحديث عائشة المتقدم وفيه: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاة الكسوف) فهذا يدل على أن المستحب هو الجهر.

ص: 96

فإن قيل: فما الجواب عن قول ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال – رضي الله عنه: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر لصرح رضي الله عنه بقراءته ولما قال: (نحواً من قراءة سورة البقرة) ؟

فالجواب على ذلك: أن قول ابن عباس لا يعارض بحديث عائشة، فإن غاية قوله هو نفي الجهر وأن كان ليس صريحاً في ذلك فغايته عدم سماعه لجهر النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة قد أثبتت جهره، والمثبت مقدم على النافي ويحتمل أن ابن عباس لبعده عن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك. ومعلوم أنه لم يكن من كبار الصحابة بل قد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقد ناهز الاحتلام، فلعل هذه الصلاة في سنه العاشرة أو الحادية عشر فربما كان في أواخر الناس فلم يكن يتبين قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما عائشة فقد صرحت بإثبات الجهر.

فعلى ذلك يستحب الجهر سواء كانت الصلاة لكسوف الشمس أو لخسوف القمر فإن الحديث المتقدم حديث عائشة في صلاة كسوف الشمس وهي في النهار فإذا كان ذلك في النهار الذي الأصل فيه أن تكون القراءة سرية فأولى من ذلك صلاة كسوف القمر الذي يكون ليلاً.

قال: (يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورة طويلة)

كما تقدم عن ابن عباس نحواً من سورة البقرة، وهذا على الاستحباب.

قال: (ثم يركع ركوعاً طويلاً ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى، ثم يركع فيطيل وهو دون الأول، ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد ويسلِّم)

ص: 97

دل على هذه الصفة ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " ثم رفع ثم سجد " ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم ركع - هنا حذف أي ثم قام قياماً فإنه لابد بعد الركوع من قيام ليثبت الركوع الثاني فإنه لا يمكن أن يكون الركوع الثاني إلا بعد قيام - ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) .

وقد ذكر المؤلف هنا: أنه يسمع ويحمد بعد رفعه من كل ركوع وهو ثابت في حديث عائشة في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعد ركوعه الأول والثاني من كل ركعة قال: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) .

وذكر المؤلف – هنا – أن سجوده سجود طويل وهذا وإن لم يثبت في حديث ابن عباس فهو ثابت في حديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (ثم سجد سجوداً طويلاً) .

وثبت في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: (ثم سجد فلم يكد يرفع)(1) ، وهذا هو الذي تقتضيه سنته صلى الله عليه وسلم – من كون قيامه فركوعه فرفعه من الركوع فسجوده فجلوسه بين السجدتين فانصرافه قريباً من السواء – كما في الصحيحين من حديث البراء، فناسب أن يكون سجوده طويلاً كطول قيامه أي بالمناسبة، فليس المقصود أنه يكون كقيامه بالقدر، لكن المراد بالمناسبة: فكما أنه أطال القيام على خلاف العادة فإنه يطيل السجود على خلاف العادة، لكن يكون ذلك بالتناسب والاعتدال.

(1) سنن أبي داود [1 / 704]

ص: 98

إذن: يطيل السجود أيضاً السجدتين الأولى والثانية إلا أن سجدته الثانية تكون أخف من السجدة الأولى، وسجدتاه في الركعة الثانية تكون أخف من سجدتيه في الركعة الأولى.

فهذه صفة صلاة الكسوف الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك صفات أخر وردت في السنة سيأتي الكلام عليها في الدرس القادم.

قال: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة) .

لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فادع الله وصلوا حتى تنكشف) فظاهره أن الانكشاف غاية لهذه الصلاة وأن المستحب له إذا انكشفت أو تجلت أن يخفف الصلاة فيتمها خفيفة.

فإن انصرف من صلاته ولم يتجلى الشمس أو القمر بعد فيستحب له أن يكثر من الدعاء والذكر والصدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي موسى الأشعري:(فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره) وتقدم في الحديث المتفق عليه: (فادعوا الله وصلوا)، وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم:(أمر بالصلاة والصدقة)، وفي أبي داود وذكره البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بالعتاق) أي أن تعتق الرقاب.

فإذن: إذا انتهوا من الصلاة ولم تتجلى الشمس بعد أو لم يزل الخسوف فإنهم ينشغلون بالدعاء والذكر وقراءة القرآن وغير ذلك مما تقدم من الصدقة وعتق الرقاب مما هو سبب لإطفاء غضب الرب وإزالة ما وقع من الكسوف أو الخسوف.

* وهل له أن يشتغل بالصلاة أم لا؟

قولان لأهل العلم:

1 -

فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم: أن صلاة الكسوف لا تعاد فإذا انصرفوا ولم تتجلى الشمس فليس لهم أن يعيدوها.

2-

قال بعض الحنابلة: بل لهم ذلك.

وهذا فيما يظهر لي – قوي – فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة فيشمل أن يصلي هاتين الركعتين أو غيرها من الركعات فقد أمر بالصلاة حتى يتجلى.

ص: 99

وقد انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلته المتقدمة وقد انجلت الشمس فلا يصح أن يكون هذا دليلاً على منع الاستمرار بالصلاة والإكثار منها.

وهنا قد أمر في هذا الحديث بالصلاة والدعاء حتى تتجلى أو تنكشف.

والأظهر أنه لا مانع من أن يصلي وإن شاء أن يدعو ويذكر الله ويشتغل بالصدقة ونحو ذلك فهذا أيضاً حسن.

وهل يقضي صلاة الكسوف؟

قال أهل العلم: لا يقضي، ذلك لأنها عبادة قد فات محلها، فمحلها ما دامت الشمس خاسفة أو القمر، فإذا زال هذا الخسوف فإن محلها قد فات فلا تشرع كصلاة الاستسقاء وكتحية المسجد وغيرها من العبادات التي تشرع على حال فإذا ذهبت هذه الحال لم تشرع هذه الصلاة.

* وينادي لها بـ " الصلاة جامعة "؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة) ولا يشرع لها أذان ولا إقامة.

مسألة:

بماذا تدرك الركعة الأولى من صلاة الكسوف، بالركوع الأول أما بالركوع الثاني؟

الظاهر أنها تدرك بالركوع الثاني، لأنه هو الركوع الأصلي، فإن الركوع الأصلي في الصلاة ما يَعْقبه الرفع الذي فيه التحميد الذي يتبعه السجود.

بخلاف الركوع الأول فهو طارئ فهو مسبوق بقراءة وملحوق بقراءة، فهو ركوع طارئ في هذه الصلاة فإذا أدرك الركوع الثاني فإنه يدرك بذلك الركعة.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف

لم يصل)

إذا غابت الشمس وهي كاسفة، أو طلعت الشمس والقمر خاسف فإنه لا يصلي الكسوف.

ومثل ذلك: لو شرعوا في الصلاة وقد خسف القمر وطلعت الشمس أو كسفت الشمس وغابت فمثل ذلك فيكون في حكم الانجلاء فحينئذ يتموها خفيفة.

ص: 100

وذلك لأن وقت الانتفاع بهما – أي بالشمس والقمر – هو الليل للقمر والنهار للشمس، فإذا خرج النهار تصاب الشمس ومثل ذلك طلوع الشمس قليل فإنه حينئذ يذهب وقت الانتفاع بهما – هكذا علل الفقهاء –.

ويستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يتجلى) وقوله: (حتى تنكشف) وغياب الشمس وكذلك القمر هو في حكم الانجلاء لأنه لا يمكن أن يكون الانجلاء غاية وقد غابت الشمس فحينئذ لا يكون للصلاة مدى أو نهاية إلا نهاية طويلة قد لا تتضح إلا بعد ساعات طويلة وهذا متعذر لا يعلق الشرع بمثله.

قالوا - والقول هنا لفقهاء الحنابلة ومن وافقهم -: وكذلك إذا طلع الفجر والقمر خاسف فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف، وإن كانوا قد شرعوا فيها فإنهم يتمونها خفيفة.

قالوا: لأن طلوع الفجر ينهى فيه عن الصلاة النافلة فهو وقت نهي – كما هو المشهور في المذهب –.

وعند جمهور العلماء: وقت النهي يبدأ من بعد الصلاة، والراجح كما تقدم أنه يدخل بطلوع الفجر.

ولكن مع ذلك فإن الصحيح ما ذهب إليه الشافعية، فقد قالوا: إن الصلوات ذات الأسباب تصلي في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم هنا: (فإذا رأيتموهما فادع الله وصلوا) وتقدم البحث هناك في حكم الصلاة في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف فإنها من ذوات الأسباب فتصلي في أوقات النهي.

إذن الحنابلة ومثل ذلك من ذهب إلى مذهبهم: أن صلاة الكسوف لا تصلى في وقت النهي، قالوا: فإذا طلع الفجر – وهذا القول للحنابلة – أو صليت الفجر – وهو قول الجمهور – فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف؛ لأن الوقت وقت نهي وإن كان الانتفاع موجود، فإن الانتفاع يبقى بالفجر وإن طلع الفجر فإنه يضيء في ذلك الوقت، لكن الأمر لمتعلق آخر وهو وقت النهي.

ص: 101

إذن المشهور عند الحنابلة أن صلاة الكسوف لا تصلى في أوقات النهي وحينئذ فيدعون الله ويذكرونه ويتصدقون ويكبرون فلا يصلون وإنما يشتغلون بالذكر والدعاء والصدقة والعتق ونحو ذلك من الأعمال التي تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها ومشروعيتها في يوم كسوف الشمس أو ليلة خسوف القمر، والراجح ما تقدم.

قال: (أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل)

إذا كانت هناك آية من الآيات العظام كنزول صواعق أو كثرة خسف أو سقوط شيء من الكواكب على هيئة ظاهرة مخوفة فهل يشرع لهم أن يصلوا؟

قالوا: لا يشرع لهم أن يصلوا باستثناء الزلزلة، لثبوت الأثر عن ابن عباس فيها، فقد صح في البيهقي عنه:(أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات، صح عنه ذلك في البيهقي بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ " صلى بهم " أي صلى بهم جماعة وذلك في البصرة، وقد صلى ركعتين وقال:(هكذا صلاة الآيات) .

وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يشرع مطلقاً لا في الزلزلة ولا في غيرها؛ قالوا: لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين أن صلوا في آية من الآيات لا في زلزلة ولا في غيرها.

وقال الأحناف: بل يصلي في كل آية، فكل آية من الآيات التي تشابه كسوف الشمس أو خسوف القمر، ومثل ذلك نزول الصواعق والزلازل ونحو ذلك من الآيات العظام التي يخوف الله بها عباده، قالوا: فإنه يصلي.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده) .

قالوا: ومثل ذلك في الزلزلة ونحوها من الآيات فإن فيها تخويفاً من الله عز وجل، والأصل أن يتعدى الحكم، فما دام المعنى الموجود في خسوف الشمس والقمر موجوداً في الزلزلة والصواعق ونحوها من الآيات العظام المخوفة فإن الحكم يثبت – وهذا قياس ظاهر –.

ص: 102

قالوا: ولأن ابن عباس قال: (هكذا صلاة الآيات) وهذا عام، فكما أن الحنابلة استدلوا به على الزلزلة فينبغي أن يستدلوا به على عموم الآيات. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ظاهر.

ثم إنا لا نقطع بحدوث آيات عظام كالزلازل ونحوها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين فلم يبلغنا وقوع مثل هذه الآيات العظام، وثبت لنا هذا القول من ابن عباس ومن صلاته ولم يعلم له مخالف.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخوف الله بهما عباده) ، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن هذه الصلاة المتقدم ذكرها لا تختص بخسوف القمر أو الشمس وإنما يتعدى ذلك إلى سائر الآيات كالزلازل والصواعق ونحوها من الآيات العظام التي فيها تخويف من الله لعباده، والله أعلم.

وإن صلاها كما ذكر ابن عباس، أو كصفة صلاة الكسوف فلا بأس.

قال: (وإن أتى في [كل] ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز)

تقدم حديث ابن عباس المتفق عليه وحديث عائشة وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان، وهنا قال المؤلف " أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز " له ذلك.

ومثل ذلك لو صلاها على هيئة التطوع فصلاها ركعتين كل ركعة فيها ركوع واحد.

واستدلوا بأحاديث وردت بهذه الصفات.

فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم – من حديث جابر -: (صلى في الخسوف ست ركعات في أربع سجدات) أي في كل ركعة ثلاث ركوعات.

وفي مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ثماني ركعات في أربع سجدات) .

وفي أبي داود من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عشر ركعات في أربع سجدات

وفي أبي داود من حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاها ركعتين كهيئة التطوع) .

ص: 103

قالوا: فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك وأنه يجوز له أن يصلي على خلاف الصفة المتقدمة، بل له أن يصلي في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس أو يكتفي بركوع واحد.

- وذهب إسحاق بن راهويه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه واستحسنه ابن المنذر وغيره من أهل العلم، قالوا: بل المشروع له أن يصلي في كل ركعة ركوعين ولم يصححوا الأحاديث التي تقدم ذكرها، ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف في عصره إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم فصلى بالناس ركعتين وفي كل ركعة ركوعان، وهذا القول هو القول الراجح.

أما ما ذكروه من الأحاديث فإنها أحاديث ضعيفة.

أما ما رواه مسلم من حديث ابن عباس وجابر، فإن أحاديث مسلم لا شك أن أهل العلم قد اتفقوا على تصحيحها، لكن يستثنى من ذلك اليسير الذي خالفه فيها الأئمة الكبار كأحمد والبخاري وغيرهم، وحذاق أهل العلم ممن كان لهم بصيرة في هذا العلم، فكان لهم مخالفة في أحاديث من أحاديث مسلم، وفي أحاديث أقل منها في صحيح البخاري، والواجب على طالب العلم أن يصحح كل ما ثبت في صحيح مسلم إلا تلك الأحاديث التي انتقدها الأئمة النقاد أو بعضهم، فله مجال بتصحيحها أو القول بتضعيفها فلا تكون من الأحاديث التي تلقت بالقبول واتفق الحفاظ على تصحيحها، ومن ذلك هذان الحديثان " حديث ابن عباس وحديث جابر "

فقد قال شيخ الإسلام: " وأما حذاق الأئمة فقد رأوا أنه غلط " يعني رواية ابن عباس ورواية جابر " ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة يوم مات إبراهيم.

وقال ابن القيم: " وكبار الأئمة لا يصححونه " يعني بذلك حديث ابن عباس ومثله في الحكم حديث جابر.

ص: 104

وحديث ابن عباس من رواية: حبيب بن أبي ثابت عن طاووس عن ابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت مدلس، لكن تدليسه في صحيح مسلم محمول على السماع عند الأئمة إلا مثل هذا الحديث الذي قد اختلف فيه فإنه يصح أن يعلل بهذا التدليس بخلاف غيره من الأحاديث التي لم ينتقدها الحفاظ فإنها محمولة على السماع.

وأما حديث جابر فهو من رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء عن جابر، وعبد الملك بن سليمان وإن كانت أحاديثه كلها صحيحة في مسلم لكن في حفظه شيء من الضعف وإذا خولف تبين أنه قد أخطأ في هذا الحديث، وهنا كذلك فقد روى هذا الحديث هشام الدستوائى عن أبي الزبير عن جابر بلفظ:(أربع ركعات في ركعتين) ورواية هشام هي الموافقة للأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث ابن عباس المتفق عليه المتقدم وغيره كحديث عائشة.

وحديث ابن عباس المتقدم، المحفوظ أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما صلى أربع ركعات) كما في الحديث المتفق عليه.

بل قد ورد هذا من أكثر من طريق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى أربع ركعات في ركعتين) .

فعلى ذلك هذان الحديثان في مسلم معللان عند أهل العلم، والصواب مع من عللهما.

أما حديث أبي بن كعب في أبي داود: فإن فيه أبا جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث.

وأما حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو في سنن أبي داود التي فيها أنه كان يصلي الخسوف كهيئة التطوع.

فحديث النعمان بن بشير مضطرب سنداً ومتناً، وحديث عبد الرحمن بن سمره فيه جهالة، وحديث عبد الله بن عمرو إسناده صحيح لكنه مخالف للمحفوظ عن ابن عمرو رضي الله عنه، فإن الثابت عنه من غير ما طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل إلا أربع ركعات.

فعلى ذلك يترجح لنا القول الثاني من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه في صلاة الكسوف إلا صلاة أربع ركوعات في ركعتين.

ص: 105

مسألة: هل يشرع بعد صلاة الكسوف الخطبة؟

لم يذكرها المؤلف هنا، وذلك لأن المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور: أن الخطبة لا تشرع.

وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه كالقاضي وابن حامد وغيرهما: أن الخطبة مشروعة وأنه يشرع له أن يخطب فيها خطبتين كالجمعة.

والقول الثالث، وهو قول لبعض الحنابلة: أنه يشرع له أن يخطب لكن خطبة واحدة.

والقول الأخير هو أصحها، وذلك لصحة الأحاديث الواردة أولاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقد تقدم حديث ابن عباس وفيه:(ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) متفق عليه، وفي الصحيحين عن عائشة قالت:(وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم من ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) .

وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث أسماء وفيه: (أما بعد فإني قد رأيت في مقامي هذا ما لم أكن قد رأيته، حتى الجنة والنار، وأنه قد أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال، يؤتى الرجل فيقال له: ما علمك بهذا الرجل، فأما المؤمن أو الموقن (1) - والشك من الراوي عن أسماء – فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له: نم صالحاً قد علمنا أن كنت لموقناً، وأما المنافق أو المرتاب – والشك من الراوي – فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) ، فهذا الحديث شيء من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف.

(1) صحيح البخاري، كتاب الكسوف: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. الفتح لابن حجر [2 / 631] .

ص: 106

فإذن هذه حجة ظاهرة في أنه قد خطب عليه الصلاة والسلام.

وأجاب عنه الحنابلة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خطب ليعلمهم حكم صلاة الكسوف ونحو ذلك.

لكن هذا الجواب ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب في عيد الأضحى في الأضاحي ولم يقل بعدم مشروعيتها لكلامه في الأضاحي، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكّر الناس ووعظهم – كما تقدم في الخطب السابقة عنه، ثم إن الحاجة إلى بيان حكمها يحتاج إليها مطلقاً من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.

فإذن الصحيح هو مشروعيتها، لكن الأحاديث المتقدمة لا تدل على ما ذهب إليه الشافعية من أنه يشرع لها خطبتان وإنما ظاهرها أنها خطبة واحدة، وهذا ما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو القول الراجح. وهذه الخطبة ليست شرطاً في صحة الصلاة، كما أن حضورها سنة كما تقدم في الكلام على خطبة العيد؛ وذلك لأن ليس فيها إلا مجرد فعله – عليه الصلاة والسلام – ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب.

مسألة: إذا اجتمع صلاة كسوف وشيء آخر كصلاة عيد أو مكتوبة أو نحو ذلك؟

إذا خشي فوات إحداهما فإنها تقدم على ما لم يخش فواته.

مثلاً: إذا لم يعلم بثبوت العيد إلا في الضحى الكبير وخشي إن اشتغلوا بصلاة الكسوف أن تفوتهم صلاة العيد وظنوا تأخر الكسوف، فحينئذ يشتغلون بصلاة العيد لخشية فواتها.

مثال آخر: إن كسفت الشمس وحضرت صلاة مكتوبة فخشوا إن اشتغلوا بالصلاة المكتوبة أن يفوت الكسوف مع أن وقت هذه الصلاة موسع، فحينئذ: يشتغلون بصلاة الكسوف.

أما إذا خشي فوات الجميع فإنهم يقدمون أوجبهما، وإن لم نقل بوجوب صلاة الكسوف فإنه يقال: يقدم أوكدهما.

والحمد لله رب العالمين

ا

انتهى باب صلاة الكسوف

باب: صلاة الاستسقاء

الاستسقاء هو طلب السقي أي بنزول المطر ونحوه.

فصلاة الاستسقاء هي الصلاة المشروعة لطلب السقي من الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها)

ص: 107

" قحط المطر " أي احتبس، والجدب هو ضد الخصب.

فالجدب هو أن تمحل الأرض فلا تنبت، أو تنبت الشيء اليسير الذي لا تقوم به حاجة العباد.

وقحط المطر هو احتباسه.

ومثل ذلك: إن غاض شيء من الأنهار أو شيء من العيون أو نحوها التي تقوم بحاجة الناس من الماء الذي به حياتهم.

" صلوها " أي صلوا صلاة الاستسقاء.

ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى فتوجه إلى القبلة يدعو ثم حول رداءه وصلى ركعتين) ولذلك غيره من الأحاديث.

قال: (صلوها جماعة وفرادى)

أي لهم أن يصلوها فرادى في البيوت، ولهم أن يصلوها جماعة، والأفضل عند جمهور العلماء أن يصلوها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما صلاها جماعة.

إذن: المستحب والمشروع له أن يصليها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صلوا فرادى فلا بأس.

قال: (وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد)

أي صفة صلاة الاستسقاء أي هيئتها وكيفيتها، وموضعها الذي تصلي فيه، كصلاة العيد.

ص: 108

أما موضعها فهو المصلى، فالمستحب أن تصلى صلاة الاستسقاء في المصلى، ويدل على ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد جيد عن عائشة قالت: (شكي الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه مخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر رسول الله وحمد الله ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم وإن الله أمركم أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم،ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم حول إلى الناس وجهه ونزل فصلى ركعتين، فأنشاء الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت) .

وأما كون هيئتها كهيئة صلاة العيد أي بالتكبير سبعاً في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وخمساً في الثانية دون تكبيرة الانتقال، وأن يجهر فيها بالقراءة وأن يقرأ بسبح والغاشية ونحوها مما ورد في صلاة العيد، فيدل عليه: ما ثبت عند الخمسة ورواه الترمذي وصححه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحديث حسن عن ابن عباس قال:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه)

والشاهد قوله: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) أي كهيئة صلاة العيد من التكبير والجهر في القراءة وغيرها. وأما الجهر بالقراءة فقد ثبت في حديث عبد الله زيد بن عاصم – المتقدم – فقد قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي ..... وتمامه " فصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) .

ص: 109

فإذن تصلى صلاة الاستسقاء كما تصلى صلاة العيد، بالتكبيرات السبع مع تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وبالتكبيرات الخمس في الركعة الثانية دون تكبيرة الانتقال، وبما ورد عن ابن مسعود مما يقال بين التكبيرات ويجهر فيهما بالقراءة ويقرأ بما ورد في صلاة العيد.

قال: (وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم)

وذلك لأن المعاصي والمظالم سبب للقحط وزوال النعم، ويدفع هذا النقم بضد سببها وهو فعل الطاعات وتقوى الله عز وجل لذا قال تعالى:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} .

فإذن يحثهم الإمام على تقوى الله وعلى الخروج من المظالم وعلى الاشتغال بطاعة الله فإن هذا هو السبب الأعظم في دفع ما هم فيه مما هو مظنة العقوبة.

قال: (وترك التشاحن) .

فإن التشاحن له أثر في ذلك، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من الثلاثة الذين لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً – كما ورد في ابن ماجه وغيره:(أخوان مُتصارمان)(1) فالدعاء والصلاة لا يرتفعان مع التشاحن فكان على الإمام أن يحثهم على ترك التشاحن فإنه سبب عظيم لوقوع النقم.

وقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) رفعة هذه النعمة من الإخبار بليلة القدر رفعت بسبب شيء من التلاحي الذي وقع بين بعض المسلمين.

قال: (ويأمرهم بالصيام والصدقة)

والصيام سبب لإجابة الدعوة، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعوت الصائم أنها لا ترد.

(1) ضعيف الجامع ص383.

ص: 110

والصدقة أيضاً سبب لإطفاء غضب الرب، فالصدقة تطفئ غضب الرب كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما ثبت في ابن ماجه:(وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) فدل على أن الصدقة تركها سبب لمنع القطر، فكان المستحب له أن يحثهم على الصيام والصدقة.

قال: (ويعدهم يوماً يخرجون فيه)

ليتهيئوا لهذا اليوم وقد تقدم قول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ووعد الناس يوماً يخرجون فيه) ولم أر دليلاً يدل على تحديد يوم من الأيام وأنه يستحب أن يكون ذلك في يوم اثنين أو خميس أو نحو ذلك، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ليوم من الأيام في تحديد الاستسقاء.

قال: (ويتنظف)

أي الإمام والمصلي.

يتنظف بإزالة الأوساخ وبالغسل، أما إزالة الأوساخ فهو ظاهر لما في ذلك من الأذى.

وأما كونه يستحب له أن يغتسل فلا دليل عليه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أصحابه كما بين ذلك ابن قيم الجوزية.

فاستحباب الحنابلة للاغتسال له لا دليل عليه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتقدم -: (متواضعاً متبذلاً " أي غير متزين في الهيئة " متخشعاً " أي مظهراً للخشوع " مترسلاً " أي على رسله في مشيه عليه السلام، ففيه استحباب ترك الزينة والغسل فيها، ألا أن يكون الأذى لا يزول إلا باغتسال فإنه ولا شك يستحب الاغتسال لإزالة الأذى الذي يؤذي المؤمنين عند اجتماعهم.

قال: (ولا يتطيب)

اتفاقاً، لقوله:(متبذلاً) فلا يستحب التطيب بل يخرج غير متزين ولا متطيب.

قال: (ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً)

كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام.

قال: (ومعه أهل الدين والصلاح)

ص: 111

فإن المؤمنين يتوسلون إلى الله بدعائهم، فقد ثبت في البخاري عن عمر أنه قال:(اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا) ، فيستحب للإمام أن يدعو أهل الصلاح والخير والمشهورين بالتقوى والعبادة والعلم ونحو ذلك - يدعوهم - لحضورها فإنا نتوسل إلى الله بدعائهم وتأمينهم لإنزال القطر.

قال: (والشيوخ والصبيان المميزون)

فإنه إنما يطلق الصبي على المميز، ويخرج من ذلك الطفل فإنه ليس محلاً للعبادة، بخلاف الصبي المميز فإنه محل للعبادة فقد قال صلى الله عليه وسلم:(مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فيدعى الشيوخ من أهل السن، ويدعى الصبيان المميزون الذين تصح عبادتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري:(هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) .

قال: (وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا)

إذن: لا يستحب أن تدعى إليها أهل الذمة، فهم أعداء الله وأعداء دينه وهم قد كفروا بنعمة الله عز وجل، فقمن ألا يستجاب لهم في دعوتهم مع المؤمنين، بل يخشى أن يقع ضد ذلك، فلم يكن مستحباً دعوتهم إلى حضور استسقاء المؤمنين، لكن إن خرجوا منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا.

إذن: يخرجون لكن يخرجون منفردين أي هم بجهة والمؤمنون بجهة أخرى، وعللوا ذلك: بأنهم قد تقع العقوبة عليهم من الله كما وقعت على من قبلهم فيما وقع على قوم عاد في استسقائهم فذكر الله أنهم رأوا سحابة فظنوها مطراً فإذا فيها عذاب الله عز وجل: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} ، وقد قال تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} .

إذن: استحب الفقهاء أن يكون خروج أهل الذمة من اليهود والنصارى إن خرجوا أن يكون خروجهم على هيئة الانفراد عن المؤمنين.

ص: 112

وعللوا ذلك: بأنهم مظنة العقوبة من الله عز وجل فيخشى أن تقع العقوبة عليهم وعلى المسلمين عامة كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وكما قص الله علينا في قوم عاد ما قص من نزول العذاب عليهم وقد حسبوه سحاباً ينزل عليهم به المطر.

وألا يكون ذلك بيوم يختصون به، بل يكون خروجهم بنفس اليوم الذي يخرج به المؤمنون، فيكون اليوم واحداً للجميع.

قالوا: لئلا يوافق ذلك اليوم نزول مطر فتقع الفتنة عليهم وعلى بعض الأغرار من المؤمنين فيقولون مطرنا بسببهم.

فإذن: لا يمنع أهل الذمة من الخروج إن خرجوا، ولا يدعون له، لكن إن خرجوا فيكون خروجهم – أولاً – على هيئة الانفراد عن المؤمنين، وألا يختصوا بيوم خاص بهم بل يكون هو اليوم الذي خرج به المسلمون.

مسألة: وقت صلاة الاستسقاء ابتداءً كوقت صلاة العيد لذا قالت عائشة: (فخرج حين بدا حاجب الشمس) فوقتها وقت صلاة العيد في الأفضلية ولا تصلى في وقت النهي للسعة، فإن وقتها متسع بخلاف صلاة الكسوف، فيصلى في وقت صلاة العيد وهذا على الأفضلية عند جمهور أهل العلم.

لكن لو صلاها في وقت آخر كبعد الزوال لم يمنع من ذلك، وهذا عند جمهور أهل العلم.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد)

هنا مسألتان:

المسألة الأولى: أن خطبة الاستسقاء بعد الصلاة، فيصلي ثم يخطب.

المسألة الثانية: أنها خطبة واحدة.

أما المسألة الأولى: فهذا هو مذهب الجمهور وهو المشهور في المذهب من أن الخطبة تكون بعد الصلاة.

واستدلوا: بما رواه البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: (استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا) ، وبالقياس على صلاة العيد، فإنها أشبهتها بالصفة فالقياس يقتضي أن تكون الصلاة قبل الخطبة.

ص: 113

- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهي سوى الرواية المشهورة عنه المتقدمة، وهو مذهب الليث بن سعد وابن المنذر: أن الخطبة قبل الصلاة، فيخطب ثم يصلي.

واستدلوا: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين) ، فكانت خطبته وهي الدعاء قبل صلاته.

وبحديث أبي داود المتقدم من حديث عائشة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم:(لما أتى المصلى قعد على المنبر فخطب الناس) الحديث. وتقدم: وفيه (ثم نزل فصلى ركعتين) .

قالوا: فهذان حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت الحديث فإنه لا يصح القياس بل القياس مع النص فاسد، وأما حديث أبي هريرة فإن فيه النعمان بن راشد وهو ضعيف فعلى ذلك الحديث ضعيف.

فعليه: الصحيح أن الخطبة قبل الصلاة كما هو رواية عن الإمام أحمد.

أما المسألة الثانية: فهي أن الخطبة إنما تكون واحدة – وهذا خلافاً لمذهب مالك والشافعي وأن المشروع أن تكون خطبتين إذ لا دليل على ما ذهبوا إليه – فإن الأحاديث التي تقدم ذكرها التي فيها خطبته، ليس فيها أنه خطب خطبتين. وقياسهم على الجمعة أو على العيد قياس مع ثبوت الحديث المخالف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتفت إلى هذا القياس مع ثبوت ما هو ظاهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما خطب خطبة واحدة – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المشروع أن تكون خطبة واحدة.

قال: (يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد) .

فيفتتحها بالتكبير تسعاً، كخطبة العيد.

وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن رجب من الحنابلة: أن التكبير لا يشرع أن يفتتح به في خطبة الاستسقاء بل تفتح بالحمد كسائر خطبه صلى الله عليه وسلم.

ص: 114

والصحيح ما ذهب إليه أهل القول، وأنها تسن أن تفتح بالحمد وبالتكبير. لحديث عائشة المتقدم قالت:(فكبر رسول الله وحمد الله) ، لكن ليس فيه أن التكبير تسع بل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مفتتحاً خطبته، فالمستحب له هو التكبير والحمد من غير أن يحدد ذلك بعدد معين بل يقال بمطلق التكبير.

قال: (ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به)

فيكثر فيها الاستغفار، ويكثر قراءة الآيات التي فيها ذكر الاستغفار كقوله تعالى:{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} ونحوها من الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار، وقد ثبت في الصحيحين: أن عبد الله بن يزيد – وكان من صغار الصحابة وكان والياً على الكوفة – (خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم – وهما صحابيين فقام بهم على الأرض على غير منبر فاستغفر الله ثم صلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة) فقوله: " استغفر " وهو صحابي ويقر من صحابيين من الصحابة يدل على مشروعية الاستغفار في الخطبة.

قال: (ويرفع يديه في خطبته)

وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال:(لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه)، وقد تقدم حديث عائشة في أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه) .

فإذن: يستحب له أن يرفع يديه في خطبة الاستسقاء، وليس هذا مختصاً بالإمام بل للإمام وغيره من المصلين، ففي صحيح البخاري من حديث أنس:(فرفع النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم) .

قال: (ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم

استحباباً، فيستحب أن يدعو في خطبته بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ومنه اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ....الخ)

ص: 115

فقد ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتته بواكي " أي يسألنه أن يتوسل إلى الله عز وجل وأن يستسقى الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً " أي تزول به الشدة " مريئاً " هو السهل النافع للباطن " مريعاً " المريع هو المخصب الذي يخصب الأرض فتنتفع به الأرض، وضبطت " مُريعاً " من الربيع " نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل) .

وثبت عنه كما روى ذلك أبو عوانة في صحيحه – فيما ذكره الحافظ في البلوغ – من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقال: (اللهم جللنا " أي عممنا " سحاباً كثيفاً قصيفاً " القصيف هو ذو الرعد " دلوقاً " أي متدفقاً بشدة " ضحوكاً " أي كثير المطر " تمطرنا منه رُذاذاً " الرذاذ هو دون الطش " قِطْقِطاً " وهو ما دون الرذاذ " سَحْلاً يا ذا الجلال والإكرام) .

وثبت عنه أيضاً في سنن أبي داود بإسناد حسن أنه قال – في استسقائه عليه السلام: (اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت) رواه أبو داود بإسناد جيد.

فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً، ويزيد ما شاء من الدعاء المباح المناسب للمقام من طلب السقيا من الله عز وجل.

* واعلم أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في الاستسقاء يدل على أنه لم يكن يخطب خطبة يعظ فيها الناس ويذكرهم وإنما كان – عليه الصلاة والسلام – يشتغل في خطبته بدعاء الله عز وجل وإخبارهم أن الله يجيب الدعوة – كما تقدم في حديث عائشة - ولم يكن – عليه الصلاة والسلام – يعظهم ولا يذكرهم ولا يعلمهم شيئاً من الأحكام، ولذا قال ابن عباس – في حديثه المتقدم -:(لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير) .

ص: 116

فإذن هي خطبة ليست كخطبة الجمعة ولا العيد ولا نحوهما مما تكون فيها المواعظ والتذكير، بل هي خطبة يشتغل بها الإمام بدعاء الله ويؤمّن الناس من خلفه.

ويستحب له أن يقلب رداءه وهو رافع يديه، فقد تقدم حديث عائشة في رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بالدعاء ودعوته العامة التي أمّن الناس عليها قالت:(ثم حول إلى الناس ظهره) - أي لما دعا الدعاء الذي رفع به الصوت – حول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وقلب رداءه وهو رافع يديه.

فيستحب للإمام والمصلين أن يقلبوا أرديتهم.

وقد ثبت هذا في الحديث المتفق عليه المتقدم من حديث عبد الله بن زيد ابن عاصم المازني وفيه: (وحول رداءه) . وصفة قلب الرداء: أن يجعل أيمن الرداء الواقع على الكتف الأيمن يجعله على الكتف الأيسر، ويجعل أيسره وهو الواقع على الكتف الأيسر في الطبيعة يجعله على الكتف الأيمن ويجعل ظاهره في موضع باطنه، وباطنه في موضع ظاهره.

يدل عليه: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح قال: (فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) .

وأما كونه جعله ظهراً لبطن، فقد ثبت هذا في مسند أحمد بإسناد صحيح وفيه:(فجعله ظهراً لبطن) .

- وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه يستحب له أن يأخذه من أسفل أي يأخذه من أسفل الرداء ويرفعه إلى الأعلى، فيكون الأعلى في موضع الأسفل والأسفل في موضع الأعلى.

واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استسقى وعليه خميصة [له] سوداء، فأراد أن [يأخذ] بأسفلها فيجعله أعلاها [فلما] ثقلت عليه قلبها على عاتقه)(1) أي حول العاتق الأيمن إلى العاتق الأيسر وهذا الحديث: إنما هو ظن من الراوي بدليل أن الصحابة قد حولوا أرديتهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولم يفعلوا ما همّ به، ففي مسند أحمد:(وحول الناس أرديتهم) .

(1) سنن أبي داود [1 / 688] .

ص: 117

فإذن: هذا مجرد ظن من الراوي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقلب الجهة السفلى فيجعلها في الجهة العليا، فظن الراوي أن ذلك ثقل عليه وإنما تحول عنه وعليه الصلاة والسلام إلى طريقة أخرى فأخذ الجهة اليمنى فوضعها في الجهة اليسرى، واليسرى وجعلها في الجهة اليمنى فكان ظهراً لبطن.

إذن هذه الصفة هي الصفة المستحبة في قلب الرداء، وإنما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فيما يظهر، والله أعلم - تفاؤلاً بتحول القحط وبتغير الأرض مما هي عليه من الجدب إلى الخصب. قال جعفر الباقر رحمه الله وهو من أتباع التابعين أو من أتباعهم قال -:(وحول النبي صلى الله عليه وسلم رداءه ليتحول القحط) رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وهو كما قال رحمه الله فهي مظنة قوية وأنه إنما فعل ذلك تفاؤلاً أن تتحول الأرض من جدبها إلى الخصب ومن انقطاع المطر فيها إلى هطوله، ولا مانع أن تكون لها حكم أخرى مما يخفى علينا.

قال: (وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيد من فعله)

قوله: " وإن سقوا " فإن لم يسقوا فإنهم يستسقون ثانية وثالثة ورابعة ويلحون على الله بالدعاء حتى يستجيب الله لهم، فيكررون الاستسقاء مرة بعد مرة وينوعون الاستسقاء ما بين دعاء مطلق ودعاء في الجمعة ونحو ذلك حتى يستجيب الله لهم.

* إن سقوا قبل خروجهم وتهيئهم – وهذه الصورة الثانية – فنزل المطر الذي تزول به الشدة قبل خروجهم وتهيئتهم، فإنه لا يشرع لهم أن يخرجوا إلى الصلاة وأدائها؛ وذلك لذهاب المقصود من خروجهم فإن المقصود هو طلب السقيا وقد حصل ذلك فزال السبب المقتضي للاستسقاء.

وأما – وهي الصورة الثالثة - إن سقوا بعد تهيئهم وقبل خروجهم، فإنه – في المشهور من المذهب – يستحب لهم أن يخرجوا فيصلوا.

ص: 118

- وقال المرفق ابن قدامة: بل لا يستحب لهم ذلك وإن تيهؤا؛ لأنه – كذلك – قد زال المقصود من هذه الصلاة ولم يخرجوا إليها، وهذا هو القول الراجح؛ فإن تهيؤهم ليس بمؤثر ما دام أن المقصود قد زال، فإن المقصود هو الاستسقاء فخروجهم إنما هو لقصد الاستسقاء فما دام أن ما قصدوه قد حصل من خروج واستسقاء فإنه لا يشرع لهم ذلك لزوال المقصود.

وأما – وهي الصورة الرابعة – إن خرجوا إلى المصلى فنزل الغيث، فهنا يستحب لهم أن يصلوا، قالوا: لخروجهم فلا ينبغي أن يعودوا من غير صلاة، فيكون ذلك شكراً لله وسؤلاً للمزيد.

قال صاحب الإنصاف: " بلا خلاف أعلمه ".

فالمسألة إن كان فيها إجماع فكما تقدم، وأما إن لم يكن فيها إجماع فالأمر واسع إن شاء الله – وفي الحقيقة – نزول الغيث أثناء الاستسقاء قد لا يتبين للمصلين هل يكون نزوله على هيئة كافية لما خرجوا من أجله، فيكون استسقاؤهم لمظنة كون المطر قليلاً غير كاف ولسؤال الله المزيد.

إذن: إن خرجوا ونزل المطر فيشرع لهم أن يصلوا طلباً لثبوت المطر، ولأنه لا يقطع أن يكون هذا المطر الذي قد خرجوا لطلبه من الله وتهيؤوا تهيؤاً تاماً حتى خرجوا إلي المصليات لا يقطع أن يكون هذا المطر كافياً أو أن يستمر على هيئة كافية لهم فحينئذ يستحب لهم الاستسقاء، قال صاحب الإنصاف:" بلا خلاف أعلمه ".

مسألة:

إذا وقع القحط في بلد فهل يستحب لغيرها من البلدان أن يستسقوا لهم؟

المشهور في المذهب: أنه لا مانع من ذلك، وقيل بالاستحباب.

وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك ولا يشرع.

ص: 119

وهذا القول – فيما يظهر لي – أظهر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استسقى هذا الاستسقاء العام الذي يخرج به الناس إلى المصليات ويستغيثون بالله عز وجل – إنما فعله حيث وقع الجدب في المدينة واحتاج الناس إلى المطر. وأما كون المسلم يعين أخاه المسلم بدعوته فإن ذلك بمطلق الدعاء فيستحب له أن يدعو له في صلاته وفي سائر أوقات الإجابة ونحو ذلك – من غير أن يكون هذا على الهيئة المشروعة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأظهرها حيث كان الجدب بالمدينة.

فينبغي أن يكون ذلك مختصاً حيث وقع الجدب بأهل البلد أنفسهم، أما إن وقع في غيرهم فإنهم يسألون الله لغيرهم سؤالاً مطلقاً من غير أن يكون مختصاً بهذه الطريقة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

مسألة: متى يعيد رداءه ويرجعه كما كان، بعد قلبه؟

الظاهر أنه يرجعه على هيئته بعد خلعه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ولم يرد أنه قد أرجعه فيبقى على هذا. لكن بعض الألبسة لا يصلح قلبها كالفراء فحينئذ يكتفي بقلب عمامته، وإنما يقلب ما كان ظاهره قريباً من باطنه، وإنما يقلب الأشياء الظاهرة أما الباطنة فلا.

وأنواع الاستسقاء:

الأول: في خطبة الجمعة كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس وغيره: (أتى رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) ثلاثاً) .

الثاني: في الصلاة كما تقدم.

الدعاء بلا صلاة، كما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتى إليه نساء بواكي فقال:(اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً) الحديث.

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وينادى لها: الصلاةُ جامعة)

ويصح " الصلاةَ جامعة "، فينادى لصلاة الاستسقاء كما ينادى لصلاة الكسوف بقول:" الصلاة جامعة " – هذا هو المشهور في المذهب.

واستدلوا: بالقياس على صلاة الكسوف.

ص: 120

وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن ذلك لا يشرع؛ ذلك لأن قياس الاستسقاء على صلاة العيد أولى، وقد ثبت عن جابر في مسلم: قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد بلا أذان ولا إقامة ولا شيء) .

ثم إن مقتضى ذلك وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح حديث عنه بأن نادى لها بقول: " الصلاة جامعة ".

فعلى ذلك: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع له أن ينادى " الصلاة جامعة " لأن هذا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضيه ذلك، ولأن قياسها على صلاة العيد أولى فإنها تشبهها بتكبيراتها ونحو ذلك.

قال: (وليس من شروطها إذن الإمام)

لما تقدم في صلاة العيد، فلا يشترط أن يأذن الإمام للناس بذلك لأنها نافلة وبها يندفع عن الناس الضر، وهو طلب رزق من الله عز وجل، فلم يكن شرطها إذن الإمام.

وينبغي أن يتدبر - في هذه المسألة –، فليس مراد الحنابلة هنا من أنه لا يشترط لها إذن الإمام، أنها تفعل ولو منع أو خشيت الفتنة بإقامتها، وإنما مرادهم أنهم لو أقاموها من غير أن يستأذنوه فإنها صحيحة، وليس مرادهم أنها تقام مع منعه أو مع خشية الفتنة فإنه يترتب مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة والشريعة قد أتت بدرء المفاسد وجلب المصالح.

كما تقدم في صلاة الجمعة فيه أنه لا يشترط إذن الإمام أي لا يشترط أن يصرح بالإذن، أما إن صرح بالمنع أو خشيت الفتنة بإقامتها فإنها لا تقام.

قال: (ويسن أن يقف في أول المطر)

فيصيب المطر بدنه، وذلك لما ثبت في مسلم وأنس قال:(أصابنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مطر فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر وقال: إنه حديث عهد بربه) فهو حديث خلق وإيجاد.

قال: (وإخراج رحله وثيابه ليصبهما المطر)

الرحل هو السرج أي ما يكون على الدابة مما يضعه الراكب عليها.

ص: 121

قالوا: فيستحب له أن يخرج سرجه وثيابه ليصيبهما من المطر، وقد ورد ذلك عن ابن عباس أنه:(كان يأمر جاريته أن تخرج سرجه وثيابه ويقرأ قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً مباركاً} ) .

وهذا الأثر إسناده لا بأس به، رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الشافعي من غير سند، واستدل به الحنابلة على هذه المسألة.

فيستحب له أن يبدي شيئاً من ثيابه أو أثاثه أو متاعه أو شيئاً من بدنه ليصيبه المطر.

ويستحب له أن يقول: (اللهم صيباً نافعاً)، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:(أنه كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيباً نافعاً) .

وإذا سمع الرعد أن يقول ما ثبت عن ابن الزبير في موطأ مالك وغيره بإسناد صحيح: (سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) .

والدعاء مرجو عند نزول المطر فهو من مظان الإجابة، وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق يرتقي بها هذا المتن إلى درجة الحسن إن شاء الله، وأن نزول الغيث من الأحوال التي يرجى فيها إجابة الدعوة.

قال: (وإذا زادت الأمطار وخيف منها)

فإذا زادت مياه الأمطار أو مياه العيون أو الأنهار فخشي أن تطغي على شيء من البيوت، فيستحب أن يدعوا الله برفع ذلك مع بقاء المنفعة الثابتة في الماء على الوجه الذي تتم به حاجة العباد.

قال: (سن أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)

ويقول هذا في المطر.

" الظراب " هي الروابي الصغار.

" الآكام " هي الجبال الصغار وهي ما نسميها نحن بـ " الخزوم "، ويكون عليها الحجر وهي مع ذلك تنبت العشب.

" وبطون الأودية " وهي الأماكن المنخفضة في الأودية.

" ومنابت الشجر " أي أصولها.

ص: 122

فقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – في حديث أنس في دعوته عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر قال الراوي: (فأمطرت فلم نر الشمس ستاً " أي أسبوعاً " فجاء رجل من الجمعة القابلة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاع السبل وهلاك الأموال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)(1) متفق عليه.

قال: (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، الآية)

هذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس ذلك شرطاً فيه، وإنما هو من الدعاء المباح الذي وافق هذه المناسبة، فلا بأس أن يدعوا الله ويسبحوه مما لم يثبت في السنة بخصوصية – أي في هذا الموضع – ومن ذلك: {ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به

}

إذن: الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس، وأما ما ذكره المؤلف فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا بأس بالدعاء به أو بغيره من الأدعية المباحة المناسبة للمقام.

والحمد لله رب العالمين.

تم – بحمد الله تعالى – شرح كتاب الصلاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به، ويليه كتاب الجنائز.

الدرس الثالث والأربعون بعد المئة

(يوم الجمعة: 14 / 7 / 1415 هـ)

كتاب الجنائز

الجنائز: جمع جِنازة – بالكسرة – في الأفصح، وتصح بالفتح " جَنازة ".

وهي: من جَنزَ الشيءُ إذا ستر.

ويسمى بالجنازة: الميت؛ لأنه مستور بكفنه.

وكذلك: النعش وعليه الميت.

أما النعش أو السرير من دون الميت فإنه لا يسمى جنازة بل يسمى نعشاً أو سريراً أو نحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن عيادة المريض)

يستحب للمسلم أن يعود المريض.

(1) الفتح لابن حجر [2 / 589]، كتاب الاستسقاء: باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة.

ص: 123

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على فضيلة ذلك:

فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع قيل: وما خرفة الجنة يا رسول الله؟ قال: جَنَاها)(1)

ورواه الإمام أحمد في المسند من حديث علي بإسناد صحيح وفيه: (فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)(2)

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإجابة السلام)(3)

ورواه مسلم بلفظ: (حق المسلم على المسلم ست) وزاد النصيحة: (وإذا استنصحك فانصحه)

وهنا: صريح كلام المؤلف أن عيادة المريض سنة.

(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب (13) فضل عيادة المريض (2568) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (975) قال رحمه الله تعالى: " حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن نافع، قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن بن علي فقال له علي: أعائدا جئت أم زائرا؟ فقال أبو موسى: بل جئت عائدا، فقال علي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من عاد مريضا بَكَراً شيّعه سبعون ألف ملك، كلهم يستغفر له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة،وإن عاده مساء شيّعه سبعون ألف ملك كلهم يستغفر له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة) ، وانظر (976) ، (1166) .

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (2) الأمر باتباع الجنائز (1240) بلفظ: " أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) ، أخرجه مسلم (2162) .

ص: 124

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها فرض كفاية، وقال:" إن ظاهر النصوص تدل على وجوبها ".

لكن ذكر النووي الإجماع على نفي الوجوب، وتعقبه ابن حجر بأن الوجوب المنفي إنما هو الوجوب على الأعيان، وأما وجوب الكفاية فليس بمنفي، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه:" باب: وجوب عيادة المريض ".

وهذا القول هو الراجح، وأن عيادة المريض واجبة لكن ليس على الأعيان بل على الكفاية.

فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم) ظاهره أن ذلك على الأعيان؟

فالجواب: قد وجد الصارف، فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر قال:(كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى رجل من الأنصار فسلم ثم أدبر الأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم؟)(1)

فهنا: كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من حضر من أصحابه كل واحد منهم بعينه بالذهاب إلى عيادة سعد دليل على أنها ليست فرضاً على الأعيان.

فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام من أن عيادة المريض فرض كفاية، فإذا مرض المسلم وجب على من علم حاله من المسلمين ممن تقوم بهم كفاية جبره وتعزيته في مصابه من المرض وتقوية قلبه أن يعودوه.

(1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 226] ، كتاب الجنائز، باب (7) في عيادة المريض (925) . لم أجده في باب عيادة المريض من صحيح البخاري.

ص: 125

والعيادة عامة في كل مرض، أما ما رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ثلاثة لا تعاد: الضرس " أي وجع الضرس " والرمد والدُمَّلُ)(1) ، فهو من قول يحيى بن أبي كثير وهو من أتباع التابعين، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه في مسند أحمد ما قاله زيد بن أرقم قال:(عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان في عيني)(2) والرمد وجع عين.

فالصحيح أن كل مرض يعاد.

والصحيح – أيضاً – أنه متى علم بمرضه عاده من غير أن يتربص ثلاثة أيام وإن كان في مبدأ المرض.

(1) قال في ضعيف الجامع ص 379 برقم (2566) : " موضوع " وقال في السلسلة الضعيفة رقم (150) ما نصه: " موضوع، أخرجه الطبراني في الأوسط (70 / 1 من زوائده) والعقيلي (421) وابن عدي (319 / 2) من طريق مسلمة بن علي الخشني حدثني الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي حعفر عن أبي هريرة مرفوعا.. ثم قال: " ومما يدل على وضعه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود صاحب الرمد، قال أنس: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم من رمد كان به، أخرجه الحاكم (1 / 342) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا ".

(2)

أخرجه أبو داود بلفظ: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني " في كتاب الجنائز، باب (9) في العيادة من الرمد (3102) ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند الكوفيين، حديث زيد بن أرقم، آخر حديث فيه (19563) بلفظ: " عن زيد بن أرقم قال: أصابني رمدٌ فعادني النبي صلى الله عليه وسلم

".

ص: 126

أما ما رواه ابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن العيادة إلا بعد ثلاث)(1) فالحديث إسناده ضعيف جداً.

وليس ثمة وقت محدد لعيادة المريض، إلا أنه ينبغي أن تكون في الوقت الذي لا يضجره ولا يحرجه أما غير ذلك فلا بأس فهي ترجع إلى عادة الناس.

قال: (وتذكيره التوبة والوصية)

أي يستحب أن يذكر بالتوبة.

وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتى غلاماً يهودياً يعوده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم، فأسلم ثم مات)(2)

فيستحب لمن عاد مريضاً إن كان كافراً أن يدعوه إلى الإسلام وإن كان فاسقاً أن يدعوه إلى التوبة، ولا يعلم فلعل هذا المرض يكون به موته، فاستحب أن يتدارك بالدعوة والإصلاح بحثه على التوبة.

كما أنه يحث على الوصية أي بأن يكتب وصيته، وذلك لأن المرض مظنة الموت، وإذا كان المسلم مأمور بكتب وصيته قبل أن يقع به المرض فأولى من ذلك أن يحث عليها في أثناء مرضه.

فقد قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين - من حديث ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت إلا ووصيته مكتوبة عنده)(3) .

فيستحب للمسلم – وقيل بوجوب ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الوصايا - فيشرع له أن يكتب وصيته في الحقوق التي له والتي عليه.

قال: (وإذا نُزل به، سُنَّ تعاهد بَلِّ حلقه بماء أو شراب وتَنْدِيَةُ شفتيه بقُطْنَةٍ)

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (1) ما جاء في عيادة المريض (1437) عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث ". وأورد ابن الجوزي هذا في كتاب الموضوعات من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما ".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب (11) عيادة المشرك (5657) . وانظر (1356) .

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب (1) الوصايا (2738) ، وأخرجه مسلم (1627) .

ص: 127

" وإذا نزل به " أي نزل به ملك الموت، فأخذ بالاحتضار، فإنه يسن تعاهده ببل حلقه بماء أو شراب وتندى شفتيه بقطنة، وذلك ليهون عليه ذلك شدة النزع الواقع فيه.

فيستحب أن يبل حلقه: إما أن يكون بشرب جرعة ماء أو بأن يقطر الماء في حلقه أو بأن يبل الشفتين ليسهل عليه ما هو فيه من النزع والشدة.

وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده - عند احتضاره - ركوة فيها ماء، فكان يضع يده فيها فيمسح بها على وجهه ويقول:(لا إله إلا الله إن للموت لسكرات)(1)

" بقطنة ": ونحوها، فليس المقصود القطنة بالخصوص.

قال: (وتلقينه لا إله إلا الله)

أي ويسن أن يلقن " لا إله إلا الله "

وينبغي أن يكون الملقن ممن يكون للميت له قبول وبينهما مودة مما هو مظنة لقبول كلامه لئلا يتضجر من قول هذا القائل فيمتنع من قولها فهو في شدة، فيكرر عنده قول " لا إله إلا الله " ويكرر ذلك حتى يقولها المحتضر.

وكرهوا أن يقول له: " قل لا إله إلا الله "؛ لئلا يتضجر من ذلك ويمتنع، وإنما يكون ذلك على سبيل الإشارة فيكررها عنده حتى يقولها.

ودليل استحباب التلقين، ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)(2) .

وأما دليل كراهية الأمر بذلك فهو خشية التضجر والامتناع مما هو واقع فيه من الشدة.

لكن إن لم يخش عليه ذلك وعلم منه أنه لا يكره ذلك وإن كان في سكرات الموت فإنه لا حرج في أن يقال له: قل " لا إله إلا الله ".

(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (42) سكرات الموت (6510) ، وانظر (890) ، وأخرجه مسلم (2443) .

(2)

أخرجه مسلم في بداية كتاب الجنائز، باب (1) تقلين الموتى لا إله إلا الله (916) .

ص: 128

فقد ثبت عند أبي يعلى والبزار بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه: (أتى رجلاً من الأنصار " وفي رواية: من بني النجار " – وهم مشهورون بحسن إسلامهم – فقال له: قل لا إله إلا الله)(1) .

قال: (ولم يزد على ثلاث إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق)

أي لا ينبغي له أن يزيد على ثلاث مرات لئلا يتضجر الميت فإنه يلقنه بحيث لا يتضجر.

" إلا أن يتكلم بعده " فإذا تلقن الميت – والمراد بالميت هنا المحتضر، وهو من باب المجاز لأن أمره سيؤول إلى الموت وهذا معروف في لغة العرب -.

فإذا تلقن الميت فقال: " لا إله إلا الله "، فإنه يسكت عنه فلا يلقن إلا أن يتكلم بشيء آخر كأن يوصي وغير ذلك فإنه يستحب أن يعاد تلقينه ليكون آخر كلامه " لا إله إلا الله ".

فقد ثبت ذلك في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)(2)

قال: (ويقرأ عنده يس)

ويستحب له أن تقرأ عنده سورة يس.

(1) قال الألباني في أحكام الجنائز صْ 20 ما نصه: " حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلا الله، فقال: أخال أم عم؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم " أخرجه الإمام أحمد (3 / 152، 154، 268) بإسناد صحيح على شرط مسلم ".

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (20) في التلقين (3116) .

ص: 129

واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث معقل بن يسار: (اقرؤوا على موتاكم يس)(1) .

والمراد اقرؤوا عليهم في حال الاحتضار - أما بعد الموت فهو بدعة -؛ وذلك لما فيها من ذكر الجنة ونحو ذلك وما يكون فيها من الرجاء فيعظم رجاؤه.

قالوا: وهي سبب لسهولة خروج الروح منه.

لكن الحديث الوارد في ذلك ضعيف، فقد ضعفه الدارقطني وغيره وقال:" لا يصح في هذا الباب شيء "(2) وهو كما قال، فإن الحديث ضعيف لجهالة في بعض رواته ولاضطراب في سنده.

لذا الراجح هو عدم القول باستحباب ذلك.

فإن قرأها فلا بأس أو قرأ غيرها من الآيات أو السور التي فيها الرجاء ونحو ذلك من غير اعتقاد سنية ذلك فلا بأس.

وقالوا: ويستحب أن يقرأ عليه فاتحة الكتاب.

وهذا أيضاً لا دليل عليه.

وإنما يستحب عند المحتضر أن يذكر له محاسن عمله أي الأعمال الصالحة وأن يذكر له فضل الله ورحمته وأن يفتح له باب الرجاء لئلا يموت إلا وهو يحسن الظن بربه، فقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم -:(لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)(3)

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (24) القراءة عند الميت (3121) قال:" حدثنا محمد بن العلاء وحمد بن مكي المروزي، المعنى، قالا: حدثنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، وليس بالنهدي، عن أبيه، عن معقل بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا يس على موتاكم) هذا لفظ ابن العلاء ". وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة كما قال المزي، وابن ماجه في الجنائز (1448) باب فيما يقال عند المريض، وقال المنذري:" وأبو عثمان وأبوه ليسا بالمشهورين ". سنن أبي داود [3 / 489] .

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب (19) الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877) .

ص: 130

قال إبراهيم النخعي – كما روى ذلك ابن أبي الدنيا بإسناده – قال: " كانوا – أي السلف – يستحبون أن يذكر للميت محاسن عمله حتى يحسن الظن بربه "(1) .

وهذا أمر ظاهر فيستحب أن يذكر بما يقتضي موته مع كونه محسناً الظن بربه عز وجل، فإن المقام مقام رجاء لا مقام خوف.

قال: (ويوجهه إلى القبلة)

أي: يستحب أن يوجهه إلى القبلة.

ودليل ذلك: ما رواه الحاكم أن البراء بن معرور رضي الله عنه: أوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يوجه وهو يحتضر إلى القبلة، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(أصاب الفطرة، وأمر برد ثلثه إلى أهله)(2)

والحديث: فيه نُعيم بن حماد وله مناكير، لكن له شاهد عند البيهقي من حديث كعب بن مالك (3) فالأثر حسن إن شاء الله فيستحب أن يوجه إلى القبلة.

فيضطجع على شقه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، وإن شق عليه أن يضطجع على شقه الأيمن فإنه يستلقي ويجعل رجليه إلى القبلة ويرفع وجهه ويوجه إلى القبلة، وهذا في الغالب أسهل على الميت.

قال: (فإن مات سن تغميضه)

فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شُقَّ بصره فأغمضه وقال: (إن الروح إذا قبضت اتَّبعه البصر)(4)

وكره الإمام أحمد أن يغمضه جُنُب أو حائض، ولم أر دليلاً يدل على ذلك.

ولا شك أن الأولى أن يكون من يغمضه من أهل الخير والصلاح كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتولى القيام بأمره من كان كذلك.

(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 539] ، كتاب الجنائز، باب (22) ما يستحب من توجيهه نحو القبلة (6604) ، (6605) .

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (4) في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر (920) بلفظ:(إن الروح إذا قبض تَبِعَهُ البصر) .

ص: 131

قالوا: ويقول: - أثناء الإغماض – بسم الله على ملة رسول الله، ولا دليل يدل على ذلك، وإنما فيه أثر مقطوع على تابعي رواه البيهقي بإسناده الصحيح عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يقول: عند التغميض: (بسم الله وعلى ملة رسول الله)(1)

فإذن: لا يستحب قول ذلك عند تغميضه، خلافاً للمشهور في المذهب لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أثر التابعي فإن قول التابعي ليس بحجة.

قال: (وشد لحييه)

أي أن يشد اللحيان، فيغطى الفم لئلا يدخله شيء من الأذى أو الهوام ونحو ذلك.

قال: (وتليين مفاصله)

ليكون ذلك أسهل عند تغسيله، فيرد الذراع على العضد ثم العضد على الجنب، ويرد الساق على الفخذ، والفخذ على الجنب (2) أي تحرك المفاصل.

قال: (وخلع ثيابه وستره بثوبٍ)

لأن الثياب على الميت في الغالب تحدث شيئاً من الفساد في بدنه بسبب حرارة الثوب على البدن.

فتخلع الثياب ويطرح عليه غطاء ونحو ذلك لئلا تحدث هذه الثياب على بدنه شيئاً من الإفساد، لا سيما مع تأخر الاشتغال بتغسيله.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حين توفي: سُجَّي ببرد حِبَرة)(3) .

قال: (ووضع حديدة على بطنه)

لئلا يقع في بطنه شيء من الانتفاخ أو نحو ذلك: لا سيما مع تأخر الاشتغال بدفنه أو الاشتغال بتكفينه وتغسيله.

وقد روي ذلك عن أنس بن مالك كما رواه البيهقي (4) .

قال: (ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه)

(1) أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (23) ما يستحب من إغماض عينيه إذا مات (6609) .

(2)

كذا في الأصل، وفي الروض المربع: إلى بطنه، حاشية الروض المربع: 3 / 20.

(3)

أخرجه البخاري (5814) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (14) تسجية الميت (942) .

(4)

أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (24) ما يستحب من وضع شيء على بطنه ثم وضعه على سرير أو غيره لئلا يسرع انتفاخه (6610) .

ص: 132

أي أثناء الغسل يكون على هذه الصورة.

فإذا كان مستلقياً أو مضطجعاً على شقه الأيمن فإن جانبه الأعلى – جانب الرأس – يكون مرتفعاً، ويكون الانخفاض إلى جهة الرجلين لئلا يخرج شيء من الماء أو نحو ذلك من فمه، وليكون ذلك أسهل لانصباب الماء عن بدنه.

قال: (وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة)

أي يستحب أن يسرع في تجهيزه والاشتغال بتغسيله وتكفينه ونحو ذلك.

لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)(1)

فيستحب الإسراع بالجنازة غسلاً وتكفيناً ودفناً.

" إن مات غير فجأة ":

فيستثنى من استحباب التعجيل إن كان موته فجأة؛ لأن من مات موت فجأة يخشى ألا أن يكون موته متيقناً فيترك حتى يتيقن ذلك بأسباب التيقن.

فإذا تيقن من موته فحينئذ يشتغل بتغسيله وتكفينه، فمن مات فجأة أو ببعض الأمراض التي تقع أحياناً التوهم في ثبوت موته بها، فما ينبغي التعجيل بذلك حتى يثبت الموت.

قال: (وإنفاذ وصيته)

أي ويستحب الإسراع في إنفاذ وصيته، فهي معطوفة على " تجهيزه ".

أي يسن أن تنفذ الوصية ويتعجل فيها، وذلك لأن في إنفاذ الوصية التي يوصي بها – كأن يوصي بثلث ماله أو ربعه – فيها تعجيل للأجر وإيصال للحق إلى أهله.

فيستحب الإسراع في إنفاذ وصيته لتعجيل الثواب له أولاً ولإيصال الحق إلى أهله ثانياً.

قال: (ويجب في قضاء دينه)

أما قضاء الدين فيجب الإسراع به.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة (1315) ، ومسلم (944) .

ص: 133

فإذا ترك مالاً وعليه دين فيجب أن يسارع في إخراج دينه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي بإسناد جيد: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)(1)

فنفس المؤمن معلقة محبوسة عن نيل ما أعد لها من الثواب حتى يقضى عنها الدين.

وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم بإسناد صحيح: قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (هل هنا أحد من بني فلان) فلم يجبه أحد ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه من مات منكم محبوس عن الجنة بالذي كان عليه فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)(2)

وقال صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)(3) رواه مسلم.

فالواجب أن يسرع في قضاء دينه ليصل إليه ثواب الله عز وجل ويمتنع عنه هذا الحبس عن فضل الله وجنته، وكذلك لما فيه من تبرئة ذمته.

ولا بأس أن يكشف وجه الميت فيقبل، فقد صح ذلك عن أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: أنه كشف وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله)(4) .

والحمد لله رب العالمين

الدرس الرابع والأربعون بعد المئة

(يوم السبت: 15 / 7 / 1415 هـ)

فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية)

(1) أخرجه الترمذي في آخر كتاب الجنائز، باب (76) ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نفس المؤمن.. (1078) (1079) . قال الترمذي عن الحديث (1079) : هذا حديث حسن، وهو أصح من الأول ".

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب (32) من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1886) بنفس اللفظ.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (3) الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه (1241)(1242) .

ص: 134

فالغسل والتكفين والصلاة والدفن للميت فرض على الكفاية، فإذا قام به طائفة من المؤمنين سقط الإثم عن الباقين.

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)(1) .

والشاهد قوله: " اغسلوه، وكفنوه " فهذه أوامر ظاهرها الوجوب وهي موجهة إلى الجماعة فكان فرضاً على الجماعة أو فرضاً على الكفاية.

فالغسل والتكفين فرض للحديث المتقدم، وكذلك فقد أجمع أهل العلم على فرضية الصلاة عليه والدفن له.

قال: (وأولى الناس بغسله وصيه)

فإذا وصى الميت أن يغسله فلان أو أوصت امرأة أن تغسلها فلانة أو زوجها، أو والدها، فإن أولى الناس بالغسل هو الوصي، وإن كان أجنبياً ما دام مسلماً عدلاً فإن هذه الوصية تجعل هذا الموصى هو الأولى بالغسل.

ودليل ذلك ما ثبت عند الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن: (أن فاطمة أوصت أن يغسلها زوجها " أي علي " وأسماء " وهي بنت عميس " فغسلاها)(2) .

ولا شك أن هذا من باب إنفاذ وصيته وفعل ما يحبه، فإنه إنما أوصى بذلك لكونه يحب ذلك فكان هنا – حيث أن الغسيل له – أولى من أن يقوم بالغسل غير وصيه.

قال: (ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته)

" ثم الأب " لما فيه من الرأفة والرحمة به مما يجعله يقوم بالتغسيل على أفضل ما يكون منه.

" ثم الجد "؛ لأن الجد بمنزلة الأب، فهو أب.

" ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ": كالابن والأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم العم الشقيق ثم العم لأب وهكذا من عصباته كما يكون في الميراث.

قال: (ثم ذوو أرحامه)

(1) أخرجه البخاري [1 / 319،

] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] .

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 556] كتاب الجنائز، باب (40) الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، (6661) .

ص: 135

كالجد لأم والخال ونحو ذلك، وسيأتي بيان ترتيبهم في الكلام على مسألتهم في المواريث والفرائض.

قال: (وأنثى وصيتها ثم القربى فالقربى من نسائها)

أي يتولاها وصيتها ثم القربى من النساء، أي الأم، فالبنت، فبنت البنت، فالأخت الشقيقة، فالأخت لأب، فالأخت لأم، والعمة والخالة بمنزلة واحدة، وهكذا.

فليس كالترتيب المتقدم في الميراث بل يقدم الأقرب فالأقرب لصفة القرابة والمحرمية، فعلى ذلك تكون العمة والخالة بمنزلة واحدة، وبنت الأخت وبنت الأخ بمنزلة واحدة، فإذا حصل تشاح بينهما فإنه يقرع بينهما.

هذا هو المشهور في المذهب: وأن حكم الرجال في هذه المسألة ليس كحكم النساء، فالرجال يقدم العم على الخال لأنه عصبة، وأما النساء فلا، بل تقدم القربى فالقربى، فالخالة تقدم على بنت العم.

وقال الشافعية بما قال به الحنابلة لكن قالوا: يقدم من (1) يتساوى قربهن إلى المرأة، كالعمة والخالة: تقدم من كانت في محل العصوبة، فتقدم كما لو كانت ذكراً.

فمثلاً في العمة والخالة، تقدم العمة لأنها بمنزلة العم، والعم في الميراث مقدم على الخال، وهذا أقوى لأنه مرجح فهو أقوى من القرعة بينهن.

وظاهر ما ذكره الحنابلة هنا والشافعية: أن الزوج والزوجة لا يقدمان على غيرهما إلا مع الوصية، بل الأجنبية تقدم على الزوج.

وهذا هو المشهور عندهم.

وذهب بعض الشافعية وهو الوجه الثاني عندهم وقال به بعض الحنابلة: إلى أن الزوج أو الزوجة يقدمان بعد الوصي – وهذا القول أظهر –، وأن الزوج أولى بغسل زوجته من غيره، والزوجة أولى بغسل زوجها من غيرها من النساء – القريبات إليه – إلا ما تقدم من تقديم الوصي فإن الوصي مقدم لرغبة الميت فيه.

(1) في الأصل: فمن.

ص: 136

وذليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لو مت قبلي لغسلتك ثم كفنتك ثم صليت عليك ثم دفنتك)(1)

وقالت عائشة – كما في سنن أبي داود - بإسناد حسن: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه)(2)

وقد صح في الموطأ بإسناد صحيح: (أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر رضي الله عنه (3) ؛ ولأنه لا يؤمن من اطلاع الغاسل على شيء من العورة فكان من أبيح له الاطلاع إليها في حال الحياة بسبب الزوجية أولى من غيره.

فالصحيح ما ذهب إليه أهل هذا القول: فأولى الناس الوصي ثم الزوج أو الزوجة ثم بعد ذلك يكون الأقرب فالأقرب من العصبات ثم ذوو الأرحام، سواء كان الميت ذكر أو أنثى ما دام – أن - المغسل مسلماً.

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها (1465) . قال البوصيري:" هذا إسناد رجاله ثقات،رواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرا ". قال ابن حجر: قوله: " لغسلتك " باللام تحريف، والذي في الكتب المذكورة (فغسلتك) بالفاء، وهو الصواب، والفرق بينهما أن الأولى شرطية، والثانية للتمنى " ا. هـ تلخيص الحبير 2 / 107، من حاشية المغني [3 / 462] .

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته.. (1464) . قال البوصيري:" هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسا ورواه بالعنعنة في هذا الإسناد، فقد رواه ابن الجارود وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من طريق ابن إسحاق مصرحا بالتحديث.. ". سنن ابن ماجه طبعة بيت الأفكار. المغني [3 / 461] .

(3)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ في بداية كتاب الجنائز، باب غسل الميت (521) .

ص: 137

واشترط الحنابلة العدالة، وهو قول ظاهر؛ فإنه قد يطلع على الميت ما يكون فيه فضيحة فاحتيج إلى أن يكون المغسل عدلاً ليستر على الميت فيما يطلع عليه من عورة أو نحو ذلك.

قال: (ولكل من الزوجين غسل صاحبه)

وهو مذهب جماهير العلماء بل حكي إجماعاً.

والأحاديث المتقدمة تدل عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو مت قبلي لغسلتك)(1) وقول عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه)(2) .

وفعل أسماء بنت عميس في غسل أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر الصحابة من المهاجرين والأنصار في المدينة فلم ينكروه فكان ذلك إجماعاً.

فغسل الزوج للزوجة أو الزوجة للزوج جائز عند جماهير العلماء بل هو إجماع إلا ما حكي عن الإمام أحمد في رواية عنه، والمشهور من مذهبه جواز ذلك.

قال: (وكذا سيد مع سُريته)

فالسيد يجوز أن يغسل سُريته.

والمراد بالسُرية هي الأمة التي يطؤها سيدها.

فنخرج حينئذٍ: الأمة المتزوجة التي قد زوجها سيدها أو الأمة المعتدة من نكاح فإنه لا يحل له أن يطلع إلى عورتها لأنها في عصمة غيره.

بخلاف السُرية فإنه يجوز أن يغسلها وهي بمنزلة الزوجة.

* وفي المقنع: " وهي معه " ولم يذكره المؤلف هنا، وينبغي ذكر ذلك وهذا هو المشهور في المذهب – أي هي تغسله أيضاً – فالسُرية تغسل سيدها، لأنها تطلع على عورته فهي بمنزلة زوجته فإذا مات جاز أن تغسله.

هذا هو المشهور في المذهب.

وقال بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية: لا يجوز ذلك.

وذلك لأنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، فهي مملوكة لغيره بموته فتنتقل إلى غيره ملكاً – وحينئذٍ – فلا يجوز لها أن تطلع على عورته فقد خرجت بموته مباشرة من ملكه إلى ملك غيره.

(1) تقدم.

ص: 138

وهذا القول أظهر؛ فإنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، بخلافها إذا ماتت عند سيدها فإن الملك كان في الحياة ثابتاً وقد زال الانتفاع منها فتعلقت بقية أحكام التمليك فيها، لأنها إذا ماتت لم تبق محلاً للانتفاع، بخلاف موت سيدها فهي ما زالت محلاً للانتفاع وقد مات مالكها وبموته انتقلت ملكيتها إلى غيره كما لو باعها أو وهبها.

فالصحيح أنه لا يجوز لها أن تغسل سيدها لخروجها من ملك سيدها.

قال: (ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط)

يجوز للمرأة وللرجل أن يغسل من له دون سبع سنين سواء كان ذكراً أو أنثى.

فيجوز للرجل الأجنبي أن يغسل جارية دون سبع سنين، وكذلك يجوز للمرأة الأجنبية أن تغسل الغلام دون سبع سنين.

هذا هو المشهور في مذهب أحمد ومذهب مالك.

وقيَّده الشافعي بقيد أصح فقال: حيث لا يشتهى، فلا يقيد بسبع سنين أو ست وإنما يقيَّد بنفي الشهوة، فإذا كان صبياً لا تشتهيه المرأة أو جارية لا يشتهيها الرجل وليست محلاً للشهوة فلا بأس بغسلهما؛ لأن مثليهما لا عورة له فإن الصبي الذي له ست أو خمس أو سبع ونحوها ممن لا يشتهى ليست له عورة فحينئذٍ يجوز أن تطلع المرأة على عورته ويجوز أن يطلع الرجل على عورة الجارية عند غسلها حيث عدمت الشهوة.

قال: (وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يممت كخنثى مشكل)

هنا مسائل:

المسألة الأصلية: أن الخنثى المشكل وهو من لم تثبت ذكوريته ولا أنوثيته لا يجوز أن يغسل لا من النساء ولا من الرجال بل ييمم.

أما كون النساء لا يغسلنه فلأنه يحتمل أن يكون رجلاً، وأما كون الرجال لا يغسلونه فلاحتمال كونه امرأة.

ومثل ذلك الرجل يموت بين النساء وليس ثمة رجل يغسله من الرجال وليس ثمة زوجة أو أمة – على القول بها – فإنه حينئذ ييمم.

ومثل ذلك المرأة إذا ماتت بين الرجال فإنها تيمم، كما هو مذهب جمهور الفقهاء.

ص: 139

وقد روى الطبراني في الكبير، كما في المجمع بإسناد فيه عبد الخالق بن يزيد بن واقد وهو ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الرجل يموت بين النساء وفي المرأة تموت بين الرجال وليس معهما محرم قال: (يُيَمَّمان)(1)

وله شاهد مرسل من مراسيل مكحول رواه البيهقي (2) .

فإن مات رجل بين نساء أو امرأة بين رجال فإنهما لا يغسلان بل ييممان، لأن في تغسيل الرجال للمرأة أو النساء للرجل إطلاع على العورة التي لا يجوز للمغسل أن يطلع عليها فكان الانتقال إلى حكم التيمم.

- وقال بعض الشافعية – فهو وجه عندهم – وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: بل يغسلان بصب الماء على الثياب من غير أن يقع شيء من الاطلاع على العورة.

بل يصب الماء صباً على ثوبه أو على قميصه أو على حرمه من غير أن يمس ومن غير أن يطلع على عورة الميت سواء كان ذكراً أو أنثى.

وهذا القول – في إطلاقه ضعف –؛ لأن مثل هذا التغسيل قد لا يزيد الميت إلا اتساخاً.

فإن غسله وعليه ثيابه قد لا يزيده إلا اتساخاً فينافي المقصود من تغسيله وتهيئته للدفن.

لكن إن كان في ذلك التغسيل إنقاء كأن يكون مغُسلاً فمات فيعلم أن الماء يصل إليه بالصب من غير أن يظهر شيء من عورته، وأن هذا الغسل ينقيه ولا يحدث له منه وسخ. فحينئذٍ ينبغي القول بمشروعية الغسل لقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} (3)

(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 559] كتاب الجنائز، باب (44) المرأة تموت مع الرجال ليس معهم امرأة (6669) .

ص: 140

ولما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما مات قال الصحابة رضي الله عنهم:(والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجرد موتانا فلما اختلفوا أُلقي عليهم النوم فكلمهم مكلم من ناحية البيت أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم)(1)

فهذا يدل على أنه متى حصل إنقاء في الغسل وعجز عن الغسل التام فوجد مانع يمنع الغسل التام سواء كان هذا المانع شرعي كما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك فإنه حينئذٍ يجوز أن يغسل بصب الماء عليه، وهذا لا شك أولى من التيمم.

إذن: الراجح أن يقال في هذه المسألة تفصيل:

فإن كان الغسل يحصل به الإنقاء، فإنه يغسل ولو كان ذلك بصب الماء على قميصه.

وأما إن كان لا يحصل به الإنقاء، فإنه ييمم.

وظاهر قول المؤلف وإن كانت النسوة من محارمه، وإن كان الرجال من محارمها، وهو مذهب الحنابلة.

فإذا مات الرجل بين النساء وإن كانت النساء من محارمه أو تموت المرأة ومعها أبوها أو أخوها ورجال أجانب – فإنهم – حينئذٍ – لا يغسلونها بل ييممونها.

فالمشهور في المذهب أن الرجال المحارم لا يجوز أن يغسلوا المرأة وإن كانت من محارمهم، وأن النساء المحارم لا يغسلن الرجل المحرم لهن، وهذا القول ضعيف.

والصحيح ما ذهب إليه المالكية والشافعية: من جواز فعل ذلك لكن مع ستر العورة، فيستران العورة، ثم يقومان بالغسل، وإذا احتاج إلى الاطلاع على العورة لتمام الغسل فإن ذلك يكون معفواً عنه؛ لأن ذلك من باب الحاجة كما يجوز أن يطلع الطبيب ونحوه على شيء من عورة المرأة أو الرجل للحاجة إلى ذلك، فكذلك هنا وقد قال تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم}

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (32) في ستر الميت عند غسله (3141) .

ص: 141

فالراجح: أن الرجل المحرم والمرأة المحرم يجوز لهما أن يقوما بغسل المحرم من غير جنسهما، فالمرأة تغسل الرجل من محارمها، والرجل يغسل المرأة من محارمه إن عدم الجنس الموافق له، أما إن لم يعدم فذلك لا يجوز. فإذا وجدت المرأة وإن كانت أجنبية فهي التي تقوم بالغسل دون الرجل، أما إذا عدم فإنه يقوم به الرجل لقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} ولأنه أولى بالاطلاع على شيء من عورتها من الطبيب عند الحاجة، فإن الطبيب أجنبي وعند الحاجة يجوز.

وهو أولى من ذلك؛ لأنه محرم لها وهي أيضاً محرمة له ولا شك أن اطلاع المحرم على شيء من العورة يبعد أن يكون لشهوة.

قال: (ويحرم أن يغسل مسلم كافراً)

لا يجوز للمسلم إن مات كافر أن يغسله.

قالوا: لأن التغسيل تطهير له وهو لا يتطهر بذلك.

- وقال الشافعية: بل يغسله، وهذا أظهر؛ لأنه يحتاج إلى التغسيل، والتغسيل له إحسان له، والله عز وجل لم ينه عن الإحسان إلى الكفار بل يحسن إليهم كما يحسن إلى المسلمين إلا أن يكون حربياً فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يحسن إليه بشيء؛ لأن الله نهانا عن الإحسان إليهم.

فإذا كان كافراً غير حربي فالأظهر جواز تغسيله لأن ذلك من باب الإحسان إليه والإحسان إلى الكفار معتبر كما دلت عليه الآية الكريمة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} (1)

وقد روى ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر علياً أن يغسل أباه أبا طالب لما مات)(2) لكن الحديث مرسل من مراسيل الشعبي فإسناده ضعيف.

قال: (أو يدفنه بل يوارى لعدم من يواريه)

أما الدفن فإنه لا يدفن كما يدفن المسلمون بل يرمى في حفرة يوارى فيها.

ص: 142

فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمَّك الشيخ الضال " ويريد بذلك أبا طالب " قد مات فقال: اذهب فواره)(1) أي اذهب فوار عليه تراباً.

وهذا الحديث إسناده صحيح وفيه أنه لا يدفن وإنما يوارى لئلا يقع الضرر بجيفته.

إذن: الكافر إذا مات لا يغسل في المشهور من المذهب والراجح خلاف ذلك.

وأما الدفن فإنه لا يدفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمواراة أبي طالب مع كونه أولى بالدفن من غيره من الكفار لنصرته للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أمر بإلقاء صناديد قريش الذين قتلوا في بدر أمر بإلقائهم في قليب بدر - كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين.

والحمد لله رب العالمين

الدرس الخامس والأربعون بعد المئة

(يوم الأحد: 16 / 7 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته]

هنا يبين المؤلف صفة الغسل المجزئة والمستحبة.

" وإذا أخذ في غسله ستر عورته ": فيجب أن يستر عورته ولا يجوز له أن ينظر إليها ولا أن يمسها، وقد تقدم البحث في العورة.

فيستر العورة، قال الموفق:" لا نعلم فيه خلافاً "(2) ؛ ولأنه يمكنه أن يطهره من غير نظر إلى عورته أو مس لها، فلم يكن في ذلك حاجة إلى كشف عورته، فكانت باقية على حكمها في الأصل من النهي عن مسها والنظر إليها، وهذا باتفاق العلماء.

قال: [وجرده]

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (70) الرجل يموت له قرابة مشرك (3214) . بلفظ:(اذهب فوار أباك..) . وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [3 / 547] .

(2)

المغني [3 / 369] .

ص: 143

أي جرده سوى عورته، فيجرده من ثيابه سوى عورته، ودليله ما تقدم مما رواه أحمد وأبو داود من قول الصحابة:" لا ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا أو لا "(1) ، فدل على أنهم كانوا يجردون موتاهم سوى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولأن ذلك أمكن من تغسيله وأتم.

فيجرد من ثيابه سواء كان ذكراً أو أنثى سوى العورة كما تقدم.

قال: [وستره عن العيون]

فيكون في محل مغطى في حجرة أو نحو ذلك؛ لئلا يظهر منه ما يكره فيطلع عليه أحد من الناس.

فإذا كان في محل مكشوف فربما ظهر شيء منه، إما من عورته أو شيء مما هو مستور منه، فيظهر ما يكره ظهوره.

ومن هنا استحب أهل العلم أن يكون المغسل أميناً صالحاً ثقة، يستر على الميت ما قد يظهر منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد صحيح:(من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة)(2) .

قال: [ويكره لغير معين في غسله حضوره]

يكره لمن ليس له إعانة في الغسل أن يحضر الغسل.

أما إن كان محتاجاً إلى إعانته بصب الماء أو تقليب الميت أو نحو ذلك (3) .

أما إن لم يكن محتاجاً إليه، فلا يجوز أن يحضر هذا المعين؛ لأن حضوره قد يوافق ظهور شيء مما هو مستور على الميت مما يكره أن يطلع عليه.

ولأن الغاسل قد يطلع على شيء من عورة الميت مما قد يقع موافقة، لكن للحاجة إلى ذلك تجوز (4) عنه.

أما أن يكون أحد من الناس يحضر ذلك، فيقع نظره على شيء من عورة الميت مما قد يقع على سبيل الموافقة أو نحو ذلك فإنه لا حاجة إلى مثل ذلك، فلا يكون ظهور ذلك كظهوره عند من يحتاج إلى غسله إما تأصلاً أو إعانة.

قال: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويعصر بطنه برفق]

(1) تقدم.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (16713)(23572) .

(3)

كذا في الأصل، أي فلا يكره.

(4)

في الأصل: يجووز عنه.

ص: 144

" يعصر بطنه برفق ": ليخرج من جوفه ما هو متهيئ للخروج من البول أو الغائط أو نحو ذلك؛ لئلا يخرج بعد تغسيله فيتنجس الميت.

فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه من غير أن يجلسه؛ لأن في إجلاس الميت مشقة على الميت، فيخشى أن يحدث ذلك انفصالاً في بعض أعضاء بدنه أو نحو ذلك.

أما مجرد رفع ظهره قليلاً قريباً إلى الجلوس ثم يحرك بطنه حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج؛ لئلا يكون خروجه بعد الانتهاء من غسله، فيحتاج حينئذ إلى إعادة صب الماء عليه، فيكون في ذلك مشقة.

قال: [ويكثر صب الماء حينئذ]

أي حين هذا الفعل من عصر البطن وتحريكه، يكثر صب الماء على المحل الذي يخرج منه الخارج ليزيله بسرعة، فيصب الماء على السبيلين أثناء خروج شيء منهما.

واستحسنوا أن يكون هناك بخور أو نحو ذلك أثناء ذلك؛ لئلا يخرج شيء مما يتأذى به من رائحته.

قال: [ثم يلف على يده خرقة فينجيه]

فيلف على يده خرقة ويغسل السبيلين، ولكن لا يكون ذلك بالمس باليد مباشرة، بل يكون ذلك بخرقة؛ لأن هذا الفعل يحصل به الإنقاء والتطهر المقصود، فلا يجوز حينئذ أن يكون ذلك عن مس، فإنه بقدر الاستطاعة ينبغي حفظ العورة مساً ونظراً، وحيث أنه يمكنه أن يزيل الخارج من السبيلين بخرقة من غير أن يمس، فلا يجوز المس؛ لأن المس لا يحتاج إليه حينئذ، فيبقى على التحريم.

فإن زال بالصب ونحو ذلك، فلا بأس.

قال: [ولا يحل مس عورة من له سبع سنين]

فمن كان له سبع سنين فأكثر، فإنه لا يجوز أن يمس عورته، وقد تقدم هذا؛ ولأن الإنقاء ما دام يحصل بغير مس للعورة، بأن يكون بخرقة، فإنه لا يجوز أن يرتقى إلى المس مع إمكان ما هو دونه.

قال: [ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة]

فالمستحب في سائر البدن، كالفخذين والظهر ونحو ذلك ألا يمس شيئاً من ذلك إلا بخرقة.

لفعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يصبون الماء ويدلكونه والقميص من دون أيديهم.

ص: 145

فإذا حصل الإنقاء بذلك فعل، وإن لم يحصل الإنقاء إلا بمسه، فإنه يفعل ذلك، فيمس بدنه، ولا يحرم هنا المس بخلاف مس العورة، فإنه لا يجوز إلا للضرورة إلى ذلك.

قال: [ثم يوضيه ندباً]

بعد أن ينتهي من إزالة الخارج وتنظيف السبيلين وإخراج ما في بطنه من أذى، يشرع حينئذ فيوضئه، وتوضيئه للاستحباب، وقد قال صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية المتفق عليه -:(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)(1) .

فيستحب أن يكون الابتداء - بعد الاستنجاء وإزالة القذر - بالتوضئة.

قال: [ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه]

فيستثنى من ذلك المضمضة والاستنشاق؛ لأن في دخول الماء في الفم والأنف إدخال لهذا الماء إلى الجوف، فحينئذ قد يكون سبباً لتحريك القذر في جوفه، فيكون ذلك سبباً لإخراج القذر وقد انتهى من إزالته، فيكون فيه مشقة؛ لإكثار الصب عليه وإكثار غسله ونحو ذلك.

فإذا وضع الماء في فيه أو أنفه، فدخل جوفه، أثار النجاسة الموجودة في جوفه، فأدى ذلك إلى خروجها أثناء الغسل، فكان في ذلك مشقة على الميت بإكثار صب الماء على بدنه، ولا شك أن ذلك يؤثر سرعة الفساد إلى بدنه بسبب كثرة صب الماء، مع ما في ذلك من مشقة على الغاسل.

قال: [ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء]

هكذا الطريقة في محل المضمضة والاستنشاق.

يأخذ خرقة فيبلها بالماء فينظف بها أسنان الميت وشفتيه ونحو ذلك.

ويدخل خرقة أخرى فينظف بها أنفه من الداخل. هذا محل المضمضة والاستنشاق.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، وفي أبواب أخرى، ومسلم في باب غسل اميت، من كتاب الجنائز، وبقية أهل السنن الأربعة، المغني [3 / 375] .

ص: 146

وقال الشافعية: بل يمضمضه وينشقه (1) ؛ للحديث المتقدم، فإنه قال:(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، والفم والأنف من مواضع الوضوء.

والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول؛ لما تقدم، فإن في مضمضته واستنشاقه ما يؤثر بإثارة الخارج، فيكون في ذلك مشقة في كثرة صب الماء عليه.

قال: [ثم ينوي غسله]

فإذا غسل مواضع الوضوء منه وأدخل الخرقة في فمه وأنفه، فإنه ينوي بعد ذلك غسله، ويشرع في الغسل.

هكذا قال المؤلف هنا.

لكن العبارة في المقنع قبل ذكر الوضوء، وهذا هو الظاهر؛ لأن الوضوء من الغسل المستحب، فالغسل المستحب يكون أوله الوضوء، ثم يغسل بقية وسائر البدن.

فكان المستحب – على ما ذكر الموفق في أصل الكتاب، الذي هذا المؤلف اختصار له -.

لكن إن لم ينو إلا بعد الوضوء، فذلك جائز فإن الواجب حينئذ – أي بعد أن يوضئه ويريد أن يشرع في تغسيله -.

لكن النية استحباباً تكون قبل الوضوء؛ ليدخل الوضوء في الغسل، فهو مستحب للغسل.

وتجب ذلك – أي النية – بعد التوضئة وقبل الغسل، فإن النية فرض على الغاسل؛ لأن الغسل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم:(اغسلوه بماء وسدر)(2)، وقال:(اغسلنها ثلاثاً)(3) الحديث.

فالغسل فرض كفاية، فكانت النية فيه فرضاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)(4) . فإذا غسله بلا نية لم يجزئ ذلك.

(1) من الاستنشاق.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، وباب الحنوط للميت،وباب كيف يكفن الميت، وفي أبواب أخرى من كتاب جزاء الصيد، ومسلم في باب ما يفعل المحرم إذا مات من كتاب الحج، المغني [3 / 376] .

(3)

متفق عليه، وقد تقدم.

(4)

متفق عليه، وقد تقدم في الطهارة.

ص: 147

وعن الإمام أحمد، وهو قول بعض الحنابلة: أنه لا يشترط ذلك؛ قالوا: هو بمنزلة إزالة الخارج من السبيلين؛ لأن المقصود هو تنظيف الميت وتطهيره، فلم تجب له النية.

وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بتغسيله، وهو أمر مطلق شامل لنية النظافة وغيرها.

والعلة تعبدية، بل المراد تطهيره وإن كان نظيف البدن، بدليل أن من مات غريقاً أو نحو ذلك فأخرج فإنه يغسل وإن كان موته في ماء وهو في نظافة، فإنه يغسل تعبداً لله بالغسل، فليس ذلك كإزالة النجاسة التي يقصد إزالتها فحسب، بل المقصود هو الغسل.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان طيباً عند موته ومع ذلك غسل تعبداً لله في ذلك.

فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الغسل تشترط له النية، فإن عدمت فإن الغسل لا يجزئ ويجب أن يعاد الغسل بنية.

والنية مستحبة قبل إيضائه، وبعد إيضائه وقبل غسله هي فرض، لتشمل الغسل المجزئ.

قال: [ويسمي]

كما تقدم في الأغسال المشروعة وفي الوضوء المشروع، أنه يشرع فيه التسمية، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد كما تقدم البحث فيه.

قال: [ويَغْسِل برغوة السدر رأسه ولحيته فقط]

يؤتى بالماء فيوضع فيه سدر ثم يحرك حتى تظهر الرغوة، فإذا ظهرت، أخذت وغسل بها رأسه ولحيته.

وما تبقى من الثُغْل، وهو بقية السدر الباقي بعد خروج هذه الرغوة يغسل بها سائر البدن. هذا هو المشهور في المذهب، ويكون ذلك في كل غسلة من الغسلات.

وإنما خصوا الرغوة بالشعر واللحية؛ لأن غسل الشعر واللحية بالثغل يبقي شيئا منه في الرأس لا يزال إلا بإكثار الصب على الرأس، بخلاف الرغوة فإنها تذهب مع الشعر.

أما إذا كانت على البدن – أي الثغل – فإنها تذهب مع صب الماء اليسير.

ص: 148

ولفظ المقنع – وهو أظهر – إطلاق ذلك وأنه يغسل سائر البدن بالرغوة. لكن إذا كانت الرغوة قليلة فإنه يكتفى بها - كما هو المشهور في المذهب – على الشعر واللحية، وأما سائر البدن، فإنه يغسل بالماء المتبقي من الثغل أو الكدر أو نحوه من السدر، أما إذا كانت الرغوة تكفي البدن كله، فإنها تغسل بها البدن، كما هو قول الموفق في أصل هذا الكتاب، وهو أظهر.

لكن إن كانت الرغوة قليلة، فالشعر واللحية أحق بها؛ لأن سقوط الثغل والكدر في الشعر يصعب إزالته.

وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه ذكر السدر أنه يوضع في كل غسلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أم عطية، قالت: " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، فقال:(اغسلنها ثلاثاً أو خمساً – وفي رواية: أو سبعاً – أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور)(1) .

وظاهر ذلك أن كل هذه الغسلات يكون فيها الماء والسدر، وهو نص الإمام أحمد.

وسئل على إشكال يطرأ على ذلك، وهو أن الغسلة الأخيرة – حينئذ – يبقى على البدن شيء من ورق السدر أو من دقيق السدر الذي يكون في الماء الذي وضع فيه السدر، فقال رحمه الله:" هو نقي "، وقال عطاء:" هو طهور "، وهو كما قالا. فإنه ليس من الشرط أن يزال هذا الثغل أو هذا الكدر الذي يكون مع الماء من السدر، فإنه لو بقي فلا أثر له، بل هو طهور نقي.

لكن إن صب عليه الماء لإزالته، فلا بأس.

قال: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم كله ثلاثاً]

أي يشرع في صب الماء، فيصب على الجهة اليمنى ثم الجهة اليسرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) .

(1) تقدم.

ص: 149

فهذا الحديث يدل على أن المستحب أن يُبدأ بالميامن، فيبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، ثم يصب الماء عليه كله، ويكون ذلك ثلاث مرات. وهذا هو المستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(اغسلنها ثلاثاً) .

فإن اكتفى بغسله مرة واحدة أجزأ ذلك، وهو خلاف ما يستحب، فالمستحب أن يغسل الميت ثلاثاً.

لكن إن غسله مرة أجزأ ذلك؛ لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (اغسلوه بماء وسدر) ، فهذا يدل على أن المجزئ هو تعميم البدن بالغسل، لكن المستحب أن يغسله ثلاثاً فأكثر على حسب المصلحة.

قال: [ثم (1) يمر في كل مرة يده عل بطنه]

يعني: يحرك بطنه في كل مرة من مرات التغسيل حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج.

قال: [فإن لم ينق بثلاث، زيد حتى ينقي ولو جاوز السبع]

إذا لم ينق الثلاث، فإنه يزيد رابعة فخامسة، فإن لم ينق، زاد سادسة فسابعة فأكثر من ذلك حتى ينقي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) .

وقوله: (إن رأيتن ذلك) أي على حسب المصلحة، لا على حسب التشهي.

وظاهر كلام المؤلف – وهو مذهب الحنابلة – أن ذلك مربوط بخروج الخارج.

بمعنى: أنه لو كان البدن نقياً بثلاث غسلات، لكن خرج شيء من السبيلين، فإنه يعيد الغسل كاملاً مرة رابعة فخامسة، وهكذا.

وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يوضئه حينئذ؛ لأن التكرار المتقدم إنما هو حيث كانت المصلحة في تكراره على البدن كله.

أما هنا فإن المصلحة في صب الماء على السبيلين فحسب. قالوا: فحينئذ يوضئه.

وما ذهبوا إليه – مع أنه أقوى من القول الأول -، لكن الأظهر ألا يقال بتوضئته، بل وإنما يقال بمجرد صب الماء على السبيلين فيزال الخارج.

(1) كذا في الأصل، وفي نسخة للزاد بدون " ثم ".

ص: 150

وذلك لأن حكم الميت ليس كحكم الحي، فهم إنما قاسوا الميت على الحي، فإن الحي إذا اغتسل من الجنابة ثم خرج منه شيء فإنه يتوضأ عن هذا الخارج؛ لأن هذا الخارج ناقض للحدث (1) الأصغر دون الأكبر، ولا يعيد الغسل كاملاً؛ لأن الغسل قد بنيت حكمه بالاغتسال، وخرج من الحدث الأكبر بالاغتسال، لكن خروج هذا الحدث الأصغر يوجب عليه الوضوء.

وإلحاق الميت بالحي فيه نظر، فإن هذا الغسل إنما هو من باب التعبد وليس بمعنى اغتسال الحي الذي يكون متهيئاً للصلاة ونحوها مما يشترط له الوضوء.

فالأظهر: أنه إذا غسله ثلاثاً فأنقى بدنه، فخرج منه شيء من السبيلين، فإنه يكتفي حينئذ بغسل الموضع الذي خرجت منه النجاسة من غير أن يعيد الغسل مرة أخرى، خلافاً للمشهور عند الحنابلة.

وقال الجمهور: يعيد إيضاءه، وهذا وإن كان على الغاسل أهون من إعادة الغسل، لكن الأولى فيه أن يكتفى بغسل المحل الذي خرج منه الخارج.

قال: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً]

فالغسلة الأخيرة يضيف إليها الكافور، وهو نافع للميت، فإنه يشد البدن ويصلب الجسد ويطرد الهوام، ويبرد البدن أيضا، مما يؤدي إلى تأخر الفساد إليه.

ودليله ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور)(2) .

والكافور طيب، فإذا لم يوجد الكافور ووجد ما يقوم مقامه مما فيه هذه الفوائد المتقدمة، فإنه يضاف إلى الغسلة الأخيرة شيء من الطيب لحصول شيء من فوائده، فإن الكافور رائحته طيبة.

قال: [والماء الحار والأشنان والخِلال يستعمل إذا احتيج إليه]

" الخلال ": أن يدخل عوداً أو نحوه بين أسنانه لإخراج شيء من الوسخ بين الأسنان.

فالماء الحار قد يعجل بفساد البدن، ومثله الأشنان.

والخلال قد يحدث شيئاً في لثة الميت ويخرج الدم ونحو ذلك.

فهذه الأشياء لا تستعمل إلا إذا احتيج إليه.

(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: للطهارة.

ص: 151

فإذا كان هناك أذى بين أسنانه فلم يتمكن من إخراجه إلا بالخلال، فإنه يفعل ذلك.

وإن كان عليه وسخ شديد لا يمكن أن يزال إلا بالأشنان ونحوه وبصب الماء الحار ونحو ذلك، فإنه يفعل.

قال: [ويقص شاربه ويقلم أظافره]

هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب إسحاق وسعيد بن المسيب وابن جبير والحسن البصري، قالوا: يستحب تقليم الأظافر وقص الشارب.

وهل يستحب نتف الإبطين؟

المشهور في المذهب كذلك.

وهل تحلق العانة؟

وجهان في مذهب الحنابلة:

الأول: أنه يستحب ذلك بشرط أن يكون ذلك بمزيل من غير أن ينظر إلى عورته.

الثاني: أنه لا يستحب ذلك.

وقال جمهور العلماء: بل لا يستحب شيء من ذلك كله، بل يبقى الميت على هيئته.

وقال بعض الحنابلة: يستحب ذلك إن كان فاحشاً كثيراً.

وهذا – فيما يظهر لي – أظهرها؛ وذلك لأن هذا الشيء الكثير الفاحش من التطهر والتنظف إزالته.

بخلاف مجرد طول في الشارب والإبطين والأظافر، فإن مثل هذا قد لا يحتاج إلى إزالته إلا بعد أن يمر عليه الوقت المحدد، وهو أربعون يوماً.

ولأنه إذا كان طوله ليس بفاحش، فلا يكون مستنكراً إلا مع مرور المدة المتقدمة التي وقّتها النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يصح لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم كانوا يفعلون ذلك، فكان المستحب إبقاء ذلك كله إلا أن يكون فيه فحش، فإنه يزال من باب التنظف والتطهر، والله أعلم.

* استحب الحنابلة – أيضاً – أن تخضب اليدان ونحوها بالحناء.

وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك إلا أن يكون ممن اعتاده في الحياة، وهذا حسن.

أما الأول، فهو ضعيف؛ لعدم الدليل عليه، أما من اعتاده في الحياة فلا بأس بذلك.

قال: [ولا يسرح شعره]

قالوا: لعدم وروده.

ص: 152

وقال الشافعية: بل يستحسن ذلك، فيسرح شعره وظفره، فيستحسن كما يفعل ذلك بشعر المرأة، فلا فرق في هذا بين المرأة والرجل، لاسيما إذا كان شعر الرجل طويلاً، فإنه يحتاج إلى جمع وتسريح ونحو ذلك.

وقد ثبت هذا في شعر المرأة كما سيأتي من حديث أم عطية، قالوا: فكذلك الرجل.

وقال بعض الحنابلة: يستحب أن يكون ذلك بمشط ذي أسنان متباعدة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تساقط شعره.

والأمر – فيما يظهر لي – واسع، فإن فعل هذا، فهو حسن.

قال: [ثم ينشف بثوب]

إذا انتهى من تغسيله، فإنه ينشف بثوب؛ لئلا يبتل الكفن بالماء، فكان المستحب ذلك؛ لئلا يبتل الكفن بالماء.

قال: [ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءها]

لقول أم عطية في غسلها لابنة النبي صلى الله عليه وسلم: (وظفرناها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها) .

وهذا كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن حبان – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اظفرن شعرها ثلاثة قرون) .

ولا بأس أن يكون ذلك مع المشط، فقد ثبت في رواية مسلم:(ومشطناها ثلاثة قرون) .

فيكون تسريح ومشط، وتظفر ثلاثة قرون، هذا هو المستحب كما فعل بابنة النبي صلى الله عليه وسلم بأمر منه عليه الصلاة والسلام.

قال: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حر]

إذاً: قبل السبع كل ما خرج منه شيء، فإنه يغسل، أي يعاد الغسل كاملاً، وهو كما تقدم قول ضعيف.

أما إذا وصل إلى السبع، فلا يعاد؛ لذا قال: " وإن خرج منه شيء بعد سبع، حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حُر - أي خالص صلب – يمنع من خروج الخارج، أو نحوه مما يمنع من خروج الخارج عن الميت.

قال: [ثم يغسل المحل ويوضأ]

ولم يقل: إنه يغسل بدنه – كما في المسألة السابقة –، بل يكتفى حينئذ بغسل المحل وبالوضوء.

ص: 153

فالمشهور في المذهب: أنه إذا خرج منه شيء بعد الثالثة، أعيدت رابعة فخامسة، حتى تكون سبعاً، فإذا خرج شيء بعد السابعة، فلا يعاد التغسيل، بل يكتفى بغسل المحل مع الوضوء.

والراجح – ما تقدم -، وأن الإنقاء إذا حصل بثلاث، فخرج شيء من الخارج، فإنا نكتفي بغسل المحل والوضوء، كما هو مذهب الجمهور، بل الأصح ألا يوضأ، ويكتفى بغسل المحل، كما تقدم ذلك.

قال: [وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل]

كذلك إذا كفن وانتهى من تغسيله، فخرج منه شيء، فإنه لا يعاد الغسل، بل يكتفى بإزالة هذا الخارج وتنظيفه.

وهل يوضأ أم لا؟

قولان لأهل العلم:

القول الأول: ما تقدم، أنه يوضأ.

الثاني، وهو رواية عن أحمد: أنه لا يوضأ، وهو أرجح؛ لأن الوضوء فيه مشقة، وللفارق – كما تقدم – بين الحي والميت، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس السادس والأربعون بعد المئة

(يوم الاثنين: 17 /7 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومُحْرِمٌ ميت كحي)

أي أن أحكام الميت المحرم الذي يموت في إحرام حج أو عمرة هو حكم الميت من غير المحرم، وقد تقدم صفة غسل الميت فلا فرق في تلك الصفة بين الميت المحرم في حج أو عمرة أو غيره إلا ما يذكره المؤلف.

قال: (يغسل بماء وسدر ولا يقرب طيباً)

فلا يمس طيباً، ومن ذلك الكافور فقد تقدم أنه يستحب أن يجعل في الغسلة الثالثة للميت. أما المحرم فلا يجعل فيه كافور ولا غيره من الأطياب.

قال: (ولا يلبس ذكره مخيطاً)

فالذكر لا يلبس مخيطاً، بل يكفن في ثوبيه غير المخيطين، فلا يلبس قمص ونحو ذلك، بل يكون عليه ثوبا الإحرام اللذين أحرم بهما.

قال: (ولا يغطى رأسه)

فلا يوضع على رأسه شيء بل يبقى مكشوفاً.

قال: (ولا وجه أنثى)

ص: 154

فيبقى وجه الأنثى مكشوفاً، لأن إحرام المرأة في وجهها كما هو مقرر في مذهب الحنابلة وسيأتي البحث في هذه المسألة في بابها في كتاب الحج، هذا حكم المحرم الميت.

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)(1)

قال: (ولا يغسل شهيد معركة)

الشهيد: وهو شهيد المعركة لا يغسل، بل يدفن بدمه وثوبه على وجه الخصوص.

ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري عن جابر قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم)(2)، وقال صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح:(زملوهم بدمائهم فإنه ليس كَلْم يُكلم به في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك)(3)

فالحكمة من تركه بدمه من غير تغسيل، أنه يأتي يوم القيامة وهو يدمى وهذا الدم منه لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وهذا لبقاء الأثر لهذه الطاعة العظيمة، وهي طاعة الجهاد في سبيل الله، فهذا الحكم خاص في شهيد المعركة.

(1) تقدم.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1343) ، وانظر (1346)(1347)(1353) .

(3)

أخرجه النسائي في كتاب الجهاد، باب (27) من كُلِمَ في سبيل الله عز وجل (3148) ، والإمام أحمد في المسند في مسند الأنصار، في بداية حديث عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير رقم (24057) .

ص: 155

ويلحق به الشهيد في سبيل الله بأيدي من خرج على إمام عادل، فإن من كان في فريق الإمام العادل، وخروج الخارجون عليه وإن كانوا مسلمين فمن قتل منهم فله هذا الحكم لا يغسل، لأنه قد قتل في سبيل الله كما أن شهيد المعركة – مع الكفار – قد قتل في سبيل الله، وروى البيهقي في سننه أن عماراً دفن بدمه ولم يصل عليه علي رضي الله عنه (1) ، وكان مع أولى الطائفتين بالحق.

فشهيد المعركة سواء كان مقتولاً من جهة الكفار، أو كان مقتولاً من جهة المسلمين في حرب كان هو مع الصف الذي هو على الحق – فله هذا الحكم – من ترك تغسيله.

وأما الشهيد غير ذلك كالشهيد بالغرق أو الطاعون أو المبطون والنفساء ونحو ذلك مما ثبت بالأدلة الشرعية أنه شهادة فإن هذا يغسل ويصلى عليه باتفاق العلماء.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على امرأة نفساء، والنفساء التي تقتلها طفلها من الشهداء، كما صح ذلك في الحديث.

قال: (ومقتول ظلماً)

(1) كذا في الأصل، والذي في السنن الكبرى للبيهقي [4 / 27] رقم (6825) :" أن عليا صلى على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، فجعل عمارا مما يليه، وهاشما أمامه، فلما أدخله القبر جعل عمار أمامه وهاشما مما يليه " قال ابن التركماني: " قال البيهقي في باب زرع أرض غير بغير إذنه: ضعيف عند أهل العلم بالحديث. وأشعث هو ابن سوار ضعفه البيهقي في باب من قال للمبتوتة النفقة، وقال الحاكم: الشعبي لم يسمع من علي، ثم لو ثبت أن عليا صلى عليهما فالشهيد يصلى عليه عند أهل الكوفة وأهل الشام وغيرهم كما تقدم، ولهذا قال صاحب الاستيعاب: دفن علي عمارا في ثيابه ولم يغسله، ويروي أهل الكوفة أنه صلى عليه، وهو مذهبهم في أن الشهداء لا يغسلون ولكنهم يصلى عليهم ".

ص: 156

فمن قتل ظلماً فإنه لا يغسل، لأن المقتول في سبيل الله قد قتل ظلماً وبغير حق - وهذا كذلك – أي المقتول ظلماً لمال أو عرض أو غير ذلك له هذا الحكم.

هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.

وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن من قتل ظلماً فإنه يغسل ويصلى عليه.

وهذا هو القول الراجح الصحيح، فإن عمر رضي الله عنه قد قتل ظلماً وعثمان وعلي وغيرهم، وكانوا يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء، ومع ذلك لم يثبت هذا الحكم فيهم، وإنما ثبت في شهيد المعركة.

بل لو قتل المسلم في أيدي الكفار لكن ذلك عن طريق الاغتيال، ونحوه مما لا يكون فيه قتال ظاهر، فإنه ليس له هذا الحكم.

فعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو شهيد كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد:(اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)(1) فالصديق أبو بكر والشهيدان عمر وعثمان.

ومع ذلك فإنه – أي عمر – قد كفن كما ورد ذلك في البيهقي وغيره وهو مشهور عنه، وكذلك علي كما في البيهقي وغيره (2) ، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.

فعلى ذلك القتيل الذي يقع قتله في غير الصف يبقى على الحكم الأصلي من التغسيل والتكفين.

قال: (إلا أن يكون جنباً)

أي شهيد المعركة لا يغسل إلا أن يكون جنباً.

(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا (3675) . وفي باب (6) مناقب عمر بن الخطاب (3686) ، وانظر (3697) .

(2)

السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] رقم (6820)(6819) فيه قصة عمر رضي الله عنه وفيهما: أنه غسل وكفن وصلي عليه، وأما أثر علي فرقمه (6821) لكن بلفظ:" أن الحسن صلى على علي رضي الله عنهما ". قال ابن التركماني: " يريد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإن البيهقي حكى عنه في الخلافيات أنه من قتل بالمصر ظلما بالمحدد لم يغسل عنده "، حاشية السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] .

ص: 157

ودليل ذلك: ما رواه الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما قتل حنظلة بن عبد الله بن الراهب قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت: " إنه خرج لما سمع الهيعة - الصوت الفزع وهو منادي الجهاد - وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا غسلته الملائكة)(1)

قالوا: فهذا دليل على أن الجنب يغسل، فإن الملائكة قد غسلت حنظلة بن الراهب رضي الله عنه.

- وقال المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: لا يغسل، وهو القول الراجح.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما تقدم من أن حنظلة غسلته الملائكة، والملائكة غير مكلفين بغسل الميت، وإنما المكلف هم من علم بحاله من بني آدم، وأما الملائكة فله حكم آخر، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه أن يغسلوه لكونه جنباً وإنما اكتفى بالخبر أن الملائكة قد غسلته، فهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر بتغسيله.

والأحاديث المتقدمة التي فيها أن الشهيد لا يغسل أحاديث عامة ممن مات جنباً أو طاهراً.

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 22] كتاب الجنائز، باب (82) الجنب يستشهد في المعركة (6814) قال: " حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين بن يعقوب الحافظ، أنبأ محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده في قصة أحد: وقتل شداد بن الأسود الذي كان يقال له ابن شعوب حنظلة بن أبي عامر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته) فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لذلك غسلته الملائكة) . وانظر (6815)(6816) .

ص: 158

وكذلك في المرأة تقتل في سبيل الله حائضاً أو طاهراً فإنها لا تغسل – خلافاً للمشهور في المذهب – وأنها إذا ماتت حائضاً فكالجنب يجب غسلها لحديث حنظلة.

والصحيح ما تقدم: وأن من قتل في سبيل الله سواء كان جنباً أو كانت المرأة حائضاً فإنهم لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد وهذا عام في كل شهيد في سبيل الله.

وأما الخبر بتغسيل الملائكة فهذا خبر عمن لم يتوجه إليه الخطاب وهم الملائكة، ولم يوجه – النبي صلى الله عليه وسلم – الخطاب إلا (1) الآدميين من أوليائه أن يغسلوه.

قال: (ويدفن بدمه في ثيابه)

لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (زملوه في ثيابه)(2) فيكفن في ثيابه التي قتل فيها.

قال: (بعد نزع السلاح والجلود عنه)

لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)(3) ، لكن الحديث فيه عطاء بن السائب وقد اختلط فالحديث إسناده ضعيف.

ولكن القائلين به من الحنابلة لم يقولوا به على وجه الإيجاب، وإنما قالوا به على وجه الاستحباب والأولوية.

أي: يستحب أن ينزع عنه الجلد كأن يكون عليه خفان من جلد أو جبة من جلد فإنها تنزع عنه. وكذلك ما يكون عليه من السلاح من درع ونحوه فإنه ينزع عنه والحديث كما تقدم ضعيف.

- وقال المالكية: بل يدفن في ثيابه كلها، وهذا أظهر، لكن السلاح ينبغي استثناؤه للانتفاع به، أو لا فائدة من دفنه مع الميت بل الفائدة في إبقائه لينتفع به، فالسلاح ونحوه مما ينتفع به ينزع عن الميت.

(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إلى.

(2)

تقدم صْ 119.

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب 31 في الشهيد يغسل رقم (3134) ، وأخرجه كذلك ابن ماجه في الجنائز حديث 1515، باب الصلاة على الشهداء ودفنهم. سنن أبي داود [3 / 498] .

ص: 159

وأما ثيابه سواء كان من جلد أو فرو أو نحو ذلك فإنها تبقى عليه – إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة لنزعها منه – كأن تكون للمسلمين حاجة في هذه الثياب لتكفين الموتى بها وعليه مزيد ثياب فإنه يكفن بها غيره.

إذن: المستحب أن يدفن في ثيابه فلا يجدد له كفن.

فإن كفن في غيرها فلا بأس، فقد ثبت في مسند أحمد أن صفية رضي الله عنها:(أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه بأحدهما وكفن بالآخر رجلاً آخر)(1) فإذن: إذا أحب الولي أو غيره أن يكفنه في ثوب آخر فلا بأس بذلك، لكن المستحب أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها.

قال: (وإن سلبها كفن بغيرها)

إن سلب الثياب في القتال، فوقعت سلباً للكفار فإنه يكفن بثياب أخر.

فما تقدم من الكلام فيما إذا كان عليه ثياب، أما إذا لم يكن عليه ثياب، أو كانت عليه ثياب غير كافية فإنه يكفن بثياب أخرى.

قال: (ولا يصلى عليه)

فشهيد المعركة لا يصلى عليه، لحديث جابر المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم:(لم يغسل شهداء أحد ولم يصل عليهم)(2) ونحوه من حديث أنس في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على شهداء أحد)(3) فهذه الأحاديث تدل على أنه لا تشرع الصلاة على شهيد المعركة.

هذا هو مذهب جمهور العلماء.

وذهب الأحناف: إلى مشروعية ذلك.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج إلى أهل أحد فصلى عليهم كصلاته على الميت)(4)

(1) انظر كتاب الجنائز صْ 79.

(2)

أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 119.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد رقم (1344) ، ومسلم (2296) .

ص: 160

في البخاري: (بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات)(1) أي كان ذلك قبيل وفاته بعد نحو ثمان سنوات من وقعة أحد، وهذا من باب التجوز فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي بعد سبع سنوات وأشهر من غزوة أحد.

واستدلوا: بما رواه الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة فكبر عليه تسع تكبيرات ثم صلى على الشهداء وكل ذلك وهو يصلي على حمزة " (2) يعني في كل واحد من الشهداء يصلي على حمزة ".

قالوا: والحديث حسن.

أما الحديث الثاني وهو ما رواه الطحاوي، فإنه حديث منكر، وقد ضعفه الشافعي وأعله ابن القيم وغيرهم.

فإن المحفوظ عنه في الصحيحين وغيرهما أنه لم يصل على شهداء أحد، ولم يكن هذا ليخفى على جابر وأبوه من شهداء أحد، وكذلك لم يكن ليخفى على أنس وله في أحد شهداء.

أما الحديث المتفق عليه: فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه دعا لهم كدعائه للميت، وهذا يكون فيه الجمع بين ترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عليهم أولاً، ويكون فعله الثاني مجرد الدعاء لهم، لكن قال:(كصلاته على الميت) لبيان أن هذا الدعاء مخصوص فهو كالدعاء الذي يقع في الصلاة على الميت.

ثم لو قلنا: أنه صلى عليهم صلاة كالصلاة المعروفة، فإنه ينبغي أن يقال: بكونه خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يقولون بذلك.

فالظاهر ما تقدم أنه دعاء كالدعاء في صلاة الميت، أو أن يكون ذلك خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة على الميت إنما تشرع عند موته، وأما أن يكون ذلك بعد ثمان سنوات فلا.

فالأظهر مذهب الجمهور وأن شهداء المعركة لا يصلى عليهم لترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

ثم لو قلنا بالحديث الذي ذكره الأحناف فيحسن أن يقال بما هو رواية عن الإمام أحمد: أن الصلاة على الشهيد تركها أولى فإن صلى فلا بأس.

(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب (17) غزوة أحد رقم (4042) .

ص: 161

قال: (وإن سقط عن دابته أو وجد ميتاً ولا أثر به

غسل وصلي عليه)

تقدم أن شهيد المعركة لا يغسل ولا يصلى عليه، وهنا استثناء فإذا سقط عن دابته بغير فعل من الكفار أو وجد ميتاً ولا أثر به فليس هناك جرح يدل على أن هذا الموت كان بسبب الكفار، فإنه يغسل ويصلى عليه.

- هذا هو مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنابلة.

قالوا: لأن الأصل هو تغسيل الميت إلا ما ورد استثناؤه وهو شهيد المعركة وهذا لم يكن قتيلاً في المعركة وإنما حدث الموت له أثناء المعركة.

- وقال الشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة: أنه له حكم الشهداء – حينئذٍ –؛ فإنه قد مات وهو يقاتل في سبيل الله ولا يبعد أن يكون السبب هو ذات القتال، وإن لم يكن ذلك ظاهراً، فإن ذلك وإن لم يظهر لنا لكن الاحتمال فيه قوي، فمظنة سقوطه وموته أن يكون ذلك من الكفار، ولذا فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه.

ولأنه – في الحقيقة – في حكم الشهداء فكان ينبغي أن يلحق بهم، والله أعلم.

* وهنا مسألة قريبة من هذه المسائل: وهي فيمن أصابه سيفه أو أصابته رمية من جهة المسلمين، فكان في ذلك حتفه، فما الحكم؟

قال الحنابلة في المشهور عندهم وهو مذهب الجمهور: إنه يغسل ويصلى عليه.

وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق والقاضي من الحنابلة: له حكم الشهداء.

واستدلوا:

بما ثبت في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً " وهو عامر بن الأكوع " فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه: " في شهادته في سبيل الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مات جاهداً مجاهداً)(1) فكان له حكم الشهداء.

(1) أخرجه مسلم في كتاب (32) الجهاد والسير، باب (43) غزوة خيبر (1802) .

ص: 162

وكان له حكمهم من حيث العموم فإنه لم ينقل لنا أنه خص بحكم سوى حكمهم من ترك تغسيلهم، فكان له حكم شهداء خيبر ممن قتل في سبيل الله تعالى، وهذا القول أظهر.

فالراجح أنه في هذه المسألة لا يغسل ولا يصلى عليه فله حكم الشهداء، لأنه مظنة الموت في المسائل الأخيرة بسبب الكفار والقتال مظنة قوية حيث وجد ميتاً أثناء ذلك.

أما لو علم أن موته ليس بسبب القتال فإن له الحكم الأصلي من كونه يغسل ويصلى عليه.

قال: (أو حمل فأَكَل أو طال بقاؤه عرفاً غسل وصلي عليه)

أي من حمل فأكل أو شرب أو تكلم أو [فعل](1) فعلاً من الأفعال التي يفعلها الحي، أو طال بقاؤه عرفاً.

إذن: إن تكلم أو أكل أو شرب أو نحو ذلك من الأفعال التي تقع من الحي وإن لم يطل بقاؤه عرفاً فإنه يغسل ويصلى عليه.

فإن لم يفعل هذه الأفعال وطال بقاؤه عرفاً، فكذلك يغسل ويصلى عليه.

فالمسألة إذن: من هو الشهيد الذي يترتب عليه الحكم من ترك الصلاة والغسل؟

المشهور في المذهب: أن هذا الحكم خاص فيمن أصيب في المعركة ولم يطل بقاؤه عرفاً بشرط ألا يفعل شيئاً من أفعال الحي من شرب أو كلام ونحو ذلك.

وقال الموفق والمجد ابن تيمية من الحنابلة: بل إن طال بقاؤه عرفاً فهو الذي يخرج من هذا الحكم.

أما مجرد كونه يشرب أو أنه يتكلم أو تأخذه إغفاءة فإن هذا ليس بمؤثر في الحكم ما دام لم يطل الزمن عرفاً إلا أن يأكل فإن الأكل إنما هو من شأن الأحياء.

فعندهم أن من أكل وإن لم يطل بقاؤه عرفاً، فإنه ينتفي عنه الحكم، فيغسل ويصلى عليه.

3-

وقال الشافعية، وهو قول في مذهب الإمام أحمد: لا يثبت هذا الحكم إلا فيمن كان موته قبل انقضاء الحرب. أما لو بقي بعد انقضاء الحرب فحمل إلى جهة المسلمين فإنه يغسل ويصلى عليه.

الترجيح:

(1) ليست في الأصل.

ص: 163

أما ما ذهب إليه الشافعية فإنه ينبغي أن يستثنى منه: ما لو بقي به رمق وهو في أثناء المعركة ثم حدث له الموت وقد علم انتصار هؤلاء على هؤلاء فقد انقضت المعركة، لكن بقي به من رمق ثم كان موته، فإن مثل هذا ينبغي أن يكون له الحكم من ترك التغسيل والصلاة عليه.

وقد روى مالك في موطئه بإسناد منقطع: أن سعد بن الربيع وكان من شهداء أحد كان هكذا (1) ، فإنه قد بقي به رمق بعد انتهاء المعركة ثم مات وكان من شهداء أحد، والسند وإن كان منقطعاً لكن هذه القصة مشهورة في كتب السير.

ثم إنه ليس هناك فارق مؤثر بين أن يموت في أثناء المعركة وأن يبقى به رمق وهو في موضعه ثم يموت بعد انتهائها، في الحقيقة لا فرق بين هاتين الصورتين.

والقول بما ذهب إليه الحنابلة قول فيه قوة - وليس المقصود على إطلاقه بل على إخراج ما ذكروه من الشرب والكلام.

فإن مثل هذه غير مؤثرة في الحقيقة، فإن مثل هذه الأمور تقع ممن يحتضر، فيقع منه الشرب والكلام والتوصية ونحو ذلك، فمثل هذه الأمور ليست بمؤثرة بخلاف الأكل فإنه لا يقع إلا من الأحياء.

فالقول: بأنه متى طال الزمن عرفاً خرج من حكم الشهداء هذا قول قوي؛ لأن الأصل هو بقاء الحكم لما كان أثراً منه، والأثر في موته إنما هو هذه المعركة، وقد بقي زمناً يسيراً في العرف فلم يطل ذلك عرفاً، فكان باقياً في حكم ذلك الأثر الذي أثر به.

أما إذا طال الزمن عرفاً فإنه يخرج من هذا الحكم، فإن سعد بن معاذ قد أصيب بسهم في أكحله في غزوة الخندق - كما ثبت في الصحيحين (2) – ولم يكن له حكم الشهداء بل غسل وصلي عليه.

(1) الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد رقم (1004) .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (77) الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم (463) ، وفي كتاب المغازي، باب (30) مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4122) ، ومسلم (1769) .

ص: 164

وهذا وإن لم ينقل لنا فإنه في حكم المنقول إذ الهمم متوفرة لنقله والدواعي قائمة لنقله، فلو كان له حكم الشهداء لنقل ذلك، بل بقي مسكوتاً على طريقة غسله وتكفينه فكان ذلك إبقاءً على الأصل من كونه يغسل ويكفن؛ لأنه قد طال الفصل عرفاً.

إذن: ينبغي أن يقال: من جرح جرحاً شديداً أثناء القتال فمات فيه أو قبل انقضاء الحرب أو بعد زمن يسير من انقضائها وكان السبب هو هذا الجرح الذي أصابه فله حكم الشهداء.

أما إذا طال الفصل عرفاً، كأن يذهب إلى بلاده ويبقى ممرضاً حتى يأتيه الموت فإنه لا يكون له حكم الشهداء كما هو مشهور عند المسلمين كما في قصة سعد بن معاذ وغيره.

قال: (والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غُسل وصلي عليه)

السقط: من سقط من رحم أمه قبل أن يأتي أوانه.

فهذا الساقط لأربعة أشهر وعند تمامها تنفخ الروح في الجنين في بطن أمه فيكون له حكم الأحياء فإذا سقط بعد أربعة أشهر فإنه يصلى عليه.

وعليه فالجنين الذي يسقط من أمه قبل أربعة أشهر لا يصلى عليه؛ لأنه ليس من الأحياء فلم تثبت له الحياة بعد بل إنما هو قطعة لحم، بل يكون ذلك لمن نفخت فيه الروح ولا يكون ذلك إلا بعد أربعة أشهر كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه (1)

(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب (6) ذكر الملائكة (3208) بلفظ: " قال عبد الله: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن..) .

، وأخرجه أيضا في أبواب أخرى، ومسلم (2643) .

ص: 165

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)(1) رواه الخمسة وإسناده صحيح.

- وذهب جمهور الفقهاء: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه إلا إذا خرج حياً باستهلاله صارخاً فثبت حياً ثم مات بعد ذلك، فلو سقط وهو ابن ثمانية أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل بل يوارى، وأما إن خرج حياً فثبتت له الحياة باستهلاله صارخاً فإنه يثبت له هذا الحكم.

واستدل الجمهور: بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي في الطفل: (لا يغسل ولا يصلى عليه حتى يستهل صارخاً)(2) فالحديث إسناده ضعيف فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.

- فالصحيح مذهب الحنابلة.

قال: (ومن تعذر غسله يُمم)

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه)(1507)، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] .

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب (7) الجنائز، باب (43) ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل (1032) قال:" حدثنا أبو عمار الحُسين بن حُريث، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) قال أبو عيسى: هذا حديث قد اضطرب الناس فيه، فرواه بعضهم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا، وروى أشعث بن سوار وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر موقوفا، وروى محمد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر موقوفا، وكأنّ هذا أصح من الحديث المرفوع ".

ص: 166

إن تعذر غسله كحريق ومن أصيب بمرض في جلده لا يمكن تغسيله فإنه ييمم؛ لأن التيمم يقوم مقام الأغسال الشرعية ومن ذلك غسل الميت، فكما أنه يقوم مقام غسل الجنابة، فكذلك يقوم مقام غسل الميت لأن كليهما تطهير فكلاهما يفعل من باب التعبد والتطهير.

- وعن الإمام أحمد: أنه لا ييمم، لأن المقصود من غُسل الميت تنظيفه والتيمم لا يستفاد منه تنظيفاً.

والقول الأول هو الراجح؛ لأن غسل الميت لا يقصد منه التنظيف فحسب بل يقصد منه التعبد لله عز وجل بتطهير الميت هذا التطهير الشرعي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل ولم يكن محتاجاً إلى التنظيف.

وقد تقدم أثران أنه لا بأس بتحسينهما بمجموعهما في مسألة متشابهة لهذه المسألة - وهي إذا مات رجل بين نسوة أو عكسه فإنهما ييممان – وهي أصل في مشروعية التيمم في غسل الأموات.

قال: (وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً)

الغاسل وهو الأمين العدل يجب عليه إذا رأى من الميت ما يكون فيه شيء من العيب أو الفضيحة أن يستر ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة)(1) رواه أحمد بإسناد صحيح.

وروى الحاكم بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر له [الله] أربعين مرة - وعند الطبراني: أربعين كبيرة - ومن حفر له [فأجنّه] أجري عليه كأجر (2) مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه كساه الله عز وجل من سندس وإستبرق الجنة) (3) والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا فالحديث إسناده صحيح.

إذن: الواجب عليه أن يستر ما رآه، هذا إن كان الميت من أهل السنة.

(1) تقدم.

(2)

في الأصل: أجري له أجر مسكن.. "

(3)

أحكام الجنائز وبدعها، للألباني رحمه الله تعالى ص69.

ص: 167

وأما إن كان من أهل البدعة ورأى أن في بيان أمره ما يجعل الناس يبتعدون عما هو عليه من البدعة والضلالة فإنه يسن ذلك لمصلحة المسلمين (1) .

كما أنه إذا رأى ممن هو معروف بالبدعة - إذا رأى منه - ما هو من بشارات الخير، فلا يخبر بذلك؛ لئلا يغتر المسلمون من الإغرار به.

وأما من كان من أهل السنة فإنه إن رئي منه خير أُظهر ليكون ذلك سبباً للاقتداء به، وإن رأى منه شراً فإنه يخفي ستراً عليه.

والحمد لله رب العالمين

الدرس السابع والأربعون بعد المئة

(يوم الثلاثاء: 18 / 7 / 1415 هـ)

فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب تكفينه في ماله مقدَّماً على دينٍ وغيره)

التكفين واجب، وهو من فروض الكفاية، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم:(وكفنوه في ثوبيه)(2) وهذا أمر والأمر للوجوب.

وهنا قال: (مقدماً على دين وغيره) وإرث ووصية وغير ذلك.

فأول ما يقدم من تركة الميت ما يكون في تجهيزه وتكفينه وأجرة غاسله ونحو ذلك، ومن ذلك الكفن، فإنه يقدم على الدين والإرث والوصية ونحو ذلك.

ولو كان الدين برهن فكذلك يقدم عليه الكفن، فلو كان له دين وقد رهنه واحتيج إلى هذا المال المرهون في تغسيله وتكفينه فإنه يقدم؛ لأن تكفينه يقوم مقام كسوته في الحياة، ومعلوم أن الكسوة في الحياة مقدمة على حق الدائن وغيره، فإن من كان عليه دين وكان له شيء يحتاج إليه في كسوة وغيرها فإنه يقدم على حق الدائن.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بتكفين المحرم في ثوبيه وأمر بتكفين الشهداء في ثيابهم لم يستفصل ولم يستثن إن كان عليهم دين، ولا شك أن الدين في مثل هذا العدد الكثير لا يخلو.

(1) قال أحمد: " لا أشهد الجهمية ولا الرافضة.. " المغني [3 / 506] .

(2)

تقدم.

ص: 168

فعلى ذلك أول ما يقدم من التركة ما يكون في شأن ما يحتاج إليه الميت من تغسيل وتكفين ونحو ذلك. لكن الطيب والحنوط ليس بواجب بل هو مستحب فعلى ذلك يقدم عليه غيره إلا إن رضي بذلك صاحب الحق.

قال: (فإن لم يكن مال فعلى من تلزمه نفقته)

فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته في الحياة.

فالوالد مثلاً ينفق على ولده فيجب أن يتكفل الوالد بتكفين ولده وما يحتاج من تجهيزه.

قال: (إلا الزوج فإنه لا يلزمه كفن امرأته)

هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب الأحناف.

قالوا: لأنه لما ماتت زوجته قد امتنع الانتفاع بها فلم يجب الإنفاق عليها كالبائن والناشز.

وقال الشافعية في الأشهر عندهم وهو قول في مذهب الإمام مالك وقول في مذهب الإمام أحمد وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن تجهيز المرأة واجب على زوجها – وهذا القول أرجح –؛ وذلك لأن إنفاق الزوج على زوجته واجب ما دامت زوجة له، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة:(لو مت لغسلتك ثم كفنتك)(1) الحديث، فدل هذا على بقاء معنى الزوجية.

ولأن من وجبت عليه النفقة في الحياة فيجب عليه الكفن والتجهيز بعد الممات، كما يجب على السيد تجاه رقيقه وهذا بالاتفاق، ولأن النشوز فعل من الزوجة اقتضى أن تؤدب بمنعها من النفقة، وأما البينونة فهو انفصال تام بحيث أن المرأة قد انتقلت إلى نفقة غيره إما بزواج أو بأن ترجع إلى من ينفق عليها سابقاً، أما هنا فإن معنى الزوجية باق بدليل جواز تغسيلها باتفاق العلماء وبالأحاديث السابقة.

فعلى ذلك الأرجح – وهو الأشهر في مذهب الشافعية -: أن الزوج يلزمه الإنفاق على زوجته في تكفينها وتجهيزها.

ثم بعد ذلك – أي بعد من تلزمه النفقة في الحياة - يكون ذلك إلى بيت المال؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين وهذا من المسلمين وهو محتاج إلى ذلك.

(1) رواه ابن ماجه، وقد تقدم.

ص: 169

فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يقم بيت المال بهذا، فيجب على من علم حاله من المسلمين أن يقوم بتجهيزه ويتعين ذلك.

قال ابن تيميه: " ومن علم حاله وعلم أنه ليس هناك من يقوم به فإن ذلك يتعين عليه ".

ومثل ذلك لو بلغ طائفة من الناس موته وعلم أنه ليس هناك من ينفق عليه فيجب عليهم بمجموعهم أن يقوموا بالنفقة عليه في تجهيزه وتكفينه فإن قام بعضهم فإنه يسقط الإثم عن باقيهم.

قال: (ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض)

لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحولية "، ضبطت " سُحولية " وهي نسبة إلى بلدة في اليمن تصنع فيها هذه اللفائف " من كرسف - من قطن - ليس فيها قميص ولا عمامة)(1)، وفي مسند أحمد:(جدد يمانية)(2) .

فهذا هو المستحب أن تكون بيضاً جدداً وأن تكون من قطن.

ومما يدل على استحباب كونها بيضاً ما ثبت في سنن الأربعة إلا النسائي وهو ثابت في مسند أحمد وصححه الترمذي وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم)(3) وفي النسائي من حديث سمرة: (فإنها أطيب وأطهر)(4) .

قال: (تُجمّر)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (25) الكفن ولا عمامة (1273) ، باب (24) الكفن بغير قميص (1271)(1272) ، ومسلم (941) .

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (25381) .

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب (14) في الأمر بالكحل (3878) ، والترمذي في الجنائز (994) باب ما يستحب من الأكفان، وقال:" حسن صحيح "، وابن ماجه في اللباس، باب البياض من الثياب (3566) .

(4)

أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (38) أي الكفن خير (1896) عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم ".

ص: 170

أي تبخر، فتبخر هذه اللفائف بالبخور، ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً)(1)، وثبت في الموطأ بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت:(أجمروا ثيابي إذا مت ثم حنطوني ولا تذروا على كفني حِناطاً " أي طيباً " ولا تتبعوني بنار)(2) والشاهد قولها: " أجمروا ثيابي إذا مت) .

ويستحسن أن يرش عليها ماء ورد أو نحوه من المياه التي تسبب علوق البخور بالثوب.

قال: (ثم تبسط بعضها فوق بعض)

أي توضع ثلاث طبقات على الأرض.

قال: (ويجعل الحنوط فيما بينها)

الحنوط: أخلاط من طيب ولا يسمى حنوطاً إلا إذا أعد للميت، والذي يدل على استحباب الحنوط قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – فيمن وقصته ناقته فمات:(ولا تحنطوه)(3) فدل على أن المتقرر عندهم هو تحنيط الميت أي تطييبه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب) ولقول أسماء: (ثم حنطوني)(4) فالحنوط مستحب.

(فيما بينها) أي توضع الحنوط فيما بين هذه اللفائف.

قال: (ثم يوضع عليها مستلقياً)

أي يوضع عليها الميت مستلقياً على ظهره.

قال: (ويجعل منه في قطن بين أليتيه ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع أليته ومثانته)

أي يجعل من الحنوط في قطن بين أليته ليسد الخارج وليطيب هذا المحل الذي خرج منه الخارج الخبث.

(ويشد فوقها خرقة) : أي يشد فوق الأليتين خرقة مشقوقة الطرف أي في كل طرف من الخرقة شقان حتى تكون كالتبان وهو السروال القصير، ويربط كل طرف بالآخر من الخلف مستوي من الإمام، وطرف الخلف فيربط على الفخذ الأيمن وهكذا على الفخذ الأيسر.

" المثانة " هي مخرج البول.

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (14594) .

(2)

أخرجه مالك في الموطأ بنفس اللفظ، في كتاب الجنائز، باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار (530) .

(3)

تقدم.

ص: 171

قال: (ويجعل الباقي على منافذ وجهه)

أي يجعل الباقي من هذا القطن الذي جعل فيه الحنوط.

فيجعل على منافذ وجهه يعنى في منخريه وفي عينيه وفمه لتمنع دخول الهوام فيها ولتسترها من الأذى.

قال: (ومواضع سجوده)

يعني الركبتين وأطراف القدمين والجبهة واليدين، نطيب هذه (1) المواضع تشريفاً لها، وكذلك المغابن وهي مواضع ثني اليدين كطي الركبتين والإبطين.

قال: (وإن طيب كله فحسن) .

وهذه اجتهادات لا بأس فهي من تطييب الميت ووضع الطيب في المواضع التي يستحسن أن يوضع فيها الطيب، فالمقصود إنما هو تطييبه.

فإن طيبه بما ذكر المؤلف فحسن، وإن طيبه بطريقة أخرى نافعة فكذلك، وإن طيبه كله فهذا أيضاً حسن إن شاء الله.

قال: (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر من فوقه ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك)

فإذا وضع بين اللفائف مستلقياً على ظهره، يرد طرف اللفافة اليمنى على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوقه. ثم الثانية والثالثة كذلك.

ودليل هذا ما ثبت في مسند أحمد من حديث عائشة المتقدم وفيه: (ثم أدرج فيها أدراجاً) وهذا هو الإدراج، والإدراج هو الطي.

فالصفة: أن يوضع الميت وسط اللفائف ثم يرد الشق الأيمن من العليا ثم الشق الأيسر ويكون فوقه الشق الأيمن ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك.

قال: (ويجعل أكثر الفاضل على (2) رأسه) .

(1) في الأصل: هذا.

(2)

وفي نسخة: عند رأسه

ص: 172

ما يفضل من اللفائف علواً وسفلاً يكون أكثره من جهة الرأس تشريفاً له. وقد قال خباب بن الأرت كما في الصحيحين: (قتل مصعب بن عمير فلم نجد ما نكفنه فيه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تغطى رأسه وأن يجعل على رجليه من الإذخر)(1) فهذا يدل على تقديم الرأس على الرجلين.

قال: (ثم يعقدها وتحل في القبر)

فإذا انتهى من التكفين وجعل الفاضل من جهة الرأس فإنه يعقدها يعني بحبل، فيعقد من الأعلى بحبل ومن الأسفل بحبل أيضاً؛ وذلك لئلا تنشر هذه اللفائف أثناء حمل الميت فالمقصود من هذه اللفائف إنما هو لئلا تنشر أثناء حملة، لذا قال:(وتحل في القبر) فتنتهي الفائدة من عقدها إذا وضع في قبره فحينئذ تفك هذه الحبال.

قال: (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز)

إذا لم يكفن على الطريقة السابقة بل كفن في قميص، وهو الثوب المعروف عندنا، فإذا لبس قميصاً، ولبس إزاراً ثم غطى بخرقة أديرت على بدنه فلا بأس بذلك.

وقد ثبت في موطأ مالك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (الميت يقمَّص ويؤزر ويلف في الثوب الثاني (2) فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه) .

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (لما توفى عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله] أعطني قميصك أكفنه فيه [وصل عليه واستغفر له] ، فأعطاه قميصه)(3) فلا بأس بذلك لكن الأفضل ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار وخمار وقميص ولفافتين)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (27) إذا لم يجد كفنا (1276) ، ومسلم (940) .

(2)

لعلها: الثالث، كما في الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي ص110. كتاب الجنائز رقم (525) قبل باب المشي أمام الجنازة.

(3)

الزيادات من فتح الباري: 3 / 165.

ص: 173

المرأة المستحب أن تكفن في خمسة أثواب.

إزار – وتقوم مقامه السروال –.

وخمار يغطى به الوجه والرأس.

وقميص وهو الثوب المعروف.

ولفافتين.

وذلك لما روى أحمد وأبو داود من حديث ليلى الثقفية: (أنها كانت فيمن غسَّل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فكان أول ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم – يعني لتكفينها – الحِقاء وهو الإزار - ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم بعد ثوب)(1) أي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهن لابنته وهي تغسل – الكفن فكان أول ما أعطاهن الحقاء وهو الإزار، ثم الدرع وهو القميص ثم الخمار ثم الملحفة وهي مثل العباءة ثم ثوب آخر، والملحفة في الحقيقة تقوم مقام اللفافة فحينئذ قال المؤلف " لفافتين "، لكن الحديث فيه: نوح بن حكيم الثقفي وهو مجهول.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (36) في كفن المرأة (3157) قال:" حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة بن مسعود، يقال له داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ليلى بنت قانِفٍ الثقفية قالت: كنت فيمن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أُدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا "، وانظر حاشية الروض المربع: 3 / 75.

ص: 174

لكن ذكر الحافظ في الفتح أن الجوزقي – هو إمام نيسابوري – له مستخرج على صحيح مسلم وكان إماماً حافظاً متقناً توفي سنة 388 هـ: أنه روى بسنده عن أم عطية أنها قالت في تكفين بنت النبي صلى الله عليه وسلم – ولعلها أم كلثوم أو غيرها على اختلاف بين العلماء – قالت: (فكفناها بخمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي) قال الحافظ: " وهذه زيادة صحيحة الإسناد "(1) .

فهذا يشهد لما ورد في أبي داود من رواية نوح بن حكيم وهو مجهول، لكن هذا السند يشهد لروايته وهو كما قال الحافظ " سند صحيح ".

ويشهد لها المعنى، فإن الأولى في المرأة أن تكون في تكفينها أكثر من الرجل لأنها أولى بالستر منه، بدليل أنها تحتاج إلى الستر في الحياة والتغطية أكثر من الرجل، فكذلك في الممات، ولهذا ذهب جماهير العلماء إلى هذا فاستحبوا أن تكفن المرأة في خمسة أثواب.

ويخفف في الجارية والصبي.

فالصبي – كما ذكر فقهاء الحنابلة وغيرهم -: يكفي أن يكفن في ثوب واحد، وأما الجارية فإنه يكفي أن تلبس قميصاً وتوضع عليها لفافتين، وذلك للتخفيف في عورتهما، فهنا محل للتخفيف فلم يتشدد فيهما كما يتشدد في الرجل والمرأة.

قال: (والواجب ثوب يستر جميعه)

فالواجب: أن يغطى بثوب يستر جميعه؛ لأن هذه هي حقيقة التكفين.

فكونه مُجْزءاً؛ لأن حقيقة التكفين التي أمر بها الشارع تثبت به.

وأما ما ورد من الفعل المتقدم فهو مجرد فعل والفعل لا يدل على الوجوب فهو يدل على الاستحباب.

فإذن: القدر المجزئ من التكفين أن تدار عليه لفافة تغطي بدنه.

أما المستحب فهو ما تقدم في حق المرأة والرجل والصبي والجارية.

فإن كان هناك ثوب لا يستر بدنه كله، فإنه يقدم ستر العورة ثم يدفن على تلك الحال ويغطى سائر بدنه بشيء من الأعشاب الطيبة كالإذخر ونحوه.

(1) فتح الباري [3 / 159] طبعة دار الريان للتراث.

ص: 175

وإن كان يستر فيه عورته ومنه فضل فإنه يكون من نصيب الرأس وتكون القدمان مكشوفتين ويوضع عليهما شيء من الإذخر ونحوه لما تقدم في حديث خباب رضي الله عنه (1) .

والحمد لله رب العالمين

الدرس الثامن والأربعون بعد المئة

(يوم الجمعة: 21 / 7 / 1415هـ)

فصل

في حكم الصلاة على الميت وصفتها، وما في ذلك من المسائل.

الصلاة على الميت فرض كفاية – كما تقدم في درس سابق –.

والمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: أنه إذا صلى عليه مكلف واحد ذكراً كان أو أنثى فإن هذا الواجب الكفائي يسقط بذلك، لأن الواجب الكفائي متى قام به من يفعله فإنه يسقط الإثم عن الباقين.

وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا ثلاثة، وهو قول في مذهب الإمام الشافعي.

وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا جماعة، واثنان فما فوق جماعة.

وما ذكره الحنابلة – من أنه إن صلى عليه مكلف فإنه يكفي – قوي، لكن هذا القول يتردد في قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا على صاحبكم)(2) كما ثبت ذلك في الصحيحين في قصة المدين، ومثل هذا الأمر موجه إلى جماعة فكان الواجب أن يصلى عليه جماعة ولم يقل: ليصل عليه أحد منكم فدل ذلك على أنه واجب على جماعة منهم، فإذا صلى عليه من يثبت أنه جماعة فإنه يسقط الإثم عن الباقين – والله أعلم –.

(1) تقدم أنه في الصحيحين.

(2)

أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع في كتاب الحوالات باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وفي كتاب الكفالة، باب (3) من تكفل عن ميت دينا.. (2295) ، ومن حديث أبي هريرة في كتاب الكفالة، باب (5) الدين (2298) ، ومسلم (1619)

ص: 176

ويستحب أن يقسم المصلون عليه ثلاث صفوف إن كان المصلون عليه فيهم قلة. لما روى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)(1) لكن الحديث فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن.

لكن للتقسيم إلى ثلاثة صفوف شاهد عند الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكنه يشهد لما قبله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ومعه سبعة فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً واثنين صفاً)(2) من حديث أبي أمامة.

أما إن كانوا كثرة فإنه لا يقسمهم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نعى النجاشي فخرج بهم إلى المصلى)(3) الحديث وفيه قال جابر: (فصففنا صفين)(4) .

(1) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (40) ماجاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت (1028) . قال الترمذي:" وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن، هكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا، ورواية هؤلاء أصح عندنا ".

(3)

أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (55) الصفوف على الجنازة، (1318) ، وانظر (1242) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (951) .

(4)

هذه الزيادة في صحيح مسلم من حديث جابر في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (952) ، وهو في البخاري (1317)، باب (54) من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام بلفظ:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث "، وفي رواية له (1320) :" كنت في الصف الثاني ".

ص: 177

وقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم من حديث ابن عباس: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)(1)، وهو ثابت في مسلم من حديث عائشة إلا أنها قالت:(مائة)(2) .

والعدد لا مفهوم له، فمن صلى عليه طائفة من المسلمين يبلغون أربعين أو أكثر من ذلك أو مئة فصلوا عليه ودعوا الله له إلا شفعهم الله فيه.

ويأمرهم بتسوية الصفوف لأنها صلاة كغيرها من الصلوات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (السنة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسْطها)

هذه السنة: أن يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.

أما كونه يقوم عند وسط المرأة فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسْطها)(3) .

وأما كونه يقوم عند صدر الرجل فذكروا أثراً عن ابن عباس يبين ذلك – من غير أن يعزوه، ومن غير ذكر سند يمكن أن ينظر فيه.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (19) من صلى عليه أربعون شفعوا فيه (948) .

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (18) من صلى عليه مئة شفعوا فيه (947) .

(3)

أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (63) الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، وكذلك برقم (1332) و (332) ، ومسلم (964) .

ص: 178

ومع ذلك فلو ثبت فإنه مخالف بما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي عن أنس: (أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند وسطها فقيل له: أهكذا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم عند الرجل كما قمت ويقوم عند المرأة كما قمت؟ فقال: نعم)(1) .

وهذا القول: رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة – وهو القول الراجح –، فالمستحب أن يقوم عند رأس الرجل وعند وسط المرأة.

والمستحب له أن يقوم عند وسطها مطلقاً سواء كان بدنها مغطى بنعش أو لم يكن ذلك.

ودليل ذلك: ما ورد في رواية لأبي داود الطيالسي في حديث أنس المتقدم – أنه صلى على امرأة فقام عند وسطها – في رواية لأبي داود الطيالسي: (وعليها نعش أخضر)(2) .

أما ما في أبي داود: من أن ذلك – أي صلاة عند وسطها " قبل أن تكون النعوش " فإن هذا قول من بعض الرواة، وأنس قد خالفه في فعله ونسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فالمستحب مطلقاً أن يقوم عند وسطها وإن كانت مغطاة بنعش لا يبدي شيئاً منها، فليس المقصود من ذلك تغطية بدنها، بل لو كان عليها نعش فإنه يستحب ذلك.

فإن كانت هناك جنائز كثيرة فإنه يساوي بين الرجال والنساء فتكون رؤوسهم سواء.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (57) أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه (3194) وهو حديث طويل، وأخرجه الترمذي في الجنائز (1034) باب أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، وابن ماجه في الجنائز حديث 1494، باب أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 535] .

(2)

أخرجه أبو داود في سننه في الباب المتقدم.

ص: 179

ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي عن نافع أن ابن عمر: (صلى على تسع جنائز فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة وصفهم صفاً واحداً)(1)، وعند عبد الرزاق:(وجعل رؤوسهم واحدة)(2) . وفيه سنة أخرى وهي أن الرجال يكونون فيما يلي الإمام، والنساء فيما يلي القبلة، وإن كانوا غلماناً.

ويدل على ذلك تمام الأثر، وتمامه:(ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي ومعها غلام لها يقال له: زيد، فجعل الغلام مما يلي الإمام وفي الناس ابن عمرو وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، قال رجل: فنظرت إليهم وقلت: ما هذا؟ فقالوا: هي السنة)(3) .

قال: (ويكبر أربعاً)

لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر بهم أربعاً)(4) وسيأتي ما ورد عنه من التكبيرات الأخر.

قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة)

أي ولا يستفتح فلا يشرع له الاستفتاح، وهذا هو مذهب أكثر العلماء خلافاً للأحناف – لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن صلاة الجنازة ينبغي فيها التخفيف.

فلا يسن له أن يستفتح بل يستعيذ ويبسمل ثم يشرع بالفاتحة.

(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (75) اجتماع جنائز الرجال والنساء (1978) .

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجنائز، باب أين توضع المرأة من الرجل (6348) بلفظ: عن ابن عمر أنه كان يساوي بين رؤوسهم إذا صلى على الرجال والنساء ". المصنف [3 / 467] .

(3)

أخرجه النسائي، وتقدم قريباً.

(4)

تقدم أنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح البخاري حديث (1318)(1332)، ومن حديث جابر رضي الله عنه (1334) بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً "، ومسلم (951)(952) .

ص: 180

ودليل مشروعيتها ما ثبت في البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة)(1)، وفي النسائي:(لتعلموا أنها سنة وحق)(2) وفي النسائي – أيضاً: (أنه قرأ بفاتحة الكتاب وسورة)(3) .

وينبغي – كما قال النووي – أن تكون هذه السورة خفيفة؛ لأن المقام يقتضي التخفيف من التعجل بالميت بدفنه، فإن قرأ سورة فهو حسن لثبوت ذلك عن ابن عباس ورفعه ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اكتفى بالفاتحة فكذلك.

قال: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد)

وقد ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف قال: (من السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم يكبر ثلاثاً ثم يسلم في الآخرة)(4) .

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (66) قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (1335) بلفظ " ليعلموا أنها سنة ".

(2)

أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (77) الدعاء (1988) .

(3)

نفس الباب السابق، حديث (1987) .

(4)

آخر حديثين في الباب السابق (1989)(1990)، أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى: ص154

ص: 181

وفي رواية للحاكم والبيهقي – بعد أن ذكر التكبيرة الأولى - قال: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث)(1)

فدل على أن المشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بعد التكبيرة الثانية.

(كالتشهد) : لأن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد

) (2) وتقدم الحديث في صفة الصلاة.

فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كصفة صلاته في تشهده.

وإن صلى عليه على كيفية أخرى، كأن يقول اللهم صل على النبي، أجزأه ذلك.

(1) سنن البيهقي [4 / 64] ، كتاب الجنائز، باب القراءة في صلاة الجنازة (6959) قال:" وأخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه ".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797)(63357) ، ومسلم (406) .

ص: 182

والذي يظهر لي أن الأولى أن يقتصر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بما يتوسع له به الدعاء للميت فلا يطيل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام مقام الدعاء للميت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت في أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن:(إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)(1) أي لا تشوبوه بغيره، فاجعلوا الدعاء له.

قال: (ويدعو في الثالثة)

إذا كبر الثالثة دعا.

والذي يظهر لي – ما تقدم - وأنه لا يكتفي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية بل يدعو للميت، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، فقد قال أبو أمامة فيما تقدم قال:(ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث) .

ولذا قال النووي: " لا أعلم لتخصيص الفقهاء الدعاء في التكبيرة الثالثة دليلاً "(2) .

وظاهر حديث أبي أمامة المتقدم أنه بعد التكبيرة الثانية يكون للميت نصيب من الدعاء وبعد الثالثة كذلك، وبعد الرابعة كذلك.

قال: (فيقول

)

فيدعو بما ورد استحباباً، فإن دعا بأي دعاء من الدعاء المباح للميت فلا بأس باتفاق أهل العلم، لكن الأفضل له أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه على عليهما)

ولفظة " السنة " ولفظة " وأنت على كل شيء قدير " زادهما الموفق رحمه الله تعالى.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (60) الدعاء للميت (3199) ، وابن ماجه في الجنائز حديث (1497) ، باب الدعاء في الصلاة على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 538] .

ص: 183

وأما لفظة " إنك تعلم منقلبنا ومثوانا " فلم أقف على شيء يدل عليها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها من الدعاء المباح.

لكن الذي يظهر لي: إنا وإن قلنا بأن الدعاء بما شاء مباح لكن الذي ينبغي له إذا دعا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتفي به؛ لئلا يقع في القلب أن في دعائه قصوراً، بل دعوته دعوة جامعة مانعة، فإذا دعا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيأتي به بلفظه ثم يزيد بعد ذلك ما شاء من الدعاء المباح.

والوارد عنه فيما رواه الأربعة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة " (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده)(1) .

قال: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدْخله " وهو القبر " واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار وافسح له في قبره ونوِّر له فيه)

(1) أخرجه أبو داود في الباب المتقدم (3201) ، والترمذي في الجنائز حديث 1024، باب ما يقول في الصلاة على الميت،، والنسائي في الجنائز حديث 1988 باب الدعاء، وقال الترمذي:" حديث أبي إبراهيم حديث حسن صحيح ".سنن أبي داود [3 / 539] .

ص: 184

الوارد من ذلك ما ثبت في مسلم من حديث عوف بن مالك قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسّع مدْخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً من زوجه) ولا يقال مثل هذا اللفظ للأنثى (اللهم أدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار)(1) .

وأما ما ذكره المؤلف سوى الوارد فهو من الدعاء المباح كما تقدم.

قال: (وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرَطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثَقِّل به موازينهما وأعظم به أجورها وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم)

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (26) الدعاء للميت في الصلاة (963) بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج البرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار – قال: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت "، وفي رواية عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار " قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت ".

ص: 185

هذا من الدعاء المباح، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السقط:(ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)(1) يعني في الصلاة عليه يشتغل بالدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة.

وثبت عن أبي هريرة – بإسناد حسن – أنه صلى على طفل فقال: (اللهم اجعله سلفاً وفرطاً وأجراً)(2) .

فالمقصود: أنه يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة ويدعو للطفل بنحو ما تقدم من كونه بكفالة إبراهيم ونحو ذلك من الدعاء المباح المناسب للمقام فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الدعاء للميت فقال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)(3)

قال: (ويقف بعد الرابعة قليلاً ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه)

وتقدم – وقال المجد ابن تيمية بجواز ذلك – تقدم أن المستحب له بعد التكبيرة الرابعة أن يدعو للميت كما في حديث أبي أمامة: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث)(4) فالتكبيرات الثلاث كلها دعاء للميت، فإذا كبر الرابعة دعا قليلاً للميت ثم سلم.

(ثم يسلم واحدة عن يمينه) :

- هذا هو المستحب وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المستحب أن يسلم واحدة عن يمينه.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه)(1507)، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] . وقد تقدم صْ 127.

(3)

أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم قريباً.

(4)

تقدم.

ص: 186

ودليل ذلك: ما رواه الدارقطني بإسناد حسن ورواه الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة)(1) .

وهو مذهب أكثر الصحابة بل لا يعلم – لمن سيأتي ذكرهم – مخالف من الصحابة، قال الحاكم:" وبه صحت الرواية عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة، وأنهم كلهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة "(2) ووافقه الذهبي.

وروى غالب هذه الآثار مسندة البيهقي في سننه (3) – وهو آثار لا يعلم لها مخالف صريح من الصحابة.

- وقال الشافعية: يستحب أن يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره.

واستدلوا بما روى البيهقي في سننه بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: (ثلاث خلال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس: إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة)(4) وهذا الأثر محتمل، فيحتمل أن يكون مراده أنه يجهر بالسلام فيجهر بالتسليم كما يجهر بالتسليم في الصلاة.

ويحتمل أن يكون المراد أصل السلام أي أنه كان يسلم وأن الناس قد تركوا السلام في صلاة الجنازة.

أو أن المراد: أنه كان يقول: السلام عليكم ورحمة الله.

ويحتمل أن يكون يسلم عن يمينه وشماله.

(1) أخرجه الدارقطني في سننه في أول باب التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة من كتاب الجنائز (1793) . والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم، سنن الدارقطني [2 / 220] .

(3)

السنن الكبرى للبيهقي [4 / 70] .

(4)

السنن الكبرى للبيهقي [4 / 71] كتاب الجنائز، باب (123) من قال يسلم عن يمينه وعن شماله (6989) .

ص: 187

وظاهر هذا اللفظ دخول هذه الاحتمالات كلها فيكون قد جهر بسلامه، وقد سلم بالألفاظ الواردة في الصلاة، وأن يكون ذلك عن يمينه وعن شماله، لكن هذه أضعفها؛ لأنها مخالفة لما ورد في الحديث المتقدم وهو حديث الدارقطني، ولكونها مخالفة لما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً.

ومع ذلك فيحسن القول بجواز هذه الصورة وأنه إن سلم تسليمتين عن يمينه وشماله فلا بأس، وإن كان الأولى له أن يسلم واحد [اً] عن يمينه.

وهل يستحب له أن يجهر بالتسليم أم يخافت؟

أثر ابن مسعود المتقدم يدل على أن المستحب له أن يجهر فإنه قال: " مثل التسليم في الصلاة " والتسليم في الصلاة يجهر به، وهو ثابت عن ابن عمر – في البيهقي – بإسناد صحيح:(أنه كان إذا سلم على الجنازة يسمع سلامه من يليه)(1) .

وقد ورد في الحاكم في حديث أبي أمامة المتقدم قال: (ويسلم سراً)، وهو ثابت عن ابن عباس بإسناد حسن:(أنه كان إذا سلم على الجنازة سلم خُفية)(2) .

فهذه الآثار تدل على أنه لا بأس بالجهر ولا بأس بالمخافتة، فيلتفت عن يمينه ويسر بالسلام، فسواء جهر أو أسر فلا بأس بذلك.

ولا يستحب له أن يجهر بفاتحة الكتاب، وفي أثر أبي أمامة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب مخافتة)(3) فلا يستحب الجهر بها إلا للتعليم.

قال: (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)

حكم رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز؟

أجمع أهل العلم على استحباب رفع اليدين في التكبيرة الأولى، كما حكاه ابن المنذر وغيره.

(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (125) من قال يسلم حتى يسمع من يليه (6992) .

(2)

السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (124) من قال يسلم تسليما خفيا (6990) .

(3)

تقدم.

ص: 188

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في ذلك لكنه لا يثبت، فلا يصح عنه حديث في هذا الباب لكن الإجماع ثابت.

وأما في سائر التكبيرات سوى التكبيرة الأولى:

فمذهب الجمهور: استحباب ذلك.

ومذهب الأحناف: عدم استحبابه، واستدلوا بعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما دليل الجمهور فقالوا: هذا تكبير عن قيام، والتكبير عن القيام في الصلاة يستحب أن ترفع فيه الأيدي، كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الكلام على صفة صلاة العيد.

وقد ورد هذا صريحاً عن ابن عمر، فقد ثبت عنه فيما رواه البيهقي بإسناد صحيح:(أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنائز كلها)(1) ، فهذا فعل صاحب لا يعلم له مخالف، وظاهر السنة يوافقه كما تقدم في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها عند ذكر تكبيرات العيد الزوائد.

إذن يستحب له أن يرفع يديه مع كل تكبيرة.

فعلى ذلك صفة صلاة الجنازة – في المشهور في المذهب –: يكبر رافعاً يديه، ويقرأ فاتحة الكتاب سراً ثم يكبر ثانية رافعاً يديه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ثالثة رافعاً يديه ثم يدعو للميت بما تقدم سواء كان بدعاء من عنده من الدعاء المباح أو كان ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع يديه مكبراً الرابعة ولا يدعو ولا يسبح ولا يستغفر بل يسكت ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه.

(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 73] كتاب الجنائز، باب (126) يرفع يديه في كل تكبيرة (6993) .

ص: 189

وأما صفتها على الطريقة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكبر رافعاً يديه ويقرأ بفاتحة الكتاب وإن شاء سورة قصيرة وتقرأ مخافتة، ثم يكبر الثانية والثالثة والرابعة في كل ذلك يرفع يديه ويشتغل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه التكبيرات الثلاث، والأولى أن تكون بعد التكبيرة الثانية ويخلص الدعاء للميت، وإذا كبر للرابعة دعا للميت ثم سلم عن يمينه، وإن سلم عن يمينه ويساره فذلك حسن أيضاً، والله أعلم.

مسألة:

الأولى بأن يصلي على الميت وصيه إن كان عدلاً صالحاً للإمامة قال الإمام أحمد: " وأوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وأوصى عمر أن يصلى عليه صهيب، وأوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأوصى أبو بكرة أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي "(1) رضي الله عنهم أجمعين، وذكر بعض أهل العلم غير ذلك وهذه قضايا اشتهرت وانتشرت ولم يعلم لها مخالف، ومع ذلك فهي الأحب إلى الميت.

ثم ثانياً: إمام الناس، فإمام المسجد هو أولى الناس بعده؛ لعموم حديث:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)(2) وهذا عام في صلاة الجنازة وغيرها، وقال عمرو بن سلمة – وتقدم حديثه، وفي أبي داود:(وكنت أؤمهم في الجنائز)(3) .

وقال الحسن: " أدركت الناس وأخصهم بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم "(4)، وفي الحاكم بإسناد حسن:" أن الحسين قدَّم سعيد بن العاص -وكان أمير المدينة – للصلاة على الحسن بن علي وقال: (قدمتك ولولا أنها سنة ما قدمتك) "(5) .

ثم أولياء الميت على حسب ترتيبهم المتقدم في غُسله.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس التاسع والأربعون بعد المئة

(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة (673) .

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (61) من أحق بالإمامة (587) .

(4)

ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (57) سنة الصلاة على الجنائز.

ص: 190

(يوم السبت: 22 / 7 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها قيام)

هنا يذكر المؤلف رحمه الله تعالى واجبات صلاة الجنازة وأركانها فقال: " قيام "

فالقيام ركن فيها كما هو ركن في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)(1) وقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، فالواجب أن يصليها قائماً؛ لأنها فريضة، فهي من فروض الكفاية والواجب في الصلاة التي يصليها فريضة أن يصليها قائماً.

لكن إن كانت نافلة فإن له أن يصليها قاعداً، والسنة أن يصليها قائماً، فلو تكررت الصلاة على الجنازة فصلى عليها مراراً فالصلاة الأولى فرض والصلوات الأخر نافلة فيجوز له في الصلوات الأخر أن يصلي قاعداً مع أن السنة القيام.

فإذن: يجب القيام مع كونها فرضاً – أي فرض كفاية – وذلك إنما يكون في الصلاة الأولى، أما إذا تكررت فصلى أحد من المصلين قعوداً فلا بأس بذلك.

قال: (والتكبيرات)

أي يجب أن يصلي بأربع تكبيرات؛ لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد كبر أربع تكبيرات فأكثر، ولم يصح عنه أن كبر على الجنائز ثلاثاً.

وروى ابن حزم في كتابه بسنده وقال: - هو سند صحيح – وهو كما قال: (أن ابن عباس كبر على الجنائز ثلاثاً)(2) ، والسنة أن يكبر أربعاً ولا يشرع له أن يكبر ثلاثاً لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب (19) إذا لم يطق قاعدا صلى علىجنب (1117) .

(2)

المحلى لابن حزم [5 / 127] .

ص: 191

قالوا: وإذا كبر أربعاً أجزأه ذلك، أما إذا كبر ثلاثاً فإن كان عمداً بطلت صلاته وإن كان سهواً كبر رابعة كما صح ذلك عن أنس في البخاري (1) .

إذن: الواجب أن يكبر أربعاً ولا يجزئه أقل من ذلك.

ولكن هل يشرع أن يكبر أكثر من أربع؟

1-

المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يشرع ذلك.

وهل يتابعه المأموم إن كبر أم لا؟

المشهور في المذهب أنه إن كبر خامسة تابعه، وإن كبر أكثر من خمس لم يتابعه.

وعن الإمام أحمد: أنه يتابعه إلى سبع، وهو اختيار طائفة من أصحابه، وهذا القول أرجح.

ودليل ذلك: أن الراجح خلاف ما ذهب إليه الحنابلة، فالراجح هو أن التكبير فوق الأربع مشروع؛ لما ثبت في مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:(كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا فيكبر أربعاً فصلى على جنازة فكبر خمساً فسئل عن ذلك فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها)(2)

(1) ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (65) التكبير على الجنازة أربعاً بلفظ:" وقال حميد: صلى بنا أنس رضي الله عنه فكبر ثلاثا، ثم سلم،فقيل له: فاستقبل القبلة، ثم كبر الرابعة ثم سلم ".

(2)

أخرجه مسلم في آخر باب (23) الصلاة على القبر (957) من كتاب الجنائز.

ص: 192

وثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح: (أن علي بن أبي طالب صلى على سهل بن أبي حنيف فكبر ستاً وقال: إنه بدري)(1)، وثبت عند الطحاوي بإسناد صحيح – أنه أي علي -:(صلى على أبي قتادة فكبر سبعاً وكان بدرياً)(2) .

وكان من طريقته – أي علي – ما ثبت في الطحاوي بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعلى سائر الناس أربعاً)(3) .

فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً وخمساً، وأن علياً كبر ستاً وسبعاً ولم يثبت له مخالف من الصحابة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أكثر من سبع.

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 59] كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها (6942) قال:" أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل: أن عليا رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا، ثم التفت إلينا، فقال: إنه من أهل بدر ". ولم أجده في الدارقطني بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الجنائز، باب (4) التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة (1799) قال:" حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، حدثنا حفص، عن عبد الملك بن سَلْع، عن عبْدِ خَيْر، عن علي: أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب محمد خمسا، وعلى سائر الناس أربعاً ".

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع.. (6943) .

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 60](6944) .

ص: 193

إلا ما روى الطحاوي بإسناد حسن: (أن عبد الله بن الزبير قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فكبر عليه تسعاً)(1) لكن الحديث تقدم أنه منكر – كما أنكره الشافعي وابن القيم وغيرهما فالحديث منكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على حمزة بل دفنه كسائر الشهداء كما في المتفق عليه.

وهناك أثر ثابت عن ابن مسعود رواه ابن حزم بإسناد صحيح أنه قال: (كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد)(2) لما ذكر له أن أهل الشام من أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمساً.

والذي يقتضيه هذا الأثر أنه لو زاد على السبع فإنه لا بأس بذلك ونحن ليس عندنا في الزيادة على الخمس إلا أثر علي وهذا أثر عن ابن مسعود فيه أن التكبير للجنائز ليس له وقت ولا عدد فلو كبر تسعاً أو عشراً فلا بأس لكن المستحب له أن يكبر أربعاً أو خمساً وإن زاد على ذلك فلا يتجاوز السبع فإن ذلك هو صريح فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخمس، وفعل أصحابه كعلي إلى السبع، لكن إن زاد على ذلك فلا حرج لقول ابن مسعود:(لا وقت ولا عدد) والله أعلم.

فعلى ذلك: السنة أن يكبر على الجنازة أربعاً، ويستحب له أحياناً أن يكبر خمساً فإن زاد ستاً أو سبعاً فلا بأس به.

قال: (والفاتحة)

الفاتحة ركن في صلاة الجنازة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب)(3) وصلاة الجنازة صلاة فهذا دليل ركنيتها.

وقد ثبت في البخاري ما تقدم عن ابن عباس أنه كان: يقرأ بفاتحة الكتاب ويقول: (ليعلموا أنها سنة)(4) وتقدم غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ الفاتحة.

قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

(2) المحلى لابن حزم [5 / 126] ، وأخرجه البيهقي بمعناه في سننه [4 / 60] كتاب الجنائز، باب (115) من ذهب في ذلك مذهب التخيير.. (6945) .

(3)

متفق عليه، وقد تقدم.

(4)

رواه البخاري وقد تقدم.

ص: 194

تقدم ثبوتها في صلاة الجنازة، وهنا قال: هي واجب فيها، ولم أر دليلاً صريحاً يدل على إيجابها.

والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فعل، والفعل لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم أصول الفقه.

ولذا قال المجد بن تيمية – في هذه المسألة كقول أهل العلم في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " فإذا قلنا بوجوبها في الصلاة قلنا بوجوبها في الصلاة على الجنازة، وإن قلنا باستحبابها قلنا باستحبابها في الصلاة على الجنازة "(1) .

وقد تقدم ترجيح قول جمهور العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأنها ليست بواجبة فكذلك هنا، فهي ليست بواجبة بل سنة، وليس فيه إلا مجرد الفعل، والفعل لا يدل على الوجوب وهو مذهب طائفة من فقهاء الحنابلة.

فالراجح: أنه لا يجب عليه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بل يستحب.

قال: (ودعوة للميت)

لا شك أنها ركن فهي مقصد الصلاة على الميت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)(2) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلص الصلاة – أي الدعاء – على الجنائز في التكبيرات الثلاث كلها.

فالدعاء للميت فرض في الصلاة على الجنازة بل هو المقصود منها، وإنما شرعت الصلاة للدعاء للميت.

قال: (والسلام)

(2) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم.

ص: 195

والسلام كما هو ركن في الصلاة فهو ركن في صلاة الجنازة فإنها من باب الصلاة، وفي الحديث:(مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)(1) وصلاة الجنازة صلاة.

قال: (ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته) .

فإذا سلم الإمام كبر ما فاته وقضاه.

لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)(2)

وهل هذا على وجه الإيجاب أو الاستحباب؟

قولان لأهل العلم:

فالمشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك على وجه الاستحباب، فلو فاته شيء فسلم مع الإمام فلا بأس ويجزئه ذلك.

واستدلوا: بما رواه ابن أبي شيبة أن ابن عمر: (وكان لا يقضي ما فاته من التكبير)(3) فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، فالحديث ضعيف.

والمشهور عند جمهور الفقهاء أنه يجب ذلك، ولا يجزئه إلا أن يكبرها؛ للحديث المتقدم:(فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) .

والصحيح مذهب الجمهور وأنه يجب عليه أن يقضي التكبيرات الفوائت لعموم الحديث.

فإذن يشرع أن يأتي بما فاته اتفاقاً، لكن هل يجب ذلك؟

(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ:(مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] .

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (21) لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار (636) . ومسلم (602) .

ص: 196

قولان والصحيح الوجوب.

قال: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على قبره)

ففيه مشروعية الصلاة على القبر، ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (فقيل: ماتت فقال: أفلا كنتم آذنتموني فكأنهم صغروا أمرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها)(1) .

وهنا قال المؤلف: (إلى شهر) .

وهذا عند الحنابلة ليس للتحديد وإنما للتقريب يعني شهر وما يقاربه.

فإذا دفن الميت فمر على دفنه شهر ونحوه فإنه لا يصلى عليه.

واستدلوا: بما رواه الترمذي من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما توفيت أم سعد بن عبادة وهو غائب صلى عليها وكان ذلك لشهر)(2)

قالوا: فهذا يدل على أن أمد ذلك ومنتهاه إلى الشهر وما قاربه.

وقال ابن عقيل من الحنابلة: بل يصلي عليه أبداً، وهو اختيار ابن القيم حيث قال:" ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً "(3) .

والأثر المتقدم الذي رواه سعيد بن المسيب ليس فيه أنه لو كان ذلك بعد شهرين أو ستة لا يصلى عليها، بل فيه جواز الصلاة عليها لشهر وليس مانعاً أن نصلي عليها بعد شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (72) كنس المسجد.. (458) بلفظ " عن أبي هريرة: أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء كان يقم المسجد

" ورقم (1337) ، ومسلم (956) .

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (47) ما جاء في الصلاة على القبر (1038) .

ص: 197

ويشهد له ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على أهل أحد صلاته على الميت كالمودع للأحياء الأموات)(1) – كما رواه البخاري – على ظاهره في أن المقصود الصلاة على الميت كالصلاة على الجنازة وكان ذلك بعد ثماني سنوات ولا مانع من ذلك فإن المقصود من الصلاة هو الدعاء للميت، فسواء كان ذلك بعد شهر أو سنة أوسنتين أو أكثر من ذلك.

لكن بشرط:

1 -

أن يكون ممن هو أهل للصلاة أثناء موته.

2-

وأن يكون غير مفرط في ترك الصلاة عليه.

فمثلاً: رجل قدم من سفر فعلم بموت فلان ولم يكن مفرطاً لأنه كان مسافراً فله أن يصلي على قبره.

وكونه أهل للصلاة: بأن يكون مكلفاً، أو مميزاً تصح الصلاة منه.

وإلا فإنه لم يرد عن التابعين أو أتباعهم أنهم صلوا على أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فيدل ذلك على أنه ليس مطلقاً بل هو حيث كان أهلاً للصلاة ولم يقع منه تفريط كما تقدم.

قال: (وعلى غائب بالنية إلى شهر)

والمراد بالغائب أن يكون في بلد أخرى، وليس المراد من كان في طرف البلد مما يتمكن أن يصلى عليه صلاة الغائب (2) .

فيشرع صلاة الغائب مطلقاً سواء صلي عليه في بلده أم لم يصل عليه كما هو المشهور في المذهب.

واستدلوا بحديث أبي هريرة المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعاً)(3) .

واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الخطابي وابن عبد القوي من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يشرع ذلك إلا إذا لم يصل عليه في بلده.

فإذا لم يصل عليه في بلده شرع أن يصلى عليه في غير بلده ممن بلغه خبره من المسلمين.

(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1344) ، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته (2296) .

(2)

كذا في الأصل.

(3)

متفق عليه، وقد تقدم.

ص: 198

وهذا القول هو الراجح، وذلك أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل غائب، فقد مات أناس كثير من أصحابه خارج المدينة فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أحد منهم.

والنجاشي لم يكن يظهر إسلامه، ولم يكن في بلده من يمكنه أن يصلي عليه فمات فلم يصل عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

* وهل تشرع الصلاة على من مات ولم تبق جثته كأن يموت غريقاً في بحر لا يمكن أن يحضر جثته أو أن يموت مفترساً مأكولاً أو محترقاً لا يبقى منه شيء، فهل يشرع أن يصلى عليه كما يصلى على الغائب؟

المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يصلى عليه.

وقال طائفة من الحنابلة: بل يصلى عليه.

وهذا القول هو الراجح؛ قياساً على الصلاة على الغائب فإن هذا الميت الغائب صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه لم يصل عليه، وهذا كذلك فإنه لا يمكن أن تحضر جثته فيصلى عليه فهو في حكم الغائب فكان المشروع أن يصلى عليه.

قال: (ولا يصلي الإمام على الغال)

من غَلَّ شيئاً من الغنيمة فأخذها، فإنه لا يصلي عليه الإمام زجراً للناس عن هذه المعصية.

ص: 199

واستدلوا بما روى النسائي عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني قال: (توفي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم قال: فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد غل في سبيل الله، قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين)(1) .

والأثر فيه أبو عمرة تابعي مجهول، وهو الراوي عن زيد بن خالد، لكن الحديث احتج به الإمام أحمد وغيره.

والنظر يقتضي أنه ليس بمنكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته ترك الصلاة على بعض العصاة الذين في ترك الصلاة عليهم زجراً لغيرهم عن فعل هذه المعصية كما سيأتي.

وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين – كما تقدم في المتفق عليه – وقال: (صلوا على صاحبكم)(2) وذلك قبل أن تفتح الفتوح ويكثر المال في بيت المال، فلما كثر ذلك في عهده صلى على المدينين وقضى عنهم ديونهم.

قال: (ولا على قاتل نفسه) .

وثبت في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص " وهو نصل السهم " فلم يصل عليه)(3) .

(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على من غل (1959) قال:" أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عَمْرَة عن زيد بن خالد قال: مات رجل بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم إنه غل في سبيل الله) ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خَرزاً من خرَز يهود ما يساوي درهمين ".

(2)

تقدم.

(3)

صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (37) ترك الصلاة على القاتل نفسه (978) .

ص: 200

وفي النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا أصلي عليه)(1) فلم يمنعهم من الصلاة عليه فإن قاتل نفسه مسلم وليس بكافر، فيصلي عليه طائفة من المسلمين، أما الأئمة في الدين ومن يقتدى بهم من أهل العلم والتقوى فإنهم يتركون الصلاة عليه زجراً له.

ومثل ذلك سائر المعاصي الظاهرة التي يحتاج إلى زجر الناس عنها بترك الصلاة عليهم أمواتاً، فليس مختصاً بقاتل النفس والغال، بل إذا ظهرت معصية وحدث فيها فساد عظيم فرجى أهل التقوى وأهل العلم أنهم إذا تركوا الصلاة عليهم أن يكون زجراً لغيرهم عن المعصية فإن ذلك يفعل كما كان من سنته.

ومن ذلك ترك الصلاة على المبتدعة كما هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب السلف الصالح وذلك لزجر الناس عن فعلهم.

لكن كما قال شيخ الإسلام: من صلى عليهم وهو يرجو لهم الرحمة وليس في امتناعه عن الصلاة عليهم مصلحة فذلك حسن.

قال: (ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد)

والسنة أن يصلي عليه في موضع خاص بالجنائز، كما ثبت في البخاري عن ابن عمر:(أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد)(2) .

وتقدم حديث أبي هريرة في نعي النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي وفيه: (فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم)(3) .

فالمستحب أن يصلي عليها في مصلى خاص بالجنائز.

(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (68) ترك الصلاة على من قتل نفسه (1964) .

(2)

صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (61) الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1329) ، و (4556)(7332) .

(3)

متفق عليه، وقد تقدم.

ص: 201

لكن إن صلى عليها في المسجد مع أمن تلويث المسجد بها فلا بأس بذلك، ودليله: لما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد)(1) .

أما ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على الميت في المسجد فلا شيء له)(2) ، فالحديث من حديث صالح مولى التوأمة ويروى عنه عبد الله بن أبي ذئب.

وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث بتفرد صالح مولى التوأمه وصالح هذا مختلط الحديث، لكن عبد الله بن أبي ذئب قد روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حسن جيد، كما حسنه ابن القيم.

لكن الحديث – حينئذ – يكون منكراً؛ لأنه يكون مخالفاً لما ثبت في مسلم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء.

ومثل صالح لا يخالف حديثه ما ثبت في مسلم وغيره.

لكن ذهب بعض العلماء إلى أن الصحيح فيه – كما قرر ذلك ابن عبد البر وابن القيم، الصحيح فيه -:(فلا شيء عليه)(3) كما ثبت ذلك في نسخة صحيحة لسنن أبي داود.

فعلى أن هذا اللفظ هو الصحيح لا نحتاج إلى تضعيف الحديث بتفرد صالح.

وأما إذا قلنا إنه على لفظه، فإن هذا لا يقبل منه مع مخالفته لما ثبت في مسلم.

* في مسألة الصلاة على القبر:

قال بعض أهل العلم: هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (34) الصلاة على الجنازة في المسجد (973) .

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب (54) الصلاة على الجنازة في المسجد (3191) بلفظ (من صلى على جنازة في المسدد فلا شيء عليه)، قال في الحاشية: " وأخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث 1517 باب الصلاة على الجنائز في المسجد ولفظه: (فليس له شيء) .

(3)

كما في النسخة التي بين يدي [3 / 531] .

ص: 202

واستدلوا: بما ثبت في مسلم في حديث المرأة التي كانت تقم المسجد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)(1) .

قالوا: فهذا يدل على أن الصلاة على القبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحديث قد أعله بعض أهل العلم المتقدمين، ولكن الصحيح أن سنده صحيح وليس بمعل.

والجواب عنه أن يقال: إن هذا التخصيص إنما هو في الأثر لا في الفعل، فأثر صلاته في الأموات سواء كانوا في قبورهم أو قبل ذلك – أن تكون صلاته عليهم رحمة لهم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في النسائي – لما صلى على جنازة رجل: (إن صلاتي عليه رحمة)(2) وقد صلى عليه قبل أن يدفن.

فمن خاصية صلاته على الأموات قبل دفنهم أو وهم في قبورهم – أن يكون ذلك رحمة لهم وإنارة لهم في قبورهم.

وأما أن يكون الحكم – وهو الفعل – خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، كما أنه خلاف الأصل.

فالحديث ليس فيه إلا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مختصة بأن تكون نوراً لأهل القبور، وليس فيه أن هذا الفعل خاص بالنبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

حكم الصلاة على الجنازة بين القبور – (انظر الكلام على هذه المسألة في الدرس الحادي والخمسين بعد المائة الذي سيأتي) -:

لا يجوز ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لما روى الضياء في المختارة والطبراني في الأوسط أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور)(3) وإسناده حسن.

والمشهور في المذهب: جواز ذلك وتخصيص النهي بالصلوات ذوات الركوع والسجود.

لكن الصحيح النهي مطلقاً؛ للحديث الصحيح المتقدم وأحاديث الضياء أصح من أحاديث الحاكم – كما ذكر شيخ الإسلام – وقد اشترط فيها الصحة.

مسألة:

(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (23) الصلاة على القبر (956) .

ص: 203

الأظهر أنه بعد التكبيرات فوق الأربع يشتغل بالدعاء؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بين هذه التكبيرات الأربع الثابتة عنه، والمقصود من الصلاة هو الدعاء للميت بل كان يدعو حتى بعد التكبيرة الرابعة، فالذي ينبغي أن يدعو بين هذه التكبيرات.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الخمسون بعد المئة

(يوم الأحد: 23 / 7 / 1415هـ)

فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يسن التربيع في حمله)

التربيع في حمل الجنازة: أن يأتي المتبع للجنازة فيحملها من مقدمة الجنازة من جانبها الأيسر واضعاً له على عاتقه الأيمن ثم ينتقل منه إلى جهته اليسرى المؤخرة فيضعها على عاتقه الأيمن ثم ينتقل إلى الجهة اليمنى من الجنازة فيضع مقدمتها الأيمن على عاتقه الأيسر ثم مؤخرها على عاتقه الأيسر – فهكذا يكون التربيع.

وذلك بالنظر إلى الميت فإنه وإن كان الأيسر بالنسبة إلى السرير المحمول إليه الميت فإنه هو الأيمن بالنسبة إلى الميت فبدأ بالجهة اليمنى من الميت.

ودليل ذلك: ما روى أحمد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن مسعود عن ابن مسعود قال: (من اتبع الجنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإن ذلك السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع)(1) ، وأبو عبيده لم يسمع من أبيه فعلى ذلك الإسناد فيه انقطاع.

(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (15) ما جاء في شهود الجنائز (1478) . قال البوصيري:" هذا إسناد موقوف، رجاله ثقات، حكمه الرفع، إلا أنه منقطع، فإن أبا عبيدة، واسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته، لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله أبو حاتم وأبو زرعة وعمرو بن مرة وغيرهم، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن منصور بإسناده ومتنه ".

ص: 204

لكن يشهد له ما ثبت عن أبي الدرداء في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من تمام أجر الجنازة أن يتبعها من أهلها وأن يحمل بأركانها الأربعة وأن يحثو في القبر)(1) ، وهذا له حكم الرفع فإنه متعلق بالأجر فكان هذا القول من هذا الصحابي له حكم الرفع.

وثبت عن ابن عمر – كما في مصنف ابن أبي شيبة: (أنه حمل جنازة في أركانها الأربعة فبدأ بالميامن) .

وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس أن يتحول من جهة الجنازة اليسرى المؤخرة إلى جهتها اليمنى المؤخرة ثم ينتقل إلى اليمنى المقدمة فيبدأ برأسه وينتهي برأسه؛ لأن ذلك أسهل.

وهذا أولى لما فيه من اليسر ولأنه أبعد عن اختلاط الناس بعضهم ببعض.

فهذا أولى ويحصل به ما حصل من السنة من البداءة باليمنى – كما يحصل في الأول.

هكذا يكون التربيع وهو الأفضل عند الحنابلة.

- واستحب الشافعية أن يحمله بين العمودين. وقال المؤلف هنا:

(ويباح بين العمودين)

أي أن يضع رأسه بين العمودين ويجعل الجنازة على كاهله وقد صح ذلك عن سعد بن أبي وقاص، فقد ثبت في سنن البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال:(رأيت سعد بن أبي وقاص مع جنازة عبد الرحمن بن عوف قائماً بين العمودين واضعاً الجنازة على كاهله)(2) .

وذكر ابن المنذر ذلك عن عثمان وسعد بن مالك " وهو سعد بن أبي وقاص " وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير.

- وعن الإمام أحمد: أنهما سواء.

والذي يظهر أن الأفضل أن يحمل بجوانبها كلها وهو التربيع؛ وذلك لأن ما تقدم أقوى؛ لأن فيه ما تقدم في الحديث الثابت عن ابن مسعود وفيه أن ذلك من السنة، ويشهد له الأثر الوارد عن أبي الدرداء وله حكم الرفع، ففي ذلك رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثر موقوف عن سعد فكان الأول أولى.

(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (90) من حمل الجنازة فوضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين (6835) .

ص: 205

فالسنة أن يربع فيحمل بجوانب السرير كلها، لكن إن قام بين العمودين حاملاً للجنازة – على كاهله فذلك حسن إن شاء الله.

قال: (ويسن الإسراع بها)

يستحب له أن يسرع بالجنازة.

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)(1)، قال أبو بكرة:(والذي كرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملاً)(2) والرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى.

" إنا لنكاد ": فهم لا يرملون لكنهم يكادون ذلك، وذلك لأن في الرمل أذى للجنازة وأذى للمتبع، ففي الإسراع الشديد أذى للجنازة فقد يخرج شيء من الخارج بسبب هذا الإسراع، وقد يحدث شيء من الانفصال في بعض الأعضاء، وكذلك المتبعون يتأذون بذلك.

قال: (وكون المشاة أمامها والركبان خلفها)

يستحب – في المشهور من المذهب – أن يكون الماشي أمام الجنازة.

(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة. (1315)(1316) . صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة (944) .

(2)

أخرجه أبو داود رقم (3182)[3/ 524] بلفظ: " عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيا خفيفا، فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً ".

ص: 206

وذلك لما روى الخمسة بإسناد صحيح – وقد اختلف في وصله وإرساله والراجح الوصل – عن ابن عمر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة)(1) وفي الترمذي: (وعثمان)(2) .

وأما الراكبون فيستحب أن يكونوا خلفها لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها)(3) .

وفي بقيته حجة لما ذهب إليه بعض أهل العلم كالموفق ابن قدامة في الكافي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد: إلى أن المستحب للماشي أن يكون حيث شاء، فإن كان أمامها أوخلفها أو عن يمينها أو عن يسارها فلا بأس بذلك.

وابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة (4) ، وقد ثبت في الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى خلفها (5) .

فعلى ذلك: المستحب للماشي أن يمشي حيث شاء، أما ما رآه ابن عمر فتلك واقعة عين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال – كما تقدم -:(والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) . وأما الراكب فلا يستحب إلا أن يكون خلفها.

وهل يستحب له أن يركب أم لا؟

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3179) . والترمذي 1007، والنسائي 1946، وابن ماجه 1482، وقال الترمذي:" وأهل الحديث كأنهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح ".. " سنن أبي داود [3 / 522] .

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) (3180) بلفظ: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها، والسقط.. ". والترمذي 1031، والنسائي 1944 وقال الترمذي: " حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] .

ص: 207

الأفضل له ألا يركب بل يستحب أن يمشي في الذهاب، وأما في الإياب فلا بأس بالركوب، فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها فلما انصرفوا أتى بها فركبها فسئل عن ذلك فقال: إن الملائكة كانت تمشي مع الجنازة فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت) (1) .

لكن إن كان في ذهابه مشقة أو كانت الجنازة لا تحمل بالأيدي بل على الرواحل فلا بأس أن يركب.

أما إذا كان موضع دفن الجنازة قريب وحملوها بأيديهم فيستحب ألا يركب، لكن إن ركب - وذلك جائز له -، فإنه يمشي خلفها.

قال: (ويكره جلوس تابعها حتى توضع)

هنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تمرَّ الجنازة.

الصورة الثانية: أن يتبعها.

الصورة الثالثة: أن يسبقها فيأتي قبل أن تأتي الجنازة.

أما الصورة الأولى: وهي عند مرور الجنازة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما مر بجنازة يهودي قام فسئل عن ذلك فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا)(2) متفق عليه.

قال الحنابلة وغيرهم: هذا الحديث منسوخ بما ثبت في مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام ثم قعد)(3)، وفي مسند أحمد بإسناد صحيح:(أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة ثم جلس وأمرنا بالجلوس)(4) .

فقالوا: كان ذلك مستحباً ثم نسخ فالمستحب له ألا يقوم.

ومثل ذلك: الصورة الثالثة: وهي فيما إذا سبق الناس إلى المقبرة ثم أتى الناس بالجنازة فلا يستحب له أن يقوم بل يبقى جالساً، وقد روى ذلك الترمذي عن طائفة من الصحابة، وهذا نظير المسألة السابقة لأنه ليس متبع لها فهو في حكم من مرت عليه الجنازة.

أما الصورة الثانية: وهي من اتبعها.

فالمشهور في مذهب الحنابلة – أنه يستحب له أن يقوم فلا يجلس حتى توضع على الأرض.

(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (48) الركوب في الجنازة (3177) .

ص: 208

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى توضع)(1) وفي رواية سفيان: (حتى توضع على الأرض)(2) .

وقالوا: وحديث على المتقدم إنما نسخ القيام ابتداءً وأما استدامة ذلك لمن تبعها فإن حديث علي لا ينسخ ذلك.

- وقال جمهور العلماء: بل هو منسوخ.

واستدلوا: برواية للبيهقي من حديث علي بإسناد جيد قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم على الجنازة حتى توضع فقام الناس معه ثم قعد وأمرهم بالقعود)(3) .

ولا فرق بين هذه الصورة وبين الصورتين السابقتين في الحكم.

فما ذهب إليه الجمهور من القول بالنسخ أصح، والحديث الذي رواه البيهقي يدل على ذلك.

فعلى ذلك: كل القيام منسوخ فلا يستحب أن يقوم لها إن مرت، ولا يستحب أن يقوم في المقبرة إن سبقهم فجاءت، ولا يستحب أن يستديم القيام وهو متبع لها. بل متى شاء جلس لا بأس بذلك ولا حرج – كما هو مذهب الشافعية وغيرهم من أهل العلم.

قال: (ويسجى قبر امرأة فقط)

أي يغطي قبر المرأة، أما قبر الرجل فلا.

ودليل ذلك: ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن أبي إسحاق السبيعي قال: (شهدت جنازة الحارث فأبى عبد الله بن يزيد " وهو صحابي " أن يسجوه بثوب وقال: إنه رجل)(4) .

وقد اتفق العلماء على استحباب تسجية قبر المرأة عند الدفن. وأما الرجل فلا يستحب ذلك، وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم:(جلل قبر سعد بن معاذ بثوب)(5) فالحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي، وهو كما قال، فالحديث إسناده ضعيف. وبه قال الشافعية لكن الحديث ضعيف.

قال: (واللحد أفضل من الشق) .

اللحد: أن يحفر القبر ثم يحفر للميت على حائط القبر - أى بأحد الجهتين من القبر، والمستحب أن تكون في الجهة التي تلي القبلة، فلا يكون ذلك في الوسط -.

ص: 209

ودليل ذلك – أي استحباب اللحد وأفضليته على الشق – ما ثبت في مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: (الحدو إلي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع بالنبي صلى الله عليه وسلم (1) .

وعند الأربعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشقة لغيرنا)(2) ، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله، فالحديث حسن.

لكن الشق جائز بإجماع العلماء كما حكى ذلك النووي، ومما يدل على جوازه ما ثبت في ابن ماجه من حديث أنس قال:(لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة رجل يَلْحَد وآخر يُضَرِّح " أي يشق " فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه [فأرسِل إليهما] فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم (3) .

وهو ثابت – أيضاً – في ابن ماجه من حديث عائشة، والحديث حسن.

ففيه أنه كان في المدينة رجل يضرح أي يشق، فدل على أن ذلك جائز وهذا بالإجماع.

بل قد يكون الشق أفضل فيما إذا كانت الأرض رخوة تنهار فإن الشق يكون أفضل.

وصورة الشق: أن يكون هذا الموضع الذي يشق في الأرض للميت في وسط القبر ويكون الجانبان مرتفعين ويوضع الميت في هذا الشق ثم يبنى عليه في اللبن بناءً.

والمستحب أن يوضع على شقه الأيمن كما يفعل النائم وذلك بلا نزاع كما قال ذلك صاحب الإنصاف، وأن يوجه إلى القبلة لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكعبة:(قبلتكم أحياءً وأمواتاً)(4) وهو حديث حسن.

قال: (ويقول مُدْخِلُهُ: بسم الله وعلى ملة رسول الله)

(3) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص183.

ص: 210

لما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أدخل ميتاً فقال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله ")(1)، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله وعلى ملة رسول الله)(2) ، وفي رواية " وعلى سنة رسول الله "(3) ، لكن حديث ابن عمر اختلف في رفعه ووقفه والراجح هو الوقف كما رجح ذلك النسائي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم.

لكن الحجة فيما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أثر موقوف له حكم الرفع.

ولا يقال باستحباب قول ما ورد في ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أدخل ابنته أم كلثوم قرأ {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} )(4) فالحديث فيه ثلاثة ضعفاء فالحديث إسناده ضعيف جداً.

ولا أصل لقراءة هذه الآية عند الحثيات الثلاث.

ومعلوم أنه يستحب – كما ثبت في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حثى على الميت من قبل رأسه ثلاثاً)(5) .

قال: (ويضعه في لحده على شقة الأيمن مستقبل القبلة، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر)

فيرفع القبر عن الأرض قدر شبر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الأرض قدر شبر أو نحو شبر " (6)

ولا يجوز أن يكون مشرفاً فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً وفيه: (وألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)(7) .

أما رفعها قدر شبر فلا بأس، وفي ذلك فائدة تمييزه عن سائر الأرض ليحترم فلا يجلس عليه ولا يؤذي. أما أن يرفع فوق ذلك فلا يجوز.

قال: (مُسَنَّماً) .

كما ثبت عن سفيان التمار قال: (رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً)(8) وهذا كما هو في القبور عندناً، كسنام البعير، فهذا هو المستحب.

ص: 211

ولا بأس أن يكون مسطحاً لكن المستحب كونه مسنماً.

ويستحب أن يوضع عليه من الحصى الصغير كما فعل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في أبي داود: (أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مبطوحاً ببطحاء العَرْصة الحمراء)(1) والبطحاء هو الحصى الصغير.

ولا بأس أن يرش بالماء ومن ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مرسل، كما في البيهقي:(أنه رش على قبر ابنه ووضع عليه الحصباء)(2) ، وهو مستحب عند أهل العلم وهذا فيه مزيد محافظة عليه. وهذا أثر مرسل ويشهد له عمل المسلمين قديماً وحديثاً وعليه عمل الفقهاء فأهل العلم يستحبون ذلك.

ويستحب أن يوسع القبر وأن يعمق، فقد ثبت في أبي داود والنسائي وهذا لفظ النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(احفروا ووسعوا وأعمقوا)(3) وإسناده صحيح.

واستحب الإمام أحمد أن يعمق القبر إلى قدر السرة لأن في ذلك حفظاً للميت وليس في ذلك مشقة على الحافر، خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من استحباب كونه كطوله؛ فإن في ذلك مشقة على الحافر وليس في ذلك فائدة، والفائدة تحصل فيما إذا كان إلى السرة.

وهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز كما في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد: (أنه أمر بأن يعمق قبر ابنه إلى السرة)(4) .

فيستحب أن يعمق والذي ينبغي أن يكون ذلك إلى السرة، فإنه يحفظ به الميت ولا يؤذي ذلك الحي ولا يشق عليه ويكون بذلك صيانة الميت فلا يحتاج – حينئذ – على الزيادة على ذلك.

والحمد لله رب العالمين.

مسائل:

المسألة الأولى: في حكم الصلاة على الجنائز بين القبور؟

في هذه المسألة عن الإمام أحمد ثلاث روايات:

الرواية الأولى، وهي المشهورة: أن ذلك جائز، واستدل بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن نافع قال:(صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور والإمام أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر) .

(1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص196

ص: 212

الرواية الثانية: أن ذلك مكروه، وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين.

الرواية الثالثة: أن ذلك محرم.

ودليل هاتين الروايتين ما رواه الطبراني في الأوسط والضياء في المختارة عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور "(1) وإسناده حسن.

وأصح هذه الأقوال: القول بكراهية ذلك، وأن هذا النهي يحمل على الكراهية لما تقدم من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وللفرق بين الصلاة ذات الركوع والسجود وبين الصلاة على الجنائز بين القبور، فإن الصلاة ذات الركوع والسجود يخشى فيها ما يخشى من فتح باب الشرك، بخلاف الصلاة التي إنما هي قيام وتكبير ودعاء وقراءة للقرآن، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع على قبر فدل ذلك على أن أصل الصلاة في المقابر ليس حكمها كحكم الصلاة ذات الركوع والسجود.

فعلى ذلك: الأظهر كراهية ذلك.

المسألة الثانية: أنه يكره للنساء اتباع الجنائز، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم عطية قالت:(نهينا عن اتباع الجنازة ولم يعزم علينا)(2) أي لم يعزم علينا بالنهي فيكون ذلك تحريماً وإنما هو للكراهية، ودليل أن ذلك ليس للتحريم ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح:(كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعها يا عمر فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب)(3) ، فالنهي للكراهية، كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وهو مذهب جمهور العلماء.

المسألة الثالثة: لا يجوز أن تتبع الجنازة بصوت ولا نار.

بصوت: من ذكر أو قراءة للقرآن أو نعي للميت.

أو بنار: لغير حاجة فلا يقصدون الاستضاءة بها وإنما هو حدث في الدين، أما إذا كانوا محتاجين إليها للاستضاءة فلا بأس بذلك.

ص: 213

ودليل هذه المسألة: ما رواه أبو داود والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) .

ورفع الأصوات عند الجنائز من هدي اليهود وقد أمرنا بمخالفتهم. وروى البيهقي عن قيس بن عباد قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر)(1) .

المسألة الرابعة: أن اتباع الجنازة ثبت له فضل عظيم، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ قال: مثل الجبلين العظيمين)(2) .

وهل يثبت الثواب المذكور بمجرد الصلاة أم حتى يتبعها من أهلها؟

ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج مع الجنازة من بيتها)(3) وتقدم أثر أبي الدرداء وقال: (من تمام أجر الجنازة إلى أن قال: وأن يتبعها من أهلها)(4) .

استظهر ابن حجر أن الاتباع من بيتها وإلى المسجد وسيلة إلى الصلاة عليه متقصد منه الصلاة عليها، فحينئذ يثبت الأجر ولو لم يتبعها؛ لأن المقصود من ذلك الصلاة.

وفي ذلك نظر، فإن الاتباع مفضل بذاته بالأجر، فإنه له ثواب مختص، ولكن مع ذلك فإن الحكم الذي ذكره راجح وإن كان التعليل المتقدم فيه نظر.

وإنما ينبغي أن يقال – وهو مذكور من الحافظ – أن الثواب يختلف، مع ثبوت أصله: فلمن صلى عليها قيراط، ولمن اتبعها من بيتها فصلى عليها قيراط، وإن كان القيراطان ليستا بدرجة واحدة بل هما متفاوتان.

ص: 214

ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (لما كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضر الميت حضره النبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر له حتى يقبض فربما طال عليه ذلك فخشينا مشقة ذلك عليه، فقال بعض القوم: لو كنا لا نؤذن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقبض قال: ففعلنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر استغفر له وربما مكث حتى يدفن قال: ثم قلنا لو كنا نحضر جنائز موتانا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند بيته لكان ذلك أرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأيسر له فكان الأمر على ذلك إلى اليوم)(1) . فدل ذلك على أن الأمر الذي استقر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يأتي إلى البيت فيتبع الجنازة بل كان تحضر له الجنائز عند بيته فيصلي عليها، فدل ذلك على أنه يثبت هذا القيراط وإن لم يتبعها من بيتها، لكن أن اتبعها من بيتها فإنه له قيراطاً أعظم من قيراط الأول.

أما القيراط فيمن تبعها حتى تدفن، هل يكون بوضعها في اللحد أم يكون حتى يفرغ من دفنها؟

في صحيح مسلم: (حتى توضع في اللحد) وظاهره أنها متى وضعت في اللحد.

وقيل: أن يوضع عليها اللبن ويهال عليها التراب ويفرغ من دفنها أنه يثبت له القيراط.

وفي رواية البخاري: (حتى يفرغ من دفنها) وعند أبي عوانة: (ويسوى عليها التراب) .

وكما قلنا في المسألة السابقة نقول في هذه المسألة فلكل قيراط لكن ذلك مع التفاوت.

المسألة الخامسة: يستحب أن يُدخل الميت من قبل رجلي القبر فيؤتى به من قبل رجلي القبر " أي المكان المختص بالرجلين " فيوضع الرأس بسمته ثم يسل سلاً حتى يوضع الرأس في موضعه ثم تنزل القدمان في موضعها؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد: (أنه أدخل الميت من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة) .

ص: 215

وأما ما رواه الترمذي من أنه يدخل من قبل القبلة، فإن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة ومنهال بن خليفة وهما ضعيفان.

فالصحيح مذهب الجمهور من أنه يدخل من قبل رجلي القبر ثم يسل سلاً حتى يدخل في القبر.

المسألة السادسة: أنه يستحب أن يوقف عند قبره قليلاً بعد الفراغ من دفنه ويستغفر له؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عثمان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .

وهل يستحب تلقينه أم لا؟

المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك، واستدلوا بحديث وأثر.

أما الحديث بإسناد ضعيف جداً، وهو ما رواه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:(يقال: له يا فلان ابن فلانة فحينئذ يسمع ولا يجيب ثم يقال: يا فلان بن فلانة فيجلس ثم يقال يا فلان بن فلانة فيقول: أرشدوني أرشدكم الله ثم يرشد ويلقن بلا إله إلا الله وبملة الإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيتولى عنه منكر ونكير ويقولان: كيف بكم برجل قد لقن حجته " قال الهيثمي: (فيه رجال لا اعرفهم) وقد ضعفه ابن القيم وابن حجر والنووي والعراقي وابن الصلاح وغيرهم.

وأما الأثر فهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن ضمرة بن حبيب قال: (كانوا يستحبون – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – إذا سوي على الميت قبره وانصرف عنه الناس أن يقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله – ثلاثاً – يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم لكن هذا الأثر ضعيف فإن فيه أبو بكر ابن أبي مريم وهو ضعيف.

وذهب الأحناف: إلى كراهية ذلك.

وهو الصحيح؛ فإن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة ولم يصح لنا عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يستحب أن يدعى له ويسأل له التثبيت ويستغفر له – من غير أن يلقن ذلك.

ص: 216

وهل يستحب أن يوقف على القبر طويلاً أم لا؟

لا يستحب ذلك؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن فعل فلا بأس، فقد ثبت في مسلم عن عمرو بن العاص قال:(إذا مت فقوموا على قبري قدر ما تنحر جزور ثم يقسم حتى أستأنس بكم وأعلم بما أراجع به رسل ربي)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره تجصيصه)

فيكره أن يجصص القبر وأن يزخرف ويزين.

هذا للكراهية في المشهور من المذهب وغيرهم من الفقهاء.

واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يخصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) .

والصحيح أن هذا النهي للتحريم؛ كما هو ظاهر الحديث، وهو ما اختاره الصنعاني.

بل ذلك من كبائر الذنوب فهو فتح لباب الشرك الأعظم فإن من أعظم ذرائع الشرك تعظيم القبور بتجصيصها والبناء عليها وزخرفتها، وهي مما كان عليه اليهود النصارى ومما وقعت هذه الأمة بالتشبه بهم فيه.

فعلى ذلك هذا من أعظم المنكرات فلا يقال بكراهيته فحسب بل هو محرم مقطوع بتحريمه لأن النص فيه، ولو لم يثبت النص به فهو محرم قطعاً؛ لأنه ذريعة إلى الشرك فكيف وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (والبناء عليه)

فهو محرم كما تقدم.

قال: (والكتابة)

الكتابة على القبر مكروهة.

ودليله ما ثبت في النسائي من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يكتب عليه) .

وظاهر ذلك المنع مطلقاً سواء كانت الكتابة مزخرفة أم لا، وسواء كانت الكتابة فيها ألفاظ ثناء على الميت أم لم يكن فيها ذلك، فإنها منهي عنها مطلقاً ولا شك أنها ذريعة إلى الشرك.

لكن قال الحاكم في مستدركه: (وليس العمل على هذا عند أهل العلم فإن أئمة المسلمين في الشرق والغرب مكتوب على قبورهم) .

ص: 217

وتعقبه الذهبي: بأن هذا لم يصح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله بعض التابعين فمن بعدهم ممن لم يبلغهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن ذلك لا يجوز.

* لكن هل يجوز أن يكون ذلك علامة إن لم يتمكن أهل الميت أن يضعوا علامة عليه لكثرة القبور وعدم التمييز بغير الكتابة؟

ذهب طائفة من أهل العلم إلى جواز ذلك، وإنها إذا وضعت الكتابة مجردة واكتفى بالاسم فحسب فإن ذلك لا بأس به بشرط ألا يتمكن من وضع علامة غيرها، وذلك للحاجة إلى معرفة قبر الميت.

فقد ثبت في سنن أبي داود أن صلى الله عليه وسلم: (وضع صخرة عند رأس عثمان بن مظعون وقال: أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي) .

وهذا القول حسن إن شاء الله.

وفي هذا الحديث فائدة وهو أن قبر الميت ودفنه عند خاصته وأقاربه ومعارفه وعند أهل الخير والصلاح أمر حسن فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فوضع علامة عند قبر عثمان بن مظعون وكان من خيار الصحابة وعبادهم وذلك أيضاً: لتسهل عليه الزيارة فيأتي بالزيارة الواحدة فيجمعهم.

فلا بأس أن يتقصد المقابر التي فيها الصالحون كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأدفن إليه من مات من أهلي)

قال: (والجلوس)

الجلوس على القبر منهي عنه، وقد تقدم قول جابر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم قال:(وأن يقعد عليه)، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لأن أن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي " وهو من الأمور المعجزة التي تشق على النفس " أحب إلى من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَطَ السوق قضيت حاجتي أم وسط القبور) رواه ابن ماجه.

وهذا فيه النهي عن المشي ولا شك أن المشي أعظم من القعود.

ص: 218

وفيه – أيضاً – النهي عن قضاء الحاجة في المقابر، أما على القبر فهو محرم – في المشهور من المذهب –، وأما بين القبور فقد كرهه الإمام أحمد كراهية شديدة، ونص بعض أصحابه على أنه محرم – وهذا هو الظاهر؛ لما فيه من أذية الميت والميت له حرمته. ولا شك أن فعل ذلك على القبر محرم قطعاً، وإن كان فعله بين القبور أهون من ذلك.

ويكره له في المشهور من المذهب أن يمشي بين القبور في نعليه لما روى الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور بنعليه فقال: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) .

والحدث ظاهره التحريم فإن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك وأمر بالقاء السبتيتين، وظاهر ذلك تحريم هذا، وإلى هذا نحا ابن حزم والشوكاني وأن المشي بين القبور بالنعال محرم، وهو قول قوي.

لكن يستثنى من ذلك إن احتاج إلى المشي بالنعال كأن تكون المقبرة ذات شوك أو أن تكون الأرض باردة أو شديدة الحرارة، أو أن يكون به مرض يتأذى من المشي حافياً فحينئذ لا حرج عليه بأن يمشي حافياً.

وأما ما أجاب به الخطابي من أن ذلك في النعلين السبتيتين فحسب لأنهما من لباس الخيلاء، فهذا ضعيف؛ فليستا من لباس الخيلاء، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(لبس النعال السبتية) .

فعلى ذلك: ينهى عن المشي بين القبور بالنعال إلا أن يحتاج إلى ذلك.

كما أنه ينهى عن الحديث بأمر الدنيا وعن الضحك ونحو ذلك؛ لأن الموضع موضع تذكر واتعاظ فينافي ذلك مقصود الشارع مما يكون في زيارة المقابر واتباع الجنائز من الاتعاظ والتذكر ونحو ذلك، والاشتغال بالضحك والحديث بالدنيا ينافي هذا، فكان ذلك منهيا عنه تحصيلاً لمقصد الشرع من اتباع الجنازة وزيارة المقابر.

قال: (والوطء عليه والاتكاء إليه)

وهذا لما تقدم فإن هذه من جنس ما وردت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 219

قال: (ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر)

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن الحفر لكل إنسان شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفروا وأعمقوا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد) .

قالوا: فهذا يدل على أن الأصل أن يقبر الميت في قبره وحده، وهذا كما فعل بعثمان بن مظعون وغيره من الصحابة.

وما ذكره الحنابلة من نظر.

فقد وجد جمهور أهل العلم وهو اختيار المجد بن تيمية واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام: إلى أن ذلك للكراهية، فيكره أن يدفن في القبر الواحد اثنان فأكثر من غير تحريم، وهو الراجح.

لأن ما ذكره الحنابلة لا يقوى على تحريم ذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم – من دفنهم في قبر واحد – يدل على مشروعية ذلك واستحبابه من غير أن يدل على أن خلافه محرم وأنه يجب أن يدفن الميت في قبر واحد.

فعلى ذلك – كما ذهب جمهور العلماء واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد بن تيمية وابن عقيل وصاحب الفروع وشيخ الإسلام - أنه لا بأس بذلك لكنه مكروه.

أما عند الحاجة إليه فلا بأس، كأن يكثر القتلى إما لوباء أو لقتال أو نحو ذلك فيشق على الناس أن يخصوا كل ميت بقبر، فيدفنوا الاثنين والثلاثة بقبر واحد فلا حرج.

قال: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب)

لم أر دليلاً يدل على ذلك ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو أمر به لما دفن قتلى أحد على الطريقة المتقدمة.

وعللوا ذلك: بأن هذا يجعل كل واحد منهما بمنزلة من له قبر مختص به – ولا بأس بذلك لكن من غير أن يقال باستحبابه فلم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

مسألة حكم نبش القبر؟

ص: 220

هو محرم، وقد ثبت في موطأ مالك عن عَمْرة بنت عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم:(لعن المختفي والمختفية) قال مالك: يعني نباش القبور. وهذا الحديث ورد مسنداً عن عمرة عن عائشة فيما رواه عبد الله بن عبد الوهاب ويحيى بن صالح عن الإمام مالك، فرووه مسنداً عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فنبش القبر محرم ولا يجوز ذلك إلا لمصلحة فإذا ثبتت المصلحة فلا بأس بنبشه كأن يدفن من غير تغسيل فيجوز أن ينبش ليكفن ويغسل.

أما لو دفن من غير أن يصلى عليه؟

ففي هذه المسألة قولان لأهل العلم:

أصحها أنه لا ينبش بل يصلى على القبر لصحة الصلاة عليه في القبر فلا نحتاج إلى أن ينبش قبره.

ومثل ذلك: إذا دفن الاثنان في قبر واحد، فأحب أهل الميت بعد أن تفرعوا للميت أن ينبشوه فيضعوه في قبر منفرد.

أو كانت الأرض فيها مشاحة واختلاف فاحتيج إلى أن ينقل منها إلى موضع آخر فلا بأس بذلك، وقد ثبت في البخاري عن جابر – في قصة قتلى أحد ودفن أبيه مع غيره في قبر - قال: وقد دفن معه غيره فلم تطب نفسي بذلك فاستخرجته بعد ستة أشهر) .

ومثل ذلك: لو وضعت مقبرة ثم ثبتت المصلحة بنقلها إلى موضع آخر فلا حرج بنبش القبور إلى موضع آخر.

قالوا: ولا بأس بنبشها أو الزرع عليها أو البناء ونحو ذلك إذا أصبحت رميماً تراباً قد ذهب عظمها فلم يبق منه شيء، وحكى صاحب الفروع: اتفاق أهل العلم على ذلك.

فحرمة القبر للميت مرتبطة فيما إذا كان على هيئته أو قد بقي شيء من عظامه، أما إذا أصبح رميماً تراباً فإنه لا حرمة لقبره، فيجوز أن يزرع عليه أو ينبش.

ولم منهم تصريحاً أن حرمته تنتهي مطلقاً، بل الظاهر أن ما تقدم من النهي - عن الجلوس ونحو ذلك – يبقى، لكن يجوز أن ينبش فيدفن معه غيره فيه.

ص: 221

والمدة التي يصبح بها الميت رميماً تراباً يعرفها أهل الخبرة فإذا مضت السنوات التي يعلم بالظن الغالب أن الميت قد أصبح رميماً فيجوز أن ينبش قبره ثم يوضع ميت آخر.

ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم، وقد نص عليها الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم ولم أر فيها خلافاً وهي مسألة قديمة.

فقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير قال: (لا أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إلى من أدفن فيه فإنما هو أحد رجلين إما ظالم فلا أحب أن أدفن معه وإما صالح فلا أحب تنبش عظامه) .

فإن نبش وقد بقيت عظامه؟

فقال الحنابلة يعاد القبر كما كان ولا يقم عليه غيره ما بقيت عظامه.

قال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الخلال من أصحابه: أنه لا بأس بذلك.

وهذا هو القول الراجح، فإن النبش قد حصل فحينئذ لا مانع أن يدفن، فقد حصل هذا النبش واحتيج إلى هذا القبر في الدفن فحينئذ يدفن معه مع بقاء عظامه، أما إذا بقي على حالته فإنه لا يدفن معه، فإن دفن معه فلا بأس – كما تقدم في مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة.

فمن ظن بقاء عظامه فلا يجوز نبش قبره، وكذلك القبور المعظمة عند أهل الإسلام لعظمة أهلها في دينهم وصلاحهم فإن هؤلاء مظنة أن تبقى أبدانهم فلا ينبغي أن يتعرض إليها.

اعلم أن المستحب أن يتولى دفن الميت أولياؤه من الرجال، وأن النساء لا يستحب لهن مطلقاً أن يتولين الدفن؛ وذلك لأنه مظنة لخروج شيء من سترها والمرأة مأمورة بأتم ما يكون من الستر، ولا شك أن الدفن مظنة لخروج شيء من بدنها فكان ذلك مختصاً بالرجال.

وأحق الناس أولياء الميت، فقد ثبت في الحاكم بإسناد صحيح أن علياً والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين تولوا دفنه – عليه الصلاة والسلام –.

ص: 222

لكن يستحب ألا يكون المشتغل بالدفن ممن قارف ليلته تلك أهله - أي جامع أهله -، فقد ثبت في البخاري عن أنس قال:(شهدنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تذرفان فقال: هل منكم من أحد لم يقارف الليلة فقال: أبو طلحة: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انزل في قبرها، فنزل فقبرها) .

وهذا يدل على أنه لا بأس أن يتولى دفن المرأة من لم يكن من محارمها وإن كان المستحب أن يكون ذلك من محارمها؛ لأن مظنة الشهوة بعيدة في هذا الموضع فتكون شبيهة بمحارمه فإن الميتة لا تشتهى.

والمحرم أولى، فقد ثبت في البيهقي:(أنه لما ماتت زينب بنت جحش قالت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك – أي دفنها – من كان يراها في حياتها فقال عمر: صدقتن) .

والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تكره القراءة على القبر)

فلا بأس أن يقرأ على القبر من القرآن كسورة الفاتحة ويَس أو غير ذلك – هذا في المشهور من مذهب الحنابلة –، وذكروا في ذلك حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من جاء إلى المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم وكان له بعددهم حسنات) لكن الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومذهب قدماء أصحاب الإمام أحمد وهو مذهب المالكية والأحناف: كراهة ذلك، بل هو بدعة كما صرح به الإمام أحمد في رواية عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لأهل القبور في المقبرة ولم يصح عنه أنه قرأ شيئاً من القرآن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه فكان حدثاً وبدعة.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم -: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) فهنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم البيوت التي لا تقرأ فيها القرآن بأنها مقابر، فدل ذلك على أن المقابر ليست مجالاً لقراءة القرآن.

ص: 223

فالصحيح مذهب المالكية والأحناف واختيار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد من النهي عن ذلك بل هو بدعة.

قال: (وأي قربة فعلها)

أي قربة سواء كانت صلاة أو صياماً أو حجاً أو ذكراً أو قراءة للقرآن أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي، نفعه ذلك وبلغه ثواب العمل – أي قربة كانت فهو يصل الحي والميت، وهذا هو المشهور في المذهب.

وقال بعض الحنابلة: لا يكون إلا للميت أما الحي فليس محتاجاً إلى العمل؛ ولأنه يترتب على ذلك مفاسد عظيمة من تواكل كثير من الناس على غيرهم في العمل على ابن وغيره مع كونه قادراً على العمل بل ربما دفعت الأجرة على العمل الصالح ونحو ذلك.

وهذا القول – على القول بهذه المسألة وسيأتي الخلاف فيها - أصح وهو أنه مختص بالميت دون الحي، فإن الحي لا يحتاج إلى العمل ولأن ذلك يترتب مفاسد عظيمة – وتقدم ذكر شيء منها.

قالوا: ويشترط أن ينوي ذلك بعمله، فلا يعمله ثم ينوي الثواب لغيره، فإذا فعله ثم نوى الثواب لم يجزئ ذلك.

قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن به على هذه الصورة فقال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وقال: (حجي عنها) ونحو ذلك من الأحاديث التي تقتضي أن يكون العمل من أصله متوجهاً إلى الميت.

قالوا: ولأن الأثر يترتب على الفعل، فإذا ثبت الأثر على الفعل فإنه لا يتزحزح عنه، والأثر هنا هو الثواب، كالولاء فإن من اعتق عبداً فإنه يثبت له ولاؤه، فلو نوى الثواب لأحد من الناس فإن الولاء يبقى له.

وقال بعض الحنابلة: بل لا يشترط ذلك؛ فإن الثواب ملكه فإذا تصدق به بعد ذلك فلا حرج.

والأظهر ما تقدم فإن الثواب أثر للعمل فكان شرطاً فيه أصلاً.

قالوا: ولا يشترط أن يهدي الثواب كله، فلو تصدق بصدقة ونوى أن يكون شطر ثوابها له وشطر ثوابها للميت فإنه لا حرج في ذلك، وهذا أمر ظاهر.

ص: 224

إذن: أصل المسألة أن الميت يصل إليه الثواب الناتج من عمل أحد من الناس وأنه ينتفع بذلك.

واعلم أن أهل العلم قد اتفقوا على أن الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – أن الميت ينتفع بها. قال تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) .

وغير ذلك مما هو في باب الدعاء والاستغفار وأن الآخر ينتفع بدعاء غيره واستغفاره له ومن ذلك الميت، وأما الصدقة فثبت في الصحيحين عن عائشة:(أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم)، وثبت في البخاري عن عباده:(أن أمه توفيت – وهو غائب فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وأنا غائب فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال: نعم فقال: أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) .

وأما أداء الواجبات، فقد قال صلى الله عليه وسلم – لمن سألته عن الحج:(أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: فدين أحق الله بالقضاء) متفق عليه، وقال:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .

فهذه الأحاديث تدل إلى أن الاستغفار والدعاء والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – وفي المسألة تفصيلاً ليس هذا محله –، هذه الأربع قد اتفق العلماء على أنها تنفع الميت.

وشذ بعض أهل العلم كالشوكاني – خلافاً للإجماع الذي ذكره النووي وقال: إنما ينفع ذلك من الولد دون غيره والإجماع المذكور من النووي يخالف ذلك.

ص: 225

وأما ذكر الله من استغفار ودعاء من بعدهم يدل على أن ذلك يقبل ولو كان من غير ولده، على أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم الآتي إنما نص على دعاء الولد ومع ذلك فإن الدعاء بدلالة الكتاب والسنة الصريحة قد دلا على أن الدعاء يصل إلى الميت وهؤلاء الناس يجتمعون على الميت فيدعون له ومنهم الولد وغيره بالإجماع.

فهذه الأربع تصل إلى الميت مطلقاً.

*واختلف أهل العلم في بقية القرب هل تصل أم لا؟

- فقال الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: تصل إلى الميت.

واستدلوا: بما تقدم من الأدلة.

فقالوا: الصوم يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية، والحج يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية والمالية والصدقة تدل على الانتفاع بالعبادات المالية.

قالوا: فتلك الأدلة دالة على جواز الكل.

قالوا: وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – لعمرو بن العاص في أبيه: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك) والحديث إسناده حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الحج عن الميت مطلقاً سواء كان تطوعاً أو فريضة أن ذلك يجزئ عنه. - وشذت طائفة من المبتدعة ولا يقول بذلك إلا أهل البدع فقالوا: إن الميت لا يصل إليه شيء من الأحياء مطلقاً، لا دعاء ولا صدقة ولا استغفار ولا غير ذلك.

وهذا القول لا يلتفت إليه، ولكني ذكرته لئلا يفهم كلام شيخ الإسلام فهماً خاطئاً فإنه لما ذكر هذه المسألة قال: ولا يقول بذلك إلا أهل البدع يعني بذلك من نفي الانتفاع مطلقاً، وأما من نفى الانتفاع بغير الأربع فإنه يقول به أكثر أهل العلم كما سيأتي.

وقول [أهل] البدع هذا – مخالف الكتاب والسنة وما ثبت بإجماع العلماء.

ص: 226

أما القول الثاني في هذه المسألة، فهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: وهو أن الميت لا ينتفع إلا بما تقدم ذكره من الأربع، أما غيرها من الأعمال فإنه لا ينتفع به.

واستدلوا: بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} .

قالوا: فهذه الآية حاصرة، فإن الإنسان ليس له من عمله إلا ما سعاه، أما ما لم يسعه مما أهدي إليه، فإن ذلك لا يصل إليه.

ويستثنى من ذلك ما وردت به السنة وهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .

قالوا: فهذا في الحقيقة من سعيه فإنه متصرف ظاهر في ولده كما هو متصرف ظاهر في العلم والصدقة، فالولد كسب لأبيه، وإنما ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من عمله.

وأما الدعاء من الغير فليس هو من عمل الإنسان لكن دلت الأدلة المتقدمة أن ذلك يصل إليه.

وأجاب شيخ الإسلام على الاستدلال بالآية – وهو أصح جواب أورد على الاستدلال بالآية – أجاب وذكر ذلك ابن القيم مقراً له –: " أي ليس للإنسان مالكاً لغير سعيه، فالنفي هنا متوجه إلى ملكه، وأنه لا يملك شيئاً من الأعمال إلا ما سعاه، وليس فيه نفي الانتفاع فإنه قد ينتفع بعمل غيره ".

وفيما قاله – رحمه الله تعالى – نظر، فإن العمل إنما يستفاد منه الانتفاع، وإلا فإن الآية لا يكون لها فائدة، إذ هذا النفي لا يتوجه إلى شيء فإن العمل إنما يقصد منه الانتفاع فإذا عمل الغير له ونفينا أن العمل له وأثبتنا الانتفاع، فإن الآية لا تكون متوجهة إلى إفادة فهذا ممتنع في القرآن غاية الامتناع. فالأصح ما ذهب إليه جمهور العلماء – والمسألة فيها قوة – وأنه لا يصل إلى الميت إلا ما تقدم.

ص: 227

مما يدل على ذلك ما تقدم في مسألة التفريق بين الحي والميت فإن أصل هذه المسألة هو إجازة هذا الثواب للغير، وأن الثواب ملك له فيجوز أن يهديه للغير وحينئذ لا فرق في الحقيقة بين الحي والميت، وهذا مما يضعف هذا القول.

فنحن لو أجزنا الإهداء إلى الميت لأن هذا الحي الثواب ملك له فيجوز أن يهديه لأي أحد، فيجوز له مادام ملكاً له أن يهديه للحي أيضاً كما هو المشهور في المذهب، – وحينئذ – يكون هذا مما يضعف القول؛ لأن الإهداء إلى الحي فيه مفاسد كثيرة تقدم ذكر شيء منها.

ولأن ذلك لم يكن من هدي السلف الصالح – وهذا شيخ الإسلام قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء الثواب وأن ذلك لا ينبغي وأن هديهم أفضل وأكمل.

كما أن فيه إيثاراً في القربة، فهي قربة وعمل صالح يتقرب به العبد إلى الله فكيف يهديه إلى غيره.

فإن قيل: ألا تقاس سائر الأعمال على ما تقدم ذكره؟

فالجواب: إن هذا قياس مع الفارق، فإن الصدقة فيها انتفاع متعد، والدعاء فيه انتفاع متعد وانتفاع للشخص، فإن الملك يقول:(ولك بمثل) كما ثبت في مسلم.

وأما قضاء الدين عنه، فإن هذا واجب عليه، فكان في فعله فرق بين ذلك وفيه إرادة الثواب المحضة فلم يكن القياس صحيحاً مع ثبوت الفارق فإن الفوارق ظاهرة، فإن الصدقة نفعها متعد ومثل ذلك العتق، والشارع متشوف إلى إثباتها، والأحياء يحبون أن يوصلوا الثواب إلى أمواتهم فإذا فتح باب الصدقة وأغلق غيره انتفع بذلك الفقراء وحصل ما يتشوف إليه الشارع من إزالة الفقر عنهم وغير ذلك من مقاصد الشرع الثابتة في الصدقة.

والدعاء ينتفع به الشخص وينتفع به الغير فليس كالتخلي عن الثواب، وأما الديون [لعل صوابها:"الصوم"(محمد خليفة) ] فإنها بمعنى الدين على الآدمي وفيها تبرئة لذمة الميت وفيها تطييب لخاطر الحي فإنه إذا قام بالعمل المفترض على ميته وكان ديناً له على الله أو غيره كان ذلك تطيباً لقلبه.

فالراجح مذهب الجمهور.

ص: 228

قال: (وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم)

هذا أمر مستحب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الخمسة إلا النسائي -:(اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) .

فيستحب أن يصنع لأهل المصيبة طعاماً فهم منشغلون عن حاجتهم إلى الطعام والشراب.

وقد قيد المجد وهكذا صاحب الروض: بثلاثة أيام – وهذا التقييد لا دليل عليه، فقد يكون ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك بحسب تأثر أهل الميت بالمصيبة.

قال: (ويكره لهم فعله للناس)

يكره لهم وينهون أن يصنعوا الطعام لمن يجتمع عندهم من الناس، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه عن جابر قال (كنا نَعُدُّ الاجتماع عند أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة)(1) .

وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة: إلى أن ذلك يحرم، وهو أصح؛ لقول الصحابي " من النياحة " والنياحة محرمة، فلا يجوز لهم أن يصنعوا الطعام للناس، بل الاجتماع عند أهل الميت من النياحة كما تقدم في قول الصحابي، وقد نص على كراهيته الإمام أحمد والشافعي وغيرهم من أهل العلم وأن الاجتماع عند أهل الميت مكروه بل هو من النياحة كما تقدم في قول جابر.

فصل

قال: (تسن زيارة القبور) .

لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها) زاد أحمد وأبو داود وغيرهما: (فإنها تذكركم الآخرة)، وفي الحاكم من حديث أنس:(فإنها ترق القلب وتدمع العين) . فيستحب للمسلم أن يزور القبور، وإذا زارها فإنه يأتي من قبل وجهه، فيستدبر القبلة ويستقبل وجه الميت فيدنو منه – كما يفعل في زيارته للحي، وفي ذلك حديث حسنه الترمذي وفيه: وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى قبور المدينة فاستقبل القبور بوجهه) لكن الحديث ضعيف.

(1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص210.

ص: 229

لكن زيارة الميت في حكم زيارة الحي، فإن الحي إذا زير استقبل وجهه ودني منه فكذلك الميت – وهذا ما عليه عمل أهل العلم.

وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لزيارة القبور بل ذلك على حسب ما يحتاج إليه المسلم من تذكر الآخرة أو ما يصل به ميته، وليس في ذلك حد محدود فيه أو يوم معين يستحب فيه الزيارة.

قال: (إلا النساء)

فلا يشرع زيارة القبور لهن – وهذا من المشهور في مذهب أحمد وأنه يكره للنساء أن يزرن القبور وهناك قولان سوى هذا القول:

أحدهما: أن الزيارة للنساء محرمة، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه.

والثاني: أنها مباحة، وهو مذهب أكثر أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد.

استدل الناهون عن ذلك: بما روى الترمذي وابن ماجه وهو ثابت في مسند أحمد وصحيح بن حبان من حديث عمرو بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) وعمرو بن أبي سلمة صدوق إلا أن في حفظه بعض الضعف، والحديث حسن لا ينزل عن درجة الحسن، فهذا الضعف اليسير في حفظه لا يؤثر في الحديث.

وله شاهد من حديث حسان بن ثابت – عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وفيه ابن بهمان وهو مجهول، لكنه يشهد للحديث المتقدم، على أنه قائم بنفسه إن شاء الله، وقال ابن حبان في روايته حديث أبي هريرة:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) ، وبقية المصنفين الذين خرجوا هذا الحديث أتوا بلفظة " زوارات "، وهو أصح، فقد أتى بها الإمام أحمد والترمذي بلفظة " زوارات "، وما ذكره جمهور المصنفين يشهد له حديث حسان المتقدم.

فعلى ذلك الصحيح في حديث أبي هريرة ما ذكره عامة المصنفين: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) .

ص: 230

واستدلوا: بما رواه ابن ماجه والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) .

فهذا دليل يدل على النهي عن زيارة القبور وهو صريح في النهي عن الزيارة أصلاً.

لكن الحديث فيه: أبو صالح باذام وصبطت باذان وهو ضعيف الحديث ولا يلتفت لما قاله ابن حبان من أنه صالح الراوي عن ابن عباس وهو ثقة.

فإن عامة أهل العلم كالترمذي والمزي والإشبيلي والمنذري وابن دحية وغيرهم من أهل العلم صرحوا بأنه أبو صالح باذام وهو ضعيف كما صرح بذلك الترمذي في سننه وغيره.

وقد ورد هذا في بعض أسانيده مصرحاً " عن أبي صالح باذام عن أبي هريرة "، فعلى ذلك الحديث إسناده ضعيف.

هذا أدلة الحنابلة القائلين بالنهي عن زيارة القبور.

لكن شيخ الإسلام رأى أن هذه الأحاديث تدل على التحريم حيث صحت بلفظة " زائرات " وتقدم أنها لا تصح، فإنها لو صحت لما قيل بكراهية ذلك بل يقال بتحريم ذلك، بل إنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعنة لا تكون إلا على كبيرة.

ويستدل لهم: بما ثبت في الصحيحين من نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن اتباع الجنازة كما في حديث أم عطية.

- وأما أكثر أهل العلم: فاستدلوا بأدلة منها:

ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر على امرأة عند قبر وتبكي فقال: اتقي الله واصبري فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فذكر لها أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت إليه فلم تجد عنده بوابين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) .

قالوا: إنما أنكر عليها هنا هذا التأثر الشديد الذي اقتضى لها أنه تنفرد في المقبرة فتبكي ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الزيارة.

ص: 231

واستدلوا بما هو أظهر وهو ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله كيف أقول لهم - تعني إذا زرتهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) والحديث، فهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ما تقول ولم تقل: كيف يقال، وهو الثابت من فعلها، فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن أبي مليكة قال:(أقبلت عائشة من المقابر فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ فقالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن عوف [الصواب: عبد الرحمن بن أبي بكر] فقلت لها: أو ليس [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] نهى عن زيارة القبور؟ فقالت: نعم ثم أمر بزيارتها) .

فهنا عائشة رأت أنها داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها فإنها تذكر الآخرة) .

قالوا: ولا مفسدة في ذلك بل فيه تذكرها بالآخرة وترقيق القلب وإدماع العين، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة - كما تقدم في حديث عمر في المسند – عن اتباع الجنازة، مع أن اتباع الجنازة فيها ما يخاف من الفتنة ما هو أعظم مما يكون في زيارتها، فإن في اتباع الجنازة للمرأة ورؤية الميت مع كون المصيبة حاضرة وحديثة العهد هو أعظم تأثيراً في نفسها من كونها تذهب إلى زيارة القبور - لا شك أنه أعظم -، ومع ذلك فلم يُعزم على النساء في النهي عن ذلك، بل أذن لهن كما في حديث أم عطية، فهذه تدل على قوة ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذه المسألة.

فما ذهب إليه الجمهور أرجح مما ذهب إليه الحنابلة.

ص: 232

لكن تنهى أن تكون زوارة للقبور والزوارة هي المكثرة للزيارة، ولا شك أن الإكثار من الزيارة فيه ما فيه من المفاسد وفيه إشغال المرأة عن الحق الذي عليها في بيتها، وفيه كذلك ما يخشى على المرأة من شدة التأثر والوارد الذي يرد على قلبها من كثرة الزيارة ما لا تتحمله المرأة، ويخشى عليها أن تنفرد في الزيارة فتكون حيث يتخلى فيها، والغالب في المقابر أن تكون بعيدة عن الناس، مع ما يخشى عليها من التأثر الشديد الزائد عما يرغب فيه الشارع من كونها تذكر الآخرة.

والصحيح مذهب الجمهور من جواز زيارة النساء للمقابر.

واستثنى صاحب الروض من ذلك ما يكون من زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه " أبي بكر وعمر " فقالوا: لا بأس بذلك.

لكن هذا ضعيف فلا يثبت استثناؤه على القول بمذهب الحنابلة بل تنهى كما تنهى عن غيره، فإن ما ذكروه من الأحاديث في هذا الباب عامة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه.

والصحيح ما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء وأن ذلك جائز مطلقاً ومن ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور الصحابة لكنها تنهى أن تكون زوارة.

قال: (وأن يقول: إذا زراها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية)

فقد ثبتت هذه الألفاظ ونحوها في مسلم عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: كيف أقول لهم قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)، وفي مسلم من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) .

وفيه: أنه لا بأس أن ينص على اسم المقبرة.

ص: 233

قال: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده واغفر لنا وله (1))

هذا من الدعاء المباح في هذا الموضع وإن كانت هذه الألفاظ في الأصل ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع لكنها من الدعاء المباح فيدعو بما ورد وبما شاء من الدعاء بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك.

ولا بأس أن يرفع يديه، فقد ثبت في مسلم عن عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل:(قام قياماً طويلاً ورفع يديه ثلاث مرات) لكنه لا يستقبل الميت بل يستقبل القبلة.

ومع ذلك فإنه إذا خشيت الفتنة في رفع اليدين فإنه لا يفعل ذلك؛ لئلا تظن أنه يدعو الأموات من دون الله عز وجل بل ينبغي له إذا أراد فعل ذلك أن يبتعد قليلاً عن الناس، وأن يوليهم ظهر ويرفع يديه مستقبل القبلة ليزول ما يخشى من الفتنة.

والحمد لله رب العالمين.

مسألة: في باب الدفن:

وهي أن جمهور أهل العلم قد ذهبوا إلى جواز الدفن ليلاً واستدلوا بما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر بقبر فسأل عنه فقيل له: أنه دفن بليل فقال: أفلا آذنتموني) .

فهذا الحديث يدل على أن الدفن بليل جائز وهو مذهب جماهير العلماء.

وأما ما ثبت في مسلم: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبض فكفن بكفن غير طائل " أي غير ساتر " فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ثم قال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) .

فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل إنما ذلك خشية ألا يحسن كفنه وألا يصلى عليه كما ينبغي أو أن يكون حضور الناس قليلاً أو نحو ذلك من سوء في التغسيل.

(1) وفي نسخة بصيغة: " اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم "

ص: 234

أما إن كان التغسيل حسناً والتكفين كذلك وكانت صلاته مشهودة فلا بأس بذلك؛ لما تقدم في حديث البخاري. والمشهور أن أبا بكر قد دفنه الصحابة بليل ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً.

قال: (وتسن تعزيه المصاب بالميت)

التعزية: هي التقوية والتسلية والدعاء للميت والحث على الصبر.

وأما المصاب: فهو من أصيب بالميت سواء كان من أهله أو من يربطه به نسب أو صهر، أو من أصدقائه كأن يكون رفيقاً.

فكل مصاب فإنه يعزى سواء كان من أهله أو أصدقائه.

وقد ثبت التعزية من فعله [صلى الله عليه وسلم]، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد:(أن بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه أن ابناً لها أو بنتاً قد حضرت فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ السلام ويقول: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى) .

وفيها إحسان للمصاب وللميت وفيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من حث على الصبر، وفيها معروف من الدعاء للميت فكانت مشروعة، وهذا مما اتفق عليه العلماء.

ولم ثبت بخصوصيتها حديث في فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عزى مصاباً فله مثل أجره) فقد استغربه الترمذي، وهو كما قال.

ومثله ما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يعزي أخاه في مصيبة إلا كساه الله من حلل الجنة يوم القيامة) فالحديث إسناده ضعيف.

فلم يثبت حديث بخصوصها، لكنها داخلة في عموم فضل تعزية المسلم في مصابه، سواء مصابه المرض ومصابه في ميت له أو نحو ذلك، وما فيها من الإحسان إلى أهل الميت وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ص: 235

والحديث المتقدم – كما قال النووي – من أحسن ما يعزى به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى) رواه البخاري، فإن قال:(أعظم الله أجوركم وأحسن عزائكم) فلا بأس بذلك وهو ثابت عن الإمام أحمد.

وعنه: (آجرنا الله وإياك في هذا الرجل) ونحو ذلك من الألفاظ فأي لفظ فيه تعزية وجبر للميت فهو حسن فليس هناك لفظ محدد، لكن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أحسن ما يعزى به.

وقد يكون المصاب يحتاج أن يذكر بفضل من مات له ميت أو نحو ذلك معه، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث فذلك كله من التعزية.

وهل للتعزية مدة محدودة؟

أما أولها فإن التعزية جائزة بعد الدفن أو قبله، كما هو المشهور في مذهب الحنابلة ،

ويدل عليها الحديث المتقدم في قصة ابن أو بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها أرسلت إليه وقالت: إن ابناً لها أو بنتاً حضرت، فهي - أو هو - لم يثبت بعد موته لكنه قد احتضر فكان في حكم الميت فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم بالتعزية المتقدمة.

وأولى من ذلك التعزية قبل الدفن، فلو عزى قبل الدفن أو قبل التغسيل أو الصلاة عليه فلا بأس بذلك ويحصل المقصود المتقدم، وإن عزى بعد الدفن فلا بأس.

والمشهور في مذهب الحنابلة والشافعية: أن مدة العزاء ثلاثة أيام، فلا يعزى بعدها مصاب إلا أن يكون غائباً فيعزى عند حضوره أن لم ينس المصيبة.

قالوا: لأن التعزية بعد ثلاث تهيج الحزن وتثيره في النفس فلا يكون فيها الفائدة المقصودة من التعزية بل يحصل ضد ذلك.

- وقال بعض الحنابلة، فهو وجه عندهم، وبعض الشافعية: بل ليس للتعزية مدة محدودة بل متى احتيج إليها فعلت، فلو عزاه بعد عشرة أيام أو شهر فلا بأس ما دام أن المصاب يحتاج إلى ذلك.

ص: 236

فلو أن أهل الميت تطاول بهم الحزن فإن التعزية تشرع حينئذ ولو بعد ثلاثة؛ لأن المقصود ما تقدم من تقوية المصاب وتسليته وحثه على الصبر وهذا – في الحقيقة – ليس لها مدة محددة لا يشرع بعدها.

إذن الصحيح: أن التعزية ليس لها أمد بل متى احتاج إليها المصاب عزي ولو كان ذلك بعد موت ميته بزمن متطاول.

لكن إن كانت لا فائدة منها إلا تهييج الحزن، فإنها لا تفعل ولو كان ذلك بعد يومين أو قبل ثلاثة أيام.

وأباح الحنابلة أن يتميز المصاب بثوب أو نحو ذلك ليعزى، فلا بأس أن يشهر بثوب ونحوه.

واستنكر هذا بعض الحنابلة وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن ذلك ليس من فعل السلف الصالح فليس من هديهم إشهار المصاب بثوب، فلا أصل له من فعل السلف فكان من البدع المحدثة – وهو الصحيح.

- والمشهور والصحيح في مذهب الحنابلة أنه لا بأس أن يؤخذ بيد المصاب للمصافحة أو نحوها.

ومثل ذلك ما يشتهر عندنا من المعانقة، فلا بأس بها على قاعدة المذهب.

وكرهه بعض الحنابلة، والأظهر جوازه وأن هذا ليس من باب العبادة وإنما من باب العادة.

قال: (ويجوز البكاء على الميت)

لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذرفت عيناه لما قبض إبراهيم – ابنه – وقال: (هذه رحمة ثم قال: إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) .

واستحب شيخ الإسلام البكاء على الميت؛ لفعله صلى الله عليه وسلم – أن ذلك أكمل مما حدث من بعض التابعين كالفضل من فرحه بموت ابنه أي لإظهار الرضا وكان من كبار التابعين أو أتباعهم، لكن السنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 237

فجزم شيخ الإسلام باستحبابه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولقوله: (هذه رحمة) والرحمة مستحبة وأن ذلك أكمل من الفرح إظهاراً للرضا بقدر الله، والرضا بقدر الله لا يعارضه ما يكون من طبيعة البشر من دمع في العين أو حزن في القلب.

* وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) إشكال:

وذلك أن الله عز وجل قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وأخبرنا الله في كتابه أنه هو الذي يضحك ويبكي، فكيف يعذب الميت بما يفعله من طبيعته وفطرته، ثم ما الذي يلحق الميت من هذا البكاء الواقع من الحي فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟

وأجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة، أصحها جوابان.

لجواب الأول: وهو ما سلكه جمهور أهل العلم: أن ذلك فيمن أوصى بالبكاء عليه البكاء غير المشروع الذي فيه ندب ونياحة ونحو ذلك، أو يعلم من طبيعة أهله وعادتهم الندب والنياحة ومع ذلك لم يكن منه إنكار لذلك وتوصية بعدم فعل ذلك، فيصل إليه العذاب في قبره لأنه غير منكر بذلك راض به.

والجواب الثاني: ما سلكه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن العذاب المذكور إنما هو التألم والأذى، والتألم والأذى ليس مما يقع فيه الإشكال المتقدم، فإن الإنسان يتألم ويقع في قلبه الحسرة ونحو ذلك من غير أن يقع عليه شيء من العذاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السفر:(إنه قطعة من العذاب)، وقال تعالى:{لن يضروكم إلا أذى} ، فلما نفى الله الضرر من الكفار لم ينكر الله وقوع الأذى والألم النفسي ونحو ذلك، فمثل هذا أمر ليس من باب العذاب، بل الله عز وجل يتأذى ورسوله كما في الحديث القدسي:(يؤذيني بن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) .

ص: 238

وهذا يوافق ظاهر الحديث، فإن ظاهره أن البكاء يعذب كل ميت، وأن كل ميت يعذب ببكاء أهله، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما حضر سعد بن عبادة وكان عليه غاشية من أهله فقال صلى الله عليه وسلم – وقد بكى وبكى من حوله -:(لا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) .

فحينئذ: يتبين أن مراده البكاء غير المشروع، وثانياً: العذاب المعنوي وهو التألم النفسي وأنه يتألم لما يقع من أهله مما يخالف شرع الله عز وجل.

ومعلوم أن الصالح يتألم من وقوع الناس في المنكر. فهذا الميت يتألم من وقوع أهله في هذا المنكر، كما يتألم لو كان هذا البكاء على ميت غيره وهو حاضر بين أيديهم فكذلك يؤلمه وهو في قبره.

قال: (ويحرم الندب والنياحة)

الندب: هو ذكر محاسن الميت على وجه التسخط، فهذا هو الندب المحرم.

أما ذكر شيء من ذلك لا على سبيل التسخط فإن هذا لا بأس به، وقد ثبت في البخاري عن أنس قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتغشاه - أي الموت – قالت فاطمة: وكرب أبتاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب

رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه) .

فهذا من الندب لكنه ليس من الباب المتقدم الذي فيه تسخط على قدر الله وعدم رضا بما يوقعه الله من المقدرات من موت ونحو ذلك.

فالندب المحرم هو: ذكر الميت بمحاسنه وفضائله على وجه التسخط، ويصحبه في الغالب رفع صوت بالبكاء وهو النياحة، فالنياحة أن يرفع الصوت بالبكاء مع ذكر محاسنه كما تقدم.

ص: 239

أو أن يكون مع ذلك فعل ينافي الشرع ويظهر به التسخط أيضاً كضرب الخد أو شق الجيب أو نثر الشعر أو نحو ذلك، فسواء كان ذلك بالألفاظ أي رفع صوته بالبكاء ويندب الميت أو أن يكون ذلك مع شق الثوب ولطم الخد مع تفريق الشعر ونثره ونحو ذلك – فذلك كله من النياحة –.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)، وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم:(لعن الخامشة وجهها والشاقة ثوبها والداعية بالويل والثبور) .

وكل ذلك من النياحة المحرمة وهي من الكبائر للعن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ليس منا) .

وأما النعي وهو إعلان الموت فلا بأس، فلا بأس أن يعلن موت فلان ليصلى عليه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه) الحديث.

لكن ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النعي) .

والجمع بين الحديثين: أن الحديث الأول المراد به مجرد الإخبار بموته، وأما النفي المحرم فهو ما كان عليه أهل الجاهلية من إظهار ذلك في الأسواق والطرقات والمجالس العامة والصراخ بذلك فهذا هو المحرم، ومثله لو وقع النعي في الجرائد والمجلات فإنه من النعي المحرم.

قال: (وشق الثوب ولطم الخد ونحوه)

هذا كما تقدم من الأفعال التي تدل على التسخط على قدر الله عز وجل.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى كتاب الجنائز بحمد الله تعالى، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. ويليه كتاب الزكاة.

سؤال:

عند اجتماع صلاة الكسوف وصلاة العيد، أيهما يقدم على الآخر؟ مع ذكر السبب.

الجواب:

ص: 240

قال في حاشية الروض المربع ما نصه [2 / 536] : " ويقدم – أي الكسوف - على صلاة عيد، إن أمن فواته اتفاقاً، قاله في الفروع وغيره. واتفاقه مع العيد بعيد، لا يتصور اجتماعهما، ولم تجر به عادة. قال شيخ الإسلام: وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء، من اجتماع صلاة العيد والكسوف، فهذا ذكروه في ضمن كلامهم، فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات، فقدروا اجتماعها مع الظهر والوتر، وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم، هل يمكن ذلك في الخارج أو لا يمكن؟ فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج، لكن استفيد من ذلك العلم: علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع، لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها اهـ. وقيل: قد يتصور بأن يشهدوا على نقصان رجب وشعبان فيقع العيد في آخر رمضان، فإن خشي فواته قدم وفاقاً؛ لأن صلاة العيد واجبة في قول، والكسوف سنة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وممن ذكر هذه المسألة:

الموفق ابن قدامة في المغني [3 / 331] .

شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى [24 / 157] .

الخطيب الشربيني في مغني المحتاج [1 /..]

عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي في حاشية الروض المربع [2 / 536] .

وغيرهم من الفقهاء.

ص: 241