المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البداية والنهاية «101 هـ - 200 هـ»   تأليف الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء - البداية والنهاية - ط دار ابن كثير - جـ ١٠

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

البداية والنهاية

«101 هـ - 200 هـ»

تأليف

الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير

[701 هـ - 774 هـ]

حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه

مأمون محمد سعيد الصاغرجي

راجعه

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف

الجزء العاشر

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

تنبيه: الرموز المستخدمة:

ح= الأحمدية. ب= برلين. ظ= الظاهرية. ق= طبعة القاهرة.

ص: 4

‌ثم دخلت سنة إحدي ومئة

فيها كان هربُ يزيدَ بنِ المُهَلَّب من السجن حين بَلَغهُ مرضُ عمرَ بن عبد العزيز، فواعد غلمانَهُ يَلْقَوْنه بالخيل في بعض الأماكن، وقيل بإبلٍ

(1)

، ثم نزل من مَحْبِسه ومعه جماعة، وامرأتُه عاتكةُ بنت الفُرَاتِ العامريَّة، فلما جاء غِلْمانُهُ رَكِبَ روَاحلَهُ وسار، وكتب إلى عمرَ بنِ عبد العزيز: إنِّي والله ما خرجتُ من سجنك إلَّا حينّ بَلَغني مرضُكَ، ولو رَجْوتُ حياتَكَ ما خرَجْتُ، ولكنِّي خَشيتُ من يزيدَ بن عبد الملك فإنَّه يتوعَّدُني بالقَتْل، وكان يزيد بن عبد الملك يقول: لئن وَليْتُ لأقطعنَّ من يزيدَ بنِ المهلَّبِ طائفًا

(2)

؛ وذلك أنه لما وَلِيَ العراقَ عاقبَ أصهارَهُ آل أبي عقيل، وهم بيتُ الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفيّ، وكان يزيدُ بن عبد الملك مزوجًا [بأمِّ الحجَّاج]

(3)

بنتِ محمد بن يوسف [أخي الحجاج بن يوسف](3)، وله منها ابنهُ الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما سيأتي.

ولما بلغَ عمرَ بنَ عبد العزيز أنَّ يزيدَ بن المهلَّب هرَبَ من السجن قال: اللهمَّ إنْ كان يُريدُ بهذه الأمَّةِ سوءًا فاكفِهمْ شرَّه، وارْدُدْ كَيْدَه في نحرِه، ثم لم يزلِ المرضُ يتزايدُ بعمرَ بنِ عبد العزيز حتى مات وهو بخُنَاصِرَة، من دَيْرِ سمعان بين حماة وحَلَب، في يوم الجمعة، وقيل في يوم الأربعاء لخمس بقينَ من رجب من هذه السنة - أعني سنةَ إحدى ومئة - عن تسعٍ وثلاثين سنة وأشهر، وقيل إنه جاوز الأربعين بأشهر فالله أعلم.

وكانت خلافتُه فيما ذَكَر غيرُ واحدٍ سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكمًا مُقْسطًا، وإمامًا عادلًا وورِعًا ديِّنًا، لا تأخَذُه في الله لومةُ لائم. رحمه الله تعالى.

(1)

في (ح، ب): "يلقونه إلى بعض الأماكن بإبلٍ له" وليس فيهما ذكر الخيل.

(2)

في (ق): "طائفة"، والمثبت من (ح، ب)، وقوله: لأقطعن منه طائفًا. أي بعض أطرافه. والطائفة: القطعة من الشيء. اللسان (طوف).

(3)

ما بين حاصرتين زيادة من (ح، ب)؛ وهذه الزيادة مثال على زيادات كثيرة سوف تأتي ولا أشير إليها تخففًا من الحواشي التي لا طائل وراءها فكل زيادة على (ق) هي من (ح، ب، ظ) ولا أثبت من هذه الزيادات إلا ما أراه ضروريًا للنص، وبالمقابل فإن في (ق) زيادات ليست مثبتة في (ح، ب، ظ) فأبقيتها على ما هي عليه.

ص: 5

‌وهذه ترجمةُ عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله

(1)

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بنِ أمية بنِ عبد شمس بنِ عبدِ مَنَاف، أبو حفص القُرَشيُّ الأمويُّ المعروف، أميرُ المؤمنين، وأمه أمُّ عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ويقال له: أشَجُّ بني مروان؛ وكان يُقال: الأشجُّ والناقص أعْدَلا بني مروان، فهذا هو الأشج، وسيأتي ذكر الناقص.

كان عمر تابعيًا جليلًا، روى عن أنس بنِ مالك، والسائب بنِ يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام - وهو صحابيٌّ صغير - وروى عن خلقٍ من التابعين. وعنه جماعةٌ من التابعين وغيرِهم.

قال الإمام أحمد بن حنبل: لا أرى

(2)

قولَ أحدٍ من التابعين حُجَّة إلا قولَ عمر بن عبد العزيز.

بويع له بالخلافة بعد ابنِ عمِّهِ سليمان بن عبد الملك، عن عهْدٍ منه له في ذلك كما تقدَّم.

ويقال: كان مولده في سنةِ إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحُسين بن علي رضي الله عنهما بمصر؛ قاله غير واحد. وقال محمد بن سعد

(3)

: ولد سنة ثلاثٍ وستين. وقيل: ولد سنة تسع وخمسين. فالله أعلم.

وكان له جماعةٌ من الإخوة، ولكنَّ الذين هم من أبويه، أبو بكر، وعاصم، ومحمَّد.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بُكير، عن الليث، قال: بلَغَني أنَّ عِمْران

(4)

بن عبد الرحمن بن شُرَحْبيل بن حسنة، كان يحدِّثُ أنَّ رجلًا رأى في المنام ليلةَ ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة وَليَ الخلافة شكَّ أبو بكر - أنَّ مناديًا بين السماء والأرض ينادي: أتاكم اللِّينُ

(1)

ترجمة عمر بن عبد العزيز في: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ط أحمد عبيد)، تاريخ يحيى بن معين (2/ 432)، تاريخ خليفة (1/ 286)، (2/ 261)، التاريخ الكبير (6/ 174)، المعرفة والتاريخ (1/ 568، 620)، تاريخ الطبري (6/ 565، 573)، الجرح والتعديل (6/ 122)، الأغاني (9/ 254)، حلية الأولياء (5/ 253) تاريخ ابن عساكر (54/ 100)، طبقات الشيرازي (64)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 58، 66) مختصر ابن منظور (19/ 98)، تهذيب الكمال (21/ 432)، تاريخ الإسلام (4/ 164)، سير أعلام النبلاء (5/ 114)، تذكرة الحفاظ (1/ 118)، الوافي بالوفيات (22/ 506)، العقد الثمين (6/ 331)، غاية النهاية (1/ 593)، تهذيب التهذيب (7/ 475)، تاريخ الخلفاء (228).

(2)

في بعض النسخ: لا أدري.

(3)

في الطبقات (5/ 330).

(4)

هنا يبدأ خرم في (ب) وينتهي في ص (10) موضع الحاشية (1) وهو بمقدار صفحة من هذه النسخة ورقمها (116/ ب).

ص: 6

والدِّين، وإظهارُ العمل الصالح في المصلِّين. فقلت: ومَنْ هو؟ فنزل فكتب في الأرض ع م ر

(1)

.

وقال آدمُ بن أبي إياس: حدثنا ضَمْرة، حدثنا أبو علي ثَرْوان مولى عمر بن عبد العزيز. قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى إصْطَبْلِ أبيه وهو غلام، فضربه فَرسٌ فشَجَّه، فجعلَ أبوهُ يمسحُ الدَّمَ عنه ويقول: إنْ كنتَ أشجَّ بني أميَّة إنَّكَ إذًا لسعيد. رواه الحافظ ابنُ عساكر من طريقِ هارونَ بنِ معروف عن ضَمْرَة

(2)

.

وقال نُعيم بن حمَّاد: حدثنا ضِمَامُ بن إسماعيل عن أبي قَبيل، أنَّ عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلامٌ صغير، فبلغ أمَّه، فأرسلتْ إليه فقالت: ما يُبكيك؟ قال: ذكرتُ الموت، فبكَتْ أُمُّه. وكان قد جمع القرآن وهو غلام صغير (2).

وقال الضحَّاك بن عثمان الحِزَامي

(3)

. كان أبوه قد جعلَه عند صالح بن كَيْسان يؤدِّبُه، فلما حجَّ أبوه اجتازَ به في المدينة فسأله عنه فقال: ما خَبَرْتُ أحدًا الله أعظمُ في صدرِه من هذا الغلام

(4)

.

وروى يعقوبُ بن سفيان

(5)

، أنَّ عمرَ بن عبد العزيز تأخَّر عن الصلاة مع الجماعةِ يومًا، فقال له صالحُ بن كَيْسان: ما شغلَكَ؟ فقال: كانت مُرَجِّلتي تُسكِّنُ شعري. فقال له: أقدَّمت ذلك على الصلاة؟ وكتب إلى أبيه وهو على مصر يُعلِمهُ بذلك، فبعث أبوه رسولًا، فلم يكلِّمْه حتى حلَقَ رأسه.

وكان عمر بنُ عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمعُ منه، فبلغ عُبيدَ الله أنَّ عمرَ ينتقصُ عليًا، وأتاه مَرَّةً فأعرض عنه وقام يُصلِّي، فجلس عمرُ ينتظرُه، فلما سلَّم أقبل على عمر مُغضبًا وقال له: متى بلغَكَ أنَّ الله سخطَ على أهلِ بَدْر بعدَ أنْ رضي عنهم؟! قال ففهِمَها عمر وقال: معذرةً إلى الله ثم إليك، والله لا أعود. قال: فما سمع بعد ذلك يذكرُ عليًا إلا بخير

(6)

.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا أبي، حدثنا المفضَّل بن عبد الله، عن داودَ بنِ أبي هند. قال: دَخَلَ علينا عمرُ بن عبد العزيز من هذا الباب - يعني بابًا من أبواب مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(7)

- فقال رجل من

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 106، 107).

(2)

تاريخ ابن عساكر (54/ 107).

(3)

في (ق): "الخزامي" تصحيف، والمثبت من (ح) والمشتبه وتبصير المنتبه.

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 107).

(5)

في المعرفة والتاريخ (1/ 568). وفيه على خلاف في بعض الألفاظ.

(6)

تاريخ ابن عساكر (54/ 108) بنحوه.

(7)

في (ق): "وأشار إلى باب من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم" وما أثبته من (ح) وتاريخ ابن عساكر. وهكذا قد أغير في متن (ق) بآخر من (ح، ب، ظ) عندما يوافق المصدر الذي سبق المؤلف ونقل عنه دونما إشارة إلى ذلك فهو كثير تخففًا من الحواشي.

ص: 7

القوم: بعث إلينا الفاسقُ بابنه هذا يتعلَّم الفرائضَ والسنن، ويزعمُ أنه لن يموت حتى يكونَ خليفة، ويَسير بسيرةِ عمرَ بنِ الخطَّاب! قال داود: واللهِ ما ماتَ حتى رأينا ذلك فيه

(1)

.

وقال الزُّبير بن بكَّار: حدثني العُتْبيُّ قال: إنَّ أولَ ما استُبينَ من رُشْدِ عمرَ بنِ عبد العزيز حِرْصُه على العِلْم، ورغبتُهُ في الأدب، أنَّ أباه وَلي مصر وهو حديثُ السِّن، يشكُّ في بلوغه، فأراد أبوهُ إخراجَهُ مَعهُ إلى مصر من الشام، فقال: يا أبَهْ - أو غيرَ ذلك - لعلَّه يكونُ أنفعَ لي ولك؟ قال: وما هو؟ قال: ترحِّلُني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهائها، وأتأدَّبَ بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسلَ معه الخُدَّام، فقعد مع مشايخِ قريش، وتجنَّب شبابَهُم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر ذِكْرُه، فلمَّا مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبدُ الملك بن مروان فخلَطَهُ بولدِه، وقدَّمه على كثيرٍ منهم، وزوَّجَهُ بابنته فاطمة، وهي التي يقولُ الشاعرُ فيها:

بنتُ الخليفةِ والخليفةُ جدُّها

أُخْتُ الخلائفِ والخليفةُ زوجُها

قال: ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها.

قال العُتْبيّ: ولم يكن حاسدُ عمرَ بنِ عبد العزيز ينقمُ عليه شيئًا سوى متابعته في النعمة، والاختيالِ في المشية، وقد قال الأحنفُ بن قيس: الكامل من عُدَّتْ هفَوَاتُه، ولا تُعدُّ إلَّا من قلَّة. وقد ورث عمر من أبيه من الأموالِ والمتاع والدواب هو وإخوتُه ما لم يرثْهُ غيرُه فيما نعلم، كما تقدَّم ذلك، ودخل يومًا على عمِّه عبد الملك وهو يتجانَفُ في مشيته فقال له: يا عمر ما لك تمشي غيرَ مشيتك؟! قال: إن فيَّ جُرحًا، فقال: وأينَ هو من جسدك؟ قال: بين الرَّانِفَة

(2)

والصَّفَنِ - يعني بين طرَفِ الألْيَةِ وجِلْدَةِ الخُصْيَة - فقال عبدُ الملك لِرَوْح بنِ زِنْبَاع: تالله لو رجلٌ من قومك سُئل عن هذا ما أجابَ بمثل هذا الجواب

(3)

.

قالوا: ولما ماتَ عمُّه عبدُ الملك حَزِنَ عليه ولبِسَ المُسوحَ تحت ثيابِه سبعينَ يومًا، ولما وليَ الوليدُ عامَلَهُ بما كان أبوهُ يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحجَّ سنةَ تسعٍ وثمانين، وسنة تسعين، وحجَّ الوليدُ بالناس سنة إحدى وتسعين، ثم حج بالناس عمرُ سنة ثنتين وثلاثٍ وتسعين

(4)

.

وبنى في مُدَّة ولايته هذه مسجدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم .. ووسَّعه عن أمرِ الوليدِ له بذلك، فأدخل فيه الحُجْرة

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 109).

(2)

في (ق): "الرانقة" بالقاف، وهو تصحيف.

(3)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 109).

(4)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 110).

ص: 8

النبويَّة، وقد كان في هذه المدَّة من أحسن الناسِ معاشرةً، وأعدَلِهم سيرةً، كان إذا وقَعَ له أمرٌ مُشكلٌ جمَعَ فقهاءَ المدينة عليه، وقد عيَّنَ عشرةً منهم، وكان لا يقطعُ أمرًا بدونهم، أو منْ حضر منهم، وهم: عروة، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن [أبي] حَثْمَة

(1)

، وسُليمان بن يسار، والفاسم بن محمد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت. وكان لا يخرجُ عن قولِ سعيدِ بن المُسَيِّب، وقد كان سعيد بن المسيِّب لا يأتي أحدًا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمرَ بنِ عبد العزيز وهو بالمدينة.

قال ابن وَهْب: عن عبد الجبار الأيلي، عن إبراهيم بن أبي عبْلَة: قدمتُ المدينة وبها ابنُ المُسَيِّب وغيره، وقد بَذَّهم

(2)

عمر يومئذٍ رَأْيًا

(3)

.

وقال ابنُ وَهْب: حدّثني اللَّيث، حدّثني قادِمٌ البَرْبَرِيّ أنه ذاكرَ ربيعةَ بن أبي عبدِ الرحمن يومًا شيئًا من قضاءِ

(4)

عمرَ بنِ عبد العزيز إذْ كانَ بالمدينة، فقال له الربيع: كأنك تقول: أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط.

وثبَتَ من غيرِ وَجْهٍ عن أنسِ بنِ مالك. قال: ما صلَّيتُ وراءَ إمامٍ قط أشبهَ بصلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمرَ بن عبد العزيز - حين كانَ على المدينة. قالوا: وكان يُتمُّ الركوعَ والسجود ويخفِّفُ القيام والقعود

(5)

.

وفي روايةٍ صحيحة: أنه كان يُسبِّح في الركوع والسُّجود عشرًا عشرًا.

وقال ابنُ وَهْب: حدّثني الليث، عن أبي النَّضْر المَدِيني، قال: رأيتُ سليمانَ بنَ يسار خارجًا من عندِ عمرَ بنِ عبد العزيز فقلت له: مِن عند عمر خرجتَ؟ قال: نعم! قلت: تعلِّمونه، قال: نعم، فقلت: هو والله أعلمكم

(6)

.

(1)

في (ق): "خيثمة"، وفي (ح):"حزم" وكلاهما تصحيف، والمثبت من تاريخ ابن عساكر وترجمته في تهذيب الكمال (33/ 93) والإكمال.

(2)

في (م) ندبهم.

(3)

في أول الخبر سقط وفي آخره تصحيف وتحريف في (ق) والاستدراك والتصحيح من (ح) ويعضدها ما جاء في تاريخ ابن عساكر (54/ 112).

(4)

في (ق): "قضايا"، والمثبت من (ح) وتاريخ ابن عساكر. ومثل هذا التصحيف كثير في هذا الجزء وسوف أصححه من غير ما إشارة إليه فيما سيأتي تخففًا من الحواشي.

(5)

تاريخ ابن عساكر 54/ 114.

(6)

تاريخ ابن عساكر 54/ 117.

ص: 9

وقال مجاهد: أتينا عمرَ نعلِّمه، فما برِحْنا حتى تعلَّمنا

(1)

منه. وقال ميمونُ بن مِهْرَان: كانت العلماءُ عند عمرَ بنِ عبدِ العزيز تلامذةً

(2)

.

وفي روايةٍ: قال ميمون: كان عمرُ بن عبد العزيز معلِّمَ العلماء

(3)

.

وقال اللَّيث: حدّثني رجلٌ كان قد صحب ابنَ عمرَ وابنَ عباس، وكان عمر بن عبد العزيز يستعملُه على الجزيرة، قال: ما التمَسْنا علمَ شيءٍ إلَّا وجَدْنا عمرَ بن عبدِ العزيز أعلمَ الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.

وقال عبد الله بن طاوس: رأيتُ أبي تواقَفَ هو وعمر بنُ عبد العزيز من بعد صلاةِ العشاء حتى أصبحنا، فلما افترَقَا قلت: يا أبه من هذا الرجل؟ قال هذا عمر بن عبد العزيز، وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية

(4)

-.

وقال عبدُ اللهِ بن كثير: قلتْ

(5)

لعمرَ بنِ عبد العزيز: ما كان بَدْءُ إنابتك؟ قال: أردتُ ضربَ غلامٍ لي فقال لي: اذكُرْ ليلةً صَبيحتُها يومُ القيامة (3).

وقال الإمام مالك: لما عُزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنةِ ثلاثٍ وتسعين - وخرج منها التفَتَ إليها وبكى. وقال لمولاه: يا مُزَاحِم، نخشى أن نكونَ ممن نفَتِ المدينة

(6)

-[يعني أن المدينة تنفي خُبْثَها كما يَنْفي الكِيرُ خَبَث الحديد - وينصع طِيبُها].

قلتُ: خرجَ من المدينة فنزل بمكانٍ قريب منها يقال له السويداء حينًا

(7)

. ثم قدم دمشق على بني عمِّه.

قال محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم. قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: خرجتُ من المدينة وما من رجل أعلم مني، فلمَّا قدمتُ الشام نُسِّيت (3).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفَّان، حدّثنا حماد بن زيد، عن معمر، عن الزُّهْرِيّ قال: سهرتُ مع

(1)

هنا ينتهي الخرم المشار إليه في ص (6) موضع الحاشية (4).

(2)

تاريخ ابن عساكر 54/ 117.

(3)

تاريخ ابن عساكر (54/ 118).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 120).

(5)

في تاريخ ابن عساكر: "قيل" بدل" قلت".

(6)

إلى هنا الخبر في تاريخ ابن عساكر (54/ 120) بنحوه، وما يأتي بين معقوفين ليس في (ح، ب) ولا تاريخ ابن عساكر. وهو مثبت من (ق) وحسب.

(7)

السويداء أرض كان يملكها عمر بن عبد العزيز، واستنبط فيها من عطائه عين ماءٍ، وله فيها قصر مبني وهي على ليلتين من المدينة [معجم البلدان]. ولما تنازل لبيت المال عن جميع ما ورثه عن آبائه أبقى (السويداء) و (خيبر) لأنه اطمأنّ إلى أنهما حلال خالص ليس فيه أية شبهة. وكان وهو خليفة يأكل من غلّتها وينفق ما يزيد عن الضرورة. انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص (61، 62) وتاريخ ابن عساكر (54/ 146).

ص: 10

عمرَ بنِ عبد العزيز ذاتَ ليلة فحدَّثته، فقال: كلُّ ما حدثتَ فقد سمعتُه، ولكنْ حفظتَ ونُسِّيتُ

(1)

.

وقال ابن وَهْب، عن اللَّيث، عن عقيل، عن الزُّهري قال: قال عمر بنُ عبد العزيز: بعث إليَّ الوليد ذاتَ ساعةٍ من الظهيرة، فدخلتُ عليه، فإذا هو عابس، فأشار إليَّ أن اجلسْ، فجلستُ بين يديه فقال: ما تقولُ فيمنْ يَسُبُّ الخلفاء أيُقتل؟ فسكتُّ، ثم أعادَ فسكتُّ، ثم أعادَ فقلت: أقَتَل يا أميرَ المؤمنين؟ قال: لا، ولكنْ سبَّ، فقلت: يُنَكَّلُ به، فغَضِبَ وانصرف إلى أهله، وقال لي ابنُ الرَّيَّان السيَّافُ: اذهَبْ. قال: فخرجتُ من عندِ وما تهبُّ ريحٌ إلا وأنا أظنُّ أنه رسولٌ يردُّني إليه.

وقال عثمان بن زُفَر

(2)

: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أميرُ المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال له سليمان: ما تقولُ يا عمرُ في هذا؟ فقال: أرى دنيا يأكلُ بعضُها بعضًا وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من المعسكر إذا غرابٌ قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائرٌ بها، ونَعَبَ نعبةً، فقال له سليمان: ما تقولُ في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري، فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال

(3)

: كأنَّه يقول: من أين جاءَتْ وأين يُذهَبُ بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبَك؟ فقال عمر: أعجَبُ منِّي مَنْ عَرَف الله فعصاه، ومن عرف الشيطانَ فأطاعَه، ومن عرف الدنيا فركن إليها

(4)

.

وتقدَّم أنه لما وقف سليمانُ وعمر بعَرَفه

(5)

، فجَعَلَ سليمان يعجبُ من كثرةِ الناس! فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيَّتُكَ اليوم وأنت مسؤولٌ عنهم غدًا. وفي رواية: وهم خصماؤك يومَ القيامة. فبكى سليمان وقال: بالله نستعين.

وتقدم أنه لما أصابهم في بعض الأسفار رَعْدٌ شديد، وبَرْق وظلمةٌ شديدة، فجعل عمر يضحك من ذلك، فقال له سليمان: أتضحك ونحن فيما ترى؟! فقال: نعم هذه آثارُ رحمتِه ونحنُ في هذه الحال، فكيف بآثارِ غضَبه وعقابِه؟

وذكر الإمام مالك، أنَّ سليمان وعُمر تقاولا مرَّةً فقال له سليمان في جملةِ الكلام: كذبتَ، فقال: تقول لي كذبت؟ والله ما كذبتُ منذُ عرفتُ أنَّ الكذبَ يضرُّ أهلَه. ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 120).

(2)

في (ح، ق): "عثمان بن زبر" تصحيف والمثبت من (ب) وتاريخ ابن عساكر 54/ 121 وترجمته فيه (45/ 217).

(3)

في (ق): "قلت" تصحيف، والمثبت من (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر.

(4)

الخبر في تاريخ ابن عساكر (54/ 121) بنحوه.

(5)

انظر 9/ 179 (ق).

ص: 11

مصر، فلم يمكِّنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال له: ما عَرَض لي أمرٌ يهمُّني إلا خطرتَ على بالي

(1)

.

وقد ذكرنا

(2)

أنَّه لما حضرتْ سليمانَ بن عبد الملك الوفاة أوصى بالأمر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز، فانتظم الأمر على ذلك، ولله الحمد.

‌فصل وقد كان منتظرًا فيما يؤثر من الأخبار

(3)

قال أبو داود الطيالسي: حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون، حدّثنا عبد الله بن دينار قال: قال ابنُ عمر: يا عجبًا!! يزعمُ الناسُ أنَّ الدنيا لا تنقضي حتى يليَ رجلٌ من آلِ عمر، يعمل بمثل عَمل عمر، قال: وكانوا يرَونَهُ بلالَ بنَ عبد الله بن عمر - قال: وكان بوجهه أثر - فلم يكنْ هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمُّه ابنةُ عاصم بن عبد الله بن عمر بنِ الخطاب

(4)

.

وقال البيهقي

(5)

: أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد أحمد بن علي المقرئ، حدّثنا أبو عيسى الترمذي، حدّثنا أحمد بن إبراهيم، حدّثنا عفان، حدّثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، قال: بلَغَنا أنَّ عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلًا بوجهِه شَيْن، يَلي فيملأُ الأرضَ عدلًا. قال نافع من قِبَله: ولا أحسبُه إلَّا عمرَ بنَ عبد العزيز.

ورواهُ مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع، قال: كان ابنُ عمر يقول: ليت شعري مَنْ هذا الذي من ولدِ عمر في وجهه علامة يملأُ الأرضَ عَدْلًا

(6)

؟

قال وهيب بن الورد: بينما أنا نائمٌ رأيتُ كأنَّ رجلًا دخلَ من باب بني شيبةَ وهو يقول: يا أيها الناس! ولي عليكم كتاب الله. فقلت: مَنْ؟ فأشار بيده إلى ظهره، فإذا مكتوب عليه ع م ر؛ قال: فجاءَتْ بيعةُ عمر بن عبد العزيز

(7)

.

وقال: بَقِيَّةُ عن عيسى بن أبي رَزين: حدّثني الخُزَاعي عن عمر بن عبد العزيز، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 122).

(2)

انظر 9/ 181، 182 (ق).

(3)

هذا العنوان ليس في (ح)، وهو من (ب، ق).

(4)

الخبر في تاريخ ابن عساكر (54/ 123) من طريق الطيالسي وغيره.

(5)

في دلائل النبوة (6/ 492).

(6)

تاريخ ابن عساكر (54/ 123).

(7)

تاريخ ابن عساكر (54/ 124) عن حلية الأولياء (5/ 337).

ص: 12

في روضةٍ خضراء فقال له:" إنَّك سَتَلي أمرَ أمتي فرُغْ عن الدم، فرُغْ عن الدم

(1)

، فإنَّ اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز، واسمك عند الله جابر".

وقال أبو بكر بن المقري: حدّثنا أبو عَرُوبة الحسين بن محمد بن مَوْدود الحرَّاني، حدّثنا أيوب بن محمد الوزَّان، حدّثنا ضَمْرة بن ربيعة، حدّثنا السَّريُّ بن يحيى، عن رياح بن عبيدة. قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، وشيخ متوكِّئٌ على يده، فقلت في نفسي: إنَّ هذا الشيخ جافٍ، فلمَّا صلَّى ودخل لحقتُه فقلت: أصلحَ الله الأمير، من هذا الشيخ الذي كان متكئًا على يدك؟ فقال: يا رياح رأيتَه؟ قلت: نعم! قال: ما أحسبك يا رياح إلَّا رجلًا صالحًا، ذاك أخي الخَضر، أتاني فأعلمني أنِّي سألي أمرَ هذه الأمة، وأني سأعدلُ فيها

(2)

.

وقال يعقوب بن سفيان

(3)

: حدّثنا أبو عمير، حدّثنا ضمرة، عن علي بن أبي حملة

(4)

عن أبي أعْيَس

(5)

، قال: كنتُ جالسًا مع خالد بن يزيد بن معاوية فجاء شاب عليه مُقَطَّعات

(6)

فأخذ بيدِ خالد، فقال: هل علينا من عَيْن؟ فقال أبو أعْيَس: فقلت عليكما من الله عينٌ بصيرة، وأُذن سميعة، قال: فترقرقَتْ عينا الفتى، فأرسلَ يده من يدِ خالد وولَّى، فقلت: من هذا؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز، ابنُ أخي أميرِ المؤمنين، ولئن طالَتْ بك حياة لترينَّه إمامَ هُدى.

قلتُ: وقد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شيءٌ جيِّدٌ من أخبار الأوائل وأقوالهم، [وكان ينظر في النجوم والطب]

(7)

. وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك

(8)

أنه لما حضرَتْهُ الوفاة عزَمَ أن يكتب العهد باسم أحد أولاده، فما زال به وزيرُه الصادق رجاء بن حَيْوَة حتى صرفه عن ذلك وأشار عليه أن يجعل الأمر من بعده لأصلح الناس لهم، فألهم الله الخليفة رشده فعيَّن لها ابن عمه عمرَ بن عبد العزيز

(1)

في (ق): "فزع عن الدم" والمثبت من (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 124) ومعناهما متقارب.

(2)

تاريخ ابن عساكر (54/ 124).

(3)

في المعرفة والتاريخ (1/ 578) ونقله عنه ابن عساكر في التاريخ (54/ 124، 125)، وأخرجه أحمد في الزهد ص (290، 291) بنحوه.

(4)

في (ق): "علي بن خولة" تصحيف، والمثبت من (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر وترجمته في تاريخ ابن عساكر المختصر (17/ 276).

(5)

في (ق): "أبي عنبس" وفي (ح) بالإهمال، وفي (ب):"عن أبي الأعبس" بالباء الموحدة في الموضعين، والمثبت من تاريخ ابن عساكر وترجمته في الإكمال (1/ 100) وتهذيب الكمال (17/ 150 و 33/ 47)، وهو أبو الأعيس الخولاني اسمه عبد الرحمن بن سلمان من أصحاب عمر بن عبد العزيز، يروي عنه وعن خالد بن يزيد بن معاوية.

(6)

المقطَّعات: القصار من الثياب، الواحد: ثوب، ولا واحد له من لفظه، أو بُرد عليه وشي. القاموس (قطع).

(7)

ما بين معقوفين ليس في (ب، ح)، وهو مثبت من (ق).

(8)

انظر 9/ 181، 182 (ق) وموضع الحاشية (2) من الصفحة السابقة. والعبارة المثبتة من (ب، ح).

ص: 13

فجوَّد رأيَه رجاء بن حيوة وصوَّبه، وكتب سليمان العهد من بعده لعمر بن عبد العزيز في صحيفة وختمها، ولم يشعر بذلك عمر ولا أحدٌ من بني مروان سوى الخليفة سليمان والوزير رجاء، ثم أمر صاحبَ الشرطة بإحضار الأمراء ورؤوس الناس من بني مروانَ وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم رجاءُ بن حَيْوةَ فبايعوا ثانية لمن في الصحيفة ثم فتحَها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوهُ فأجلسوه على المِنْبر وبايعوه فانعقدت له البيعة.

وقد اختلف العلماءُ في مثل هذا الصنيع في الرجل يُوصي الوصيَّةَ في كتاب، ويُشهد على ما فيه، من غيرِ أن يُقرأ على الشهود. ثم يشهدون على ما فيه فيُنفَّذ، فسوَّغَ ذلك جماعاتٌ من أهل العلم، قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجَريري: أجاز ذلك وأمضاه، وأنفذ الحكم به جمهورُ أهلِ الحِجاز، ورُوي ذلك عن سالم بن عبد الله. وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي، ومكحول، ونمير بن أوس، وزُرعة بن إبراهيم، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام. وحكى نحو ذلك خالدُ بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جُندِه؛ وهو قول الليثِ بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاءِ أهل البصرة وقضاتهم. ورُوي عن قتادةَ، وعن سوَّار بن عبد الله، وعبيد اللّه بن الحسن، ومعاذ بن معاذ العَنْبريّ فيمن سلك سبيلهم؛ وأخذ بهذا عددٌ كثيرٌ من أصحابِ الحديث، منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه. قلت: وقد اعتنى به البخاري في صحيحه.

قال المعافى الجَرِيري: وأبَى ذلك جماعةٌ من فقهاءِ العراق، منهم إبراهيم وحماد والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثَوْر قال: وهو قول شيخِنا أبي جعفر، وكان بعضُ أصحابِ الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول. قال الجَريري: وإلى القول الأول نذهب

(1)

.

وتقدَّم

(2)

أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أُتي بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول:

فلولا التُّقى ثم النُّهى خشيةَ الرَّدَى

لعاصَيْتُ في حُبّ الصِّبَا كلَّ زاجِر

قَضَى ما قَضى فيما مَضَى ثم لا تُرَى

له صبوة أخرى الليالي الغوابر

ثم قال: ما شاءَ الله لا قوة إلا بالله. قدِّموا إليَّ بغلتي.

(1)

ساق اختلاف العلماء في ذلك ابن عساكر في تاريخه (54/ 132). نقلًا عن المعافى بن زكريا الجريري.

(2)

انظر 9/ 183 (ق). وليس فيه ذكر البيتين، والخبر والبيتان في تاريخ ابن عساكر (54/ 135، 136).

ص: 14

ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفيَّة فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمَّنة؛ فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.

قالوا: ولما رجع من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرَّتِ الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتمٌّ مهموم، فقال له مولاه: ما لك هكذا مغتمًا مهمومًا وليس هذا بوقت هذا؟ فقال: ويحك! وما لي لا أغتمُّ وليس أحدٌ من أهل المشارق والمغاربِ من هذه الأمة إلا وهو يطالبُني بحقِّه أنْ أُؤدِّيهُ إليه؛ كتبَ إليَّ في ذلك أو لم يكتبْ، طلبه مني أو لم يطلبْ؟! قالوا: ثم إنه خَيَّرَ امرأته فاطمةَ بَيْنَ أنْ تُقيمَ معه على أنه لا فراغ له إليها، وبَيْنَ أنْ تلحقَ بأهلها؛ فبكَتْ وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حالٍ رحمها الله.

وقال له رجل: تفرُغُ لنا يا أمير المؤمنين؟ فأنشأ يقول:

قدْ جاءَ شغلٌ شاغلُ

وعدَلْتَ عن طرقِ السلامَهْ

ذهبَ الفراغُ فلا فرا

غَ لنا إلى يومِ القيامَة

(1)

وقال الزُّبير بن بكَّار: حدّثني محمد بن سلَّام عن سلَّام بن سُليم قال: لما وَلي عمر بن عبد العزيز صعِدَ المنبر وكان أوَّل خطبةٍ خطبَها، حمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من صحبنا فليصحَبْنا بخمس، وإلَّا فَلْيفارِقْنا. يَرفع إلينا حاجةَ مَنْ لا يستطيعُ رفعَها، ويُعيننا على الخير بجهده، ويدلُّنا من الخير على ما لا نهتدي إليه؛ ولا يغتابنَّ عندنا الرعيَّة، ولا يعرضنَّ فيما لا يَعنيه. فانقشع عنه الشعراءُ والخطباء، وثبتَ معه الفقهاءُ والزُّهَّاد، وقالوا: ما يسَعُنا أن نفارقَ هذا الرجلَ حتى يخالفَ فعله قوله (1).

وقال سفيانُ بن عيينة: لما ولي عمرُ بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاءِ بن حَيْوَة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترَوْنَ ما ابتُليتُ به، وما قد نزلَ بي، فما عندكم؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخَ أبًا، والنَّصَفَ أخًا، والشابَّ ولدًا

(2)

، فبِرَّ أباك وصِلْ أخاك، وتعطَّفْ على ولدِك.

وقال رجاء: ارضَ للناسِ ما تَرْضَى لنفسك، وما كرهتَ أن يؤتى إليك فلا تأتِهِ إليهم، واعلم أنك أوَّل خليفةٍ تموت.

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 138).

(2)

في (ح): "والضعيف أخًا والشابَّ ولدًا"، وفي (ب):"والضيف أخًا والشابَّ ولدًا"، وفي (ق):"والشاب أخًا والصغير ولدًا"، والمثبت من تاريخ ابن عساكر (54/ 139)، والنصف: الكهل، كأنه بلغ نصف عمره. اللسان (نصف).

ص: 15

وقال سالم: اجعلِ الأمر يومًا واحدًا، وصُمْ فيه عن شهواتِ الدنيا، واجعلْ آخرَ فِطْرِك فيه الموت، فكأنّ قد. فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله

(1)

.

وقال غيرُه: خطب عمر بن عبد العزيز يومًا الناسَ فقال - وقد خنقَتْهُ العَبْرة -: أيُّها الناس أصلحوا آخرتَكم يُصلحْ لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم يُصلحْ لكم علانيتكم، والله إنَّ عبدًا ليس بينه وبين آدمَ أبٌ إلَّا قد مات، إنه لمُعْرَقٌ له في الموت

(2)

.

وقال في بعض خطبه: كم من عامرٍ موثقٍ

(3)

عمَّا قليل يَخْرَب، وكم من مقيمٍ مغتبطٍ عمَّا قليلٍ يظعَن. فأحسِنوا رحمكم الله من الدنيا

(4)

الرِّحلةَ بأحسنِ ما بحضرَتِكم من النُّقَلة، بينا ابنُ آدمَ في الدنيا ينافسُ قرير العين فيها قانع، إذْ دعاهُ الله بقدَرِه، ورماه بيوم حَتْفه، فسلبه آثاره ودُنياه، وصيَّر إلى قومٍ آخرينَ مصانعه ومَغْناه، إنَّ الدُّنيا لا تَسُرُّ بقدَرِ ما تَضُرّ، تسرُّ قليلًا وتُحزِن طويلًا.

وقال إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه لا كتابَ بعد القرآن، ولا نبي بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإني لستُ بقاضي، ولكني مُنفِّذ، وإني لستُ بمُبتدع، ولكنَّي متَّبع، إن الرجل الهاربَ من الإمام الظالمِ ليس بظالم، ألا أنَّ الإمامَ الظالمَ هو العاصي، ألا لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ عز وجل

(5)

.

وفي روايةِ أنه قال فيها: وإني لستُ بخيرٍ من أحدٍ منكم، ولكنَّي أثقلكم حملا، ألا لا طاعةَ لمخلوق في معصيةِ الله، ألا هل أسمعت.

وقال أحمد بن مروان: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدّثنا محمد بن عبيد، حدّثنا إسحاق بن سليمان، حدّثنا شعيب بن صفوان حدّثني ابنٌ لسعيد بنِ العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز، حَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنَّكم لم تُخلقوا عبثًا، ولم تُتركوا سُدَى، وإنَّ لكم معادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفَصْل بينكم، فخابَ وخسِرَ منْ خرج من رحمةِ الله تعالى، وحُرم جَّنَة عَرْضُها السمواتُ والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمنُ غدًا إلا من حَذِرَ اليومَ الآخِرَ وخافه، وباع نافِدًا بباقٍ

(6)

، وقليلًا بكثير، وخوفًا بأمان، ألا ترَوْنَ أنَّكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدِكم

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 139).

(2)

تاريخ ابن عساكر (54/ 140). وقوله: "معرق له في الموت" أي: إن له فيه عرقًا وأنه أميل في الموت. النهاية (عرق).

(3)

في (م) مؤنَّق.

(4)

في (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 140): "فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة"، والمثبت من (ق).

(5)

تاريخ ابن عساكر (54/ 140).

(6)

في (ق): "وباع فانيًا بباق، ونافذًا بما لا نفاد له، وقليلًا بكثير"، والمثبت من (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 142).

ص: 16

للباقين، كذلك حتى تُرَدَّ إلى خيرِ الوارثين؛ ثم إنكم في كلِّ يوم ثُشَيِّعُون غاديًا ورائحًا إلى الله لا يرجع، قد قَضَى نحبَه، حتى تُغَيِّبوه في صَدْعٍ من الأرض، في بطنِ صَدْعٍ غير مُوَسَّد ولا مُمهَّد، قد فارق الأحباب، وباشَرَ التراب وواجه الحساب، فهو مُرْتَهنٌ بعمله، غنيٌّ عما ترك، فقيرٌ إلى ما قدَّم، فاتقوا الله قبل انقضاءِ مُراقبته، ونزول

(1)

الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع

(2)

طَرَف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى مَنْ حوله

(3)

.

وفي رواية: وايمُ الله، إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحدٍ منكم من الذنوبِ اْكثرَ مما أعلم من نفسي، ولكنها سُننٌ من الله عادلة، أمرَ فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيتِه، وأستغفرُ الله، ووضع كُمَّه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله

(4)

.

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عمرَ بن عبد العزيز أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول له: "ادْنُ يا عمر، ادن يا عمر، ادن يا عمر، قال: فدنوتُ حتى خشيتُ أنْ أصيبه"، فقال:" إذا وَليت فاعملْ نحوًا من عمل هذين"، فإذا كهلانِ قدِ اكتَفاهُ، فقلت: ومَنْ هذان؟ قال: "هذا أبو بكر وهذا عمر"

(5)

.

وروِّيْنا أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر: اكتبْ لي سيرةَ عمر حتى أعمل بها. فقال له سالم: إنك لا تستطيعُ ذلك. قال: ولم؟ قال: إنك إن عملت بها كنتَ أفضلَ من عمر، لأنه كان يجدُ على الخير أعوانًا، وأنت لا تجدُ مَنْ يعينكَ على الخير

(6)

.

وقد رُوي أنه كان نقشُ خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وفي رواية: آمنت بالله. وفي رواية: الوفاء عزيز

(7)

.

وقد جمعَ يومًا رؤوسَ الناس فخطبهم فقال: إن فَدَكَ

(8)

كانتْ بيدِ رسولِ ال صلى الله عليه وسلم يضَعُها حيثُ أراه

(1)

في (ق): "قبل القضاء، راقبوه قبل الموت" وفي (ب): "قبل القضاء تراقبه وترون الموت"، وكلاهما تصحيف، والمثبت من (ح) وتاريخ ابن عساكر.

(2)

في تاريخ ابن عساكر: "رفع طرف ردائه"، وهو أشبه بالصواب.

(3)

الخبر في تاريخ ابن عساكر (540/ 141، 142) وتخريجه ثمة.

(4)

الخبر في تاريخ ابن عساكر (54/ 142).

(5)

تاريخ ابن عساكر (54/ 143).

(6)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 143).

(7)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 145).

(8)

فَدَك: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان - وقيل ثلاثة - أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع منصرفه من خيبر صلحًا، وفيها عن فوارة ونخيل كثيرة. وذكر ياقوت في معجم البلدان (4/ 238 - 240) قصتها مع الخلفاء وما آلت إليه.

ص: 17

الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك - قال الأصمعي: وما أدري ما قال في عثمان - قال: ثم إنَّ مروانَ أقطَعها فحصَلَ لي منها نصيب، ووهبني الوليدُ وسليمانُ نصيبَهما، ولم يكنْ من مالي شيءٌ أرد عليَّ منها، وقد ردَدْتُها في بيتِ المال على ما كانتْ عليه في زمانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فيئسَ الناسُ عند ذلك من المظالم.

ثم أمر بأموالِ جماعةٍ من بني أمية فردَّها إلى بيت المال وسمَّاها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس، وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجَعْ فيه شيءٌ، ولم يرده عن الحق شيء، وقال لهم: لتَدَعُنِّي وإلا ذهبتُ إلى مكة فنزلتُ عن هذا الأمر لأحقِّ الناسِ به. وقال: والله لو أقمتُ فيكم خمسينَ عامًا ما أقمتُ فيكم إلا ما أريدُ من العَدْل، هاني لأريدُ الأمر فما أُنْفِذُه إلا مع طَمعٍ من الدنيا حتى تسكنَ قلوبُهم

(1)

.

وقال الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قال: إن كان في هذه الأمة مهديٌّ فهو عمر بن عبد العزيز. ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المُسيِّب وغيرُ واحد

(2)

.

وقال طاوس: هو مهديٌّ وليس به، إنه لم يستكمل العَدْلَ كلَّه، إذا كان المهديُّ تيب

(3)

على المسيءَ من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمحٌ بالمال، شديدٌ على العمال، رحيمٌ بالمساكين.

وقال مالك عن عبد الرحمن بن حَرْمَلة، عن سعيد بن المسيِّب، أنه قال: الخلفاء أبو بكر والعُمَرَان، فقيل له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما، فمنْ عمرُ الآخر؟ قال: يوشكُ إنْ عشتَ أن تعرفه. يريدُ عمرَ بن عبد العزيز

(4)

.

وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو أشجُّ بني مروان.

وقال عبَّاد السمَّاك وكان يجالسُ سفيان الثوري -: سمعتُ الثوريَّ يقول: الخلفاءُ خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز (5).

وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد

(5)

.

وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمةِ العَدْل وأحدِ الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين. وذكره غيرُ

(1)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 148).

(2)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 153).

(3)

في (ق): "ثبت"، وفي (ح) بمهملات، والمثبت من (ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 154).

(4)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 155).

(5)

تاريخ ابن عساكر (54/ 156).

ص: 18

واحدٍ في الأئمة الاثني عشرَ، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح:"لا يزال أمرُ هذه الأمةِ مستقيمًا حتى يكون فيهم اثنا عشر خليفةً كلُّهم من قريش"

(1)

.

وقد اجتهد رحمه الله في مُدَّة ولايته - مع قِصَرِها - حتى ردَّ المظالم، وصرف إلى كلِّ ذي حقٍّ حقه، وكان مناديه في كلِّ يوم ينادي: أين الغارمون، أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلًا من هؤلاء

(2)

.

وقد اختلف العلماء أيَّ الرجل أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان؟ ففضَّل بعضُهم عمر لسيرته ومَعْدِلته وزهده وعبادته. وفضَّل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم: ليومٌ شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته.

وذكر الحافظ ابنُ عساكر في تاريخه

(3)

أنَّ عمر بن عبد العزيز كان يُعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إمَّا بيعًا أو هِبَةً، فكانتْ تأبَى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبسَتْها وطيَّبَتْها وأهدَتْها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتْها به أعرضَ عنها، فتعرَّضت له الجارية فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبَّتك إيَّاي؟ فقال: والله إنَّ محَبَّتَكِ لباقيةٌ كما هي؟ ولكنْ لا حاجة لي فيك، فقد جاءني أمرٌ شَغلني عنك وعن غيرِك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إنَّ أبي أصابَ جنايةً ببلادِ المغرب

(4)

فصادره موسى بن نُصير فأُخذتُ في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبَني الوليدُ إلى أخته فاطمةَ زوجتِك، فأهدَتْني إليك. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كِدْنا والله نفتضح ونَهْلِك، ثم أمرَ بردِّها مكرَّمةً إلى بلادها وأهلها.

وقالت زوجته فاطمة: دخلتُ يومًا عليه وهو جالس في مُصَلَّاه، واضعًا خدَّه على يده، ودموعه تسيلُ على خدَّيه، فقلت: ما لك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وُلِّيتُ من أمر هذه الأمة ما وُلِّيت، فتفكَّرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود

(5)

، والمظلوم المقهور، والغريبِ الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباهِهم في أقطار الأرض وأطرافِ

(1)

أخرجه مسلم (1821 و 1822) في الإمارة: باب الناس تبع لقريش؛ وأبو داود (4279) في كتاب المهدي؛ وأحمد (20281 و 20290 و 20298 و 20307 و 20319 و 20347 و 20508 و 20528) مطولًا ومختصرًا، كلهم عن جابر بن سمرة.

(2)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 158).

(3)

تاريخ ابن عساكر (54/ 158، 159)، والخبر فيه بألفاظ مقاربة.

(4)

في تاريخ ابن عساكر أنها كانت جارية من البربر.

(5)

زادت (ق) هنا ما نصه: "واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة" وليست هذه الزيادة في (ح، ب) ولا في تاريخ ابن عساكر.

ص: 19

البلاد، فعلمتُ أنَّ ربِّي عز وجل سيسألُني عنهم يوم القيامة، وأن خَصْمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ أنْ لا يثبت لي حجَّة عند خصومته، فرحمتُ نفسي فبَكيت"

(1)

.

وقال ميمون بن مِهْران: ولَّاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي: إذا جاءك كتابٌ مني على غير الحق فاضرِبْ به الأرض

(2)

.

وكتب إلى بعض عماله: إذا دَعتْكَ قدرتُك على الناس إلى ظلمهم، فاذكُرْ قدرةَ الله عليك، ونفادَ ما تأتي إليهم، وبقاءَ ما يأتون إليك

(3)

.

وقال عبد الرحمن بن مَهْدي عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عديّ: إنَّ للإسلام سُننًا وشرائع وفرائض، فمن استكملَها استكملَ الإيمان، ومن لم يستكمِلْها لم يستكملِ الإيمان، فإنْ أعشْ أبيِّنْها لكم لتعملوا بها، وإنْ أمتْ فما أنا على صحبتِكم بحريص (3).

وذكره البخاري في صحيحه تعليقًا مجزومًا به

(4)

.

وذكَرَ الصُّوليُّ أنَّ عمرَ كتب إلى بعض عمَّاله: عليك بتقوى الله، فإنها هي التي لا يقبلُ غيرَها ولا يرحم إلا أهلَها، ولا يثابُ إلَّا عليها، وإنَّ الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل (3).

وقال: منْ علم أنَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامُه إلَّا فيما يعنيه وينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا باليسير

(5)

.

وقال أيضًا: من لم يعدَّ كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبدَ الله بغيرِ علم كان ما يُفسده أكثرَ مما يصلحه (5).

وكلَّمه رجلٌ يومًا حتى أغضبه، فهمَّ به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردتَ أنْ يستفزَّني الشيطانُ بعزةِ السلطان، فأنال منك ما تنالُه مني غدًا؟ قم - عافاك الله - لا حاجة لنا في مقاولتك

(6)

.

وكان يقول: إنَّ أحبَّ الأمور إلى الله القَصْدُ في الجِد

(7)

، والعفو في المَقْدرة، والرفق في الولاية، وما رَفَق عبدٌ بعبدٍ في الدنيا إلَّا رفق الله به يوم القيامة.

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 159، 160).

(2)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 162).

(3)

تاريخ ابن عساكر (54/ 164).

(4)

أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا في الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس" في ترجمة الباب في أوله.

(5)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 165).

(6)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 166).

(7)

كذا في (ق، ح، ب)، وفي تاريخ ابن عساكر (54/ 167). "الجِدَة" وهو أشبه بالصواب.

ص: 20

وخرج ابنٌ له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجَّه صبيٌّ منهم، فاحتملوا الصبيَّ الذي شجَّ ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع الجَلَبة فخرج إليهم، فإذا مُرَيْئَةٌ تقول: إنه ابني وإنه يتيم. فقال لها عمر: هوِّني عليك. ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان؟ قالت: لا! قال: فاكتبوه في الذرِّيَّة. فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقّد شجَّ ابنك؟ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشجُّ ابنَك ثانية. فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه

(1)

.

وقال مالك بن دينار: يقولون مالكٌ زاهد، أيُّ زهدٍ عندي

(2)

؟ إنما الزاهدُ عمر بن عبد العزيز، أتَتْهُ الدنيا فاغرةً فاها فتركها جملة

(3)

.

قالوا: ولم يكن له سوى قميصٍ واحد، فكان إذا غسلوه جلسَ في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهبٍ فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر:

تجرَّدْ من الدنيا فإنَّكَ إنما

خرجتَ إلى الدنيا وأنتَ مُجرَّدُ

قال: وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل (3).

قالوا: ودخل على امرأته يومًا فسألها أنْ تُقرضه درهمًا أو فلوسًا يشترى له بها عنبًا، فلم يجدْ عندَها شيئًا، فقالت له: أنت أميرُ المؤمنين وليس في خزانتِك ما تشتري به عنبًا؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدًا في نار جهنَّم

(4)

.

قالوا: وكان سراجُ بيتِه على ثلاث قصبات في رأسهن طين

(5)

.

قالوا: وبعث يومًا غلامَهُ ليشويَ له لحمةً، فجاءه بها سريعًا مشويَّة، فقال: أين شويتَها؟ قال: في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين؟ قال: نعم. فقال: كُلْها فإنِّي لم أُرزَقْها، هي رزقُك

(6)

.

وسخَّنوا له ماءً في المطبخ العام، فرَدَّ بدلَ ذلك بدرهمٍ حطبًا (5).

وقالت زوجتُه: ما جامع ولا احتلم وهو خليفة (6).

قالوا: وبلَغَ عمرَ بن عبد العزيز عن أبي سلام الأسود أنه يحدِّثُ عن ثوبان بحديثِ الحَوْض، فبعثَ إليه فأحضره على البريد وقال له كالمتوجِّع يا أبا سلام ما أرَدْنا المشَقَّة عليك، ولكنْ أردْتُ أنْ تشافهَني

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 167، 168).

(2)

في تاريخ ابن عساكر (54/ 168): "أي زهد عند مالك وله جبة وكساء!؟ ".

(3)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 169).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 172).

(5)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 173).

(6)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 174).

ص: 21

بالحديثِ مُشافهةً، فقال: سمعت ثوبانَ يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حَوْضي ما بينَ عدَنَ إلى عمَّان البَلْقاء، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللَّبَن، وأحْلَى من العسَل، أكاويبُه عددُ نجوم السماء، مَنْ شرِبَ منه شربة لم يظمَأْ بعدَها أبدًا، وأوَّل الناسِ وروداَ عليه فقراءُ المهاجرين، الشُعْثُ رؤوسًا، الدُّنس ثيابًا، الذين لا ينكِحون المتنعِّمات، ولا تُفتح لهم الشُدد". فقال عمر: لكني نكحت المتنعِّمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جَرَم لا أغسل رأسي حتى يَشْعث، ولا أُلْقي ثوبي حتى يتَّسخ

(1)

.

قالوا: وكان له سراجٌ يكتبُ عليه حوائجَه، وسراجٌ لبيتِ المال يكتبُ عليه مصالحَ المسلمين، لا يكتبُ على ضوئه لنفسِه حرفًا. وكان يقرأ في المصحف كل يوم أوَّلَ النهار، ولا يُطيلُ القراءة، وكان له ثلاث مئة شرطي، وثلاث مئة حَرَسيّ. وأهدى له رجل من أهل بيتهِ تفاحًا فاشتمَّه ثم ردَّه مع الرسول، وقال له: قل له قد بلغَتْ محلَّها، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلُ الهدية، وهذا رجلٌ من أهل بيتك، فقال: إنَّ الهديَّةَ كانتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم هديَّةً، فأمَّا نحن فهي لنا رِشْوَة

(2)

.

قالوا: وكان يُوسعُ على عمَّاله في النفقة، يُعطي الرجلَ منهم في الشهر مئة دينار، ومئتي دينار، وكان يتأوَّلُ أنهم إذا كانوا في كفاية تفرَّغوا لأشغالِ المسلمين، فقالوا له: لو أنفقتَ على عيالك كما تُنفق على عُمَّالك؟ فقال: لاْ أمنَعُهم حقًا لهم، ولا أُعطيهم حق غيرِهم.

وكان أهلُه قد بَقُوا في جهدٍ عظيم، فاعتذر بأنَّ معهم سلفًا كثيرًا من قبل ذلك، وقال يومًا لرجل من ولدِ علي: إني لأستحي من الله أن تقفَ ببابي ولا يؤذنُ لك. وقال لآخر منهم: إني لأستحي من الله وأرغبُ بك أن أدنِّسك بالدنيا لما أكرمكم الله به.

وقال أيضًا: كنَّا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرَّةً لنا ومرَّةً علينا، نلجَأُ إليهم ويلجَؤون إلينا، حتى طلعت شمسُ الرسالة فأكسدتْ كلَّ نافق، وأخرسَتْ كلَّ منافق، وأسكتَتْ كل ناطق

(3)

.

وقال أحمد بن مروان: ثنا أبُو بكر أخو

(4)

خطَاب حدّثنا خالد بن خداش حدّثنا حماد بن زيد عن موسى بن أعْيَن الراعي - وكان يرعى الغنمَ لمحمد بن أبي عُيينة - قال: كانتِ الأُسد والغنمُ والوحش

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 174)، وحديث الحوض عن أبي سلام عن ثوبان أخرجه الترمذي (2444) في صفة القيامة والرقائق والورع، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب؛ وابن ماجه (4303) في الزهد. وأحمد في المسند (21862)؛ وأحمد في المسند (22367). والمرفوع منه صحيح، دون قوله (أول الناس

إلى آخره) وفي الباب من حديث الحوض عن حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عمر وأبي برزة الأسلمي وحارثة بن وهب والمستورد بن شداد.

(2)

انظر هذه الأخبار بأسانيدها في تاريخ ابن عساكر (54/ 174 - 177).

(3)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 179).

(4)

في (ق): "حدثنا أبو بكر بن أخي خطاب"، والمثبت من (ح، ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 180).

ص: 22

تَرْعى في خلافةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز في موضع واحد، فعرض ذاتَ يوم لشاةٍ منها ذئبٌ، فقلتُ: إنَّا لله، ما أرى الرجلَ الصالح إلَّا قد هلَكَ. قال فحسَبنا

(1)

، فوجدناه قد هلك في تلك الليلة. ورواهُ غيره عن حمَّاد فقال: كنا نَرْعى الشاءَ بكَرْمان، فذكر نحوه؛ وله شاهدٌ من وجهٍ آخر.

ومن دعائه: اللهم إنَّ رجالًا أطاعوك فيما أمرتهم وانتهَوْا عما نهيتَهم، اللهمَّ وإنَّ توفيقَك إيَّاهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفِّقْني

(2)

. ومنه: اللهمَّ إنَّ عمر ليس بأهلٍ أنْ تنالَهُ رحمتُك، ولكنَّ رحمتك أهلٌ أنْ تنالَ عمر

(3)

.

وقال له رجل: أبقاك الله ما كان البقاءُ خيرًا لك. فقال: هذا شيء قد فُرغ منه، ولكنْ قلْ: أحياكَ الله حياةً طيبةً، وتوفَّاك مع الأبرار (3).

وقال له رجل: كيف أصبحتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال: أصبحتُ بطيئًا بطينًا، متلوثًا بالخطايا، أتمنَّى على الله عز وجل (3).

ودخل عليه رجلٌ. فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ مَنْ كان قبلك كانتِ الخلافةُ لهم زينًا، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر:

وإذا الدُّرُّ زانَ حُسْنَ وجوهٍ

كانَ للدرِّ حسنُ وجهِكَ زَيْنا

قال: فأعرضَ عنه عمر (3).

وقال رجاءُ بن حَيْوَة: سمَرْتُ عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشي السراجُ فقلت: يا أمير المؤمنين: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه؟ فقال: لا! دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين. فقلت: أفلا أقومُ أُصلحه؟ فقال: لا! ليس من المروءةِ استخدامُ الضَّيف. ثم قام بنفسه فأصلحَه وصبَّ فيه زيتًا ثم جاء وقال: قمتُ وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلستُ وأنا عمر بن عبد العزيز

(4)

.

وقال: أكثروا ذكرَ النعم، فإنَّ ذكرَها شكرُها

(5)

.

وقال: إنه ليمنعني من كثرة الكلام

(6)

مخافةُ المباهاة.

وبلغه أنَّ رجلًا من أصحابه تُوفي، فجاء إلى أهله ليعزِّيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبُكاء عليه،

(1)

في (ح، ق): "فحسبناه"، والمثبت من (ب) وتاريخ ابن عساكر 54/ 180.

(2)

تاريخ ابن عساكر (54/ 180).

(3)

تاريخ ابن عساكر (54/ 181).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 184، 185).

(5)

تاريخ ابن عساكر (54/ 186).

(6)

في (ق): "من كثرة ذكرها" تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر (54/ 187).

ص: 23

فقال: مَهْ، إن صاحبَكم لم يكنْ يرزقُكم، وإنَّ الذي يرزقُكم حيٌّ لا يموت، وإنَّ صاحبَكم هذا، لم يسدَّ شيئًا من حُفَركم، وإنما سدَّ حفرةَ نفسِه، ألا وإنَّ لكلِّ امرئٍ منكم حفرةً لا بدَّ والله أن يسدَّها، إنَّ الله عز وجل لما خلَقَ الدنيا حكم عليها بالخرَاب، وعلى أهلها بالفناء، ما امتلأتْ دارٌ حَبْرَةُ

(1)

إلا امتلأتْ عَبْرَةً، ولا اجتمعوا إلا تفرَّقوا، حتى يكونَ الله هو الذي يرثُ الأرضَ ومَنْ عليها، فمن كان منكم باكيًا فليبكِ على نفسه، فإنَّ الذي صار إليه صاحبُكم كلُّ الناس يصيرون إليه غدًا.

وقال ميمون بن مِهْرَان: خرجتُ مع عمرَ إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب! هذه قبورُ آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهلَ الدنيا في لذَّتهم وعيشِهم، أما تراهم صَرْعَى قد خَلَتْ فيهم المَثُلات

(2)

، واستحكم فيهم البلاء؟ ثم بكى حتى غُشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا، فوالله لا أعلمُ أحدًا أنعمَ ممَّنْ صار إلى هذه القبور، وقد أمِنَ من عذابِ الله، [ينتظر ثواب الله]

(3)

.

وقال غيرُه: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دُفنت قال لأصحابه: قفوا حتى آتي قبورَ الأحبَّة. فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذْ هتفَ به الترابُ فقال: يا عمر ألا تسألُني ما فعلتُ بالأحبَّة؟ قال: قلتُ: وما فعلتَ بهم؟ قال: مزَّقْتُ الأكفان، وأكلتُ اللحوم، وشدَخْتُ المقلتين، وأكلتُ الحدقَتْين، ونَزَعْتُ الكفَّين من السَّاعدَيْنِ، والساعدَيْن من العَضُدَيْن، والعضدَيْن من المنكبَيْن، والمنكبينِ من الصُّلب، والقدَمَيْنِ من الساقَيْن، والساقينِ من الفخِذَيْن، والفخذينِ من الوَرْك، والوَرْكَ من الصُّلب. وعمر يبكي، فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر، أدلُّك على أكفانٍ لا تبلَى؟ قال: وما هي؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح

(4)

.

وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقتُ الليلةَ مفكِّرًا، قال: وفيمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنِه، إنك لو رأيتَ الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشتَ من قربِه بعد طولِ الأُنس منك بناحيته، ولرأيتَ بيتًا تجولُ فيه الهوامُّ ويجري فيه الصديد، وتخترقُ فيه الديدان، مع تغيُّر الريح، وبِلَى الأكفان بعد حُسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم شهق شهقة خرَّ مغشيًّا عليه

(5)

.

(1)

في (ق، ح): "خبرة" تصحيف، والمثبت من (ب) وتاريخ ابن عساكر (54/ 187)؛ والحبرة: أثر النعمة والسرور.

(2)

في (ح) وتاريخ ابن عساكر (54/ 189): "حلت فيهم المثلات"، وفي (ق):"خلت بهم"، والمثبت من (ب) والمثلات: العقوبات التي يقع بها الاعتار. وخلت: مضَتْ إشارة إلى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} [الرعد: 6] وتقديره: خلت المثلات بأقوام أو خلا أصحاب المثلات فحذف المضاف. انظر مجمع البيان (3/ 278).

(3)

ما بين الحاصرتين ليس في الأصول ولا تاريخ ابن عساكر وهو من (ق).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 189).

(5)

تاريخ ابن عساكر (54/ 190).

ص: 24

وقال مقاتلُ بن حيَّان: صلَّيتُ وراءَ عمرَ بنِ عبد العزيز فقرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] فجعل يكرِّرها وما يستطيعُ أنْ يتجاوزها

(1)

.

وقالتِ امرأتُه فاطمة: ما رأيتُ أحدًا أكثرَ صلاةً وصيامًا منه، ولا أحدًا أشدَّ فرَقَا من ربِّه منه، كان يصلِّي العشاء ثم يجلسُ يبكي حتى تغلِبَه عيناه، ثم ينتبه فلا يزالُ يبكي حتى تغلبه عيناه (1).

قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش، فيذكرُ الشيء من أمر الآخرة فينتفضُ كما ينتفضُ العصفور في الماء، ويجلسُ يبكي، فأطرَحُ عليه اللحاف رحمة الله له، وأنا أقول: يا ليتَ كان بيننا وبين الخلافة بعدُ المشرقَيْن، فو الله ما رأينا سرورًا منذ دخلنا فيها

(2)

.

وقال علي بن زيد: ما رأيتُ رجلينِ كأنَّ النار لم تُخلَقْ إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز

(3)

.

وقال بعضهم: رأيتُه يبكي حتى بكى

(4)

دمًا. قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]. الآية، ويقرأ:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97]. ونحو هذه الآيات (4).

وكان يجتمع إليه كل ليلة أصحابُه من الفقهاء، فلا يذكرون إلَّا الموتَ والآخرة. ثم يبكون حتى كأنَّ بينهم جنازة

(5)

.

وقال أبو بكر الصولي عن المبرِّد: كان عمر بن عبد العزيز يتمثَّلُ بقولِ الشاعر:

فما تزود مما كانَ يجمعهُ

سوى حَنُوطٍ غداةَ البينِ في خِرَقِ

وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشبُّ لهُ

وقلَّ ذلكَ من زادٍ لمنطلقِ

بأيِّما بلدٍ كانتْ منيتُه

إنْ لا يسِرْ طائعًا في قصدِها يُسَقِ

(6)

ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازةٍ إلى قوم قد تلثَّموا من الغُبار والشمس، وانحازوا إلى الظِّلّ، فبكى وأنشأ يقول

(7)

:

مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ

أو الغبارُ يخافُ الشَّيْنَ والشَّعَثا

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 191).

(2)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 191، 192).

(3)

تاريخ ابن عساكر (54/ 192).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 193).

(5)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 194).

(6)

تاريخ ابن عساكر (54/ 195).

(7)

في (ق): "وأنشد"، وفي تاريخ ابن عساكر:"وقال"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 25

ويألفُ الظلَّ كي تبقى بشاشتُهُ

فسوفَ يسكنُ يومًا راغِمًا جَدَثا

في قعر مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ

يُطيلُ في قعرِها تحتَ الثرى لَبَثا

(1)

تجهزي بجهازٍ تبلغينَ بهِ

يا نفسُ قبلَ الرَّدَى لم تُخلقي عَبثًا

(2)

وقال المفضَّل بن غسَّان الغَلابي

(3)

: كان عمر بن عبد العزيز لا يجفُّ فُوهُ من هذا البيت:

ولا خيرَ في عيشِ امرئٍ لم يكنْ لهُ

منَ اللهِ في دارِ القرارِ نصيبُ

وزاد غيره معه بيتًا حسنًا وهو قوله:

فإنْ تُعجبِ الدنيا أناسًا فإنَّها

متاعٌ قليلٌ والزوالُ قريبُ

ومن شعره الذي أنشدَهُ ابنُ الجَوْزي:

أنا مَيْتٌ وعزَّ منْ لا يموتُ

قدْ تيقَّنْتُ أنَّني سأموتُ

(1)

في (ق): "اللبثا"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر.

(2)

بعد هذه الأبيات في (ق) زيادة ليست في (ب، ح) ولا في تاريخ ابن عساكر وضعناها هنا في الحاشية وهذه هي: هذه الأبيات ذكرَها الآجُرِّي في "أدب النفوس" بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القَرَاطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدّثني محمد بن صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الأزدي، حدّثني ابن لعبد الصمد بن عبد الأعلى بن أبي عمرة قال: أرادَ عمر بن عبد العزيز أن يبعثَه رسولًا إلى أليون طاغيةِ الرُّوم يدعوهُ إلى الإسلام، فقال له عبد الأعلى: يا أمير المؤمنين! إئذن لي في بعض بنيَّ يخرجُ معي - وكان عبدُ الأعلى له عشرةٌ من الذكور - فقال له: انظر من يخرجُ معك من ولدك. فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيتُ ابنك عبدَ الله يمشي مشيةً كرهتُها منه ومقتُّه عليها، وبلَغني أنه يقولُ الشعر. فقال عبدُ الأعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما نوَّاحةٌ ينوحُ بها على نفسه، فقال له: مُرْ عبدَ الله يأتيني وخذْ معك غيره، فراح عبدُ الأعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعرَ المتقدم:

تجهَّزي بجهازٍ تبلغينَ بهِ

يا نفسُ قبلَ الرَّدَى لمْ تُخلقي عَبَثَا

ولا تكدِّي لمن يبقى وتفتقري

إن الردَى وارثُ الباقي وما وَرِثا

واخشَيْ حوادثَ صَرْفِ الدهر في مهلٍ

واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا

عن مُديةٍ كان فيها قطعُ مدَّتهِ

فوافتِ الحرثَ موفورًا كما حُرثا

لا تأمني فجعَ جهرٍ مترفٍ خَتِلٍ

قدِ استوى عندهُ منْ طابَ أو خَبُثا

يا رُبَّ ذي أملٍ فيه على وجل

أضحى بهِ آمنًا أمسى وقدْ حدثا

منْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ

أو الغبارُ يخافُ الشينَ والشَّعَثا

ويألفُ الظلَّ كي تبقى بشاشتهُ

فكيفَ يسكنُ يومًا راغمًا جِدَثا

قفراءَ موحشة غبراءَ مظلمة

يُطيلُ تحتَ الثرى منْ قعرها اللَّبَثا

وقد ذكرها ابنُ أبي الدنيا، فعمر أنشدَها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وكان عمر يتمثَّل بها كثيرًا ويبكي.

(3)

في (ق): "الفضل بن عباس الحلبي" تحريف، والمثبت من (ح، ب)، والخبر في تاريخ ابن عساكر (54/ 196).

ص: 26

ليسَ مُلكٌ يزيلهُ الموتُ مُلْكًا

إنما الملكُ مُلْكُ منْ لا يموتُ

وقال عبد الله بن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول:

تُسرُّ بما يَبْلَى

(1)

وتفرحُ بالمُنى

كما اغترَّ باللذاتِ في النومِ حالمُ

نهارُكَ يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ

وليلكَ نومٌ والردى لكَ لازمُ

وسعيُكَ فيما سوفَ تكرهُ غِبَّهُ

كذلكَ في الدنيا تعيشُ البهائمُ

(2)

وقال محمد بن كثير: قال عمر بن عبد العزيز يلومُ نفسه ويعاتبُها:

أيقظانُ أنتَ اليومَ أم أنتَ نائمُ

وكيفَ يطيقُ النَّومَ حيرانُ هائمُ

فلو كنتَ يقظانَ الغداة لحرَّقتْ

مدامعَ

(3)

عينيكَ الدموعُ السواجمُ

نهارك يا مغرورُ سَهْوٌ وغفلةٌ

وليلك نوم والرَّدَى لك لازمُ

وتُشغلُ فيما سوف تكرَهُ غِبَّهُ

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

(4)

وروى ابنُ أبي الدنيا بسنده عن فاطمة بنتِ عبدِ الملك قالت: انتبه عمر ذات ليلةٍ وهو يقول: لقد رأيت الليلة رؤيا مُعجبة، فقلت: أخبرني بها، فقال: حتى نُصبح؛ فلمَّا صلَّى الصبحَ بالمسلمين، ثم دخل سألته عنها، فقال: رأيتُ كأني دُفعت إلى أرضٍ خضراءَ واسعة، كأنها بساطٌ أخضر وإذا فيها قصرٌ كأنَّه الفضة، فخرج منه خارج فنادَى أين محمد بن عبد الله، أين رسولُ الله؟ إذْ أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخرُ فنادى: أين أبو بكر الصديق؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخرُ فنادَى: أين عمر بن الخطاب؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخرُ فنادى أين عثمان بن عفان؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عليُّ بن أبي طالب؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخرُ فنادى أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمتُ فدخلت فجلست إلى جانب أبي عمرَ بنِ الخطاب، وهو عن يسارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقلت: لأبي: منْ هذا؟ قال: هذا عيسى ابنُ مريم، ثم سمعتُ هاتفًا يهتِفُ بيني وبينه نورٌ لا أراه، وهو يقول: يا عمر بن عبد العزيز تمسَّكْ بما أنتَ عليه، واثبُتْ على ما أنت

(1)

في (ق): "يفنى"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر.

(2)

تاريخ ابن عساكر (54/ 197).

(3)

في (ق): "محاجر عينيك"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر.

(4)

في (ق) بدل البيتين الأخيرين هذه الأبيات الثلاثة:

أصبحت في النوم الطويل وقد دنت

إليك أمور مفظعات عظائم

وتكدح فيما سوف تكره غبه

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

فلا أنت في النوام يومًا بسالم

ولا أنت في الأيقاظ يقظان حازم

والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر (54/ 197، 198).

ص: 27

عليه، قال: ثم كأنه أذنَ لي في الخروج فخرجتُ، فالتفتُّ فإذا عثمانُ بن عفَّان وهو خارج من القصر وهو يقول: الحمد لله الذي نصرَني ربي، وإذا عليٌّ في إثره وهو يقول: الحمد لله الذي غفَرَ لي ربي

(1)

.

‌فصل

(2)

وقد ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الذي رواهُ أبو داود في سُننه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة منْ يجدِّدُ لها أمرَ دينها"

(3)

. فقال جماعةٌ من أهل العلم منهم أحمدُ بن حنبل - فيما ذكرهُ ابنُ الجوزي وغيره -: إنَّ عمرَ بن عبد العزيز كان على رأسِ المئةِ الأولى؛ وقال آخرون: هو من جملة من جدَّد الله به أمر الدين على رأس المئة الأولى - وإنْ كان هو أوْلَى منْ دخل في ذلك وأحق، لإمامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهادِه في تنفيذِ الحق، فقد كانتْ سيرتُه شبيهةً بسيرةِ عمر بن الخطاب، وكان كثيرًا ما يتشبَّهُ به.

وقد جمعَ الشيخ أبو الفرج بن الجَوْزي سيرة العمرين، عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقد أفردْنا سيرةَ عمر بن الخطاب في مجلدٍ على حِدة، ومسندَه في مجلدٍ ضَخْم؛ وأمَّا سيرة عمر بن عبد العزيز، فقد ذكرنا منها طرفًا صالحًا هنا، يُستدلُّ به على ما لم نذكره.

وقد كان عمر رحمه الله يُعطي منِ انقطعَ إلى المسجد الجامع من بلده وغيرها، للفقهِ ونشرِ العلم وتلاوة القرآن، في كلِّ عام من بيت المال مئة دينار، وكان يكتبُ إلى عُمَّاله أنْ يأخذوا النَّاسَ بالسنَّة، ويقول: إنْ لم تصلحْهم السُّنَّة فلا أصلحَهم الله. وكتب إلى سائر البلاد أنْ لا يركبَ ذِمِّيٌّ من اليهود والنصارى

(4)

وغيرِهم على سرج، ولا يلبس قباءً ولا طيلسانًا ولا سراويل ذات خَدَمة

(5)

، ولا يمشينَّ أحدٌ منهم إلا بزُنَّار من جلْد، وهو مقرون الناصية، ومن وُجد منهم في منزله سلاحٌ أخذ منه.

وكتب أيضًا أنْ لا يُستعمل على الأعمال إلا أهلُ القرآن، فإنْ لم يكنْ عندَهم خيرٌ فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير.

(1)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 200).

(2)

أقحمت النسخة (ب) هنا ما جاء في ص (34) عند قوله: "وقد رئيت له منامات .. " إلى قوله: "رحمه الله" من هذا الجزء.

(3)

أخرجه أبو داود برقم (4291) في الملاحم: باب ما يذكر في قرن المئة، والحاكم (4/ 522) وهو حديث صحيح صححه جمع من العلماء منهم الحافظ العراقي والحافظ ابن حجر.

(4)

ليست كلمة "اليهود" في (ب، ح).

(5)

الخَدَمَة: رباط السراويل عند أسفل رجل المرأة، أو الخلخال. القاموس (خدم). والخبر في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص (159).

ص: 28

وكان يكتبُ إلى عمَّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضورِ الصلوات، فإنَّ منْ أضاعَها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدُّ تضييعًا.

وقد كان يكتبُ الموعظةَ إلى العامل من عماله فينخَلِعُ منها، وربما عزَلَ بعضُهم نفسَه عن العمالة وطوى البلاد من شدَّة ما تقعُ موعظتُه منه، وذلك أنَّ الموعظة إذا خرجتْ من قلب الواعظ دخلتْ قلبَ الموعوظ

(1)

. وقد صرَّح كثيرٌ من الأئمة بأنَّ كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظَ حسان ولو تقصَّينا ذلك لطال به هذا الفصل. ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارةٌ إلى ذلك.

وكتب إلى بعض عماله: أما بعد، فإني أذكِّرك ليلة تمخَّضُ بالساعةِ وصباحُها القيامة، فيا لها من ليلة، ويا له من صباح، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] وكتب إلى آخر: أذْكِّركَ طولَ سهرِ أهل النار في النار مع خلودِ الأبد، وإيَّاك أنْ ينصرفَ بك من عند الله، فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاءِ منك. قالوا: فخلَعَ هذا العاملُ نفسَه من العمالة، وقدم على عمر فقال له: ما لك؟ فقال: خلعتَ قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعودُ إلى ولايةٍ أبدًا.

‌فصل

وفد ردَّ جميعَ المظالم كما قدَّمنا

(2)

، حتى إنَّه ردَّ فصَّ خاتم كان في يدِه، وقال: أعطانيه الوليدُ من غير حقِّه؛ وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في المَلْبس والمأكل والمتاع، حتى إنَّه ترك التمتُّع بزوجته فاطمة، وكانت من أحسن النساء، وبنت عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ويقال: إنه ردَّ جهازها وما كان من أموالها إلى بيتِ المال، والله أعلم. وقد كان دخْلُه في كلِّ سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترَك ذلك كلَّه حتى لم يبقَ له دَخْلٌ سوى أربعمئة دينار في كلِّ سنة، وكان حاصله حين ولي الخلافة ثلاثمئة درهم، وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنُه عبدُ الملك أجلَّهم، فماتَ في حياته في زمن خلافته، ويقال إنه كان خيرًا من أبيه، فلما مات لم يُظهر عليه حُزنًا، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدًّا فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع ولا يغسله حتى يتسخ جدًّا، ويقول: ما أحسنَه لولا لينه. وكان يلبسُ الفروةَ الغليظة، وكان سراجُه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يَبن شيئًا

(1)

في (ب، ح): "

موعظته منه، وما ذاك إلا لأنها تخرج من قلب الواعظ فتدخل في قلب الآخر".

(2)

انظر ص (18) من هذا الجزء.

ص: 29

في أيام خلافته، وكان يخدُم نفسَه بنفسه، وقال: ما تركتُ شيئًا من الدنيا إلا عوَّضني الله ما هو خيرٌ منه، وكان يأكل الغليظ من الطعام أيضًا، ولا يُبالي بشيءٍ من النعيم، ولا يُتبعه نفسَه ولا يودُّه. حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهدَ من أويس القَرَني، لأنَّ عمر ملك الدنيا بحذافيرِها وزَهِد فيها، ولا ندري حالَ أويسٍ لو ملك ما ملكَهُ عمر كيف يكون؟ ليس منْ جرّب كمن لم يجرّب.

وتقدَّم

(1)

قولُ مالك بن دينار كان يقول الناس: مالك زاهد، إنما الزاهدُ عمر بن عبد العزيز. أتته الدنيا فاغرة فاها فردَّها.

وقال عبدُ الله بن دينار: لم يكنْ عمر يرتزقُ من بيت المال شيئًا؛ وذكروا أنه أمر جارية تروّحه حتى ينام فروَّحته، فنامتْ هي، فأخذ المِرْوحة من يدها وجعل يروَّحُها ويقول: أصابكِ من الحرِّ ما أصابني.

وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرًا. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا.

ويقال: إنه كان يلبسُ تحت ثيابه مِسْحًا غليظًا من شعر، ويضع في رقبته غُلًّا إذا قام يصلِّي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنُّونه مالًا أو جوهرًا من حِرْصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غُلٌّ ومِسْح.

وكان يبكي حتى بكى الدَّمَ مع الدموع، ويقال: إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعُه من الميزاب.

وكان يأكلُ من العدَس ليرقَّ قلبُه ويغزر دمعه؛ وكان إذا ذُكر الموت اضطربتْ أوصاله.

وقرأ رجلٌ عنده {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] فبكى بكاءً شديدًا، ثم قام فدخل منزله وتفرَّق الناس عنه.

وكان يُكثر أن يقول: اللهمَّ سلِّمْ سلِّمْ، وكان يقول: اللهمَّ أصلحْ منْ كان في صلاحِه صلاحٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلِك منْ كان في هلاكه صلاحُ أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال: أفضلُ العبادةِ أداءُ الفرائضِ واجتنابُ المحارم.

وقال: لو أنَّ المرء لا يأمرُ بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى يُحكم أمرَ نفسه لتواكَلَ الناس الخير، ولذهب الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر.

ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.

وقال: الدنيا عدوَّةُ أولياء الله، وعدوَّةُ أعداءِ الله، أمَّا الأولياء فغمَّتهم وأحزنتْهم، وأمَّا الأعداء فغرَّتْهم وشتَّتَتْهم وأبعدَتْهم عن الله.

(1)

انظر ص 21 من هذا الجزء.

ص: 30

وقال: قد أفلح منْ عُصم من المِرَاء والغضَب والطمع.

وقال لرجل: منْ سيَّدُ قومك؟ قال: أنا. قال: لو كنتَ كذلك لم تقلْه.

وقال: أزهدُ الناس في الدنيا عليُّ بن أبي طالب.

وقال: لقد بورك لعبدٍ في حاجةٍ أكثرَ فيها سؤالَ ربِّه، أُعطي أو مُنع

(1)

.

وقال: قَيَّدوا العلم بالكتاب.

وقال لرجُل: علِّمْ ولدَك الفقه الأكبر: القناعةَ وكفَّ الأذى. وتكلَّم رجلٌ عنده فأحسن، فقال: هذا هو السحرُ الحلال.

وقصَّتُه مع أبي حازم مطوَّلةٌ حين رآه خليفة وقد شَحُبَ وجهُه من التقشُّف: وتغيَّرَ حالُه، فقال له: ألم يكنْ ثوبُك نقيًّا؟ ووجهُك وضيًّا؟ وطعامُك شهيًّا؟ ومركبك وطيًّا؟ فقال له: ألم تخبرْني عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من ورائكم عقبة كئودًا لا يجوزها إلَّا كلُّ ضامرٍ مَهْزولٍ"؟ ثم بكى حتى غُشي عليه. ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أنَّ القيامة قد قامتْ، وقد استُدعي بكلٍّ من الخلفاء الأربعة، فأُمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم ير ما صُنع بهم، ثم دُعي هو فأُمِرَ به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائلٌ فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجَّاج بن يوسف، قتلني ربِّي بكلِّ قتلة قتلة، ثم ها أنا أنتظر ما ينتظره الموحدودن

(2)

.

وفضائلُه ومآثرُه كثيرةٌ جدًّا. وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبُنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة لنا إلا به.

‌ذكر سبب وفاته رحمه الله

كان سببها السِّلّ، وقيل: سَبَبُها أنَّ مولًى له سمَّهُ في طعامٍ أو شراب، وأُعطي على ذلك ألف دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمتُ يوم سُقيت السُّم، ثم استدعَى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك!! ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ألفُ دينار أُعطيتها. فقال: هاتها، فأحضرَها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهبْ حيثُ لا يراك أحد فتهلِك. ثم قيل لعمر: تداركْ نفسَك، فقال: والله لو أنَّ شفائي أنْ أمسَّ شحمةَ أُذني أو أُوتى بطِيب فأشمَّه ما فعلتُ. فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا تُوصي لهم بشيء فإنهم فقراء؟ فقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى

(1)

في (ب، ح): "لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من الدعاء، أُعطيت أو مُنعت".

(2)

قصة عمر مع أبي حازم أوردها ابن عساكر في تاريخه، انظر مختصر ابن منظور (28/ 224) في ترجمة أبي حازم.

ص: 31

الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] والله لا أعطيتُهم حقَّ أحد، وهم بين رجُلَيْن: إمَّا صالح، فالله يتولَّى الصالحين، وإما غير صالح فما كنتُ لأعينَه على فسقه.

وفي رواية: فلا أبالي في أيِّ وادٍ هلكَ. وفي رواية: أفأدعُ له ما يستعينُ به على معصيةِ الله فأكونَ شريكه فيما يعملُ بعد الموت؟ ما كنتُ لأفعل. ثم استدعى بأولاده فودَّعهم وعزَّاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال انصرفوا عصمَكم الله وأحسنَ الخلافةَ عليكم. قال: فلقد رأينا بعضَ أولادِ عمر بن عبد العزيز يحملُ على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعضُ أولادِ هشام بن عبد الملك - مع كثرةِ ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأنَّ عمر وكَلَ ولدَهُ إلى الله عز وجل، وهشام وغيرُه إنما يكِلُون أولادَهم إلى ما يدَعُون لهم، فيضيعون وتذهب أموالُهم في شهواتِ أولادِهم

(1)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان

(2)

: حدّثنا أبو النعمان حدّثنا حمَّاد بن زيد، عن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيتَ المدينة، فإنْ قضَى الله موتًا كنت موضع

(3)

القبرِ الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر. فقال: والله لأنْ يعذِّبني الله بكلِّ عذاب، إلا النار، فإئه لا صبر لي عليها، أحبُّ إليَّ من أنْ يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.

قالوا: وكان مرضُه بدير سَمْعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يومًا، ولما احتضر قال: أجلسوني، فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصَّرت، ونهيتني فعصَيْت - ثلاثًا - ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنسٍ ولا جان، ثم قبض من ساعته (4).

وفي رواية أنه قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمةُ بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليستْ بوجوه إنسٍ ولا جانٍ ثم قرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد غُمض وسُوِّي إلى القِبلة وقُبض

(4)

.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدَّرَاوَرْديّ، عن عبد العزيز بن أبي سَلَمة، أنَّ عمرَ بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبَّتْ ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب،

(1)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 203، 204).

(2)

المعرفة والتاريخ (1/ 608) وساقه ابن عساكر عنه في تاريخه (65/ 204، 205).

(3)

في (ق): "دفنت في القبر"، وفي تاريخ ابن عساكر" دفنت موضع القبر"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 206).

ص: 32

فقرؤوها، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، براءةٌ من الله لعمرَ بن عبد العزيز من النار. فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه

(1)

.

وقد روي نحو هذا من وجهٍ آخر

(2)

وروى ابنُ عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل

(3)

بسنده عن عُمير بن حُباب السُّلَمي

(4)

، قال: أُسرتُ أنا وثمانية في زمن بني أميَّة، فأمر ملك الروم بضرْب رقابِنا، فقُتل أصحابي وشفع فيَّ بطريقٌ من بطارقةِ الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنةٌ مثل الشمس، فعرَضها عليَّ وعلى أنْ يقاسمني نعمتَه وأدخل معه في دينه، فأبيت، وخلَتْ بي ابنتُه، فعرَضتْ نفسَها عليَّ فامتنعتُ، فقالت: ما يمنعُكَ من ذلك؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء. فقالت: تريدُ الذهابَ إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقالت: سرْ على هذا النجم بالليل واكمُنْ بالنهار، فإنَّه يلقيك

(5)

إلى بلادك. قال: فسرتُ كذلك، قال فبينا أنا في اليوم الرابع مُكْمنٌ إذا بخيل مقبلة فخَشيتُ أنْ تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قُتلوا معهم آخرون على دوابَّ شُهب، فقالوا: عمير؟ فقلت: عمير. فقلت لهم: أو ليس قد قُتلتم؟ قالوا: بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء وأذِنَ لهم أن يشهدوا جنازةَ عمرَ بنِ عبد العزيز. قال: ثم قال لي بعضُهم: ناولْني يدَك يا عُمير. فأردفَني، فسرْنا يسيرًا ثم قذف بي قذفةً وقعتُ قربَ منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شرّ.

وقال رجاء بن حَيْوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إليَّ أنْ أغسِّله وأكفِّنه وأدفنه، فإذا حللتُ عقدةَ الكفَن أن أنظر في وجهه قال: ففعلتُ فإذا وجهه مثل القراطيس بياضًا، وكان قد أخبرني أنه دفن ثلاثة من الخلفاء فيحل عن وجوههم فإذا هي مسودَّة

(6)

.

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك

(7)

قال: بينما نحن نسوِّي الترابَ على قبر عمر بن عبد العزيز إذْ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: أمانٌ من الله لعمر بن عبد العزيز

(1)

تاريخ ابن عساكر (54/ 209).

(2)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 209، 210).

(3)

تاريخ ابن عساكر (42/ 261)، وأورده ابن عساكر أيضًا في ترجمة عمير بن الحباب السلمي أيضًا، انظر المختصر (19/ 327).

(4)

في (ق، ب، ح): "عمير بن حبيب السلمي"، والمثبت من تاريخ ابن عساكر.

(5)

في تاريخ ابن عساكر ترجمة عبد الصمد " يبلغك"، وفي ترجمة عمير "يلقيك" كما هنا.

(6)

انظر تاريخ ابن عساكر (54/ 207).

(7)

ترجمة يوسف بن ماهك في المختصر من تاريخ ابن عساكر لابن منظور، والخبر فيه (28/ 92).

ص: 33

من النار. ساقه من طريق إبراهيم بن بشار عن عباد بن عمرو عن محمد بن يزيد البصري عن يوسف بن ماهك

فذكره؛ وفيه غرابة شديدة والله أعلم.

وقد

(1)

رُئيتْ له مناماتٌ صالحة، وتأسَّف عليه الخاصَّةُ والعامَّة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكُثَيِّر عرَّة يرثي عمر:

عمَّتْ صنائعُهُ فعمَّ هلاكُهُ

فالناسُ فيهِ كلُّهمْ مأجورُ

والناسُ مأتمهمْ عليهِ واحدٌ

في كل دارٍ رَنَّةٌ وزفيرُ

يُثني عليكَ لسانُ منْ لم تولهِ

خيرًا لأنَّكَ بالثناءِ جديرُ

ردَّتْ صنائعُهُ عليه حياتَهُ

فكأنهُ منْ نشرها منشورُ

وقال جرير

(2)

يرثي عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله:

يَنْعى النعاةُ أميرَ المؤمنينَ لنا

يا خيرَ منْ حجَّ بيتَ اللهِ واعتمرا

حُمِّلتَ أمرًا عظيمًا فاضطلعتَ بهِ

وسرتَ فيهِ بأمرِ اللهِ ياعمرا

الشمسُ كاسفةٌ ليستْ بطالعةٍ

تبكي عليكَ نجومُ الليل والقمرا

(3)

وقال محاربُ بن دِثَار رحمه الله يَرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:

لو أعظمَ الموتُ خلقًا أن يواقعهُ

لعدلِه لمْ يصبكَ الموتُ يا عمر

كمْ منْ شريعةِ عَدْلٍ قدْ نعشتَ لهم

كادَتْ تموتُ وأخرى منكَ تنتظرُ

يا لهفَ نفسي ولهفَ الواجدينَ معي

على العُدولِ التي تغتالها الحفرُ

ثلاثةٌ ما رأتْ عيني لهم شبهًا

تضمُّ أعظُمَهم في المسجدِ الحُفَرُ

وأنتَ تتبعهمْ لمْ تألُ مجتهدًا

سقيًا لها سننٌ بالحق تُفْتقرُ

لوْ كنتُ أملكُ والأقدارُ غالبةٌ

تأتي رواحًا وتبيانًا وتبتكرُ

صرفتُ عن عمر الخيراتِ مصرعَهُ

بديرِ سمعانَ لكنْ يغلِبُ القدَرُ

(4)

قالوا: وكانت وفاته بدَيْر سَمْعان من أرضِ حمص، يوم الخميس، وقيل الجمعة لخمس مضَيْن، وقيل بقَينَ من رجب، وقيل لعشر بقَينَ منه، سنة إحدى وقيل ثنتين ومئة. وقال الهيثم بن عدي: توفي في جمادى سنة ثنتين ومئة، وصلَّى عليه ابنُ عمه مَسْلمة بنُ عبد الملك؛ وقيل: صلى عليه يزيد بن

(1)

انظر ص (28) ح (2) من هذا الجزء.

(2)

ديوان جرير ص (304).

(3)

في (ب، ح): الشمس طالعة ليست بطالعة، والمثبت من الديوان وتاريخ ابن عساكر (54/ 212).

(4)

تاريخ ابن عساكر (54/ 213).

ص: 34

عبد الملك؛ وقيل: ابنُه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان عمره يومَ مات تسعًا وثلاثين سنة وأشهرًا، وقيل إنه جاوز الأربعين بأشهر، وقيل بسنة. وقيل بأكثر، وقيل إنه عاش ثلاثًا وثلاثين سنة

(1)

، وقيل ستًا وثلاثين، وقيل سبعًا وثلاثين، وقيل ثمانيًا وثلاثين سنة، وقيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغْها.

وقال أحمد عن عبد الرزاق عن معمر: مات على رأس خمسٍ وأربعين سنة. قال ابن عساكر

(2)

: وهذا وهم، والصحيح الأول، تسعًا وثلاثين سنة وأشهرًا. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل أربعة عشر يومًا، وقيل سنتان ونصف.

وكان رحمه الله أسمر، دقيقَ الوجه حسنهُ، نحيفَ الجسم، حسنَ اللحية، غائرَ العينين، بجبهته أثرُ شجَّة وكان قد شابَ وخضب رحمه الله

(3)

، والله سبحانه أعلم

(4)

.

(1)

في (ق): "ثلاثًا وستين"، وهو تحريف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر، وانظر رواياته المختلفة في ذلك (54/ 213 - 220).

(2)

في تاريخه (54/ 220).

(3)

انظر ص (28) ح (2) من هذا الجزء.

(4)

ذكر في (ق) هنا فصل ليس في (ب، ح) إلى خلافة يزيد بن عبد الملك ص (219)، ويرجح أن يكون مقحمًا في الكتاب، ففيه أيضًا سبق إيرادها بالفاظ مقاربة، وفيه قرائن تدل على أنه ليس لابن كثير كقوله عقيب الخبر الأول:"ذكره ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية" لذلك جعلناه في الحاشية.

‌فصل

لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحبُ الشُّرْطة ليسيرَ بين يديه بالحَرْبة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: ما لي ولك؟ تنحَّ عنِّي، إنما أنا رجلٌ من المسلمين. ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعِد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس! إني قد ابتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورةٍ من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلُّنا بك. فلما هدأتْ أصواتُهم حمِدَ الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله خلَفٌ من كلِّ شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأكثروا من ذكر الموت، فإنَّه هاذمُ اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإنَّ هذه الأمة لم تختلفْ في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينارِ والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدًا باطلًا، ولا أمنعُ أحدًا حقًا. ثم رفع صوته فقال: أيها الناس! منْ أطاع الله وجبَتْ طاعته، ومنْ عصَى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم. ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهُتكت، والثياب التي كانت تُبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوَّا مقيلاً، فأتاه ابنُه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: يا بني أقيل، قال: تُقيل ولا تردُّ المظالم إلى أهلها؟ فقال: إني سهرتُ البارحة في أمر سليمان، فإذا صلَّيتُ الظهر رددْتُ المظالم. فقال له ابنه: ومَنْ لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادْنُ منِّي أي بُني. فدنا منه فقبَّلَ بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرِجَ من صُلْبي مَنْ يُعينني على ديني. ثم قام وخرج وترك القائلة، وأمر مناديهُ فنادَى: ألا منْ كانتْ له مَظْلمةٌ فليرفعْها. فقام إليه رجل ذِمِّيٌّ من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك=

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كتابَ الله. قال: ما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. والعباسُ جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم! أقطعَنيها أميرُ المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلًّا، فقال عمر: ما تقول يا ذِمّي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم كتاب الله أحقُّ أن يُتَّبع من كتاب الوليد، قم فاردُدْ عليه ضيعتَه. فردَّها عليه.

ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه، فما رُفعت إليه مظلِمة إلا ردَّها، سواء كانتْ في يده أو في يدِ غيره حتى أخذ أموالَ بني مروانَ وغيرهم، مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكِل واحدٍ من أعيان الناس، فلم يُفدْهم ذلك شيئًا، فأتَوْا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمَّته - فشكَوْا إليها ما لقُوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالَهم ويُستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأسًا، وكانت هذه المرأة لا تُحجبُ عن الخلفاء، ولا تُردُّ لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامَتْ فركبت إليه، فلما دخلتْ عليه عظَّمها وأكرمها، لأنها أختُ أبيه، وألقى لها وسادة، وشرع يحادثُها، فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمَّة، ما لك؟ فقالت: بنو أخي عبد الملك وأولادهم يُهانون في زمانك وولايتك؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويُسبَّون عندك فلا تُنكر؟ فضحك عمر وعلم أنها متحمّلة، وأنَّ عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجدّ، فقال: يا عمَّة! اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم ماتَ وترك الناس على نهر مَوْرود، فوليَ ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقِصْ منه شيئًا حتى مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجلٌ آخر، فلم يستنقص منه شيئًا حتى مات، ثم ولي ذلك النهر رجلٌ آخر، فَكَرى منه ساقية، ثم لم يزلِ الناسُ بعده يكرون السواقى حتى تركوه يابسًا لا قطرةً فيه، وايم الله لئن أبقاني الله لأردَّنه إلى مجراهُ الأول، فمنْ رضي فله الرضا، ومن سَخِطُ فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانةُ الوالي، والوالي لا يُزيل ذلك، فكيف يستطيعُ أنْ يُزيل ما هو ناءٍ عنه في غيرهم؟ فقالت: فلا يُسبُّوا عندك؟ قال: ومنْ يسبُّهم؟ إنما يرفع الرجل مظلِمته فآخذ له بها.

ذكر ذلك ابنُ أبي الدنيا وأبو نُعيم وغيرُهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارةً خفية.

وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلتُ على عمر في مرضه فإذا عليه قميصٌ وسخ، فقلت لفاطمة: ألا تغسِلُوا قميصَ أميرِ المؤمنين؟ فقالت: والله ماله قميص غيره، وبكى فبكتْ فاطمة فبكى أهلُ الدار، لا يَدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلَتْ عنهمُ العَبْرة قالت فاطمة: ما أبكاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني ذكرتُ منصرَفَ الخلائق من بين يدي الله، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، ثم صرخ وغُشيَ عليه.

وعُرض عليه مرَّة مِسْكٌ من بيتِ المال فسدَّ أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه؟ ولما احتُضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكرًا، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية. وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرًا بهذه الأبيات:

يُرى مستكينًا وهوَ للقولِ ماقتُ

بهِ عن حديثِ القوم ما هوَ شاغلُهْ

وأزعجَه علمٌ عنِ الجهلِ كلِّهِ

وما عالمٌ شيئًا كمَنْ هو جاهلُهْ

عبوسٌ عنِ الجُهَّالِ حينَ يراهمُ

فليسَ له منهمْ خدينٌ يهازلهُ

تذكَّرَ ما يبقى منَ العيشِ فارعَوى

فأشغلهُ عنْ عاجلِ العيشِ آجلهُ

وروى ابنُ أبي الدنيا عن ميمون بن مِهْران قال: دخلتُ على عمر بنِ عبد العزيز وعنده سابقٌ البَرْبري وهو ينشدُه شعرًا، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:

فكمْ من صحيحٍ باتَ للموتِ آمنًا

أتَتْهُ المنايا بغتةً بعدما هجَعْ =

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فلمْ يستطعْ إذ جاءهُ الموتُ بغتةً

فِرارًا ولا منهُ بقوَّتهِ امتنَعْ

فأصبحَ تبكيهِ النساءُ مقنَّعًا

ولا يسمعُ الداعي وإنْ صوتهُ رفعْ

وقُرِّب من لحدٍ فصارَ مَقِيلهُ

وفارقَ ما قدْ كان بالأمسِ قدْ جمَعْ

فلا يتركُ الموتُ الغنيَّ لمالهِ

ولا مُعْدِمًا في المالِ ذا حاجةٍ يدعْ

وقال رجاء بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيدُ بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد: يا أمير المؤمنين! إنَّ هذا المُرائي - يعني عمرَ بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين [جمع] كل ما قدر عليه من جوهرٍ نفيس، ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر. فأرسل يزيدُ إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلَّف جوهرًا ودُرًّا في بيتين مقفولين. فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سَبَدٍ ولا لَبَد، إلا ما في هذا المنديل. وأرسلتْ إليه به، فحلَّه فوجد فيه قميصًا غليظًا مرقوعًا، ورداءً قشِبا، وجُبَّة محشوَّة غليظة واهية البطانة. فقال يزيد للرسول: قلْ لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين. فأرسلتْ تقول له: والذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلتُ هذين البيتين منذُ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحُهما فتعال فحوِّلْ ما فيهما لبيت مالك. فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه كرسى من أدَم، وأربعٍ آجُرَّات مبسوطاتٌ عند الكرسي، وقُمْقُم. فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله. ثم فتح البيت الثاني فوجَدَ فيه مسجدًا مفروشًا بالحصا، وسلسلةً معلقة بسقف البيت، فيها كهيئةِ الطَّوْق بقدر ما يدخل الإنسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعُها إذا نَعَس لئلا ينام، ووجدوا صندوقًا مقفلًا، ففتح فوجدوا فيه سفطا ففتحه فإذا فيه دُرَّاعه وتُّبَّان، كلُّ ذلك من مُسوح غليظ، فبكى يزيد ومنْ معه وقال: يرحمك الله يا أخي، إنْ كنتَ لنقيَّ السَّريرة، نقيَّ العلانية. وخرج عمر بن الوليد وهو مخذول وهو يقول: أستغفر الله. إنما قلت ما قيل لي.

وقال رجاء: لما احتُضر جعل يقول: اللهم رضِّني بقضائك، وبارك لي في قدَرِك، حتى لا أحبَّ لما عجَّلتَ تأخيرًا، ولا لما أخَّرتَ تعجيلًا. فلا زال يقول ذلك حتى مات. وكان يقول: لقد أصبحتُ ومالي في الأمور هَوىً إلا في مواضع قضاء الله فيها.

وقال شُعيب بن صفوان: كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بنِ عبد العزيز لما ولي الخلافة. أما بعد يا عمر، قد وَلي الخلافةَ والملكَ قبلك أقوامٌ، فماتوا على ما قد رأيت، ولقُوا الله فُرادى بعدَ الجموع والحفدة والحشَم، وعالجوا نَزْعَ الموت الذي كانوا منه يفرُّون، فانفقأتْ أعينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها، واندفنتْ رقابهم غيرَ موسَّدين بعدَ لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسُّرُر والخدَم، وانشقَّتْ بطونُهم التي كانت لا تشبع من كل نوعٍ ولَوْنٍ من الأموال والأطعمة، وصاروا جيفًا بعد طيب الروائح العطِرة، حتى لو كانوا إلى جانبِ مسكينٍ ممن كانوا يحقرونه وهم أحياء لتأذَّى بهم، ولنفر منهم، بعدَ إنفاق الأموال على أغراضهم من الطيبَ والثياب الفاخرة اللينة، كانوا يُنفقون الأموالَ إسرافًا في أغراضهم وأهوائهم، ويقتِّرون في حقِّ الله وأمره، فإنِ استطعتَ أنْ تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهَنون بما عليهم، وأنت غير محبوس ولا مرتهنٍ بشيءٍ فافعل، واستعنْ بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه.

وما مَلِكٌ عما قليل بسالمٍ

ولو كثرتْ أحراسُهُ ومواكبُهْ

ومنْ كان ذا بابٍ شديدٍ وحاجبٍ

فعما قليل يَهْجُرُ البابَ حاجبُه

وما كانَ غيرُ الموتِ حتى تفرقتْ

إلى غيرِهِ أعوانُه وحبائبهُ =

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فأصبحَ مسرورًا به كلُّ حاسدٍ

وأسلمَهُ أصحابُهُ وحبائبهُ

وقيل: إنَّ هذه الأبيات لغيره.

وقال ابنُ أبي الدنيا في كتاب الإخلاص: حدثنا عاصم بن عامر حدّثنا أبي عن عبد ربِّه بن أبي هلال عن ميمون بن مِهران قال: تكلَّمَ عمر بن عِبد العزيز ذات يوم وعنده رَهْطٌ من إخوانه، ففتح له منطق وموعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه، وقد ذرَفتْ عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له: يا أمير المؤمنين امضِ في موعظتك، فإني أرجو أن يمنَّ الله به على منْ سمعه أو بلغه. فقال إليك عني يا أبا أيوب، فإنَّ في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلِّمٌ عليهم، والفَعَال أولى بالمؤمن من المقال. وروى ابنُ أبي الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقوامًا كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمالَ الفجَّار، قاتلهم الله، أما كانوا يمشون على القبور!!

وروى عبد الرزاق قال: سمعتُ مَعمرًا يذكر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عَديِّ بن أرطاة - وبلغه عنه بعضُ ما يكره -: أما بعد فإنه غرَّني بك مجالستك القرَّاء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراءِ ظهرك، وإنك أحسنتَ العلانية فأحسَنَّا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثيبر مما تعملون.

وروى الطبرانيّ والدارَقطْنيّ وغيرُ واحدٍ من أهل العلم بأسانيدِهم إلى عمرَ بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله واتباع سنةِ رسوله، والاقتصاد في أمره، وِترك ما أحدث المُحدثون بعده. ممن قد حارب سُنَّته، وكُفوا مؤنته، ثم اعَلمْ أنه لم تكنْ بدعةٌ إلا وقد مضى قبلها ما هو دليلٌ على بُطلانها - أو قال دليلٌ عليها - فعليك لزومَ السنة، فإنه إنما سنَّها منْ قد علم ما في خلافها من الزَّيغ والزلل، والحُمق والخطأ والتعمُّق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشدّ، وإنما كان عملهم على الأسدّ، ولو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كلِّ خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه منْ قدِ اتبع غيرَ سبيلِ المؤمنين، وحادَ عن طريقهم، ورغبت نفسُه عنهم، ولقد تكلَّموا منه ما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فأينِ لا أين، فمن دونهم مقصّر، ومن فوقهم غير مُحسن، ولقد قصَّر أقوامهم دينهم فحُفُّوا، وطمحَ عنهم آخرون فغَلَوْا، فرحم الله ابنَ عبد العزيز. ما أحسنَ هذا القول الذي ما يخرجُ إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة! ومحبَّة ما كان عليه الصحابة! فَمنِ الذي يستطيعُ أنْ يقولَ مثل هذا من الفقهاء وغيرهم؟ فرحمه الله وعفا عنه.

وروى الخطيبُ البغدادي من طريق يعقوبَ بنِ سفيان الحافظ عن سعيد بن أبي مريم عن رشيد بن سعيد قال: حدّثني عقيل عن شهاب عن عمر بن عبد العزيز. قال: سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه تعدهُ سُننًا، الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله، واستعمالٌ لطاعة الله، ليس على أحد تغييرُها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي منْ خالفها، فمنِ اقتدَى بما سبق هُدي، ومنِ استبصر بها أبصر، ومنْ خالفَها واتَّبع غيرَ سبيلِ المؤمنين ولَّاه الله ما تولَّى، وأصلاه جهنَّم وساءتْ مصيرًا.

وأمر عمر بن عبد العزيز منادِيَهُ ذاتَ يوم فنادَى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبَهم، فقال في خطبته: إني لم أجمعْكم إلا أنَّ المصدِّق منكم بما بين يديه من لقاء الله والدارِ الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعدَّ له أحمق، والمكذب له كافر. ثم تلا قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54] وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولادَه مع مؤدِّب لهم إلى الطائف يعلِّمهم هناك، فكتب إليه عمر: بئس ما علّمت، إذ قدَّمت إمام المسلمين صبيًا لم يعرفِ النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له. =

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وروى ابنُ أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن مولًى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بني، ليس الخير أنْ يُسمع لك وتُطاع، وإنما الخير أن تكون غفَلْتَ عن ربِّك عز وجل ثم أطعتَه، يا بني لا تأذنِ اليوم لأحدٍ عليَّ حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخافُ أنْ لا أعقِل عن الناس ولا يفهمون عنِّي، فقال له مولاه: رأيتُك البارحة بكيتَ بكاءً ما رأيتُك بكيتَ مثلَه، قال فبكى ثم قال: يا بني إني والله ذكرتُ الوقوفَ بين يدي الله عز وجل. قال: ثم غُشي عليه فلم يُفقْ حتى علا النهار، قال: فما رأيتُه بعد ذلك متبسِمًا حتى مات.

وقرأ ذات يوم: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس: 61] الآية؛ فبكى بكاءً شديدًا حتى سمعه أهلُ الدار، فجاءتْ فاطمة فجلسَتْ تبكي لبكائه، وبكى أهلُ الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك؟ فقال: يا بني خير، ودَّ أبوك أنه لم يعرِف الدنيا ولم تعرفْه، والله يا بني لقد خَشيتُ أنْ أهلِكَ وأنْ أكون من أهل النار.

وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري، قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجَعَ الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطَب فقرأ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} [التكوير: 1] فقال: وما شأنُ الشمس {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 12 - 13] فبكى وبكى أهلُ المسجد، وارتجَّ المسجد بالبكاء، حتى رأيت حيطانَ المسجد تبكي معه.

ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة، وانتهيتُ إلى الغاية، والله سائلك عني. فبكى عمر وقال له: كم أنتم؟ فقال: أنا وثلاثُ بنات. ففرض له على ثلاثمئة، وفرض لبناته مئة مئة، وأعطاه مئة درهم من ماله، وقال له: اذهب فاستنفِقْها حتى تخرج أعطياتُ المسلمين فتأخذ معهم.

وجاءه رجل من أهل أذْرَبيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكرْ بمقامي هذا بين يديك مقامَك غدًا بين يدي الله، حيث لا يشغلُ الله عنك فيه كثرةُ منْ يخاصمُ، من يومٍ تلقاه بلا ثقةٍ من العمل، ولا براءةٍ من الذنب، قال: فبكى عمر بكاءً شديدًا ثم قال له: ما حاجتك. فقال: إنَّ عاملك بأذْرَبيجانَ عَدَا عليَّ فأخذ مني اثني عشرَ ألفَ درهم فجعلها في بيت المال. فقال عمر: اكتبوا له الساعةَ إلى عاملها، فليردَّ عليه. ثم أرسله مع البريد.

وعن زياد مولى ابنِ عياش قال: دخلتُ على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردةٍ شاتية، فجعلتُ أصطلي على كانونٍ هناك، فجاء عمر - وهو أمير المؤمنين - فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قصَّ عليّ، قلت: ما أنا بقاصّ. فقال: تكلَّمْ. فقلت: زياد. فقال: ما له. فقلت: لا ينفعه منْ دخل الجنة إذا دخلَ النار، ولا يضرُّه منْ دخل النار إذا دخل الجنة. فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون.

وقال له زياد العَبْدي: يا أميرَ المؤمنين لا تعملْ نفسك في الوصف واعملْها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أنَّ كل شعرةٍ فيك نطقَتْ بحمد الله وشكره والثناءِ عليه ما بلغتَ كنه ما أنتَ فيه. ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرْني عن رجلٍ له خَصْمٌ ألدّ ما حاله؟ قال: سيِّئ الحال. قال: فإنْ كانا خصمَيْن ألدَّين؟ قال: فهو أسوأ حالًا، قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش. قال: فو الله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا وهو خصمك. قال: فبكى عمر حتى تمنَّيت أني لم أكن حدثته ذلك.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدِيِّ بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورًا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدمَ الحرام، وانتهكوا فيه الفروج الحرام، والمالَ الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحةً من أشربةٍ حلال، فمن ينتبذْ فلا ينتبذْ إلا من أسقيةِ الأدَم، =

ص: 39

‌خلافة يزيد بن عبد الملك

بُويع له بعهدٍ من أخيه سليمان بن عبد الملك أنْ يكونَ وليَّ الأمر من بعد عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومئة - بايعه الناس البيعةَ العامَّة، وعمره إذ ذاك تسعٌ وعشرون سنة، فعزَل في رمضان منها عن إمرة المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وولَّى عليها عبدَ الرحمن بن الضحَّاك بن قيس، فجرَتْ بينه وبين أبي بكر بن حَزْمٍ منافسات وضغائن، حتى آل الأمر إلى أنِ استدرك عليه حكومة، فحدَّهُ حدَّين فيها.

وفيها كانت وقعةٌ بين الخوارج، وهم أصحاب بسطام الخارجي، وبين جند الكوفة، وكان الخوارجُ جماعة قليلة، وكان جيش الكوفة نحوًا من عشرة آلاف فارس، وكادت الخوارج أن تكسرهم، فتذامروا بينهم فطحنوا الخوارج طحنًا عظيمًا، وقتلوهم عن آخرهم، فلم يبقوا منهم ثائرًا

(1)

.

وفيها خرج يزيدُ بن المهلب فخلَع يزيدَ بن عبد الملك، واستحوذ على البصرة، وذلك بعد محاصرةٍ طويلة، وقتالٍ طويل؛ فلما ظهر عليها بسط العدلَ في أهلها، وبذَلَ الأموال، وحبس عاملَها عديَّ بنَ أرْطاة، لأنه كان قد حبس آلَ المهلَّب الذين كانوا بالبصرة، حين هرب يزيدُ بن المهلَّب من محبس عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا

(2)

، وكان لما ظهر على قصر الإمارة أتى بعديِّ بن أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيدُ بن المهلب: إني لأعجبُ من ضَحِكك، أنك هربتَ من الفتالَ كما تهربُ النساء! وإنك جئتني وأنت تُتلُّ كما يُتلُّ العبد! فقال عدي: إني لأضحكُ لأنَّ بقائي بقاءٌ لك، وأنَّ منْ ورائي طالبًا لا يتركُني، قال: ومنْ هو؟ قال: جنودُ بني أمية بالشام، ولا يتركونك، فداركْ نفسَك قبل أنْ يرميَ إليك البحر بأمواجه، فتطلب الإقالةَ فلا تُقال. فردَّ عليه يزيدُ جوابَ ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله، واستقرَّ أمرُ يزيدَ بنِ المهلَّب على البصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في الأهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلَّب على نيابة خُراسان، ومعه جماعةٌ من المقاتلة، فلما بلغ خبره على الجليَّة إلى أمير المؤمنين

(3)

يزيد بن عبد الملك جهَّز ابنَ أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف، مقدّمةَ بين يدي عمه مَسْلمة بن عبد الملك، وهو في جنود الشام، قاصدين البصرة لقتال يزيد بن

= واستغنوا بما أحلَّ الله عما حرَّم، فإنا منْ وجدْناه شرب شيئًا مما حرَّم الله بعدما تقدَّمنا إليه، جعلْنا له عقوبةً شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشدُ عقوبة له وأشذُ تنكيلا.

(1)

في (ق): "ثائرة"، وفي (ب):"تأثيرًا"، والمثبت من "ح".

(2)

انظر ص (5) من هذا الجزء.

(3)

في (ق): "

خبره الخليفة يزيد بت عبد الملك وفي (ح)؛ "

على الخليفة إلى أمير المؤمنين .. " والمثبت من (ب) والجلية: الخبر اليقين، والحقيقة. اللسان (ج ل ا).

ص: 40

المهلب، ولما بلغ يزيدَ بن المهلب مخرجُ الجيوش إليه خرج من البصرة واستناب عليها أخاه مروان بن المهلَّب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الأمراء في ماذا يعتمده؟ فاختلفوا عليه في الرأي، فأشار عليه بعضُهم بأن يسيرَ إلى الأهْواز فيتحصَّن في رؤوس الجبال، فقال: إنما تريدون أنْ تجعلوني طائرًا في رأسِ جبل؟ وأشار عليه بعضُهم أن يسير إلى الجزيرة فينزلها ويتحصن بأجودِ حصنٍ فيها، وينغِّص عليه رجالُ أهلِ العراق، ويجتمعُ عليه أهل الجزيرة فيقاتل بهم أهل الشام في سفرٍ رفيقٍ رخيص.

وانسلختْ هذه السنة وهو نازلٌ بواسط والجيشُ الشامي قاصدٌ إليه.

وحجَّ بالناس في هذه السنة عبدُ الرحمن بن الضحاك بن قيس أمير المدينة، وعلى مكة عبدُ العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى البصرة يزيدُ بن المهلب، قد استحوذ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيدَ بن عبد الملك.

وفيها توفي مع عمر بن عبد العزيز:

رِبْعيُّ بن حِرَاش، ومسلم بن يسار، وأبو صالح السمان، وكان عابدًا صادقًا ثبتًا، وقد ترجمناه في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنّة.

‌ثم دخلت سنة ثنتين ومئة

فيها كان اجتماعُ مَسْلَمة بنِ عبد الملك مع يزيدَ بنِ المهلب، وذلك أنَّ يزيدَ بن المهلب ركب من واسط، واستخلف عليها ابنهُ معاوية، وسار هو في جيش، وبين يديه أخوه عبد الملك بن المهلب، حتى بلغ مكانًا يقالُ له العَقْر، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنودٍ لا قِبلَ ليزيدَ بها، وقد التقتِ المقدّمتان أولًا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزم أهلُ البصرة أهلَ الشام، ثم تذامر أهلُ الشام فحملوا على أهل البصرة فكشفوهم وهزموهم، وقتلوا منهم جماعة من الشجعان، منهم المَنْتُوف، وكان شجاعًا مشهورًا، وكان من موالي بكرِ بن وائل، فقال في ذلك الفرزدق

(1)

:

تُبَكِّي على المَنْتُوف بكرِ بنِ وائل

وتنهَى عن ابني مسمعٍ مَنْ بكاهما

فأجابه الجَعْد بن دِرهم مولى الثوريين من هَمْدان، وهذا الرجل هو أولُ الجَهْميَّة، وهو الذي ذبحه خالدُ بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى فقال الجعد:

(1)

الديوان (2/ 203). (ط. صادر).

ص: 41

نُبكِّي على المنتوفِ في نصرِ قومهِ

ولسنا نبكِّي الشائدَيْنِ أباهما

(1)

أرادا فناءَ الحيِّ بكرِ بنِ وائلٍ

فعزُّ تميمٍ لو أُصيبَ فِناهما

فلا لقيا روحًا من اللهِ ساعةً

ولا رقأتْ عينا شجيٍّ بكاهما

أفي الغشِّ نبكي إنْ بكينا عليهما

وقد لقيا بالغِشِّ فينا رداهما

(2)

ولما اقترب مَسْلمةُ وَابْنُ أخيه العباس بن الوليد من جيش يزيدَ بنِ المهلب، خطب يزيدُ بن المهلَّب الناس وحرَّضهم على القتال - يعني قتالَ أهلِ الشام - وكان مع يزيد نحوٌ من مئة ألف، وعشرين ألفًا، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتابِ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تُعاد عليهم سيرة الفاسق الحجَّاج، ومنْ بايعَنا على ذلك قبلنا منه، ومن خالفَنا قاتلْناه.

وكان الحسن البصريّ في هذه الأيام يحرِّضُ الناس على الكفّ وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشدَّ النهي، وذلك لما وقع من الشرِّ الطويل العريض في أيام ابنِ الأشعث، وما قُتل بسببها من النفوس العديدة، وجعل الحسن يخطبُ الناسَ ويعظهم في ذلك، ويأمرُهم بالكفّ، فبلغ ذلك نائبَ البصرة عبدَ الملك بن المهلَّب

(3)

، فقام في الناس خطيبًا، فأمرهم بالجدِّ والجِهاد، والنفير إلى القتال، ثم قال: ولقد بلَغني أنَّ هذا الشيخ الضالَّ المُرائي - ولم يسمِّه - يثبِّطُ الناس، أما والله ليكفَّنَّ عن ذلك أو لأفعلنَّ ولأفعلنّ، وتوعَّد الحسن، فلما بلغ الحسنَ قولُه قال: أما والله ما أكره أنْ يكرمني الله بهوانه، فسلَّمه الله منه، حتى زالتْ دولتهم، وذلك أنَّ الجيوش لما تواجهتْ تبارزَ الناسُ قليلًا، ولم تنشَب الحَرْبُ شديدًا، فلم يثبُتْ أهلُ العراق حتى فرُّوا سريعًا، وبلغهم أنَّ الجسر الذي جاؤوا عليه قد خرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: ما بال الناس؟ ولم يكن من الأمر ما يضر من مثله، فقيل له: إنه بلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه قد خرق. فقال: قبَّحهم الله. ثم رامَ أنْ يردَّ المنهزمين فلم يمكنه ذلك، فثبَتَ في عصابةٍ من أصحابه وجعل بعضُهم يتسلَّلون منه حتى بقي في شِرْذمة منهم، وهو مع ذلك يسيرُ قُدمًا لا يمرُّ بخيل إلا هزمهم، وأهلُ الشام يَنْحازون عنه يمينًا وشمالًا، وقد قُتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد حَنَقًا وغيظًا، وهو على فرس له أشْهب، ثم قصد نحو مَسْلمة بن عبد الملك لا يُريدُ غيره، فلما واجهه حملتْ عليه خيولُ الشام فقتلوه، وقتلوا معه أخاه محمد بن المهلَّب، وقتلوا

(1)

في (ق): "وليتنا نبكي الشائدين أباهما"، وفي تاريخ الطبري " ولسنا

"، والمثبت من (ب، ح)، والأبيات في تاريخ الطبري (6/ 561)؛ وفي الشطر الثاني من البيت الأول زحاف إلا إذا فك إدغام الباء تصبح "السابين".

(2)

في (ب): "إلى العين نبكي .. "، وفي (ح):"إن العين تبكي .. "، وفي (ب، ح):" وفي لقيا بالعيش فينا رداهما"، والمثبت من (ق) والطبري (6/ 561).

(3)

في (م) مروان بن المهلّب.

ص: 42

السمَيْذَع، وكان من الشجعان، وكان الذي قتَلَ يزيدَ بن المهلب رجل يقال له القَحْل بن عياش، فقُتل إلى جانب يزيد بن المهلَّب، وجاؤوا برأس يزيدَ إلى مسلمة بن عبد الملك، فأرسله مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط إلى أخيه أمير المؤمنين يزيدَ بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما كان في معسكر يزيدَ بنِ المهلَّب، وأسر منهم نحوًا من ثلاث مئة، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة.

ولما انتهَتْ هزيمةُ يزيد بن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمَدَ إلى نحوٍ من ثلاثين أسيرًا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عديُّ بن أرطاة رحمه الله وابنه، ومالك وعبدُ الملك ابنا مسمع، وجماعةٌ من الأشراف، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه الخزائنُ من الأموال، وجاء معه عمُّه المفضَّل بن المهلَّب إليه، فاجتمع آلُ المهلَّب بالبصرة فأعدُّوا السُّفن وتجهَّزوا أتمَّ الجهاز، واستعدُّوا للهرَب، فساروا بعِيالهم وأثقالهم فلم يزالوا سائرين حتى أتَوْا جبال كَرْمان فنزلوها، واجتمع عليهم جماعةٌ ممن فلَّ من الجيش الذي كان مع يزيدَ بنِ المهلب، وقد أمَّروا عليهم المفضَّل بن المهلَّب، فأرسل مَسْلمةُ جيشًا عليهم هلال بن أحوز

(1)

المازني في طلب آل المهلب، ويقال إنهم أمَّرُوا عليهم رجلًا يقال له مُدْرك بن ضَبّ الكلبي، فلحقهم بجبال كَرْمان فاقتتلوا هنالك قتالًا شديدًا، فقتل جماعة من أصحابِ المفضَّل، وأسر جماعةً من أشرافهم وانهزم بقيَّتُهم، ثم لحقوا المفضَّل فقتلوه، وحمل رأسه إلى مسلمةَ بنِ عبد الملك، وأقبل جماعةٌ من أصحاب يزيد بنِ المهلَّب فأخذوا لهم أمانًا من أميرِ أهلِ الشام، منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر النَّخَعي، ثم أرسلوا بالأثقال والأموال والنساء والذرية فوردَتْ على مسلمةَ بنِ عبد الملك ومعهم رأسُ المفضَّل ورأس عبدِ الملك ابني المهلَّب، فبعث مسلمةُ بالرؤوس وتسعةٍ من الصبيان الأحداث إلى أخيه يزيد، فأمر بضربِ أعناق أولئك، ونُصبت رؤوسهم بدمشق ثم أرسلها إلى حلب فنُصبت بها، وحلف مَسْلَمة بن عبد الملك ليبيعنَّ ذَرَاريَّ آلِ المهلب، فاشتراهم بعضُ الأمراء إبرارًا لقسمه بمئة ألف، فأعتقهم وخلَّى سبيلَهم، ولم يأخذ مسلمة من ذلك الأمير شيئًا، وقد رثا الشعراء يزيدَ بن المهلَّب بقصائد ذكرها ابنُ جرير

(2)

.

‌ولاية مسلمة على بلاد العراق وخُراسان

وذلك أنه لما فرغ من حرب آلِ المهلَّب كتب إليه أخوه يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين بولايةِ الكوفة

(1)

في (ق): مأجور. وفي (ح): الماحوز. وكله تحريف صوابه ما أثبتناه، فقد قيده العلامة ابن ناصر الدِّين في توضيح المشتبه 1/ 163. وجاء على الصواب في المطبوع من تاريخ الطبري 6/ 602، ومعجم ما استعجم للبكري 3/ 1097، ومختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور 25/ 194 في ترجمة مفضل بن المهلب (بشار).

(2)

انظر تاريخ الطبري (6/ 603، 604).

ص: 43

والبصرة وخراسان في هذه السنة، فاستناب على الكوفة وعلى البصرة، وبعث إلى خراسان خَتَنهُ - زوج ابنته - سعيدَ بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، الملقَّب بخُذينة

(1)

، فسار إليها فحرض أهلَها على الصبر والشجاعة، وعافب عمالًا ممن كان ينوبُ ليزيد بن المهلب، وأخذ منهم أموالًا جزيلة، ومات بعضُهم تحت العقوبة.

‌ذكر وقعة جرَتْ بين التُّرك والمسلمين

وذلك أنَّ خاقانَ الملك الأعظم ملك الترك، بعث جيشًا إلى الصُّغْد لقتال المسلمين، عليهم رجلٌ منهم يقال له كورصول

(2)

، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي، فحصرَهُ وفيه خَلْقٌ من المسلمين، فصالحهم نائبُ سَمرْقَنْد - وهو عثمان بن عبد الله بن مطرِّف - على أربعين ألفًا، ودفع إليهم سبعة عشر دهقانًا رهائنَ عندهم، ثم ندب عثمانُ الناسَ فانتدب له رجلٌ يقال له المسيّب بن بشر الرِّياحي في أربعةِ آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق خطبَ الناسَ فحثَّهم على القتال وأخبرهم أنه ذاهبٌ إلى الأعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف، ثم لم يزلْ في كلِّ منزل يخطبُهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبع مئة مقاتل، فسار بهم حتى غالقَ جيش الأتراك، وهم محاصرو ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم فيه على قتل نسائهم وذبحِ أولادِهم أمامَهم، ثم ينزلون فيقاتلون حتى يُقتلوا عن آخرهم، فبعث إليهم المسيب يثبِّتهم يومَهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب حتى إذا كان وقت السَّحَر كبَّرَ وكبَّر أصحابه، وقد جعلوا شعارَهم يا محمد، ثم حملوا على الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وعقروا دوابَّ كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالًا شديدًا، حتى فرَّ أكثر المسلمين، وضُربت دابَّةُ المسيّب في عجُزها، فترجَّل وترجَّل معه الشجعان، فقاتلوا وهم كذلك قتالًا عظيمًا، والتفَّ الجماعةُ بالمسيّب، وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفرَّ المشركون بين أيديهم هاربين لا يَلْوون على شيء، وقد كان الأتراك في غاية الكثرة، فنادَى منادي المسيّب: أن لا تتبعوا أحدًا، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم وحازوا ما في معسكر أولئك الأتراك من الأموال والأشياء النفيسة، وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءتِ الترك من الغد إلى القصر، فلم يجدوا به داعيًا ولا مجيبًا، فقالوا فيما بينهم: هؤلاء الذين لَقُونا بالأمس لم يكونوا إنسًا، إنما كانوا جِئًا. ثم غزا

(1)

وقع في بعض المصادر "خدينة" بخاء معجمة ودال مهملة، ولقب بذلك - فيما ذكر - أنه كان رجلًا لينًا سهلًا متنعمًا، قدم خراسان على بختية معلقًا سكينًا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغَر وسعيد متفضّل في ثياب مصبّغة، حوله مرافق مصبّغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خُذينيّةٌ لمّته سُكينيّة. فلُقّب خذينة. قاله ابن جرير الطبري في تاريخه (6/ 605).

(2)

في (ب): "لورضول"، ولم أقف على ضبطه.

ص: 44

سعيد الملقب خُذينة أمير خراسان بلادَ الصُّغْد، وذلك لأنهم أعانوا الترك

(1)

على المسلمين في هذه الغزوة التي ذكرناها، فسار إليهم فقاتلهم قتالًا شديدًا حتى نصره الله عليهم، وولَّوْا مدبرين، واحتاز منهم أموالًا جزيلة، وقبض ما وجد لهم من الأموال والحواصل.

وفيها عزل أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك عن إمرة العراق وخراسان، وذلك لأنه كان يصرف أموال الغنيمة فيما يريد، ولم يصرف إلى أخيه شيئًا في هذه المدة، فطمع في أخيه فعزله عنها وولَّى بدله عليها عمر بن هُبيرة على العراق وخراسان.

وحجَّ بالناس في هذه السنة أمير المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس.

‌وممن توفي فيها من الأعيان والسادة:

الضحَّاك بن مُزاحم الهلالي

(2)

أبو القاسم، ويقال أبو محمد، الخُراساني، كان يكون ببَلْخ وسمَرْقَنْد ونَيْسابور، وهو تابعيُّ جليل روى عن أنس وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة، وجماعةٍ من التابعين؛ وقيل: إنه لم يصحَّ له سماعٌ من الصحابة حتى ولا من ابنِ عباس

(3)

، وإنْ كان قد رُوي عنه أنه جاوز سبعَ سنين.

وكان الضحَّاك إمامًا في التفسير، قال الثوري: خذوا التفسيرَ عن أربعة، مجاهد وعِكْرمة وسعيدِ بن جُبير والضحَّاك.

وقال الإمام أحمد: هو ثقة مأمون. وقال ابن معين وأبو زرعة: هو ثقة، وأنكر شعبة سماعَهُ من ابن عباس، وقال: إنما أخذ عن سعيدٍ عنه. وقال يحيى بن سعيد القطَّان: كان ضعيفًا. وذكره ابنُ حِبَّان في الثقات، وقال: لم يشافِهْ أحدًا من الصحابة، ومنْ قال: إنه لقي ابنَ عباس فقد وهم.

وحملَتْ به أمُّه سنتَيْن، ووضعَتْه وله أسنان، وكان يعلِّم الصبيان حِسْبةً؛ قيل: إنه كان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حمارًا ويدور من العَلْياء

(4)

عليهم. وقيل: انه مات سنةَ خمس، وقيل سنةَ ستٍّ ومئة، وقد بلغ الثمانين، والله أعلم.

(1)

في (م) الكفار.

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 300 و 7/ 369)، طبقات خليفة ت (2950)، التاريخ الكبير للبخاري (4/ 332)، الجرح والتعديل (4/ 458)، تهذيب الكمال (13/ 291) تاريخ الإسلام (4/ 125)، العبر (1/ 124)، ميزان الاعتدال (2/ 325)، المغني في الضعفاء (1/ 312)، مرآة الجنان (1/ 213)، غاية النهاية ت (1467)، تهذيب التهذيب (4/ 453)، النجوم الزاهرة (1/ 248)، طبقات المفسرين (1/ 216)، شذرات الذهب (1/ 124).

(3)

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 599): وبعضهم يقول: لم يلق ابن عباس فالله أعلم.

(4)

العلياء هنا: المكان العالي، وكل ما علا من شيء، وليست اسم مكان معلوم، إذ جاء في تهذيب الكمال (13/ 295)، كان يعلم الصبيان ببلخ بقرية يقال لها بروقان، وسقطت العبارة من (ق).

ص: 45

وأبو المتوكِّل النَّاجِيّ

(1)

اسمه علي بن داود الناجي البصري، تابعيٌّ جليل، ثقة، رفيعُ القدر

(2)

.

‌ثم دخلت سنة ثلاث ومئة

فيها عَزل أمير العراق وهو عمر بن هُبيرة سعيدًا - الملقب خُذينة - عن نيابةِ خُراسان، وولَّى عليها سعيدَ بن عمرو الحَرَشي

(3)

، بإذن أمير المؤمنين، وكان سعيدٌ هذا من الأبطال المشهورين، انزعج منه الترك وخافوه خوفًا شديدًا، وتقهقروا من بلاد الصُّغد إلى ما وراء ذلك، من بلاد الصين وغيرها. وفيها جمعَ يزيدُ بن عبد الملك لعبد الرحمن بن الضحَّاك بن قيس بين إمْرة المدينة وإمرةِ مكة، وولَّى عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري

(4)

نيابة الطائف. وحجَّ بالناس فيها أميرُ الحرمَيْن عبدُ الرحمن بن الضحاك بن قيس. والله سبحانه وتعالى أعلم.

‌وممن توفي فيها من الأعيان:

يزيد بن أبي مسلم

(5)

، أبو العلاء المدني.

عطاء بن يَسار الهلالي

(6)

: أبو محمد القاصُّ المدني، مولى ميمونة، وهو أخو سليمان،

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 225)، طبقات خليفة ص (206) التاريخ الكبير (6/ 273)، الجرح والتعديل (6/ 184)، تهذيب الكمال (20/ 424 و 34/ 250) تاريخ الإسلام (4/ 223)، تهذيب التهذيب (12/ 99)، خلاصة تذهيب الكمال (450).

(2)

أقحمت طبعة (ق) هنا عبارة نصُّها: "مات وقد بلغ الثمانين رحمه الله تعالى"، وليست العبارة موجودة في (ب، ح)، وقد لوحظت عبارة "وقد بلغ الثمانين" في ترجمة الضحاك بن مزاحم السابقة قد سقطت من طبعة (ق) التي أثبتُّها فبها كما يُرى، فلعل تغيير موضعها سهو من الناسخ. يؤيد ذلك ما جاء في تهذيب الكمال (13/ 297)، عن الضحاك قوله:" كنتُ ابن ثمانين جَلْدًا غزَّاءً".

(3)

في (ق):" الجريشي" تصحيف، والمثبت من (ح، ب).

(4)

في (ق): "عبد الرحمن الواحد بن عبد الله النضري"، وفي (ح):"عبد الواحد بن عبد الله البصري"، وفي (ب):"عبد الرحمن بن عبد الله النضري" وكله تصحيف وما أثبته من ترجمته في تاريخ ابن عساكر (44/ 8) والأنساب للسمعاني (5/ 495)(ط دار الجنان بيروت).

(5)

هذه الترجمة ليست في (ب، ح). ويزيد بن أبي عسلم ترجمته في تاريخ الطبري (6/ 617)، الكامل لابن الأثير (5/ 101) تاريخ ابن عساكر (المختصر 28/ 15)، وفيات الأعيان (6/ 309)، سير أعلام النبلاء (4/ 593)، تاريخ الإسلام (4/ 215)، مرآة الجنان (1/ 212)، النجوم الزاهرة (1/ 245)، شذرات الذهب (1/ 124)، الاستقصاء (1/ 46)، رغبة الآمل (5/ 167، 169).

(6)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 173)، طبقات خليفة ت (2132)، التاريخ الكبير (6/ 461)، المعارف ص (459)، المعرفة والتاريخ (1/ 564)، الجرح والتعديل (5/ 335)، مختصر تاريخ ابن عساكر (17/ 80)، تهذيب الكمال (20/ 125)، سير أعلام النبلاء (4/ 448)، غاية النهاية ت (2122)، تهذيب=

ص: 46

وعبد الله، وعبد الملك، وكلهم تابعي. وروى هذا عن جماعةٍ من الصحابة، ووثقه غير واحدٍ من الأئمة، وقيل إنه توفي سنة ثلاثٍ أو أربع ومئة، وقيل: توفي قبل المئة بالإسكندرية، وقد جاوز الثمانين والله سبحانه أعلم.

مجاهد بن جَبْر المكِّيّ

(1)

أبو الحجَّاج القُرشي المَخْزومي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، أحدُ أئمةِ التابعين والمفسِّرين، كان من أخصَّاء أصحاب حَبْر هذه الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وكان أعلمَ أهلِ زمانه بالتفسير، حتى قيل إنه لم يكنْ أحدٌ يُريد بالعلم وَجْهَ الله إلا مجاهد وعطاء وطاوس؛ وقال مجاهد: أخذَ ابنُ عمر بركابي وقال: ودِدْتُ أنَّ ابني سالمًا وغلامي نافعًا يحفظانِ حفظك.

وقيل: إنه عرَضَ القرآن على ابنِ عباس ثلاثين مرَّة.

قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس مرتَيْن، أقفُهُ عند كلِّ آيةٍ وأسأله عنها

(2)

.

مات مجاهد وهو ساجد سنة مئة، وقيل: إحدى، وقيل: ثنتَيْن، وقيل: ثلاث ومئة، وقيل أربع ومئة، وقد جاوز الثمانين والله أعلم.

‌فصل

(3)

[أسند مجاهدٌ عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابنِ عمرو وأبي سعيد ورافع بن خَديج. وعنه خلق من التابعين.

قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدّثنا عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش قال: أخبرني أبو يحيى أنه سمع مجاهدًا يقول: قال لي ابن عباس: لا تنامَنَّ إلا على وضوء، فإنَّ الأرواحَ تُبعث على ما قُبضت عليه.

= التهذيب (7/ 217)، طبقات الحفاظ للسيوطي ص (34).

(1)

ويقال مجاهد بن جُبير، ترجمته في: طبقات ابن سعد (5/ 466)، طبقات خليفة ت (2535)، التاريخ الكبير (7/ 411)، المعارف ص (444)، المعرفة والتاريخ (1/ 711)، الجرح والتعديل (7/ 319)، الحلية (3/ 279)، طبقات الفقهاء للشيرازي ص (69)، تاريخ ابن عساكر (16/ 125) ب (المختصر 24/ 87)، تهذيب الأسماء واللغات (3/ 83)، تهذيب الكمال (27/ 228)، سير أعلام النبلاء (4/ 449)، تاريخ الإسلام (4/ 190)، العقد الثمين (7/ 132)، غاية النهاية ت (2659)، الإصابة ت (8363)، تهذيب التهذيب (10/ 42)، طبقات الحفاظ للسيوطي ص (35).

(2)

الخبر في سير أعلام النبلاء (4/ 450، و 456، 457)، وفيه:"ثلاث عرضات".

(3)

هذا الفصل إلى ترجمة مصعب بن سعد ليس في (ح، ب).

ص: 47

وروى الطبراني عنه أنه قال في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] قال: يسلِّم عليه إذا لقيه، وقيل هي المصافحة.

وروى عَمرو بن مرَّةَ عنه أنه قال: أوْحى الله عز وجل إلى داودَ عليه السلام: اتقِ لا يأخْذك الله على ذَنْبٍ لا ينظرُ فيه إليك، فتلقاه حين تلقاه وليستْ لك حاجة.

وروى ابنُ أبي شيبة عن أبي أمامة عن الأعمش عن مجاهد، قال: كان بالمدينة أهلُ بيتٍ ذوي حاجة، عندهم رأسُ شاة، فأصابوا شيئًا، فقالوا: لو بعثنا بهذا الرأس إلى منْ هو أحوجُ إليه منَّا؛ فبعثوا به، فلم يزلْ يدورُ بالمدينة حتى رجَعَ إلى أصحابه الذين خرجَ من عندِهم أولًا.

وروى ابنُ أبي شيبة عن أبي الأحوص عن منصور عن مجاهد قال: ما من مؤمن يموتُ إلا بكى عليه السماءُ والأرضُ أربعينَ صباحًا. وقال: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]، قال: في القبر.

وروى الأوزاعي، عن عَبْدةَ بنِ أبي لُبابة، عن مجاهد، قال: كان يحجُّ من بني إسرائيل مئة ألف، فإذا بلغوا أرصاف الحرم خلعوا نِعالهم ثم دخلوا الحرَم حُفاة.

وقال يحيى بن سعيد القطان قال مجاهد في قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43] قال: اطلبي الركود.

وفي قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] قال: المزامير.

وقال في قوله تعالى: {أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] قال: قيود.

وقال في قوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] قال: لا خصومة.

وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال: عن كلِّ لذةٍ في الدنيا.

وروى ابن الدَّيبع، عن جرير بن عبد الحميد

(1)

، عن منصور، عن مجاهد، قال: رنَّ إبليس أربعَ رنَّات: حين لُعن، وحين أُهبط، وحين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وحين أُنزلت الحمد لله ربّ العالمين وأُنزلت بالمدينة. وكان يقال: الرنَّة والنَّخْرة من الشيطان، فلُعن من رنَّ أو نَخَر.

وروى ابنُ نُجيح عنه في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] قال: بروج الحمام.

وقال في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] قال: التجارة.

(1)

في (ق): "جرير بن عبد الحسيب" تصحيف، والمثبت من ترجمته في تهذيب الكمال (4/ 540)، وترجمة منصور بن المعتمر في تهذيب الكمال أيضًا (28/ 548) ومصادر ترجمتهما فيه.

ص: 48

وروى لَيْثٌ عن مجاهد قال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: استقاموا فلم يشركوا حتى ماتوا.

وروى يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن ابن أبجر، عن طلحة بن مُصَرَّف، عن مجاهد:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] قال: صاحبة.

وقال ليث عن مجاهد قال: النملةُ التي كلَّمتْ سليمان كانت مثل الذئبِ العظيم.

وروى الطبراني عن أبي نَجيح عن مجاهد. قال: كان الغلامُ من قومِ عادٍ لا يحتلمُ حتى يبلغَ مئتي سنة.

وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1] دعا داع.

وفي قوله: {مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16 - 17] حتى يرجعوا إلى علمي فيه.

{لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، قال: لا يحبُّون غيري.

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: 10]، قال هم المراؤون.

وفي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، قال: هم الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم يُنعِم. ثم قرأ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] قال: أيامُه نِعَمُه ونِقمُه.

{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. فرُدُّوه إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دامَ حيًّا، فإذا مات فإلى سُنَّتِه.

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] قال: أما الظاهرة فالإسلام والقرآن والرسول والرّزق؛ وأما الباطنة فما سَتَرَ من العيوب والذنوب.

وروى الحكم عن مجاهد قال: لما قدِمَتْ مكةَ نساءٌ على سليمان عليه السلام رأتْ حطبًا جَزْلًا فقالت لغلام سليمان: هل يعرفُ مولاك كم وَزْنُ دُخان هذا الحطب؟ فقال الغلام: دعي مولاي، أنا أعرفُ كم وزنُ دخانِه، فكيف مولاي؟ قالت: فكم وَزْنُه؟ فقال الغلام: يوزن الحطبُ، ثم يُحرق الحطب، ويوزن رمادُه، فما نقَصَ فهو دُخَانُه.

وقال في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] قال: منْ لم يتُبْ إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين.

وقال: ما من يومٍ ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ثم يُطوى عليه فيُختم إلى يوم القيامة، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يفضُّ خاتمه.

ص: 49

وقال في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال: العلم والفقه؛ وقال: إذا ولي الأمرَ منكم الفقهاء.

وفي قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، قال: البِدَع والشُّبهات.

وقال: أفضل العبادةِ الرأيُ الحسَن - يعني اتباعَ السُّنَّة.

وقال: ما أدري أيُّ النعمتَيْنِ أفضل، أنْ هداني للإسلام، أو عافاني من الأهواء.

وقال في رواية {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، أصحاب محمد، وربما قال: أولو العقل والفضل في دين الله عز وجل.

{بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] قال: السرية.

{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. قال: السُّوس في الثياب.

{وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] قال: الأضْراس.

{حَفِيًّا} [مريم: 47]، قال: رحيمًا.

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدتُ في كتاب محمد بن أبي حاتم بخط يده: حدّثنا بشر بن الحارث حدّثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد، قال: لو أنَّ رجلًا أنفق مثلَ أُحدٍ في طاعة الله عز وجل لم يكن من المسرفين.

وفي قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] قال: العداوة.

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] قال: بينهما حاجزٌ من الله فلا يبغي الحُلو على المالح ولا المالحُ على الحلو.

وقال ابنُ مَنْدَه: ذكره محمد بن حُميد: حدّثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش قال: كان مجاهد لا يسمَعُ بأعجوبةٍ إلا ذهب فنظرَ إليها؛ قال: وذهب إلى حَضْرَمَوْتَ إلى بئرِ بَرَهُوتَ، قال: وذهب إلى بابل، قال: وعليها والٍ صديقٌ لمجاهد: فقال مجاهد: تعرضُ عليَّ هاروتَ وماروتَ، قال: فدعا رجلًا من السحرة فقال: اذهب بهذا فاعرِضْ عليه هاروتَ وماروت. فقال اليهودي: بشَرْط أنْ لا تدعو الله عندَهما. قال مجاهد: فذهب بي إلى قلعة، فقطَعَ منها حجَرًا ثم قال: خذ برجلي، فهَوى بي حتى انتهى إلى حَوْبه

(1)

، فماذا هما معلَّقين منكَّسَيْن كالجبلَيْنِ العظيمَيْن، فلما رأيتُهما قلت:

(1)

الحَوْبَة: وسط الدار. القاموس (حوب).

ص: 50

سبحان الله خالقكما! قال: فاضطربا، فكأنَّ جبالَ الدنيا قد تدكدكتْ، قال: فغُشي عليَّ وعلى اليهوديّ، ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال: قُمْ، كِدْتَ أن تُهلك نفسَك وتهلكَني.

وروى ابن فُضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: يؤتى يوم القيامة بثلاثةِ نفر، بالغَنيّ، والمريض، والعَبْد المملوك. قال: فيقول الله عز وجل للغني: ما شغلَكَ عن عبادتي التي إنما خلقتُك لها؟ فيقول: يا رب أكثرتَ لي من المال فطغَيْت. فيؤتَى بسليمانَ عليه السلام في ملكه فيقول لذا: أنت كنتَ أكثرَ مالًا وأشدَّ شُغلًا أم هذا؟ قال: فيقول: بل هذا يا رب. فيقول الله له: فإنَّ هذا لم يمنعْه ما أوتي من المُلْك والمال والشُّغل عن عبادتي. قال: ويؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي التي خلقتُك لها؟ فيقول: يا رب شغلني عن هذا مرضُ جسَدي. فيؤتى بأيُّوب عليه السلام في ضُرِّهِ وبلائه، فيقول له: أأنت كنتَ أشدَّ ضرًّا ومرَضًا أم هذا؟ فيقول: بل هذا. فيقول: إنَّ هذا لم يَشْغلْهُ ضرُّه ومرَضُه عن عبادتي. ثم يؤتى بالمملوك فيقول الله له: ما منعك من عبادتي التي خلفتُك لها؟ فيقول ربِّ فضَّلتَ عليّ أربابًا فملكوني وشغلوني عن عبادتك. فيؤتى بيوسف عليه السلام في رِقِّه وعبوديته فيقول الله له: أأنتَ كنتَ أشدَّ في رِقِّك وعبوديَّتك أم هذا؟ فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله: فإنَّ هذا لم يشغَلْهُ ما كان فيه من الرِّقِّ عن عبادتي.

وروى حُميد، عن الأعرج، عن مجاهد، قال: كنت أصحبُ ابنَ عمر في السفر، فإذا أردتُ أنْ أركبَ مسَكَ ركابي، فإذا ركبتُ سوَّى عليّ ثيابي؛ فرآني مرَّةً كأني كرهتُ ذلك فيّ، فقال: يا مجاهد، إنك لضيِّق الخُلق.

وفي رواية: صحبتُ ابنَ عمر وأنا أريدُ أنْ أخدُمه، فكان يخدمُني

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد

(2)

: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا الثوري، عن رجل، عن مجاهد، قال: جُعلتِ الأرضُ لملك الموتِ مثل الطَّسْت، يتناولُ منها حيث شاء، وجُعل له أعْوان يتوفَّون الأنفسَ ثم يقبضُها منهم.

وقال: لما هبَطَ آدَمُ إلى الأرض قال له: ابنِ للخرَاب وَلِدْ للفَنَاء

(3)

.

وروى قُتيبة عن جرير، عن منصور، عن مجاهد:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] قال: تلعَنُ

(1)

ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص (341).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 217) في تفسير الآية (61) من سورة الأنعام عن سفيان، وأخرجه أبو نعيم عن أحمد بن حنبل في الحلية (3/ 286).

(3)

أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (87)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 286).

ص: 51

عصاةَ بني آدمَ دوابُّ الأرض وما شاء الله، حتى الحيات والعقارب، يقولون: مُنعنا القَطْرَ بذنوب بني آدم

(1)

.

وقال غيره: تَسَلَّط الحشراتُ على العصاة في قبورهم، لما كان ينالُهم من الشِّدَّة بسبب ذنوبهم؛ فتلك الحشراتُ من العقارب والحيات هي السيئاتُ التي كانوا يعملونها في الدنيا ويستلذُّونها، صارَتْ عذابًا عليهم؛ نسأل الله العافية.

وقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] لكفور.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدّثنا عمر بن سليمان، حدّثني مسلم أبو عبد الله عن ليث عن مجاهد قال: منْ لم يستحي من الحلال خَفَّتْ مؤونَتُه وأرَاح نفسَه.

وقال عمرو بن زروق، حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، أن لن نعاقبَهُ بذنبه

(3)

.

وبهذا الإسناد قال: لم أكنْ أُحسنُ ما الزُّخْرفُ حتى سمعتُها في قراءة عبدِ الله: بيتًا من ذهب

(4)

.

وقالَ قتيبة بن سعيد: حدّثنا خلف بن خليفة عن ليث، عن مجاهد إن الله عز وجل ليُصلحُ بصلاح العبد ولدَه

(5)

.

قال: وبلغني أنَّ عيسى عليه السلام كان يقول: طُوبى للمؤمن! كيف يخلفه الله فيمنْ ترك بخير.

وقال الفُضيل بن عِيَاض عن عُبيد المُكْتِب، عن مجاهد، في قوله تعالى:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] الأوصال التي كانتْ بينهم في الدنيا

(6)

.

وروى سفيان بن عُيينة، عن سفيان الثوري، عن ابنِ أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] قال: الإلُّ الله عز وجل

(7)

.

وقال في قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86] طاعةُ الله عز وجل. وفي قوله تعالى:

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 54 و 55) في تفسير الآية.

(2)

في الورع ص (21): باب ترك الكبر ولزوم العمل؛ وأخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (378) وأبو نعيم في الحلية (3/ 14) عن ليث عن مجاهد.

(3)

أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 78) في تفسير الآية؛ والسيوطي في الدر المنثور.

(4)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 284).

(5)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 274) وفيه زيادة: "وولد ولده".

(6)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 441).

(7)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 285)، وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 339).

ص: 52

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قال: هو الذي يذكر الله عند الهمِّ بالمعاصي.

وقال الفُضيل بن عياض عن منصور، عن مجاهد:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] الخشوع.

وفي قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] قال: القنوت: الركود والخشوع وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله

(1)

.

وكان العلماء إذا قام أحدُهم في الصلاة هابَ الرحمنَ أن يشدَّ بصره، أو يلتفت، أو يقلب الحصا، أو يعبث بشيء، أو يحدِّثَ نفسه بشيء من الدنيا، إلا خاشعًا ما دام في صلاته.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدّثنا أبو مَعْمر

(2)

حدّثنا ابن إدريس، حدّثني عُقبة بن إسحاق - وأثنى عليه خيرًا - حدّثنا ليث عن مجاهد، قال: كنت إذا رأيتُ العرب استَجْفَيْتُها

(3)

[وإنْ فتشتها] وجدتُها من وراءَ دينها؛ فإذا دخلوا في الصلاة فكأنما أجسادٌ ليسَتْ فيها أرواح

(4)

.

وروى الأعمش عنه قال: إنما القلبُ منزلة الكفّ، فإذا أذنب الرجل ذنبًا قُبض هكذا - وضمَّ الخِنْصر حتى ضم أصابعه كلها إصبعًا إصبعًا - قال: ثم يطبع، فكانوا يرَوْنَ ذلك الرَّان: قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

وروى قَبيصةُ عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] قال: الذنوب تُحيط بالقلوب كالحائط المبني على الشيء المحيط، كلما عمل ذنبًا ارتفعتْ، حتى تغشى القلب حتى تكون هكذا - ثم قبض يده - ثم قال: هو الرَّان

(5)

.

وفي قوله: {بِمَا قَدَّمَ وَاخَّرَ} [القيامة: 13] قال: أولُ عمَلِ العبدِ وآخرُه. {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] قال: إذا فرغتَ من أمرِ الدنيا، فقمتَ إلى الصلاة، فاجعلْ رغبتَكَ إليه، ونيَّتَكَ له

(6)

.

وعن منصور عن مجاهد {النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] قال: هي النفسُ التي قد أيقنتْ أنَّ الله رَبُّها، وضربَتْ جأشًا لأمرِه وطاعتِه

(7)

.

(1)

أخرجه محمد بن نصر بن الحجاج المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 188)؛ وأخرجه أيضًا المحاملي في الآمالي ص (446) بنحوه.

(2)

في (ق): "حدثنا أبو عمرو"، والمثبت من الحلية (3/ 282)؛ وهو أبو معمر الهذلي القطيعي إسماعيل بن إبراهيم، محدث بغداد، ترجمته في تذكرة الحفاظ (2/ 271).

(3)

في (ق): "استخفيتها"، وهو تصحيف، والمثبت من الحلية.

(4)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 282) وما مرَّ بين معقوفين منه.

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 283).

(6)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 283).

(7)

أورده ابن منظور في لسان العرب (6/ 269)(جأش)، وقد صُحف في (ط) إلى:"وضربت حاشا". وزاد =

ص: 53

وروى عبدُ الله بن المبارك عن ليث، عن مجاهد: قال: ما منْ ميتٍ يموت إلَّا عُرضَ عليه أهلُ مجلسِه، إنْ كان من أهل الذِّكْر فمن أهل الذِّكْر، وإنْ كان من أهلِ اللَّهْو فمن أهل اللهو

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مجاهد، قال: قال إبليس: إنْ يُعجزني ابنُ آدم فلن يعجزني من ثلاثِ خِصال: أخْذُ مالٍ بغيرِ حقِّه، [ومنعه عن حقِّه]

(2)

، و [إضاعة] إنفاقه في غيرِ حقِّه.

وقال أحمد: حدّثنا ابن نمير قال قال الأعمش: كنتُ إذا رأيتُ مجاهدًا ظننتُ أنه خربندج

(3)

، قد ضلَّ حمارُهُ فهو مهتمَّ

(4)

.

وعن ليث، عن مجاهد، قال: منْ أكرم نفسه وأعزَّها أذلَّ دينه، ومنْ أذلَّ نفسه أعز دينه

(5)

.

وقال شعبة عن الحكم، عن مجاهد، قال: قال لي [ابن عمر]: يا أبا الغازي، كم لبثَ نوحٌ في الأرض؟ قال: قلتُ ألف سنةٍ إلَّا خمسين عامًا. قال: فإنَّ الناس لم يزدادوا في أعمارهم وأجسادهم وأخلاقهم إلا نقصًا

(6)

.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة

(7)

عن ابن عُلَيَّة، عن ليث، عن مجاهد قال: ذهبتِ العلماء، فما بقي إلا المتعلَّمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم.

وروى ابنُ أبي شيبة أيضًا عن ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لو لم يصب المسلم من أخيه إلا أن حياءً منه يمنَعُه من المعاصي، لكان في ذلك خير.

وقال: الفقيه منْ يخافُ الله وإنْ قلَّ علْمُه؛ والجاهلُ منْ عصى الله وإن كَثُرَ علمُه. وقال: إنَّ العبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوبِ المؤمنين إليه.

= في آخره: قال الأزهري: معناه؛ قرَّتْ يقينًا واطمأنت كما يضرب البعير بصدره الأرض إذا برك وسكن.

(1)

أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (329)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 283).

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 284)، وما بين معقوفين منه.

(3)

في (ق): "حر مندح"، والمثبت من مصادر التخريج، والخربندج: كلمة فارسية أصلها "خَرْبَنْدَه"، وهو صاحب الحمار.

(4)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 466)، وابن حبان في الثقات (5/ 419)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 92)، وسير أعلام النبلاء (4/ 452)، وميزان الاعتدال (6/ 25).

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 279)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 208).

(6)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 280)، وما بين معقوفين منه، وبنحوه أخرجه في الحلية أيضًا (1/ 311)، وابن الجعد في مسنده (1/ 55). ولفظهم جميعًا "وأحلامهم" بدل "وأخلاقهم".

(7)

في المصنف (7/ 214)(35448). وأخرجه بنحوه ابن المبارك في الزهد ص (59)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 269).

ص: 54

وقال في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِر} [المدثر: 4]، قال: عملَكَ فأصْلِحْ

(1)

.

{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، قال: ليس من عرض الدنيا.

{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، قال: هم الذين يجيئون بالقرآن قد اتبعوه وعملوا بما فيه.

وقال: يقول القرآن للعبد إني معك ما اتبعتني، فإذا لم تعمل بي اتبعتك.

{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] قال: خُذْ من دنياك لآخرتك؛ وذلك أن تعمل فيها بطاعة الله عز وجل

(2)

.

وقال داود بن المحَبَّر عن عبَّاد بن كثير عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه مجاهد بن جَبْر

(3)

، قال: قلت لابن عمر: أيُّ حجَّاج بيتِ الله أفضلُ وأعظم أجرًا؟ قال: من جمَعَ ثلاثَ خصال، نيَّةً صادقة، وعقلًا وافرًا، ونفقة من حلال. فذكرتُ ذلك لابن عباس فقال: صدق. فقلت: إذا صدقتْ نيتُه وكانتْ نفقته من حلال، فماذا يضرُّه قلَّةُ عقله؟ فقال: يا أبا حجَّاج، سألتني عما سألتُ عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فقال:"والذي نفسي بيده، ما أطاع العبدُ الله بشيءٍ أفضلَ من حُسن العقل، ولا يقبلُ الله صومَ عبدٍ ولا صلاته، ولا شيئًا مما يكونُ من عمله من أنواع الخير إنْ لم يعمل بعَقْل؛ ولو أنَّ جاهلًا فاق المجتهدين في العبادة، كان ما يفسد أكثر مما يصلح"

(4)

.

قلت: ذِكْر العقلِ في هذا الحديث، ورفعُهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المنكرات والموضوعات، والثلاثُ الخصال موقوفةٌ على ابن عمر، من قوله من جمع ثلاث خصال، إلى قوله: قال ابن عباس: صدق؛ والباقي لا يصحُّ رفعُه ولا وَقْفُه؛ وداود بن المُحبَّر كنيته أبو سليمان، قال الحاكم: حدث ببغداد عن جماعةٍ من الثقات بأحاديثَ موضوعة، حدث بها عنه الحارث بن أبي أسامة، وله كتاب "العقل"، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب موضوعٌ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذِكْرُ العقلِ مرفوعًا في هذه الرواية لعله من جملتها، والله أعلم. وقد كذَّبه أحمد بن حنبل]

(5)

.

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 146) في تفسير الآية، وابن كثير أيضًا.

(2)

أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (377)؛ وأبو نعيم في الحلية (3/ 281).

(3)

في (ق): "جبير" تصحيف.

(4)

أخرجه الحارث في مسنده (2/ 209)؛ وأبو نعيم في الحلية (3/ 303، 304) وقال: هذا حديث غريب من حديث مجاهد، لم نكتبه إلا من حديث عباد عن عبد الوهاب. وانظر تعليق المؤلف عليه.

(5)

من ص (47) إلى هنا ليس في (ح، ب). انظر الحاشية (3) ثمة.

ص: 55

مصعب بن سعد بن أبي وقَّاص

(1)

: تابعي، ثقة، جَلِيل، كبير القَدْر.

موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي

(2)

، كان يلقَّبُ بالمَهْديِّ لصلاحه؛ كان تابعيًّا جليلَ القدرِ من ساداتِ المسلمين رحمه الله

(3)

.

‌ثم دخلت سنة أربع ومئة

فيها قاتل سعيدُ بن عمرو الحَرَشي نائبُ خراسان أهلَ الصُّغْد، وحاصر أهل خُجَنْدَة

(4)

، وقتل خلقًا كثيرًا، وأخذ أموالًا جَزيلة، وأسر رقيقًا كثيرًا جدًّا، وكتب بذلك إلى يزيدَ بنِ عبد الملك، أمير المؤمنين؛ فوجَدَ عليه أميرُ العراق عمر بن هُبيرة إذْ لم يكتب إليه؛ فكتب هو إلى أمير المؤمنين لأنه هو الذي ولَّاه. وفي ربيع الأول منها عزل يزيدُ بن عبد الملك أمير المؤمنين عن إمرةِ الحرمين عبدَ الرحمن بنَ الضحَّاك بن قيس؛ وكان سببه أنه خطب فاطمةَ بنتَ الحسين فامتنعتْ من قَبول ذلك، فألحَّ عليها وتوعَّدها، فأرسلتْ إلى يزيد بن عبد الملك تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري

(5)

نائب الطائف، فولَّاه المدينة، وأنْ يضربَ عبدَ الرحمن بن الضحاك حتى يسمعَ صوتَهُ أميرُ المؤمنين وهو متكئٌ على فراشه بدمشق، وأنْ يأخذَ منه أربعين ألفَ دينار، فلمَّا بلغ ذلك عبدَ الرحمن ركب إلى دمشق واستجار بمسلمةَ بن عبدِ الملك؛ فدخل على أخيه فقال: إنَّ لي إليك حاجة. فقال: كلُّ حاجة تقولها فهي لك إلا أنْ تكونَ ابنَ الضحَّاك، فقال: هو والله حاجتي. فقال: والله لا أقبله

(6)

، ولا أعفو عنه.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 169)، التاريخ الكبير للبخاري (7/ 350)، الكنى والأسماء لمسلم ص (349)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 280)، الثقات لابن حبان (5/ 411)، مشاهير علماء الأمصار ص (68)، رجال صحيح البخاري لأبي نصر الكلاباذي (2/ 732)، رجال مسلم لأحمد بن منجويه (2/ 257)، التعديل والتجريح لأبي وليد الباجي (2/ 795)، تهذيب الكمال (28/ 24)، الكاشف للذهبي (2/ 267)، تحفة التحصيل لأحمد بن عبد الرحيم ص (305)، تهذيب التهذيب (10/ 145)، تقريب التهذيب ص (533).

(2)

في (ق): "التميمي" تصحيف، والمثبت من (ح، ب) ومصادر ترجمته.

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 161)، طبقات خليفة ص (154)، التاريخ الكبير (8/ 286)، الجرح والتعديل (8/ 147)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 304)، مشاهير علماء الأمصار ص (75)، الثقات لابن حبان (5/ 401)، التعديل والتجريح (2/ 706)، تهذيب الكمال (29/ 82)، الكاشف (2/ 305)، تهذيب التهذيب (10/ 312)، تقريب التهذيب ص (551).

(4)

خُجندة: بلدة مشهورة بما وراء النهر على شاطئ سيحون بينها وبين سمرقند عشرة أيام مشرقًا وهي مدينة نزهة. معجم البلدان (2/ 347).

(5)

في (ح): "البصري"، وفي (ب، ق): "النضري"، وهو تصحيف، والمثبت من مصادر ترجمته.

(6)

في (ق): "لأقبلها"، وفي (ح):"لا أقتله"، والمثبت من (ب).

ص: 56

فردَّه إلى المدينة فتسلَّمه عبدُ الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبَّة صوف، يسألُ الناسَ بالمدينة؛ وكان قد باشر نيابةَ المدينة ثلاثَ سنين وأشهرًا؛ وكان الزهريُّ قد أشارَ عليه برأي سديد، وهو أن يسألَ العلماء إذا أشكلَ عليه أمر، فلم يقبلْ، ولم يفعلْ، فأبغضهُ الناس، وذمَّهُ الشعراء، ثم كان هذا آخر أمره.

وفيها عزَلَ عمرُ بن هُبيرة عن إمرة خراسان سعيدَ بن عمرٍو الحَرشي؛ وذلك أنه كان يستخفُّ بأمرِ عمرَ بنِ هُبيرة؛ فلما عزله أحضرهُ بين يديه وعاقبه وأخذَ منه أموالًا كثيرة، وأمر بقتْله، ثم عفا عنه، وولَّى على خُراسان مسلمَ بن سعيد بن أسلم بن زُرعة الكلابي، فسار إليها فاستخلص أموالًا كانتْ منكسرة في أيام سعيد بن عمرو الحَرَشي.

وفيها غزا الجرَّاحُ بن عبد الله الحَكمي نائبُ أرمينيةَ وأذْربيجان، أرضَ الترك، ففتح بَلَنْجر، وهزم الترك وغرَّقهم وذَرَاريَّهُمْ في الماء، وسَبَى منهم خلقًا كثيرًا، وافتتح عامة الحصون التي تلي بَلَنْجَر

(1)

، وأجلى عامة أهلها، [والتقى هو والخاقان الملك، فجرَتْ بينهم وقعةٌ هائلة، آل الأمرُ فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، قُتل فيها خلقٌ كثير لا يُحصَوْن]

(2)

.

وحجَّ بالناس في هذه السنة عبدُ الواحد بن عبد الله النَّصْري

(3)

أميرُ الحرمين والطائف، وعلى نيابةِ العراق وخراسان عمر بنُ هبيرة، ونائبه على خراسان مسلم بن سعيد يومئذ.

وفي هذه السنة ولد السفاح وهو أبو العباس عبدُ الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقَّب بالسفَّاح، أول خلفاء بني العباس، وقد بايَعَ أباه في الباطن جماعةٌ من أهل العراق.

‌وفيها توفي من الأعيان:

خالد بن مَعْدان الكَلاعي

(4)

: [له رواياتٌ عن جماعة من الصحابة، وكان تابعيًّا جليلًا، وكان من

(1)

بَلَنْجر: مدينة ببلاد الخزر، خلف باب الأبواب. معجم البلدان (1/ 489).

(2)

ليس ما بين القوسين في (ب، ح)، وهو في (ق).

(3)

في (ب، ق): "النضري"، وفي (ح):"البصري"، والمثبت مما سيأتي في المتن ص (64). ح (5) ومصادر ترجمته، انظر الصفحة السابقة ح (5).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 455)، طبقات خليفة ص (310)، التاريخ الكبير (3/ 176)، المعارف ص (625)، المعرفة والتاريخ (2/ 332)، الثقات لابن حبان (4/ 196)، ذيل المذيل ص (632). الجرح والتعديل (3/ 351)، الحلية (5/ 210) المختار في مناقب الأخبار (2/ 251)، صفة الصفوة (4/ 215)، مختصر تاريخ ابن عساكر (7/ 394)، تهذيب الكمال (8/ 167)، طبقات علماء الحديث (1/ 163)(ت 82)، سير أعلام النبلاء (4/ 536)، تاريخ الإسلام (4/ 109)، الوافي (13/ 263)، تهذيب التهذيب (3/ 118)، النجوم الزاهرة (1/ 252)، طبقات الحفاظ ص (36)، شذرات الذهب (1/ 126).

ص: 57

العلماء وأئمة الدِّين المعدودين المشهورين، وكان يسبِّحُ كلَّ يوم أربعين ألف تسبيحة وهو صائم، وكان إمامَ أهلِ حمص، وكان يُصلِّي التراويح في شهر رمضان، فكان يقرأُ فيها في كلِّ ليلة ثلثَ القرآن، وروى الجُوزَجاني عنه أنه قال: من اجترأ على الملاوم في مُراد الحق، قلب الله تلك المحامد عليه ذَمًّا.

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه قال: ما من عبد إلَّا وله أربعةُ أعين. عينانِ في وجههِ يُبصر بهما أمرَ دنياه، وعينانِ في قلبه يُبصر بهما أمرَ آخرتِه؛ فإذا أرادَ الله بالعبد خيرًا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما أمرَ آخرتِه وهما غيب، فأمن الغيبَ بالغيب؛ وإذا أرادَ الله بالعبدِ خلافَ ذلك ترك العبد القلب على ما هو عليه، فتراه ينظرُ فلا ينتفع، فإذا نظر بقلبه نفع.

وقال: بصَرُ القلب من الآخرة، وبصَرُ العينَيْن من الدنيا. وله فضائل كثيرة رحمه الله تعالى]

(1)

.

وعامر بن سعد [بن أبي وقاص الليثي

(2)

: له راويات كثيرة عن أبيه وغيرِه، وهو تابعيٌّ جليل، ثقة مشهور] (1).

وعامر بن شَرَاحيل الشعبي

(3)

: توفي فيها في قول [كان الشعبيُّ من شَعْبِ هَمْدان، كنيته أبو عمرو، وكان علَّامةَ أهلِ الكوفة، كان إمامًا حافظًا، ذا فنون، وقد أدرك خلقًا من الصحابة، وروى عنهم، وعن جماعةٍ من التابعين. وعنه أيضًا روى جماعة من التابعين.

قال أبو مِجْلَز: ما رأيتُ أفقهَ من الشعبي.

وقال مكحول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسنَّةٍ ماضيةٍ منه.

وقال داود الأوْدي: قال لي الشعبي: قم معي هاهنا حتى أفيدَك علمًا، بل هو رأسُ العلم. قلت: أيَّ شيءٍ تفيدني؟ قال: إذا سُئلتَ عما لا تعلم فقل: الله أعلم؛ فإنَّه عِلْمٌ حسن.

(1)

ما بين المعقوفين ليس في (ب، ح)، وهو من (ق).

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 167)، التعديل والتجريح (3/ 991)، تهذيب الكمال للمزي (14/ 21)، العبر (1/ 127)، الكاشف (1/ 522)، تقريب التهذيب ص (287)، التحفة اللطيفة للسخاوي (2/ 7).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 246)، تاريخ خليفة (149 و 330)، طبقات خليفة (157)، التاريخ الكبير (6/ 450)، المعارف (449)، المعرفة والتاريخ (2/ 592)، أخبار القضاة (2/ 413 و 3/ 60) الجرح والتعديل (6/ 322)، الثقات لابن حبان (5/ 185)، حلية الأولياء (4/ 310)، تاريخ بغداد (12/ 227)، تاريخ مدينة دمشق (عاصم - عايذ)(138)، صفة الصفوة (3/ 75)، جامع الأصول (14/ 580)، المختار من مناقب الأخبار (3/ 333)، وفيات الأعيان (3/ 12)، مختصر تاريخ دمشق (11/ 249)، تهذيب الكمال (14/ 28)، سير أعلام النبلاء (4/ 294)، تاريخ الإسلام (4/ 130)، العبر (1/ 127)، تذكرة الحفاظ (1/ 79)، الوافي بالوفيات (16 ت 629)، غاية النهاية (1/ 350)، تهذيب التهذيب (5/ 65)، طبقات الشعراني (1/ 43)، شذرات الذهب (1/ 126).

ص: 58

وقال: لو أنَّ رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفظ كلمةٍ تنفَعُه فيما يستقبلُ من عمره ما رأيتُ سفَرَهُ ضائعًا؛ ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيتُ سفَرَهُ عقوبةً وضياعًا.

وقال: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كلِّ شيء أحسنَه]

(1)

.

وأبو بُرْدَة بن أبي موسى الأشعري

(2)

: [تولَّى قضاءَ الكوفة قبلَ الشعبي، فإنَّ الشعبيَّ تولَّى في خلافةِ عمر بن عبد العزيز، واستمرَّ إلى أن مات، وأمَّا أبو بُردة فإنه كان قاضيًا في زمنِ الحجَّاج، ثم عزله الحجاج وولَّى أخاه أبا بكر، وكان أبو بردة فقيهًا حافظًا عالمًا، له روايات كثيرة]

(3)

.

أبو قلابة الجَرْمي

(4)

[عبد اللَّه بن زيد

(5)

البصري، له رواياتٌ كثيرة عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان من كبار الأئمة والفقهاء، وطُلب للقضاء فهرب منه وتغرَّب؛ قدم الشام فنزل داريَّا، وبها مات رحمه الله.

قال أبو قلابة: إذا أحدث اللَّه لك علمًا فأحدث له عبادة، ولم يكنْ همُّك ما تحدِّثُ به الناس، فلعلَّ غيرَك ينتفعُ ويستغني، وأنت في الظلمة تتعثَّر. وإني لأرى هذه المجالس إنما هي مناخُ البطَّالين.

وقال: إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمِسْ له عُذرًا جهدَك، فإنْ لم تجد له عذرًا فقل: لعل لأخي عُذرًا لا أعلَمُه].

(1)

ما بين معقوفين ليس في (ب، ح)، وهو من (ق).

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 268)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 149)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 387)، تهذيب الكمال (23/ 66)، الكاشف (2/ 407)، تذكرة الحفاظ (1/ 95)، تهذيب التهذيب (12/ 21)، تقريب التهذيب ص (621)، تعجيل المنفعة ص (551)، طبقات الحفاظ ص (43).

(3)

ما بين معقوفين ليس في (ب، ح)، وهو مستدرك من (ق).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 183)، طبقات خليفة (211)، التاريخ الكبير (5/ 92)، المعارف ص (446)، المعرفة والتاريخ (2/ 65)، الجرح والتعديل (5/ 57)، الثقات لابن حبان (5/ 2)، حلية الأولياء (2/ 282)، تاريخ مدينة دمشق ص (535)، صفة الصفوة (3/ 238)، جامع الأصول (14/ 658)، مختصر تاريخ دمشق (12/ 214)، تهذيب الكمال (14/ 542)، سير أعلام النبلاء (4/ 468)، تذكرة الحفاظ (1/ 94)، تاريخ الإسلام (4/ 221)، ميزان الاعتدال (2/ 425)، الوافي بالوفيات (17/ ت 168)، تهذيب التهذيب (5/ 224).

(5)

في (ق): "عبد اللَّه بن يزيد" تصحيف، والمثبت من مصادر ترجمته.

ص: 59

‌ثم دخلت سنة خمس ومئة

فيها غزا الجرَّاح بن عبد الله الحكمي بلادَ اللَّان

(1)

، وفتح حصونًا كثيرة، وبلادًا متسعةَ الأكناف من وراء بلَنجَر، وأصاب غنائم جَمَّة، وسبى خلقًا من أولاد الأتراك.

وفيها غزا مسلم بنُ سعيد بلادَ التُّرْكِ وحاصر مدينةً عظيمة من بلادِ الضُّغْد، فصالحه مَلِكُها على مالٍ كثير يحمِلهُ إليه.

وفيها غزا سعيدُ بن عبد الملك بن مروان بلادَ الرُّوم، فبعث بين يديه سَرِيَّة ألفَ فارس، فأُصيبوا جميعًا.

وفيها لخمسٍ بَقينَ من شعبان منها توفي أميرُ المؤمنين يزيدُ بن عبد الملك بن مروان بأَرْبَد

(2)

من أرضِ البَلْقاء، وكان ذلك يوم الجمعة، وعمره ما بين الثلاثين والأربعين، وهذه ترجمته:

[يزيد بن عبد الملك بن مروان]

(3)

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو خالد القرشيُّ الأمويّ، أميرُ المؤمنين؛ وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية؛ قيل إنها دُفنت بقبر عاتكة فنُسبتِ المَحَلَّةُ إليها. واللّه أعلم.

بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومئة بعَهْدٍ من أخيه سليمان، أنْ يكون الخليفةَ بعدَ عمر

(4)

بن عبد العزيز رحمه الله، يوم الجمعة لخمس بَقينَ من رجب.

قال محمد بن يحيى الذُّهْلي: حدّثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن بُرْقان، حدّثني الزّهْري قال: كان لا يَرثُ المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وِأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي الخلافة معاويةُ ورَّث المسلمَ من الكافر، ولم يورِّثِ الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخُلفاءُ من بعده؛ فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السُّنَّة الأولى، وتبعه في ذلك يزيدُ بن

(1)

اللَّان: بلاد واسعة في طرف أرمينية قرب باب الأبواب، مجاورة للخزر. معجم البلدان (5/ 8).

(2)

أرْبَد: قرية بالأردن قرب طبرية. معجم البلدان (1/ 136).

(3)

ترجمته في تاريخ الطبري (4/ 72)، الكامل لابن الأثير (4/ 331)، تاريخ اليعقوبي (2/ 310)، سير أعلام النبلاء (5/ 150) تاريخ الإسلام (4/ 212)، فوات الوفيات (4/ 322)، مآثر الإنافة (1/ 145)، تاريخ الخلفاء ص (246).

(4)

في (ب، ح): "أن يكون من وراء عمر" بدل "أن يكون الخليفة بعد عمر".

ص: 60

عبد الملك؛ فلما قام هشام أخذ بسُنَّةِ الخلفاء - يعني أنه ورَّثَ المسلمَ من الكافر

(1)

.

وقال الوليد بن مسلم عن ابنِ جابر قال: بينما نحن عند مكحول إذْ أقبل يزيدُ بن عبد الملك فهمَمْنا أنْ نوسِّع له، فقال مكحول: دعوه يجلسْ حيثُ انتهى به المجلس، يتعلَّم التواضع

(2)

.

وقد كان يزيد هذا يُكثر من مجالسةِ العلماء قبل أنْ يلي الخلافة، فلما وُلِّي عزَمَ على أنْ يتأسَّى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السَّوْء، وحسَّنوا له الظُّلم.

قال حَرْملة عن ابن وهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: لما ولي يزيدُ بن عبد الملك قال: سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأُتي بأربعين شيخًا فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حسابٍ ولا عذاب

(3)

.

وقد اتهمه بعضُهم في الدين، وليس بصحيح، إنما ذاك ولَدُه الوليد بن يزيد الفاسق كما سيأتي.

أما يزيد هذا فما كان به بأس.

وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز وهو في مرض موته: أما بعد، فإني لا أُراني إلا لِمَا بي

(4)

، وما أرَى الأمرَ إلا سيُفضي إليك، فاللّهَ اللّهَ في أمَّةِ محمد، فإنك عَمَّا قليلٍ ميت، فتدَعُ الدنيا إلى من لا يَحْمَدك، وتُفضي إلى منْ لا يَعْذِرك، والسلام

(5)

.

وكتب يزيدُ بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد بلغَهُ أنك استبطأتَ حياتَه، وتمنَّيتَ وفاته، ورُمْتَ الخلافة. وكتب في آخره

(6)

:

تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإنْ أمتْ

فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ

وقد علموا لو ينفعُ العلمُ عندهمْ

متى مُتُّ ما الباغي

(7)

عليَّ بمُخْلَدِ

منيتهُ تجري لوقتٍ وحَتْفُهُ

يصادفُه يومًا على غيرِ موعدِ

فقلْ للذي يبغي خلافَ الذي مضَى

تهيَّأ لأُخرى مِثْلِها فكأن قد

(8)

(1)

تاريخ ابن عساكر 65/ 300 (ط. دار الفكر).

(2)

تاريخ ابن عساكر 65/ 302.

(3)

تاريخ ابن عساكر 65/ 304، وسير أعلام النبلاء (5/ 150، 151).

(4)

في (ق): "إلا ملمّا بي" وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وطبقات ابن سعد (5/ 405)، وتاريخ ابن عساكر 65/ 306.

(5)

أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 405)، وابن عساكر في تاريخه 65/ 306.

(6)

تاريخ ابن عساكر 65/ 306 - 307.

(7)

في سير أعلام النبلاء (10/ 72) ومصادر غيره "ما الداعي".

(8)

الأبيات الأول والثاني والأخير عزيت إلى الشافعي وهي في ديوانه ص (90 و 93)، وذكرت في مصادر كثيرة،=

ص: 61

فكتب إليه هشام: جعلَ اللَّه يومي قبلَ يومِك، وولدي قبلَ ولدِك، فلا خير في العيش بعدَك.

وقد كان يزيد هذا يحبُّ حَظِيَّةً من حظاياه، يقالُ لها حَبابَة - بتشديد الباء الأولى، والصحيح تخفيفها - واسمُها العالية؛ وكانت جميلة جدًّا؛ وكان قد اشتراها في زمن أخيه سليمان بن عبد الملك بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حُنَيف، فقال له أخوه سليمان: لقد همَمْتُ أنْ أحْجُرَ على يزيد

(1)

؛ فباعها، فلما أفضَتْ إليه الخلافة قالت له امرأتُه سعدةُ يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسِك من أمر الدنيا شيءٌ؟ قال: نعم، حَبابة، فبعثتِ امرأتُه فاشترَتْها له، ولبستها وصنعَتْها وأجلستها من وراءِ الستارة، وقالت له أيضًا يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيءٌ؟ قال: أوما أخبرتك أنها حبابة؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزَتْها له، وأخلَتْه بها وتركته وإيَّاها - فحظيتِ الجاريةُ عنده، وكذلك زوجتُه أيضًا؛ فقال يومًا: أشتهي أنْ أخلوَ بحبابة في قصر مدَّةً من الدهر، لا يكونُ عندنا أحد. ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فُرش له بأنواع الفُرش والبُسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة، فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر حال وأنعم بال، وبين يديهما عِنَبٌ يأكلانِ منه، إذْ رماها بحَبَّةِ رُمَّان، ويُروى بحبة عِنَب وهي تضحك، فشرِقَتْ بها فماتَتْ، فمكَثَ أيامًا يُقبِّلُها ويَرْشُفها وهي ميتة، حتى أنتنَتْ وجيَّفَتْ؛ فأمر بدفنها وما كاد، فلما دفنها أقام أيامًا عندها على قبرها هائمًا، ثم رجع إلى المنزل، ثم عاد إلى قبرِها فوقف عليه وهو يقول:

فإنْ تَسْلُ عنكِ النفسُ أو تدَعِ الصِّبَا

فباليأسِ تَسْلو عنكِ لا بالتجلُّدِ

وكلُّ خليلٍ زارني

(2)

فهو قائلٌ

من آجلكِ هذا هامةُ اليوم أو غدِ

ثم رجع. فما خرَجَ من منزله حتى خرَجَ بنعشِه وكان مرَضُه بالسِّلِّ

(3)

.

وذلك بالسَّوَاد سوادِ الأُرْدُنّ، يوم الجمعة لخمسٍ بقينَ من شعبان من هذه السنة - أعني سنةَ خمسٍ ومئة

وكانت خلافتُه أربعَ سنين وشهرًا على المشهور، وقيل أقلّ من ذلك، وكان عمره ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل خمسًا، وقيل ستًا، وقيل ثمانيًا، وقيل تسعًا وثلاثين. وقيل: إنه بلغ الأربعين، فاللّه أعلم.

= وكلها ينص على أنه كان يتمثل بها. وذكر البيت الأول منها الطبري في تفسيره (30/ 227) في تفسير الآية (17) من سورة الليل، وعزاه لطرفة بن العبد وكذا القرطبي في تفسيره (20/ 88)، ولم نجدها في ديوانه المطبوع.

(1)

في (ق): "على يديك"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وتاريخ الطبري (4/ 110).

(2)

كذا في (ب، خ، ق)، وفي الأغاني وديوان كثير "راءني".

(3)

الخبر والبيتان بنحوه في الأغاني (15/ 140)، والبيتان لكثير عزة وهما في ديوانه ص (86).

ص: 62

وكان طويلًا جسيمًا أبيض مدوَّرَ الوجه، أفْقم الفم

(1)

، لم يشب.

وقيل إنه مات بالجَوْلان؛ وقيل بحَوْران، وصلى عليه ابنُه الوليدُ بن يزيد، وعمرُه خمسَ عشرةَ سنة. وقيل: بل صلَّى عليه أخوه هشامُ بن عبد الملك أمير المؤمنين، وهو الخليفةُ بعدَه، وحُمل على أعناقِ الرجال حتى دُفن بين باب الجابية وباب الصَّغِير بدمشق، وكان قد عهد بالأمرِ من بعدِه لأخيه هشام، ومن بعدِه لولده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فبايع الناسُ من بعده هشامًا.

‌خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان

(2)

بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه، لخمسٍ بَقينَ من شعبان من هذه السنة - أعني سنةَ خمسٍ ومئة - وله من العمر أربعٌ وثلاثون سنة وأشهر، لأنه كان مولدُه حين

(3)

قَتَلَ أبوه عبدُ الملك مُصعبَ بنَ الزبير في سنةِ ثنتين وسبعين، فسمَّاهُ منصورًا تفاؤلًا؛ ثم قدم فوجَدَ أمَّه قد أسمَتْه باسم أبيها هشام، فأقر اسمه هشامًا.

قال الواقدي: أتَتْهُ الخلافةُ وهو بالزيتونة

(4)

في منزلٍ له، فجاءه البريدُ بالعصا والخَاتم، فسُلِّم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، فقام بأمرِ الخلافة أتمَّ القيام، فعزَلَ في شوال منها عن إمْرةِ العراق وخراسان عمرَ بنَ هُبيرة، وولَّى عليها خالد بن عبدِ اللَّه القسري؛ وقيل: إنه استعمله على العراق في سنة ستٍّ ومئة، والمشهور ما ذكرناه

(5)

. وحجَّ بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالُ أميرِ المؤمنين، أخو أُمَّه عائشة بنتِ هشام بن إسماعيل، ولم تلِدْ من عبد الملك سواهُ حتى طلقها، لأنها كانتْ حمقاء.

وفيها قَوِيَ أمرُ دعوةِ بني العباس في السَرّ بأرض العراق، وحصل لدعاتهم أموالٌ جزيلة يستعينون بها على أمرهم، وما هم بصدده.

(1)

الفَقَم في الفم: أن تتقدم الثنايا السفلى فلا تقع عليها العليا إذا ضم الرجل فاه. لسان العرب. (فقم) وفي القاموس: تقدَّم الثنايا العليا فلا تقع على السفلى.

(2)

ترجمته في تاريخ الطبري (4/ 111)، تاريخ اليعقوبي (2/ 316)، الكامل لابن الأثير (4/ 370)، مروج الذهب (2/ 142، 145)، سير أعلام النبلاء (5/ 351)، تاريخ الخلفاء ص (247).

(3)

في (ق): "ولد لما قتل .. "، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في (ب، ق): "بالديثونة"، وفي (ح) بالرسم نفسه مهملة الحروف، وهو تصحيف، والمثبت من تاريخ اليعقوبي (2/ 316)، ولفظه:"وأتته الخلافة وهو بقرية يقال لها الزيتونة من الجزيرة" يؤيد ذلك معجم البلدان (3/ 163) إذ جاء فيه: "الزيتونة موضع كان ينزله هشام بن عبد الملك في بادية الشام، فلما عمر الرصافة انتقل إليها فكانت منزله إلى أن مات".

(5)

في (ق): "الأول" بدل "ما ذكرناه"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 63

‌وفيها توفي من الأعيان:

أبَانُ بن عثمان بن عفَّان

(1)

: تقدَّم ذكر وفاته سنةَ خمسٍ وثمانين، كان من فقهاء التابعين وعلمائهم.

قال عمرو بن شعيب: ما رأيتُ أعلمَ منه بالحديثِ والفقه. وقال يحيى بن سعيد القطَّان: فقهاء المدينة عشرة، فذكر أبان بن عثمان أحدَهم، وخارجةَ بن زيد، وسالم بن عبد اللَّه، وسعيدَ بن المسيِّب، وسُليمان بن يَسَار، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، وعروة، والقاسم، وقَبيصة بن ذؤيب، وأبا سَلَمةَ بن عبد الرحمن.

قال محمد بن سعد

(2)

: كان به صَممٌ ووَضح، وأصابه الفالجُ قبلَ أنْ يموتَ بسنة، وتوفي سنة خمسٍ ومئة.

وممَّنْ توفِّي فيها:

أبو رجاء العُطَارِديّ

(3)

، من رجال الصحيحين.

وعامر بن شراحيل الشعبي، في قول، وقد تقدَّم

(4)

.

وكُثَيِّر عَزَّة، في قول. وقيل: في التي بعدها كما سيأتي.

‌ثم دخلت سنة ست ومئة

ففيها عزَلَ هشامُ بن عبد الملك عن إمرة المدينة ومكة والطائف، عبدَ الواحد بن عبد الله النَّصْري

(5)

، وولَّى على ذلك كلِّه ابنَ خالِه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي.

وفيها غزا سعيدُ بن عبد الملك الصائفة، وفيها غزا [مسلم بن سعيد مدينة فرغانة ومعاملتها، فلَقيَهُ

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 151)، طبقات خليفة ت (2058)، تاريخ البخاري (1/ 450)، المعارف ص (201)، أخبار القضاة (1/ 129)، الجرح والتعديل (2/ 295)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 97)، سير أعلام النبلاء (4/ 351)، تهذيب التهذيب (1/ 97).

(2)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 352).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 8)، طبقات خليفة ت (1564)، تاريخ البخاري (6/ 410)، المعارف ص (427)، حلية الأولياء (2/ 304)، الاستيعاب ت (1971)، أسد الغابة (4/ 136)، سير أعلام النبلاء (4/ 253)، تذكرة الحفاظ (1/ 62)، تهذيب التهذيب (8/ 940)، طبقات الحفاظ ص (25).

(4)

تقدم في ص (58) من هذا الجزء.

(5)

في (ق): "النضري"، وفي (ح):"البصري"، والمثبت من (ب)، وانظرص (56) ح (5) وص (57) ح (3).

ص: 64

عندها الترك، وكانتْ بينهم وقعةٌ هائلة، قُتل فيها الخاقان وطائفةٌ كبيرة من الترك.

وفيها أوغل الجَرَّاحُ الحَكَمي في أرض الخَزَر، فصالحوه وأعطَوْهُ الجِزْيَة والخراج. وفيها غزا]

(1)

الحجَّاجُ بن عبد الملك اللان، [فقتل خلقًا كثيرًا، وغَنِم وسَلِم](1).

وفيها عزَل خالدُ بن عبد الله القَسْري عن إمرةِ خراسان مسلمَ بنَ سعيد، وولَّى عليها أخاه أسد بن عبد اللَّه القَسْري.

وحجَّ بالناس في هذه السنة أميرُ المؤمنين هشامُ بن الملك، وكتب إلى أبي الزَّناد قبلَ دخوله المدينة ليتلقَّاهُ ويكتبَ له مناسك الحجّ، ففعل، وتلقَّاهُ الناسُ من المدينة إلى أثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أُمر به، وتلقَّاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين إنَّ أهل بيتِك في مثلِ هذه المواطنِ الصالحة لم يزالوا يلعَنُونَ أبا تراب، فالْعَنْهُ أنتَ أيضًا، قال أبو الزناد: فشقَّ ذلك على هشام واستثقله، وقال: ما قدمتُ لِشَتْم أحد، ولا للعنةِ أحد

(2)

. إنما قدمنا حُجَّاجًا. ثم أعرض عنه وقطع كلامه، وأقبل على أبي الزناد يحادِثُه، ولما انتهى إلى مكة عرض له إبراهيمُ بن طلحة فتظلَّم إليه في أرض، فقال له: أين كنت عن عبد الملك؟ قال: ظلمني. قال: فالوليد؟ قال: ظلمني. قال: فسليمان؟ قال: ظلمني. قال فعمر ين عبد العزيز؟ قال: ردَّها عليّ. قال: فيزيد؟ قال: انتزعها من يدي، وهي الآن في يدك. فقال له هشام: أما لو كان فيك مَضْربٌ لضربتُك. فقال: بلى فيَّ مضربٌ بالسَّوْط والسيف. فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن معه: ما رأيتُ أفصح من هذا.

وفيها كان العامل على مكة والمدينة والطائف، إبراهيمُ بن هشام بن إسماعيل؛ وعلى العراق وخراسان خالد بن عبد إدته القَسْري [واللّه سبحانه أعلم]

(3)

.

وممن تُوفي فيها:

سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب

(4)

.

(1)

ما بين المعقوفين ليس في (ب، ح)، والمثبت من (ق).

(2)

في (ح): "ولا للعنه"؛ وفي (ق): "ولا لعنة أحد"، والمثبت من (ب).

(3)

ما بين المعقوفين ليس في (ب، ح)، والمثبت من (ق).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 195)، طبقات خليفة ص (246)، تاريخ خليفة ص (238)، التاريخ الكبير (4/ 115)، المعارف ص (186)، المعرفة والتاريخ (1/ 554)، الجرح والتعديل (4/ 184) حلية الأولياء (2/ 193)، صفة الصفوة (2/ 190)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 207)، وفيات الأعيان (2/ 349)، تهذيب الكمال (10/ 145)، سير أعلام النبلاء (4/ 457)، تذكرة الحفاظ (1/ 88) الوافي بالوفيات (15/ ت 83). وما سيأتي هنا بين معقوفين ليس في (ب، ح) وهو زيادة أقحمت على المتن في نسخة (ق) =

ص: 65

وطاوس بن كَيْسان اليماني

(1)

: من أكبر أصحاب ابن عباس رضي الله عنه. وقد

= فوضعناه هنا في الحاشية وهي: [أبو عمرو الفقيه، أحدُ الفقهاء وأحدُ العلماء وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العُبَّاد الزُّهَّاد، ولما حجَّ هشامُ بن عبد الملك دخلَ الكعبةَ، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: سالم، سَلْني حاجةً. فقال: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيرَه. فلما خرج سالم خرج هشامٌ في أثره فقال له: الآن قد خرجتَ من بيتِ الله فسلني حاجة. فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: إني ما سألتُ الدنيا منْ يَمْلِكُها، فكيف أسأَلُها من لا يملكها. (ذكره الذهبي في سير أعلَام النبلاء 4/ 466).

وكان سالمٌ خَشنَ العيش، يَلْبسُ الصوف الخَشِن، وكان يعالجُ بيده أرضًا له وغيرَها من الأعمال، ولا يقبلُ من الخلفاء، وكان متواضعًا، وكان شديدَ الأدْمَة، وله من الزُّهْد والوَرَع شيءٌ كثير].

(1)

ترجمته في: طبقات ابن سعد (5/ 537)، تاريخ خليفة ص (336)، طبقات خليفة ص (287)، الزهد لأحمد بن حنبل ص (375)، التاريخ الكبير (4/ 365)، المعارف (455)، المعرفة والتاريخ (1/ 15). الجرح والتعديل (4/ 500)، الثقات لابن حبان (4/ 391)، حلية الأولياء (4/ 3)، صفة الصفوة (2/ 284)، وفيات الأعيان (2/ 509)، سير أعلام النبلاء (5/ 38)، تذكرة الحفاظ (1/ 90)، الوافي بالوفيات (16/ ت 451)، العقد الثمين (5/ 58). وما سيأتي أقحم على المتن في (ق) فأثبتناه هنا في الحاشية وهو: [انتهى. وقد زِدْنا هنا في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب زيادةً حسنة. فأمَّا طاوس فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كَيْسان اليماني، فهو أول طبقةِ أهلِ اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذي أرسلهم كسرى إلى اليمن.

أدرك طاوس جماعةً من الصحابة وروى عنهم، وكان أحدَ الأئمة الأعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس؛ وروى عنه خَلْقٌ من التابعين وأعلامهم، منهم مجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وإبراهيم بن ميسرة، وأبو الزبير، ومحمد بن المنكدر، والزُّهري، وحبيب بن أبي ثابت، وليث بن أبي سُليم، والضحاك بن مزاحم، وعبد الملك بن مَيْسرة، وعبد الكريم بن المخارق، ووَهْب بن مُنبِّه، والمغيرة بن حكيم الصَّنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء.

توفي طاوس بمكة حاجًّا، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودُفن بها رحمه اللَّه تعالى.

قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرزاق قال: قال أبي: مات طاوس بمكة فلم يصلُّوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال: فلقد رأيتُ عبد اللَّه بن الحسن واضعًا السريرَ على كاهِله، قال: ولقد سقطتْ قَلَنْسوةٌ كانتْ عليه، ومُزِّقَ رداؤُه من خلفِه. (أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 3).

يعني من كثرةِ الزِّحام. فكيف لا وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان"(خرجه البخاري (4389) في المغازي: باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن؛ ومسلم (52) في الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان). وقد خرَجَ من اليمن خَلْقٌ من هؤلاء المشارِ إليهم في هذا وغيرِه، ومنهم أبو مسلم، وأبو إدريس، ووَهْب، وكعب، وطاوس وغير هؤلاء كثير.

وروى ضَمْرَةُ عن ابن شَوْذَب قال: شهدتُ جنازةَ طاوس بمكة سنة خمسٍ ومئة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حجَّ أربعين حجَّة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 3)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 192) به).

وقال عبدُ الرزاق: حدَّثنا أبي قال: تُوفي طاوُس بالمُزْدَلفة - أو بمنى - حاجًّا، فلما حُمل اْخَذَ عبدُ اللَّه بن =

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحسن بن علي بقائمةِ سريره. فما زايله حتى بلَغَ القَبْر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 3)).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرزاق قال: قدم طاوس بمكة، فقدم أمير المؤمنين، فقيل لطاوس: إن منْ فضلِه ومِنْ، ومِنْ، فلو أتيتَهُ. قال: ما لي إليه حاجة. فقالوا: إنا نخافُ عليك. قال: فما هو إذًا كما تقولون (أخرجه المزي في تهذيب الكمال (13/ 371)).

وقال ابنُ جُرَيج (في (ق): "وقال ابن جرير" وهو تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.): قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء، إياك أنْ ترفعَ حوِائجكَ إلى منْ أغلَقَ دونَكَ بابَه، وجعَلَ دونَهُ حُحَّابه؛ وعليك بطلَب مَنْ بابُه لك مفتوحٌ إلى يوم القيامة، طلبَ منك أنْ تدعوَهُ، ووعدك الإجابّة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 11)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 35)).

وقال ابنُ جُريج عن مجاهد، عن طاوس:{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، قال: بعيد من قلوبهم (أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (24/ 128) في تفسير الآية، وأبو نعيم في الحلية (4/ 11)).

وروى الأحجري (كذا في (ق) وأظنه تصحيفًا، انظر الحاشية التالية وأسانيد الخبر.) عن سفيان عن ليث قال قال لي طاوس: ما تعلَّمتَ من العلم فتعلَّمْهُ لنفسِك، فإنَّ الأمانةَ والصدق قد ذهبا من الناس (أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 541)، بسنده إلى قبيصة بن عقبة قال: أخبر سفيان به. والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص (539) بسنده إلى زيد بن أخزم عن أبي أحمد به، وأبو نعيم في الحلية (4/ 11) بسنده إلى علي بن قادم حدّثنا سفيان به).

وقال عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد، قال: كُنا عند طاوس، فجاءه سَلْمُ (في (ق):"مسلم بن قتيبة بن مسلم" وهو تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.) بن قُتيبة بن مسلم، صاحبُ خُرَاسان، فسأله عن شيء، فانتهره طاوس، فقلت: هذا سَلْمُ بن قُتيبة بن مسلم صاحبُ خراسان، قال: ذاك أهوَنُ له علي (أخرجه ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 287)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 368)).

وقيل (في (ق): "وقال"، وهو تصحيف، والمثبت من شعب الإيمان (7/ 404)، وحلية الأولياء (4/ 7).) لطاوس: إنَّ منزلك قد استرمَّ، فقال: أمسيْنا.

وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس في قوله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، قال: في أمور النساء، ليس يكونُ في شيءٍ أضعفَ منه في النساء (أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 30)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 12)).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا يحيى بن بُكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: لقي عيسى بنُ مريم عليه السلام إبليس، فقال إبليسُ لعيسى: أما علمتَ أنه لن يُصيبَك إلَّا ما كَتَبَ اللَّه لك؟ قال: نعم، قال إبليس: فأوْفِ بذِرْوةِ هذا الجبل فتردَّ منه، فانظرْ، أتعيشُ أمْ لا؟ قال عيسى: أما علمتَ أن اللَّه تعالى قال: لا يُجَرِّبْني عبدي، فإني أفعلُ ما شئت؟ وفي روايةٍ عن الزُّهري عنه قال قال عيسى: إنَّ العبدَ لا يختبرُ ربَّه، ولكن الربَّ يختبرُ عبدَه. وفي رواية أخرى: إنَّ العبدَ لا يبتلي ربه، ولكنَ الربَّ يبتلي عبدَه. قال: فخصَمَهُ عيسى عليه السلام (أخرجه معمر بن راشد في الجامع (المصنف لعبد الرزاق): (11/ 113)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/ 619)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 12).).

وقال فُضيل بن عياض عن ليث عن طاوس قال: حجّ الأبرار على الرِّحال. رواه عبد اللَّه بن أحمد عنه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 6 و 13)).

ص: 67

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو تُمَيْلَة عن ابن رَوَّاد (في (ق): "عن ابن أبي داود،، وهو تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر. وترجمة أبي تميلة يحيى بن واضح في تهذيب الكمال (32/ 22) وابن أبي رواد هو عبد العزيز.)، قال: رأيت طاوسًا وأصحابًا له إذا صلَّوا العصرَ استقبلوا القبلة ولم يكلِّموا أحدًا، وابتهلوا إلى اللَّه تعالى في الدعاء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 13)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 370).).

وقال: من لم يبخلْ ولم يلِ مال يتيمٍ لم ينَلْهُ جَهْدُ البلاء. رواهُ عنه أبو داود الطيالسي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 13)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 370).).

وقد رواه الطبراني عن محمد بن يحيى بن المنذر عن موسى بن إسماعيل عن أبي داود

فذكره.

وقال لابنه: يا بني، صاحب العقلاءَ تُنسَبْ إليهم وإنْ لم تكنْ منهم، ولا تصاحب الجُهَّال فتنسَبَ إليهم وإنْ لم تكن منهم؛ واعلَمْ أنَّ لكل شيءٍ غايةً؛ وغايةُ المرء حُسْنُ عَقلِه.

وسأله رجلٌ عن مسألة فانتهره، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال: أخي من دون الناس؟.

وفي رواية أنَّ رجلًا من الخوارج سأله فانتهره، فقال: إني أخوك، قال: أمِنْ بينِ المسلمين كلِّهم؟

وقال عفَّان عن حماد بن زيد، عن أيُّوب، قال: سأل رجلٌ طاوسًا عن شيء فانتهره، ثم قال: تريدُ اْنْ تجعلَ في عنقي حبلًا ثم يطافُ بي؟

ورأى طاوسُ رجلًا مسكينًا في عينه عمشٌ، وفي ثوبِهِ وسَخ، فقال له: عُدَّ أنَّ الفقرَ من الله، فأين أنت من الماء؟ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 14).)

وروى الطبرانيّ عنه قال: إقرارٌ ببعض الظلم خيرٌ من القيام فيه (تهذيب الكمال (13/ 369).).

وعن عبد الرزاق، عن داودَ بنِ إبراهيم أنَّ الأسد حَبَسَ الناسَ ليلةً في طريقِ الحَجّ، فدَقَّ الناسُ بعضُهم بعضًا، فلما كان السَّحَرُ ذهب عنهم الأسد، فنزل الناسُ يمينًا وشمالًا فألقَوْا أنفسَهم، وقام طاوسُ يُصلِّي، فقال له رجل - وفي رواية فقال ابنه -: ألا تنام؟ فإنَّك قد سَهرتَ ونَصبْتَ هذه الليلة. فقال: وهل ينامُ السَّحَرَ أحد؟ وفي رواية: ما كنتُ أظنُّ أحدًا ينامُ السَّحَر (أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (377)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 14)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 166)(3231).).

وروى الطبراني من طريق عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج (في (ق):"أبي جريج"، تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.) وابنِ عُيَيْنة، قالا: حدَّثنا ابنُ طاوس قال: قلتُ لأبي: ما أفضلُ ما يقالُ على الميت؟ قال الاستغفار (أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 493)(6442)؛ وأبو نعيم في الحلية (4/ 14)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 370).).

وقال الطبراني: حدَّثنا عبدُ الرزاق قال: سمعتُ النعمانَ بن الزُّبير الصنعاني يحدث، أنَّ محمد بن يوسف - أو أيُّوب بن يحيى - بعث إلى طاوس بسبعمئة دينار وقال للرسول: إنْ أخذَها منك فإنَّ الأميرَ سيَكْسُوكَ ويُحسنُ إليك. قال: فخرج بها حتى قدِم على طاوس الجند، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفَقةٌ بعث بها الأميرُ إليك. فقال: ما لي بها من حاجة، فأرادَهُ على أخذِها بكلِّ طريق فأبى أنْ يقبلَها، فغفَلَ طاوس فرَمَى بها الرجلُ في كوَّةٍ في البيت ثم ذهبَ راجعًا إلى الأمير، وقال: قد أخذها، فمكثوا حينًا ثم بلغَهُمْ عن طاوس ما يكرهون - أو شيءٌ يكرهونه - فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا. فجاءه الرسولُ فقال: المال الذي بعثه إليك الأمير رُدَّهُ إلينا. فقال: ما قبضتُ منه شيئًا. فرجع الرسولُ إليهم فأخبرهم. فعرفوا أنه صادق، فقالوا: انظُروا الذي ذهب بها إليه، فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: المالُ الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمِن، قال: هل قبضتُ منك شيئًا؟ قال: لا! قال: فقام إلى المكان الذي رمَى به فيه فوجدَها كما هي، وقد بنتْ عليها العنكبوت، فأخذها فذهبَ بها إليهم=

ص: 68

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (أخرجه معمر بن راشد في الجامع (المصنف لعبد الرزاق)(11/ 471)(21032)، والزهد لابن أبي عاصم ص (375)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 14)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 370).).

ولما حجَّ سليمانُ بن عبد الملك قال: انظروا إليَّ فقيهًا أسألُه عن بعض المناسك. قال: فخرج الحاجبُ يلتمس له، فمرَّ طاوس فقالوا: هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجبُ فقال: أجبْ أميرَ المؤمنين، فقال: اعْفني. فأبَى، فأدخله عليه؛ قال طاوس: فلما وقفتُ بين يديه قلت: إنَّ هذا المقامَ يسألُني الله عنه. فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ صخرةً كانتْ على شفيرِ جهنَّم هوَتْ فيها سبعين خريفًا حتى استقرَّتْ في قرارها، أتدري لمن أعدَّها اللَّه؟ قال: لا!! ويلك لمن أعدها الله؟ قال: لمن أشرَكَهُ اللَّه في حُكْمِه فجار (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 15)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 42)، وابن رجب في التخويف من النار ص (91).).

وفي روايةٍ ذكرها الزُّهري، أنَّ سليمان رأى رجلًا يطوفُ بالبيت، له جَمالٌ وكمال، فقال: مَنْ هذا يا زهري؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدَّة من الصحابة. فأرسل إليه سليمان، فأتاه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدّثني أبو موسي قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهوَنّ الخلقِ على الله عز وجل منْ وَليَ من أمورِ المسلمين شيئًا فلم يعْدِلْ فيهم". فتغيَّرَ وجهُ سيمان؛ فأطرق طويلًا ثم رفَعَ رأسَهُ إليه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: ظننت أنه أرادَ عليًّا - قال: دعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلسٍ من مجالس قريش، ثم قال:"إنَّ لكم على قُريشٍ حقًّا، ولهم على الناسِ حقّ، ما إذا استُرحموا رَحِمُوا، وإذا حكموا عدَلوا، وإذا ائتُمنوا أدَّوْا، فمنْ لم يفعلْ فعليه لعنةُ اللّهِ والملائكة والناسِ أجمعين، لا يقبل اللَّه منه صَرْفًا ولا عَدْلًا". قال: فتغيَّر وجْهُ سليمان، وأطرق طويلًا ثم رفع رأسه اليه وقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدّثني ابن عباس أن آخر آيةٍ نزلتْ من كتاب اللَّه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، (أخرجه بطوله أبو نعيم في الحلية (4/ 15، 16).).

وقال عبدُ الله بنُ أحمد بن حنبل: حدّثني أبو مَعمر عن ابنِ عُيينة، عن إبراهيم بنِ مَيْسرة، قال: قال عمر بنِ عبد العزيز لطاوس: ارفَعْ حاجتَك إلى أميرِ المؤمنين - يعني سُليمان - فقال طاوس: ما لي إليه من حاجة. فكأنه عجبَ من ذلك؛ قال سفيان: وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبلٌ الكعبة: ورَبِّ هذا البيت، ما رأيتُ أحدًا الشريفُ والوضيعُ عنده بمنزلةٍ واحدة إلَّا طاوس (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 16).).

قال: وجاء ابنٌ لسليمان بن عبد الملك، فجلس إلى جَنْب طاوس فلم يلتفِتْ إليه، فقيل له: جلس إليك أميرُ المؤمنين فلم تلتفتْ إليه؟ قال: أردتُ أنْ يعلَم هو وأبوه أنَّ للّه عبادًا يزهدون فيهم وفيما في أيديهم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 16).).

وقد روى عبدُ الله بن أحمد عن ابن طاوس قال: خرَجْنا حُجَّاجًا فنزَلْنا في بعضِ القُرَى، وكنتُ أخافُ أبي من الحُكَّام لشدَّتِهِ وغِلْظته عليهم، قال: وكان في تلك القرية عاملٌ لمحمد بن يوسف - أخي الحجَّاج بن يوسف - يقالُ له أيوب بن يحيى، وقيل: يقالُ له: ابن نجيح، وكان من أخبث عُمَّالهم كِبْرًا وتجبُّرًا، قال: فشهدنا صلاةَ الصُّبح في المسجد، فإذا ابنُ نجيح قد أخبر بطاوس، فجاء فقَعَدَ بين يديْ طاوس، فسلَّم عليه فلم يُجِبْه، ثم كلَّمه فأعرض عنه، ثم عدَلَ إلى الشِّقِّ الآخر، فأعرض عنه، فلما رأيتُ ما به قمتُ إليه وأخذتُ بيده، ثم قلت له: إنَّ أبا عبد الرحمن لم يعرِفك، فقال طاوس: بلى! إني به لعارف، فقال الأمير: إنه بي لعارف، ومعرفتُه بي فعلَتْ بي ما رأيت. ثم مَضَى وهو ساكتٌ لا يقولُ شيئًا؛ فلما دخلتُ المنزل قال لي أبي: يا لُكَع، بينما أنت تقولُ أريد أخرُج عليهم بالسيف، لم تستطِعْ أنْ تحبسَ عنهم لسانَك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 16)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 372).). =

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال أبو عبد اللَّه الشامي: أتيتُ طاوسًا فاستأذنتُ عليه فخرجَ إليَّ ابنهُ شيخٌ كبير، فقلت: أنت طاوس؟ فقال: لا، أنا ابنُه، فقلت: إنْ كنتَ أنت ابنَهُ فإنَّ الشيخَ قد خَرِت، فقال: إنَّ العالم لا يَخْرَف. فدخلتُ عليه فقال طاوس: سَلْ فأوجِزْ. فقلت: إنْ أوْجَزْتَ اْوجزتُ لك، فقال: تريد أنْ أجمعَ لك في مجلسي هذا التوراةَ والإنجيلَ والفُرْقان؟ قال: قلتُ: نعم. قال: خف اللَّه مخافةً لا يكونُ عندكَ شيءٌ أخوفَ منه، وارْجُهُ رجاءً هو أشدُّ من خوفِكَ إيَّاه، وأحِبَّ للناس ما تحبُّ لنفسِك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 11).).

وقال الطبراني: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر، عن ابنِ طاوس، عن أبيه، قال: يُجاءُ يومَ القيامة بالمالِ وصاحبِه فيتحاجَّان، فيقول صاحبُ المال للمال: جمعتُك في يومِ كذا في شهر كذا في سنةِ كذا. فيقولُ المال: ألم أقضِ لك الحوائج؟ أنا الذي حلتُ بينك وبين أنْ تصنعَ فيما أمرَك الله عز وجل من حُبَّك إيَّاي. فيقول صاحبُ المال: إنَّ هذا الذي (في (ق): "إن هذا الذي نفد"، وهو تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.) عليَّ حِبالٌّ أُوثَقُ بها وأقيَّد (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 367)، وتتمته عندهما:"فيقول المال: أنا الذي حلتُ بينك وبين أن تصنع فيَّ ما أمرك الله به".).

وقال عثمان بن أبي شيبة: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن الضُّرَيس، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: اجتمع عندي خمسةٌ لا يجتمعُ عندي مثلهم قطّ: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جُبير، وعِكْرِمة (أخرجه المزي في تهذيب الكمال (20/ 273)، وتتمته فيه:"فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذ في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا. قال: ثم دخلوا الحمام ليلًا".).

وقال سفيان: قلتُ لعُبيدِ اللَّه بن أبي يزيد: مع مَنْ كنتَ تَدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء والعامة. وكان طاوسُ يدخلُ مع الخاصَّة (أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 481)، والإمام أحمد في العلل (3/ 139)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص (569)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 9).).

وقال حبيب: قال لي طاوس: إذا حدَّثْتُك حديثًا قد أثبتُّه [لك]، فلا تسألْ عنه أحدًا - وفي رواية - فلا تسأل عنه غيري (أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 386)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 9)، وما بين معقوفين منه.).

وقال أبو أسامة، حدّثنا الأعمش عن عبد الملك بن مَيْسرة، عن طاوس، قال: أدركتُ خمسين مِنْ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/ 982)، وتتمته فيه:(إذا اختلفوا في شيء ردُّوه إلى ابن عباس". وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبدُ الرزاق، حدّثنا معمر، أخبرني ابنُ طاوس قال: قلت لأبي: أريدُ أن أتزوَّجَ فلانة. قال: اذهبْ فانظُرْ إليها. قال: فذهبتُ فلبستُ من صالح ثيابي، وغسلتُ رأسي، وادَّهَنْتُ، فلما رآني في تلك الحال قال: اجلسْ فلا تذهَبْ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10).).

وقال عبد الله بن طاوس: كان أبي إذا سار إلى مكةَ سار شهرًا، وإذا رجَعَ رجَعَ في شهر [ين]؛ فقلتُ له في ذلك، فقال: بلغني أن الرجلَ إذا خرج في طاعةٍ لا يزالُ في سبيلِ اللَّه حتى يرجعَ إلى أهله (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10)، وما بين معقوفين منه.).

وقال حمزة عن هلال بن كعب، قال: كان طاوسُ إذا خرج من اليمن لم يشربْ إلَّا من تلك المياهِ القديمةِ الجاهليَّة (أخرجه الإمام أحمد في الورع ص (28)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10).).

وقال له رجل: ادْعُ الله لي. فقال: ادعُ لنفسِك، فإنَّهُ يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه (أخرجه الخطيب في كتابه تلخيص المتشابه (1/ 220)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 289).). =

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال الطبراني: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا عبدُ الرزاق عن مَعْمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان رجلٌ فيما خلا من الزمان، وكان عاقلًا لبيبًا، فكَبِرَ، فقعَدَ في البيت، فقال لابنه يومًا: إني قد اغتممتُ في البيت، فلو أدخلتَ عليَّ رجالًا يكلِّمونني؟ فذهب ابنُهُ فجمَعَ نفرًا، فقال: ادخلوا على أبي فحدِّثوه، فإنْ سمعتمْ منه مُنكرًا فاعذُروه فإنَّه قد كَبر، وإنْ سمعتُم منه خيرًا فاقبلُوه. قال: فدخلوا عليه، فكان أولَ ما تكلَّم به أنْ قال: إنَّ أكْيَس الكَيْس التُّقَى، وأعجَزَ العَجْزِ الفُجور، وإذا تزوَّج الرجلُ فليتزوَّجْ من مَعْدِنٍ صالح، فإذا اطلعتمْ على فجرةِ رجلٍ فاحذروه، فإنَّ لها أخَوَات (أخرجه معمر بن راشد في الجامع (المصنف لعبد الرزاق)(11/ 455)، وأبو نعيم (4/ 8)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 366).).

وقال سلمة بن شبيب: حدّثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدّثنا عبد اللَّه بن عمرو بن مسلم الجَنَدي (في (ق):"عبد اللَّه بن عمر بن مسلم الجيري"، وفي الحلية:"عبد اللَّه بن عمر الجيزي" وكلاهما تصحيف، والمثبت من ترجمة أحمد بن نصر بن مالك في تهذيب الكمال (1/ 507) وترجمة عمرو بن مسلم (22/ 243)، والإكمال لابن ماكولا (2/ 220)، وتقريب التهذيب ص (427).)، عن أبيه، قال: قال طاوس لابنه: إذا أقبرتَني فانظُرْ في قبري، فإنْ لم تجدْني فاحمد اللَّه تعالى؛ وإنْ وجدتَني فإنَّا للّه وإنا إليه راجعون. قال عبدُ اللَّه: فأخبرني بعضُ ولدِهِ أنه نظَرَ فلم يرَهُ، ولم يجدْ في قبرِه شيئًا، ورُئي في وجهه السّرور (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 9).).

وقال قبيصة: حدثنا سفيان عن سعيد بن محمد قال: كان من دعاء طاوس يدعو: اللهمَّ احرِمني كثرةَ المالِ والولدِ، وارزُقْني الإيمانَ والعمل (ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 42).).

وقال سفيان عن معمر: حدّثنا الزهري قال: لو رأيتَ طاوسَ بنَ كيسان علمتَ أنه لا يكذب.

وقال عون بن سلام: حدّثنا جابر بن منصور - أخو إسحاق بن منصور - السَّلُولي عن عمران بن خالد الخُزاعي، قال: كنتُ جالسًا عند عطاء، فجاء رجل فقال: أبا محمد، إنَّ طاوسًا يزعُمُ أنَّ منْ صلَّى العشاء، ثم صلَّى بعِدَها ركعتَيْن يقرأ في الأولى: الم تنزِيل السجدة، وفي الثانية: تبارك الذي بيده الملك، كُتب له مثلُ وقوفِ عرفة، وليلةِ القدر. فقال عطاء: صدَق طاوس ما تركتُهما.

وقال ابنُ أبي السِّرِيّ: حدّثنا [عبد الرزاق، حدّثنا] معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان رجلٌ من بني إسرائيل، وكان ربما داوَى المجانين، وكانتِ امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجيءَ بها إليه، فتُركتْ عنده فأعجَبَتْه، فوقع عليها فحملَتْ، فجاءه الشيطانُ فقال: إنْ عُلم بها افتضحت، فاقْتُلها وادْفِنْها في بيتك، فقتَلَها ودَفَنها، فجاء أهلُها بعد ذلك بزمانٍ يسألونه عنها، قال: ماتَتْ. فلم يتهموهُ لصلاحِه ومنزلته، فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمتْ، ولكنْ قد وقَعَ عليها فحملَتْ، فقتلها ودفنها في بيته، في مكانِ كذا وكذا، فجاء أهلُها فقالوا: ما نتَّهمُك ولكنْ أخبرْنا أين دفنتَها، ومنْ كان معك؟ فنبشوا بيته فوجدوها حيث دفنها؟ فأخذوه، فحبسوه وسجنوه، فجاء الشيطان فقال: أنا صاحبك، فإن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر بالله، فأطاع الشيطان، فكفر باللّه عز وجل، فقُتل فتبرَّأ منه الشيطانُ حينئذٍ. وقال طاوس: ولا أعلمُ أنَّ هذه الَاية نزلَتْ إلَّا فيه وفي مثلِه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 7)، وما مرَّ بين معقوفين منه. وأخرجه أيضًا الطبري في تفسيره (28/ 50) في تفسير الآية، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 372)(5449) والمزي في تهذيب الكمال (13/ 364).).

وقال الطبراني: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن ابنِ طاوس عن أبيه. قال: كان رجلٌ من بني إسرائيل له أربعةُ بنين، فمرض، فقال أحدُهم: إمَّا أنْ تُمرِّضوا أبانا وليس لكم من ميراثِهِ شيء؛ وإمَّا أنْ أمرِّضَهُ وليس لي من ميراثه شيء. فمرَّضَهُ حتى مات، ودفنه ولم يأخذْ من ميراثِهِ شيئًا، وكان فقيرًا وله=

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عِيَال، فأتي في النوم، فقيل له: ائتِ مكانَ كذا وكذا فاحفِرْهُ تجدْ فيه مئة دينارِ فخُذْها. فقال للآتي في المنام: ببركةِ أو بلا بركة؟ فقال: بلا بركة. فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت: اذهَبْ فخُذْها، فإنَّ من بركتها أنْ تكسُوَني منها ونعيشُ منها؛ فأبَى وقال: لا آخذُ شيئًا ليس فيه بركة. فلما أمسى أُتي في منامه، فقيل له: ائتِ مكانَ كذا وكذا، فخذْ منه عشرةَ دنانير. فقال: ببركةٍ أو بلا بركة؟ قال: بلا بركة. فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالتْ له مثلَ ذلك، فأبى أنْ يأخذها، ثم أُتي في الليلةِ الثالثة، فقيل له: ائتِ مكانَ كذا وكذا فخذْ منه دينارًا، فقال: ببركة أو بلا بركة؟ قال: ببركة. قال. نعمْ إذًا. فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الذي أشير إليه في المنام فوجدَ الدينارَ فأخذه، فوجدَ صيَّادًا يحملُ حُوتَيْن، فقال: بكم هما؟ قال: بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار، ثم انطلَقَ بهما إلى امرأته فقامت تصلِحُهما، فشقَتْ بطنَ أحدِهما فوجدَتْ فيه دُرَّةً لا يقومُ بها شيء، ولم يرَ الناسُ مثلَها؛ ثم شقَّت بطنَ الآخر، فإذا فيه دُرَّةٌ مثلُها. قال: فاحتاجَ ملكُ ذلك الزمان دُرَّة، فبعث يطلبُهِا حيثُ كان ليشتريَها، فلم توجد إلا عندَه، فقال الملك: ائتِ بها، فأتاه بها، فلما رآها حلَّاها الله عز وجل في عينيه، فقال: بعْنيها. فقال: لا أنقصها عن وِقْر ثلاثينَ بغلًا ذهبًا، فقال الملك: ارضوه، فخرجوا به فوقَّروا له ثلاثين بغلًا ذَهبًا، ثم نظر إليها الملك فأعجبَته إعجابًا عظيمًا، فقال: ما تصلح هذه إلّا بأختِها، اطلبوا لي أُختها، قال: فأتوه، فقالوا له: هل عندَك أختها ونعطيك ضعفَ ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، فأتي الملك بها، فلما رآها أخذَتْ بقلبه فقال أرضوه، فأضعِفُوا له ضعفَ أختِها. والله أعلم (أخرج القصة معمر بن راشد في الجامع (المصنف لعبد الرزاق)(11/ 468، 469)(21027) وأبو نعيم في الحلية (4/ 8)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 208)(7923) والمزي في تهذيب الكمال (13/ 365).).

وقال عبد اللّه بن المبارك (في كتابه: "الزهد" ص (20)(59).). حدّثنا وُهَيب بن الوَرْد حدّثنا عبدُ الجبار بن الوَرْد (في الزهد: "أخبرنا وهيب بن الورد أو قال عبد الجبار بن الورد".)، قال: حدّثني داود بنُ شابور (في (ق): "سابور" بسين مهملة، والمثبت من مصادر التخريج وتقريب التهذيب ص (198).) قال: قلنا لطاوس: ادْعُ بدعوات. فقال: لا أجدُ لذلك حِسبة (وأخرجه أيضًا ابن سعد في الطبقات (5/ 241)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 364).).

وقال ابنُ جُريج (في (ق): "قال ابن جرير"، وهو تصحيف، والمثبت من مصادر التخريج.) عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: البُخْل أن يبخلَ الإنسانُ بما في يده؛ والشُّحُ أنْ يُحبَّ أن له ما في أيدي الناس بالحرام؛ لا يَقْنعْ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 6) والطبراني في تفسيره بنحوه (5/ 85) في تفسير الآية (36) من سورة النساء، وفيه:"والشح أن يشح على ما في أيدي الناس .. يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام"، ومثله القرطبي في تفسيره (18/ 30) في تفسير الآية (9) من سورة الحشر.).

وقيل: "الشُّحُّ هو تَرْكُ القناعة. وقيل: هو أن يَشُحَّ بما في يَدِ غيرِه. وهو مرضٌ من أمراضِ القلب، ينبغي للعبد أن يعزلَهُ عن نفسِه، ويَنْفيَهُ ما استطاع، وهو (يعني الشحَّ.) يأمرنا بالبُخْل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الشح فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ منْ كان قبلَكم، أمرَهُم بالبخلِ فبَخِلوا، وبالقطيعة فقطعوا" (أخرجه أحمد في المسند (2/ 159) وابن حبان (5176) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وللحديث تتمة فيهما، وهو حديث صحيح وروى أوله مسلم رقم (2578) وأحمد في المسند (3/ 323) من حديث جابر.). وهذا هو الحرْصُ على الدنيا وحُبِّها.

وقال ابنُ أبي شيبة (في المصنف (7/ 202)(35341) تحت عنوان: "كلام طاوس".): حدّثنا المحاربي عن لَيْث، عن طاوس، قال: ألا رجلٌ يقومُ بعشرِ آياتٍ من الليل، فيصبح قد كُتب له مئة حسنة أو أكثرُ من ذلك، =

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ومن زاد زِيدَ في ثوابه (وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 6).).

وقال قتيبة بن سعيد: حدّثنا سفيان بن عُيينة عن هشام بن حُجَير، عن طاوس، قال: لا يتمُّ نسك الشاب حتى يتزوَّج (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 6)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 165)(497)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 363).).

وعن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتَنْكِحَنَّ أو لأقولَنَّ لك ما قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: ما يمنعُك من النكاح إلا عَجْزٌ أو فُجور (أخرجه أبن أبي شيبة في مصنفه (3/ 453)(15910)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 170)(10384)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 6). وذكره ابن حجر في الإصابة (7/ 157) في ترجمة أبي الزوائد اليماني.).

وقال طاوس: لا يحرزُ دينَ المؤمنِ إلَّا حُفْرَتُهُ.

وقال عبدُ الرزاق عن معمر [عن] ابنِ طاوس أو غيره، أنَّ رجلًا كان يسيرُ مع طاوس، فسمع الرجل غرابًا يَنْعبُ، فقال: خير. فقال طاوس: أيُّ خيْرٍ عند هذا أو شَرّ!؟ لا تصحَبْني ولا تمشِ معي (أخرجه معمر بن راشد في الجامع (المصنف لعبد الرزاق)(10/ 406)(19513)، وأبو نعيم قي الحلية (4/ 4)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 362)، وما مرَّ بين معقوفين منها.).

وقال بشرُ بن موسى: حدّثنا الحميدي، حدّثنا سفيان عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: إذا غدا الإنسانُ اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسَلَّم نَكَص الشيطانُ وقال: لا مَقِيل؛ فإذا أُتي بغَدَائه فذكرَ اسمَ الله قال: لا غدَاء ولا مَقيل؛ فإذا دَخلَ ولم يسلِّم. قال الشيطان: أدرَكْنا المَقيل؛ فإذا أُتي بغَدائه ولم يذكرِ اللّهَ عليه قال الشيطان: مَقيلٌ وغَدَاء؛ وفي العشاء مثل ذلك. وقال: إنَّ الملائكة ليكتبونَ صلاةَ بني آدم: فلان زادَ فيها كذا وكذا؛ وفلان نقَصَ فيها كذا وكذا. وذلك في الركوع والخشوع والسجود (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 5)، وذكره المزي في تهذيب الكمال (13/ 362)، (363).).

وقال: لما خُلقتِ النار طارَتْ أفئدةُ الملائكة، فلما خُلق آدم سكنَتْ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 5)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 363).).

وكان إذا سَمعَ صوتَ الرعد يقول: سبحانَ منْ سبَّحَتْ له (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 27)، وعبد الرزاق في المصنف (11/ 89).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد لطاوس: يا أبا عبد الرحمن، رأيتُك تصلِّي في الكعبة والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك: اكشِفْ قناعَك، وبيِّنْ قراءتك. فقال له: اسكُتْ لا يسمع هذا منك أحَد. ثم تخيَّل إليَّ أن انبسَطَ في الحديث (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 5) بهذا اللفظ، وأخرجه بنحوه الدارمي في سننه (1/ 106)، والفاكهي في أخبار مكة (2/ 320).).

وقال أحمد (في كتابه الزهد ص (35).) أيضًا بهذا الإسناد: إنَّ طاوسًا قال لأبي نجيح: يا أبا نجيح، مَنْ قالَ واتَّقَى اللَّه خَيْرٌ ممن صمَتَ واتَّقى (أخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد ص (289)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 5).).

وقال مسعر عن رجل: إنَّ طاوسًا أتى رجلًا في السَّحَر فقالوا: هو نائم. فقال: ما كنتُ أرَى أن أحدًا ينامُ في السحر (تقدم في ص (68).).

وقال عبدُ اللَّه بن أحمد بن حنبل: حدّثنا محمد بن يزيد حدّثنا ابني مان عن مسعود

فذكره.

قال الثوري: كان طاوس يجلسُ في بيته، فقيل له في ذلك، فقال: حَيْفُ الأئمة وفسادُ الناس (أخرجه أبو نعيم=

ص: 73

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في الحلية (4/ 4)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 362).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبدُ الرزاق قال: أخبرني أبي، قال: كان طاوس يُصلِّي في غداةٍ باردةٍ مُغَيِّمة، فمرَّ به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبُها - وهو أخو الحجَّاج بن يوسف - وطاوس ساجد، والأمير راكبٌ في مركبه، فأمر بساجٍ أو طيلسانٍ مرتفع القيمة، فطُرح على طاوسَ وهو ساجد، فلم يرفع رأسَهُ حتى فرغ من حاجتِه، فلما سلم نظر فإذا الساجُ عليه، فاَنتفَضَ فألقاهُ عنه، ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه مُلْقَى على الأرض (أخرجه المزي في تهذيب الكمال (13/ 361، 362) وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 47).).

وقال نُعيم بن حماد: حدّثنا سفيان بن عيينة (في (ق): "حدثنا حماد بن عيينة" تصحيف والمثبت من الحلية وكتب الرجال.) عن ابن جريج، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس: ما من شيءٍ يتكلم به ابنُ آدم إلا كُتب عليه، حتى أنينه في مرضه؛ فلما مرض الإمامُ أحمد أنَّ، فقيل له: إنَّ طاوسًا كان يكرهُ أنينَ المرض؛ فتركه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 4)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 362).).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا الفضل بن دُكين، حدّثنا سفيان عن أبيه، عن داود بن شابور، قال: قال رجلٌ لطاوس: ادعُ الله لنا، فقال: ما أجدُ بقلبي خشيةً فأدعوَ لك.

وقال ابن طالوت: حدّثنا عبد السلام بن هاشم عن الحسن بن الحصين بن أبي الحُرّ العَنْبَري (في (ق)؛ "الحسنِ بن أبي الحصين العنبري"، وفي سير أعلام النبلاء:"الحر بن أبي الحصين" كلاهما تصحيف، والمثبت من تهذيب الكمال، وكتب الرجال.)، قال: مَرَّ طاوس بروَّاسٍ قد أخرج رؤوسًا، فغُشي عليه. وفي رواية: كان إذا رأى الرؤوس المشويَّة لم يتعشَّ تلك الليلة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 4)، وذكره الذهي في سير أعلام النبلاء (5/ 40)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 362).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا الأشجعي، عن سفيان الثوريّ، قال: قال طاوس: إنَّ المَوْتَى يُفْتنون في قبورهم سَغَبًا، وكانوا يستحبُّون أنْ يطعم عنهم تلك الأيام (ذكره السيوطي في الديباج (2/ 491)، وفيه:"في قبورهم سبعًا".).

وقال ابنُ إدريس: سمعت ليثًا يذكرُ عن طاوس، وذكر النساء فقال: فيهن كفر من مضى وكفر من بقى (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 11)، وابن أبي شيبة بنحوه في المصنف (4/ 46)(17643).).

وقال أبو عاصم عن زَمْعَة (في (ق): "بقية عن سلمة بن وهرام" وهو تصحيف، والمثبت من مصادر التخريج وترجمة كل من زمعة وسلمة في تهذيب الكمال (9/ 386 و 11/ 328).)، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس قال: كان يقال: اسجُدْ للقردِ في زمانِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 11)، والمزي في تهذيب الكمال (13/ 367).). أيْ أطِعْهُ في المعروف.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة (في المصنف (7/ 202)(35339).): حدّثنا أسامة، حدّثنا نافع بن عمر عن بشر بن عاصم، قال: قال طاوس: ما رأيتُ مثلَ أحدٍ أمِنَ على نفسه، ولقد رأيتُ رجلًا لو قيل لي: منْ أفضَلُ منْ تعرف؟ لقلت: فلانٌ ذلك الرجل، فمكَثْتُ على ذلك حينًا، ثم أخذهُ وجَعٌ في بطنه، فأصاب منه شيئًا استنضح بطنه عليه، فاشتهاه، فرأيته في نِطْع، ما أدري أيُّ طرفيْه أسرعُ، حتى مات عَرَقًا (وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 12).).

وروى أحمد حدّثنا هشيم قال أخبرنا أبو بشر عن طاوس أنه رأى فِتيةً من قريش يرفلون في مِشيتهم، فقال: إنكم لتلبسُونَ لبسةً ما كانتْ آباؤكم تَلْبَسُها، وتمشون مشيةً ما يُحسن الزَّفَّافون أنْ يمشوها (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 10)، وفيه:"تحسن الرقاص".). =

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال أحمد: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، أنَّ طاوسًا قام على رفيقٍ له مرض، حتى فاتَهُ الحجّ - لعله هو الرجلُ المتقدِّم قبلَ هذا استنضح بطنه -.

وقال مِسْعَر بن كِدَام عن عبد الكريم المعلم (في (ق): "عبد الكبير المعلم" وهو تصحيف، والمثبت من سنن سعيد بن منصور (1/ 194)، ومصنف ابن أبي شيبة (2/ 257)، ومصنف عبد الرزاق (2/ 488)، وشعب الإيمان للبيهقي (2/ 388)، وترجمته في الكنى والأسماء لمسلم (1/ 82)، والتاريخ الكبير (6/ 89)، والجرح والتعديل (6/ 59)، وهو عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري المعلم.)، قال طاوس: قال ابنُ عباس: سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أحسنُ قرأةً؟ قال:"منْ إذا سمعتَهُ يقرأ رأيتَ أنه يخشى اللَّه عز وجل"(إسناده ضعيف، وهذا الحديث لا يصح موصولًا؛ أخرجه موصولًا: أبو نعيم في الحلية 4/ 19 وفي أخبار أصبهان 2/ 90، والبيهقي في شعب الإيمان (1958). وأخرجه عن طاووس مرسلا: عبد الرزاق (4185)، وابن أبي شيبة 10/ 464، والدارمي 2/ 471، والبيهقي في الشعب (1959). وقال البزار عقيب إخراجه:"لم يتابع حميد على روايته هذه، إنما يرويه مسعر عن عبد الكريم عن مجاهد مرسلًا، ومسعر لم يحدث عن عبد اللَّه بن دينار بشيء، ولم نسمع هذا إلا من محمد بن معمر، أخرجه إلينا من كتابه"(كشف الأستار 2326). وقال ابن عدي عقيب ذكره لرواية ابن عباس هذه 2/ 693:"والصحيح مرسل عن طاووس

رواه أبو أسامة مرسلًا" (بشار). ورواه أيضًا ابن ماجه رقم (1339) من حديث جابرِ بن عبد اللَّه مرفوعًا، وإسناده ضعيف (ع).).

وقد رُوي هذا أيضًا من طريق ابنِ لهيعة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، قال: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أحسَنَ الناسِ قراءة منْ قرأ القرآنَ يتحزَّنُ به"(أخرجه من هذا الوجه الطبراني في الكبير (10852) وعنه أبو نعيم في الحلية 4/ 19، وإسناده ضعيف. وقد روي من طرق أخرى لا يفرح بمجملها فهي لا تخلو من ضعف. وينظر كلامنا في تاريخ الخطيب 4/ 341) (بشار).).

وعنه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: رآني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليَّ ثوبان معصفران، فقال:"أُمُّك أمرتك بهذا "؟ قلت: أغْسلْهما؟ قال: "بل أحْرِقْهما"(في (ق): "أحدهما" بدل "احرقهما"، وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم.). رواه مسلم في صحيحه (صحيح مسلم (2077) في اللباس والزينة: باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر.) عن داود بن رُشيد (في (ق): "داود بن راشد"، وهو تصحيف، والمثبت من صحيح مسلم.)، عن عمر بن أيُّوب، عن إبراهيم بن نافع، عن سليمان الأحْوَل، عن طاوسَ به.

ورَوَى محمد بن مسلم عن إبراهيم بن مَيْسَرة عن طاوس، عن ابن عمرو، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الجَلاوِزَةُ (في (ق):"الجلاوذة" بالذال المعجمة، وهو تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الحديث. والجَلاوِزَة: جمع جِلواز، وهو الشرطي.) والشُّرَطُ، وأعوانُ الظَّلمةِ، كلابُ النار". انفرد به محمد بن مسلم الطائفي (في (ق): "الطالقي"، وهو تصحيف، والمثبت من الحلية (4/ 1)، والإكمال لابن ماكولا (1/ 294)، وتقريب التهذيب ص (506). والحديث أخرجه الديلمي في الفردوس (2/ 118) (2621)؛ وأبو نعيم في الحلية (4/ 21) وقال: غريب من حديث طاوس؛ تفرد به محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم عنه. قال بشار: هو حديث موضوع، ساقه ابن الجوزي في الموضوعات 3/ 100.).

وقال الطبراني: حدّثنا محمد بن الحُسَين (في (ق): "محمد بن الحسن" تصحيف، والمثبت من كتب الرجال وهو شيخ للطبراني معروف.) الأنماطي البغدادي، حدّثنا عبد المنعم بن إدريس، حدّثنا أبي، عن وَهْب بن مُنَبِّه، عن طاوس عن أنس بن مالك قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لعليِّ بن أبي طالب:"يا عليّ، استكثر منِ المعارفِ من المؤمنين، فكم من معرفةٍ في الدنيا بركةٌ في الآخرة". فمضى عليٌّ فأقام حينًا لا يَلْقى أحدًا إلا اتخذهُ =

ص: 75

ترجمناهما

(1)

في كتابنا "التكميل" وللّه الحمد والمنّة.

‌ثم دخلت سنة سبع ومئة

فيها خَرَج باليمن رجلٌ يُقالُ له: عَبَّاد الرُّعَيْني، فدَعَا إلى مذهب الخوارج، واتَّبعه فرقةٌ من الناس، وحملوا، فقاتلهم يوسف بن عمر فقتله وقتَلَ أصحابَه، وكانوا ثلاث مئة، ولله الحمد.

وفيها وَقَعَ بالشام طاعونٌ شديد؛ وفيها غزا معاويةُ بن هشام الصائفة، وعلى جيش أهل الشام مَيْمون بن مِهْرَان، فقطعوا البحر، إلى قُبْرُص، وغزا مَسْلَمةُ في البَرّ في جيشٍ آخر.

وفيها ظَفِرَ أسَدٌ بن عبد اللَّه القَسْري بجماعةٍ من دعاةِ بني العباس بخراسان فصلبهم وأشهرهم.

وفيها غزا أسَدٌ القَسْريُّ جبالَ نُمْرود

(2)

، ملك الغَرْشِسْتان

(3)

مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نُمروذ وأسلم على يدَيْه.

وفيها غزا أسَدٌ الغَوْر - وهي جبالُ هَرَاة - فعَمَد أهلُها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم، فجعلوا ذلك كلَّه في كهفٍ مَنِيع، لا سبيلَ لأحدٍ، إليه، وهو مُسْتَفِلٌ

(4)

جدًّا، فأمر أسد بالرجال فجعلوا في توابيت، ودلَّاهم إليه، وأمرهم بوضع ما هنالك في التوابيت، فلما أخذ ما هنالك قعد الرجال في التوابيت، ورفعوهم، فسلموا وغنموا، وهذا رأيٌ سَديد.

= للآخرة، ثم جاء من بعد ذلك فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما فعلتَ فيما أمرتُكَ به "؟ قال: قد فعلتُ يا رسولَ الله. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اذهبْ فابْلُ أخبارَهم"، فذهب، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكِّسٌ رأسَه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو (كررت في (ق) العبارة:"اذهب فابل أخبارهم" وسقط منها لفظ "وهو"، فألجأت الناسخ إلى زيادة" فقال". والمثبت من الحلية.) يتبسَّم:"ما أحسبُ يا عليُّ ثبّتَ معَكَ الا أبناءُ الآخرة" فقال له علي: لا والذي بعثَكَ بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف 68 - 67] يا عليّ، أقبِلْ على شأنِك، وامْلِكْ لسانَك، وأغفل من (كذا في (ق)، وفي الحلية:"وأعقل من".) تعاشر من أهلِ زمانك تكنْ سالمًا غاذمًا" لم يُرْوَ إلا من هذا الوجه فيما نعلم واللّه أعلم] (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 22، 23)، وقال: غريب من حديث طاوس، لم نكتبه إلا من هذا الوجه (قال بشار: إسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان اليماني (ميزان 2/ 668) وأبوه إدريس بن سنان ضعيف). وهنا ينتهي القسم الذي زادته (ق) وهو محصور بين معقوفين فتح في ص (65) موضع الحاشية (4)، وأغلق هنا.).

(1)

في (ق):"وقد ترجِمناهم"، والمثبت من (ب، ح)، إشارة إلى سالم بن عبد الله وطاوس بن كيسان.

(2)

في تاريخ الطبري: نَمرون.

(3)

في (ق):"القرقيسيان" وهو تحريف، والمثبت من (ب، ح)، وتاريخ خليفة ص (337)؛ ومعجم البلدان (4/ 193)، وهي ولاية تقع بين هراة في غربيها، والغور في شرقيها، ومرو الروذ عن شماليها، وغزنة عن جنوبيها.

(4)

في (ق): "لأحد عليه، وهو مستعلٍ"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح).

ص: 76

وفيها أمر أسدُ بجمعِ ما حَوْلَ بَلْخ إليها؛ واستناب عليها بَرْمَك، والدَ خالدِ بن بَرْمك، وبناها بناءً جيدًا جديدًا محكمًا، وحصَّنها وجعَلَها مَعْقِلًا للمسلمين.

وفيها حجَّ بالناس إبراهيمُ بن هشام بن إسماعيل أمير الحرمين.

وممن توفِّي فيها من الأعيان:

سليمان بن يسَار أحَد التابعين

(1)

.

وعِكْرمة مولى ابن عباس

(2)

: أحدُ التابعين، والمفسِّرين المكثرين والعلماء الربَّانيِّين، والرحَّالين الجوَّالين

(3)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 174)، طبقات خليفة ص (274)، تاريخ خليفة ص (330 و 340)، التاريخ الكبير (4/ 41)، المعرفة والتاريخ (1/ 549)، الجرح والتعديل (4/ 149)، حلية الأولياء (2/ 190)، طبقات الفقهاء ص (60)، صفة الصفوة (2/ 82)، وفيات الأعيان (2/ 399)، مختصر تاريخ دمشق (10/ 192)، تهذيب الكمال (12/ 100)، تاريخ الإسلام (4/ 120)، سير أعلام النبلاء (4/ 444)، تذكرة الحفاظ (1/ 91)، الوافي بالوفيات (15/ ت 593)، طبقات الحفاظ ص (35). وما سيأتي هنا ليس في (ب، ح) أقحمته (ق) في المتن فوضعناه في الحاشية وهو: [هو أخو عطاء بن يسار، له رواياتٌ كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة؛ وكان من أحسنِ الناسِ وَجْهًا؛ تُوفِّي بالمدينة وعمره ثلاثٌ وسبعون سنة، دخلَتْ عليه امرأةٌ من أحسن الناسِ وجهًا، فأرادَتْهُ على نفسِها، فأبَى وتركها في منزلهِ وخرَجَ هاربًا منها، فرأى يُوسفَ عليه السلام في المنام، فقال له: أنتَ يوسف؟ فقال: نعم أنا يوسف الذي همَمْتُ، وأنت سُليمان الذي لم تَهُمَّ.

وقيل: إنَّ هذه الحكايةَ إنما وقعَتْ في بعضِ منازل الحُجَّاج، وكان معه صاحبٌ له، فبعثه إلى سوقِ الحُجَّاج ليشتريَ شيئًا، فانحطَّتْ على سليمان امرأة من الجَبَل حسناء، فقالت له: هَيْتَ لك، فبكى واشتدَّ بكاؤه، فلما رأَتْ ذلك منه ارتفعَتْ في الجبل؛ وجاء صديقُهُ، فوجده يبكي، فقال له: ما لك تبكي؟ فقال: خير، فقال: لعلك ذكرتَ بعضَ ولدِك أو بعضَ أهلك؟ فقال: لا. فقال: واللهِ لَتخبرَنِّي ما أبكاك أنت. قال: أبكاني حُزْني على نفسي، لو كنتُ مكانك لم أصبِرْ عنها. ثم ذكر أنه نام فرأى يوسفَ في منامه كما تقدَّم، والله أعلم].

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (2/ 385 و 5/ 278)، تاريخ ابن معين (2/ 412)، طبقات خليفة (280)، تاريخ خليفة ص (336)، التاريخ الكبير (7/ 49)، المعرفة والتاريخ (2/ 5)، الجرح والتعديل (7/ 7)، الثِّقات لابن حبان (5/ 229)، حلية الأولياء (3/ 326)، صفة الصفوة (2/ 103) المختار من مناقب الأخيار (4/ 10)، وفيات الأعيان (3/ 265)، مختصر تاريخ دمشق (17/ 140)، تهذيب الكمال (20/ 264)، سير أعلام النبلاء (5/ 12)، تذكرة الحفاظ (1/ 95)، العقد الثمين (6/ 123)، تهذيب التهذيب (7/ 263)، طبقات الحفاظ ص (37)، طبقات الشعراني (1/ 39).

(3)

هنا تبدأ زيادة نسخة (ق) وتنتهي في ص (84) قبل موضع الحاشية (1) وهي:

[وهو أبو عبد اللَّه، وقد روى عن خَلْقٍ كثيرٍ من الصحابة، وكان أحد أوعيةِ العلْم، وقد أفتى في حياةِ مولاهُ ابنِ عباس، قال عكرمة: طلبتُ العلم أربعين سنة. وقد طاف عكرمةُ البلاد، ودخل إفْريقيَةَ واليمن والشام والعراق وخُراسان، وبَثَّ عِلْمَه هنالك، وأخَذَ الصِّلاتِ وجوائزَ الأمراء، وقد روى ابنُ أبي شيبةَ عنه قال: كان ابن عباس يجعَلُ في رجلي الكَبْلَ يعلِّمُني القرآنَ والسُّنَن (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 326)، وأخرجه بإسناد آخر ابن=

ص: 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= سعد في الطبقات (5/ 287)، وذكره ابن حجر في فتح الباري (5/ 75).).

وقال حَبيب بنُ أبي ثابت: اجتمع عندي خمسةٌ لا يجتمع عندي مثلُهم أبدًا، عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد؛ فأقبل سعيدٌ ومجاهد يُلقيان على عكرمةَ التفسير، فلم يسألاه عن آيةِ إلَّا فسَّرَها لهما، فلما نَفِدَ ما عندهما جعل يقول: أنزلت آيةُ كذا في كذا، قال: ثم دخلوا الحمَّامَ ليلًا (ذكره المزي في تهذيب الكمال (20/ 273).).

قال جابر بن زيد: عكرمةُ أعلمُ الناس. وقال الشعبي، ما بقي أحدٌ أعلَمُ بكتاب اللَّه من عكرمة.

وروى الإمامُ أحمد عن عبد الصمد عن سلّام بن مسكين سمعت قتادة يقول: أعلمهم بالتفسير عكرمة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 326).).

وقال سعيد بن جبير نحوه.

وقال عكرمة: لقد فسَّرتُ ما بين اللوحين.

وقال ابنُ عُليَّة عن أيوب: سأل رجلٌ عكرمةَ عن آيةٍ فقال: نزلَتْ في سفح ذلك الجبل - وأشار إلى سَلْع (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 327)، والإمام أحمد في معرفة الرجال (2/ 387).) -

وقال عبد الرزاق عن أبيه: لما قدم عكرمةُ الجَنَد (في الحلية: "الحيرة"، والمثبت من (ق) وسير أعلام النبلاء (5/ 15)، وتهذيب الكمال (20/ 270) والمختار لابن الأثير (4/ 11). والجند: من أعمال اليمن، بينه وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخًا. انظر معجم البلدان (2/ 169).) حمله طاوس على نجيبٍ، فقال: ابتعتُ عِلْمَ هذا الرجل.

وفي رواية أن طاوسًا حمله على نجيبٍ ثمنهُ ستون دينارًا، وقال: ألا نشتري عِلْمَ هذا العبد بستين دينارًا (أخرجه الإمام أحمد في العلل ص (154)، وأخَرجه عنه الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص (155).).

ومات عكرمةُ وكُثَيِّرُ عَزَّة في يوم واحد، فأُخرجت جنازتُهما، فقال الناس: مات أفقهُ الناس وأشعَرُ الناس (أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 292)، وابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 35).).

وقال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلِقْ فأفْتِ الناس، فمنْ سألك عما يعنيه فأفتِه، ومنْ سألك عما لا يعنيه فلا تُفْتِه، فإنك تطرَحُ عني ثُلثَيْ مؤنةِ الناس (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 327).).

وقال سفيان عن عمرو قال: كنتُ إذا سمعتُ عكرمة يحدَثُ عن المغازي، كأنه مشرفٌ عليهم ينظرُ كيف يَصْنعون ويقتتلون (انظر تهذيب الكمال (20/ 272)، وسير أعلام النبلاء (5/ 16).).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدّثنا عبدُ الرزاق قال: سمعتُ معمرًا يقول: سمعتُ أيوب يقول: كنتُ أريدُ أنْ أرحلَ إلى عكرمة، إلى أُفقٍ من الآفاق، قال: فإني لفي سوق البصرة فإذا رجلٌ على حمار، فقيل: هذا عكرمة، قال: واجتمع الناسُ إليه فما قدَرْتُ أنا على شيءِ أسأله عنه، ذهبَتْ مني المسائل، وشردَتْ عني، فقمتُ إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه (ذكره المزي في تهذيب الكمال (20/ 274)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 18).).

وقال شعبةُ عن خالد الحَذَّاء، قال: قال عكرمة لرجلٍ وهو يسأله: ما لك أجبلتَ (في (ق): "أخبلت"، والمثبت من مصادر التخريج، والنهاية في غريب الحديث، وفيه:"ما لك أجَبلت؟ أي انقطعت، من قولهم أجبل الحافر، إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر، الذي لا يحيك فيه المعول".)؟ أي فُتنت (أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 291)، وفيه:"أجبلت يعني أكديت، أي نفد ما عندك"، والإمام أحمد في العلل ص (154)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 328)، وفيه:"ما لك أجبلت؟ قال: إني تعبت".).

ص: 78

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال زياد بن أبي أيوب: حدّثنا أبو ثُمَيلة، حدّثنا عبد العزِيز بن أبي رَوَّاد، قال: قلت لعكرمة بنيسابور: الرجل يريدُ الخلاء وفي إصبعه خاتمٌ فيه اسم الله؟ قال: يجعلُ فَصَّه في باطنِ يده ثم يقبِضُ عليه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 328).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أمية بن خالد قال: سمعتُ شعبة يقول: قال خالد الحذَّاء: كلُّ شيءٍ قال فيه محمد بن سيرين: نُبِّئتُ (في (ق): "ثبت"، تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.) عن ابن عباس؛ إنما سَمِعَهُ من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 328)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 334)، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 194) عن أمية به، وذكره المزي في تهذيب الكمال (25/ 348).).

وقال سفيان الثوري: خذوا المناسِكَ عن سعيد بن جُبير، ومُجاهد، وعِكْرمة.

وقال أيضًا: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.

وقال عكرمة: أدركتُ مئتينِ من أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد.

وقال محمد بن يوسف الفِرْيابي: حدّثنا إسرائيل عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، قال: كانتِ الخيلُ التي شغلتْ سليمانَ بن داود عليه السلام عشرين ألفًا فعقرَها (أخرجه محمد بن نصر بن الحجاج المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 102).).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساءِ:17]، قال: الدنيا كلُّها قريب، وكلُّها جهالة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 329).).

وفي قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83] قال: عند سلاطِينها وملوكِها؛ {وَلَا فَسَادًا} لا يعملون بمعاصي الله عز وجل، {وَالْعَاقِبَةُ} هي الجنة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 329، 330).).

وقال في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا ما وُعظوا. {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد. {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} أي تمادَوْا وأصرُّوا. {خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 - 166] صاغِرين. {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي من الأمم الماضية {وَمَا خَلْفَهَا} من الأمم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم {وَمَوْعِظَةً} [البقرة: 66] تقِي من اتعظ بها الشِّركَ والمعاصي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 331).).

وقال ابن عباس: إذا كان يومُ القيامة بعث اللَّه الذين اعتدوا، ويُحاسب الذين تركوا الأمر والنهي، كان المسخُ لهم عقوبةً في الدنيا حين تركوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 331).).

وقال عكرمة: قال ابنُ عباس: هلَك والله القومُ جميعًا، قال ابن عباس فالذين أمَروا ونَهوْا نجوْا؛ الذين لم يأمُروا ولم ينَهوْا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي. قال: وذلك أهلُ أيْلة - وهي قريةٌ على شاطِئ البحر - وكان الله قد أمر بني إسرائيلَ أن يتفرَّغوا ليوم الجمعة، فقالوا: بل نتفرَّغ ليوم السبت، لأنَّ اللَّه فرَغ من الخَلْق يومَ السبت، فأصبحتِ الأشياء مسبوتة (في الحلية "مستوية"، والخبر فيه (3/ 330).).

وذكروا (قوله: "ذكروا" لعله يشير إلى عكرمة وابن عباس ومن روى عنهما في الخبر السابق؛ لأن ما جاء هنا متصل بالخبر السابق كما في الحلية.) قصة أصحاب السبت، وتحريمِ الصيد عليهم، وأنَّ الحيتانَ كانتْ تأتيهم يومَ السبت ولا تأتيهم في غيره من الأيام، وذكروا احتيالَهَم على صيدِها في يوم السبت، فقال قوم: لا ندَعُكم تصيدون في يوم السبت، ووعظوهم، فجاء قومٌ آخرون مداهِنون فقالوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} قال الناهون: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] أي ينتهون عن الصيد في يوم السبت =

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (انظر الحلية (3/ 330، 331).).

وقد ذكر عكرمةُ أنه لما قال لابن عباس: إنَّ المداهنين هلكوا مع الغافلين؛ كساه ثوبَيْن (انظر الحلية (3/ 331).).

وقال جَرير (في (ق): "حوثرة عن مغيرة"، وهو تصحيف، والمثبت من حلية الأولياء (3/ 331)، وكتب الرجال.): عن مُغيرة، عن عكرمة، قال: كانتِ القضاةُ ثلاثة - يعني في بني إسرائيل - فمات واحد، فجعل الآخر مكانه، فقَضَوا ما شاء الله أن يَقْضُوا، فبعث الله ملَكًا على فرس، فمرَّ على رجلٍ يَسْقي بقرًة معها عِجْل، فدعا المَلكُ العجلَ، فبغ العجلُ الفرس، فجاء صاحبه ليردَّه فقال: يا عبد الله! عِجْلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمَهُ حتى أعياه، فقال: القاضي بيني وبينك. قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة فتكلَّم صاحبُ العِجْلِ فقال له: مَرَّ بي على فرس، فدعا عِجْلي فتبعَهُ، فأبى أنْ يردَّه. قال: ومع الملك ثلاثُ دُرَّاتٍ لم ير الناسُ مثلها، فأعطى القاضيَ دُرَّةً وقال: اقضِ لي. فقال: كيف يَسُوغُ هذا؟ فقال: نرسل العِجْلَ خلفَ الفرس والبقرة، فأيهما تبعها فهو ابنُها. ففعل ذلك، فتبع الفرس فقضَى له. فقال صاحبُ العِجْل: لا أرضَى، بيني وبينك القاضي الآخر. ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصَّا عليه قصتهما، وناوله الملَكُ الدَّرَّة الثالثة فلم يأخُذْها. وقال: لا أقضي بينكما اليوم. فقالا: ولم لا تقضي بيننا؟ فقال: لأني حائض، فقال الملَكُ: سبحان الله!! رجلٌ يحيض!؟. فقال القاضي: سبحان الله! وهل تُنتِجُ الفرَسُ عِجلًا؟ فقضَى لصاحبِ البقرة. فقال الملك: إنكم إنما ابتُليتم، وقد رَضيَ الله عنك وسخِطَ على صاحبَيْك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 331، 332).).

وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حمزة الثُّمَالي، عن عكرمة، أنَّ مَلِكًا من الملوك نادَى في مملكته: إني إنْ وجدتُ أحدًا يتصدَّق بصدقةٍ قُطعتْ يدُه. فجاء سائلٌ إلى امرأة فقال: تصدقي عليَّ بشيء. فقالت: كيف أتصدَّق عليك والملكُ يقطعُ يَدَ منْ يتصدَّق؟ قال: أسألكِ بوجهِ اللهِ إلَّا تصدقتِ عليَّ بشيءٍ، فتصدقَتْ عليه برغيفَيْن، فبلغ ذلك الملك، فأرسل إليها فقطع يدَيْها، ثم إنَّ الملك قال لأمه: دُلِّيني على امرأة جميلةٍ لأتزوَّجَها. فقالت: إنَّ هاهنا امرأةً ما رأيتُ مثلها، لولا عَيْبٌ بها. قال: أيُّ عيبٍ هو؟ قالت: مقطوعة اليدَيْن. قال: فأرسلي إليها. فلما رآها أعجَبتْه - وكان لها جمال - فقالتْ: إن الملك يُريد أن يتزوَّجك: قالت: نعم إنْ شاء الله، فتزوَّجها وأكرَمها، فنهَدَ إلى الملكِ عدوٌّ فخرج إليهم (من المناهدة في الحرب، وهي المناهضة؛ ونهد القوم لعدوهم: أي صمدوا. اللسان (نهد).)، ثم كتَبَ إلى أُمِّه: انظري فلانة فاستوصي بها خيرًا، وافعلي وافعلي معها، فجاه الرسولُ فنزل على بعضِ ضَرَائرها فحسَدْنَها، فأخَذْنَ الكتابَ فغَيَّرْنَه وكتَبْنَ إلى أمه: انظري فلانة، فقد بلغني أنَّ رجالًا يأتونها، فأخرجيها من البيت وافعلي وافعلي. فكتبت إليه الأمُّ: إنك قد كذبتَ، وإنها لامراْةُ صِدْق، فذهب الرسول إليهن فنزَلَ بهنَّ فأخَذْنَ الكتاب فغيَّرْنَهُ، فكتبنَ إليه: إنها فاجرة وقد ولدَتْ غلامًا من الزنا، فكتب إلى أمه، انظري فلانة فاجعلي ولدَها على رقبتها واضربي على جيبها وأخرجيها. قال: فلما جاءها الكتاب قرَأتْهُ عليها وقالت لها: اخرجي. فجعلتِ الصبيَّ على رقبتَها وذهبَتْ، فمرَّتْ بنهرٍ وهي عطشانة، فنزلتْ لتشربَ والصبيُّ على رقبتها، فوقع في الماء فغرِق، فجلسَتْ تبكي على شاطئ النهر، فمرَّ بها رجلان فقالا: ما يُبكيك؟ فقالت: ابني كان على رقبتي، وليس لي يدان، فسقط في الماء فغرِق. فقالا لها: أتحبِّينَ أنْ يردَّ الله عليك يديك كما كانتا؟ قالتْ: نعم. فدَعَوا الله ربَّهما لها فاستوَتْ يداها، ثم قالا لها: أتدرين منْ نحن؟ قالتْ: لا. قالا: نحن الرغيفانِ اللذانِ تصدَّقتِ بهما (أخرج القصة أبو نعيم في الحلية (3/ 332، 333).).

وقال في قوله: {طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] قال: طيرٌ خرجَتْ من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع، فلم تَزَلْ =

ص: 80

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ترميهم حتى جدرَتْ جلودَهم، وما رُئي الجُدَريُّ قبلَ يومئذٍ، وما رُئي الطيرُ قبل يومئذٍ ولا بَعْدُ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 333)، وفيه تتمة.).

وفي قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]، قال: لا يقولون لا إله إلا اللَّه. وفي قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] قال: من يقول لا إله إلا اللَّه. وفي قوله: {هلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18] إلى أنْ تقول لا إله إلا الله. وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] على شهادةِ أنْ لا إله إلا اللَّه. وفي قوله. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أليس منكم من يقول: لا إله إلا الله. وفي قوله: {وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] قال: لا إله إلا الله. وفي قوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَاد} [آل عمران: 194] لمن قال: لا إله إلا الله (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 333، 334).).

وفي قوله: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] على من لا يقول: لا إله إلا الله (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 334).).

وفي قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قال: إذا غضبت (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 334).).

[وفي قوله:]{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، قال: السَّهَر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 334).).

وقال: إنَّ الشيطانَ لَيُزَيِّنُ للعبد الذنب، فإذا عمِلَه تبرَّأ منه، فلا يزالُ يتضرَّعُ إلى ربِّه ويتمَسْكن له ويبكي حتى يغفرَ الله له ذلكَ وما قبلَه.

وقال: قال جبريلُ عليه السلام: إنَّ ربِّي ليبعَثُني إلى الشيء لأمضِيَه فأجدُ الكونَ قد سبقَني إليه. وسُئل عن الماعون، قال: العاريَّة: قلتُ: فإنْ منع الرجلُ غربالًا أو قِدْرًا أو قَصْعةً أو شيئًا من متاع البيت فله الوَيْل؟ قال: لا، ولكن إذا سَهَا (في (ق):"إذا نهِى"، والمثبت من الحلية، ولكن فيه كتبت الألف على شكل الياء هكذا "سهى".) عن الصلاةِ ومنَعَ الماعونَ فلهُ الوَيْل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 335).).

وقال: البضاعةُ المُزْجاة: التي فيها تَجوُّز. وقال: السائحون: همْ طلبة العلم. وقال: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] قال: إذا دخل الكفار القبور، وعاينُوا ما أعدَّ اللَّه لهم من الخِزْي، يئسوا من نعمةِ الله.

وقال غيره: {يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي من حياتهم وبعثهم بعدَ موتهم.

وقال: كان إبراهيمُ عليه السلام يُدْعَى (في الحلية:"يكنى".) أبا الضَّيفان؛ وكان لقصرِه أربعةُ أبواب لكيلا يفوتَهُ أحد. وقال: أنكالًا، أيْ قيودًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 336).).

وقال في كاهِن سَبَأ: إنه قال قومه لما دنا منهم العذاب: منْ أراد سفرًا بعيدًا وحملًا شديدًا، فعليه بعُمَان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببُصْرى - يعني الشام - ومن أراد الراسخاتِ في الوَحْل، والمقيماتِ في المَحْل، فعليه بيثرب ذاتِ النَّخْل. فخرج قومٌ إلى عُمان، وقومٌ إلى الشام، وهم غسَّان، وخرج الأوْس والخَزْرَج - وهم بنو كعبِ بن عمرو - وخُزَاعة حتى نزلوا يثرب، ذاتِ النَّخْل، فلما كانوا ببطْنِ مَرّ قالتْ خُزَاعة: هذا موضعُ صالح لا نريدُ به بَدَلًا، فنزلوا، فمن ثمَّ سُميتْ خُزَاعة، لأنهم تخزَّعوا من أصحابهم. وتقدَّمتِ الأوسُ والخزرجُ حتى نزلوا بيثرب (أخرجه مطولًا أبو نعيم في الحلية (3/ 336، 337).).

وقال الله عز وجل ليوسفَ عليه السلام يا يوسف! بعفوك عن إخوتك رفعتُ لك ذِكرَك مع الذاكرين (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 337).).

وقال: قال لقمان لابنه: قد ذقتُ المرار فلم أذُقْ شيئًا أمرَّ من الفقر، وحملتُ كلَّ حملٍ ثقيل فلم أحملْ أثقل من=

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=جارَ السَّوْء. ولو أن الكلام من فضَّة لكان السكوتُ من ذهب. رواهُ وكيع بن الجرَّاح عن سفيان عن أبيه عن عكرمة.

{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال: ما وقع شيءٌ "منها إلَّا في عَيْنِ رجل منهم.

وقال: في قوله تعالى: {زَنِيمٍ} [القلم: 13] هو اللئيم الذي يُعرف للؤمه كما تُعرف الشاةُ بزَنَمتِها (اْخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 337، 338).).

وقال في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] قال: هم أصحاب التصاوير (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 338).).

{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 14] قال: لو أن القلوب تحرَّكتْ أو زالَتْ لخرجت نفسه، وإنما هو الخَوْفُ والفَزَع.

{فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] أي بالشهوات. {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالتَّوبة. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي التَسْويف {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّه} الموت {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 338).).

وقال: من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزَلْ ذلك اليوم في سرور حتى يُمسي.

قال سلمة بن شَبيب (في (ق): "سلمة بن شعيب" تصحيف، والمثبت من الحلية وكتب الرجال منها الجرح والتعديل (2/ 94) في ترجمة إبراهيم بن الحكم، وتهذيب الكمال (11/ 284) في ترجمته.): حدَّثنا إبراهيمُ بن الحكم عن أبيه عن أبان، قال: كنتُ جالسًا مع عكرمة عند البحر (في الحلية.: "مع عكرمة عند منزل ابن داود، وكان عكرِمة نازلًا مع ابن داود نحو الساحل".) فذكروا الذين يغرقون في البحر، فقال عكرمة: الذين يغرقون في البحار تقتسِمُ لحومَهم الحِيتانُ فلا يَبْقَى منهم شيءٌ إلَّا العظام، حتى تصيرَ حائلًا نَخرةً، فتمرُّ بها الإبلُ فتأكلُها، ثم تسيرُ الإبلُ فتَبْعَرها، ثم يَجيء بعدَهم قوم فينزلون ذلك المنزِل، فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه، ثم يصيرُ رَمادًا فتَجِيءُ الريحُ فتأخذه فتُذْريه في كلِّ مكان من الأرض، حيث يشاءُ الله من بَرِّهِ وبحرِه، فإذا جاءتِ النفخة - نفخة المبعث - فيخرج أولئك وأهلُ القبور المجموعين سَوَاء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 339، 340) مطولًا.).

وبهذا الإسناد عنه قال: إنَّ الله أخرَجَ رجُلَيْنِ، رجلًا من الجنة ورجلًا من النار، فقال لصاحب الجنة: عَبدي! كيف وجدتَ مَقِيلك؟ قال: خيرَ مَقيل. ثم قال لصاحب النار: عبدي كيف وجدتَ مَقيلك؟ فقال: شرَّ مَقيل قالَهُ القائلون. ثم ذكر من عقاربها وحيَّاتها وزنابيرها، ومن أنواع ما فيها من العذاب وألوانه، فيقول الله تعالى لصاحب النار: عبدي! ماذا تُعطيني إن أنا أعفَيْتُكَ من النار، فيقول العبدُ: إلَهي، وماذا عندي ما أعطيك؟ فقال له الربُّ تعالى: لو كان لك جبلٌ من ذهب، أكنتَ تُعطيني فأعفِيَكَ من النار؟ فقال: نعم. فقال له الرب: كذبتَ، لقد سألتُكَ في الدنيا ما هو أيسَرُ من ذلك! تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فاغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكنتَ تتولَّى ذاهبًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 340).).

وبهذا الإسناد قال: ما من عبدٍ! يُقرِّبهُ اللَّه عز وجل يومَ القيامة للحساب إلَّا قام من عند الله بعفوه.

وبه عنه: لكلِّ شيءٍ أساس، وأساسُ الاسلام الخُلُق الحسَن.

وبه عنه قال: شكا نبيٌّ من الأنبياء إلى ربِّهِ عز وجل الجوعَ والعُري، فأوْحى الله إليه: أما تَرْضَى أني سدَدْتُ عنك باب الشِّرْك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 341)، وفي (ق):"الشر الناشئ عنها" بدل "الشرك" وهو تحريف وزيادة من الناسخ. والمثبت من الحلية.).

وبه عنه قال: إنَّ في السماء ملكًا يقالُ له إسماعيل، لو أذنَ الله له بفتح أُذُنٍ من آذانه يُسبِّح الرحمنَ عز وجل=

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لمات من في السموات والأرض (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 341).).

وبه عنه قال: سَعةُ الشمس سعةُ الأرضِ وزيادة ثلاث مرَّات، وسعة القمر سعة الأرض مرَّة؛ وإنَّ الشمسَ إذا غرَبَتْ دخلَتْ بحرًا تحت العرش، تُسَبِّحُ اللَّه، حتى إذا أصبحَتْ استعفَتْ ربَّها تعالى من الطلوع، فيقول لها: ولم ذاك - وهو أعلم - فتقول: لئلا أُعْبَدَ من دونِك. فيقول لها: اطلعي فليس عليك شيء من ذلك؛ حَسْبُهم جهنم أبعثها إليهم مع عشرةِ آلافِ مَلَكٍ يقودونها حتى يُدخلوهم فيها (في (ق): "مع ثلاث عشرة ألف ملك تقودها"، وهو تحريف وتصحيف، والمثبت من الحلية.) وهذا خلافُ ما ثبتَ في الحديث الصحيح "إنَّ جهنم يُؤْتى بها تُقاد بسبعين ألفِ زِمام، مع كل زِمام سبعونَ ألفَ ملك"(أخرجه مسلم في صحيحه (2842) في الجنة وصفة نعيمها: باب في شدة حر جهنم، والترمذي (2573) في صفة جهنم: باب ما جاء في صفة النار، عن عبد الله بن مسعود.).

وقال مَنْدَل عن أسد بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:"لا يَقفَنَّ أحَدُكم على رَجُل يُضربُ ظلمًا، فإنَّ اللعنةَ تنزِلُ من السماء على منْ يَحْضُره إذا لم تدفعوا عنه. ولا يقفَن أحَدُكم على رجل يُضربُ ظلمًا، فإنَّ اللعنةَ تنزلُ من السماء على منْ يَحْضُره إذا لم تدفعوا عنه. ولا يقفنَّ أحَدُكم على رجلِ يُقتل ظلمًا، فإنَّ اللعنة تنزِلُ من السماء على منْ يحضُرُه إذا لم تدفعوا عنه". لم يرفعه إلَّا مَنْدَلٌ هذا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 345) وقال: "غريب من حديث أسد وعكرمة، لم يروه عنه فيما أعلم إلا مندل بن علي العنبري" وقال فيه ابن حجر في التقريب ص (545): ضعيف.).

وروى شُعبة عن عمارة بن أبي حَفْصَة، عن عكرمة، عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان إذا عطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بثوْبه، ووضَعَ يدَيْه على حاجِبَيْه (إسناده ضعيف، وهو غريب من هذا الوجه كما قال أبو نعيم في الحلية 3/ 346. لكن ورد الحديث بإسناد حسن من طريق أبي صالح عن أبي هريرة، أخرجه أحمد في مسنده 2/ 439 وأبو داود (5039)، والترمذي (2745) وغيرهم، ولفظه عند الترمذي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه وغص بها صوته" وليس عندهم ذكر الحاجبين، وقال الترمذي:"حسن صحيح"، وإنما صححه لأن محمد بن عجلان ثقة عنده. وانظر تمام تخريجه في تعليقنا على جامع الترمذي 4/ 461 من طبعتنا (بشار).).

هذا حديثٌ عالٍ من حديثِ شُعبة.

وروى بقية عن إسحاق بن مالك الحَضْرَميّ، عن عكرمة، عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"منْ حَلَفَ على أحدٍ يمينًا، وهو يَرَى أنه سيبرُّه فلم يفعلْ، فإنما إثمُهُ على الذي لم يبَرَّه"(أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 346)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 41)، وساقه الذهبي في الميزان (1/ 349) وابن حجر في لسانه (1/ 370) وقالا: إسحاق بن مالك الحضرمي شامي هو من شيوخ بقية. قال الأزدي: ضعيف. وذكر الحديث، وبقية بن الوليد ضعيف أيضًا، كما في تحرير التقريب.). تفرد به بقيَّةُ بن الوليد مرفوعًا.

وقال عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه (الذي في مسند أحمد (6/ 147): حدّثني أبي حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا شعبة عن عمارة فذكره. وأما بهذا الإسناد فقد أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (16). وأخرجه أيضًا بإسنادهم إلى عمارة، به كل من الحاكم في المستدرك (2/ 28)، والترمذي (3/ 518)(1213) باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، وإسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 624)(1200)، وهو حديث صحيح.): حدّثنا عبيد اللَّه بن عمر القواريري حدّثنا يزيد بن زُريع (في (ق): "يزيد بن ربيع" تصحيف، والمثبت من مصادر التخريجِ السالفة الذكر.) حدّثنا عُمارة بن أبي حفصة، حدّثنا عكرمة، حدّثتنا عائشة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان عليه بُرْدَان قطرِيَّان، خَشِنَانِ غَلِيظان، فقالتْ عائشة: يا رسول اللَّه، إنَّ ثوبيك هذين غَليظانِ

ص: 83

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق

(1)

: كان أحدَ الفقهاء المشهورين.

وكُثَيِّر عَزَّةَ، الشاعر المشهور

(2)

: وهو كُثَيِّرُ بنُ عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، أبو صخر الخُزَاعيُّ الحجازيّ، المعروف بابن أبي جُمعهْ، وعَزَّةُ هذه المشهورُ بها المنسوب هو إليها، لِتَغَزُّله فيها، هي أم عمرو عزَّة - بالعين المهملة - بنتُ جَميل بن حَفْص، من بني حاجب بن غِفَار، وإنما صُغِّر اسمُه، فقيل كُثَيِّر، لأنه كان دَميمَ الخَلْق قصيرًا، طولُه ثلاثةُ أشبار.

قال ابنُ خِلِّكان

(3)

: كان يقالُ له زُبّ الذباب.

وكان إذا مَشَى يُظنُّ أنه صغيرٌ من قِصَره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له: طأطئ رأسَك لا يؤذيك السقف؛ وكان يضحكُ إليه، وكان يَفِد على عبدِ الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرَّاتٍ، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان يقال: إنه أشعر الإسلاميين، على أنه كان فيه

= خَشِنان، تَرْشحُ (ترشح: تعرق.) فيهما فيثقلان عليك. فأرسِلْ إلى فلان فقد أتاه بُرُدٌ من الشام فاشترِ منه ثوبَيْنِ إلى مَيْسرة. فأرسَلَ إليه، فأتاه الرسول فقال: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث إليك لتبيعَهُ ثوبَيْنِ إلى مَيْسَرة؟ فقال: قد علمتَ والله، ما يريدُ نبيُّ الله إلا أنْ يذهبَ بثوبيَّ ويُمْطِلُني بثمنهما، فرجَعَ الرسولُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم:"كذبَ! قد علموا أني أتْقَاهُم الله، وآداهُمْ للأمانة".

وفي هذا اليوم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لأن يَلْبَسَ أحدُكم من رِقاع شَتَّى خيرٌ له من أن يستدينَ ما ليس عندَه"(لعل هذا القول"في مثل هذا اليوم" لأبي نعيم في الحلية (3/ 347)، والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 243)، وابن أبي عاصم في الزهدص (26)، والديلمي في مسند الفردوس (5/ 169) (7848)؛ قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 377) بعد سياق الحديث: حديث منكر وسليمان بن سليم وسفيان الزيات مجهولان.).

واللّه سبحانه أعلم] (هنا تنتهي الزيادة التي ابتدأت في الصفحة (77) في موضع الحاشية (3).).

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 187)، التاريخ الكبير (7/ 157)، رجال صحيح البخاري للكلاباذي (2/ 616)، تهذيب الكمال (23/ 427)، رجال مسلم لأبي بكر بن منجويه (2/ 140)، تذكرة الحفاظ (1/ 96)، سير أعلام النبلاء (5/ 53). وما سيأتي هنا زيادة من (ق) أقحمت على المتن وضفناه هنا وهو:[له رواياتٌ كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضلِ أهلِ المدينة، وأعلم أهلِ زمانه، قُتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذَتْهُ خالته، فنشأ عندَها، وساد، وله مناقبُ كثيرة. وأبو رجاء العُطاردي](ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 138)، رجال صحيح البخاري (2/ 572)، التاريخ الكبير (6/ 410)، الجرح والتعديل (6/ 303)، الاستيعاب (4/ 1657) رجال مسلم (2/ 93)، سير أعلام النبلاء (4/ 253)، الثقات لابن حبان (5/ 217)، طبقات الحفاظ ص (32).).

(2)

ترجمته في طبقات ابن سلام ص (457)، الشعر والشعراء ص (410)، الأغاني (9/ 5)، معجم الشعراء ص (250)، شرح ديوان الحماسة (3/ 140)، وفيات الأعيان (4/ 106)، سير أعلام النبلاء (5/ 152)، خزانة الأدب (2/ 381).

(3)

في وفيات الأعيان (4/ 113)، وصحف في (ق):"رب الدبان"، وفي (ب، ح) على الصواب.

ص: 84

تشيُّع، وربما نسبه بعضُهم إلى مذهب التناسخيَّة، وأنه كان يحتجُّ على ذلك - من جهلِهِ وقِلَّةِ عقلهِ إنْ صحَّ النقلُ عنه - بقوله تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، وقد استأذن يومًا على عبد الملك، فلما دخل عليه قال عبد الملك: تَسمَعُ بالمعيدي خيرٌ من أنْ تراه، فقال: مَهْلًا

(1)

يا أمير المؤمنين إنما المرءُ بأصغَريْه قلبِهِ ولسانِهِ، إنْ نطَقَ نطَقَ ببيان، وإنْ قاتل قاتل بجَنَان، وأنا الذي أقول

(2)

:

وجربتُ الأمورَ وجرَّبتْني

وقدْ أبدَتْ عَريكتيَ الأمورُ

وما تَخْفَى الرجالُ عليَّ أني

بهمْ لأخو مُثَاقَفَةٍ خَبيرُ

ترى الرجلَ النحيفَ فتزدَريهِ

وفي أثوابهِ أسَدٌ يَزِير

(3)

ويعجبكَ الطريرُ فتجتبيه

(4)

فيخلفُ ظنكَ الرجلُ الطريرُ

وما عِلْم

(5)

الرجالِ لها بزَيْنٍ

ولكنْ زَيْنُها كرَمٌ وخير

(6)

بُغاثُ الطير أطولها جسومًا

ولم تطُلِ البُزَاةُ ولا الصُّقورُ

وقدْ عَظُمَ البعير بغيرلبٍّ

فلم يستغن بالعِظَمِ البَعيرُ

فيُركَبُ ثم يُضربُ بالهرَاوَى

ولا عُرْفٌ لديهِ ولا نَكيرُ

وعودُ النَّبْعِ ينبُتُ مستمرًّا

وليسَ يطولُ والعَضْباءُ حُورُ

وقد تكلم أبو الفرج بن طَرَارا

(7)

على غريب هذه الحكاية وشر ها بكلامٍ طويل، قالوا: ودخل كُثَيِّر عزَّةَ يومًا على عبدِ الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

على ابن أبي العاصي دُروعٌ حصينةٌ

أجاد المُسَدِّي سَرْدَها وأذَالَها

(8)

(1)

في (ق): "حيهلا"، تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، والمنتظم.

(2)

كذا في الأصول، والمنتظم (7/ 104)، والقصيدة تنسب للعباس بن مرداس ما عدا الأبيات الأول والثاني والأخير، وهي في ديوانه ص (172)، ونسب بيتان منها لعمرو بن قميئة في ديوانه ص (130).

(3)

في (ق): "زئير"، والمثبت من (ب، ح). والبيت في اللسان منسوب للعباس أيضًا ومعنى "يزمر" مضارع زأرَ، وهو أن يردد صوته في جوفه.

(4)

في (ق، ب):"فتختبره"، وفي ديوان العباس:"فتبتليه"، والمثبت من (ح).

(5)

في بعض النسخ: وما عِظَم، وفي بعضها: وما هام.

(6)

في (ق):"دين وخير"، والمثبت من (ب، ح)، وديوان العباس.

(7)

في (ق): "طرار" تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته، وهو أبو الفرج المعافي بن زكريا الجريري المعروف بابن طرارة أو طرارا - كما ذكره محمد بن عبد الغني البغدادي في تكملة الإكمال (4/ 17) ولعله ذكر ذلك في كتابه الجليس الصالح الكافي.

(8)

البيت في ديوان كثير ص (145)، وفيه:"دِلاصٌ حصينة". ومعنى أذالها: أطال ذيلها واستشهد بهذا البيت على هذا المعنى صاحب لسان العرب في مادة (ذيل).

ص: 85

قال له عبد الملك: أفلا قُلْت كما قال الأعشى لقيس بن مَعْدِيكَرِب:

وإذا تجيءُ كتيبةٌ مَلْمُومةٌ

شَهْباءُ يَخْشَى الذائدونَ صِيَالَها

(1)

كنتَ المقدَّم غيرَ لابسِ جُنَّةٍ

بالسيفِ تَضْرِبُ مُعْلمًا أبطالَها

(2)

فقال: يا أمير المؤمنين وصفَهُ بالخَرَق ووصفتُك بالحَزْم.

ودخل يومًا على عبدِ الملك وهو يتجهَّزُ للخروج إلى مُصعب بن الزُّبير فقال: وَيْحك يا كُثَيِّر، ذكرتك الآنَ بشعرِك، فإنْ أصبتَهُ أعطيْتُكَ حكمك. فقال: يا أمير المؤمنين، كأنَّك لما ودَّعتَ عاتكةَ بنت يزيد بكَتْ لفراقِك فبكَى لبكائها حشَمُها فذكرتَ قولي:

إذا ما أرادَ الغَزْوَ لم تَثْنِ عَزْمهُ

حَصَانٌ عليها نَظْمُ دُرٍّ يَزينُها

نهَتْهُ فلمَّا لم ترَالنَّهيَ عاقَهُ

بكَتْ فبكى ممَّا عَرَاها قَطينُها

(3)

قال: أصبتَ فاحتكِمْ، قال: مئة ناقة من نُوقك المختارَة. قال: هي لك. فلما سار عبدُ الملك إلى العراق نظرَ يومًا إلى كُثَيِّر عزَّةَ وهو مفكِّرٌ في أمره فقال: عليَّ به. فلما جيء به قال له: أرأيتَ إنْ أخبرتُك بما كنتَ تفكِّر به تُعطيني حُكْمي؟ قال: نعم. قال: واللّه! قال: واللّه. قال له عبد الملك: إنك تقولُ في نفسك: هذا رجلٌ ليس هو على مذهبي، وهو ذاهبٌ إلى قتالِ رجلٍ ليس هو على مذهبي، فإنْ أصابَني سَهْمٌ غَرْبٌ من بينهما خَسِرْتُ الدنيا والآخرة. فقال: إي واللّه يا أمير المؤمنين فاحتكمْ، قال: أحتكمُ حُكْمي أنْ أرُدُّك إلى أهلك وأُحسنُ جائزتَك. فأعطاهُ مالًا وأذِن له بالانصراف.

وقال حمَّادُ الراوية عن كُثَيِّر عزَّة: وَفَدْتُ أنا والأحْوَص ونُصَيب إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيز حينَ ولي الخلافة، ونحن نمُتُّ إليه بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، [لما كان بالمدينة]، فكلٌّ منَّا يظنُّ أنه سيشرَكهُ في الخلافة. فنحنُ نسيرُ ونختالُ في رحالِنا، فلما انتهينا إلى خُنَاصِرَة ولاحَتْ لنا أعلامُها، تلَقَّانا مَسْلمةُ بنُ عبدِ الملك فقال: ما أقدَمَكم؟ أو ما علمتم أنَّ صاحبكم لا يحبُّ الشعرَ ولا الشعراء؟ قال: فوجَمْنا لذلك، فأنزلَنا مسلمةُ عندَه، وأجْرَى علينا النفقات، وعلَفَ دوابَّنا، وأقمْنا عندَه أربعةَ أشهر، لا يمكنُه أنْ يستأذِنَ لنا على عمر، فلما كان في بعض الجُمَع دنوت من الخليفة لأسمعَ خطبته فأسلّم عليه بعد الصلاة، فسمعتُه يقول في خطبته: لكل سفرٍ زادٌ لا محالة، فتزوَّدوا لسفرِكم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمنْ عايَنَ ما أعدَّ اللَّه له من عذابه وثوابِه فترْغَبوا وتَرْهَبوا، ولا يطولَنَّ عليكم الأمدُ

(1)

في (ب، ح): "شمالها" بدل "صيالها"، والمثبت من (ق). ورواية الديوان "خرساءُ تُغشي من يزودُ نهالها".

(2)

في (ق): "جبة

يضرب"، تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وديوان الأعشى ص (150).

(3)

البيتان من قصيدة يمدحه فيها في ديوان كثير ص (230).

ص: 86

فتقسُو قلوبكم، وتنقادوا لعدوِّكم، فإنه والله ما بُسِطَ أمَلُ منْ لا يَدْريي لعله لا يُمسي بعد إصباحِه ولا يُصبح بعدَ إمسائه؛ وربما كانتْ له من ذلك خَطَراتُ الموتِ والمنايا، وإنما يطمئنُّ من وَثِقَ بالنجاة من عذابِ اللهِ وأهوالِ يوم القيامة؛ فأمَّا منْ لا يُدَاوي من الدنيا كَلْمًا إلَّا أصابه جارحٌ من ناحيةٍ أخرى، فكيف يطمئنّ؟ أعوذُ بالله أنْ آمرَكم بما أنهى عنه نفسي فتخسَر صَفْقتي، وتَبْدو مسكنتي في يومٍ لا ينفَعُ فيه إلا الحقُّ والصِّدْقُ. ثم بكى حتى ظننَّا أنه قاضٍ نَحْبَه؛ وارتجَّ المسجدُ وما حوله بالبُكَاءِ والعَويل

(1)

.

قال: فانصرفتُ إلى صاحبيَّ فقلت: خُذَا سرحًا

(2)

من الشعر غير ما كُنَّا نقول لعمر وآبائه، فإنَّه رجلُ أُخرَى ليس برجلِ دُنيا. قال: ثم استأذن لنا مسلمةُ عليه يومَ الجمعة، فلما دخلنا عليه سلَّمتُ عليه ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثواءُ وقلَّت الفائدة، وتحدَّثَ بجفائك إيانا وفودُ العرب. فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وقرأ الآية، فإنْ كنتم من هؤلاء أُعطيتم و إلَّا فلا حقَّ لكم فيها. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إني مسكينٌ وعابرُ سبيل ومنقَطعٌ به. فقال: ألستم عندَ أبي سعيد؟ - يعني مَسْلَمة بن عبد الملك - فقلنا: بلى. فقال: إنه لا ثواءَ على من هو عندَ أبي سعيد. فقلت: ائذنْ لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد، قال: نعم ولا تقولنَّ إلَّا حقًّا. فأنشدتُهُ قصيدةً فيه:

وليتَ فلم تَشْتِمْ عليًّا ولم تُخِفْ

بريئًا ولم تقبَلْ إشارةَ مُجْرمِ

وصدَّقْتَ بالفعلِ المقالَ مع الذي

أتيت فأمسى راضيًا كلُّ مسلم

ألا إنما يكفي الفَتَى بعدَ زَيْغِهِ

من الأوَدِ البَادي ثِقافُ المقوِّمِ

وقد لبسَتْ تسعَى إليك ثيابَها

تراءى لكَ الدنيا بكفٍّ ومِعْصَمِ

(3)

وتُومضُ أحيانًا بعينٍ مريضةٍ

وتَبْسمُ عن مثل الجُمان المنظَّمِ

فأعرضتَ عنها مشمئزًا كأنما

سقَتْكَ مَذوقًا من سمامٍ وعَلْقَمِ

وقد كنتَ من أجْبَالها في مُمَنَّعٍ

ومنْ بحرِها في مُزْبِدِ المَوْجِ مُفْعَمِ

وما زلتَ تَوَّاقًا إلى كُلِّ غايةٍ

بلغتَ بها أعلى البناءَ المقدَّمِ

فلمَّا أتاكَ الملكُ عَفْوًا ولم يَكُنْ

لطالبِ دُنْيا بعدَهُ في تكلِّمِ

تركتَ الذي يَفْنى وإنْ كان مونقًا

وآثرتَ ما يَبقَى برأي مُصَمِّمِ

وأضررتَ بالفاني وشَمَّرْتَ للذي

أمامكَ في يومٍ من الشرِّ مظلمِ

وما لكَ إذ كنتَ الخليفةَ مانعٌ

سوى اللّهِ من مالٍ رعَيْتَ ولا دَمِ

(1)

أخرج أبو نعيم في الحلية (5/ 291) خطبة عمر هذه بنحو من هذه الرواية.

(2)

جاء في لسان العرب: "التسريح: التسهيل، وشيء سريح: سهل"(مادة سرح)، فيكون معناه: خذا السهل من الشعر. وذكر الزمخشري في (سرح) من أساس البلاغة: سرح الشاعر الشِّعْرَ"، ومعناه سَهَّله. (بشار).

(3)

رواية الأغاني وديوان كثير:"وقد لبست لبس الهَلُوكِ ثيابها".

ص: 87

سما لكَ همٌّ في الفؤاد مؤرِّقٌ

بلغتَ بهِ أعلى المعالي بسُلَّمِ

فما بينَ شرْقِ الأرض والغرب كلِّها

منادٍ ينادي منْ فصيحٍ وأعجمِ

يقولُ أميرَ المؤمنينَ ظلمتني

بأخذِكَ ديناري ولا أخْذِ دِرْهمي

ولا بَسْطِ كفٍّ لامرئً غير مجرمٍ

ولا السَّفْكِ منهُ ظالمًا مِلْءَ مِحْجَمِ

ولو يستطيعُ المسلمونَ لقسَّمُوا

لكَ الشَّطْرَ من أعمارهمْ غيرَ نُدَّمِ

فَعِشْتَ بها ما حَجَّ للهِ راكبٌ

مُغذٌّ

(1)

مُطيفٌ بالمَقَامِ وزَمْزَمِ

فأرْبِحْ بها من صَفْقة لمبايعٍ

وأعظِمْ بها أعْظِمْ بها ثمَ أعظِم

(2)

قال: فأقبل عليَّ عمر بن عبد العزيز وقال: إنك تُسأل عن هذا يومَ القيامة.

ثم استأذنه الأحوصُ فأنشده قصيدةً أخرى فقال له: إنك تُسألُ عن هذا يومَ القيامة

(3)

.

ثم استأذنه نُصَيب فلم يأذنْ له، وأمر لكلِّ واحدٍ منهم بمئة وخمسين درهمًا، وأغْزَى نُصَيبًا إلى مَرْج دابِق

(4)

.

وقد وَفَدَ كثيرُ عزَّةَ بعدَ ذلك على يزيدَ بنِ عبد الملك، فامتدحه بقصائد، فأعطاه سبعَ مئةِ دينار.

وقال الزُّبير بن بكار: كان كُثيِّر عزَّةَ شيعيًّا خَشَبِيًّا

(5)

، يرى الرَّجْعة، وكان يَرَى التناسُخ، ويحتجُّ بقوله تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]

(6)

.

وقال موسى بن عُقْبَة: هُوِّلَ كُثيِّرُ عزَّة ليلةً في منامه، فأصبح يمتدحُ آل الزُّبير، ويَرْثي عبدَ الله بن الزُّبير، وكان سيِّئ الرأي فيه:

بمفتضحِ البطحاءِ ثاوٍ لوَ أنَّه

أقامَ بها ما لم تَرُمْها الأخاشبُ

سَرحْنا سُروبًا آمنينَ ومنْ يخفْ

بوائِقَ ما يخشى تَنُبْهُ النوائبُ

(1)

في بعض النسخ: مُلَبِّ.

(2)

القصيدة في ديوان كثير ص (214)، والأغاني (9/ 296، 297)؛ وكثير من ألفاظها مصحَّف في (ق)، وما أثبتناه من الصواب فيها من (ب، ح) والديوان.

(3)

ذكر أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (9/ 297) قدرًا صالحًا من أبياتها.

(4)

الخبر بطوله أخرجه أبو الفرج في الأغاني (9/ 295 - 298) وفي آخره: "ثم تقدم إليه نصيب فاستأذن في الإنشاد فأبى أن يأذن له، وغضب غضبًا شديدًا، وأمره باللحاق بدابق، وأمر لي وللأحوص لكل واحد بمئة وخمسين درهمًا".

(5)

في (ق): "خبيثًا" تصحيف، والمثبت من (ب، ح)؛ والخشبية هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. ويقال لضرب من الشيعة الخشبية، قيل: لأنهم حفظوا خشبة زيد بن علي حين صُلب، والوجه الأول. النهاية في غريب الحديث (خشب).

(6)

ذكره المزي في تهذيب الكمال (26/ 150).

ص: 88

تبرَّأتُ من عيْبِ ابن أسماءَ إنني

إلى اللهِ من عَيْبِ ابنِ أسماءَ تائبُ

هوَ المرءُ لا تُزْري بهِ أمهاتُه

وآباؤهُ فينا الكرامُ الأطايبُ

(1)

وقال مُصعب بن عبد الله الزبيري: قالتْ عائشةُ بنتُ طَلْحة لكُثيِّر عَزَّة: ما الذي يدعوك إلى ما تقولُ من الشعر في عزَّة وليستْ على ما تَصِفُ من الحُسن والجمال؟ فلو قلت ذلك فيّ وفي أمثالي فأنا أشرفُ وأفضلُ وأحسَنُ منها

(2)

وإنما أرادتْ أنْ تختبرَه وتبلوَه، فقال:

صَحَا قلبُهُ يا عزُّ أو كادَ يذهلُ

وأضحى يريدُ الصُّرْمَ أو يتبدَّلُ

وكيف يُريدُ الصُّرْمَ منْ هوَ وامِقٌ

لعزَّةَ لا قالٍ ولا متبذَّلُ

إذا واصلَتْنا خُلَّةٌ كي تُزِيلَنا

أبَيْنا وقلنا الحاجِبيَّةُ أوَّلُ

سنوليكِ عُرْفًا إنْ أردتِ وصالَنا

ونحنُ لِتيكَ الحاجبيَّةِ أوْصلُ

وحدَّثَها الواشونَ أنى هجرتُها

فحمَّلها غَيْظًا على المحمِّلُ

(3)

فقالتْ له عائشة: قد جعلْتَني خُلَّةً ولستُ لك بِخُلَّة؛ وهلَّا قلتَ كما قال جميل، فهو والله أشعرُ منك حيثُ يقول:

يا ربَّ عارضةٍ علينا وصلَها

بالجِدِّ تخلِطُهُ بقولِ الهازِلِ

فأجبتُها بالقولِ بعدَ تسَتُّرٍ

حُبِّي بُثينةَ عن وصالِكِ شاغِلي

لو كانَ في قلبي بقَدْرِ قُلامةٍ

فَضْلٌ وصَلْتُكِ أو أتَتْكِ رسائلي

(4)

فقال: والله ما أُذكر فضلَ جَميل، وما أنا إلا حسنة من حسناتِه، واستحيا.

ومما أنشدَهُ ابنُ الأنباري لكُثَيّر عزَّة:

بأبي وأُمِّي أنتِ من معشوقةٍ

طَبِنَ العدوُّ لها فغيَّرَ حالَها

ومشى إليَّ بعيب عزةَ نسوةٌ

جعلَ الإلهُ خدودهن نِعَالَها

اللهُ يعلمُ لو جمعْنَ ومُثِّلَت

لاختَرْتُ قبلَ تأمُّلٍ تمثالَها

ولو أنَّ عزةَ خاصمت شمسَ الضُّحى

في الحُسْن عندَ موفَّقٍ لقَضى لها

(5)

(1)

لم أجد الأبيات في ديوان كثير.

(2)

وهذه زيادة في (ق) ليس في (ب، ح) وهي: [وكانت عائشةُ بنتُ طلحةَ قد فاقَتِ النساءَ حُسْنًا وجمالًا وأصالةً].

(3)

الأبيات من قصيدة في ديوان كثير ص (159) ما عدا البيت الثاني.

(4)

الأبيات من قصيدة في ديوان جميل بثينة ص (54).

(5)

الأبيات في ديوان كثير عزة ص (153) ما عدا البيت الثالث.

ص: 89

وأنشد غيره لكثيِّر عزَّة

(1)

:

فما أحدثَ النأيُ الذي كانَ بيننا

سُلُوًّا ولا طولُ اجتماعٍ تقالِيا

وما زادني الواشونَ إلا صَبَابةً

ولا كثرةُ الناهينَ إلَّا تماديا

وقال كُثَيِّر أيضًا:

فقلتُ لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ

إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ

هَنيئًا مَريئًا غيرَ داءٍ مخامرٍ

لِعَزَّةَ من أعراضِنا ما استحلَّتِ

(2)

وقال كُثير عزَّة أيضًا، وفيه حِكْمةٌ أيضًا:

ومنْ لا يُغمِّضْ عَيْنهُ عن صديقهِ

وعن بعضِ ما فيه يمُتْ وهْو عَاتبُ

ومن يتتبَّعْ جاهدًا كلَّ عَثْرةٍ

يَجِدْها ولا يَبْقَى له الدَّهْرَ صاحبُ

(3)

وذكروا أنَّ عزَّةَ بنت جميل بن حفص أحدِ بني حاجب بن عبد اللَّه بنِ غفَار، أمُّ عمرو الضَّمرِيَّة؛ وفدَتْ على عبدِ الملك بن مروان تشكو إليه ظُلامة، فقال: لا أقضيها لكِ حتى تنشديني شيئًا من شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرًا، لكني سمعتُهم يَحْكونَ عنه أنه قال فيَّ هذه الأبيات:

قَضَى كلُّ ذي دَيْنٍ علمتُ غَريمَهُ

وَعزَّةُ مَمْطُولٌ معنَّى غَريمُها

(4)

فقال: ليس عن هذا أسألكِ ولكنْ أنشديني قوله:

وقد زعمتْ أني تغيَّرْتُ بعدَها

ومَنْ ذا الذي يا عَزُّ لا يتغيَّرُ

تغيَّر جِسْمي والخليقةُ كالذي

عَهِدْتِ ولمْ يُخْبَرْ بسِرِّكِ مخبَرُ

(5)

قال فاستحيَتْ وقالتْ: أما هذا فلا أحفَظُه، ولكنْ سمعتُهم يحكونهُ عنهُ، ولكنْ أحفظُ له قولَه:

كأنِّي أُنادي صخرةً حينَ أعرَضَتْ

منَ الصُّمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زلَّتِ

صَفُوحٌ فما تلقاكَ إلا بَخيلةً

ومنْ ملَّ منها ذلكَ الوَصْلَ مَلَّت

(6)

(1)

كذا في الأصول، والشعر لجميل بثينة، والبيتان من قصيدة له فيها في ديوانه ص (47). وكذلك رواهما صاحب الأغاني (8/ 134) وعزاهما لجميل أيضًا، وكذا في ديوان الحماسة (2/ 129).

(2)

البيتان من قصيدة في ديوان كثير ص (54) والأغاني (9/ 38).

(3)

البيتان من قصيدة في ديوان كثير ص (31)؛ وذكرهما صاحب جمهرة الأمثال (2/ 56).

(4)

البيت من قصيدة في ديوان كثير ص (205).

(5)

البيتان من قصيدة في ديوان كثير ص (100)، وقد صحفت في (ق) بعض ألفاظهما فأثبتنا ما جاء في (ب، ح) وديوان كثير، والأغاني (9/ 36).

(6)

البيتان من قصيدة في ديوان كثير ص 54 على خلاف في ألفاظ الشطر الأخير من البيت الثاني، وفي الأغاني (9/ 36 و 38) موافق لما هنا.

ص: 90

قال فقَضَى لها حاجتَها وردَّها وَردَّ عليها ظُلامتها وقال: أدْخِلُوها على الحُرَم ليتعلَّموا من أدبها

(1)

.

ورُوي عن بعض نساءِ العرب قالت: اجتازتْ بنا عزَّة، فاجتمع نساءُ الحاضر إليها لينظُرْنَ حُسْنها، فإذا هي حُميراء، حلوةٌ لطيفة؛ فلم تقعْ من النساءَ بذاك الموقع، حتى تكلَّمَتْ، فإذا هي أبرَعُ النساءَ وأحلاهنَ حديثًا، فما بقيَ في أعيينا امرأةٌ تفوقُها حسنًا وجمالًا وحلاوةً.

وذكر الأصمعيُّ عن سفيانَ بن عُيَينة، قال: دخلتْ عزَّةُ على سُكينةَ بنتِ الحسين فقالتْ لها: إني أسألُكِ عن شيء فاصدُقيني، ما الذي أراد كُثَيِّرٌ في قوله لك:

قَضَى كُلُّ ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غَريمهُ

وعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعنَّى غَريمُها

فقالتْ: كنتُ وعدتُه قُبْلةً فمطلْتُه بها، فقالت: أنجزيها له وإثمها عليَّ

(2)

.

وقد [كانتْ سُكينةُ بنتُ الحسين من أحسنِ النساء، حتى كان يُضربُ بحُسْنها المَثَل]

(3)

.

ورُوي أنَّ أُمَّ البنين أخت عمر بن عبد العزيز قالت لها مثل هذا سواء. واللّه أعلم. وروي أنَّ عبدَ الملك بن مروان أراد أن يزوِّج كثيرًا من عَزَّة، فأبتْ عليه وقالتْ: يا أميرَ المؤمنين أبعدَ ما فَضَحني بين الناس وشهرني في العرب؟ وامتنعتْ من ذلك كلَّ الامتناع! رواه ابن عساكر

(4)

.

وروى

(5)

أنها اجتازَتْ مرَّةً بكُثَيِّر وهو لا يعرفُها فتنكَّرتْ عليه وأرادَتْ أن تختبر ما عندَه. فتعرَّض لها، فقالتْ: فأين حُبُّك عَزَّة؟ فقال: أنا لك الفِدَاء، لو أنَّ عزَّةَ أمةٌ لي لوهبتُها لك. فقالتْ: وَيْحكَ، لا تفعلْ، ألستَ القائل:

إذا وصلتْنا خُلَّةٌ كي تُزيلنا

أبَيْنا وقُلْنا الحاجِبيَّةُ أوَّلُ؟

فقال: بأبي أنتِ وأُمي، أقصِرِي عن ذكرِها واسمعي ما أقول:

هل وصلُ عزَّةَ إلَّا وصلُ غانيةٍ

في وصلِ غانيةٍ منْ وَصْلِها بدَلُ

(6)

قالت: فهل لك في المجالسة؟ قال: ومنْ لي بذلك؟ قالت: فكيف بما قلتَ في عزَّة؟ قال: أقلِبُه فيتحَّولُ لكِ. قال فسفَرتْ عن وجْهِها وقالت: أغدْرًا وتنكاثًا يا فاسق، وإنَّك لها هنا يا عدوَّ اللَّه،

(1)

أخرج الخبر أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (9/ 35 - 38) بألفاظ مقاربة.

(2)

أخرجه ابن عساكر (المختصر لابن منظور (20/ 189)) وأبو الفرج في الأغاني (9/ 36) بنحوه.

(3)

ما بين معقوفين زيادة من النسخة (ق).

(4)

في ترجمة عزة، انظر مختصره لابن منظور (20/ 188) وهو بتحقيقي.

(5)

يعني ابن عساكر في تاريخه انظر المصدر السابق ص (189).

(6)

البيت في ديوان كثير ص (516) وتروى قافيته "خلف"، انظر الديوان ص (505).

ص: 91

فبُهتَ وأبْلَس ولم ينطِقْ، وتحيَّر وخَجِل، ثم قالت: قاتل الله جميلًا حيثُ يقول:

لحَا اللّهُ منْ لا ينفعُ الوُدُّ عندَهُ

ومنْ حَبْلُهُ إنْ صُدَّ غَيْرُ مَتينِ

ومنْ هو ذو وجهَيْنِ ليسَ بدائمٍ

على العَهْدِ حَلَّافٌ بكلِّ يمين

(1)

ثم شرَعَ كثير يعتذِرُ ويتنصَّل مما وقع منه ويقول في ذلك الأشعارَ ذاكرًا وآثرًا

(2)

.

وقد ماتَتْ عَزَّةُ بمصرَ في أيام عبد العزيزِ بنِ مروان، وزار كُثَيِّرٌ قبرَها، ورثاها، وتغيَّرَ شعرُه بعدَها، فقال له قائل: ما بالُ شعرِك تغيَّر وقد قصَّرْتَ فيه؟ فقال: ماتتْ عزَّةُ ولا أطرب، وذهب الشبابُ فلا أعجَب، وماتَ عبدُ العزيز بن مروان فلا أرغَب، وإنما ينشَأُ الشعرُ عن هذه الخِلال.

وكانت وفاتُه ووفاة عِكرمة في يومٍ واحد، ولكنْ في سنةِ خمسين ومئة على المشهور. وإنما ذكره شيخنا أبو عبد اللَّه الذهبي في هذه السَّنة - أعني سنة سبعٍ ومئة - واللّه سبحانه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثمان ومئة

ففيها افتتح مَسْلَمةُ بن عبد الملك قَيْساريَّة من بلاد الروم، وفتح إبراهيمُ بن هشام بن عبد الملك حصنًا من حصون الرُّوم أيضًا، وفيها غزا أسدُ بن عبد اللَّه القَسْريُّ أميرُ خراسان، فكسَرَ الأتراك كسرةً فاضحة.

[وفيها زحَفَ خاقانُ إلى أذْربيجان، وحاصر مدينةَ وَرْثان

(3)

، ورماها بالمَنَاجيق، فسار إليه أميرُ تلك الناحية الحارث بن عمرو نائبُ مسلمةَ بنِ عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملكِ الترك فهزمَهُ، وقُتل من جيشه خَلْقٌ كثير، وهرب الخاقانُ بعد أنْ كان قُتل في جملة من قتل جيشه، وقُتل الحارثُ بن عمرو شهيدًا، وذلك بعد أنْ قتلوا من الأتراك خَلْقًا كثيرًا.

وفيها غزا معاويةُ بنُ هشام بن عبد الملك أرضَ الروم، وبعث البَطَّال على جيشٍ كثيف، فافتَتَح جَنْجَرة

(4)

، وغَنِم منها شيئًا كثيرًا]

(5)

.

(1)

البيتان في ديوان جميل ص (210) بخلاف يسير.

(2)

والخبر بنحوه في الأغاني (9/ 41، 42).

(3)

ورثان: آخر حدود أذربيجان انظر معجم البلدان (5/ 370).

(4)

جنجرة: مدينة قرب حضرموت. انظر معجم البلدان (2/ 168).

(5)

ما بين معقوفين زيادة من (ق).

ص: 92

وفيها تُوفي من الأعيان:

بَكْرُ بن عبد اللَّه المُزني البصري

(1)

.

وراشد بن سعد المقرائي الحمصي

(2)

.

ومحمد بن كعب القرظي

(3)

: توفي فيها في قولٍ.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 209)، مشاهير علماء الأمصار ص (90)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 251)، الثقات لابن حبان (4/ 74)، التاريخ الكبير (2/ 90)، الجرح والتعديل (2/ 388)، الحلية (2/ 224)، صفة الصفوة (2/ 248)، المختار من مناقب الأخيار (1/ 476)، تهذيب الكمال (4/ 216) سير أعلام النبلاء (4/ 532)، الوافي (10/ 207) تقريب التهذيب ص (127)، تهذيب التهذيب (1/ 484). وما سيأتي من زيادات (ق) التي أقحمت في المتن وهي: [كان عالمًا عابدًا زاهدًا متواضعًا قليلَ الكلام، وله رواياتٌ كثيرهّ عن خَلْقٍ من الصحابة والتابعين.

قال بكرُ بن عبد اللَّه: إذا رأيتَ منْ هو أكبَرُ منك من المسلمين فقل: سبَقْتُه إلى المعاصي فهو خيرٌ منِّي، وإذا رأيتَ إخوانَك يُكرمونك ويُعظِّمونك فقل: هذا من فَضْل ربِّي، وإذا رأيتَ منهم تقصيرًا فقل: هذا بذنْبٍ أحدثته (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 226).).

وقال: منْ مثلكَ يا ابن آدم؟ خُلِّي بينك وبين الماء والمحراب، متى شئتَ تطهَّرْتَ ودخلتَ على ربك عز وجل، ليس بينك وبينه تَرْجُمانٌ ولا حاجِب.

وقال: لا يكونُ العبدُ تقيًّا حتى يكون بطيء الطَّمَع، بطيء الغَضَب (في (ق):"تقي الطمع، تقي الغضب"، والمثبت من الحلية (2/ 225).).

وقال: إذا رأيتُمُ الرجلَ موكلًا بعيوب الناس ناسيًا لعيبه فاعلموا أنه قد مُكِر به.

وقال: كان الرجل من بني إسرائيل إَذا بلَغَ المبلغَ الصالح من العمل فمشى في الناس تُظَلِّلُه غمامة؛ قال: فمرَّ رجلٌ قد أظلَّته غمامة على رجل، فأعظمه لما رآه مما آتاه اللَّه، فاحتقره صاحبُ الغَمَامة، فأمرَها اللَّه أنْ تتحوَّل عن رأسه إلى رأسِ الذي احتقره، وهو الذي عظَّم أمرَ اللَّه عز وجل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 226).).

وقال: ما سبقهم أبو بكرٍ بكثيرِ صلاةٍ ولا صيام، ولكنْ بشيءٍ قرَّ في صَدْرِه.

وله كلامٌ حسنٌ كثير، يطولُ ذِكرُه].

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 456)، التاريخ الكبير (2/ 292)، الجرح والتعديل (3/ 483)، حلية الأولياء (6/ 117)، تهذيب الكمال (9/ 8)، سير أعلام النبلاء (4/ 490). وهذه الزيادة من (ق) وهي:[عُمِّرَ دهرًا، وروى عن جماعةٍ من الصحابة، وقد كان عابدًا صالحًا زاهدًا. رحمه اللَّه تعالى، وله ترجمة طويلة].

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (القسم المتمم ص (134))، تاريخ خليفة (348)، طبقات خليفة ص (264)، التاريخ الكبير (1/ 216)، المعارف ص (458)، الجرح والتعديل (8/ 67)، حلية الأولياء (3/ 212)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 432). مختصر تاريخ دمشق (23/ 179)، تهذيب الكمال (26/ 340)، سير أعلام النبلاء (5/ 65)، تهذيب التهذيب (9/ 420)، الكواكب الدرية (1/ 429). وما سيأتي هنا من زيادات (ق) التي أشرت إليها وهي: [وهو أبو حمزة، له رواياتٌ كثيرةٌ عن جماعةٍ من الصحابة، وكان عالمًا بتفسير القرآن، صالحًا عابدًا.

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال الأصمعي: حدَّثنا أبو المقدام - هشام بن زياد - عن محمد بن كعب القرظي أنه سئل: ما علامة الخِذْلان؟ قال: أن يقبحَ الرجلُ ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان قبيحًا.

وقال عبدُ اللَّه بن المبارك (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (97) وأبو نعيم في الحلية (3/ 214).): حدّثنا عبد الله بن عبدِ اللَّه بن موهب قال: سمعتُ ابنَ كعب يقول: لأنْ أقرأ في ليلةٍ حتى أصبح إذا زُلزلت والقارعة لا أزيدُ عليهما، وأردِّدَ فيهما الفكر، أحبُّ إليَّ منِ أن أهذَّ القرآن هَذًّا - أوْ قال: أنثُرُه نثرًا -.

وقال: لو رُخِّصَ لأحدٍ في تَرْك الذِّكْر لرُخِّص لزكريا عليه السلام؛ قال تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] فلو رُخِّص لأحدٍ في ترك الذكر لَرُخِّصَ له، ولرُخِّصَ للذين يقاتلون في سبيل الله؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45](أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 215).).

وقال في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: اصبروا على دينِكم وصابروا لوعدِكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوَّكم الظاهرَ والباطن، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما بيني وبينكم. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] إذا لَقيتُموني.

وقال في قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]: علْمَ ما أحلَّ القرآنُ مما حرَّم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 215)؛ وفيه:"ما أُحلَّ في القرآن

".).

{مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود:100] قال: القائم ما كان من بنائهم قائمًا، والحَصيد ما حُصِد فهُدِم (كذا في (ق)، والذي في الحلية (3/ 215):"من نباتهم قائمًا، والحصيد ما قد حصد".).

{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] قال: غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا، وفي رواية سألهم ثمن نعمةٍ فلم يقدروا عليها ولم يؤدُّوها، فأغرَمَهم ثمنَها. فأدخلهم النار (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 216).).

وقال قُتيبة بن سعيد: حدّثنا عبدُ الرحِمن بن أبي الموالي قال: سمعتُ محمد بن كعب في هذه الآية {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، قال: هو الرجل يُعطي الآخرَ من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعِفون هم الذين يُعطون لوجهِ اللَّه، لا يَبْتَغي مكافاةَ أحدٍ.

وفي قوله تعالى: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]، قال: اجعلْ سريرتي وعلانيتي حسنة.

وقيل: أدْخِلْني مُدْخَلَ صدقٍ، في العمل الصالح، أي الإخلاص، وأخرجْني مخرجَ صدقٍ، أي سالمًا.

{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، أي يسمعُ القراَن وقلبه معه، لا يكون في مكانٍ آخر.

{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الجمعة: 9]، قال: السَّعْيُ العملُ ليس بالشَّدِّ.

وقال: الكبائر ثلاثة، أنْ تأمنَ مكر اللَّه، وأن تقنَطَ من رحمةِ اللَّه، وأن تيأس من روح اللَّه.

وقال عبدُ اللَّه بن المبارك (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (96)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 213).): حدّثنا موسى بن عُبيدة عن محمد بن كعب، قال: إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا جعل فيه ثلاثَ خصال، فقهًا في الدِّين، وزَهادةً في الدنيا، وبصَرًا بعيوبِ نفسه.

وقال: الدنيا دارُ قَلَق، رَغبَ عنها السعداء، وانتُزعتْ من أيدي الأشقياء، فأشقى الناس بها أرْغَبُ الناسِ فيها، وأزْهدُ الناسِ فيهاِ أسعَدُ الناس بها، هي الغاوِيَةُ لمنْ أضاعَها، المُهْلِكةُ لمن اتَّبعها، الخائنةُ لمنِ انقادَ لها؛ عِلْمُها جَهْل، وغناؤها فقر، وزيادتُها نُقْصَان، وأيامُها دُوَل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 213).).

وروى ابنُ المبارك (في كتابه الزهد ص (150).) عن داودَ بنِ قيس، قال: سمعتُ محمد بن كعب يقول: =

ص: 94

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إنَّ الأرض لتبكي من رجلٍ، وتبكي على رجل؛ تبكي على منْ كان يعمَلُ على ظهرِها بطاعةِ الله؛ وتبكي ممنْ كان يعملُ على ظهرِها بمعصيةِ اللَّه، قد أثقلها؛ ثم قرأ:{مَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29].

وقال في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]: منْ يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا من كافرٍ يرى ثوابَها في نفسِهِ وأهلِه ومالِه حتى يخرجَ من الدنيا وليس له خير؛ ومنْ يعمل مثقالَ ذرة شرًا يرَه، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرجَ من الدنيا وليس له شرّ (أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 268)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 213).). وقال: ما يؤمنني أنْ يكونَ اللَّه قدِ اطلع عليَّ في بعض ما يكره فمقتنَي، وقال: اذهبْ لا أغفرُ لك؛ معَ أنَّ عجائبَ القرآن تَرِدُني على أمور، حتى إنه لينقضي الليلُ ولم أفرُغْ من حاجتي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 214)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 65، 66).).

وكتب عُمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسألُه أنْ يبيعَه غلامه سالمًا - وكان عابدًا خيرًا زاهدًا - فكتب إليه: إني قد دَبَّرْتُه (دَبَّرَ العَبْدَ: أعتقه بعد الموت.)، قال: فأزُرْنيهِ (في (ق): "فازدد فيه"، والمثبت من الحلية (5/ 329)، وأزرنيه: من الزيارة.)، فأتاه سالم فقال له عمر: إني قد ابتُليتُ بما تَرَى، وأنا والله أتخوَّفُ أنْ لا أنجو. فقال له سالم: إنْ كنتَ كما تقول فهي نجاتُك، وإلا فهو الأمرُ الذي تخاف. قال: يا سالم، عِظْني، قال: آدمُ عليه السلام أخطأ خطيئة واحدةً خرج بها من الجنة، وأنتم مع عَملِ الخطايا ترجونَ دخولَ الجنة. ثم سكت (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 214 و 5/ 329).).

قلتُ: والأمر كما قيل في بعض كتب اللَّه: تزرعون السيئات وترجونَ الحسنات، لا يُجتنى من الشَّوك العنب.

تَصِلُ الذنوبَ إلى الذنوبِ وتَرْتَجِي

دَرَجَ الجنانِ وطِيبَ عيشِ العابدِ

ونَسيتَ أنَّ اللهَ أخرجَ اَدمًا

منْها إلى الدنيا بذنْبٍ واحِدِ

(ذكره المؤلف في تفسيره (1/ 82) وقبل البيتين:

يا ناظرًا يرنو بعيني راقدِ

ومشاهدًا للأمر غير مشاهدِ)

وقال: منْ قرأ القرآنَ مُتِّع بعقْلِهِ وإنْ بلَغَ من العمر مئتي سنة (ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 133).).

وقال له رجل: ما تقولُ في التوبة؟ قال: لا أُحِسنها، قال: أفرأيت إن أعطيتَ اللَّه عهدًا أنْ لا تعصيَه أبدًا؟ قال: فمنْ أعظمُ جُرْمًا منك؟ تتألَّى على اللَّه أن لا يُنْفذ فيك أمرَه!

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني: حدّثنا ابنُ عبدِ العزيز، حدّثنا أبو عُبيد القاسمُ بن سلَّام، حدّثنا عبَّاد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المِقْدام، قالوا كلُّهم: حدّثنا محمد بن كعب القُرَظي قال: حدّثنا ابن عباس، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"منْ أحبَّ أنْ يكونَ أغنى الناس فليْكُنْ بما في يدِ اللَّه أوثقَ ممَّا في يده؟ ألا أُنبئُكم بشرارِكم"؟ قالوا: نَعَمْ يا رسولَ اللَّه. قال: "منْ نزَلَ وحدَه، ومنَعَ رِفْدَه، وجَلَدَ عبدَه؛ أفأنبئُكم بِشَرٍّ من هذا"؟ قالوا: نَعَمْ يا رسولَ الله. قال: "منْ لا يُقيلُ عَثْرةً ولا يقبَلُ معذرَةً، ولا يغفرُ ذنبًا". ثم قال: "ألا أنبِئُكم بشرٍّ منْ هذا"؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه. قال: "مَنْ لا يُرْجَى خَيْرُه، ولا يُؤمنُ شرُّه؛ إنَّ عيسى بن مرِيم قام في بني إسرائيلَ خطيبًا فقال: يا بني إسرائيل، لا تكلَّموا بالحِكْمةِ عند الجُهَّال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرَّةً فتظلموهُمْ - ولا تظلموا ظالمًا، ولا تكافئوا (في (ق): "ولا تطاولوا"، تصحيف، والمثبت من الحلية ومصادر التخريج.) ظالمًا فيبطُلَ فَضْلُكم عند ربِّكُمْ، يا بني إسرائيل، الأمورُ ثلاثة، أمْرٌ تبيَّنَ رُشْدُه فاتَّبعوه، وأمرٌ تبيَّن غِيُّه فاجتنبوه، وأمْرٌ اختُلِف فيه فردُّوه إلى اللَّه". وهذه الألفاظُ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 95

وأبو نَضْرَةَ المنذرُ بن مالك بن قطعة العبدي

(1)

: وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل

(2)

.

وحجَّ بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أمير الحرمين والطائف، والعمال فيها هم العمال في التي قبلها بأعيانهم

(3)

.

‌ثم دخلت سنة تسع ومئة

ففيها عَزل هشامُ بن عبدِ الملك أسَدَ بنَ عبد الله القَسْريَّ عن إمرة خُراسان، وأمَرهُ أن يقدَم إلى الحجّ، فأقبَلَ منها في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عَوَانة الكَلْبي، واستنابَ هشامُ على خراسان، أشرَسَ بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القَسْري، وكان أشرسُ فاضلًا خيِّرًا، وكان يُسمَّى الكامل لذلك، وكان أولَ من اتخذ المرابطة بخراسان، واستعمل عليها عبد الملك بن دثار الباهلي، وتولَّى هو الأمورَ بنفسِه كبيرَها وصغيرَها، ففَرِح بهِ أهلُها

(4)

.

وفيها حجَّ بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين والطائف.

‌سنة عشر ومئة من الهجرة النبويّة

فيها قاتل مَسْلَمةُ بن عبدِ الملك ملكَ التُّرْكِ الأعظم خاقان، فزحف إلى مسلمةَ في جموعٍ عظيمة فتواقفوا نحوًا من شهر، ثم هزَمَ الله خاقان زمنَ الشتاء، ورجع مسلمةُ سالمًا غانمًا، فسلك على مسلك ذي القَرْنين في رجوعه إلى الشام، وتُسَمَّى هذه الغَزَاةُ غزاةَ الطِّين، وذلك أنهم سلكوا على مغارق

= بهذا السياق إلَّا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس (هذا لفظ أبي نعيم في الحلية (3/ 219)، والقول بعد الحديث له.).

وقد رُوي أولُ الحديث إلى ذكر عيسى من غير طريقه، وسيأتي أنَّ هذا الحديث تفرَّد به الطبراني بطوله والله سبحانه وتعالى أعلم] (والحديث أخرجه من غير طريق الطبراني عبد بن حميد في مسنده (1/ 225)(675)، والحاكم في المستدرك (4/ 301)(7707)، وابن عدي في الكامل (4/ 340) في ترجمة هشام بن زياد بن سعدويه المروزي أبي المقدام. وأورده الزيلعي في نصب الراية (3/ 62)، وإسناده ضعيف).

(1)

ترجمته في الجرح والتعديل (8/ 241)، ومعرفة الثقات للعجلي (2/ 298)، ومشاهير علماء الأمصار ص (96)، ميزان الاعتدال (6/ 515)، تقريب التهذيب ص (546).

(2)

انظر ص (65 - 76).

(3)

هذه الفقرة سقطت من (ق) وأثبتها من (ب، ح).

(4)

انظر تاريخ الطبري (4/ 127).

ص: 96

ومواضع غَرِق فيها دواب كثيرة، وتوحَّل فيها خَلْقٌ كثير، فما نجَوْا حتى قاسَوْا شدائدَ وأهوالًا صِعابًا، وشدائد عظامًا

(1)

.

وفيها دعا أشرسُ بن عبدِ الله السلمي نائبُ خراسان أهلَ الذِّمَّة بسَمَرْقَنْد ومنْ وراءَ النهر إلى الدخولِ في الإسلام، على أن يضعَ عنهم الجِزية، فأجابوهُ إلى ذلك، وأسلم غالبهم

(2)

، ثم طالبهم بالجِزْية فنَصبوا له الحَرْب وقاتلوه؛ ثم كانت بينه وبين الترك حروبٌ كثيرة، أطال ابنُ جريرٍ بسطَها وشرحها فوق الحاجة

(3)

.

وفيها [أرسل أميرُ المؤمنين هشامٌ عُبيدة

(4)

إلى إفْريقيةَ متولِّيًا عليها؛ فلما وصل جَهَّزَ ابنه وأخاه في جيش، فالتقَوْا مع المشركين، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأسروا بطريقهم وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئًا كثيرًا.

وفيها افتتح معاويةُ بن هشام حِصْنَيْنِ من بلاد الرُّوم، وغنم غنائمَ جَمَّة.

وفيها]

(5)

حجَّ بالناس إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، أمير الحرمين والطائف، وعلى العراق خالد القَسْري، وعلى خُراسان أشْرَسُ السُّلَمي.

‌ذكر من تُوفي فيها من الأعيان:

جَرير الشاعر

(6)

: وهو جَرير بنُ الخَطَفَى ويقال: جرير بن عَطيَّة بن الخَطَفَى، واسمُ الخَطَفى حُذيفة بن بدر بن سلمة بن عَوْف بن كُليب بن يَرْبوع بن حَنْظَلة بن مالك بن زيد مَنَاة بن تميم بن مُرَّ بن أُدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر بن نزار، أبو حَزْرَة

(7)

الشاعر البَصْري، قدِم دمشق مرارًا عدَّة، وامتدح يزيدَ بن معاوية، وعبد الملك بن مروان وبنيه الوليد وسليمان ويزيد، ووفد على عمر بن عبد العزيز؛ وكان في عصرِهِ من الشعراء الذين يقارنونه الفرَزْدَقُ والأخْطَل، وكان جريرٌ أشعرَهم وأخْيَرَهم. قال غيرُ واحدٍ: هو أشعرُ الثلاثة.

(1)

انظر تاريخ خليفة ص (339).

(2)

في (ب، ح): "وأسلموا"، والمثبت من (ق).

(3)

انظر تاريخ الطبري (4/ 129) وما بعدها.

(4)

في (ق): "هشام بن عبيدة"، والمثبت من تاريخ اليعقوبي (2/ 318) ومعجم البلدان (1/ 229)، والحلة السيراء (1/ 64) والنجوم الزاهرة (1/ 245). وهو عبيدة بن عبد الرحمن ابن أخي الأعور السلمي، صاحب خيل معاوية بصفين؛ انظر ترجمته في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (1/ 160).

(5)

ما بين معقوفين زيادة من (ق).

(6)

ترجمته في طبقات فحول الشعراء (2/ 297)، وفيات الأعيان (1/ 321)، سير أعلام النبلاء (4/ 590).

(7)

في (ق):"أبو حرزة" وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) والإكمال لابن ماكولا (2/ 460، 461).

ص: 97

قال أبو بكر بنُ دريد: حدَّثنا الأشْنَانْدَاني، حدَّثنا التوَّزيُّ

(1)

عن أبي عُبيدة عن عثمان البَتِّي، قال: رأيتُ جريرًا وما تضم شفتاه من التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا وأنت تقذفُ المحصنة؟ فقال: "سبحان اللَّه والحمد للّه ولا إله إلا الله والله أكبر، إنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئات"، وَعْدٌ من اللَّه حَق

(2)

.

وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: دخل رجلٌ من بني عُذْرة على عبد الملك بن مروان يمتدحُه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة، جرير والفرزدق والأخطل، فلم يعرِفْهُم الأعرابي، فقال عبد الملك للأعرابي: هل تعرفُ أهجى بيتٍ قالتْه العرب في الإسلام؟ قال: نعم! قولُ جرير:

فَغُضَّ الطرفَ إنكَ من نُمَيْرٍ

فلا كَعْبًا بلغتَ ولا كِلابا

فقال: أحسنت؛ فهل تعرفُ أمدحَ بيتٍ قيل في الإسلام؟ قال نعم! قولُ جرير:

ألستمْ خيرَ من ركبَ المطايا

وأندَى العالمين بطونَ راحِ

فقال: أصبتَ وأحسنت، فهل تعرفُ أرقَّ بيتٍ قيل في الإسلام؟ قال: نعم! قولُ جرير:

إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها مَرضٌ

قَتَلْنَنا ثُمَّ لم يُحيينَ قَتلانا

يصرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به

وهنَّ أضْعفُ خلْقِ الله أرْكانا

فقال: أحسنت؛ فهل تعرفُ جريرًا؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيتِه لمشتاق. قال: فهذا جرير وهذا الفرزدق، وهذا الأخطل، فأنشأ الأعرابي يقول:

فحَيَّا الإله أبا حَزْرَةٍ

(3)

وأرغمَ أنفكَ يا أخطلُ

وجدُّ الفرزدقِ أتعِسْ بهِ

ودَقَّ خياشيمَهُ الجَنْدلُ

فأنشأ الفرزدق يقول:

يا أرغَم اللّهُ أنفًا أنتَ حاملُهُ

يا ذا الخَنا ومَقَالِ الزُّورِ والخطَلِ

ما أنتَ بالحكمِ الْتُرْضَى حكومَتُهُ

ولا الأصيلِ ولا ذي الرَّأْيِ والجدَلِ

ثم أنشأ الأخطل يقول:

يا شرَّ منْ حملَتْ ساقٌ على قدمٍ

ما مثلُ قولكَ في الأقوامِ يُحتَملُ

(1)

في بعض النسخ: "الثوري"، وهو تصحيف لا ريب فيه، فقد استدرك ابن الأثير نسبة "الأشنانداني" في اللباب على أبي سعد السمعاني في الأنساب، ونسب إليها أبا عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني صاحب كتاب المعاني، فذكر أنه أخذ العلم عن أبي محمد التوزي وأن أبا بكر بن دريد روى عنه (بشار).

(2)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 591)، وتحرف فيها "البتي" إلى"التميمي".

(3)

في (ق، ب): "حرزة" تصحيف، انظر الحاشية (7) من الصفحة السابقة.

ص: 98

إنَّ الحكومةَ ليستْ في أبيكَ ولا

في معشرٍ أنتَ منهمْ إنهمْ سفَلُ

فقام جرير مغضبًا وقال:

شتمتما قائلًا بالحقِّ مبتدئًا

عند الخليفةِ والأقوالُ تنتضلُ

أتشتمانِ سَفاهًا خَيْرَكمْ حسبًا

ففيكما - وإلَهي - الزُّورُ والخطَلُ

شتمتماهُ على رَفْعي ووضْعِكما

لا زِلْتما في سفَالٍ أيُّها السَّفَلُ

(1)

ثم وَثَبَ جريرٌ فقبَّلَ رأسَ الأعرابي وقال: يا أمير المؤمنين جائزتي له؛ وكانت خمسة عشر ألفًا. فقال عبد الملك: وله مثلُها من مالي، فقبض الأعرابي ذلك كلَّه وخَرَج

(2)

.

وحكى يعقوبُ بن السِّكِّيت، أنَّ جريرًا دخل على عبد الملك مع وَفدِ أهلِ العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحَهُ الذي يقولُ فيه:

ألستمْ خيرَ من رَكبَ المطايا

وأندى العالمين بطونَ راحِ

(3)

فأطلَق له مئة ناقة وثمانيةً من الرِّعاء، أربعة من النوبة، وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصُّغْد. قال جرير: وبين يدي أمير المؤمنين عبد الملك جاماتٌ

(4)

من فضَّة قد أُهديَتْ له، وهو لا يعبأ بها شيئًا، فهو يقرَعُها بقضيبٍ في يده، فقلت: يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إليَّ واحدًا من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجَّاج أعجبَهُ إكرامُ أميرِ المؤمنين له، فأطلق الحجَّاج له خمسين ناقةً تحملُ طعامًا لأهله.

وحكى نِفْطوَيْه أنَّ جريرًا دخل يومًا على بشر بن مروان وعنده الأخطل، فقال بشر لجرير: أتعرفُ هذا؟ قال: لا، ومنْ هذا أيها الأمير؟ فقال: هذا الأخطل. فقال الأخطل: أنا الذي شتمتُ عِرْضَك وأسهرت ليلك، وآذيت قومك. فقال جرير: أما قولك شتمت عرضك؛ فما ضرَّ البحرَ أنْ يشتمَهُ منْ غَرِق فيه، وأما قولك وأسهرتُ ليلك، فلو تركتني أنامُ لكانَ خيرًا لك، وأما قولك وآذيتُ قومك، فكيف تؤذي قومًا أنت تؤدِّي الجِزْية إليهم؟ وكان الأخطل من نصارَى العرب المتنصِّرة، قَبَّحهُ اللَّه وأبعدَ مثواه، [وهو الذي أنشدَ بشر بن مروان قصيدته التي يقولُ فيها:

(1)

الأبيات في ديوان جرير ص (391).

(2)

الخبر أورده ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (1/ 269، 270). وأخرجه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (8/ 44 - 46) مطولًا بغير هذا السياق، ولم يكن في المجلس الفرزدق والأخطل.

(3)

البيت من قصيدة مشهورة في ديوان جرير ص (76).

(4)

في (ق): "جامانِ" بالنون، تصحيف، والمثبت من (ح).

ص: 99

قدِ استوى بِشْرٌ على العراقِ

من غيرِ سيفٍ ودمٍ مُهْرَاق

(1)

وهذا البيت تستدلُّ به الجهميَّةُ على أنَّ الاستواءَ على العرش بمعنى الاستيلاء؛ وهذا من تحريفِ الكَلِم عن مواضعِه، وليس في بيت هذا النصراني حُجّةٌ ولا دليلٌ على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قولِ الجهميَّة علوًّا كبيرًا، فإنَّه إنما يقال استوى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصيًا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بِشْرٍ على العراق، واستيلاء المَلِك على المدينة بعد عصيانِها عليه، وعَرْشُ الربِّ لم يكنْ ممتنعًا عليه نفَسًا واحدًا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حُجج الجَهْمية، حتى أدَّاهم الإفلاس من الحُجَج إلى بيتِ هذا النصرانيِّ المقبُوح، وليس فيه حجة واللّه أعلم

(2)

.

وقال الهيثم بن عَدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استُخلف عمر بن عبد العزيز وفَدَ إليه الشعراء، فمكثوا ببابه أيامًا لا يؤذَنُ لهم ولا يُلتفتُ إليهم، فساءهم ذلك، وهمُّوا بالرجوع إلى بلادهم، فمرَّ بهم رجاءُ بن حَيْوَة، فقال له جرير:

يا أيُّها الرجلُ المُرْخي عِمَامتَهُ

هذا زمانُكَ فاستأذِنْ لنا عُمرا

فدخل ولم يذكُرْ لعمرَ مِنْ أمرهم شيئًا، فمرَّ بهم عديُّ بن أرْطَاة فقال له جرير منشدًا:

يا أيها الراكبُ المرخي مَطِيَّتهُ

(3)

هذا زمانكَ إني قدْ مَضَى زمني

أبلغْ خليفَتنا إنْ كنتَ لاقيَه

أني لدى البابِ كالمَصْفودِ في قَرَنِ

لا تنسَ حاجتَنا لاقَيْتَ مغفرةً

قد طالَ مُكْثي عن أهلي وعن وطني

(4)

فدخل عديٌّ على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك، وسهامُهم مسمومة، وأقوالُهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي، ما لي وللشعراء؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد كان يسمَعُ الشعر ويُجْزي عليه، وقد أنشده العباسُ بن مِرْداس مِدْحةً فأعطاه حُلَّة، فقال له عمر: أتَرْوي منها شيئًا؟ قال: نعم فأنشده:

رأيتُكَ يا خيرَ البريَّةِ كلِّها

نشَرْتَ كتابًا جاءَ بالحقِّ معلَما

شرعتَ لنا دينَ الهُدَى بعدَ جَوْرنا

عنِ الحقِّ لما أصبحَ الحقُّ مظلما

(1)

ذكره أبو بكر بن أبي الدنيا في قرى الضيف (5/ 276).

(2)

ما بين المعقوفين زيادة من (ق).

(3)

كذا في (ب، ح)، وفي الديوان "عمامته".

(4)

الأبيات في ديوان جرير ص (486).

ص: 100

ونوَّرتَ بالبرهانِ أمرًا مدلَّسًا

واطفأتَ بالبرهانِ

(1)

نارًا تضرَّما

فمنْ مبلغٌ عنّي النبيَّ محمدًا

وكلُّ امرئٍ يُجْزى بما كانَ قدَّما

أقمتَ سبيلَ الحقِّ بعدَ اعوجاجِه

وكانَ قديمًا رُكْنه قد تهدَّما

تعالى عُلوَّا فوقَ عرشِ إلَهنا

وكانَ مكانُ اللَّه أعلى وأعظَما

فقال عمر: منْ بالباب منهم؟ فقال عمر بن أبي ربيعة، فقال: أليس هو الذي يقول:

ثم نَبَّهتُها فهبَّتْ كعابًا

طفلةٌ ما تُبينُ رَجْعَ الكلامِ

ساعةً ثم إنها بعدُ قالتْ

وَيْلَنا قد عجلتَ يا ابنَ الكرامِ

أعلى غيرِ موعدٍ جئتَ تسري

تتخطَّى إلى رؤوسِ النيامِ

ما تجشَّمتَ ما تريدُ من الأمرِ

ولا جئتَ طارقًا لخصام

(2)

فلو كان عدوُّ اللَّه إذْ فجَرَ، كَتَم، وستَرَ على نفسه، لا يدخل [عليَّ] واللّه أبدًا، فمن بالبابِ سواه؟: همَّام بن غالب - يعني الفَرَزْدَق - فقال عمر: أو ليس هو الذي يقولُ في شعره:

هما دلَّياني من ثمانينَ قامةً

كما انقضَّ بازٍ أقْتَمُ الريش كاسِرُهْ

فلما استوَتْ رجلايَ بالأرضِ قالتا

أحيٌّ فيُرجَى أمْ قتيلٌ نُحَاذِرُه

(3)

لا يطأ واللّه بساطي وهو كذاب، فمنْ سواه بالباب؟ قال: الأخطل، قال: أو ليس هو الذي يقول:

ولستُ بصائمٍ رمضانَ طوعًا

(4)

ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي

ولستُ بزاجر عِيسًا بكورًا

إلى بَطْحَاءَ مكّةَ للنجاحِ

ولستُ بزائرٍ بيتًا بعيدًا

بمكةَ أبتغي فيهِ صَلاحي

ولستُ بقائمٍ كالعَيْرِ أدْعو

قُبَيل الصُّبحِ حَيَّ على الفلاحِ

ولكني سأشربها شَمُولًا

وأسجُدُ عندَ منبلجِ الصباحِ

(5)

والله لا يدخلُ عليَّ وهو كافرٌ أبدًا؛ فهل بالبابِ سوى منْ ذكرتَ؟ قال: نعم الأحْوَص، قال: أليس الذي يقول:

(1)

في (ق): "بالقرآن"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

في (ح): "مخصام"، والمثبت من (ب، ق). والبيتان الأولان في ديوان عمر ص (394). والثلاثة في المنتظم (7/ 36) لابن الجوزي.

(3)

البيتان من قصيدة للفرزدق في ديوان ص (208).

(4)

في (ح): "رمضان عمري"، والمثبت من (ب، ق) والديوان.

(5)

الأبيات في ديوان الأخطل ص (486) ما عدا الثاني والثالث، وهما في المنتظم (7/ 36).

ص: 101

اللهُ بيني وبينَ سيِّدِها

يفرُّ منِّي بها وأتْبَعُهُ

فما هو دونَ منْ ذكرت، فمَنْ هاهنا غيره؟ قال جَمِيل بن مَعْمَر، قال: الذي يقول:

ألا ليتنا نَحْيَا جَميعًا وإنْ نَمُتْ

يوافقُ في الموتى ضريحي ضَريحُها

فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ

إذا قيلَ قد سُوِّي علَيْها صَفِيحُها

(1)

فلو كان عدوُّ الله تمنَّى لقاءَها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحًا ويتوب؛ واللّه لا يدخل عليَّ أبدًا؛ فهل بالباب أحدٌ سوى ذلك؟ قلت: جَرير، قال: أما إنه الذي يقول:

طرَقَتْك صائدةُ القلوبِ وليس ذا

حينَ الزيارةِ فارْجِعي بسلامِ

(2)

فإنْ كان لا بدَّ فأذَنْ لجرير، فأذن له، فدخل على عمر وهو يقول:

إنَّ الذي بعثَ النبيَّ محمدًا

جعلَ الخلافةَ للإمامِ العادلِ

وسعَ الخلائقَ عَدْلُهُ ووفاؤه

حتى ارْعوى وأقامَ ميلَ المائلِ

إني لأرجو منكَ خيرًا عاجلًا

والنفسُ مولَعةٌ بحُبِّ العاجلِ

(3)

فقال له: ويحك يا جرير، اتَّقِ اللَّه فيما تقول، ثم إنَّ جريرًا استأذن عمرَ في الإنشاد فلم يأذنْ له، ولم يَنْهه، فأنشده قصيدةً طَويلة يمدَحُهُ بها

(4)

، فقال له: ويحك يا جَرير لا أرى لك فيما هاهنا حقًا، فقال: إني مِسْكين وابنُ سَبيل. قال: إنَّا وَلينا هذا الأمر ونحنُ لا نملكُ إلا ثلاثَ مئة درهم، أخذتْ أمُّ عبد الله مئة، وابنها مئة، وقد بقيَتْ مئة، فأمر له بها، فخرج على الشعراء فقالوا: ما وراءك يا جرير؟ فقال: ما يسوؤكم، خرجتُ من عندِ أمير المؤمنين وهو يُعطي الفقراء، ويمنعُ الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:

رأيتُ رُقَى الشيطانِ لا تستفزُّه

وقدْ كانَ شيطاني منَ الجِنِّ راقيا

(5)

وقال بعضُهم فيما حكاه المعافَى بنُ زكريا الجريري قالتْ جاريةٌ للحجَّاج بنِ يوسف: إنك تُدخل هذا

علينا! فقال: إنه ما علمتُ عفيفًا، فقالت: أما إنك لو أخليتَني أنا وإياه سترى ما يصنع، فأمر بإخلائها

مع جرير في مكان يراهما الحجَّاج ولا يريانِه، ولا يشعُر جرير بشيءٍ من ذلك، فقالتْ له: يا جرير،

(1)

البيتان في ديوان جميل ص (67).

(2)

البيت في ديوان جرير ص (452).

(3)

الأبيات في ديوان جرير ص (331).

(4)

انظرهما في المنتظم (7/ 37)، وهي في ديوانه ص (210) ومطلعها:

لجَّتْ أمامة في لومي وما علمت

عَرْضَ السماوةِ رَوْحاتي ولا بُكَري

(5)

أخرج الخبر بطوله ابن الجوزي في المنتظم (7/ 35 - 38).

ص: 102

فأطرَقَ رأسَه، وقال: هأنذا، فقالت: أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعرٍ فيه رِقَّةٌ وتحنن - فقال: لستُ أحفظه ولكنْ أحفَظُ كذا وكذا - ويُعرضُ عن ذاك، ويُنشدُها شعرًا في مَدْحِ الحجَّاج - فقالت: لستُ أُريدُ هذا، إنما أريدُ كذا وكذا - فيُعرض عن ذاك ويُنشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس، فقال الحجاج: لله دَرُّك، أبَيْتَ إلا كرمًا وتكرُّمًا.

وقال أبو عكرمة

(1)

: أنشدتُ أعرابيًّا بيتًا لجرير بن الخَطَفى:

أبدِّلَ الليلُ لا تَسْري كواكبُهُ

أو طالَ حتى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرانا

(2)

فقال الأعرابي: إنَّ هذا حسنٌ في معناه، وأعوذُ بالله من مثله، ولكنِّي أُنشدُك في ضدِّه من قولي:

وليلٍ لم يُقَصِّرْهُ رُقادٌ

وقصَّرهُ لنا وَصْلُ الحبيبِ

نعيمُ الحبِّ أورقَ فيهِ حتى

تناوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قَريبِ

بمجلسِ لذَّةٍ لم نقفُ فيهِ

على شكوى ولا عَيْبِ الذنوبِ

خَشينا أنْ نقطِّعهُ بلفظٍ

فترجمَتِ العيونُ عن القلوبِ

فقلت له: زِدْني، قال: أما من هذا فحسبك، ولكنْ أنشدك غيرَه، فأنشدني:

وكنتُ إذا عقدتُ حِبال قومٍ

صحبتُهُمُ وشيمتيَ الوفاءُ

فأُحسنُ حينَ يُحسنُ مُحسنوهمْ

وأجتنبُ الإساءةَ إنْ أساؤوا

أشاءُ سوى مشيئتهمْ فآتي

مشيئتَهمْ وأتركُ ما أشاءُ

قال ابنُ خلِّكان

(3)

: كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير:

إذا غَضبتْ عليكَ بنو تميمٍ

حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضابا

قال: وقد سأله رجلٌ: منْ أشعرُ الناس؟ فأخذ بيدِه وأدخلَهُ على أبيه، وإذا هو يرتضعُ من ثَدْي عَنْز، فاستدعاه، فنهَضَ واللبَنُ يَسيلُ على لحيته، فقال جريرٌ للذي سأله: أتُبْصرُ هذا؟ قال: نعم. قال: أتعرفه؟ قال: لا. قال: هذا أبي، وإنما يشربُ من ضَرْعِ العَنْز لئلا يَحْلِبَها فيسمعَ جيرانُه حِسَّ الحَلْب، فيطلبوا منه لبنًا؛ فأشْعَرُ الناسِ مَنْ فاخرَ بهذا ثمانينَ شاعرًا فغلَبَهُم

(4)

.

وقد كان بين جرير والفرزدق مُقاولاتٌ ومهاجاةٌ كثيرة جدًّا، يطولُ ذكرُها، وقد ماتَ في سنةِ

(1)

في (ق): "عكرمة"، والمثبت من (ب، ح)، وهو أبو عكرمة عامر بن عمران الضبي.

(2)

البيت من قصيدة في ديوان جرير ص (490).

(3)

انظر وفيات الأعيان (1/ 321).

(4)

أخرجه أبو الفرج في الأغاني (8/ 53 - 54).

ص: 103

عشرٍ ومئة، قاله خليفةُ بنُ خياط

(1)

وغير واحد، قال خليفة (1): مات الفرزدقُ وجريرٌ بعدَهُ بأشهر.

وقال الصُّولي: ماتا في سنةِ إحدى عشرةَ ومئة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعينَ يومًا

(2)

.

وقال الكريمي عن الأصمعي، عن أبيه، قال: رأى رجل جريرًا في المنام بعد موته، فقال له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: غفَرَ لي. فقيل: بماذا؟ قال: بتكبيرةٍ كبَّرْتُها بالبادية. قيل له: فما فعل الفرزدق؟ قال: أيهات! أهلَكَهُ قَذْفُ المُحْصَنات. قال الأصمعي: لم يدَعْهُ في الحياةِ ولا في الممات.

وأما الفرزدق

(3)

: فاسمه همَّام بن غالب بن صَعْصَعة بْنِ ناجيةَ بنِ عِقَالِ بن محمد بن سفيان بن مُجَاشع بن دارِم بن مالك بن حنظلة بن زيد بن مناة بن تَميم بن مُرِّ بنِ أُدِّ بن طابخة، أبو فراس بن أبي خطل

(4)

التيميُّ البصريُّ، الشاعرُ المعروف بالفرزدق، وجدُّهُ صَعْصَعةُ بن ناجية صحابيٌّ وَفَد إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسل - وكان يحيي الموءودة في الجاهلية.

حدث الفرزدقُ عن عليّ، أنَّه وَفَد

(5)

مع أبيه عليه، فقال له: منْ هذا؟ قال: ابني وهو شاعر. قال: علِّمْهُ القراءة فهو خيرٌ لَهُ من الشعر

(6)

.

وسمع الفرزدق الحسينَ بن عليّ - ورآهُ وهو ذاهبٌ إلى العراق - وأبا هريرة، وأبا سعيدٍ الخُدْري وعَرْفجة بن أسعد، وزُرَارة بنَ كَرِب، والطِّرِمَّاح بن عديّ الشاعر.

وروى عنه خالد الحذَّاء ومروان الأصْفر

(7)

، وحجاج بن حجاج الأحول، وجماعة.

وقد وَفَدَ على معاوية يطلبُ ميراثَ عمِّه الحُتَات

(8)

، وعلى الوليد بن عبد الملك، وقيل: على هشام بن عبد الملك، ولم يصحَّ ذلك.

(1)

في تاريخه ص (340).

(2)

انظر المنتظم (7/ 148).

(3)

ترجمته في: طبقات ابن سلام (1/ 299)، الشعر والشعراء ص (381)، الأغاني (9/ 367)، معجم المرزباني ص (465)، المبهج ص (50)، سمط اللآلي ص (44)، وفيات الأعيان (6/ 86)، تاريخ الإسلام (4/ 178)، سير أعلام النبلاء (4/ 590)، لسان الميزان (6/ 198)، مرآة الجنان (1/ 138)، سرح العيون ص (389 و 464)، النجوم الزاهرة (1/ 268) الإصابة (5/ 394)، خزانة الأدب (بتحقيق هارون)(1/ 217).

(4)

في (ح): "حنظل" والمثبت من "ب، ق".

(5)

في (ق): "ورد"، والمثبت من "ب، ح".

(6)

انظر الإصابة (5/ 395).

(7)

في (ق، ب): "الأصغر" بالغين، وهو تصحيف، والمثبت من (ح) والإكمال لابن ماكولا (7/ 45)، وتقريب التهذيب ص (526).

(8)

في (ح، ق): "الحباب"، تصحيف، والمثبت من (ب) والاستيعاب (1/ 412)، والإصابة (2/ 29) في ترجمة الحتات، والخبر فيه.

ص: 104

قال أشعث بن عبد الملك

(1)

عن الفرزدق، قال: نظر أبو هريرة إلى قدميَّ فقال: يا فرزدق، إنِّي أرى قدَمَيْكَ صغيرتَيْن، فاطلبْ لهما موضعًا في الجنة. فقلت: إنَّ ذنوبي كثيرة. فقال: لا بأس

(2)

فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ بالمَغْربِ بابًا مفتوحًا للتوبةِ لا يُغلق حتى تطلُعَ الشمسُ منْ مَغْرِبها"

(3)

.

وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلتُ على الفرزدق فتحرَّك، فإذا في رِجْله قَيْد، فقلت: ما هذا؟ فقال: حلفتُ أنْ لا أنزِعَهُ حتى أحفظَ القرآن.

وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيتُ بدويًّا أقامَ بالحضَر إلَّا فسَدَ لسانُه إلَّا رؤبة بن العجَّاج والفرزدق، فإنهما زادا على طولِ الإقامة جدةً وحِدَّة.

وقال راويته أبو سهل: طلَّقَ الفرزدقُ امرأته النَّوَار ثلاثًا، ثم جاء فأشهدَ على ذلك الحَسَن البصري، ثم نَدمَ على طلاقها وإشهادِه الحسنَ على ذلك، فأنشأ يقول:

نَدِمْتُ نَدَامةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا

غَدَتْ منِّي مُطَلَّقة نَوارُ

وكانتْ جنَّتي فخرجْتُ منها

لكاَنَ حين أخرجَهُ الضرارُ

فلو أنِّي مَلَكْتُ يدي وقلبي

لكَانَ عليَّ للقَدَرِ الخِيار

(4)

وقال الأصمعي وغيرُ واحد: لما ماتتْ النَّوَارُ بنتُ أعين بن ضُبيعة المُجَاشعي امرأةُ الفرزدق، وكانت قد أوصَتْ أن يصلِّيَ عليها الحسنُ البصري، فشهدها أعيانُ أهلِ البصرةِ مع الحسن، والحسنُ على بغلته، والفرزدقُ على بعيرِه، فسارَ، فقال الحسنُ للفرزدق: ماذا يقولُ الناس؟ قال: يقولونَ شهدَ هذه الجنازةَ اليومَ خيرُ الناس - يعنونك - وشرُّ الناسِ - يعنوني - فقال له: يا أبا فِرَاس، لستُ أنا بخيرِ الناس، ولستَ أنتَ بشرِّ الناس. ثم قال له الحسن: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادةَ أنْ لا إله إلا اللَّه منذ ثمانينَ سنة. فلمَّا أنْ صلَّى عليها الحسن، مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدقُ يقول:

أخافُ وراءَ القبرِ إنْ لم يُعافِني

أشدَّ من القبرِ التهابًا وأضيقا

(1)

في (ق):"عبد الله"، والمثبت من (ب، ح) وسير أعلام النبلاء (15/ 7).

(2)

في الكامل للضعفاء:"فلا تيأس"، وفي سير أعلام النبلاء:"لا تأس"، وفي لسان الميزان:"فلا تقنطن".

(3)

أخرجه ابن عدي في الكامل للضعفاء (4/ 87)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 7)، وذكره ابن حجر في لسان الميزان. وفي سنده صلة بن سليمان، وهو ضعيف، ويعتبر بحديئه عن أشعث بن عبد الملك. ويغني عنه الحديث الثابت في صحيح مسلم (2703) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب اللَّه عليه".

(4)

في (ق) ورد البيت الثالث الأول، والمثبت من (ب، ح)، وديوان الفرزدق ص (294). وأوردها صاحب الأغاني (10/ 294) في سياق القصة بألفاظ مقاربة.

ص: 105

إذا جاءَني يومَ القيامةِ قائدٌ

عَنيفٌ وسوَّاقٌ يسوقُ الفرزدقا

لقد خابَ منْ أولادِ دارِم

(1)

مَنْ مَشَى إلى النار مغلولَ القلادةِ أزرقا

يُساقُ إلى نارِ الجحيمِ مُسَربَلًا

سَرابيلَ قطرانٍ لباسًا مخرَّقا

إذا شربوا فيها الصَّديدَ رأيتَهم

يذوبون من حرِّ الصَّديدِ تَمَزُّقا

(2)

قال: فبكى الحسنُ حتى بلَّ الثَّرى. ثم التزمَ الفرزدقَ وقال: لقد كنتَ من أبغضِ الناسِ إليّ، وإنك اليومَ من أحبِّ الناسِ إليَّ

(3)

.

وقال له بعضُ الناس: ألا تخافُ منَ الله في قذفِ المُحْصنات؟ فقال: واللهِ للهُ أحبُّ إليَّ مِنْ عينيَّ اللتينِ أُبصرُ بهما، فكيف يُعَذِّبُني؟.

وقد قدَّمْنا أنه ماتَ سنةَ عشرٍ ومئة، وأنه تُوفي قبلَ جرير بأربعين يومًا. وقيل: بأشهر. فالله أعلم.

وأما الحسنُ وابنُ سيرين فقد ذكَرْنا ترجمةَ كلٍّ منهما في كتابنا "التكميل" مبسوطةً. وحسْبُنا الله ونعم الوكيل.

فأما الحسن بن أبي الحسن

(4)

: فاسمُ أبيه يَسَار، أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جابر بن عبد الله، وقيل غيرُ ذلك؟ وأمُّه خيرة مولاةٌ لأمِّ سلمة، كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجةِ فتشتغلُ عن ولدِها الحسن وهو رضيع، فتشاغلهُ أمُّ سَلَمة بثديَيْها فيدرَّانِ عليه، فيرتضع منهما، فكانوا يَرَوْنَ أنَّ تلك الحكمةَ والعلومَ التي أوتيها الحسنُ من بركةِ تلك الرَّضاعة من الثديِ المنسوبِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم كان وهو صغير تُخرجه أمُّه إلى الصحابةِ فيدعونَ له، وكان في جملةِ منْ يدعو له عمرُ بن الخطاب قال: اللهمَّ فقِّهْهُ في الدِّين، وحبِّبْهُ إلى الناس. وسئل مرةً أنسُ بنُ مالكٍ عن مسألةٍ فقال: سلُوا عنها مولانا الحسن، فإنَّه سمع وسمعْنا، فحفِظَ ونَسِينا.

(1)

في (ب، ح): "آدم" بدل"دارم".

(2)

الأبيات في ديوان الفرزدق ص (39).

(3)

أخرج الخبر أبو الفرج في الأغاني (21/ 394).

(4)

ترجمته في: طبقات ابن سعد (7/ 156)، طبقات خليفة ص (210)، الزهد لأحمد ص (258)، تاريخ البخاري (2/ 289)، المعارف لابن قتيبة ص (440)، المعرفة والتاريخ (2/ 32)، أخبار القضاة لوكيع (2/ 3)، الجرح والتعديل (3/ 40)، حلية الأولياء (2/ 131)، الفهرست لابن النديم ص (202)، الحسن البصري لابن الجوزي (كتاب مستقل)، صفة الصفوة (3/ 233)، المختار من مناقب الأخيار (1/ 186) وفيات الأعيان (2/ 69)، تهذيب الكمال (6/ 95)، سير أعلام النبلاء (4/ 563)، تذكرة الحفاظ (1/ 66)، الوافي بالوفيات (12/ 306)، تهذيب التهذيب (2/ 263)، طبقات الحفاظ ص (28)، طبقات الشعراني (1/ 29)، الكواكب الدرية (1/ 56)

ص: 106

وقال أنسٌ مرَّةً: إني لأغبِطُ أهلَ البصرةِ بهذَيْنِ الشيخَيْن: الحسَنِ وابنِ سيرين.

وقال قتادة: ما جالستُ رجلًا فقيهًا إلَّا رأيتُ فضلَ الحسَنِ عليه.

وقال أيضًا: ما رأت عيناي أفقهَ من الحسن.

وقال أيوب: كان الرجلُ يجالسُ الحسنَ ثلاثَ حِجَجٍ ما يسألُه عن مسالةٍ هيبةً له.

وقال الشعبيُّ لرجلٍ يريدُ قدومَ البصرة: إذا نظرتَ إلى رجلٍ أجملِ أهلِ البصرةِ، وأهْيَبِهم فهو الحسن؛ فأقرئهُ مني السلام.

وقال يونس بن عُبيد: كان الرجلُ إذا نظرَ إلى الحسنِ انتفَعَ بهِ وإنْ لم يرَ عملَه، ولم يسمعْ كلامَه.

وقال الأعمش: ما زال الحسنُ يعي الحكمةَ نطق بها.

وكان أبو جعفر إذا ذكرَهُ يقول: ذاك الذي يُشبه كلامُهُ كلامَ الأنبياء.

وقال محمد بن سعد

(1)

: قالوا: كان الحسنُ جامعًا للعلم والعمل، عالمًا رفيعًا فقيهًا ثقةً مأمونًا، عابدًا زاهدًا ناسكًا، كثيرَ العلمِ والعمل، فصيحًا، جميلًا، وسيمًا، وقدمَ مكة

(2)

، فأُجلس على سرير، وجلس العلماء حولَه، واجتمع الناسُ إليه فحدَّثهم. وكان فيهم مجاهد، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن شعيب، فقالوا: لم نر مثل هذا قط.

قال أهل التاريخ: مات الحسنُ عن ثمانٍ وثمانينَ سنة، عامَ عشرٍ ومئة، في مستهلِّ رجبٍ منها، بينه وبين محمد بن سيرين مئة يوم.

وأما: ابنُ سيرين

(3)

: فهو محمد بن سيرين، أبو بكر بن أبي عمرو الأنصاري مولى أنس بن مالك النَّضْريّ. كان أبو محمد من سَبْي عينِ التَّمْر، أسرَهُ خالد بن الوليد في جملةِ السَّبْي، فاشتراه أنسٌ ثم كاتبه، ثم وُلد له من الأولاد الأخيار جماعةٌ: محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد،

(1)

في الطبقات الكبرى (7/ 157).

(2)

زاد ابن سعد هناك "وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسنٌ حُجَّة؛ وما أرسل من الحديث فليس بحُجَّة".

(3)

ترجمته في: طبقات ابن سعد (7/ 193)، الزهد لأحمد بن حنبل ص (430)، تاريخ خليفة ص (118، 340)، طبقات خليفة ص (210)، المعارف (442)، التاريخ الكبير (1/ 90)، أخبار القضاة لوكيع (2/ 326)، الجرح والتعديل (7/ 280)، الثقات لابن حبان (5/ 348)، حلية الأولياء (2/ 263)، تاريخ بغداد (5/ 331)، صفة الصفوة (3/ 241)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 377)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 82)، وفيات الأعيان (4/ 181)، مختصر تاريخ دمشق (22/ 217)، تهذيب الكمال (25/ 344)، سير أعلام النبلاء (4/ 606)، تذكرة الحفاظ (1/ 73)، مرآة الجنان (1/ 232)، الوافي بالوفيات (3/ 146)، طبقات الشعراني (1/ 36)، الكواكب الدرية (1/ 426).

ص: 107

ويحيى، وحفصة، وكريمة؛ وكلُّهم تابعيُّون، ثقات أجلاء، رحمهم الله.

قال البخاري

(1)

: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.

وقال هشام بن حسان: هو أصدقُ مَنْ أدركتُ من البشر.

وقال محمد بن سعد

(2)

: كان ثقةً مأمونًا، عالمًا رفيعًا، فقيهًا إمامًا، كثيرَ العلم، ورعًا، وكان به صَمَم.

وقال مؤَرِّق العجلي: ما رأيتُ رجلًا أفقهَ في ورَعِه، وأورعَ في فقهِه منه.

قال ابن عون: كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدَّ الناسِ إزراءً على نفسه، وأشدَّهم خوفًا عليها

(3)

.

قال ابن عون: ما بكى في الدنيا مثلُ ثلاثة: محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حَيْوة بالشام؛ وكانوا يأتون بالحديثِ على حروفه.

وكان الشعبيُّ يقول: عليكم بذاك الأصمّ - يعني محمد بن سيرين.

وقال ابن شَوْذَب: ما رأيتُ أحدًا أجرأ على تعبيرِ الرؤيا منه.

وقال عثمان البَتِّي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه.

قالوا: وماتَ في تاسعِ شوال من هذه السنة، بعدَ الحسن بمئة يوم

(4)

.

(1)

في التاريخ الكبير (1/ 91).

(2)

في الطبقات (7/ 193).

(3)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 615).

(4)

هنا تبتدئ زيادة من (ق) أقحمت على المتن أثبتناها هنا في الحاشية وهي:

[كان اللائقُ بالمؤلِّف أنْ يذكرِ تراجمَ هؤلاء العلماء الأخيار قبلَ تراجم الشعراءِ المتقدِّم ذكرُهم، فيبدأ بهم ثم يأتي بتراجمِ الشعراء. وأيضًا فإنَّه أطالَ القولَ في تراجم الشعراء، واختصرَ تراجمَ العلماء؛ ولو كان فيها حسن وحِكَمٌ ينتفع بها مَنْ وقف عليها، ولعلّها أفيَدُ من مَدْحِهم والثناءِ عليهم ولا سيما كلام الحسن، وابنِ سيرين، ووَهْب بنِ مُنبِّه، كما ذكره بعد، وكما سيأتي ذكرُ ترجمتِه في هذه الزيادة؛ فإنَّه قدِ اختصرَهُ جدًّا وإنَّ المؤلِّفَ أقْدرُ وأوسع علمًا. فما ينبغي أن يُخِلَّ ببعضِ كلامهم وحِكَمِهم، فإنَّ النفوسَ مستشرفةٌ إلى معرفةِ ذلك، والنظرِ فيه. فإنَّ أقوالَ السلَفِ لها موقعٌ من القلوب. والمؤلِّفُ - غالبًا في التراجم - يُحِيلُ على ما ذكَرَ في "التكميل" الذي صنَّفَهُ في أسماءِ الرجال. وهذا الكتاب لم نقفْ عليه نحنُ ولا منْ سألْناه عنه من العلماء. فإنَّا قد سألنا عنه جماعةً من أهلِ الفنِّ، فلم يذكرْ غيرُ واحدٍ أنه اطَّلع عليه، فكيف حالُ غيرهمْ (هكذا قال، وقد ذكر كتاب التكميل أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني الدمشقي في ذيل تذكرة الحفاظ ص (58) في ترجمة ابن كثير، فقال: فمن تصانيفه "كتاب التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل"، جمَعَ بين كتاب التهذيب والميزان، وهو خمس مجلدات. وذكرهُ أيضًا أبو الطيب محمد بن أحمد الفاسي المكي في ذيل التقييد (1/ 472) في ترجمة ابن=

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كثير، وأنه من مؤلفاته، وهو كتاب معروف مذكور مشهور وصل إلينا مخطوطًا، فتنظر مقدمة "تهذيب الكمال" بتحقيق الدكتور بشار عواد.). وقد ذكرتُ في غالب التراجم زياداتٍ على ما ذَكَره المؤلف، مما وصلتْ إليه معرفتي، واطلعنا عليه، ولو كان عندي كتبٌ لأشبعتُ القولَ في ذلك؛ إذِ الحكمةُ هي ضالَّةُ المؤمن، ولعلَّ أنْ يقفَ على هذا راغبٌ في الآخرة، طالبٌ ما عندَ الله عز وجل، فينتفع به أعظم مما ينتفعُ به منْ تراجم الخلفاء والملوك والأمراء، وإنْ كانتْ تلك أيضًا نافعةً لمعتبرٍ ومزدجر، فإن ذكرَ أئمةِ العَدْلِ والجَوْر بعدَ موتِهم فيها فضلُ أولئك وغَمُّ هؤلاء، ليعلمَ الظالمُ أنَّه وإن ماتَ لم يمتْ ما كان متلبِّسًا به من الفسادِ والظلم، بل هو مدوَّنٌ في الكتب عندَ العلماء. وكذلك أهل العدلِ والصلاحِ والخير، فإنَّ الله قد قَصَّ في القرآن أخبارَ الملوكِ والفراعنةِ والكفارِ والمفسدين، تحذيرًا من أحوالهم، وما كانوا يعملون؛ وقصَ أيضًا أخبارَ الأتقياء والمحسنينَ والأبرار والأخيارِ والمؤمنين، للاقتداء والتأسي بهم، والله سبحانه أعلم. فنقولُ وبالله التوفيق:

أما: الحسن (تقدمت مصادر ترجمته في ص (266) في الحاشية.): فهو أبو سعيد البصري الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعينَ الكبارِ الأجلاءِ عِلْمًا وعملًا وإخلاصًا.

فروى ابنُ أبي الدنيا عنه قال: كان الرجلُ يتعبَّدُ عشرين سنةً لا يَشْعُر بهِ جارُه، وأحَدُهم يصلي ليلة أو بعضَ ليلةٍ، فيصبحُ وقد استطالَ على جارِه. وإنْ كان القومُ ليجتمعون فيتذاكرون، فتجيءُ الرجل عَبْرَتُهُ فيردُّها ما استطاع، فإن غُلب قامَ عنهم.

وقال الحسن: تنفَّس رجلٌ عندَ عمرَ بنِ عبد العزيز فلَكَزَهُ عمرُ - أو قال: لكمه - وقال: إنَّ في هذا لفتنة. وقد ذكره ابنُ أبي الدنيا عن الحسن، عن عمر بن الخطاب.

وروى الطبرانيُّ عنه أنه قال: إنَّ قومًا ألْهَتْهُمْ أمانيُّ المغفرة، ورجاءُ الرحمة، حتى خرجوا من الدنيا وليستْ لهم أعمالٌ صالحة؛ يقولُ أحدهم إني لَحَسنُ الظنِّ بالله، وأرجو رحمةَ الله؛ وكَذَبَ، لو أحسن الظنَّ بالله لأحْسَنَ العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمالِ الصالحة، يوشكُ منْ دخل المفازةَ من غيرِ زادِ ولا ماءِ أن يَهْلِك.

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعةُ الذً ثُور، وأقنِعُوا هذه الأنفُسَ فإنها تَنْزِعُ إلى شرِّ غاية.

وقال مالكُ بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبةُ العالم إذا أحبَّ الدنيا؟ قال: موتُ القلب، فإذا أحبَّ الدنيا طلبها بعمَلِ الآخرة (أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد ص (532)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 296)(1837).).

فعند ذلك تَرْحلُ عنه بركاتُ العِلْم، ويبقى عليه رَسْمُه.

وروى العُتْبي عن أبيه قال: عادَ الحسنُ عليلًا، فوجدَهُ قد شُفي من علَّتِه، فقال: أيها الرجل، إنَّ الله قد ذكرَكَ فاذْكُرْه، وقد أقالَكَ فاشكُرْه. ثم قال الحسن: إنما المرضُ ضربةُ سَوْطٍ مِنْ ملَكٍ كَريم، فإما أنْ يكونَ العليلُ بعدَ المرضِ فرَسًا جوادًا، وإمَّا أنْ يكونَ حمارًا عثورًا مَعْقُورًا.

وروى العتبي عن أبيه أيضًا قال: كتب الحسنُ إلى فرقد: أمَّا بعد، فإما أوصيكَ بتقوى الله، والعملِ بما علَّمَك الله، والاستعدادِ لما وعدَ الله مما لا حيلَة لأحدٍ في دفعه، ولا ينفعُ الندمُ عند نزوِلِه، فاحْسِرْ عن رأسِكَ قِنَاعَ الغافلين، وانتبهْ من رَقْدَةِ الجاهلين، وشمِّرِ الساق، فإنَّ الدنيا ميدانُ مسابقة، والغايةُ الجنةُ أو النار، فإن لي ولك من الله مقامًا يسألُني وإياكَ فيه عن الحقيرِ والدقيق، والجليلِ والخافي، ولا آمنُ أنْ يكونَ فيما يسألني وإياك عنه، =

ص: 109

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وساوس الصُّدور، ولحظَ العيون، وإصغاءَ الأسماع، وما أعجز عنه (انظر حلية الأولياء (8/ 241)، وصفة الصفوة (4/ 263)، وإحياء علوم الدبن (2/ 183)، فبعض ما روي في هذا الخبر كتبه يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي.).

وروى ابنُ قتيبة (كذا في (ق)، والذي يرويه عن الحسن كما في الحلية (2/ 150، 151) هو فضيل بن جعفر. وفي رواية عند ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 236) الذي يرويه عنه أبو همام الكِلاعي.) عنه، أنه مرَّ على بابِ ابنِ هُبَيرة، فرأى القرَّاء - وكانوا همُ الفقهاء - جلوسًا على باب ابن هُبيرة فقال: فرْطَحْتُم (في (ق): "طفحتم"، والمثبت من صفة الصفوة.) نعالَكم، وبيَّضتُم ثيابكم، ثمَ أتيتم إلى أبوابهم تسعَوْن؟! ثم قال لأصحابه: ما ظنَّكم بهؤلاء الحذَّاء؟ ليست مجالسهُم من مجالسِ الأتقياء، وإنما مجالسُهم مجالسُ الشرط (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 150، 151)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 236).

وروى الخرائطي عن الحسن، أنه كان إذا اشترى شيئًا وكان في ثمنه كسرٌ جبرَهُ لصاحبِه.

ومرَّ الحسنُ بقوم يقولون: نقَصَ دانِقٌ - أيْ عن الدرهم الكامل والدينار الكامل - أما أنْ يكونَ درهمًا ينقُصُ نصفًا أو رُبعًا، والعشرةُ تسعة ونصف، وقِسْ على هذا؛ فكان الحسنُ يستحبُّ جبرانَ هذه الأشياء، وإن كان اشترى السلعةَ بدرهمٍ ينقص دانقًا كمَّلَهُ درهمًا أو بتسعةٍ ونصف كمَّلَها عشرة مروءةً وكرمًا.

وقال عبد الأعلى السمسار: قال الحسن: يا عبدَ الأعلى، أما يبيعُ أحدُكُمُ الثوبَ لأخيه فيُنقِص درهمَيْنِ أو ثلاثة؟ قلت: لا واللّه ولا دانِقٌ واحد، فقال الحسن: إن هذه الأخلاق، فما بقي من المروءة إذًا؟ قال: وكان الحسنُ يقولُ لا دينَ إلا بمروءة. وباع بغلة له فقال له المشتري: أما تحطُّ لي شيئًا يا أبا سعيد؟ قال: لك خمسون درهمًا، أزيدُك؟ قال: لا رَضيت. قال: بارك الله لك.

وروى ابنُ أبي الدنيا عن حمزةَ الأعمى قال: ذهبَتْ بي أمِّي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد، ابني هذا قد أحببتُ أن يلزمَك. فلعل الله أنْ ينفعَهُ بك. قال: فكنتُ أختلف إليه فقال لي يومًا: يا بُني أدِم الحُزنَ على خيرِ الآخرة، لعله أن يوصلَك إليه؛ وابكِ في ساعاتِ الليلِ والنهارِ في الخَلْوة لعلّ مولاك أن يطَّلِعَ عليكَ فيرحمَ عبرَتَك فتكون من الفائزين. قال: وكنتُ أدخل على الحسن منْزِله وهو يبكي، وربما جئتُ إليه وهو يصلِّي فأسمع بكاءه ونَحيبه، فقلتُ له يومًا: إنك تُكثرُ البكاء! فقال: يا بُني، ماذا يصنعُ المؤمنُ إذا لم يبكِ؟ يا بُني، إنَّ البكاء. داعٍ إلى الرحمة، فإنِ استطعتَ أنْ تكون عمرَكَ باكيًا فأفعلْ، لعله تعالى أنْ يرحمَك؛ فإذا أنتَ نَجَوتَ من النار.

وقال: ما هو إلا حلول الدار، إمَّا الجنة، وإمَّا النار، ما هناك منْزلٌ ثالث.

وقال: بلغنا أن الباكي من خشيةِ الله لا تقطرُ من دموعِه قطرةٌ حتى تُعتق رقبتُه من النار. وقال: لو أنَّ باكيًا بكى في ملأٍ من خشيةِ الله لَرُحموا جميعًا، وليس ثم: من الأعمال إلا له وَزْن، إلا البكاء من خشية الله، فإنه لا يقوِّمُ الله بالدمعةِ منه شيئًا. وقال: ما بكى عبدٌ إلَّا شهد عليه قلبُهُ بالصدق أو الكذب.

وروى ابن أبي الدنيا عنه في كتاب "اليقين" قال: من علاماتِ المسلم قوَّةُ دين، وحزمٌ في لين، وإيمانٌ في يَقين، وحكمٌ في عِلْم، وحبسٌ في رِفْق، وإعطاءٌ في حَقّ، وقَصْدٌ في غِنًى، وتحمُّل في فاقة، وإحسان في قُدْرَة، وطاعةٌ معها نصيحة، وتورُّعٌ في رَغْبَةٍ وتعفُّف، وصَبرٌ في شدَّة لا تُرْديهِ رغبته، ولا يبدُرُهُ لسانُه، ولا يسبقه بصرُه، ولا يَغلِبه فرْجه، ولا يَميلُ به هواه، ولا يفضَحُهُ لسانُه، ولا يستخفُّه حِرصُه، ولا تقصِّرُ به نِيَّتُه، كذا ذَكَرَ هذه الألفاظَ عنه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح عن الحكم بن ظهير، عن يحيى بن المختار عن الحسن

فذكره (يعني ابن أبي الدنيا؛ انظر إحياء علوم الدين (3/ 166).).

وقال فيه أيضًا عنه: يا بن آدم، إن مِنْ ضَعف يقينك أنْ تكون بما في يدِك أوثقَ منك بما في يديِ اللهِ عز وجل. =

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدثنا علي بن إبراهيم اليشكري، حدثنا موسى بن إسماعيل الجبلي، حدثنا حفصُ بن سليمان أبو مقاتل، عن عون بن أبي شدَّاد، عن الحسن، قال لقمان لابنه: يا بُني، العمَلُ لا يستطاعُ إلا باليقين، ومَنْ يضعفْ يقينُه يضعفْ عملُه. وقال: يا بُني، إذا جاءك الشيطانُ من قِبَلِ الشكَّ والرِّيَب، فاغلِبْهُ باليقين والنصيحة، وإذا جاءكَ من قِبَلِ الكَسَلِ والسآمة فاغلِبْهُ بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قِبَلِ الرغبةِ والرَّهْبةِ فأخبِرْهُ أن الدنيا مفارقةٌ متروكة.

وقال الحسن: ما أيقنَ عبدٌ بالجنةِ والنارِ حقَّ يقينِهما إلَّا خشَعَ وذَبُل، واستقام واقتصد، حتى يأتيَهُ الموت.

وقال: باليقين طلبتُ الجنة، وباليقين هربتُ من النار، وباليقينِ أدَّيتُ الفرائضَ على أكمل وجهها، وباليقين أصبرُ على الحقّ، وفي معافاةِ اللهِ خيرٌ كثير، قد والله رأيناهم يتعاونونَ في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا.

وقال: الناسُ في العافية سواء. فإذا نزل البلاءُ تبيَّنَ عنده الرجال. وفي رواية: فإذا نزل البلاء تبيَّنَ مَنْ يعبُد الله وغيره. وفي رواية: فإذا نزل البلاء سكنَ المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه.

وقال الفِرْيَابي في "فضائل القرآن": حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأهُ عَبيدٌ وصِبْيان، لا علمَ لهم بتأويله، لم يأتوا الأمر من قبل أوله؛ قال الله عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وما تدبُّرُ آياتِهِ إلا اتباعُه، أما والله ما هو بحِفْظِ حروفِهِ وإضاعةِ حدودِه، حتى إن أحدَهم ليقول: قد قرأتُ القرآنَ كلَّه، فما أسقط منه حرفًا واحدًا. وقد والله أسقطَهُ كلَّه، ما يرى له القرآن في خُلُقٍ ولا عمل، حتى إنَّ أحدَهم ليقول: والله إني لأقرأ السورةَ في نفَسٍ، لا والله ما هؤلاءِ بالقرَّاء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورَعَة. ومتى كانتِ القراءةُ هكذا - أو يقول مثل هذا - لا أكثرَ الله في الناس مثلَ هؤلاء (أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد ص (274) برقم (793)، وأبو بكر البيهقي في شعب الإيمان (2/ 541) برقم (2653).).

ثم روى الحسن عن جُنْدَب، قال: قال لنا حذيفة: هل تخافونَ من شيء؟ قال: قلتُ والله إنَّك وأصحابَكَ لأهوَنُ الناسِ عندنا. فقال: أمَا والذي نفسي بيده، لا تؤتَوْنَ إلا من قِبَلنا ومع ذلك نَشءٌ آخر يقرؤون القرآن، يكونون في آَخر هذه الأمَّة ينثرونه نَثْرَ الدَّقَل (الدَّقَلُ: أردأ التمر.)، لا يجاوزُ تراقيَهم تسبقُ قراءتُهم إيمانَهم (أخرج البخاري في التاريخ الكبير (4/ 301) في ترجمة صلت بن مهران، بإسناده إلى معتمر: سمعت أبي عن قتادة عن الحسن عن جندب بلغه عن حذيفة أو سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ناسًا يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله. وقال موسى: حدّثنا حماد أنبأنا يونس عن الحسن عن جندب عن حذيفة قوله بهذا. وقال: ابن أبي الأسود حدّثنا ابن علية عن يونس بهذا. اهـ.).

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه في "ذم الغيبة" له قال: والله لَلْغِيبةُ أسرعُ في دينِ المؤمن من الأكلة في جسده (ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (3/ 143).).

وكان يقول: ابنَ آدم، إنك لن تُصيبَ حقيقةَ الإيمانِ حتى لا تُصيبَ الناسَ بعَيبٍ هو فيك، وحتى تبدأ بصلاحِ ذلك العيب، فتصلحَهُ من نفسك، فإذا فعلتَ ذلك كان ذلك شغلك في طاعة نفسك وأحبُّ العباد إلى الله منْ كان هكذا (أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في الصمت ص (131) برقم (197) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 312) برقم (6762)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 234)، والغزالي في إحياء علوم الدين (3/ 143).).

وقال الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حُرْمة. وقال: ليس لمبتدع غِيبَة. وقال أصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلِنُ بفجوره ذِكري له بما فيه غِيبة؟ قال: لا ولا كرامة. وقال: إذا ظهرَ فجورُهُ فلا غِيبةَ =

ص: 111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= له (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت ص (144) برقم (231)، وذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (3/ 153).).

وقال: ثلاثةٌ لا تَحْرُمُ عليك غيبتُهم: المجاهرُ بالفِسْق، والإمامُ الجائر، والمبتدِع (ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (3/ 153).).

وقال له رجل: إنَّ قومًا يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلًا. فقال: هَوِّن عليك يا هذا، فإني أطمعتُ نفسي في الجنان فطمِعَتْ، وأطمعتُها في النجاةِ من النار فطمِعَت، وأطمعتُها في السلامةِ من الناس فلم أجدْ إلى ذلك سبيلًا؛ فإنَّ الناسَ لم يَرْضوا عن خالقِهم ورازِقهم، فكيف يرضَوْنَ عن مخلوقٍ مثلِهم؟ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 305).)

وقال كانوا يقولون: منْ رَمى أخاهُ بذنب قد تاب منه، لم يمتْ حتى يصيبَ ذلك الذنبَ (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت ص (170) برقم (289) بنحوه.).

وقال الحسن: قال لقمان لابنِه: يا بُني، إياكَ والكَذِب، فإنه شهيٌّ كلَحْمِ العُصفور، عما قليل يقلاهُ صاحبُه (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت ص (257) برقم (538). وأخرجه ضمن حديث طويل البيهقى في شعب الإيمان (4/ 231) برقم (4891).).

وقال الحسن: اعتبروا الناسَ بأعمالِهم، ودعوا أقوالَهم، فإن الله عز وجل لم يدَعْ قولًا إلَّا جعل عليه دليلًا من عمَل، يصدِّقه أو يكذِّبه، فإنْ سمعتَ قولًا حسنًا فرويدًا بصاحبه، فإنْ وافقَ قولًا عملًا فنعمَ ونعمةُ عَيْن! آخِهِ وأحْبِبْه (في (ق) صحفت العبارة إلى "نعمت عين أخته وأخيه"، والصواب المثبت من مصادر التخريج.)؛ وإذا خالف قولٌ عملًا فماذا يشبه عليك منه؛ أم ماذا يَخفى عليك منه؟ إياك وإياه لا يخدعَنَّكَ كما خدَع ابنَ آدم. إن لك قولًا وعملًا، فعملك أحقُّ بك من قولِك؛ وإن لك سريرةً وعلانية فسريرتكَ أحقُّ بكَ من علانيتك، وإنَّ لك عاجلةً وعاقبة، فعاقبتُك أحقُّ بك من عاجلتك (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (26) برقم (77)، وابن أبي الدنيا في الصمت ص (280)، برقم (626).).

وقال ابنُ أبي الدنيا (في الصمت ص 281 برقم (628)، وما يأتي بين معقوفين منه.) حدثنا حمزة بن العباسِ، أنبأنا عبدان بن عثمان، [أنبأنا عبد الله]، أنبأنا معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن، قال: إذا شئتَ لقيتَ الرجلَ أبيضَ، حديدَ اللسان، حديدَ النظر، ميتَ القلب والعمل، أنتَ أبصرُ به من نفسِه، ترى أبدانًا ولا قلوبًا، وتسمعُ الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة، وأجدب قلَوبًا؛ يأكلُ أحدُهم من غيرِ مالِه، ويبكي على عمَّاله، فإذا كَظَّتهُ البِطْنةُ قال: يا جارية - أو يا غلام - إيتني بهاضم، وهل هضمتَ يا مسكينُ إلا دينَك.

وقال: منْ رَقَّ ثوبُه رَقَّ دِينُه، ومنْ سَمِنَ جَسَدُه هَزُلَ دينُه، ومن طاب طعامُه أنتَنَ كسبُه.

وقال فيما رواه عنه الآجُرِّيّ: رأسُ مالِ المؤمن دينٌ حيثُ ما زالَ زالَ منعه لا يُخَلِّفُهُ في الرِّحال (الرِّحال: مفردها رَحْل وهو منزل الرجل ومسكنه وبيته. والرَّحْل أيضًا: مَرْكبٌ للبعير والناقة. اللسان (رحل).) ولا يأتمنُ عليه الرجال.

وقال في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، قال: لا تلْقَى المؤمنَ إلا يلومُ نفسَه: ما أردتِ بكلمةِ كذا؟ ما أردتِ بأكْلَةِ كذا؟ ما أردتِ بمجلسِ كذا؟ وأمَّا الفاجرُ فيَمضي قُدُمًا قُدُمًا، لا يلومُ نفسَه (ذكره ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 7).).

وقال: تصبَّروا وتشدَّدوا، فإنما هي ليالٍ تُعَدّ، وإنما أنتم رَكْبٌ وقوف، يوشكُ أنْ يُدعَى أحدُكم فيُجيب ولا يلتفت؛ فانقلِبُوا بصالحِ ما بحضرَتِكم، إنَّ هْذا الحقَّ أجهدَ الناس، وحالَ بينهم وبين شهواتهم؛ وإنما يصبرُ على =

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= هذا الحقِّ منْ عرَفَ فضلَه وعاقبتَه (ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (4/ 460).).

وقال: لا يزالُ العبدُ بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانتِ المحاسبةُ من هِمَّتِه (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (389) برقم (1103)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 145، 146).).

وقال ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس": حدثنا عبد الله، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن، قال: المؤمنُ قوَّام على نفسه، يحاسِبُ نفسَه للّهِ عز وجل، وإنما خفَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قوم حاسبوا أنفسَهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على أقوامٍ أخذوا هذا الأمرَ من غيرِ محاسبة؛ إنَّ المؤمنَ يَفْجَؤهُ الشيءُ، ويعجبه فيقول: واللهِ إنَّكَ لَمِنْ حاجتي، وإني لأشتهيك، ولكنْ واللهِ ما مِنْ صِلَةٍ إليك، هيهاتَ! حِيلَ بيني وبينك. ويفرطُ منه الشيءُ فيرجعُ إلى نفسِه فيقول: ما أردتُ إلى هذا [ما لي ولهذا؟ واللهِ لا أعودُ إلى هذا](سقط ما بين المعقوفين من (ق) استدركناه من مصادر التخريج.) أبدًا إن شاء الله. إن المؤمنين قوم قد أوثقَهم القرآن، وحالَ بينَهُمْ وبينَ هلكتِهم، إن المؤمنَ أسيرٌ في الدنيا. يسعَى في فكاكِ رقَبته، لا يأمنُ شيئًا حتى يَلْقَى الله عز وجل، يعلمُ أنه مأخوذٌ عليه في سمعه وبصَرِهِ ولسانه، وفي جَوَارِحِه كلَّها (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (103) برقم (307)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 157)، وذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 79)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 234، 235).).

وقال: الرضا صعبٌ شديد، وإنما معوَّل المؤمنِ الصبر.

وقال: ابنَ آدم، عن نفسك فكَايِسْ (فكايسْ: من كايسَ، يقال كايَسني فكِسْتُه أي كنتُ أَكْيَس منه، وفي حديث جابر "إنما كِسْتُك لآخُذَ جملكَ" أي غَلَبْتُك بالكَيْس. النهاية (كيس).)، فإنك إنْ دخلتَ النارَ لم تُجْبَرْ بعدَها أبدًا (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (545) برقم (1564).).

وقال ابنُ أبي الدنيا: أنبأ إسحاق بن إبراهيم قال: سمعتُ حمَّاد بن زيد يذكر عن الحسن، قال: المؤمنُ في الدنيا كالغريب، لا ينافسُ في عِزَّها (صحفت اللفظة في (ق) إلى "غيرها" والصواب المثبت من مصادر التخريج.) ولا يجزَعُ من ذُلِّها؛ للناسِ حال، وله حال، الناسُ منه في راحة، ونفسه منه في شُغل (أخرج شطره الأول الآجري في الغرباء ص (23) برقم (7)، وذكره ابن القيم بتمامه في مدارج السالكين (3/ 197).).

وقال: لولا البلاء ما كان في أيامٍ قلائل ما يُهلكُ المرءُ نفسه.

وقال: أدركتُ صدرَ هذه الأمة وخيارَها، وطالَ عُمري فيهم، فواللهِ إنَّهم كانوا فيما أحلَّ اللهُ لهم أزهدَ منكم فيما حرَّم الله عليكم؛ أدركتُهم عاملينَ بكتابِ رَبِّهم، مُتَّبعين سنَّةَ نبيِّهم، ما طوى أحدُهُمْ ثوبًا، ولا جعل بينه وبين الأرضِ شيئًا، ولا أمرَ أهله بصُنعِ طعام؛ كان أحدُهم يدخلُ منْزِله، فإنْ قُرِّبَ إليه شيءٌ أكل، وإلَّا سكت، فلا يتكلَّمُ في ذلك (أخرج بعضه ابن أبي الدنيا في الورع ص (56) برقم (45) وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 227).).

وقال: إنَّ المنافقَ إذا صلَّى صلَّى رِيَاءً، أو حياء من الناسِ أو خَوْفًا، وإذا صلَّى صلَّى فقراؤهم للدنيا، وإن فاتَتْهُ الصلاةُ لم يندَمْ عليها، ولم يحزُنْهُ فواتُها.

وقال الحسن فيما رواه عنه صاحب كتاب "النُكَت": من جعلَ الحمد لله على النعم حِصْنًا وحابسًا، وجعل أداءَ الزكاةِ على المالِ سياجًا وحارسًا، وجعل العلمَ له دليلًا وسائسًا، أمِنَ العَطَب، وبلغ أعلى الرُّتَب؛ ومن كان للمالِ قانصًا، وله عن الحقوق حابسًا، وشغلَهُ وألهاه عن طاعةِ الله كان لنفسِه ظالمًا، ولقلبهِ بما جَنتْ يداهُ وسلَّطهُ اللهُ على مالِهِ سالبًا وخالسًا، ولم يأمَن العطَبَ في سائرِ وجودِ الطلب. وقيل: إن هذا لغيرِه وَاللهُ أعلم.

وقال الحسن: أربع منْ كن فيه ألقى الله عليه محبَّتَه، ونشر عليه رحمتَه: منْ رَقَّ لوالديه، ورَقَّ لِمَمْلُوكِه، =

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وكَفَلَ اليتيم، وأعان الضعيف.

وسئل الحسنُ عن النفاق فقال: هو اختلافُ السرِّ والعلانية، والمدخل والمخرج.

وقال: ما خافَهُ إلا مؤمن، ولا أمِنَهُ إلا منافق. يعني النفاق. وحلف الحسن ما مَضَى مؤمنٌ [قط] ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق؛ وفي رواية: إلَّا وهو من النفاق مشفِق؛ ولا مضى منافقٌ [قط] ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن (ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (434)، وروى أوله ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 358).).

وكتبَ عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن: كيف حبُّك الدينارَ والدرهم؟ قال: لا أحبُّهما. فكتب إليه: تولَّ فإنك تعدل.

وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأيتُ أطولَ حُزْنًا من الحسن، وما رأيتُه قطُ إلَّا حسبتهُ حديثَ عهدٍ بمصيبة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 133).).

وقال مسمع: لو رأيتَ الحسن لقلتَ قد بُثَّ عليه حُزنُ الخلائق.

وقال يزيدُ بن حَوْشَب: ما رأيتُ أحزَنَ من الحسن وعمرَ بن عبد العزيز، كانَّ النارَ لم تُخلقْ إلَّا لهما.

وقال ابن أسباط: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يَضحكْ، وأربعين سنة لم يمزحْ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 240)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 234).).

وقال: ما سمع الخلائقُ بعورة بادية، وعينٍ باكية، مثلَ يومِ القيامة.

وقال: أبنَ آدم، إنَّك ناظرٌ غدًا إلى عملك، يُوزن خيرُه وشرُّه، فلا تحقِرَن شيئًا من [الخير وان هو صَغُر، فإنَّكَ إذا رأيتَه سرَّكَ مكانُه، ولا تحقِرَن من] الشرِّ أنْ تتَّقِيَه، فإنَّكَ إذا رأيتَهُ غدًا في ميزانِك ساءكَ مكانُه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 143)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 235)، وما مرَّ بين معقوفين والتصحيح منهما.).

وقال: ذهبتِ الدنيا [يحالي مآلها] وبقيَتْ أعمالُكم قلائدَ في أعناقكم (الحلية (2/ 143)، وما بين معقوفين منه.).

وقال: ابنَ آدم، بِعْ دنياك بآخرتِك تربَحْهما جميعًا، ولا تبعْ آخرتَك بدنياك فتخسرهما جميعًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 143، و 7/ 35)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 236).). وهذا مأثور عن لقمان أنه قاله لولدِه.

وقال الحسن: تجدُ الرجلَ قد لبس الأحمر والأبيض، وقال: هلُمُّوا فانظروا إلي. قال الحسن: قد رأيناك يا أفسق الفاسقين، فلا أهلًا بكَ ولا سهلًا؛ فإمَّا أهلُ الدنيا فقدِ اكتسبوا بنظرِهم إليك مزيدَ حرْصٍ على دنياهم، وجرأةً على شهواتِ الغنَى في بطونهم وظهورهم؛ وأما أهلُ الآخرة فقد كرهوكَ ومقتوك.

وقال: إنهم وإنْ هملجتْ بهمُ البَرَاذين، وزفرَتْ بهمُ البغالُ، ووَطِئَتْ أعقابهم الرجال، إنَّ ذُل المعاصي لا يفارقُ رقابَهم، يأبَى الله إلا أنْ يُذِلَّ مَنْ عصاه (ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 48 و 188)، والجواب الكافي له ص (38، 39)، بنحوه.).

وقال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد، ألا يعجبك من محمد بن الأهتم؟ فقال: ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفًا وهو يجودُ بنفسِه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق - وأوما إلى صندوق في جانب بيتِه - فقال: هذا الصندوق فيه ثمانونَ ألف دينار - أو قال درهم - لم أؤد منها زكاة، ولم أصِلْ منها رحمًا، ولم يأكلْ منها محتاج. فقلنا: يا أبا عبد الله، فلِمَنْ كنتَ تجمَعُها؟ قال: لرَوْعَةِ الزمان، ومُكاثرةِ الأقران، وجفوةِ السلطان. فقال: =

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= انظروا من أين أتاهُ شيطانُه، فخوَّفَهُ روعةَ زمانِه ومكاثرةَ أقرانِه، وجفوةَ سلطانِه. ثم قال: أيُّها الوارث، لا تُخدَعَنَّ كما خُدِعَ صُوَيْحبُكَ؛ بالأمس جاءك هذا المال، لم تتعبْ لك فيه يَمين، ولم يعرَقْ لكَ فيه جَبين، جاءك ممن كان له جَمُوعًا مَنُوعًا، من باطلٍ جمعَه، من حق مَنَعَه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 145) بنحوه.). ثم قال الحسن: إنَّ يومَ القيامةِ لذو حَسَرات؟ الرجل يجمَعُ المالَ ثم يموتُ ويدَعُهُ لغيرِه، فيرزقه الله فيه الصلاحَ والإنفاق في وجوهِ البِرّ، فيجدُ مالَه في ميزانِ غيرِه. وكان الحسن يتمثل بهذا البيت في أول النهار يقول:

وما الدنيا بباقيةٍ لحيِّ

ولا حيٌّ على الدنيا بباقِ

وبهذا البيت في آخر النهار:

يسرُّ الفتى ما كان قدَّم من تُقًى

إذا عرفَ الداءَ الذي هو قاتِلُهْ

(ذكر البيتين البيهقي في شعب الإيمان (7/ 408).)

ولد الحسن في خلافةِ عمرَ بنِ الخطاب وأتيَ به إليه، فدعا له وحنَّكه، ومات بالبصرة في سنة عشرٍ ومئة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

محمد بن سيرين (تقدمت مصادر ترجمته في ص (107) حاشية (3).) أبو بكر بن أبي عمرو الأنصاري: مولى أنس بن مالك النَّضْري. كان أبوه من سَبْي عينِ التَّمْر. أسرَهُ في جملةِ السَّبْي خالدُ بنُ الوليدُ، فاشتراه أنس، ثم كاتَبَه، وقد وُلد له من الأخيار جماعة: محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومَعْبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلُّهمْ تابعيُّونَ، ثقات أجلّاء، رحمهم الله تعالى.

قال البخاري (انظر ما سبق في ص (108) موضع الحاشية (1).): ولد محمد لسنتَيْنِ بقيتا من خلافة عثمان. وقال هشام بن حسان: هو أصدقُ مَنْ أدركتُ من البشر. وقد تقدم هذا كلُّه فيما ذكره المؤلف.

كان ابنُ سيرين إذا ذُكر عنده رجلٌ بسُوءٍ ذَكرَهُ بأحسنِ ما يَعلم.

وقال خلف بن هشام: كان محمد بنِ سيرين قد أُعْطيَ هَدْيًا وسَمْتًا وخُشوعًا. وكان الناس إذا رأوهُ ذَكَروا الله. ولما ماتَ أنسُ بن مالك أوصَى أنْ يغسله محمد بن سيرين؛ وكان محمد محبوسًا، فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس. فقالوا: قد أستأذنَّا الأميرَ في إخراجِك. قال: إنَّ الأمير لم يحبِسْني إنما حبسني مَنْ له الحق، فأذِنَ له صاحبُ الحقِّ، فغسَّله.

وقال يونس: ما عرضَ لمحمد بن سيرين أمرانِ إلَّا أخذ بأوثقِهما في دِينه، وقال: إني لأعلمُ الذنبَ الذي حُملتُ بسببه، إني قلتُ يومًا لرجلٍ يا مُفْلس. فذُكر هذا لأبي سليمان الداراني، فقال قلَّتْ ذنوبُهم فعرفوا من أين أُتوا. ومثلُنا قد كثرتْ ذنوبنا فلم نَدْرِ منِ أين نُؤْتى، ولا بأيِّ ذنبٍ نُؤخذ (انظر سير أعلام النبلاء (4/ 616).).

وكان إذا دُعيَ إلى وَلِيمة يدخلُ منزلهُ فيقول: ائتوني بشربةِ سَوِيق. فيشربها ويقول: إنِّي أكرَهُ أن أحملَ جُوعي إلى موائدهم وطعامِهمِ.

وكان يدخلُ السوق نصفَ النهار، فيكبِّرُ الله ويسبِّحُه ويذكره ويقول: إنَّها ساعةُ غَفلةِ الناس. وقال: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا جعلَ له واعظًا من قلبه، يأمرُه وينهاه.

وقال: ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلمُ منه، وتكتم خيرَه.

وقال: العُزْلة عبادة. وكان إذا ذكر الموتَ ماتَ منه كلُّ عضو على حِدَتِه. وفي رواية: كان يتغيَّرُ لَوْنه، ويُنكَرُ حالُه، حتى كأنه ليس بالذي كان.

وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتَّقِ اللهَ في اليقظة، ولا يغرَّكَ ما رأيتَ في المنام. =

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال له رجل: رأيتُ كأني أصبُّ الزيتَ في الزيتون. فقال: فتِّشْ على امرأتك، فإنَّها أُمُّك. ففتَّشَ فإذا هي أمُّه، وذلك أنَّ الرجلَ أُخِذَ من بلادِه صغيرًا سَبِيًا، ثم مكثَ في بلاد الإسلام، إلى أن كَبِر، ثم سُبِيَتْ أمُّه، فاشتراها جاهلًا أنَّها أمُّه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابنِ سيرين، فأمره أن يفتش على ذلك، ففتَّش فوجدَ الأمرَ على ما ذكرَه.

وقال له آخر: رأيتُ كأني دَسْت، أو قال: وطئتُ تمرةً فخرجتْ منها فأرة. فقال له: تزوَّج امرأةً. أو قال: تطأُ امرأةً صالحةً تلِدُ بنتًا فاسقة. فكان كما قال.

وقال له آخر: رأيتُ كأنَّ على سطح بيتي حبَّاتُ شعير، فجاء ديكْ فلقَطَها. فقال له: إنْ سُرق لك شيءٌ في هذه الأيام فأتِني. فوضعوا بساطًا على سطحهم، فسُرق؛ فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهبْ إلى مؤذِّن محلَّتِك، فخذْهُ منه. فجاء إلى المؤذن، فأخذَ البِساطَ منه.

وقال له رجل: رأيتُ الحمَامَ تلقُطُ الياسمين. فقال: مات علماءُ البصرة.

وأتاه رجلٌ فقال: رأيتُ رجلًا عُرْيانًا واقفًا على مزبلة، وبيده طُنْبورٌ يضربُ به، فقال له ابنُ سيرين: لا تصلحُ هذه الرؤيا في زمانِنا هذا إلا للحسَنِ البصري. فقال: الحسَن هو واللهِ الذي رأيت. فقال: نعم، لأن المزبلةَ الدنيا، وقد جعلها تحتَ رجلَيْهِ وعُرْيُه تجرُّدُه عنها، والطُّنْبور يضرب به هي المواعظُ التي يَقْرَعُ بها آذانَ الناس.

وقال له آخر: رأيتُ كأنِّي أستاكُ والدمُ يَسيل. فقال له: أنت رجلٌ تقعُ في أعراض الناس، وتأكلُ لحومَهم، وتخرج في بابه وتأتيه (كذا في الأصول ولم نقف على مصدر للخبر.).

وقال له آخر: رأيتُ كأني أرى اللؤلؤ في الحَمأة. فقال له: أنت رجلٌ تضعُ القرآنَ والعلم عندَ غيرِ أهلِه ومَنْ لا ينتفعُ به.

وجاءته امرأةٌ فقالتْ رأيتُ كأنَّ سِنَّوْرًا أدخل رأسَه في بطنِ زوجي فأخذَ منه قطعة. فقال لها ابن سيرين: سُرق لزوجِك ثلاثُ مئةِ درهم وستةَ عشرَ درهمًا. فقالت: صدقت، من أين أخذته؟ فقال: من هجاء حروفه، وهي حسابُ الجُمَّل؛ فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة، والراء مئتان، وذلك ثلاث مئة وستة عشر، وذكرت السِّنَّور أسودَ، فقال: هو عبدٌ في جوارِكم. فالزموا عبدًا أسود كان في جوارِهم، وضُرب فأقرَّ بالمال المذكور.

وقال له رجل: رأيتُ لحيتي قد طالتْ وأنا أنظرُ إليها. فقال له: أمؤذنٌ أنت؟ قال: نعم. قال له: اتق الله ولا تنظرْ إلى دُور الجيران.

وقال له آخر: رأيتُ كأنَّ لحيتي قد طالتْ حتى جزَزتُها ونسجتُها كساءً وبعتُهُ في السوق. فقال له: اتقِ الله فإنَّك شاهدُ زور.

وقال له آخر: رأيتُ كأني آكلُ أصابعي. فقال له: تأكلُ من عمل يدِك.

وقال لرجل: انظرْ هل ترى في المسجد أحدًا؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد. فقال: أليس أمرتُك أنْ تنظرَ هل ترى أحدًا قد يكون في المسجد من الأمراء؟

وقال عن رجلٍ ذُكر له: ذلك الأسود؟ ثم قال: أستغفرُ الله، ما أراني إلا قد اغتبتُ الرجل. وكان الرجل أسود.

وقال: اشترك سبعةٌ في قتل امرأة، فقتلهم عمر، فقال: لو أنَّ أهلَ صنعاء اشتركوا في قتلِها لأبَدْتُ خضراءَهم].

ص: 116

وفيها توفي:

وَهْبُ بن مُنبِّه اليَمَاني

(1)

: تابعي جليل، وله معرفةٌ بكُتُبِ الأوائل؛ وهو يُشْبه كعب الأحبار؛ وله صلاحٌ وعبادة، وتُروى عنه أقوالٌ حسنة، وحِكَمٌ ومواعظ. وقد بسَطْنا ترجمته في كتابنا "التكميل" ولله الحمد.

قال الواقدي

(2)

: تُوفي بصنعاء سنة عشر ومئة. وقال غيره: بعدَها بسنة. وقيل بأكثر، والله أعلم.

ويزعم بعضُ الناس أن قبرَهُ غربيٌّ بصري بقريةٍ يُقال لها عُصْم

(3)

؛ ولم أجدْ لذلك أصلًا. والله أعلم

(4)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 543)، تاريخ خليفة ص (340)، طبقات خليفة ص (287)، الزهد للإمام أحمد ص (371)، التاريخ الكبير (8/ 164)، المعارف ص (459)، الجرح والتعديل (9/ 24)، ثقات ابن حبان (5/ 487)، حلية الأولياء (4/ 23)، طبقات الشيرازي ص (74)، الأنساب (1/ 122)، صفة الصفوة (2/ 291)، المختار من مناقب الأخيار (5/ 108)، معجم الأدباء (19/ 259)، وفيات الأعيان (6/ 35)، مختصر تاريخ دمشق (26/ 385)، تهذيب الكمال (31/ 140)، سير أعلام النبلاء (4/ 544)، تذكرة الحفاظ (1/ 100)، ميزان الاعتدال، (4/ 352)، تهذيب التهذيب (11/ 166)، طبقات الحفاظ ص (41)، طبقات الشعراني (1/ 40)، الكواكب الدرية (1/ 477)، شذرات الذهب (1/ 150).

(2)

طبقات ابن سعد (5/ 543).

(3)

عُصْم: حصن لبني زبيد باليمن. معجم البلدان (4/ 128).

(4)

هنا تبدأ زيادة أخرى من زيادات نسخة (ق) وليست في (ب، ح)، وهي:

[أدرك وَهْب بن مُنبِّه عدَّةً من الصحابة، وأسندَ عن ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير. وروى عن معاذ بن جَبَل، وأبي هريرة، وعن طاوس. وعنه من التابعين عدَّة.

وقال وَهْب: مَثَلُ مَن تعلَّم علمًا لا يعمل به كمثَلِ طبيبٍ معه شفاءٌ لا يتداوى به.

وعن مُنير مولى الفضل بن أبي عياش قال: كنتُ جالسًا مع وَهْب بن مُنبِّه فأتاه رجل فقال له: إني مررتُ بفلانٍ وهو يشتُمُك. فغضِبَ وقال: ما وَجَد الشيطانُ رسولًا غيرَك؟ فما برحتُ من عندِه حتى جاءه ذلك الشاتم، فسلَّم على وهب، فردَّ عليه السلام، ومدَّ يدَه إليه وصافحه وأجلسهُ إلى جنبه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 71)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 295).).

وقال ابن طاوس: سمعتُ وهبًا يقول: ابنَ آدم، احتلْ لدينك، فإنَّ رزقكَ سيأتيك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 72).).

وقال وهب: كُسي أهلُ النار، والعُرْيُ كان خيرًا لهم، وطَعِموا والجوعُ كان خيرًا لهم، وأُعطوا الحياةَ والموتُ كان خيرًا لهم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 71).).

وقال: قال داود عليه السلام: اللهمَّ أيُّما فقيرٍ سأل غَنيًا فتصامَّ عنه فأسألك إذا دعاك فلا تُجِبْه، وإذا سألك فلا تُعطِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 71).).

وقال: قرأتُ في بعضِ كُتب الله: ابنَ آدم، لا خيرَ لك في أنْ تعلمَ ما لم تعلمْ، ولم تعملْ بما قد علمت؛ فإنَّ مثلك كمثَلِ رجلٍ احتطب حَطبًا، فحزم حُزمة، فذهب يحملُها فعجز عنها، فضمَّ إليها أخرى (أخرجه أبو نعيم في =

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحلية (4/ 71).).

وقال: إنَّ لله ثمانية عشر ألف عالَم، الدنيا منها عالمٌ واحد، وما العِمَارةُ في الخراب إلا كفُسْطاطٍ في الصحراء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 70).).

وروى الطبراني عنه أنه قال: إذا أردتَ أن تعملَ بطاعةِ الله عز وجل، فاجتهدْ في نُصحك وعملك لله، فإنَّ العملَ لا يقبلُ ممنْ ليس بناصح، والنُّصْحُ لله لا يكمُل إلا بطاعةِ الله، كمثَل الثمرة الطَّيِّبة، ريحُها وطعمُها، كذلك مثلُ طاعةِ الله، النُّصح ريحُها، والعمَل طعمُها. ثم زَيِّنْ طاعتَك بالحِلْم والعقل، والفِقْه والعمَل؛ ثم أكْبِرْ نفسَك عن أخلاق السفهاء، وعبيدِ الدنيا، وعبِّدْها على أخلاقِ الأنبياء والعلماء العاملين، وعَوِّدْها فعلَ الحكماء، وامنَعْها عمَلَ الأشقياء، وألزِمْها سيرةَ الأتقياء واعْزُبْها (في الحلية:"فاعزلها".) عن سُبلِ الخبثاء؛ وما كان لك من فَضْل فأعِنْ به مَنْ دونك، وما كان فيمن دونك من نَقْص فأعِنْهُ عليه حتى يبلغَه، فإن الحكيمَ من جَمَعَ فواضلَه، وعاد بها على منْ دونه. وينظُر في نقائصِ، دونَه فيقوِّيها، ويُرَجِّبُها حتى يبلغَه؛ إنْ كان فقيهًا حمَلَ منْ لا فقه له إذا رأى أنه يريدُ صحابته ومعونتَه، وإذا كان له مالٌ أعطى منه منْ لا مالَ له، وإذا كان مصلحًا استغفر للمذنب ورجا تَوْبته، وإذا كان محسنًا أحسنَ إلى منْ أساء إليه، واستوجبَ بذلك أجرَه؛ ولا يغترّ بالقول حتى يُحسن منه الفعل، فإذا أحسنَ الفعلَ نظرَ إلى فَضْلِ الله وإحسانِه إليه؛ ولا يتمنَّى الفعلَ حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعةِ الله مبلغًا حَمِدَ الله على ما بلغَ منها فيها؛ ثم طلَبَ ما لم يبلغْ منها، وإذا ذكر خطيئةً سترَها عن الناس، واستغفر اللهَ الذي هو قادرٌ على أن يغفرَها، وإذا علم من الحكمة شيئًا لم تُشْبعْهُ، بل يطلبُ ما لم يبلغْ منها، ثم لا يستعين بشيءٍ من الكذب، فإنَّ الكذب كالأكَلَةِ في الجسد، تكادُ تأكلُه، أو كَالأكَلَةِ في الخشب، يُرى ظهرُها حسنًا، وجوفها نخِرٌ، تَغُرُّ من يراها حتى تنكسر على ما فيها، وتُهلك من اغترَّ بها؛ وكذلك الكذب في الحديث، لا يزالُ صاحبُه يغترُ به، يظنُّ أنَّهُ مُعينُه على حاجته، ورائدٌ له في رغتبه، حتى يعرفَ ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غرورُه. فتستنبط الفقهاءُ ما كان يستخفي له عنه، فإذا اطلعوا على ذلك من أمره، وتبيَّن لهم كذَّبوا خبَرَه، وأباروا شهادتَه، واتهموا صِدْقَه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسَه، واستخفُّوا منه بسرائرِهِم. وكتموهُ حديثَهم، وصرفوا عنه أماناتِهم، وغيَّبوا عنه أمرَهم، وحَذِروه على دينهم ومعيشتِهم، ولم يحضروه شيئًا من محاضرهم، ولم يأمنوه على شيءٍ من سرِّهم، ولم يُحَكِّموه فيما شجر بينهم (أخرجه بطوله أبو نعيم في الحلية (4/ 36، 37).).

وروى عبدُ المنعم بن إدريس عن أبيه، عن وَهْب، قال: قال لقمانُ لابنه: إنَّ مثلَ أهلِ الذكر والغفلة كمَثَل النُّور والظُّلمة.

وقال: قرأتُ في التوراة أربعةَ أسطرٍ متواليات: منْ قرأ كتابَ الله، فظن أنه لا يُغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله؛ ومنْ شكا مصيبة نزلَتْ به، فإنما يشكو ربَّه عز وجل من أسفٍ على ما فاته من الدنيا، سخِطَ قضاءَ ربِّه عز وجل، ومن تَضَعْضَع لِغَنِيٍّ ذهب ثلثُ (في شعب الإيمان:"ثلثا".) دينه (أخرجه الإمام أحمد في الزهد ص (85)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 38)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 213) برقم (10043).).

وقال وهب: قرأتُ في التوراة: أيُّما دارٍ بُنيت بقوةِ الضعفاء جُعلت عاقبتُها إلى الخراب؛ وأيُّما مالٍ جُمع من غيرِ حلِّه أسرع الفقر إلى أهله.

وقال عبد الله بن المبارك (في كتابه الزهد ص (108) برقم (318).): حدّثنا معمر عن محمد بن عمرو، قال: سمعتُ وَهْبَ بن مُنَبِّه يقول: وجدتُ في بعض الكتب؛ يقول الله تعالى: إذا أطاعني عبدي استجبتُ له من =

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قَبْلِ أنْ يدعُوَني، وأعطيتُه من قبلِ أن يسألني؛ وإنَّ عبدي إذا أطاعني، لو أن أهلَ السماواتِ وأهلَ الأرض أجلبوا عليه جعلتُ له المخرجَ من ذلك؛ وإنَّ عبدي إذا عَصَاني قطعتُ يدَيْهِ من أبوابِ السماء، وجعلتُه في الهواء، فلا يمتنعُ من شيء أرادَهُ مِنْ خَلْقي (وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الحلية (4/ 38).).

وقال ابنُ المبارك أيضًا (في كتابه الزهد ص (161) برقم (470).): حدّثنا بكَّارُ بنُ عبد الله، قال: سمعتُ وَهْبَ بن مُنبِّه يقول: قال الله تعالى فيما يَعيبُ به أحبارَ بني إسرائيل: تفقَهون لغير الدين، وتتعلَّمون لغير العمل، وتبتغونَ (في (ق) والزهد لابن المبارك:"وتبتاعون"، وفي الحلية:"وتتنازعون"، والمثبت من الزهد لأحمد.) الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلودَ الضأن، وتخفون أنفس الذئاب، وتنفون القَذَى من شرابكم (في (ق):"وتحملون نفس الذباب، وتتغذون الغذاء من شرابكم" وهو تصحيف، والمثبت من الزهد لابن المبارك.)، وتبتلعون أمثالَ الجبالِ من الحرام، وتُثقلون الدَّينَ على الناس أمثالَ الجبال، ثم لا تعينونهم برفع الخناصر؛ تطيلون الصلاة، وتبيِّضون الثياب، تنتقصون بذلك مالَ اليتيمِ والأرْمَلة؛ فبعزَّتي حلفتُ، لأضربنَّكم بفتنةٍ يَضِل فيها رأيُ ذي الرأي، وحكمةُ الحكيم (وأخرجه أيضًا الإمام أحمد في الزهد ص (53)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 38، 39).).

وقال الطبراني: حدّثنا عبد الله بن محمد الصنعاني، حدّثنا همَّام بن مَسْلَمة، حدّثنا غَوْث بن جابر، حدّثنا عَقيل بن مَعْقل، قال: سمعتُ وهبَ بن مُنَبِّه يقول: إنَّ الله ليس يَحْمَدُ أحدًا على طاعة، ولا ينالُ أحدٌ من الله خيرًا إلا برحمته، وليس يرجو الله خيرَ الناسِ ولا يخافُ شرَّهم، ولا يعطِفُ الله على الناس إلا برحمتِهِ إياهم، إنْ مَكَروا به أبادَ مكرَهم، وإنْ خادعوه ردَّ عليهم خداعَهم، وإنْ كاذبوه كُذِب بهم، وإن أدبروا قطعَ دابرهم، وإن أقبلوا قَبِل منهم، ولا يقبلُ منهم شيئًا من حيلة، ولا مَكْر، ولا خداع، ولا سُخط، ولا مشادَّة، وإنما يأتي بالخير من الله تعالى رحمتُه (في الحلية:"ولا يستخرج أحد من الله شيئًا من الخير بحيلةٍ ولا مكرٍ ولا مخادعةٍ ولا أوبةٍ ولا سخطٍ ولا مشاورةٍ ولكن يأتي بالخير من الله رحمته".)؛ ومَنْ لم يبتغِ الخيرَ من قبلِ رحمته لا يجدُ بابًا غيرَ ذلك يدخلُ منه؟ فإن الله تعالى لا ينالُ الخيرَ منه إلا بطاعته، ولا يعطِفُ الله على الناس شيئًا إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رَحِمَهم استخرجتْ رحمتُه منه حاجتَهم، وليس ينالُ الخيرَ من الله مِنْ وجهٍ غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قِبَله إلا تعبدَ العبادَ له وتضرعهم إليه، فإنَّ رحمةَ الله عز وجل بابُ كل خير يُبتغَى من قِبَلهِ، وإنَّ مفتاحَ ذلك البابِ التضرِّعُ إلى الله عز وجل، والتعبُّد له؛ فمنْ تركَ المفتاحَ لم يُفتحْ له؛ ومن جاء بالمفتاح فُتح له به؛ وكيف يُفتح البابُ بغير مفتاح؟ ولله خزائنُ الخيرِ كله، وبابُ خزائنِ الله رحمتُه. ومفتاحُ رحمةِ الله التذلُّلُ والتضرُّع والافتقار إلى الله؛ فمنْ حَفِظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وفيها ما تشاؤون، وما تدعونَ في مقامٍ أمين، لا يجلون عنه، ولا يخافون، ولا يَنْصَبُون، ولا يَهرمون، ولا يفتقرون، ولا يموتون، في نعيمٍ مقيم، وأجرٍ عظيم، وثواب كريم، نزلًا من غفورٍ رحيم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 39، 40).).

وقال سفيان بن عُيَينة: قال وهب: أعوَنُ الأخلاقِ على الدِّين الزهادةُ في الدنيا، وأسرعُها ردًّا اتباعُ الهوى، وحبُّ المالِ والشرف؛ ومِنْ حُب المالِ والشرف تُنتهكُ المحارم، ومن انتهاكِ المحارم يَغضَبُ الربّ، وغضَبُ الله ليس له دواء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 41).).

وقال: يقولُ الله تعالى في بعضِ كتبه يعتبُ به بني إسرائيل: إني إذا أُطعت رَضيت، وإذا رَضيتُ باركتُ، وليس =

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لَبَركتي نهاية، وإذا عُصيت غَضبت، وإذ غضبت لعنتُ، وإنَّ اللعنةَ مني تبلغُ السابعَ من الولد (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 41)، وأبو الفرج بن الجوزي في ذم الهوى ص (182)، وابن القيم في الجواب الكافي ص (34).).

وقال: كان في بني إسرائيل رجلٌ عصى الله عز وجل مئتي سنة، ثم مات، فأخذوا برِجلِه فألقَوْهُ على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى أنْ صلِّ عليه، فقال: يا ربِّ، إنَّ بني إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مئتي سنة. قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلَّما نَشَر التوارةَ ورأى اسم محمد صلى الله عليه وسلم قتله ووضعَهُ على عينيه، وصلَّى عليه، فشكرتُ ذلك له، فغفرتُ له ذنوبَه، وزوَّجته سبعين حَوْراء، كذا رُوي، وفيه عِلَل، ولا يصحُّ مثلُه، وفي إسناده غرابة، وفي مَتْنه نَكارة شديدة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 42).).

وروى ابنُ إدريس عن أبيه، عن وهب قال: قال موسى: يا رب، احبِس عني كلامَ الناس، فقال الله له: يا موسى، ما فعلتُ هذا بنفسي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 42).).

وقال: لما دُعي يوسفُ إلى الملِك وقف بالباب وقال: حَسْبي ديني من دنياي، حَسْبي رَبِّي من خَلْقِه، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤك، ولا إله غيرك. ثم دخلَ على الملك، فلما نظر إليه الملك نزَل عن سريره، وخَرَّ له ساجدًا، ثم أقعدَه الملكُ معه على السرير وقال:{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54 - 55]، حفيظٌ بهذه السنين وما استودعتَني فيها، عليمٌ بلغةِ منْ يأتيني (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 42).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا منذرُ بن النعمان الأفطس، أنه سمع وَهْبًا يقول: لما أمرَ الله الحوت أن لا يضرَّه، ولا يكلِّمَه - يعني يونس - قال:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]، قال: من العابدين قبل ذلك، فذكَره الله بعبادتِه المتقدِّمة، فلما خرج من البحر نام، فأنبت الله شجرةً من يَقْطين، وهو الدُّبَّاء، فلما رآها قد أظلَّته، ورأى خُضْرتها فأعجبَتْه، ثم نام، فاستيقظ فإذا هي قد يَبِسَتْ، فجعل يتحزَّنُ عليها، فقل له: أنت لم تخْلُقْ، ولم تسقِ، ولم تُنبت، وتحزَنُ عليها!؟ وأنا الذي خلقتُ مئةَ ألفٍ من النار أو يزيدون، ثم رَحِمْتُهم، فشقَّ ذلك عليك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 42، 43)، وذكره القرطبي في تفسيره (15/ 130) بنحوه.)؟!

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغسَّاني، حدثنا رباح، حدثني عبد الملك بن عبد المجيد بن خشك، عن وهب، قال: لما أُمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين قال: يا رب، كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب (العناق: الأنثى من أولاد المعزى إذا أتت عليه سنة.)؟ وكيف أصنع بالحمام والهرِّ؟ قال: من ألقى بينهم العداوة؟ قال: أنت يا رب. قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضرَّرون (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 43).).

وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء! ألم أُخبَرْ أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا وأبواب الأمراء؟! ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويُظهرُ لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتترك باب من يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؟ ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك، فأوهَى (في الحلية:(فأدنى) وهو أشبه بالصواب.) ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يكفيك. ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، ووادٍ من الأودية، لا يَمْلؤه شيءٌ إلَّا التراب (أخرجه =

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أبو نعيم في الحلية (4/ 43).).

وسئل وَهْبٌ عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتًا وصمتًا، والآخر أطول سجودًا، فأيُّهما أفضل؟ فقال: أنصَحُهما لله عز وجل (المصدر السابق.).

وقال: من خصال المنافق أن يحبَّ الحمدَ ويكرَهَ الذمَّ، أيْ يحبُّ أنْ يحمدَ على ما لم يفعلْ، ويكره أن يُذَمَّ بما فيه.

قال: وقال لقمان لابنه: يا بني، اعقل عن الله، فإن أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليَفِرُّ من العاقل، ما يستطيعُ أن يكايدَه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 35).).

وقال لرجل من جلسائه: ألا أُعلِّمُكَ طِبًّا لا يتعايا فيه الأطباء، وفقهًا لا يتعايا فيه الفقهاء، وحلمًا لا يتعايا فيه الحُلَمَاء؟ قال: بلى يا أبا عبد الله. قال: أما الطبُّ فلا تأكلْ طعامًا إلا سَمَّيتَ الله على أوَّله، وحَمِدْتَهُ على آخره؛ وأما الفقه فإنْ سئلتَ عن شيءٍ عندك فيه علمٌ فأخبِرْ بما تعلم، وإلا فقل لا أدري، وأمَّا الحِلْم فأكثِر الصَّمْت، إلَّا أن تُسألَ عن شيء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 35).).

وقال: إذا كان في الصبيِّ خُلُقان: الحياءُ والرَّهبة، طُمِعَ في رُشْدِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 36).).

وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس. فقال: محادثتك من لا يعقل كمن يُغَنِّي لموتى (في الحلية (محادثتك من لا يعلم كمن يعلم الموتى).)، ومحادثتك مَن لا يعقل كمن يَبُلُّ الصخر الأصمَّ كي يَلين، وكمن يطبخُ الحديدَ يلتَمسُ أُدْمَه، ومحادثتك من لا يعقل (في الحلية "ومحادثتك من لا يُصغي".) كَمَنْ يضعُ المائدة لأهلِ القبور، ونقلُ الحجارة من رؤوسِ الجبال أيسرُ من محادثتك مَنْ لا يعقل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 36).).

وقال: قرأت في بعض الكتب أنَّ مناديًا ينادي من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين، زرعٌ قد دَنَا حصادُه؛ أبناء الخمسين، ماذا قدّمتم؟ أبناءَ الستين، لا عُذْرَ لكم. ليت الخلق لم يُخلقوا، وليتهم إذ خُلقوا عَلِموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة؟ فخذوا حِذْرَكم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 33)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 293).).

وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمنٍ يُلتمسُ فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد إلا كالسنبلة في أثرِ الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشكُ نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيَهُم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 33).).

وروى عبد الرزاق عن عبد الصمد بن معقل، قال: سمعتُ وَهْبًا يقولُ في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمُها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا ختمَ له بخيرِ عمَلِه، وإذا أراد الله بعبدٍ شرًّا ختم له بشرِّ عمله (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 33).).

وقال وَهْب: إن الله تعالى لما فرغ من الخَلْق نظرَ إليهم حين مَشَوا على وجهِ الأرض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الذي خلقتُكم وأُفنيكم بحُكْمي، حَقٌّ قضائي، ونافذٌ أمري، أنا أُعيدكم كما خلقتُكم وأفنيكم، حتى أبقى وَحْدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خَلْقي، وأجمعهم بقضائي يوم أحشرُ أعدائي، وتَجِلُّ القلوبُ من هيبتي، تتبرَّأ الآلهةُ ممن عَبَدَها دوني (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 34).).

قال: وذكر وهب، أن الله لما فرغ من خَلْقِه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله، وذكر عَظَمَته =

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيَّته، فأنصَتَ كلُّ شيءٍ وأطرق له، فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا، ذو الرحمة الواسعة، والأسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا، ذو العرش المجيد، والأمثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا، ذو الطول والمنِّ والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والأرض، ملأت كلَّ شيءٍ عظمتي، وقَهَر كلَّ شيء مُلكي، وأحاطت بكل شيءٍ قدرتي، وأحصى كل شيءٍ علمي، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمتي، وبلغ كل شيءٍ لُطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق فاعرفوا مكاني، فليس شيءٍ في السماوات والأرضين إلا أنا وخَلقي، كلهم لا يقومُ ولا يدومُ إلَّا بي، ويتقلَّبُ في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياتُهُ وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له مَحِيص ولا ملجأ غيري، لو تخلَّيتُ عنه طرفة عينٍ لدُمِّر كُلُّه، وكنت أنا على حالي، لا ينقُصني ذلك شيئًا، ولا يُنقص ذلك ملكي شيئًا وأنا مستغنٍ بالعزِّ كلِّه في جبروتي وملكي، وبرهان نوري، وشديد بطشي، وعلوّ مكاني، وعظمة شأني، فلا شيء مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشيءٍ خلقتُه أن يعدِلَ بي، ولا ينكرُني، وكيف ينكرني مَن خلقتُه يوم خلقتُه على معرفتي؟ أم كيف يكابرني من قهرَهُ ملكي؟ أم كيف يُعجزني مَن ناصيتُه بيدي؟ أم كيف يعدلُ بي من أُعمِّره وأسقمُ جسمَه، وأنقص عقلَه، وأتوفَّى نفسه، وأخلقه وأهرمه، فلا يمتنعُ مني؟ أم كيف يستنكفُ عن عبادتي عبدي وابنُ عبدي وابن أَمَتِي؟ ومَن لا ينسب إلى خالقٍ ولا وارثٍ غيري؟ أم كيف يعبدُ دوني من تُخلقه الأيام، ويُفنِي أجلَهُ اختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطاني؟ فإليَّ إليَّ يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فإني كتبتُ الرحمةَ على نفسي، وقضيتُ العفوَ والمغفرة لمن استغفرني، أغفرُ الذنوب جميعًا صغيرَها وكبيرَها لمن استغفرني، ولا يكبُر ذلك عليَّ ولا يتعاظَمُني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، ولا تقنَطُوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضَبي، وخزائن الخير كلُّها بيدي، ولم أخلق شيئًا مما خلقتُ لحاجةٍ كانت مني إليه، ولكن لأُبينَ به قدرتي وليَنظُر الناظرون في مُلكي، ويتدبَّروا حكمتي، وليسبِّحوا بحمدي، ويعبدوني لا يشركوا بي شيئًا، ولتَعنُو الوجوه كلُّها إليّ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 34، 35) بالفاظ مقاربة.).

وقال أشرس عن وهب قال: قال داود: إلَهي أين أجدُك؟ قال: عندَ المنكَسِرة قلوبُهم من مخافتي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 32).).

وقال: كان رجل من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعًا يُفطرُ في كلِّ أسبوع يومًا، وهو يسألُ الله أن يُريَهُ كيف يُغوي الشيطانُ الناس، فلما أن طال ذلك عليه، ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلتُ على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربِّي لكان خيرًا من هذا الأمر الذي أطلب. ثم أقبل على نفسه فقال: يا نفس، من قِبَلكِ أُتيتُ. لو علم الله فيك خيرًا لقضى حاجتك. فأرسل الله مَلَكًا إلى نبيهم أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسِك، وكلامُك الذي تكلَّمت به أعجبُ إليِّ مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظرِ الآن، فنظر فإذا أُحبولة لإبليسَ قد أحاطتْ بالأرض، وإذا ليس أحدً من بني آدم إلا وحوله شياطينُ مثلُ الذباب فقال: أي رب، ومن ينجو من هؤلاء؟ قال: صاحبُ القلبِ الوادِع اللَّيِّن (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 32).).

وقال وهب: كان رجلٌ من السائحين، فأتى على أرضٍ فيها قِثاء، فدعَتهُ نفسُه إلى أخذ شيءٍ منه، فعاقبها، فقام مكانَهُ يُصَلي ثلاثة أيام، فمرَّ به رجل وقد لوَّحتهُ الشمسُ والريح، فلمّا نظر إليه قال: سبحان الله! لكأنَّما أُحرق هذا الإنسان بالنار. فقال السائح: هكذا بلغَ مني ما ترى خوفُ النار، فكيف بي لو دخلتُها؟ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 32).).

وقال: كان رجلٌ من الأولين أصاب ذنبًا فقال: للهِ عليَّ أن لا يُظلَّني سقفُ بيتٍ أبدًا حتى تأتيني براءةٌ من النار، =

ص: 122

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فكان بالصحراء في الحَر والقَرّ، فمرَّ بهِ رجل فرأى شدَّة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: بلغ ما ترى ذكرُ جهنَّم، فكيف بي إذا أنا وقعتُ فيها (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 32، 33).)!.

وقال: لا يَكُونُ البطَّالُ من الحكماء أبدًا، ولا يرثُ الزناةُ من ملكوتِ السماء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (30/ 4).).

وقال وهب في موعظته: اليوم يَعِظُ السعيد، ويستكثرُ من منافعِه اللبيبُ، يابنَ آدم، إنما جمعتُ من منافعِ هذا اليوم لدفعِ ضررِ الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيحُ الهدى لِتُنبَّه لحزبِك، فلم أر كاليوم ضلَّ مع نوره مُتحيِّرٌ داعٍ لمداواة سليم، يا بنَ آدم، إنه لا أقوى من خالقٍ ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طَلِبَتُه في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه، يا بن آدم، إنه قد ذهب منك مالا يرجعُ إليك، وأقام عندك ما سيذهب، فما الجزع مما لابدَّ منه، وما الطمع فيما لايرتجى، وما الحيلةُ في بقاء ما سيذهب. يابن آدم، أقصِر عن طلب ما لا تُدرك، وعن تناول ما لا تنالُه، وعن ابتغاء ما لا يوجد، واقطع الرجاءَ عنك، كما قعدت به عنك الأشياء، واعلم أنه رُب مطلوبٍ هو شَرٌّ لطالبه. يا بن آدم إنما الصبرُ عند المصيبة، واعظمُ من المصيبة سوءُ الخُلق منها. يا بنَ آدم إنما الصبرُ عند المصيبة، يا بن آدم، أيَّ أيام الدهر ترتجي؟ يومُ يجيءُ في عَتم، أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه، فانظر إلى الدهر تَجدهُ ثلاثة أيام: يومٌ مضى لا ترجوه، ويومٌ لا بدَّ منه، ويوم يجيءُ لا تأمَنُه، فأمْسِ شاهدٌ عليك مقبولٌ، وأمين مُؤدٍّ، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلَّف فيك حكمته، واليوم صديقٌ مودَّع، كان طويل الغَيْبَة عنك، وهو سريع الظَّعن، أتاك ولم تأتِه، وقد مضى قبلَهُ شاهدُ عَدلٍ، فإن كان ما فيه لكَ فاشفعه بمثِله، أوثقُ لك باجتماع شهادتهما عليك. يابنَ آدم إنما أهلُ الدنيا سَفْرٌ لا يحلُّون عقد رِحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلَّغون بالعواري، فما أحسنَه - يعني الشكرَ - للمنعم، والتسليم للمعاد!. يابنَ آدم إنما الشيءُ من مثِله، وقد مضَت قبلَنا أصولٌ نحن فروعُها، فما بقاءُ الفَرعِ بعد ذهابِ أصله، إنما يقرُّ الفرعُ بعد الأصل. يابنَ آدم، إنه لا أعظم رَزِيَّةً في عقْلِه مِمَّن ضيَّعَ اليقينَ وأخطأ العملَ، أيها الناس، إنما البقاءُ بعدَ الفناء، وقد خُلقنا ولم نكن، وسَنبلَى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهناتُ غدًا، ألا وإنه قد تقارب مِنا سَلَبٌ فاحش، أو عطاءٌ جزيل، فأصلحوا ما تُقدِمون عليه بما تَظعنون عنه، أيها الناس، إنما أنتم في هذه الدنيا غَرَضٌ تَنتَضِلُ فيها المنايا (تنتضل: تختار وتتبارى. انظر لسان العرب (نضل).)، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نَهبٌ للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراقِ الأخرى، ولا يستقبلُ منكم معمَّرٌ يومًا من عُمره إلا بهدم آخَرَ من أجَلِه، ولا يتخذُ له زيادة في ماله إلا بَنفَادِ ما قبلَهُ من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، نسألُ الله أن يُباركَ لنا ولكم فيما مضى من هذه العِظَة (أخرجه بطوله بألفاظ مقاربة أبو نعيم في الحلية (4/ 30، 31).).

وقال قُتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن مروان، عن وهب بن منبِّه، [أنه كان يقول: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حَرُون، إن فترَ قائدُها صَدَّت، عن الطريق، ولم تستقم لسائقها، وإنْ فَتَر سائقُها حَزِنَت ولم تَتبَعْ قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعًا أو كرهًا، ولا تستطيعُ الذين إلا بالطوع والكُره، وإن كان كلَّما كَره الإنسانُ شيئًا من دينه ترَكَه أوشك أن لا يبقى معه من دِينه شيء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 31)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 215) بنحوه.).

وقال وهب: إنَّ من حكمة الله عز وجل أنه خلق الخَلقَ مختلفًا خَلقُهُ ومقاديره، فمنه خَلقٌ يدومُ ما دامت الدنيا، لا تُنقِصه الأيام ولا تُهرِمُه وتُبليه ويموت، ومنه خلق لا يُطعم ولا يرزق، ومنه خَلقٌ يُطعم ويرزق، خلَقه الله وخلَق =

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= معه رِزقه، ثم خلق الله من ذلك خلقًا في البَرّ، وخلقًا في البحر، ثم جعل رزقَ ما خلق في البحر وفي البر، ولا ينفعُ رزقُ دوابِّ البر دوابَّ البحر، ولا رزقُ دوابِّ البحرِ دوابَّ البَرّ، لو خرج ما في البحر إلى البرِّ هلك، ولو دخل ما في البَرِّ إلى البحرِ هلَك، ففي ذلك ممَّن خلق الله في البَرِّ والبحر عِبرَةٌ لمن أهمَّته قسمةُ الأرزاق والمعيشة، فليعتبر ابنُ آدمَ فيما قسم الله من الأرزاق، فإنه لا يكونُ فيها شيءٌ إلا كما قَسمَهُ سبحانه بين خَلقِه لا يستطيعُ أحد أن يُغيِّرها ولا أن يَخلطَها، كما لا تستطيعُ دواب البَرِّ أن تعيش بأرزاقِ دوابِّ البحر، ولا دوابُّ البحرِ بأرزاق دوابِّ البَرّ، ولو اضطرت إليه هَلَكت كلُّها، فإذا استقرت كل دابةٍ منها فيما رُزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابنُ آدم إذا استقر وقَنِعَ بما قَسَم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيرِه نَقَصه ذلك وضرَّهُ وفَضَحَه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 29).).

وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استَغنوا بعلمِهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا، ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهلُ الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبةً في علمِهم، فأصبح أهلُ العلم فينا اليوم يبذلون لأهلِ الدنيا علمَهم رغبةً في الدنيا، فأصبح أهلُ الدنيا قد زَهدوا في علمِهم، لِمَا رأوا من سوء موضعه عندَهم، فإياك يا عطاءُ وأبوابَ السلطان، فإنَّ عندَ أبوابهم فتنًا كمَبَاركِ الإبل، لا تُصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينك مثلَه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 29، 30). وفيه تتمة (ثم قال: يا عطاء إن كان يغنيك ما يكفيك فكلُّ عيشك يكفيك، وإن كان لا يغنيك فليس شيءٌ يكفيك، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الأودية، لا يسعه إلا التراب).).

وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدَّمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني، قال: سمعت وهبَ بن منبِّه يقول: لَقيَ عالمٌ عالمًا هو فوقَهُ في العلم فقال: كيف صلاتُك؟ فقال: ما أحسبُ أحدًا سمع بذكر الجنة والنار يأتي عليه ساعةٌ لا يصلِّي فيها. قال: فكيف ذكرُك للموت؟ قال: ما أرفعُ قدمًا ولا أضعُ أخرى إلا رأيت أني ميتٌ. فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل؟ فقال: إني لأُصلي وأبكي حتى ينبت العُشب من دموعي. فقال العالم: أما إنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خيرٌ لك من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ بعلمك، فإن المُدِلَّ لا يُرفعُ له عمل. فقال: أوصِني فإني أراك حكيمًا. فقال: ازهَد في الدنيا ولا تُنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنَّحلَةِ إن أكلت أكلتَ طيِّبًا وإن وضعتَ وضعتَ طيِّبًا، وإن وقعتَ على عُودٍ لم تكسِرهُ، وانصَح لله نُصح الكلب لأهله، فإنهم يُجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يَحُوطَهم ويحفظَهُم وينصح لهم. فكان وَهبُ إذا ذكر هذا الحديث قال: واسوأتاهُ إذا كان الكلبُ أنصحَ لأهله منك يابنَ آدم للهِ عز وجل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 28).).

وفي رواية أنه قال: إني لأصلِّي حتى تَرِمَ قَدَماي. فقال له: إنك أن تَبِيتَ تائبًا وتصبحَ نادمًا خيرٌ لك من أن تبيتَ قائمًا وتصبح مُعْجَبًا (ذكر هذا القول ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 177).). إلى آخره.

وروى سفيان عن رجلٍ من أهل صنعاء، عن وهب، فذكر الحديثَ كما تقدَّمَ (المصدر السابق.).

وقال عثمان بن أبي شَيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا الصلتُ بنُ عاصم المرادي، عن أبيه، عن وهب، قال: لما أُهبط آدمُ من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم، ألا أعلمك شيئًا تنتفع به في الدنيا والآخرة؟ قال: بلى. قال: قل اللهمَّ تَمِّم لي النعمة حتى تُهنِئَني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرَّني ذنوبي، اللهمَّ اكفني مؤنة الدنيا، وكلَّ هولٍ في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية =

ص: 124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 28، 29).).

وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عد الله عن وهب، قال: قرأتُ في بعض الكتب فوجدتُ الله تعالى يقول: يا بن آدم، ما أنصفتني، تُذكَّرُ بي وتنساني! وتدعو إليَّ وتَفرُّ مني! خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملك كريمٌ قد نزل إليك من أجلك. يا بن آدم، إنَّ أحبَّ ما تكون إليَّ وأقربَ ما تكونُ مني إذا رضيتَ بما قسمتُ لك، وأبغضُ ما تكونُ إليَّ، وأبعدُ ما تكونُ مني إذا سَخطت بما قسمتُ لك. يا بن آدم أطِعني فيما أمرتُك، ولا تُعلمني بما يُصلحُك، إني عالمٌ بخَلقي، وأنا أعلمُ بحاجتك التي ترفعُك من نفسك، إني إنما أُكرم من أكرمني، وأُهينُ من وإن عليه أمري. لستُ بناظرٍ في حقِّ عبدي حتى ينظر العبدُ في حقِّي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 27).).

وقال وهب: قرأتُ نيفًا وتسعين كتابًا من كتبِ الله تعالى [منها سبعون، أو نيفٌ وسبعون ظاهرةٌ في الكتابَين، ومنها عشرون لا يعلَمُها إلا قليلٌ من الناس]، فوجدتُ في جميعها أنَّ مَن وَكَلَ إلى نفسه من المشيئة فقد كَفر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 24)، وما بين معقوفين منه.).

وقال: لا يسكنُ ابنَ آدم أنَّ الله هو قَسَم الأرزاق متفاضلةً ومختلفة، فإن تقلَّل ابنُ آدمَ شيئًا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن: لو اطَّلع الله على هذا من حالي أو شعر به غيَّره. فكيف لا يطَّلع على شيء الذي خلقَهُ وقدَّره؟ أوَ [لا] يعتبرُ ابن آدمَ في غير ذلك مما يتفاضلُ فيه الناس؟ كأن الله فاضل بينهم في الأجسام والأموال والألوان والعقول والأحلام، فلا يَكبُر على ابن آدم أن يُفضَّل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يَكبُر عليه أن يُفضَّل عليه في الحِلم والعِلم والعقل والدِّين. أوَلا يعلم ابن آدم أنَّ الذي رزقه في ثلاثة أزمانٍ من عُمره لم يكن له في واحدٍ منها كَسبٌ ولا حِيلة، أنه سوف يرزُقُه في الزمن الرابع؟ أولُ زمانٍ من أزمانه حين كان في بطن أمِّه، يُخلق فيه ويُرزق من غير مالٍ كَسبَه، وهو في قرارٍ مكين، لا يؤذيه فيه حَرٌّ ولا بردٌّ ولا شيء، ولا هَمٌّ ولا حُزنٌ، وليس له هناك يدٌ تبطش ولا رِجلٌ تسعى، ولا لسان ينطِق، فساقَ الله عز وجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها، ثم إنَّ الله عز وجل أراد أن يحوِّلهُ من تلك المنزلة إلى غيرها، ويحدث له في الزمن الثاني رزقًا من أُمِّه، يَكفيه ويُغنيه، من غير حَولٍ منه ولا قوة ولا بطشٍ ولا سُمعة، بل تفضلًا من الله، وجودًا ورزقًا أجراه، وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يُحدثه له من كَسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراهُ على نفسِهما بكَسبهما، ويُغنياه ويغذِّياهُ باطيب ما يقدران عليه من الأغذية، وهو لايُعينُهما على شييءٍ من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عَقَلَ حدَّث نفسه بأنه يُرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظنِّ بربِّه عز وجل، فيُضَيِّعُ أوامر الله في طلب المعاش، وزيادة المال وكثرته، وينظرُ إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسبُ بذلك ضعف اليقين والإيمان، ويمتلئُ قلبه فقرًا وخوفًا منه مع المتاع، ويُبتلى بموت القلب، وعدم العقل. ولو نظر ابنُ آدم نظَرَ معرفةٍ وعقل، لَعَلِم أنه لن يُغنِيهُ في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الأزمان الثلاثة قبلُ، فلا مقالَ له ولا معذرةَ مما سُلِّط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فإن ابن آدم كثيرُ الشكّ، يُقصَّرُ به حُكمُهُ وعِلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، عَلِمَ أن علامة الله التي بها يُعرف خلقه الذي خلق، ثم رِزْقُهُ لِمَا خلق، وقَدَرُهُ لِمَا قَدَّر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 25).).

وقال عطاء الخراساني: لَقيتُ وهبًا في الطريق فقلت: حدِّثني حديثًا أحفَظُه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزَّتي وعظمتي لا يَنتصرُ بي عبدٌ من عبادي دون خلقٍ أعلمُ ذلك من نيَّته، فتكيده السماوات السبعُ ومن فيهنّ والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له منهنَّ فرجًا ومخرجًا، أما وعزَّتي وجلالي، لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيَّته إلا قطعت أسباب السماوات من =

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يده، وأسخت الأرض من تحته ولا أبالي في أي واد هَلَك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 25، 26).).

وقال أبو بلال الأشعري عن أبي هام الصَّنعاني، حدثني عبدُ الصمد بن معقل، قال: سمعتُ وهب بن منبِّه يقول: وجدتُ في بعض الكتب، أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيتُه قبل أن يسألني، وأستجيبُ له من قبل أن يدعوني، فإني أعلمُ بحاجتهِ التي ترفقُ به من نفسه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 26).).

وقال: قرأتُ في بعض الكتب أنَّ الشيطان لم يكابد شيئًا أشدَّ عليه من مؤمنٍ عاقل، لأنه إذا كان مؤمنًا عاقلًا ذا بصيرةٍ فهو أثقلُ على الشيطان من الجبال الصُّم، إنه ليُزالِلُ المؤمنَ العاقلَ فلا يستطيعُه، فيتحوَّلُ عنه إلى الجاهل، فيستأمره ويتمكَّنُ من قيادِه (المصدر السابق.).

وقال: قام موسى عليه السلام، فلما رأتهُ بنو إسرائيل قاموا فقال: على مكانِكم. ثم ذهب إلى الطُّور، فإذا هو بنهرٍ أبيض، فيه مثلُ رؤوس الكُثْبان (في الحلية:(مثل رؤوس الكباش).)، كافورٌ محفوفٌ بالرياحين، فلما رآه أعجبه، فدخل عليه فاغتسل، وغسل ثَوبَه ثم خرج، وجفَّف ثوبه ثم رجعَ إلى الماء، فاستنضحَ فيه إلى أن جفَّ ثوبُه فلَبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطّور، فإذا هو برجلين يَحفِران قبرًا، فقام عليهما، فقال ألا أُعينُكما؟ قالا: بلى. فنزل فَحَفر، فقال لهما: لِتُحَدثاني مِثلُ مَنِ الرجلُ؟ فقالا: على طولك وهيئتك. فاضطجعَ فيه لينظروا، فالتأمَتْ عليه الأرضُ، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرَّخم فأصَمَّها الله وأبكمها، وقال: يقول الله عز وجل: لولا أني كتبتُ النَّتن على الميت، لحَبسَهُ الناسُ في بيوتهم، ولولا أني كتبتُ الفسادَ على اللحم، لحرَّمه الأغنياءُ على الفقراء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 37).).

وقال: مرَّ عابدٌ براهب فقال له: منذُ كم أنتَ في هذه الصومعة؟ قال: منذُ ستين سنة. قال: وكيف صبرتَ فيها ستين سنة؟ قال: مُرَّ فإن الزمان يَمُرّ، وان الدنيا تمُرّ. ثم قال له: يا راهب، كيف ذكرُك للموت؟ قال: ما أحسبُ عبدًا يعرفُ الله تأتي عليه ساعة إلا يذكرُ الموتَ فيها، وما أرفعُ قدمًا إلا وأنا أظنُّ أن لا أضعهَا حتى أموت، وما أضعُ قدمًا إلَّا وأنا أظنُّ أن لا أرفعها حتى أموت. فجعل العابدُ يبكي، فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلَوتَ - أو قال: كيف أنت إذا خلوت -؟ فقال العابد: إني لأبكي عند إفطاري، فأشربُ شرابي بدموعي، ويصرعُني النَّومُ فأبلُّ متاعي بدموعي. فقال له الراهب: إنك إنْ تضحك وأنتَ معترفٌ بذنبك خير لك من أن تبكي وأنتَ مُدلٌّ على الله بعلمِك. فقال: أوصني بوصية. قال: كنْ في الدنيا بمنزلة النحلة، إنْ أكلتْ أكلتْ طيبًا، وان وضعتْ وضعَت طيبًا، وإن سقطَتْ على شيء لم تضرَّه، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار، إنما همته أن يشبع ثم يرمي نفسه في التراب وانصَحْ للهِ نُصْحَ الكلبِ لأهله، فإنهم يُجيعونه ويطردونه وهو يأبى إلَّا أنْ يحرسَهم ويحفظهم. قال أبو عبد الرحمن أشرس: وكان طاوس ذكر هذا الحديث بكى وقال: عزَّ علينا أنْ تكونَ الكلابُ أنصحَ لأهلِها منا لمولانا عز وجل. وقد تقدَّمَ نحو هذا المتن (انظر ص 284 موضع الحاشية (1).). وقال وهب: تخفَى راهب في صومعتهِ في زمنِ المسيح، فأراد إبليسُ أن يكيدَه، فلم يقدِرْ عليه، فأتاه بكل مُرادِ فلم يقدر عليه، فأتاهُ متشبهًا بالمسيح، فناداه: أيُّها الراهب، أشرفْ عليَّ أكلِّمك، فأنا المسيح. فقال: إنْ كنتَ المسيح فمالي إليك من حاجة، أليس قد أمرتَنا بالعبادة، ووعدتَنا القيامة؟ انطلقْ لشأنك، فلا حاجة لي فيك. قال: فذهب عنه الشيطانُ خاسئًا وهو حسير؛ فلمْ يَعُدْ إليه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 44) بنحوه.).

ومن طريق أخرى عنه قال: أتى إبليسُ راهبًا في صومعته، فاستفتح عليه، فقال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا المسيح. فقال الراهب: والله لئنْ كنتَ إبليس لأخلون بك، ولئن كنتَ المسيح ما عسى أنْ أصنعَ بك اليوم شيئًا لقد بلغتَنا رسالةَ ربك عز وجل فقبِلْناها عنك، وشرعتَ لنا الدِّين فنحن عليه، فاذهبْ فلستُ بفاتحٍ لك. فقال: صدقتَ، أنا =

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إبليسُ ولا أريدُ إضلالَكَ بعدَ اليومِ أبدًا، فسَلْني عمَّا بدا لك أخبرْك به. قال: وأنت صادق؟ قال: لا تسألني عن شيءٍ إلَّا صَدَقْتُكَ فيه. قال: فأخبِرْني أيُّ أخلاقِ بني آدمَ أوثقُ في أنفسِكم أنْ تضلُّوهم به؟ قال: ثلاثة أشياء: الحِدَّةُ، والشُّحُ، والسُّكْر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 44، 45).).

وقال وهب: قال موسى: يا ربّ، أيُّ عبادك [أشقى]؟ قال: منْ لا تنفَعُه موعظة، ولا يذكُرني إذا خلا. قال: إلهي، فما جزاءُ منْ ذكرَكَ بلسانِه وقلبِه؟ قال: يا موسى، أُظِلُّهُ يومَ القيامة بظلِّ عرشي، وأجعلُه في كَنَفي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 45) بتقديم الشطر الثاني للخبر على الأول.).

وقال وهب: لَقيَ عالم عالمًا هو فوقَهُ في العلم فقال له: رحمكَ الله، ما هذا البناء الذي لا إسرافَ فيه؟ قال: ما سترَكَ من الشمس، وأكنَّكَ من الغَيْث. قال: فما هذا الطعامُ الذي لا إسراف فيه؟ قال: فوقَ الجُوع دونَ الشبَع، من غيرِ تكلّف. قال: فما هذا اللباسُ الذي لا إسرافَ فيه؟ قال: هو ما سترَ العورة، ومنَعَ الحرَّ والبرد، من غيرِ تنوُّعٍ ولا تلوُّن. قال: فما هذا الضحكُ الذي لا إسرافَ فيه؟ قال: هو ما أسفَرَ وجهَك ولا يُسمعُ صوتك. قال: فما هذا البكاءُ الذي لا إسرافَ فيه؟ قال: لا تَمَلَّ من البكاءِ من خشيةِ الله عز وجل، ولا تبكِ على شيء من الدنيا. قال: كم أُخْفي من عملي؟ قال: ما أظنَّ بِكَ أنَّكَ لم تعمَلْ حسنة. قال: ما أُعلنُ من عملي؟ قال: الأمرَ بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يَأتم بكَ الحَرِيص؛ واحذرِ النظرَ إلى الناس (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 45) بنحوِه مختصرًا.).

وقال: لكلِّ شيءٍ طرفانِ ووسط، فإذا أمسكتَ بأحَدِ الطرفيْن مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسَطِ من الأشياء (المصدر السابق.).

وقال: أربعةُ أحرفٍ في التوراة: منْ لم يشاوِرْ يندَمْ، ومنِ استغنَى استأثَر، والفقرُ الموتُ الأحمر، وكما تَدينُ تُدان، ومن تَجَرَ فَجَر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 48)، وليست الجملة الأخيرة فيه.).

وقال عبدُ الله بنُ المبارك (في كتابه الزهد ص (514). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 48).): حدّثنا بكار بن عبد الله، أنه سمع وَهْب بن منبِّهٍ يقول: كان رجلٌ من أفضلِ أهل زمانه، وكان يُزارُ فيعظِهُمْ، فاجتمعوا إليه ذاتَ يوم فقال: إنَّا قد خرجْنا عن الدنيا، وفارَقْنا الأهلَ والأموالَ مخافةَ الطُّغْيان، وقد خِفْنا أنْ يكونَ قد دخلَ علينا في حالِنا هذه من الطُّغْيان أعظمُ وأكثرُ ممّا يدخل على أهلِ الأموالِ في أموالهم، وعلى الملوكِ في مُلكِهم؛ أُرَانا يُحبُّ أحدُّنا أنْ تُقضَى له الحاجة، وإذا اشترى شيئًا أنْ يُحابَى لمكانِ دينِه، وأنْ يُعَظَّمَ إذا لَقيَ الناسَ لمكانِ دينِه؛ وجعل يُعددُ آفاتِ العلماءِ والعِباد الذين يدخلُ عليهم في دينهم مِنْ حلِّ الشرَفِ والتعظيم. قال: فشاعَ ذلك الكلامُ عنه، حتى بلَغَ مَلِكَ تلكَ البلاد، فعَجِبَ منه الملكُ وقالَ لرؤوسِ دولتِه: ينبغي لهذا أنْ يُزار. ثم استَّعَدوا لزيارتِهِ يومًا، فركب إليه الملكُ ليسلمَ عليه، فأشرف العابدُ - وكان عالمًا جيد العلمِ بآفاتِ العلومِ والأعمالِ ودسائس النفوس، فرأى الأرضَ التي تحتَ مكانِه قد سُدَّتْ بالخيلِ والفُرسان، فقال: ما هذا؟ فقيلَ له: هذا الملكُ قاصدٌ إليكَ يُسلمُ عليك، لِمَا بلغَهُ من حُسنِ كلامِك. فقال: إنَّا لله! وما أصنَعُ به؟ هلَكْنا واللهِ إنْ لم نُلَقَّنِ الحُجَّةَ من عندِ الله معَ هذا الرجل، وينصرفْ عنا وهو ماقتٌ لنا. ثم سألَ خادِمَهُ: هل عندك طعامٌ؟ قال: نعم. قال: فَاتِ بهِ، فضعْهُ بين أيدينا. قال: هو شيءٌ من ثمَرِ الشجر، وهو شيءٌ من بقلٍ وزيتون. قال: فأتِ به، فأتى به، ثم أمرَ بجماعته فاجتمعوا حولَ ذلك الطعام؛ فقال: إذا دخلَ عليكم هذا الرجلُ فلا يلتفِتْ أحد منكم إليه، ولا يقُمْ له أحد، وأقبلُوا على الأكل العَنيف، ولا يرفَعْ أحدٌ منكمْ رأسَه، لعلَّ الله أنْ يصرفَهُ عنّا وهو كارِهٌ لنا. فإني أخافُ الفِتْنةَ والشُّهرة، وامتلاءَ القلبِ منهما، فلا نخلُصُ إلَّا بنارِ جهنّم. قال: فبكى القوم، وبكى ذلك =

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الرجلُ العالم، فلما اقترب الملك من جبلهمُ الذي هُمْ فيه، ترجَّلَ الملِك ومنْ معه من أعيانِ دولتِه، وصعِد في الجبل، فلما وصل إلى قُرِب مكانهم أخذوا في الأكلِ العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون، فلم يرفعوا رؤوسَهم إليه، وجعل ذلك العالِمُ الفاضلُ يلفُّ البقلَ مع الزيتون مع الكسرةِ الكبيرةِ من الخبز ويُدخلُها في فمه، فسلَّم عليهمُ المِلكُ وقال: أيكم العابد؟ فأشاروا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل؟ فقال له: كالناس - وهو يأكل ذلك الأكلَ العنيف - فقال الملك: ليس عندَ هذا خير. ثم أدبرَ الملكُ خارجًا عنه وقال: ما عند هذا من عِلْم. فلما نزل الملكُ من الجبل نظرَ إليه العابدُ من كُوَّةٍ وقال: أيها الملك، الحمدُ لله الذي صرفكَ عني وأنتَ لي كارِه - أو قال: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به.

وفي رواية: ذكر ابنُ المبارك أنه قال: الحمدُ لله الذي صرفَهُ عني وهو لي لائم (الزهد لابن المبارك ص (515).).

وفي رواية: أن هذا العابد كان ملكًا وكان قد زَهِدَ في الدنيا وتركها، لأنه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهلِ الجنة والعمَلِ الصالح فوعظه، فاتَّعد معه أنْ يصحبَه، وأنه يَخْرُجُ عن المُلْكِ طلبًا لِمَا عندَهُ في الدارِ الآخرة، وأنه وافقَهُ جماعة من بَنِيه وأهلِه ورؤوسِ دولتِه، فخرجوا برُمتِهم لا يدري أحدٌ أين ذهبوا. وكان هذا الملكُ من أهلِ العَدْلِ والخير والخَوْفِ من الله عز وجل، وكان متسعَ الملكِ والمملكة، كثيرَ الأموالِ والرجال؛ فساروا حتى أتَوْا جبلًا في أطرافِ مملكتِه كثير الشجرِ والمياه، فأقاموا به حينًا. فقال الملك: إنْ نحنُ طالَ أمرُنا ومُقَامُنا في هذا الجبل سَمِعَ بنا الناسُ من أهل مملكتِنا، فلا يدعونا؛ وإني أرى أن نذهبَ إلى غيرِ مملكتنا، فننزِل مكانًا بعيدًا عن الناس، لعل أنْ نسلمَ منهم ويسلموا مَنّا. فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادًا لا يُعرفون، فوجدوا بها جبلا نائيًا عن الناس، كثير الأشجار والمياه، قليلَ الطوارق، وإذا في ذِروتِهِ عينُ ماءٍ جارية، وأرضٌ متَّسِعة، تُزرَع لمن أراد الزرْعَ بها؛ فنَزَلوا به وبَنَوْا به أماكنَ للعبادةِ والسُّكْنى، وزرعوا لهم على ماءِ تلك العَين بعضَ بقولٍ يأتَدِمُونَ بها، وأشجارَ زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون، ثم شاع أمرُهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلِهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم إلى أنَّ شاع ذلك الكلام المتقدِّم عن ذلك العالم، فبلغَ ملكَ تلك البلاد، فقصَدَهم للزيارةِ فذكر القصةَ كما تقدَّم، والله أعلم.

وقال وهب: أزهدُ الناسِ في الدنيا وإنْ كان عليها حريصًا منْ لم يرضَ منها إلا بالكَسْب الحلال الطيِّب، مع حفظ الأمانات، وأرغَبُ الناسِ فيها وإنْ كان عنها معرضًا منْ لم يبالِ في أين كَسْبُه منها حلالًا كان أو حرامًا؛ وإنَّ أجودَ الناسِ في الدنيا من جادَ بحقوقِ الله عز وجل، وإنْ رآه الناس بخيلًا فيما سوى ذلك؛ وإن أبخل الناسِ في الدنيا من بَخِلَ بحقوقِ اللهِ عز وجل، وإنْ رآه الناسُ جوادًا فيما سوى ذلك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 49)، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/ 407)(10781) بسنده معزوًّا إلى أبي أمية.).

وقال الطبراني (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 50) بهذا الإسناد عن الطبراني.): حدّثنا معاذ بن المثنى، حدّثنا عليُّ بن المديني، حدّثنا محمد بن عمرو بن مِقْسم، قال: سمعتُ عطاء بن مسلم يقول: سمعتُ وَهْبَ بن مُنَبِّه يقول: إن الله تعالى كلَّمَ موسى عليه السلام في ألفِ مَقَام، وكان إذا كلَّمَهُ رُئيَ النورُ على وجه موسى ثلاثةَ أيام، ولم يمسَّ موسى امرأة منذُ كلَّمَهُ رَبُّه عز وجل.

وقال عثمان بن أبي شيبة: حدّثنا عبد الله بن عامر بن زُرَارة، حدّثنا عبد الله بن الأجْلَح، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعتُ ابن مُنَبِّه اليماني يقول: إنَّ للنبوةِ أثقالًا ومؤونة، لا يحمِلُها إلا القويّ، وإنَّ يونُس بنَ متَّى كان عبدًا صالحًا، وكان في خُلُقِهِ ضِيق، فلما حُمِلَتْ عليه =

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= النبوَّة تفسَّخَ تحتها تفسُّخَ الرُّبَعِ تحت الحِمْل (الرُّبَعُ: الفَصيلُ الذي يُنتَجُ في الربيع، وهو أولُ النتاج، سُمِّيَ رُبَعًا لأنه إذا مشى ارْتَبَعَ ورَبَع، أيْ وَسَّعَ خَطْوَهُ وعَدَا؛ وتفسَّخَ الرُّبَع تحت الحِمل الثقيل: وذلك إذا لم يُطِقْه. اللسان (فسخ، ربع).)، فرفَضَها مِنْ يدِهِ وخرج هاربًا؛ فقال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]: وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] الآية (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 50).).

وقال يونس بن بُكَير عن أبي إسحاق بن وهب بن مُنَبِّه، عن أبيه، قال: أمرَ الله الريحَ أنْ لا يتكلَّمَ أحدٌ من الخلائق بشيء في الأرض إلا ألقَتْهُ في أُذُنِ سليمان، فلذلك سَمعَ كلامَ النمْلة (المصدر السابق.).

وروى سفيان عن عمرو بن دينار، عن وهب، قال: كان الرجلُ من بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أُري شيئًا، كأن يرَى علامةَ القَبُول؛ قال: فساحَ رجلٌ من ولدِ زَنْيَةِ (في (ق): "من ولد ربيعة" تصحيف، والمثبت من الحلية.) أربعينَ سنة، فلم يرَ شيئًا، فقال: يا رب، إنْ أحسنتُ وأساءَ والداي، فما ذنبي؟ قال: فأُرِيَ ما كان يَرَى غيرُه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 51).).

وفي رواية: أنه قال: يا ربّ، إذا كان والدايَ قد أكلا أضْرَسُ أنا؟

وفي رواية: عنه أنه قال: يا ربّ، إذا كان والدايَ قد أساءا أُحرَمُ أنا إحسانَك وبِرَّك؟ فأظَلَّتْهُ غَمَامة.

وروى عبد الله بنُ المبارك عن رَبَاح بن زيد، عن عبد العزيز بن حَوْران (في (ق):"عبد العزيز بن مروان" تصحيف، والمثبت من الحلية، وترجمته في التاريخ الكبير (6/ 18)، والجرح والتعديل (5/ 380)، والثقات لابن حبان (7/ 111)، وميزان الاعتدال (4/ 363)، وفيه: بحاء مهملة ضبطه بعضهم، والأصح بجيم. أهـ.)، قال: سمعتُ وَهبَ بنَ مُنَبِّه يقول: مثلُ الدنيا والآخرة مثلُ ضرَّتَيْن، إن اْرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأخرى (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 51).).

وقال: إنَّ أعظمَ الذنوبِ عند الله بعدَ الشِّرْكِ بالله السِّحْر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 51) وفيه: (بعد الشرك بالله السخرية بالناس".).

وروى عبد الرزاق قال: أخبرني أبي عن وهبٍ قال: إذا صام الإنسانُ زاغَ بصَرُه، فإذا أفطرَ على حلاوة عاد بصَرُه (المصدر السابق.).

وقال ابنُ المبارك عن بكَّار (في (ق): "عن بكر بن عبد الله، تصحيف والمثبت من الحلية، وترجمته في التاريخ الكبير (2/ 121).) بن عبد الله، قال: سمعتُ وهبًا يقول: مرَّ رجلٌ عابدٌ على رجلٍ عابد، فرآهُ مفكِّرًا، فقال له: ما لك؟ فقال له: أعجبُ من فلان أنه كان قد بلَغَ من عبادتهِ ما بلغ، ثم مالَتْ به الدنيا؟ فقال: لا تعجَبْ مِمَّنْ مالَ كيف مال، ولكنِ اعجبْ ممَّنِ استقامَ كيف استقام (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 51).)؟

وقال عبدُ الله بن الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَل: حدّثني عبدُ الرزاق، حدّثنا بكَّار بن عبد الله قال: سمعتُ وَهْبَ بنَ منبِّه يقول: إنَّ بني إسرائيلَ أصابَتْهم عقوبةٌ وشِدَّة، فقالوا لنبيٍّ لهم: وَدِدْنا أنْ نعلمَ ما الذي يُرضي ربَّنا فنتَّبِعَه. فأوحى الله عز وجل إليه: إن قومَكَ يقولون، [فأخبِرْهم إنْ أرادوا رضائي فَلْيُرضوا المساكين، فإنَّهم] إذا أرضَوْهُمْ رَضِيت، وإذا أسخطوهُمْ سَخِطت (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 52)، وما بين معقوفين منه.).

وقال عبد الله بن أحمد أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا إبراهيم بن خالد، حدّثني عمر بن عبد الرحمن، قال: سمعتُ وهب بن منبِّه يقول: إنَّ عيسى عليه السلام كان واقفًا على قبرٍ ومعه الحواريُّون - أو نفَرٌ من أصحابه - قال: =

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وصاحبُ القبرِ يُدَلَّى فيه؛ قال: فذكروا من ظلمةِ القبر وضيقِه. فقال عيسى: قد كنتُمْ فيما هو أضيق من ذلك، في أرحامِ أمهاتِكم، فإذا أحبَّ الله أنْ يُوسِّعَ وسَّع. أو كما قال (المصدر السابق.).

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثنا بكَّار بن عبد الله قال: سمعتُ وَهْبَ بن منبِّه يقول: كان رجلٌ عابدٌ من السُّيَّاح أرادَهُ الشيطانُ من قِبَلِ الشهوةِ والرغبةِ والغضَب، فلم يستطعْ منه شيئًا من ذلك، فتمثَّل له حيَّةً وهو يصلِّي، فمضى ولم يلتفتْ إليه، فالتوَى على قدمَيْه، فلم يلتفتْ إليه، فدخلَ ثيابَهُ وأخرجَ رأسَه منِ عندِ رأسه، فلم يلتفتْ ولم يستأخِرْ، فلما أراد أنْ يسجُد التوَى في موضعِ سجودِه، فلمّا وضع رأسه ليسجُدَ فتح فاهُ لِيلتقمَ رأسَه، فوضع رأسه، فجعل يعرِكُه حتى استمكن من السجود على الأرض، ثم جاءَهُ على صورةِ رجلٍ فقال له: أنا صاحبُكَ الذي أخوِّفُك، أتيتك من قِبَلِ الشهوةِ والغضَبِ والرغبة، وأنا الذي كنتُ أتمثلُ لك بالسباعِ والحِيَّات فلم أستطعْ منك شيئًا، وقد بدَا لي أن أصادقَك، ولا آتيكَ في صلاتك بعدَ اليوم. فقال له العابد: لا يومَ خوَّفتني خفتُك، ولا اليومَ بي حاجةٌ في مصادقتِك. قال: سَلْني عمَّا شئت أخبِرْك. قال: فما عسيتَ أنْ أسألك؟ قال: ألا تسالُني عن مالِكَ ما فُعلِ به بعدَك؟ قال: لو أردتُ ذلك ما فارقتُه. قال: أفلا تسألُني عن أهلِكَ مَنْ ماتَ منهم ومَنْ بَقِي؟ قال: أنا مت قبلهم. قال أفلا تسألُني عمَّا أُضِل به الناس؟ قال. أنتَ أضَلُّهم؛ فأخبِرْني عن أوثقِ ما في نفسِك تُضل به بني آدم؟ قال: ثلاثةُ أخلاق: الشُّحّ، والحِدَّة، والسُّكْر؛ فإنَّ الرجلَ إذا كان شحيحًا قلَّلْنا مالَهُ في عِينه، ورغبْناه في أموال الناس؛ وإذا كان حَديدًا تداولناه بيننا كما يتداوَلُ الصبيانُ الكُرَة؛ ولو كان يُحيي الموتى بدعوته لم نيأسْ منه، وكلُّ ما يبنيهِ تَهْدِمُه لنا كلمةٌ واحدة؛ وإذا سَكِرَ قُدْناهُ إلى كلِّ شرٍّ وفضيحة، وخِزْيٍ وهوَان، كما تُقادُ القِطَّةُ إذا أُخذ بأذُنِها كيف شئنا (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (518، 519)؛ أبو نعيم في الحلية (4/ 52، 53).).

وقال وهب: أصاب أيوبَ البلاءُ سبعَ سنين، وتُرك يوسفُ في السجن سبعَ سنين، ومسخ بختنصر في السباع سبع سنين (كذا في (ق)، وفي الحلية (4/ 53):"وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين".).

وسئل وهبٌ عن الدنانيرِ والدراهم فقال: هي خواتيمُ ربِّ العالمين في الأرضِ لِمَعايشِ بني آدم، لا تُؤكل ولا تُشرب، فأينما ذهبتَ بخاتمِ رب الَعالمين قُضيَتْ حاجتُك. وهي أزِمَّةُ المنافقين، بها يقادون إلى الشهوات (المصدر السابق.).

وروى داود بن عمر الضبي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سِمَاك بن الفَضْل (في (ق): "سماك بن المفضل، تصحيف، والمثبت من الحلية، وترجمته في التاريخ الكبير (4/ 174)، وسير أعلام النبلاء (5/ 249).)، عن وهب، قال: مَثَلُ الذي يدعو بغيرِ عمَل، مثل الذي يرمي بغيرِ وَتَرٍ.

وقال ابن المبارك (في كتابه الزهد ص (72، 73).): أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن مهرب (وقع في الحلية: "عمر بن عبد الرحمن بن مهدي "وهو تصحيف، وهو على الصواب في الزهد، وترجمته في التاريخ الكبير (6/ 173)، والجرح والتعديل (6/ 121)، ومشاهير علماء الأمصار ص (192).) قال: سمعتُ وهبًا يقول: قال حكيمٌ من الحكماء: إني لأستحي من الله عز وجل أن أعبُدَهُ رجاءَ ثوابِ الجنةِ فقط، فأكون كالأجير السَّوْء، إنْ أُعْطي عَمِل، وإنْ لم يعطَ لم يعمل؛ وإني لأستحي من الله أن أعبدَهُ مخافةَ النار فقط، فأكونُ كالعبد السَّوْء، إنْ رَهِبَ عَمِل، وإنْ تُرك لم يعملْ؛ وإني لَيستخرِج مني حُبُّ الله ما لا يستخرج مني غيرُه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (53/ 4، 54).).

وقال السُّريُّ بن يحيى: كتب وَهْبٌ إلى مكحول: إنك قد أصبتَ بما ظهر من علم الإسلام عند الناس محبةٌ وقال =

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وشرفًا، فاطلب بما بطن من علم الإنسان (كذا في (ق)، وفي الحلية:"من علم الإسلام".)

عند الله محبةً وزُلْفَى، واعلمْ أنَّ إحدى المحبَّتَيْن تمنعُ الأخرى. أو قال: سوف تمنعُك الأخرى (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 54).).

وقال زافر بن سليمان: عن أبي سنان الشيباني، قال: بلغَنا أنَّ وهبَ بن منبِّه قال: قال لقمانُ لابنه: يا بني، اتخذْ طاعةَ الله تجارةً تزيدُ بها ربحَ الدنيا والآخرة، والإيمانَ سفينتَك التي تحملُ عليها، والتوكُّلَ على الله شراعَها، والدنيا بحرَك، والأيامَ موجَك، والأعمالَ الصالحةَ تجارتَكَ التي ترجو رِبْحَها، والنافلةَ هديَّتَك التي ترجو بها كرامتَك، والحِرْصَ عليها [الرِّيحَ التي، تُسيِّرُها وتُزْجيها، ورَدَّ النفسِ عن هواها مراسِيهَا، والموتَ ساحلَها، والله مَالِكها وإليه مصيرُها. وأحبُّ التجار إلى الله وأفضلُهم وأقربُهم منه أكثرُهم بضاعةً، وأصفاهم نيةً، وأخلصهمْ هديةً، وأبغَضُهم إليه أقلُّهم بضاعةً وأردَؤهم هديةً وأخبَثُهم طوية؛ فكلَّما حسَّنْتَ تجارتَك ازدادَ رِبْحُك؛ وكلَّما خلصَتْ هديتُك تُكْرَم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 54)، وما بين معقوفين منه.).

وفي رواية عنه أنه قال: قال لقمانُ لابنِه: يا بُنيَّ، اتخذْ طاعةَ الله بضاعةً تأتِك الأرباحُ من كلِّ مكان، واجعلْ سفينتَكَ تقوى الله، وحسْوَها التوكُّلَ على الله، وشراعَها الإيمان بالله، وبحرَك العِلْم النافع، والعمل الصالح، لعلَّكَ أنْ تنجو، وما أراك بناجٍ (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (190) بنحوه.).

وقال عبد الله بن المبارك (في كتابه الزهد ص (19) برقم (56).): عن رباح بن زيد، عن رجل، قال: إنَّ للعلمِ طُغيانًا كطغيانِ المال.

وقال الطبراني: حدّثنا عبيد بن محمد الصنعاني، حدّثنا أبو قدامة همام بن مسلمة بن عقبة، حدّثنا غوثُ بن جابر، حدّثنا عقيل بن منبِّه قال: سمعتُ عمِّي وهبَ بن منبِّه يقول: الأجرُ من الله عز وجل معروض، ولكنْ لا يستوجبُهُ منْ لا يعمَل، ولا يَجدُهُ من لا يَبتغيه، ولا يُبصِرهُ من لا ينظرُ إليه، وطاعةُ اللهِ قريبةٌ ممّنْ يرغبُ فيها، بعيدة ممن زَهِدَ فيها، ومنْ يحرِصْ عليها يَصِلْ إليها، ومنْ لا يُحبُّها لا يَجِدُها، لا تسبقُ منْ سعى إليها، ولا يُدْركُها منْ أبطأ عنها، وطاعةُ الله تُشرِّفُ منْ أكرَمَها وتُهينُ مَنْ أضاعها، وكتابُ الله يدُلّ عليها، والإيمان بالله يَحُضُّ عليها (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 54).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بنُ خالد، حدّثنا عمر بن عبد الرحمن، سمعت وهب بن منبِّه يقول: قال داود عليه السلام: يا رب، أيُّ عبادِكَ أحبُّ إليك؟ قال: مؤمن حسنُ الصورة، حسَنُ العمَل. قال: يا ربّ، أيُّ عبادِك أبغضُ إليك؟ قال: كافرٌ حسنُ الصورة، كفَرَ أو شَكَر، هذان (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 55)، وروايته:"كفر هذا وشكر هذا".).

وفي روايةٍ ذكرها أحمد بن حنبل: أيُّ عبادك أبغضُ إليك؟ قال: عبدٌ استخارَني في أمير فخرتُ له، فلم يرضَ به (المصدر السابق.).

وقال إبراهيم بن الجُنيد: حدّثني إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، حدّثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبِّه، قال: كان سائح يعبدُ الله تعالى، فجاءه إبليسٌ أو شيطانٌ فتمثَّلَ بإنسان، فجعل يُريه أنه يعبدُ الله تعالى، وجعل يزيدُ عليه في العبادة، فأحبَّه ذلك السائح، لِمَا رأى من اجتهادِهِ وعبادتِه، فقال له الشيطان والسائحُ في مصلَّاه: لو دخلنا إلى المدينة فخالَطْنا الناس، وصبَرْنا على أذاهم، وأمَرْنا ونَهَيْنا، كان أعظمَ لأجرِنا. فأجابَهُ السائحُ إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجلَيْه من بابِ مكانِهِ لينطلقَ معه هَتفَ به هاتف فقال: =

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إنَّ هذا شيطان أرادَ أن يَفتِنَك. فقال السائح: رِجْلٌ خرجَتْ في معصيةِ الله وطاعةِ الشيطان لا تَدخُلُ معي. فما حوَّلها من موضعها ذلك حتى فارقَ الدنيا، فأنزل الله تعالى ذِكرَه في بعضِ كتبهِ فقال: وذو الرِّجل (المصدر السابق.).

وقال وهب: أتى رجلٌ من أهلِ زمانهِ إلى مَلِكٍ كان يَفتِنُ الناسَ على أكلِ لحمِ الخِنْزِير، فأعظمَ الناسُ مكانَه، وهالَهُمْ أمرُه، فقال له صاحبُ شُرْطَةِ الملِكِ سِرًّا بينه وبينه: أيها العالم، اذبَحْ جَدْيًا مما يَحلُّ لك أكلُه، ثم ادفَعْهُ إليَّ أصنعه لك على حِدَتِه؛ فإذا دَعَا المَلِكُ بلحم الحِنْزير أمرتُ به فوُضع بين يديك، فتأكلُ منه حلالًا ويَرَى الملِكُ والناسُ أنك إنما أكلتَ لحمَ الخِنْزير. فذبح ذلك العالِمُ جَدْيًا ثم دفعه إلى صاحبِ الشرطة، فصنعه له، وأمر الطبَّاخين إذا أمَرَ المِلكُ بأنْ يُقَدَّمَ إلى هذا العالم لحم الخِنْزير أنْ يضَعوا بين يدَيْهِ لحمَ هذا الجَدْي؛ واجتمع الناسُ لينظروا أمْرَ هذا العالِم فيه، أيأكلُ أم لا؟ وقالوا: إنْ أكَلَ أكَلْنا، وإن امتنعَ امتنعْنَا. فجاء الملك فدعا لهم بلحومِ الخنازير فوُضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالِم لحمُ ذلك الجَدْي الحلال المُذَكَّى، فألهمَ الله ذلك العالم، فأُلقيَ في رُوْعِه وفكرِه فقال: هَبْ أني أكلتُ لحمَ الجدي الذي أعلم حِلَّه أنا، فماذا أصنعُ بِمَن لا يعلم، والناسُ إنما ينتظرونَ أكْلي ليقتدوا بي وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلتُ لحمَ الخِنْزير، فيأكلونَ اقتداءً بي، فأكونُ مِمنْ يحمِلُ أوزارَهم يومَ القيامة؛ لا أفعلُ واللهِ، وإنْ قُتلت وحُرِّقتُ بالنار. وأبَى أن يأكل، فجعلَ صاحبُ الشرطةِ يَغْمزُ إليه ويُومي إليه ويأمرُه بأكلِه، أيْ إنما هو لحمُ الجَدْي؛ فأبَى أن يأكل، ثم أمرَهُ الملكُ أنْ يأكلَ فأبى، فألَحُّوا عليه، فأبى، فأمر الملكُ صاحبَ الشرطةِ بقَتْلِه، فلما ذهبوا بهِ ليقتلُوه قالَ له صاحبُ الشرطة: ما منعكَ أنْ تأكلَ من اللحم الذي ذَكَّيْتَهُ أنتَ ودفعتَه إليّ؟ أظننتَ أني أتيتُكَ بغيرِه وخُنْتُكَ فيما ائتمنتني عليه؟ ما كنتُ لأفعلَ والله. فقال له العالم: قد علمتُ أنه هو ولكنْ خفتُ أنْ يتأسى الناسُ بي، وهم إنما ينتظرونَ أكْلي منه، ولا يعلمون إلَّا أني إنما أكلتُ لحمَ الخِنْزير، وكذلك كل منْ أُريد على أكلِه فيما يأتي من الزمان يقول: قد أكلَهُ فلان، فأكونُ فتنةً لهم. فقُتل رحمه الله (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 55، 56).).

فينبغي للعالمِ أنْ يحذرَ المعايب، ويجتنبَ المحذورات، فإنَّ زلَّتَهُ وناقِصَتهُ مَنْظورةٌ يَقتدي بها الجاهل.

وقال معاذ بن جَبَل: اتقوا زَيْغَة الحكيم (ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 495) ضمن كلام لمعاذ. وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص (253)، وبعده:"فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالةِ على لسان الحكيم".).

وقال غيرُه: اتقوا زَلَّةَ العالم فإنه إذا زَل زَلَّ بزَلَّتِهِ عالَم كثير (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (520) معزوًّا لعيسى صلوات الله عليه.).

ولا ينبغي له أن يستهينَ بالزَّلَّةِ وإنْ صَغُرَتْ، ولا يفعلُ الرُّخَصَ التي اختلفَ فيه العلماء، فإنَّ العالِمَ هو عَصَاةُ كلِّ أعمى من العوام، بها يصولُ على الحق ليَدْحَضهُ ويقول: رأيتُ فلانًا العالم وفلانًا وفلانًا وفلانًا يفعلونَ ويفعلون. وَلْيَجْتَنبِ العوائدَ النفسية، فإنَّهُ قد يفعلُ أشياءَ على حُكم العادة، فيظنُّها الجاهلُ جائزةً أو سنة أو واجبة، كما قيل: سَلِ العالم يَصْدُقْكَ، ولا تقتدِ بفعلِهِ الغريب، ولكن سَلْه عنه يَصْدُقْكَ إنْ كان ذا دِين. وكم أفسدَ النظرُ إلى غالبِ علماءِ زمانِكَ هذا من خَلْق. فما الظنُّ بمخالطتهِمْ ومجالستِهِمْ، ولكنْ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].

وقال محمد بن عبد الملك بن زَنْجَوَيْه: حدّثنا عبد الرزاق عن أبيه، قال: قلت لوهب بن منبه: كنتَ ترى =

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلَبثُ أن نراها كما رأيتها؟ قال: ذهب ذلك عني منذُ وَليتُ القضاء. قال عبد الرزاق: فحدثت به مَعْمَرًا فقال: والحسنُ لأبعدَ مَا وَليَ القضاءَ لم يحمَدُوا فهمَه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 56).).

فمَنْ يأمنُ القراءَ بعدَكَ يا شَهْرُ

(هذا عجز بيت قاله أحدهم لشهر بن حوشب، من كتب الزيادة هنا هو الذي ساقه، وأصله: أنه روى يحيى بن أبي بكير الكرماني عن أبيه قال: كان شهر بن حَوْشَب على بيتِ المال، فأخذ خَريطةً فيها دراهم، فقيل فيه:

لقد باع شهرٌ دينَهٌ بخرِيطةٍ

فمَنْ يأمَنِ القُرَّاءَ بعدَكَ يا شَهْرُ

أخذتَ بها شيئًا طفيفًا وبعتَهُ

من ابنِ جريرٍ إنَّ هذا هو الغَدْرُ

قال الذهبي: قلت إسنادها منقطع ولعلها وقعتْ وتابَ منها أو أخذها متأولًا أن له في بيت مال المسلمين حقًا نسأل الله الصفح. سير أعلام النبلاء (4/ 375)، وهو بتحقيقي. وانظر ما سيأتي في ترجمة حوشب ص (304).)

فكيف حالُ مَنْ قد غرق في قاذوراتِ الدُّنيا من علماء زمانكَ هذا! ولا سيما من بعدِ فتنةِ تيمورلنك، فإنَّ القلوبَ قد امتلأتْ بحبِّ الدنيا فلا يجد العلمُ فيها مَوْضِعًا، فجالِسْ مَنْ شئتَ منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها ولا تستخفك البَدَوات، فإنما الأمورُ بعواقبها وخواتيمِها ونتائجِها وغاياتها. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 و 3].

وقال وهب: البلاءُ للمؤمن كالشِّكَالِ للدَّابَّة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 56)، والشكال: الحبل الذي تُشدُّ به قوائم الدابة. اللسان (شكل).).

وقال أبو بلال الأشعري: عن أبي هشام (في (ق): "عن أبي شهاب" تصحيف والمثبت من الحلية، ومما سبق من هذا الإسناد، وترجمته في الجرح والتعديل (2/ 187)، وهو إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه أبو هشام الصنعاني.) الصنعاني، عن عبد الصمد، عن وهب، قال: مَنْ أُصيب بشيءِ من البلاء فقد سُلك به طريقُ الأنبياء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 56).).

وقال عبدُ الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا منذر، قال: سمعتُ وهبًا يقول: قرأتُ في كتابِ رجلٍ من الحواريين: إذا سُلك بك طريقُ - أو قال: سبيل أهلِ البلاء - فطِبْ نفسًا، فقد سُلك بها طريقُ الأنبياء والصالحين (المصدر السابق.).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أحمد بن جعفر، حدّثنا إبراهيم بن خالد، حدّثني أمية بن شبل، عن عثمان بن يزدويه، قال: كنتُ مَعَ وَهْب، وسعيدِ بن جُبير يومَ عَرَفة تحتَ نَخيلِ ابنِ عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله كم لك منذُ خفتَ من الحجاج؟ فقال: خرجتُ عن امرأتي وهي حامل، فجاءني الذي في بطنِها وقد خرَجَ وجهُه (في (ق): "خرج [شعر، وجهه]، وهذه الزيادة لا داعيِ لها، ومعنى خرج وجهه: أي خرج شعر وجهه وَبَقل. انظر اللسان (خرج).). فقال له وهب: إنَّ مَنْ كان قبلَكُمْ كان إذا أصابه بلاءٌ عَدَّهُ رخَاءً، وإذا أصابه رخاءٌ عدَّهُ بلاءً (أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (373)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 56، 57، و 290).).

وروى عبد الله بن أحمد بسنده، عن وهب، قال: قرأتُ في بعض الكتب: ليس من عبادي مَنْ سَحَر أو سُحِرَ له، أو تكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له، أو تَطَيَّرَ أو تُطُيِّرَ له، فمنْ كان كذلك، فَليَدعُ غيري، فإنما هو أنا، وخَلْقي كلُّهمْ لي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 57). وأخرج البيهقي في شعب الإيمان (2/ 64) برقم (1176) عن عبد الرزاق أنا معمر بن قتادة، أن كعبًا قال قال الله عز وجل: ليس من عبادي من سحر أو سحر له أو كهن أو كهن له =

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أو تطير أو تطير له، لكنْ من عبادي من آمن وتوكل علي.).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن خالد، حدّثنا رباح، عن جعفر بن محمد، عن التيمي، عن وهب، أنه قال: دخولُ الجَمَلِ في سَمِّ الخياط أيْسَرُ من دخولِ الأغنياءِ الجنَّة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 57).).

قلت (القائل هنا هو الذي زاد في نسخة (ق) المطبوعة.): هذا إنما هو لشدة الحساب، وطول وقوف الأغنياء في الكُرَب، كما قد ضُربت الأمثال للشدائد. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبدُ الرزاق، حدّثنا بكَّار، قال: سمعتُ وهبًا يقول: تَرْكُ المكافأةِ من التَّطْفِيفِ (أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق ص (111) برقم (365)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 58).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا الحجاج وأبو النضر، قالا: حدّثنا محمد بن طلحة، عن محمد بن جُحادة، عن وهب، قال: من يتعبَّدْ يَزْدَدْ قوَّةً، ومن يكسَلْ يَزْدَدْ فَتْرةً (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 58).).

وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلةٍ باردة فقالت له: قُمْ إلى صلاتِك، فهي خيرٌ لك من نومه توهنُ بدَنَك. ورأيتُ في ذلك حديثًا لم يحضُرْني الآن وهذا أمر مُجَرَّب، إن العبادة تنشِّطُ البدَن، وتُلَيِّنُه وإن النومَ يُكْسلُ البدَن فيُقَسِّيه؛ وقد قال بعضُ السلف: لما تبع صِلَةَ بنَ أشْيَم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلتَه إلى أنْ أصبح قال: فأصبح كأنه باتَ على الحشايا، وأصبحتُ ولي من الكَسَلِ والفُتور ما لا يعلمه إلا الله عز وجل (انظر قصة صلة بن أشيم والذي تبعه زيد العبدي في شعب الإيمان للبيهقي (3/ 160، 161)، برقم (3211).).

وقد قيل للحسن: ما بالُ المتعبِّدين أحسَنُ الناسِ وجوهًا؟! قال: لأنهم خَلَوْا بالجليل، فألبسَهُمْ نورًا من نورِه (ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (4/ 412).).

وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجلٌ يَخْلو بأهلِه عَروسًا أقرَّ ما كانتْ نفسُهُ وآنَسَ بأشدَّ سرورًا منهم بمناجاةِ ربهم تعالى إذا خَلوْا به.

وقال عطاء الخراساني: قيامُ الليلِ محْياةٌ لبدَن، ونورٌ في القلب، وضياء في الوجه، وقوَّةٌ في البصرِ والأعضاءِ كلِّها. وإنَّ الرجلَ إذا قام بالليل أصبح فرحًا مسرورًا، وإذا نام عن حِزْبه أصبح حزينًا مكسورَ القلب، كأنه قد فقَدَ شيئًا، وقد فقد أعظمَ الأمور له نفعًا.

وقال ابنُ أبي الدنيا: حدّثنا أبو جعفر أحمد بن مَنِيع، حدّثنا هاشم بن القاسم أبو النضر، حدّثنا بكر بن حبش، عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن بلال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأبُ الصالحين قبلَكُمْ؛ وإنَّ قيامَ الليلِ قُرْبَةٌ إلى الله تعالى، ومَنْهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ عن السيئات، ومَطْردَةٌ للشيطان عن الجسد"(أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 127) برقم (3087) بنحوه؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (272)، وفي إسناده ضعف.).

وقد رواه غيره (أخرجه الترمذي (3549) في الدعوات عن رسولِ الله: باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي إدريس الخولاني عن أبي أمامة بلفظ (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قرب إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده، وانظر (الإحياء).) من طُرق "عليكم بقيام الليل، فإنَّه دأب الصالحين قبلكم". ويكفي في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَعْقدُ الشيطانُ على قافيةِ أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَد، يَضرِبُ مكانَ كل عُقْدةٍ: عليك ليلٌ =

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= طويلٌ فارْقُدْ، فإذا استيقظَ وذَكَرَ الله انحَلَّتْ عُقْدة، وإذا توضأ انحلتْ عُقدة، فإنْ صلَّى انحلَّتْ عُقْدَة، فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفس، وإلا أصبح خَبيثَ النفس كَسْلان" (أخرجه البخاري في صحيحه (1091) في الجمعة: باب عقد الشيطان على قافية الرأس، و (3096) في بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده؛ ومسلم (776) في صلاة المسافرين: باب ما روي فيمن قام الليل؛ والنسائي (1607) في قيام الليل وتطوع النهار: باب الترغيب في قيام الليل" وأبو داود (1306) في الصلاة: باب قيام الليل؛ وابن ماجه (1329) في إقامة الصلاة والسنة فيها: باب ما جاء في قيام الليل؛ والإمام أحمد في مسنده (2/ 243 و 253)(7266 و 7392).).

وهذا بابٌ واسع، وقد قال هودٌ فيما أخبر الله عنه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50]، ثم قال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] وهذه القوة تشمَلُ جميعَ القوى، فيزيدُ الله عابديهِ قوةً في إيمانِهم ويقينهم ودينِهم وتوكلِهم، وغيرِ ذلك مما هو من جنسِ ذلك؛ ويزِدْهُمْ قوةً في أسماعِهم وأبصارِهم وأجسادِهم وأموالِهم وأولادِهم وغيرِ ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن عبدِ الكريم، حدّثني عبد الصمد، أنه سمع وهبًا يقول: تصدَّقْ صدقةَ رجل يعلمُ أنه إنما قدَّمَ بين يديهِ مالَه، وما خلَّف مالَ غيرِه.

قلت: وهذا كما في الحديث: "أيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحبُّ إليه من مالِه"؟ فقالوا: كُلُّنا مالُه أحبُّ إليه من مال وارثِه. فقال: "إنَّ مالَهُ ما قدَّم، ومالَ وارِثِهِ ما أخَّر"(أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود (6077) في الرقاق: باب ما قدم من ماله فهو له؛ والنسائي (3612) في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية؛ والإمام أحمد في المسند (1/ 383)(3619).).

قال: وسمعتُ وَهْبًا على المنبرِ يقول: احفظوا عني ثلاثًا: إياكم وهوىً متَّبَعًا، وقريبَ سَوْء، وإعجابَ المرءِ بنفسه.

وَقدْ رُوِيَتْ هذه الألفاظُ في حديث (ولفظه "ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوىً مُتَّع، وإعجاب المرء بنفسه" رواه الطبراني في الأوسط وغيره، من حديث أنس وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا يونس بن عبد الصمد بن مَعْقِل، حدّثنا إبراهيم بن الحجَّاج، قال: سمعتُ وهبًا يقول: أحبُّ بني آدمَ إلى الشيطان النؤومُ الأكول (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 58).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا غوث بن جابر، حدّثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل، أنه سمع وهبًا يقول: إنَّ الله عز وجل يحفظُ بالعبدِ الصالح القَبِيلَ (في (ق): "القيل"، وهو تصحيف، والمثبت من الحلية (4/ 58).) من الناس.

وقال أحمد أيضًا: حدّثنا إبراهيم بن عقيل، حدّثنا عمران أبو الهذيل - من الأبناء - عن وهب بن منبِّه، قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان مُوَكَّلٌ به؛ فأمَّا الكافرُ فيأكلُ معه، ويشرب معه، وينام معه على فراشه؛ وأمَّا المؤمنُ فهو مجانبٌ له ينتظرُ متى يُصيبُ منه غَفْلةً أو غِرَّةً؛ وأحبُّ الآدميِّين إلى الشيطان الأكول النؤوم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (58/ 4، 59).).

وقال محمد بن غالب: حدّثنا أبو المعتمر ابن أخي بشر بن منصور، عن داودَ بن أبي هند، عن وهب، قال: قرأتُ في بعض الكتب التي أُنزلتْ من السماء على بعض الأنبياء، أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لِمَ اتخذتُكَ خليلًا؟ قال: لا يا رب. قال: لِذلِّ مَقَامِكَ بين يدي في الصلاة (أخرجه أبو نعيم في الحلية =

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (4/ 59).).

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدّثنا محمد بن أيوب، حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وَهْب بن مُنبِّه، قال: حدّثني أبي قال: كان لسليمانَ بنِ داود ألفُ بيت، أعلاهُ قوارير، وأسفله حديد، فركبَ الرِّيح يومًا، فمرَّ بحرَّاث، فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمانُ من الملْكِ! فقال: لقد أوتي آل داود ملكًا عظيمًا، فحملتِ الريحُ كلام الحرَّاث، فألقته في أُذنِ سليمان، قال: فأمر الريحَ فوقفَتْ؛ ثم نزل يمشي حتى أتى الحرَّاث، فقال له: إني قد سمعتُ قولك، وإنما مشَيْتُ إليك لئلا تتمنَّى ما لا تقدِرُ عليه مما أقدَرَني اللهُ عليه تفضُلًا وإحسانًا منه عليّ، لأنه هو الذي أقامني لهذا وأعانني. ثم قال: والله لتَسْبيحة واحدةٌ يَقْبَلُها الله عز وجل منكَ أو منْ مؤمنٍ خيرٌ ممَّا أُوتيَ آلُ داودَ من الملك، لأنَّ ما أوتِيَ آلُ داودَ من مُلكِ الدنيا يَفْنَى، والتسبيحةُ تَبْقى؛ وما يَبْقى خيرٌ مما يَفْنَى. فقال الحرَّاث: أذهبَ الله همَّكَ كما أذهبتَ همِّي (المصدر السابق.).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن عَقيل بن مَعْقِل، حدّثني أبي، عن وهب بن منبِّه، قال: إنَّ الله عز وجل أعطى موسى عليه السلام نورًا، فقال له هارون: هَبْهُ لي يا أخي. فوهبَهُ له. فأعطاهُ هارونُ ابنَيْه، وكان في بيت المقدس آنية تُعظِّمُها الأنبياءُ والملوك، فكان ابنا هارونَ يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلَتْ نارٌ من السماء فاختطفَتِ ابنَيْ هارون، فصَعِدَتْ بهما، ففَزِعَ هارونُ لذلك، فقام مستغيثًا متوجِّهًا بوجهِه إلى السماء بالدعاءِ والتضرُّع، فأوحى الله إليه: يا هارون، هكذا أفعل بمَنْ عصاني من أهلِ طاعتي، فكيف فعلي بمَنْ عصاني من أهلِ معصيتي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 59).)؟.

وقال الحكمُ بن أبان: نزلَ بي ضيفٌ من أهلِ صنعاء فقال: سمعتُ وَهْبَ بن منبِّه يقول: إن لله عز وجل في السماء السابعة دارًا يُقال لها البيضاء، يَجْمعُ فيها أرواحَ المؤمنين، فإذا ماتَ الميتُ من أهلِ الدنيا تَلَقَتهُ الأرواح، فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسألُ الغالْبَ أهلهُ إذا قَدِم عليهم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 60).).

وقال: من جعل شهوتَهُ تحتَ قدمِه فَزِعَ الشيطانُ من ظِلِّه؛ ومَنْ غلب علمُهُ هواه فذلك العالِم الغلَّاب (المصدر السابق.).

وقال فُضيل بن عِيَاض: [قال وهب بن منبِّه]: أوحى الله تعالى إلى بعضِ أنبيائه: بعيني ما يتحمَّلُ المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلبِ مرضاتي؛ فكيف بهم إذا صاروا إلى داري؟ وتَبَحْبَحُوا في رياضِ نعمتي! هنالك فَلْيُبَشَّرِ المضعِفُون لله أعمالَهم بالنَّظرِ العَجيب من الحبيبِ القريب؛ أتُراني أنسَى لهم عملًا، وكيف وأنا ذو الفَضْلِ العظيم؟! أجودُ على المُوَلِّينَ الْمُعْرضينَ عني، فكيف بالمُقْبلينَ عليّ؟ وما غضِبتُ على شيءٍ كغضَبي على مَنْ أخطأ خطيئةً فاستعظمَها في جَنْبِ عَفْوي، ولو تعاجَلْتُ بالعقوبة أحدًا أو كانتِ العجلةُ من شأني لعاجلتُ القانِطينَ من رحمتي؛ ولو رآني عبادي المؤمنين كيف أستوهبُهم ممن اعتدَوا عليه، ثم أحكمُ لِمَنْ وهبَهم بالخُلد المقيم، [لَمَا] اتهموا فَضْلي وكرمي! أنا الديَّانُ الذي لا تحلُّ معصيتي، والذي أطاعني أطاعني برحمتي، ولا حاجة لي بهوانِ منْ خاف مقامي؛ ولو رآني عبادي يومَ القيامةِ كيف أرفعُ قصورًا تحارُ فيها الأبصار، فيسألوني لِمَنْ ذا؟ فأقول: لِمَنْ وَهَبَ لي ذنبًا ما لم يُوجبْ على نفسِه معصيتي والقنوطَ من رحمتي، وإني مكافئٌ على المدح فامدحوني (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 60، 61)، وبرواية أخرى في (10/ 81).).

وقال سلمة بن شبيب: حدّثنا سلمة بن عاصم، حدّثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدّثنا عبد الرحمن أبو طالوت، حدّثني مهاجر الأسدي، عن وَهْب، قال: مرَّ عيسى بنُ مريم ومعه الحواريُّون بقريةٍ قد مات أهلُها، =

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إنسُها وجنُّها وهوامُّها وأنعامُها وطيورُها، فقام عليها ينظرُ إليها ساعةً، ثم أقبلَ على أصحابه فقال: إنما ماتَ هؤلاءِ بعذابٍ من عندِ الله، ولولا ذلك لماتوا متفرِّقين. ثم ناداهم عيسى: يا أهلَ القرية؛ فأجَابه مُجيب: لبيكَ يا روحَ الله. فقال: ما كانتْ جنايَتُكم وسبَبُ هلاكِكُمْ؟ قال: عبادةُ الطاغوت، وحبُّ الدنيا. قال: وما كانتْ عبادتُكم للطاغوت؟ قال: طاعة أهل المعاصي هي عبادة الطاغوت. قال: وما كان حُبُّكم للدنيا؟ قال: كحبِّ الصبيِّ لأمِّه، كنا إذا أقبلتْ فرِحْنا، وإذا أدبرتْ حَزِنَّا معَ أملٍ بعيد، وإدبارٍ عن طاعةِ الله، وإقبالٍ على مَسَاخِطِه. قال: فكيف كان هلاكُكُمْ؟ قال: بِتْنا ليلةً في عافية، وأصبحنا في هاوية. قال: وما الهاوية؟ قال: سِجِّين. قال: وما السِّجِّين؟ قال: جَمْرةٌ من نارٍ مثلُ أطباقِ الدنيا كُلِّها، دُفِنَتْ أرواحُنا فيها. قال: فما بالُ أصحابك لا يتكلَّمون؟ قال: لا يستطيعونَ أن يتكلموا. قال: وكيف ذلك؟ قال: هم مُلْجَمون بلُجُمٍ من نار. قالَ: وكيف كلَّمْتَني أنتَ من بينهم؟ قال: كنتُ فيهم لَمّا أصابهم العذاب، ولم أكنْ منهم ولا على أعمالِهم، فلمَّا جاء البلاءُ عَمَّني معهم وأنا مُعلَّقٌ بشعرةٍ في الهاوية، لا أدري أكردَسُ فيها أم أنجو؟ فقال: عيسى عليه السلام عند ذلك لأصحابه: بحق أقولُ لكم، لخُبزُ الشعير، [و] شُربُ الماءِ القَرَاح، والنومُ على المزابل، كثيرٌ على عافيةِ الدنيا والآخرة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 61، 62).).

وروى الطبراني عنه، أنه قال: لا يكونُ المرءُ حكيمًا حتى يطيعَ اللّهَ عز وجل، وما عصى اللهَ حكيمٌ، ولا يَعصي الله إلَّا أحمق، وكما لا يكمُلُ النهارُ إلا بالشمس، ولا يعرفُ الليلُ إلا كذلك لا تكملُ الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصي الله حكيم، كما لا يطيرُ الطيرُ إلا بجناحَيْن، ولا يستطيعُ منْ لا جناحَ له أنْ يطير، كذلك لا يطيعُ الله منْ لا يعملُ له، ولا يُطيق عملَ اللهِ منْ لا يُطيعه، وكما لا مُكْثَ للنار في الماء حتى تُطفأ، كذلك لا مُكثَ لعمَلِ الرِّياء حتى يبور، وكما يُبدي سرَّ الزانيةِ وفضيحتَها فعلُها، كذلك يُفتضَحُ بالفعلِ السَّئِ منْ كان يُقِرُّ لِجليسِه بالقولِ الحسن ولم يعملْ به (في الحلية:"يغر الجليس بالقول الحسن إذا قال ما لا يفعل".)، وكما تكذبُ معذرةُ السارقِ بالسرقةِ إذا ظهرَ عليها عندَه، كذلك تكذِبُ معصيةُ القارئِ لله قراءتُه إذا كان يقرؤها لغيرِ الله تعالى (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 62).).

وقال الطبراني: حدّثنا محمد بن النضر، حدّثنا علي بن بحر بن بَري، حدّثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدّثنا عبدُ الصمد بن مَعْقِل، قال: سمعتُ وَهْبًا يقولُ في مزاميرِ آلِ داود: طُوبَى لِمنْ يسلك سبيلَ الحطَّابين، ولا يجالس البطَّالين، وطوبى لِمَنْ يسلُكُ طريقَ الأئمة، ويستقيمُ على عبادةِ ربِّه؛ فمثَله كمثَلِ شجرةٍ نابتةٍ على ساقيةٍ لا تزالُ فيها الحياة، ولا تزالُ خضراء (المصدر السابق.).

وروى الطبراني أيضًا عنه، قال: إذا قامتِ الساعةُ صرَخَتِ الحجارةُ صُراخَ النساء، وقطَرَتِ العِضَاهُ دَمًا (العِضاه: كلُّ شجرٍ له شوك، مثل الطَّلْح والسَّلم والسَّمُر والسِّدر، والخبر أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 63).).

ورُوي عنه أنه قال: ما من شيءٍ إلا يَبدو صغيرًا ثم يكبَر إلّا المصيبة، فإنها تبدو كَبيرةً ثم تصغُر (المصدر السابق.).

ورُوي عنه أيضًا أنه قال: وقف سائلٌ على بابِ داودَ عليه السلام فقال: يا أهلَ بيتِ النبوَّة، تصدَّقوا علينا بشيءٍ رزَقَكمُ الله رِزْقَ التاجرِ المقيم في أهله. فقال داود: أعْطُوه، فو الذي نفسي بيدِه، إنَّها لفي الزَّبُور (المصدر السابق.).=

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال: منْ عُرفَ بالكذب لم يَجُزْ صِدْقُه؛ ومنْ عُرف بالصِّدْق اؤتُمنَ على حديث؛ ومنْ أكثر الغِيبة والبغضاءَ لم يوثَقْ منهُ بالنَّصيحة؛ ومنْ عُرف بالفُجور والخديعة لم يؤمنْ إليه في المِحْنة؛ ومنِ انتحلَ فوقَ قدرِه جُحِدَ قدرُه. ولا تستحسِنْ فيكَ ما تستقبحُ في غيرِك (في الحلية (4/ 63): "ولا يحسن فيه ما يقبح في غيره".).

هذه الآثارُ رواها الطبرانيُّ عنه من طُرق.

وروى داود بن عمرو، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، قال: قدم علينا وَهْب مكة، فطفِقَ لا يشربُ ولا يتوضأُ إلّا من زَمْزم، فقيل له: ما لَكَ في الماء العذب؟ فقال: ما أنا بالذي أشربُ وأتوضأُ إلّا من زمزمَ حتى أخرجَ منها؛ إنكم لا تدرونَ ما ماءُ زَمْزم، والذي نفسي بيده، إنها لفي كتاب الله: طَعَامُ طُعْم، وشفاء سُقْم، ولا يَعْمِدُ أحدٌ إليها يتضلَّع منها رِيًّا ابتغاءَ بركتِها إلا نزَعتْ منه داءً وأحدثَتْ له شفاء. وقال: النظرُ في زمزمَ عبادة. وقال: النظرُ فيها يحُطُّ الخطايا حطًّا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 63، 64).).

وقال وهب: مُسخَ بُخْتَنَصَّرُ أسدًا فكان مَلِكَ السِّبَاع، ثم مُسخ نَسْرًا فكان مَلِكَ الطيور، ثم مُسخ ثورًا فكان مَلِكَ الدوابّ، وهو في كل ذلك يَعْقِلُ عَقْلَ الإنسان؛ وكان مُلكُه قائمًا يُدبَّر، ثم رَدَّ الله عليهِ رُوحَهُ إلى حالةِ الإنسان، فدعا إلى توحيدِ الله وقال: كلُّ إلَهٍ باطلٌ إلا إلهَ السماء. فقيل له: أماتَ مؤمنًا؟ فقال: وجدتُ أهلَ الكتابِ قدِ اختلفوا فيه، فقال بعضُهم: آمَنَ قبلَ أنْ يموتَ. وقال بعضهم: قَتَلَ الأنبياءَ وحرَّقَ الكتب، وحرَّقَ بيتَ المقدِس، فلم يُقْبَلْ منه التوبة (المصدر السابق (4/ 64).).

هكذا رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن الفرج، عن عباس بن يزيد، عن عبد الرزاق، عن بكَّار بن عبد الله، قال: سمعتُ وَهْبَ بن مُنبِّه يقول .. فذكره ..

وقال وَهب: كان رجلٌ بمصر، فسألهم ثلاثةَ أيام أن يُطعِموه فلم يُطعِموه، فمات في اليوم الرابع، فكفَّنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفَنَ في مِحرابِهم مكتوبًا عليه: قتلتموه حَيًا وبرَرْتُموهُ ميتًا. قال يحيى: فأنا رأيتُ القريةَ التي ماتَ فيها ذلك الرجل وما بِها أحد إلا وله بيتُ ضِيافة، لا غني ولا فقير (المصدر السابق.).

هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي، عن علي بن الحسن عن عبد الله بن أخي وهب، قال: حدّثني عمي وَهْب بن منبِّه .. فذكره .. قال: وأهلُ القرية يعترفون بذلك؛ فمن ثمَّ اتَخذوا بيوتًا للضيفانِ والفقراء، خوفًا من ذلك.

وقال عبد الرزاق: عن بكار، عن وَهْب، قال: إذا دخلَتِ الهديةُ من الباب خرجَ الحقُّ من الكُوَّة (المصدر السابق.).

وقال إبراهيم بن الجنيد: حدّثنا إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، عن عبد الصمد، عن وَهب بن منبِّه، قال: مرَّ نبيٌّ من الأنبياء على عابدٍ في كهف جبل، فمال إليه فسلَّم عليه وقال له: يا عبد الله، منذُ كم أنت هاهنا؟ قال: منذُ ثلاثِمئة سنة. قال: من أينَ معيشتك؟ قال: من ورَقِ الشجر. قال: فمن أين شرابُك؟ قال: من ماءِ العيون. قال: فأين تكونُ في الشتاء؟ قال: تحت هذا الجبل. قال: فكيف صبرُك على العبادة؟ قال: وكيف لا أصبر؟ وإنما هو يومي إلى الليل، وأما أمسِ فقد مضى بما فيه، وأما غدٌ فلم يأتِ بعدُ. فعجب النبيُّ من قوله: إنما هو يومي إلى الليل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 65).).

وبهذا الإسناد أنَّ رجلًا من العُبَّاد قال لمعلمه: قطعتُ الهوَى، فلستُ أهوى من الدنيا شيئًا. فقال له معلمهُ: أتفرِّقُ بين النساءِ والدوابِّ إذا رأيتهُنَّ معًا؟ قال: نعم. قال: أتفرقُ بين الدنانير والدراهم والحصا؟ قال: نعم. قال: يا بُني، إنك لم تقطعِ الهوى عنك، ولكنَّك قد أوثقته، فاحذرِ انفلاتَه وانقلابَه (المصدر السابق.). =

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال غوث بن جابر بن غيلان بن مُنبِّه: حدثني عَقِيل بن مَعقِل، عن وهب، قال: اعمل في نواحي الدِّين لثلاث، فإنَّ للدِّينِ نواحِي ثلاثًا، هُنَّ جِمَاعُ الأعمالِ الصالحة لِمَن أرادَ جمعَ الصالحات: أولاهنَّ تعملُ شكرًا للهِ على الأنعُمِ الكثيراتِ الغاديات الرائحاتِ الظاهراتِ الباطناتِ الحادثاتِ القديمات، يعملُ المؤمنُ شكرًا لهنّ، ورجاءَ تَمَامِهنّ. والناحيةُ الثانيةُ من الدِّين رغبةٌ في الجنةِ التي ليس لها ثَمَن، وليس لها مِثْلٌ، ولا يَزهَدُ فيها وفي العمَلِ لها إلا سفيه فاجر، أو منافقٌ كافر. والناحيةُ الثالثة من الدين أن يعملَ المومنُ فِرارًا من النارِ التي ليس لأحدٍ عليها صَبر، ولا لأحدٍ بها طاقةٌ ولايدَان، وليست مصيبتُها كالمصيبات، ولا حُزنُ أهلِها كالأحزان، نبَؤها عَظيم، وشانُها شديد، والآخرةُ وحزنُها فظيع، ولا يَغفُلُ عن الفِرار والتعوُّذ بالله منها إلا سفيه أحمق خاسِر، قد {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] (المصدر السابق.).

وقال إسحاق بنُ راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الذِّمَارِي (في الأصل (ق): (الدمادي) تصحيف، والمثبت من التاريخ الكبير (1/ 95) في ترجمة (261) محمد بن سعيد بن رمانة، والمقتنى في سرد الكنى (2/ 126)، وتقريب التهذيب ص (366). ويقال فيه عبد الملك بن عبد الرحمن أيضًا.) قال: أخبرني محمد بن سعيد بن رمانة، قال: أخبرني أبي، قال: قيل لوَهب: أليس مِفتاحُ الجنةِ لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مِن مفتاحٍ إلا ولهُ أسنان، فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فُتح له، ومن لم يأتِ البابَ بمفتاحٍ بأسنانهِ لم يُفتَحْ له (أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 95)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 66).).

وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريِم، حدثنا عبد الصمد بن مَعقِل، أنه سمع وَهبًا يقول: ركب ابنُ ملكٍ في جُند من قومه وهو شابٌّ، فصُرع عن فرَسِه، فدُقَّ عُنُقه، فمات في أرضٍ قريبةٍ من القُرى، فَغَضب أبوهُ وحَلَف أن يقتُل أهلَ تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقتِ الأفيالُ وطِئتهُ الخيل، فما أبقتِ الخيلُ وطِئتهُ الرجال. فتوجَّه إليهم بعد أن سقى الأفيالَ والخيل الخمرَ وقال: طؤوهُم بالأفيال، وإلا فما أبقتِ الأفيالُ فَلتَطأهُ الخيل، فما أخطأتهُ الخيل فَلتطأه الرجال، فلما سمع بذلك أهلُ تلك القرية، وعرَفوا أنه قصدَهم لذلك خرجوا بأجمعِهم، فجأروا إلى الله سبحانه، وعَجُّوا إليه وابتَهلوا يدعونَه تعالى ليَكشِف عنهم شَرَّ هذا الملك الظالم وما قَصَدَهُ من هلاكِهم، فبينما الملكُ وجيشهُ سائرون على ذلك، وأهل القريةِ في الابتهال والدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، إذ نَزَلَ فارسٌ من السماء، فوقع بينهم، فنفرتِ الأفيال، فطغت على الخيل، وطغتِ الخيلُ على الرجال، فقُتل الملك، ومن معه وُطئ بالأفيالِ والخيل، ونَجَّى الله أهلَ تلك القريةِ من بأسِهم وشَرهم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 66).).

وروى عبدُ الرزاق، عن المنذر بن النعمان، أنه سمع وهبًا يقول: قال الله تعالى لصخرةِ بيت المقدس: لأضَعَنَّ عليكِ عرشي، ولأحشُرَنَّ عليكِ خَلقي، وليأتينَّك داودُ يومئذ راكبًا (المصدر السابق.).

وروى سمَاكُ بن الفضل، عن وهب، قال: إني لأتفقَّدُ أخلاقي، وما فيها شيءٌ يُعجِبُني (المصدر السابق.).

وروى عبد الرزاق عن أبيه، قال: قال وهب: رُبَّما صلَّيتُ الصُّبحَ بوضوءِ العَتمة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 66، 67).).

وقال بَقِيَّةُ بن الوليد: حدثنا ثور بن يزيد (في (ق): (بقية بن الوليد حدثنا زيد بن خالد)، وفي الحلية:(بقية بن الوليد عن زيد بن خالد بن معدان). وكلاهما تصحيف، والمثبت من كتب الرجال.)، عن خالد بن مَعدَان، عن وهب، قال: كان نُوحٌ عليه السلام من أجملِ أهل زمانه، وكان يلبس البُرقُع، فأصابَهُم =

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= مجاعةٌ في السفينة، فكان نوحٌ إذا تجَلَّى لهم شَبِعوا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 67)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 551).).

وقال: قال عيسى: الحق أقولُ لكم: إن أشدَّكم جزعًا على المُصيبة أشدُّكم حُبًا للدنيا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 67).).

وقال جعفر بن بُرقان: بلغنا أن وهبًا كان يقول: طُوبى لِمن نظر في عيبهِ عن عَيب غيرهِ، وطُوبى لمن تواضع لله من غيرِ مَسكنة، ورحِم أهلَ الذُّل والمَسكنة، وتصدَّق من مالٍ جَمَعَهُ من غيرِ مَعصية، وجالسَ أهلَ العلمِ والحِلم والحكمة، ووَسعَتْهُ السُّنَّة، ولم يتعدَّها إلى البِدْعَة (المصدر السابق.).

وروى سيَّار، عن جعفر، عن عبد الصمد بن مَعقِلِ، عن وهب، قال: وجدتُ في زَبُورِ داود: يا داود، هل تدري من أسرَعُ الناسِ مَرًّا على الصّراط؟ الذين يَرضَون بحُكمي، والسنتهم رَطْبَة بذِكْري (المصدر السابق، وتتمته فيه: (هل تدري أي الفقراء أفضل؟ الذين يرضون بحكمَي وبقسمي ويحمدونني على ما أنعمت عليهم "هل تدري يا داود أي المؤمنين أعظم عندي منزلةً؟ الذي هو بما أعطى أشدّ فرحًا منه بما حبس).).

وقيل: إن عابدًا عَبَدَ اللهَ تعالى خمسين سنة، فأوحى الله إلى نبيِّهم: إني قد غفرتُ له، فأخبَره ذلك النبيُّ فقال: أي ربّ، وأيُّ ذنب تغفرُ لي [ولم أذنب]؟ فأمر عِرقًا في عُنقه فضَرَبَ عليه، فلم يَنم ولم يهدأ ولم يصلِّ ليلَته، ثم سكنَ العِرقُ، فشكا ذلك إلى النبيِّ فقال: ما لاقيتُ من عرقٍ ضرَبَ علي في عُنقي ثم سكن؟ فقال له النبي: إنَّ الله يقول: إنَّ عبادتَك خمسين سنة ما تَعدِلُ سكون هذا العِرْق (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 68).).

وقال وهب: رؤوس النعم ثلاثة: إحداها نعمة الإسلام التي لا تتمُّ نعمةٌ إلا بها، والثانية نعمةُ العافية التي لا تطيبُ الحياةُ إلا بها، والثالثة نعمةُ الغِنَى التي لا يتمُّ العيشُ إلَّا بها (المصدر السابق.).

ومرَّ وهبٌ بِمُبتَلى أعمى، مجذوم، مُقعد، عُريان، به وَضَح، وهو يقول: الحمد لله على نِعَمِه. فقال له رجلٌ كان مع وهب: أيُّ شيءٍ بَقِيَ عليكَ من النعمَة تحمدُ اللهَ عليه؟ فقال المبتلى: أدِم بصرَكَ إلى أهل المدينةِ وانظر إلى كثرة أهلها، أولا أحمد الله أنه ليس فيها أحدٌ يعرِفُه غيري (المصدر السابق.).

وقال وهب: المؤمن يخالطُ لِيعلم، ويَسكت ليسلَم، ويتكَّلم ليفهَم، ويخلو لِيَنْعَم (في الأصل (ق):(ليفقههم ويخلو ليقيم) والمثبت من المصدر السابق.).

وقال: المؤمن مُفكر مُذَكِّر مُدَّخِر، تذكَّر فغلبتهُ السَّكينة، سكنَ فتواضع فلم يُتَّهَم، رفضَ الشهوات فصار حُرًا، ألقى عنه الحسدَ فظهرت له المحبَّة، زهِدَ في كلِّ فانٍ فاستكمل العقل، رغب في كل باقٍ فعَقَل المعرفة، قلبُه متعلِّق بهمه، وهمُّهُ موكَّلٌ بمَعَادِه، لا يفرحُ إذا فرحَ أهلُ الدنيا، بل حُزْنهُ عليه سَرمَد، وفرحُه إذا نامتِ العيونُ، يتلو كتاب الله ويُرَدِّدُهُ علىَ قلبه، فمرَّةً يفرُغُ قلبُه، ومرَّة تدمَعُ عينُه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوةِ والعزلة، مفكرًا في ذنوبه، مستصغرًا لأعمالِه (المصدر السابق.).

وقال وهب: فهذا ينادى يومَ القيامة في ذلك الجمع العظيم على رؤوس الخلائق: قُم أيها الكريم، فادخل الجنة.

وقال إبراهيم بن سعيد، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن ثور بن يزيد، قال: قال وهبُ بن منبِّه: الويل لكم إذا سمَّاكمُ الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 69).).

وقال الطبراني: حدثنا عُبيد بن محمد الكشوري، حدثنا همام بن سلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا =

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عقيل بن مَعقل بن مُنبه، قال: سمعتُ عمي وهب بن منِّه يقول: يابُني، أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة، يَصدُق بها فعلُكَ في العلانية، فإنَّ من فعلَ خيرًا ثم أسَرَّهُ إلى الله فقد أصابَ مَوَاضعَه، وأبلغهُ قراره، ووضعهُ عند حافظه، وإن من أسَرَّ عملًا صالحًا لم يَطَّلع عليه إلا الله، فقد اطَّلَع عليه مَن هو حَسْبُه، واستحفظه واستودعه حفيظًا لا يُضيع أجره. فلا تخافَنَّ يا بُني على مَن عَمِل صالحًا أسَرَّهُ إلى اللهِ عز وجل ضَيَاعًا، ولا تخافنَّ ظُلمَهُ ولا هَضمَه، ولا تظنَنَّ أنَّ العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثلَ العلانيةِ مع السريرة كمثَلِ ورق الشجر مع عِرقها، العلانيةُ وَرَقُها والسريرةُ عِرْقُها (في الأصل:(والسريرة أصلها) المثبت من الحلية.)، إن يُحرَقِ العِرق هلكت الشجرةُ كلُّها، وإن صَلَحَ الأصلُ صلَحت الشجرةُ ثَمَرها وورَقُها، والورقُ يأتي عليه حِينٌ يَجفُّ ويصيرُ هَبَاءً تَذروهُ الرياح، بخلافِ العِرق فإنه لا يزالُ ما ظهرَ من الشجرة في خير وعافية ما كان عِرقُها مستخفيًا لا يُرى منه شيء، كذلك الدين والعِلم والعمل، لا يزالُ صالحًا ما كان له سريرةٌ صالحة، يصدِّقُ الله بها علانية العبد، فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، ولا تنفعُ العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفعُ عرق الشجرة صلاحُ فَرعِها، وإن كان حياته من قِبَل عِرقِها، فإنَّ فَرعَها زينتُها وجمالُها، وإن كانت السريرةُ هي مِلاكُ الدين فإنَّ العلانية معها تُزَينُ الدين وتُجَملُهُ إذا عَمِلَها مؤمن لا يريدُ بها إلا رضاءَ ربِّهِ عز وجل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 69، 70).).

وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالحٌ المُريّ، عن أبان، عن وَهب، قال: قرأتُ في الحكمة: الكُفرُ أربعةُ أركان، رُكنٌ منه الغضَب، وركنٌ منه الشهوة، وركنٌ منه الطمع، وركن منه الخَوْف (الحلية (4/ 70).).

وقال: أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفًا مشفقًا وَجِلًا، وعَفِّر خَدَّكَ بالتراب، واسجُد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألني بخشيةٍ من قلبكَ ووَجَل. واخشَنِي أيامَ الحياة، وعلِّمِ الجُهَّالَ آلائي، وقل لعبَادي لا يتمادَوا في غِيِّ ما هُم فيه، فإنَّ أخذي أليم شَدِيد (المصدر السابق.).

وقال وهب: إذا هَمَّ الوالي بالجَور، أو عَمِل به، دخل النقصُ على أهلِ مملكته، وقلَّتِ البركاتُ في التجارات والزراعاتِ والضروع والمواشي، ودخلَ المَحقُ في ذلك، وأدخل الله عليه الذُل في ذاته وفي مُلكه، وإذا همَّ بالعدلِ والخير كان عَكس ذلك من كثرةِ الخير، ونُموِّ البركات.

وقال وهب: كان في مصحف (كذا في (ق)، وفي مصادر التخريج (صحف)، وهو أشبه بالصواب.) إبراهيم عليه السلام: أيها المَلِك المبتلَى إني لم أبعثكَ لتجمعَ الدنيا بعضها على بعض، ولا لتَبنيَ البنيان، وإنَّما بعثتُكَ لترفعَ لي دعوةَ المظلوم، فإني لا أرُدُّها ولو كانت من كافر (وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع رواه أحمد في المسند (3/ 153) من حديث أنس بلفظ "اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب" وفي إسناده ضعف.).

وروى ابنُ أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبِّه، أنَّ ذا القرنين قال لبعض الملوك: ما بالُ مِلَّتِكم واحدة، وطريقتُكم مستقيمة؟ قال: من قِبَلِ أنَّا لا نُخَادعُ ولا يغتابُ بعضُنا بعضًا.

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه، أنه قال: ثلاثٌ من كُنَّ فيه أصاب البِرّ، سخاوةُ النفس، والصبرُ على الأذى، وطِيبُ الكلام (أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/ 47).).

وقال ابنُ أبي الدنيا (في كتابه الصمت ص (311).): حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا سهل بن عاصم بن سلمة بن ميمون، عن المعافى بن عمران، عن إدريس، قال: سمعتُ وهبًا يقول: كان في بني إسرائيل رجلان، بلغَت بهما عبادتُهما أنَّهما مشيَا على الماء، فبينما هما يمشيان على البحر، إذا هما برجل يمشي في الهواء، فقالا =

ص: 141

‌ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومئة

ففيها غزا معاويةُ بن هشام الصائفةَ اليسرى

(1)

، وغزا سعيدُ بن هشام الصائفةَ

= له: يا عبد الله، بأي شيءٍ أدركتَ هذه المنْزِلة؟ قال: بيسيرٍ من البِر فعَلْتُه، ويسيرٍ من الشرِّ تركتُه، فَطَمْتُ نفسي عن الشهوات، وكففتُ لِساني عمّا لا يعنيني، وركبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزِمْتُ الصمت، فإنْ أقسمتُ على الله عز وجل أبَرَّ قَسَمي، وإنْ سالتُهُ أعطاني (وأخرج الخبر أيضًا ابن الجوزي في ذم الهوى ص (21)، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (116).).

وقال: حدثني أبو العباس البَصْري الأزدي، عن شيخ من الأزد، قال: جاء رجلٌ إلى وَهْب بن منبِّه، فقال: علمني شيئًا ينفعُني الله به. قال: أكثِرْ من ذكرِ الموت، وأقصِرْ أملَك، وخَصْلةٌ ثالثة إن أنت أصبتَها بلغتَ الغايةَ القُصوَى، وظفِرْتَ بالعبادةِ الكبرى. قال: وما هي؟ قال: التوكُّل.

ومِمَّنْ تُوفي فيها من الأعيان:

سليمان بن سعد (ترجمته في الجرح والتعديل (4/ 119)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 429)، الثقات لابن حبان (6/ 389)، الإصابة (3/ 296)، الفهرست لابن النديم ص (338).): كان جميلًا فصيحًا عالمًا بالعربية، وكان يعلمُها الناسَ هو وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وتُوفي صالح بعدَهُ بقليل. وكان صالح فصيحًا جميلًا عارفًا بكتابةِ الديوان، وبه تخرَّجَ أهلُ العراق من كتابةِ الديوان. وقد ولّاه سليمان بن عبد الملك خراجَ العراق.

أم الهذيل (ترجمتها في طبقات ابن سعد (8/ 484)، رجال صحيح البخاري (2/ 854)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 450) تهذيب الكمال (35/ 51) سير أعلام النبلاء (4/ 507) الكاشف (2/ 505)، تهذيب التهذيب (12/ 438)، الإصابة (8/ 319).): لها رواياتٌ كثيرة، وقد قرأتِ القرآن وعمرُها اثنتا عشرة سنة، وكانت فقيهة عالمة، من خيارِ النساء، عاشت سبعين سنة.

عائشة بنت طلحة بن عبد الله التممي (ترجمتها في طبقات ابن سعد (8/ 467)، الثقات لابن حبان (5/ 289) معرفة الثقات (2/ 455)، رجال صحيح البخاري (2/ 855)، رجال مسلم (2/ 424)، تهذيب الكمال (35/ 237)، الكاشف (2/ 513)، سير أعلام النبلاء (4/ 369)، تقريب التهذيب ص (750).): أمُّها أمُّ كُلثوم بنتُ أبي بكر، تزوجت بابنِ خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تزوجت بعده بمصعب بن الزبير، وأصدقها مئة ألف دينار، وكانتْ بارعةَ الجمال، عظيمةَ الحُسن، لم يكنْ في زمانها أجمَلَ منها. تُوفيت المدينة.

عبد الله بن سعيد بن جُبير (ترجمته في التاريخ الكبير (5/ 103)، رجال صحيح البخاري (1/ 407)، التعديل والتجريح (2/ 846)، تهذيب الكمال (15/ 26)، الكاشف (1/ 558)، تقريب التهذيب ص (305).): له رواياتٌ كثيرة، وكان من أفضلِ أهلِ زمانه.

عبد الرحمن بن أبان (ترجمته في طبقات ابن سعد (القسم المتمم) ص (208)، طبقات خليفة ص (259)، التاريخ الكبير (5/ 254)، الجرح والتعديل (5/ 210)، الثقات لابن حبان (7/ 66)، صفة الصفوة (2/ 148) تهذيب الكمال (16/ 492)، تهذيب التهذيب (6/ 119)، تقريب التهذيب ص (325).) بن عثمان بن عفان: له رواياتٌ كثيرةٌ عن جماعةِ من الصحابة].

(1)

جاء في هامش (ق) ما نصه: (أي: البلاد الواقعة في ساحل بلاد الأناضول).

ص: 142

اليمنى

(1)

حتى بلغَ قيْسَارِيةَ من بلادِ الروم.

وفيها عزلَ هشامُ بنُ عبد الملك أشرس بن عبد الله السُّلمي عن إمرةِ خُراسان، وولَّى عليها الجُنيد بن عبد الرحمن المُرِّي، وولَّى الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمي أرْمِينيَّة.

وفيها قصدتِ التُركُ بلاد أذْرَبيجان، فلَقِيَهُمُ الحارث بن عمرو فهزَمَهُم، ولما وصَلَ الجُنيد بن عبد الرحمن إلى خراسان تلقَّتْهُ خيولُ الأتراكِ منهزِمين من المسلمين، وهو في سبعةِ آلاف، فتصافُّوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وطمِعوا فيه وفيمن معه لقلَّتِهم بالنسبة إليهم، ومعهم مَلِكُهم خاقان، وكادَ الجنيدُ أن يَهْلك، ثم أظفَرَهُ الله بِهم فهزمهم هزيمةً مُنكرَة، وأسرَ ابن أخي ملكِهم، وبعث به إلى الخليفة.

وحجَّ بالناسِ في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو أميرُ الحرمَيْن والطائف، وأمير العراق خالدٌ القَسْرِيّ، وأميرُ خراسان الجُنيد بن عبد الرحمن المُرِّيّ

(2)

.

‌ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومئة

فيها غزا معاويةُ بن هشام الصائفة، فافتتح حصونًا من ناحيةِ مَلطية. وفيها سارَت التُّركُ من اللَّان فلقيهم الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمِيّ فيمَنْ معهُ من أهلِ الشام، وأذْرَبِيجان، فاقتتلوا قبلَ أن يتكاملَ إليه جيشُه، فاستشهد الجرَّاح رحمه الله وجماعةٌ معه بِمرْجِ أرْدَبيل، وأخذَ العدوُّ أرْدَبِيل، فلما بلغ ذلك هشامَ بن عبد الملك بعث سعيدَ بن عمرو الحَرَشي

(3)

بجيش، وأمرَهُ بالإسراع إليهم، فلحق التُّرك وهم يَسِيرون بأسارى المسلمين نحو ملكِهم خاقان، فاستنقذ منهم الأسارى ومَنْ كانَ معهم من نساءِ المسلمين، ومن أهلِ الذِّمَّة أيضًا، وقتلَ من التُّرك مقتلةً عظيمةً جدًّا، وأسرَ منهم خلقًا كثيرًا، فقتلَهم صَبْرًا، وشَفَى ما كان تغلث

(4)

من القلوب، ولم يكتفِ الخليفة بذلك، حتى أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك في إثرِ التُّرك فسار إليهم في بردٍ شديد، وشتاءً عظيم، فوصل إلى باب الأبواب. واستخلف عنه أميرًا، وسار بمَنْ معَهُ في طلب الأتراك مَلِكِهم خاقان، وكان من أمْرِه معهم ما سنذكرُه، ونهض أمير خراسان في طلَبِ الأتراك أيضًا في جيشٍ كثيف، فوصلَ إلى نهر بَلْخ، ووجَّه إليهم سريَّةً ثمانيةَ عشرَ ألفًا، وأخرى عشرة آلاف يمنةً ويسرة، وجاشتِ التركُ وجيَّشَتْ، فأتَوا سَمَرْقَند، فكتب أميرُهم إليه يُعلمه بِهم، وأنَّه لا يقدِرُ على صَوْنِ

(1)

جاء في هامش (ق) ما نصه: (أي بر الأناضول من جهة البلاد الداخلية).

(2)

ينظر تاريخ الطبري 7/ 67 - 69.

(3)

في (ح، ق): (الجرشي) بالجيم، وهو تصحيف، والمثبت من (ب) والإكمال لابن ماكولا (2/ 238).

(4)

كذا في (ق) وسقطت العبارة من (ب، ح). ومعنى تَغَلَّثَ: خالطه السّمّ، وهو من الغَلْثَى، مقصور، على مثال السلوى وهو طعام يُخلَط للنسر فيه سم فيأكله فيقتله فيؤخذ ريشه فتراش به السهام. وقيل: العَلْثَى اسم شجرة إذا أطعم ثمرها السباع قتلتها. اللسان (غلث).

ص: 143

سمرقنْدَ منهم، ومعهم ملِكُهم الأعظم خاقان، فالغوثَ الغوثَ. فسار الجُنيدُ مسرعًا في جيشٍ كثيف نحو سمرقند، حتى وصل إلى شِعب سَمَرْقند، وبقي بينه وبينها أربعةُ فراسخ، فصححَه خاقانُ في جَمعٍ عظيم، فحمل خاقان على مقدمة الجُنيد، فانحازوا إلى العسكر، والتركُ تتبَعُهم من كلِّ جانب، فتراءى الجَمعَان والمسلمون يتغدَّون، ولا يشعرونَ بانهزامِ مقدّمتهم وانحيازها إليهم، فنهضوا إلى السلاح واصطفُوا على منارلهم، وذلك في مجالٍ واسع، ومكانٍ بارز، فالتقَوْا، وحملتِ التركُ على ميمنةِ المسلمين وفيها بنو تميم والأزْد، فقتل منهم ومن غيرِهم خَلْق كثيرٌ ممن أراد الله كرامتَهُ بالشهادة، وقد برزَ بعضُ شجعانِ المسلمين لجماعةٍ من المشركين

(1)

، فناداهُ ترجمان الملك خاقان إنْ صِرْتَ إلينا جعَلْناك ممن يرفضُ الصنمَ الأعظم فنعبدَك. فقال: ويحكم! إنما أقاتلكم على أن تعبدوا الله وحدَهُ لا شريكَ له. ثم قاتلهم حتى قُتل رحمه الله، ثم تَنَاخَى المسلمون، وتداعَتِ الأبطالُ والشجعانُ من كل مكان، وصبروا وصابروا، وحملوا على التُرك حملةَ رجل واحد، فهزمَهم الله عز وجل، وقتلوا منهم خَلْقا كثيرًا، ثم عطفتِ التُركُ عليهم، فقتلوا من المسلمين خَلقًا، حتى لم يبقَ سوى ألفين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقُتل يومئذٍ سَوْرةُ بن الحرِّ، واستأسروا من المسلمين جماعة كثيرة، فحملوهم إلى الملِك خاقان، فأمَرَ بقَتْلِهم عن آخرِهم فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه الوقعة يُقالُ لها وقعةُ الشِّعْب، وقد بسطها ابنُ جريرٍ جدًّا

(2)

.

‌وممن توفي فيها من الأعيان:

رجاء بن حَيْوَةَ الكِنْدِيّ

(3)

أبو المِقْدام: ويقال أبو نَصْر الشامي، وهو تابعيٌّ جَلِيل، كبيرُ القَدْر، ثقة فاضلٌ عادل، وزيرُ صِدقٍ لخلفاءِ بني أمية. وكان مَكْحُول إذا سُئل يقول: سَلُوا شيخَنا وسيدنا رجاء بن حَيْوَة. وقد أثنى عليه غيرُ واحدٍ من الأئمة، ووثقوه في الرواية، وله رواياتٌ وكلامٌ حَسن، رحمه الله.

شَهْرُ بن حَوْشَب الأشعريُّ الحِمْصِي

(4)

ويقال: إنه دمشقيٌّ تابعيٌّ جليل، روى عن مولاتِه أسماء بنت يزيد بن السَّكَن وغيرِها.

(1)

في (ق): (وقد برز شجعان المسلمين لجماعة من شجعان الترك فقتلهم، فناداه منادي خاقان: إن

)، والمثبت من (ب، ح).

(2)

انظر تاريخ الطبري (4/ 146).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 454)، طبقات خليفة (310)، التاريخ الكبير (3/ 312)، المعارف (472)، الجرح والتعديل (3/ 501)، ثقات ابن حبان (4/ 237)، تاريخ دمشق (8/ 312)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (2/ 388)، تهذيب الكمال (9/ 151) سير أعلام النبلاء (4/ 575)، تذكرة الحفاظ (1/ 118)، العبر (1/ 138) الوافي بالوفيات (14/ ت 124)، تهذيب التهذيب (3/ 265).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 449)، التاريخ الكبير (4/ 258)، الجرح والتعديل (1/ 144، و 4/ 382)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 461)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (4/ 36)، الضعفاء للعقيلي (2/ 191)، رجال مسلم (1/ 312)، تهذيب الكمال (12/ 578)، سير أعلام النبلاء (4/ 372)، ميزان =

ص: 144

وحدث عنه جماعةٌ من التابعين وغيرِهم، وكان عالمًا عابدًا ناسكًا، لكنْ تكلَّم فيه جماعةٌ بسبب أخذِه خريطةً من بيتِ المالِ بغيرِ إذنِ وليِّ الأمر، فعابوه ونزكوا عرضه

(1)

، وتركُوا حديثَه، وأنشدوا فيه الشعر

(2)

؛ منهم شُعبة وغيرُه. ويقال إنه سرق غيرَها، فالله أعلم. وقد وثقه جماعةٌ آخرون

(3)

، فالله أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومئة

ففيها غَزَا مُعاويةُ بن هشام أرضَ الرُّوم من ناحيةِ مَرعَش، وفيها صار جماعةٌ من دُعاة بني العباس إلى خُراسان، وانتشروا فيها وقد أخذ أميرُها رجلًا منهم فقتلَه، وتوعَّدَ غيرَه بمثلِ ذلك، وفيها وَغَلَ مسلمةُ بن عبدِ الملك في بلاد التُّرْك فقتَلَ منهم خلقًا كثيرًا، وأُمَمًا منتشرةً، حتى قتلَ ابنَ خاقان، وفتح بلادًا كثيرة، ودانَتْ له تلك الممالكُ من ناحيةِ بَلَنْجَر

(4)

وأعمالِها.

وفيها حجَّ بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك. قاله الواقدي، وأبو معشر؛ وقال ابن جرير عن بعضهم: إنه حج بالناس إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي؛ فالله أعلم

(5)

.

ونوَّاب البلاد هم المذكورون في التي قبلَها.

‌وممن تُوفي فيها من الأعيان:

قال ابن جرير

(6)

: فيها كان مَهْلِكُ:

الأمير عبد الوهاب بن بخت

(7)

: وهو مع البطَّال عبدِ الله بأرضِ الروم، قُتل شهيدًا. وهذه ترجمته،

= الاعتدال (3/ 389)، تهذيب التهذيب (4/ 324)، تقرب التهذيب ص (269)، تعجيل المنفعة ص (541).

(1)

أي: طعنوا في عرضه.

(2)

انظر ما تقدم ص (133).

(3)

وهذه زيادة أخرى مقحمة من زيادات (ق) وهي:

[وقَبِلُوا روايَتَه وأثنَوْا عليه، وعلى عبادَتِه ودينه واجتهادِه، وقالوا: لا يَقدحُ في روايتِه ما أخذَهُ من بيتِ المالِ إنْ صحَّ عنه، وقد كان واليًا عليه، متصرِّفًا فيه، فالله أعلم.

قال الواقدي (انظر طبقات ابن سعد (7/ 449).): تُوفي شهرٌ في هذه السنة. أعني سنة اثنتي عشرةَ ومئة، وقيل قبلَها بسنة، وقيل سنة مئة].

(4)

تقدم التعريف ببلنجر في ص (57) حاشية (1).

(5)

انظر تاريخ الطبري (4/ 149). وصحفت وسقطت بعض الألفاظ من (ق) -، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري.

(6)

في تاريخ الطبري (4/ 149).

(7)

أخباره في تاريخ الطبري (4/ 149)؛ شذرات الذهب (1/ 146)، التحفة اللطيفة للسخاوي (2/ 221).

ص: 145

هو عبدُ الوهاب بن بُخْت أبو عُبيدة، ويقال أبو بكر مولى آلِ مروان، مَكِّيٌّ سكنَ الشام. ثم تحوَّل إلى المدينة، روى عن ابن عُمر، وأنس، وأبي هريرة، وجماعةٍ من التابعين، وعنه خَلْق، منهم أيُّوب، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعُبيد الله العمري. حديثُهُ عن أنس مرفوعًا: "نَضَّرَ الله امرَأً سمع مَقَالتي هذه فوَعَاها، ثم بلَّغَها غيرَه، فرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ منه. ثلاثٌ لا يَغلُّ عليهنَّ صَدْرُ مؤمن: إخْلاصُ العمَلِ لله، ومُنَاصَحَةُ أولي الأمر، ولزومُ جماعةِ المسلمين، فإنَّ

(1)

دَعْوَتَهُمْ تُحيطُ من ورائهم

(2)

.

وروي عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لَقيَ أحدُكم أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عليه، فإنْ حالَتْ بينهما شجرة، ثم لَقيه، فَلْيُسلِّمْ عليه

(3)

. وقد وثَّق عبدَ الوهاب هذا جماعاتٌ منْ أئمَّةِ العلماء.

وقال مالك: كان كثيرَ الحَجِّ والعُمْرَة والغَزْو حتى استشهد، ولم يكنْ أحقَّ بما في رَحْلهِ من رفقائِه. وكان سَمْحًا جَوَادًا. استشهد ببلادِ الروم مع الأمير أبي محمد عبدِ الله البطَال، ودُفِن هناك رحمه الله. وكانتْ وفاتُه في هذه السنة. قاله خَليفةُ وغيرُه. وذلك أنَّهُ لَقيَ العدو، ففرَّ بعضُ المسلمين، فجعلَ يُنادي ويركض فرسَهُ نحو العدوّ أنْ هَلُمُّوا إلى الجنَّة، ويْحكمْ! أفِرارًا من الجنَّة؟! أتفِرُّونَ من الجنة!؟ إلى أين؟ ويحكم! لا مُقامَ لكم في الدنيا ولا بقاء. ثم قاتَلَ حتى قُتل رحمه الله.

مكحول الشامي

(4)

: تابعيٌّ جليلٌ، كَبير القَدْر، إمامُ أهلِ الشام في زمانه، وكان مولى لامرأة من هُذيل، وقيل: مولى امرأةٍ من آلِ سعيدِ بن العاص، وكان نُوبِيًّا؛ وقيل: من سَبْي كابُل؛ وقيل: كان من الأبناء، من سُلالةِ الأكاسرة. وقد ذكرنا نسَبه في كتابنا "التكميل".

وقال محمد بن إسحاق: سمعتُهُ يقول: طُفتُ الأرض كلَّها في طلبِ العلم

(5)

.

(1)

في (ق): "كأن"، والمثبت من (ب، ح) ومسند أحمد.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 225)(12937)؛ ابن ماجه (236) في المقدمة: باب من بلغ علمًا، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أبو داود رقم (5200) وأبو يعلى في مسنده رقم (6351) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 453)، طبقات خليفة (310)، تاريخ خليفة (206)، (345)، التاريخ الكبير (8/ 21)، التاريخ الصغير (1/ 306، 307)، المعارف (452)، الجرح والتعديل (8/ 407)، ثقات ابن حبان (5/ 446)، حلية الأولياء (5/ 177)، طبقات الشيرازي (75)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (5/ 52)، وفيات الأعيان (5/ 280)، مختصر تاريخ دمشق (25/ 224)، تهذيب الكمال (28/ 464)، سير أعلام النبلاء (5/ 155)، تذكرة الحفاظ (1/ 107)، ميزان الاعتدال (4/ 177)، النجوم الزاهرة (1/ 272)، طبقات الحفاظ (42)، طبقات الشعراني (1/ 45)، الكواكب الدرية (1/ 455)، شذرات الذهب (1/ 146).

(5)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 511)؛ وذكره الخطيب في الرحلة في طلب الحديث ص (199) رقم (97) وغيره.

ص: 146

وقال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المُسيِّب بالحِجاز، والحسن البصري بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام

(1)

.

وقال بعضهم: كان لا يستطيعُ أن يقول: قُلْ، وإنما يقول: كُلْ. وكان له وجاهةٌ عند الناس مهما أمَرَ به من شيء يُفعل.

وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أفقهَ أهلِ الشام، وكان أفقهَ من الزهري

(2)

.

وقال غير واحد: توفي في هذه السنة - وقيل بعدَها - والله أعلم

(3)

.

‌ثم دخلت سنة أربع عشرة ومئة

فيها غَزَا معاويةُ بن هشام الصائفةَ اليسرى، وعلى اليمنى سليمانُ بن هشام بن عبدِ الملك، وهما ابنا أميرِ المؤمنين هشام، وفيها التقَى عبدُ الله البطَّال وملكُ الروم المسمَّى فيهم قُسْطنْطِين، وهو ابنُ هِرَقْلَ الأول الذي كتب إليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأسرَهُ البطَّال، فأرسلَهُ إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.

وفيها عَزَلَ هشامٌ عن إمرةِ مكةَ والمدينةِ والطائفِ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وولَّى عليها أخاهُ محمدَ بن هشام، فحجَّ بالناس في هذه السنة - في قول - وقال الواقدي وأبو معشر: إنما حجَّ بالناس خالد بن عبد الملك بن مروان. والله أعلم

(4)

.

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 178، 179)؛ والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 228)؛ والمزي في تهذيب الكمال (28/ 471).

(2)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 159).

(3)

وهذه زيادة أيضًا مقحمة وهي:

[مَكْحُول الشامي: هو ابن أبي مسلم، واسم أبي مسلم شهراب (في (ق):"شهزاب"، بالزاي، وهو تصحيف والمثبت من الإكمال لابن ماكولا (5/ 1).) بن شاذل. كذا نقَلْتُهُ من خط عبدِ الهادي.

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه، أنه قال: من نظَّف ثَوْبَه قَلَّ هَمّه، ومَنْ طابَ رِيْحُه زِيدَ في عَقْلِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 184). ونسب القول إلى الشافعي في صفة الصفوة (2/ 256) وإحياء علوم الدين (1/ 181).).

وقال مكحول: في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، قال: باردِ الشراب، وظلالِ المساكن، وشِبَعِ البطون، واعتدالِ الخَلْق، ولَذَاذَةِ النَّوْم (ذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية، عن عياض بن غنم مرفوعًا، ولم يذكر مكحولًا.).

وقال: إذا وضع المجاهدون أثقالَهم عن دوابّهم أتَتْها الملائكةُ فمسحَتْ ظهورَها، ودَعَتْ لها بالبَرَكة إلّا دابّة في عُنقها جرَس].

(4)

ينظر تاريخ الطبري 7/ 90 - 91.

ص: 147

‌وممن تُوفي فيها من الأعيان:

عطاء بن أبي رباح

(1)

الفِهْرِي: مولاهم أبو محمد المكى، أحدُ كبارِ التابعينَ الثقاتِ الرفعاء. يُقال: إنَّه أدرك مئتي صحابي. وقال ابن سعد

(2)

: سمعت بعضَ أهل العِلم يقول: كان عطاء أسودَ أعورَ أفْطس أشلَّ أعرج، ثم عَمي بعد ذلك؛ وكان ثقةً فقيهًا عالمًا كثيرَ الحديث.

وقال أبو جعفر الباقر وغيرُ واحد: ما بَقي أحدٌ في زمانِهِ أعلمَ بالمناسكِ منه. وزاد بعضهم: وكان قد حجَّ سبعين حجَّة، وعُمِّرَ مئةَ سنة؛ وكان في آخرِ عُمرِهِ يُفطرُ في رمضان من الكِبَرِ والضعف، ويَفْدي إفطارَهُ ويتأول الآية:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]؛ وكان يُنادي منادي بني أمية في أيَّامِ مِنَى: لا يُفْتي الناسَ في الحجَّ إلّا عَطاءُ بنُ أبي رَبَاح.

وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيتُ فيمَنْ لَقيتُ أفقهَ منه! وقال الأوزاعي: مات عطاء يومَ مات وهو أرْضى أهلِ الأرضِ عندَهم.

وقال ابن جُريج: كان في المسجد فراش عطاء عشرين سنةً، وكان من أحسَنِ الناسِ به صلاة

(3)

.

وقال قتادة: كان سعيدُ بن المُسَيِّب، والحسن، وإبراهيم، وعطاء، هؤلاءَ أئمَّةُ الأمصار.

وقال عطاء: إنَّ الرجلَ ليُحدِّثني بالحديث فأنْصتُ له، كأني لم أكنْ سمعتُهُ وقد سمعتُهُ قَبْلَ أن يُولد، فأُريه أنِّي إنما سمعتُهُ الآن منه. وفي رواية: أنا أحفظُ منه له، فأريهِ أني لم أسمَعْه

(4)

.

والجمهور على أنه ماتَ في هذه السنة. رحمه الله تعالى. والله أعلم

(5)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (2/ 386 و 5/ 467)، تاريخ ابن معين (2/ 402)، طبقات خليفة (280)، تاريخ خليفة (346)، التاريخ الكبير (6/ 463)، المعارف (444)، المعرفة والتاريخ (1/ 701)، الجرح والتعديل (6/ 330)، الثقات لابن حبان (5/ 198)، طبقات الشيرازي (69)، حلية الأولياء (3/ 310)، صفة الصفوة (2/ 211)، تاريخ مدينة دمشق (11/ الورقة 315 ب)، المختار من ناقب الأخيار (3/ 565)، وفيات الأعيان (3/ 261)، مختصر تاريخ دمشق (17/ 65)، تهذيب الكمال (20/ 69)، سير أعلام النبلاء (5/ 78)، ميزان الاعتدال (3/ 70)، تذكرة الحفاظ (98)، العقد الثمين (6/ 84)، غاية النهاية (1/ 518)، النجوم الزاهرة (1/ 273)، طبقات الحفاظ (309)، طبقات الشعرانى (1/ 39).

(2)

في الطبقات الكبرى (5/ 470).

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 310)؛ وذكره المزي في تهذيب التهذيب (20/ 80)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 84).

(4)

ذكره الذهبي في السير (5/ 86).

(5)

وهنا زيادة أيضًا وهي:

أسنَدَ أبو محمد عطاء بنُ أبي رَبَاح - واسم أبي رباح أسلم - عن عددٍ كثيرٍ من الصحابة، منهم ابن عُمَر، وابنُ =

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عَمْرو، وعبد الله بن الزُّبير، وأبو هريرة، وزيد بن خالد الجُهَني، وأبو سعيد. وسمع منِ ابنِ عباس التفسيرَ وغيرَه.

وروى عنه من التابعين عِدَّة؛ منهم الزُّهري، وعمرو بن دِينار، وأبو الزُّبير، وقَتَادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحَبيب بن أبي ثابت، والأعمش، وأيوب السّخْتِيَاني، وغيرُهم من الأئمة والأعلام كثير.

قال أبو هِزَّان: سمعتُ عطاء بن أبي رباح يقول: منْ جلسَ مجلسَ ذِكْر، كَفَّرَ الله عنه بذلك المجلس عشرَ مجالسَ من مجالِس الباطل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (313)؛ ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص (168).).

قال أبو هِزَّان: قلت لعطاء: ما مجلسُ الذكر؟ قال: مجالسُ الحلالِ والحرام (أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 195).). كيف تُصَلِّي، كيف تصوم، كيف تَنْكِحُ وتُطَلِّق، وتَبيع وتَشْتَرِي؟.

وقال الطبراني: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق (في المصنف (8/ 130) برقم (14596) إلى قوله:"يقرضون الدراهم".)، عن يحيى بن ربيعة الصَّنْعَاني، قال: سمعتُ عطاء بنَ أبي رباح يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]، قال: كانوا يُقرِضُونَ الدراهم (إلى هنا أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 315) من طريق عبد الرزاق. وأورده المصنف في التفسير (3/ 369) في تفسير الآية، وفيه بعد هذه العبارة: يعني أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددًا كما كان العرب يتعاملون.). قيل: كانوا يقصُّونَ منها ويقطعونها.

وقال الثوري: عن عُبيد الله (في (ق) وحلية الأولياء: "عبد الله" تصحيف، والمثبت من الإكمال لابن ماكولا (7/ 307)، وتقريب التهذيب ص (375).) بن الوليد - يعني الوَصَّافي - قال: قلتُ لعطاء: ما ترى في صاحبِ قلَمٍ إنْ هو كتبَ به عاش هو وعيالُه في سَعَة، وإنْ هو تركه افتقر؟ قال: من الرأس؟ قلت: القَسْري لِخالدَ. قال عطاء: قال العبدُ الصالح: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17](أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 315).).

وقال: أفضلُ ما أُوتي العبادُ العقلَ عن الله وهو الدِّين (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 315)، ورويته: قيل لعطاء: ما أفضل ما أُعطي العباد؟ قال: العقل عن الله عز وجل، وهو المعرفة بالدين.).

وقال عطاء: ما قال العبدُ يا رب يا رب - ثلاث مرات - إلا نظرَ الله إليه. قال: فذكرتُ ذلك للحسن، فقال: أما تقرؤون القرآن: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} إلى قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 193 - 195] الآيات (أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (106).).

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدّثنا أبو عبد الله السلمي، حدّثنا ضمرةُ عن عمر بن الورد (كذا في (ق) والحلية:"عمر بن الورد"، وفي الزهد لابن أبي عاصم ص (377):"عمرو بن الورد" ولم نقف على ترجمة له.)، قال: قال عطاء: إنِ استطعتَ أن تخلوَ بنفسِكَ عَشِيَّةَ عَرَفةَ فافْعَلْ (أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ص (377)؛ وأبو نعيم في الحلية (3/ 314)؛ كلاهما بهذا الإسناد.).

وقال سعيد بن سلام البصري: سمعتُ أبا حنيفة النعمان يقول: لَقِيتُ عطاء بمكة، فسألتُهُ عن شيء، فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهلِ الكوفة. قال: أنتَ من أهلِ القرية الذين فرَّقوا (في (ق): فارقوا"، والمثبت من الحلية.) دينهم وكانوا شِيعًا؟ قلت: نعم، فمنْ أي الأصناف أنتَ؟ قلت: ممن لا يسبُّ السَّلف، ويؤمنُ =

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالقدَر، ولا يُكَفِّرُ أحدًا من أهلِ القِبْلَة بذَنْب. فقال عطاء: عرفتَ فالْزَمْ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (314/ 3).).

وقال عطاء: ما اجتمعتْ عليه الأمة أقوَى عندَنا من الإسناد (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 314).).

وقيل لعطاء: إنَّ هاهنا قومًا يقولون: الإيمانُ لا يزيدُ ولا يَنْقُصُ. فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، فما هذا الهُدَى الذي زادَهمْ؟ قلت: ويزعمون أن الصلاةَ والزكاةَ ليستَا من دينِ الله. فقال: قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فجعل ذلك دِينًا (المصدر السابق.).

وقال يَعلَى بن عُبيد: دخلنا على محمد بن سُوقَة فقال: ألا أحدِّثكم بحديثٍ لعله أنْ ينفعَكم، فإنَّه نفعَني، قال لي عطاءُ بن أبي رباح: يا بنَ أخي، إنَّ منْ كانَ قبلَكم كانوا يكرهون فضولَ الكلام، وكانوا يعدُّونَ فضولَ الكلام إثمًا ما عدا كتاب الله أنْ يُقْرَأ، أو أمْرٍ بمعروف، أو نَهْي عن منكر، أو ينطِقَ العبدُ بحاجتهِ في معيشتهِ التي لابدَّ له منها؛ أتُنكرون {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11]، و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18]، أمَا يَسْتحي أحدُكم لو نُثِرَتْ عليه صَحِيفتُهُ التي أمْلاها صَدْرَ نَهارِه، فرأى أكثرَ ما فيها ليس مِنْ أمْرِ دينِه ولا دُنياه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 315).).

وقال: إذا أنتَ خِفْتَ الحَرَّ مِنَ اللَّيل، فاقرَأْ بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم (كذا في (ق) وفي الحلية: إذا تناهقت الحمر من الليل فقولوا بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.).

وروى الطبراني وغيرُه، إنَّ الحَلْقَة في المسجد الحرام كانتْ لابنِ عباس، فلما ماتَ ابنُ عباس كانتْ لِعَطاء بنِ أبي رباح.

وروى عثمان بن أبي شيبة عن أبيه، عن الفضل بن دُكَين، عن سفيان، عن سلمةَ بنِ كُهَيْل، قال: ما رأيتُ أحدًا يَطلُبُ بعمَلِه ما عندَ الله تعالى إلّا ثلاثةً: عطاء، وطاوس، ومجاهد (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 311).).

وقال الإمام أحمد: حدّثنا ابنُ نمير، حدّثنا عمر بن ذَرّ، قال: ما رأيتُ مثلَ عطاءٍ قطُّ، وما رأيتُ على عطاءٍ قميصًا قَطُّ، ولا رأيتُ عليه ثوبًا يساوي خمسةَ دراهم (ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 212) والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 87).).

وقال أبو بلال الأشعري: حدّثنا قيس، عن عبد الملك بن جُريج، عن عطاء، أن يَعْلَى بنَ أمية كانتْ لهُ صُحبة، وكان يَقعدُ في المسجد ساعة يَنْوي فيها الاعتكاف (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 312).).

وروى الأوزاعي عن عطاء، قال: إنْ كانتْ فاطمةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَتَعْجن، وإنْ كانتْ قُصَّتُها (القُصَّة: شعر الناصية، وقُصَّة المرأةِ: ناصيتُها.) لتَضْرِبُ بالجَفْنَة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 312).).

وعن الأوزاعي، عنه، قال:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، قال: ذلك في إقامةِ الحَد عليهما (المصدر السابق.).

وقال الأوزاعي: كنتُ باليمامة وعليها رجلٌ والٍ يَمْتحنُ الناسَ [برجلٍ] من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه منافق وما هو بمؤمِن، ويأخذُ عليهمْ بالطلاقِ والعَتَاق، أنْ يُسمِّيَ المسيءَ منافقًا، وما يُسمِّيه مؤمنًا؛ فأطاعوه على ذلك وجعلوه له. قال: فلَقيتُ عطاء فيها بعدُ، فسألتُهُ عن ذلك فقال: ما أرى بذلك بأسًا يقولُ الله تعالى: {إِلَّا أَنْ =

ص: 150

‌ثم دخلت سنة خمس عشرة ومئة

ففيها وقع طاعونٌ بالشام، وحجَّ بالناسِ فيها محمد بن هشام بن إسماعيل، وهو نائبُ الحرمَيْن والطائف، والنُّوَّابُ في سائرِ البلاد هُمُ المذكورون في التي قبلَها. والله أعلم.

‌وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو جعفر البَاقِر

(1)

: وهو محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بنِ أبي طالب القرشيُّ الهاشميُّ أبو جعفر

= تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 312، 313)، وما مرّ بين معقوفين منه.).

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا سفيان بن عُيَينة، حدّثنا إسماعيل بن أمية، قال: كان عطاء يُطيل الصَّمْت، فإذا تكلَّم يُخيَّلُ إلينا أنَّه يؤيَّد (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 313).).

وقال في قولهِ تعالى: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، قال: لا يلهيهم بيعٌ ولا شراءٌ عن مواضِعِ حُقوقِ الله تعالى التي افْتَرَضها عليهم أنْ يؤدُّوها في أوقاتِها، وأوائِلِها (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 312).).

وقال ابنُ جَرير: رأيتُ عطاء يَطُوفُ باليت، فقال لقائده: أمْسِكوا، احفظوا عني خمسًا: القَدَرُ خيرُهُ وشرُّه حُلُوهُ ومُرُّهُ منَ اللهِ عز وجل، وليس للعبادِ فيهِ مَشيئةٌ ولا تَفْويض؛ وأهلُ قِبْلَتنا مؤمنون، حَرَامٌ دماؤهم وأموالُهم إلَّا بحقِّها؛ وقتالُ الفئةِ الباغيةِ بالأيدي والنعالِ والسلاح (كذا في (ق)، وفي الحلية:"بالأيدي والنعال، لَا بالسلاح".)؛ والشهادةُ على الخوارج بالضَّلالةِ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 312).).

وقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل وَفيكم عطاءُ بن أبي رباح (المصدر السابق (3/ 311).)؟!.

وقال معاذ بن سعد: كنتُ جالسًا عند عطاء، فحدَّث بحديث فعرض رجلٌ له في حديثه، فغضِبَ عطاء وقال: ما هذه الأخلاق؟! وما هذه الطبائع؟ واللهِ إني لأسمعُ الحديثَ من الرجل وأنا أعلمُ بهِ منه، فأُريهِ أني لا أحسن شيئًا منه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 311).).

وكان عطاء يقول: لأنْ أرى في بيتي شيطانًا خيرٌ من أنْ أرَى فيه وسادة، لأنَّها تَدْعو إلى النوم.

وروى عثمان بن أبي شيبة عن علي بن المَديني، عن يحيى بن سعيد، عن ابنِ جرير، قال: كان عطاء بعدما كَبِرَ وضَعُف يقومُ إلى الصلاة، فيقرأ مئتي آيةٍ من سورةِ البقرة وهو قائمٌ لا يزولُ منه شيء، ولا يتحرَّك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 377 و 3/ 148 و 310)؛ وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 87).).

وقال ابن عُيينة: قلتُ لابن جَرير: ما رأيتُ مصلِّيًا مثلَك! فقال: لو رأيتَ عطاء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 310)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 213).)!.

وقال عطاء: إنَّ الله لا يُحبُّ الفتى يَلْبسُ الثوب المشهور، فيُعرضُ الله عنه حتى يضعَ ذلك الثوب.

وكان يقال: ينبغي للعبد أنْ يكون كالمريض، لا بدَّ له من قُوت، وليس كلُّ الطعامِ يوافقُه.

وكان يقول: الدعوةُ تعمي عينَ الحكيم، فكيف بالجاهل؟ ولا تَغبِطَنَّ ذا نِعْمةٍ بما هو فيه، فإنك لا تدري إلى ماذا يصيرُ بعدَ الموت].

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 320)، تاريخ خليفة (349)، طبقات خليفة (255)، التاريخ الكبير (1/ 183)، =

ص: 151

البَاقِر. وأُمُّه أُمُّ عبدِ الله بنتُ الحُسين بن علي وهو تابعيٌّ جَلِيلُ القَدْر، كثيرُ العِلْم، أحَدُ أعلامِ هذه الأمّةِ عِلْمًا وعمَلًا وسيادةً وشرفًا، وهو أحَدُ مَنْ تَدَّعِي فيه طائفةُ الشيعةِ أنَّهُ أحَدُ الأئمِة الاثني عَشَر، ولم يكنِ الرجلُ على طريقِهم، ولا على مِنْوَالِهم، ولا يَدينُ بما وقع في أذْهانِهم وأوْهامِهم وخيالِهم، بل كان مِمَّنْ يُقَدِّمُ أبا بكرٍ وعمر، وذلك صحيحٌ عنهُ في الأثَر، وقال أيضًا: ما أدركتُ أحَدًا مِنْ أهلِ بيتي إلَّا وهو يتولّاهما. رضي الله عنهما.

وقد روى عن غيرِ واحدٍ من الصحابة، وحدَّث عنه جماعةٌ من كبارِ التابعين وغيرِهم، فَمِمَّن رَوَى عنه ابنُه جعفر الصادِق، والحكم بن عتيبة، وربيعة، والأعمش، وأبو إسحاق السَّبِيعي، والأوزاعي، والأعرج - وهو أسَنُّ منه - وابنُ جُريج، وعَطاء، وعمرو بن دِينار، والزُّهْرِي.

وقال سفيان بن عيينة: عن جعفر الصادق، قال: حدثني أبي وكان خيرَ محمديٍّ يومئذٍ على وجه الأرض

(1)

.

وقال العِجْلي: هو مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة.

وقال محمد بن سعد

(2)

: كان ثقةً كثيرَ [العلم و] الحديث، وكانتْ وفاتُه في هذه السنةِ في قول، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها أو في التي هي بعدَها، وبعدَ بعدِها، والله أعلم. وقد جاوزَ السبعين. وقيل: لم يجاوزِ الستين. فالله أعلم

(3)

.

= المعارف (215)، الجرح والتعديل (8/ 26)، الثقات لابن حبان (5/ 348)، حلية الأولياء (3/ 180)، طبقات الفقهاء (64)، صفة الصفوة (2/ 108)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 409)، مختصر تاريخ دمشق (23/ 77)، تهذيب الكمال (26/ 136)، تذكرة الحفاظ (1/ 117)، سير أعلام النبلاء (4/ 401)، العبر (1/ 142)، الوافي بالوفيات (4/ 102) تهذيب التهذيب (9/ 350)، طبقات الشعراني (1/ 32)، طبقات الحفاظ (49)، شذرات الذهب (1/ 149)، الكواكب الدرية (1/ 440).

(1)

أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص (198)، وساق حديثًا بإسناده. وذكره المزي بهذا الإسناد في تهذيب الكمال (26/ 140).

(2)

في كتابه الطبقات الكبرى (5/ 323) وما بين معقوفين منه.

(3)

وهنا زيادة مقحمة وهي:

[فصل:

أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان أبوهُ عليٌّ زينُ العابدين وجَدُّهُ الحسين قُتلا شهيدَيْنِ بالعراق، وسُمِّيَ الباقِرَ لِبَقْرِهِ العلومَ، واستنباطِهِ الحُكْم.

كان ذاكرًا خاشعًا صابرًا، وكانَ من سُلالةِ النبوَّة، رفيعَ النسَب، عاليَ الحسَب، وكان عارفًا بالخَطَرات، كثيرَ البُكاء والعَبَرات، مُعْرِضًا عن الجِدَالِ والخُصومات.

قال أبو بلال الأشعري: حدثنا محمد بن مروان عن ثابت، عن محمد بن علي بن الحسين في قوله تعالى: =

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، قال: الغُرْفَةُ الجَنَّة، بما صبروا على الفقرِ في الدنيا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 347 و 3/ 181، 182).).

وقال عبد السلام بن حَرْب، عن زيد بن خَيْثَمة، عن أبي جعفر، قال: الصواعِقُ تُصيب المؤمنَ وغيرَ المؤمن، ولا تُصِيبُ الذاكرَ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 181)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (5/ 430)(1162) عن زياد الجعفي عن أبي جعفر، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 108)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 408).).

قلت: وقد رُوي نحو هذا عن ابنِ عباس قال: لو نزلَ من السماءِ صوَاعِقُ عَدَدَ النجوم، لم تُصِب الذاكرَ.

وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر، إني لَمَحزون، وإني لَمُشتغِلُ القَلْبَ. قلت: وما حُزْنُكَ وشُغْلُ قلبِك؟ قال: يا جابر، إنَّه مَنْ دخلَ قلبَهُ صافي دينِ الله عز وجل شغَلهُ عمَّا سواه، يا جابر، ما الدنيا وما عسى أنْ تكون؟ هل هي إلا مركبًا رَكِبْتَه؟ أو ثوبًا لبسته؟ أوِ امرأة أصَبْتَها؟ يا جابر، إن المؤمنين لم يطمئنُّوا إلى الدنيا لِبَقاءٍ فيها، ولم يأمنوا قدومَ الآخرةِ عليهم، ولم يَصِمُّهُمْ عن ذكرِ اللهِ ما سمعوا بآذانهمْ من الفِتْنَة، ولم يُعْمِهِمْ عن نورِ الله ما رأوا بأعينِهم من الزِّينة، ففازوا بثوابِ الأبرار، إنَّ أهل التقوى أيسَرُ أهلِ الدنيا مؤونةً، وأكثرُهم لكَ مَعُونةً، إنْ نَسِيتَ ذكَّروك، وإنْ ذكرتَ أعانوك، قَوَّالينَ بحق الله، قوَّامينَ بأمْرِ الله، قُطعوا لمحبة ربهم عز وجل، ونظروا إلى الله وإلى محبتهِ بقلوبِهم، وتوحَّشوا من الدنيا لطاعةِ محبوبِهم، وعلموا أنَّ ذلك من أمْرِ خالِقهم، فأنزلوا الدنيا حيثُ أنزلَها مَلِيكُهم، كمَنْزِلٍ نزلوهُ ثم ارتحلوا عنه وتركوه، وكما أصبتهُ في منامِك، فلما استيقظتَ إذا ليس في يدِكَ منه شيء، فاحفظِ الله فيما استرعاك من دِينه وحكمتِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 182)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 108، 109).).

وقال خالدُ بن يزيد: سمعتُ محمد بن عليِّ يقول: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتُمُ القارئَ يُحِبُّ الأغنياء، فهو صاحبُ الدنيا، وإذا رأيتُموه يلزَمُ السلطان فهو لِصٌّ (كذا في (ق) ورواية أبي نعيم في الحلية (3/ 184) وإسناده فيه هكذا:"حدثنا حبيب بن الحسن حدّثنا أبو شعيب الحراني، حدّثنا خالد بن يزيد، حدّثنا أبو داود أنه سمع محمد بن علي يقول إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص".).

وكان أبو جعفر يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ [خمسين ركعة] بالمكتوبة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 182)، وما بين معقوفين منه، وذكره الذهبي في سير أعلامِ النبلاء (4/ 404، 405).).

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه قال: سلاحُ اللئام قبِيحُ الكلام (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 182، 183)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 109).).

وروى أبو الأحوص عن منصور، عنه قال: لكلِّ شيءٍ آفة وآفة العلم النسيان (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 183).).

وقال لابنه: إياك والكسلَ والضجر، فإنَّهما مفتاح كلِّ خَبِيثة، إنك إذا كسلت لم تؤد حقٍّ، وإنْ ضَجِرتَ لم تصبرْ على حَقّ (المصدر السابق.).

وقال: أشدُّ الأعمال ثلاثة: ذكرُ اللهِ على كلِّ حال، وإنصافُكَ من نفسِك، ومواساةُ الأخِ في المال (المصدر السابق.).=

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال خلف بن حوشب: قال أبو جعفر: الإيمان ثابتٌ في القلب، واليقينُ خَطَرات، فيمرُّ اليقينُ بالقلب فيصيرُ كأنَّهُ زُبَرُ الحَدِيد (الزُّبَرُ: جمع زُبْرَة، وهي قطعة الحديد. وزُبَرُ الحديد: قِطَعُه. مختار الصحاح (زبر).)، ويخرج منه فيصير كأنَّه خِرقَةٌ بالية (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 180).).

وما دخل قلبَ عبدٍ شيءٌ من الكِبْر إلَّا نَقَصَ من عَقْلِهِ بقَدْرِهِ أو أكثر منه (المصدر السابق، وذكره المصنف في تفسيره (180/ 3).).

وقال لجابر الجعفي: ما يقولُ فقهاءُ العراق في قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]؟ قال: رأى يعقوبَ عاضًّا على إبْهامه. فقال: لا، حدَّثني أبي عن جَدِّي علي بنِ أبي طالب أنَّ البرهانَ الذي رآه أنَّها حين هَمَّتْ بهِ وهَمَّ بِها، أيْ طَمعَ فيها، قامتْ إلى صَنَمٍ لها مكَّللٍ بالدُّرِّ والياقوت في ناحيةِ البيت، فستَرَتْهُ بثوبٍ أبيض، خشيةَ أنْ يراها أو استحياءً منه، فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت إلهي أستحي منه أنْ يراني على هذه الصورة. فقال يوسف: تستحينَ من صنَمٍ لا ينفعُ ولا يَضُرّ، ولا يسمَعُ ولا يُبصِر، أفلا أستحي أنا من إلَهي الذي هو قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت!؟ ثم قال: والله لا تنالينَ مني أبدًا. فهو البرهان [الذي رأى](أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 181) وما بين معقوفين منه.).

وقال بشرُ بن الحارث الحافي: سمعتُ سفيانَ الثوريَّ يقول: سمعت منصورًا يقول: سمعتُ محمد بن علي يقول: الغِنَى والعِزُّ يجولانِ في قلبِ المؤمن، فإذا وصلا إلى مكانٍ فيه التوكُّل أوطَنَاه (أوطناه: أيْ اتخذ الغنى والعز قلبَ المؤمنِ وطنًا. والخبر أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 181).).

وقال: إنَّ الله يُلقِي في قلوب شيعتِنا الرُّعْب، فإذا قام قائمُنا وظهرَ مَهْدِيُّنا (في (ق):"مديننا"، تصحيف، والمثبت من الحلية.) كان الرجلُ منهم أجرأَ من لَيث، وأمضَى من سيف (في الحلية:"وأمضى من سنان" والخبر فيه (3/ 184).).

وقال: شيعتُنا من أطاعَ الله عز وجل واتقاه (المصدر السابق.).

وقال: إياكم والخصومة، فإنها تُفسِدُ القلب، وتُورِثُ النِّفاق (المصدر السابق.).

وقال: الذين يخوضون في آياتِ الله هم أصحابُ الخصومات (المصدر السابق.).

وقال عروة بن عبد الله: سألتُ أبا جعفر محمد بن علي عن حِلْيةِ السيف فقال: لا بأس به، قد حَلَّى أبو بكرٍ الصديقُ سيفَه. قال: قلتُ وتقولُ الصِّدِّيق؟! قال: فوثب وثبةً واستقبل القِبْلَةَ ثم قال: نَعَمْ الصدِّيق (العبارة في الحلية" نعم الصديق، قيلت مرة واحدة.)، نعم الصدِّيق، فمَنْ لم يقل الصِّدِّيق فلا صدَّق الله له قولًا في الدنيا والآخرة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 185).).

وقال جابر الجُعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر، بلغَني أنَّ قومًا بالعراق يزعمون أنَّهم يُحِبُّونا، ويتناولون أبا بكرٍ وعمر، ويزعمون أني أمَرْتُهم بذلك، فأبلغْهُمْ عني أنِّي إلى اللّهِ منهم بَريء، والذي نفسُ محمد بيدِه - يعني نفسه - لو وُلِّيتُ لتقرَّبْتُ إلى الله بدمائهم، ولا نالَتْني شفاعةُ محمد صلى الله عليه وسلم إنْ لم أكنْ أستغفِرُ لهما وأتَرَحَّم عليهما. إن أعداء الله لغافلونَ عن فضلِهما وسابقتِهما، فأبِلغْهُمْ أني بريءٌ منهم ومِمَّن تبرَّأ من أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما (المصدر السابق.).

وقال: مَنْ لم يعرفْ فضلَ أبي بكرٍ وعمر فقد جَهِل السُّنَّة (المصدر السابق.).

وقال في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، الآية، قال: هم أصابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم =

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال: قلتُ يقولون هو عليّ؟ قال: عليٌّ من أصحاب محمد (المصدر السابق.).

وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيتُ العلماءَ عند أحدٍ أصغرَ منهم عند أبي جعفر محمد بن علي. قال: رأيتُ الحكيم عنده كأنه مُتعلِّم (الحلية (3/ 185، 186).).

وقال: كان لي أخٌ في عيني عظيم، وكان الذي عظَّمَه في عيني صِغَرُ الدنيا في عينِه (الحلية (3/ 186).).

وقال جعفر بن محمد: ذهبتْ بَغْلَةُ أبي. فقال لئن ردَّها الله علي لأحمَدَنَّهُ بمحامدَ يرضاها. فما كان بأسرع من أنْ أُتيَ بها بسَرْجِها لم يُفقَدْ منها. فقامَ فركِبَها، فلما استوى عليها وجمع إليه ثيابَه رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله. لم يَزِدْ على ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: فهل تركْتُ أو أبْقَيْتُ شيئًا؟ جعلتُ الحمدَ كلَّه للّهِ عز وجل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 186)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 96)(4392).).

وقال عبد الله بن المبارك: قال محمد بن علي: مَنْ أُعطِيَ الخُلُقَ والرِّفْق فقد أُعْطِيَ الخيرَ والراحةَ، وحَسُنَ حالُه في دنياه وآخرتِه، ومَنْ حُرِمَهُما كان ذلك سبيلا إلى كُلِّ شَرٍّ وبَلِيَّة، إلَّا مَنْ عصَمَهُ الله (أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 186).).

وقال: أيُدْخِلُ أحَدُكُمْ يدَهُ في كُمِّ صاحبِه فيأخذُ ما يُريد تامًّا؟ قال: قلنا: لا (في (ق): "إلا قال" بدل "قال: قلنا: لا"، وهو تحريف، والمثبت من الحلية.). قال: فلستم إخوانًا كما تزعمون (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 187).).

وقال: اعرِف مودَّةَ أخيكَ لكَ، بما لَهُ في قلبِك من المودَّة فإنَّ القلوبَ تتكافأ (المصدر السابق، وليست فيه الجملة الأخيرة "فإن القلوب تتكافأ".).

وسمع عصافيرَ يَصِحْنَ فقال: أتدري ماذا يَقُلْن؟ قلت: لا. قال: يُسَبِّحْنَ الله، ويسألْنَهُ رزقَهُنَّ يومًا بيوم (المصدر السابق.).

وقال: ندعو الله بما نُحب، وإذا وقع الذي نكره لم نخالفِ الله عز وجل فيما أحَبّ (في (ق):"تدعو الله بما يحب، وإذا وقع الذي تكره لم تخالف الله عز وجل فيما أحب"، والمثبت من الحلية والخبر فيه (3/ 187).). وقال: ما مِنْ عبادةٍ أفضلُ من عِفَّةِ بَطْنٍ أو فَرْج، وما من شيء أحَبُّ إلى الله عز وجل من أنْ يُسأل، وما يدَفعُ القضاءَ إلا الدُّعاء، وإنَّ أسرعَ الخيرِ ثوابًا البِرّ، وأسرعَ الشرِّ عقوبةً البَغْي، وكفى بالمرء عَيبًا أنْ يُبصِرَ من الناس ما يَعْمَى عليه من نفسه، وأنْ يأمُرَ الناسَ بما لا يَستطيعُ أنْ يفعلَه، ويَنهَى الناسَ بما لا يستطيعُ أنْ يتحوَّل عنه، وأنْ يؤذي جليسَهُ بما لا يَعْنِيه (الحلية (3/ 188).).

هذه كلماتٌ جوامعٌ موانع، لا ينبغي لعاقلٍ أنْ يفعلَها (كذا، ولعل الصواب يغفلها).

وقال: القرآنُ كلامُ اللهِ عز وجل غيرُ مخلوق (المصدر السابق.).

وقال أبو جعفر: صَحِب عمرَ بن الخطاب رجلٌ إلى مكة، فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلَّى عليه ودَفنه، فقلَّ يومٌ إلَّا كان عمرُ يتمثَّلُ بهذا البيت:

وبالغُ أمْيرٍ كانَ يأمُلُ دوَنهُ

وَمُخْتَلَجٌ من دونِ ما كان يَأمُلُ

(المصدر السابق.)

وقال أبو جعفر: والله لَمَوْتُ عالمٍ أحَبُّ إلى إبليسَ من موتِ ألفِ عابد.

وقال: ما اغرورقَتْ عينُ عبدٍ بمائِها إلا حرَّمَ الله وجهَ صاحبها على النار، فإنْ سالَت على الخدَّين لم يَرْهَقْ وجهَهُ =

ص: 155

‌ثم دخلت سنة ست عشرة ومئة

ففيها غزا معاويةُ بن هشام الصائفةَ، وفيها وقع طاعونٌ عظيمٌ بالشامِ والعراق، وكان عُظْمُ ذلك في واسط.

وفي المحرَّم منها تُوفِّي الجُنيد بن عبد الرحمن المُرِّي أميرُ خُراسان من مرضٍ أصابَه في بطنِه، وكان قد تزوَّجَ الفاضلةَ بنتَ يزيدَ بنِ المهلَّب، فتغضَّبَ عليه أميرُ المؤمنين هشامُ بن عبد الملك، فعزلَهُ وولَّى مكانَهُ عاصمَ بنَ عبدِ الله على خُراسان وقال له: إنْ أدركتَهُ قبلَ أن يموتَ فأزهِقْ رُوحه. فما قَدِمَ عاصمُ بن عبد الله خُراسان حتى مات الجُنيد في المحرَّم منها بِمَرْو. وقد قال فيه أبو الجرير

(1)

عيسى بنُ عِصْمَةَ يَرْثيه -:

هَلكَ الجُودُ والجُنَيْدُ جميعًا

فعلى الجُودِ والجُنيدِ السلامُ

أصبحا ثاوِيَيْنِ في بَطْنِ مَرْوٍ

ما تَغَنَّى على الغصونِ الحَمَامُ

كنتُما نُهْزَةَ

(2)

الكرامِ فلمَّا

مُتَ مات النَّدَى وماتَ الكرام

(3)

ولما قَدِم عاصم بنُ عبد الله خُراسانَ أخَذَ نُوابَ الجُنيد بالضربِ البَلِيغ وأنواعِ العوبات، وعَسَفَهُم

(4)

في المصادراتِ والجنايات، فخرج عن طاعتِه الحارثُ بن شريح، فبارَزَهُ بالحَرْب، وجرَتْ بينهما أمورٌ يطولُ ذكرُها. ثم هُزِمَ في آخرِ الأمر الحارثُ بن سريح، وظهر عاصمٌ عليه.

قال الواقدي: وفيها حَجَّ بالناس الوليد بن يزيد بن عبد الملك

(5)

وهو وليُّ الأمرِ من بعد. عَمِّهِ

= قتَرٌ ولا ذِلَّة، وما من شيء إلّا وله جزاء، إلَّا الدمعةَ فإنَّ الله يُكَفِّرُ بِها بحورَ الخطايا، ولو أنَّ باكيًا بكَى من خشيةِ الله في أُمَّةٍ، رَحِم اللهُ تلك الأمَّة (أخرجه ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 109) بنحوه.).

وقال: بئس الأخُ أخٌ يَرْعاك غَنِيًّا ويَقْطَعُكَ فقيرًا (أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق ص (94) والإخوان له ص (217)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 112).).

قلت (القائل هو من كتب الزيادة التي في (ق).): البيتُ الذي يتمثَّل قبلَه بيتانِ وهو ثالُثهما، وهذه الأبيات تتضمَّنُ حِكَمًا وزُهْدًا في الدنيا. قال:

لقد غرَّت الدُّنيا رجالًا فأصبحوا

بمَنْزِلةٍ ما بعدَها متحوَّلُ

فساخِطُ أمْرٍ لا يُبَدَّلُ غيرُهُ

وَراضٍ بأمرٍ غيرُهُ سَيُبَدَّلُ

وبالغُ أمْرٍ كانَ يأمُلُ دوَنهُ

ومُخْتَلجٌ من دونِ ما كان يَأمُلُ]

(1)

كذا في الأصول (ب، ح، ق)، وفي تاريخ الطبري:"أبو الجُوَيْرِية" ولم أقف على ترجمته.

(2)

في (ق) وتاريخ الطبري: "نزهة" والمثبت من (ب، ح).

(3)

أخرجه الطبري في تاريخه (7/ 94) والأبيات فيه بألفاظٍ مقاربة.

(4)

"عسفَهُم": أخذهم بلا تدبيرٍ ولا رَويَّة، من العَسف، وهو ركوب الأمرِ بلا تدبُّرِ ولا رَوِيَّة، يقال: عسَفَه يعسِفُهُ عَسفًا. اللسان (عسف).

(5)

كذا في الأصول، وتاريخ الطبري (7/ 98)، وفي تاريخ خليفة (347): "وأقام الحج الوليد بن يزيد بن =

ص: 156

هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

‌ثم دخلت سنة سبع عشر ومئة

فيها غزا معاويةُ بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمانُ بن هشام الصائفةَ اليُمنى، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام.

وفيها بعث مروان بن محمد - وهو مروانُ الحمار

(1)

- وهو على أرْمِينِيَةَ بَعْثَيْن، ففتح حصونًا من بلاد اللَّان، ونزل كثيرٌ منهم على الأمان، وفيها عَزَلَ هشامٌ عاصمَ بن عبد الله الهلالي عن إمرةِ خُراسان، وضمَّها إلى خالد بن عبدِ الله القسري مع العراق

(2)

، مُعادةً إليه جَرْيًا على ما سبق له من العادة، وكان ذلك عن كتاب عاصم بن عبد الله الهلالي المعزول عنها، وذلك أنه كتب إلى أمير المؤمنين هشام، أنَّ ولايةَ خُراسان لا تصلحُ إلّا مع ولايةِ العراق، رجاءَ أنْ يُضيفَها إليه، فانعكس الأمرُ عليه، فأجابه هشام إلى ذلك قبولًا لِنَصيحتِه وأضافها إلى خالدٍ القَسْري.

وفيها توفي:

قَتَادَةُ بنُ دعَامَةَ السّدُوسِيّ

(3)

أبو الخطاب البصري الأعمَى: أحد علماء التابعين، والأئِمَّة العاملين.

= عبد الملك ويقال عيسى بن مقسم مولى الوليد بأمر الوليد" والذي في الطبقات الكبرى (القسم المتمم ص (164)) عن الواقدي محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري أن هشامًا استعمل ابنه أبا شاكر واسمه مسلمة بن هشام على الحج سنة ست عشرة ومئة، وأمر الزهري أن يسير معه إلى مكة.

(1)

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6/ 74) في سبب تلقيبه بالحمار: وكان مروان بطلًا شجاعًا داهية رزينًا جبارًا، يصل السير بالسرى ولا يجف له لبد، دوَّخ الخوارج بالجزيرة، ويقال: بل العرب تسمي كل مئة عام حمارًا، فلما قارب ملكُ آلِ أمية مئةَ سنة لقَّبوا مروان بالحمار، وذلك مأخوذٌ من موتِ حمارِ العزير عليه السلام وهو مئة عام ثم بعثهم الله تعالى.

(2)

في (ق) في هذا الموضع زيادة وتحريف، وأثبتنا ما جاء في (ب، ح).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 229)، طبقات خليفة (213)، تاريخ خليفة (232)، (348)، التاريخ الكبير (7/ 185)، التاريخ الصغير (1/ 318)، المعارف (462)، المعرفة والتاريخ (2/ 277)، الجرح والتعديل (7/ 133)، ثقات ابن حبان (5/ 321)، حلية الأولياء (2/ 333)، طبقات الفقهاء (89)، الأنساب (7/ 58)، صفة الصفوة (3/ 259)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 224)، معجم الأدباء (17/ 9)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 57)، وفيات الأعيان (4/ 85)، تهذيب الكمال (23/ 498)، سير أعلام النبلاء (5/ 269)، تذكرة الحفاظ (1/ 122)، ميزان الاعتدال (3/ 385)، العبر (1/ 146)، مرآة الجنان (1/ 251)، طبقات القراء (2/ 25)، تقريب التهذيب (453)، النجوم الزاهرة (1/ 276)، الكواكب الدرية (1/ 406 و 4/ 508)، شذرات الذهب (1/ 153).

ص: 157

روَى عن أنس بن مالك، وجماعةٍ من التابعين، منهم سعيدُ بن المُسَيِّب، والبصري، وأبو العالية، وزُرَارَةُ بنُ أوفى، وعطاء، ومجاهد، ومحمد بن سيرين، ومسروق، وأبو مِجْلَز، وغيرهم.

وحدَّث عنه جماعاتٌ من الكبار، كأيُّوب، وحماد بن سَلَمة، وحُمَيد الطويل، وسعيد بن أبي عَروبة، والأعمش، وشُعبة، والأوزاعي، ومِسْعَر، ومَعْمَر، وهَمَّام.

قال سعيد بن المسيِّب: ما جاءني عراقيٌّ أفضلُ منه، وقال بكر المزني: ما رأيتُ أحفظَ منه. وقال محمد بن سِيرين: هو من أحفَظِ الناس، وقال مَطَر الورَّاق: كان قتادةُ إذا سمع الحديث يأخذُه العَوِيلُ والزَّوِيل

(1)

حتى يحفظَه.

وقال الزُّهْري: هو أعلَمُ من مَكْحُول. وقال معمر: ما رأيتُ أفقهَ من الزُّهري وحَمّاد وقتادة.

وقال قتادة: ما سمعتُ شيئًا إلَّا وعاهُ قلبي.

وقال أحمد بن حنبل: هو أحفظُ أهلِ البصرة، لا يسمع شيئًا إلَّا حَفِظه. وقُرئَ عليه صحيفةُ جابر مرَّةً واحدة، فحفِظَها. وذُكر يومًا فأثنى على علمهِ وفقههِ ومعرفتهِ بالاختلاف والتفسير وغير ذلك.

وقال أبو حاتم

(2)

: كانت وفاتُه بِوَاسط في الطاعون. يعني في هذه السنة، وعمرُه ستٌّ أو سبعٌ وخمسون سنة

(3)

.

وفيها تُوفي:

أبو الحُبَاب سعيدُ بن يَسَار، والأعرج.

(1)

جاء في غريب الحديث للخطابي (3/ 154): عن مطر الوراق: الزَّوِيل: الزماع والقلق وهو أن لا يستقر على المكان وأصله من زال الشيء عن مكانه يزول عنه زوالًا وزويلا. وفي لسان العرب (زول): وورد في حديث قتادة أخذَه العَوِيلُ والزَّوِيلُ: أي القَلَق والانزعاج بحيث لا يستقرُّ على المكان، وهو والزَّوَال بمعنى.

(2)

في الجرح والتعديل (7/ 133).

(3)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي:

[قال قتادة: منْ وَثِقَ بالله (كذا في (ق)، وفي الحلية (2/ 340) وصفة الصفوة (3/ 259):"من يتق الله".) كان الله معه، ومنْ يكنِ الله معه تكنْ معَهُ الفئةُ التي لا تُغلب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يَضِلّ، والعالم الذي لا يَنْسى.

وقال: في الجنة كُوًى إلى النار، [فيطلع أهل الجنة من تلك الكُوَى إلى النار، فيقولون: ما بالُ الأشقياء دخلوا النار؟ وإنما دخلنا الجنة بفضلِ تأديِبكم؟ فقالوا: إنَّا كنَّا نأمرُكُمْ ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننْتَهي (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 340)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 259)، وما بين معقوفين منهما.).

وقال: بابٌ من العلم يحفَظُه الرجلُ يطلبُ به صلاحَ نفسِه، وصلاحَ دينِه، وصلاحَ الناس، أفضلُ من عبادةِ حَوْلٍ كامل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 341).).

وقال قتادة: لو كان يُكتفى من العلم بشيء لاكتَفَى موسى عليه السلام بما عنده؛ ولكنِّه طلبَ الزِّيادة].

ص: 158

وابنُ أبي مُلَيكة.

وعبد اللّه بن أبي زكريا الخُزَاعي.

ومَيْمون بن مِهْران بن موسى بن وردان

(1)

.

(1)

وهذه زيادة أيضًا وهي:

[فصل:

فأما سعيدُ بن يسار فكان من العُبَّاد الزُّهَّاد، روَى عن جماعةٍ من الصحابة، وكذلك الأعرج، وابنُ أبي مُلَيكة.

وأمَّا مَيْمون بن مِهْران (ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 477)، طبقات خليفة (319)، تاريخ خليفة (347)، التاريخ الكبير (7/ 338)، التاريخ الصغير (1/ 319، 321)، الجرح والتعديل (8/ 233)، ثقات ابن حبان (5/ 417)، حلية الأولياء (4/ 82)، طبقات الشيرازي (77)، صفة الصفوة (4/ 193)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (5/ 79)، مختصر تاريخ دمشق (26/ 60)، تهذيب الكمال (29/ 210)، سير أعلام النبلاء (5/ 71)، تذكرة الحفاظ (1/ 98)، العبر (1/ 147)، تهذيب التهذيب (10/ 390)، طبقات الحفاظ (39)، طبقات الشعراني (1/ 40)، الكواكب الدرية (1/ 463)، شذرات الذهب (1/ 154).): فهو من أجلَّاءِ علماءِ التابعينَ وزُهَّادِهم وعُبَّادِهم وأئمَّتِهم. كان ميمون إمامَ أهلِ الجَزيرة.

روى الطبرانيُّ عنه أنه قيل له: ما لك لا يُفارقك أخٌ لك عن قِليً؟ قال: لأني لا أماريه ولا أُشاريه (أورده المزي في تهذيب الكمال (29/ 221).).

قال عمرو بن ميمون: ما كان أبي يُكثر الصلاةَ ولا الصيام، ولكنْ كان يكرَهُ أن يُعصى الله عز وجل (ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 193).).

وروى ابنُ أبي عَدِي عن يونس، عنه قال: لا تُمَاريَنَّ عالمًا ولا جاهلًا، فإنكَ إنْ مارَيْتَ عالمًا خَزَنَ عنكَ عِلْمَه، وإنْ مَا رَيْتَ جاهلًا خَشِنَ بصدرِك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 82)، وذكره المزي في تهذيب الكمال (29/ 222).).

وقال عمرو بن ميمون: خرجتُ بأبي أقودُهُ في بعضِ سككِ البصرة، فمرَرْنا بِجَدْول، فلم يستطِعِ الشيخُ أنْ يتخطَّاه، فاضجَعْتُ له فمرَّ على ظَهْري، ثم قمتُ فأخذتُ بيدِه، ثم دَفَعْنا إلى مَنْزِل الحسن، فطرقتُ الباب، فخرجَتْ إلينا جاريةٌ سُدَاسية فقالت: منْ هذا؟ فقلت: هذا مَيمونُ بن مِهران أرادَ لقاءَ الحسن. فقالت: كاتبُ عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم. قالتْ: يا شَقيّ، ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء؟ قال: فبكى الشيخ، فسمع الحسنُ بكاءَه، فخرجَ إليه فاعتنقا، ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد، إني قد أنسْتُ من قلبي غِلْظة، فاستلِنْ (في (ق):"فاستكن"، والمثبت من الحلية.) لي منه. فقرأ الحسنُ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207]. فسقطَ الشيخ مغشيًا عليه، فرأيتُهُ يَفْحصُ برجلَيْهِ كما تفحصُ الشاةُ إذا ذُبحت، فأقامَ طويلًا، ثم جاءتِ الجاريةُ فقالت: قد أتعبتُمُ الشيخ، قوموا تفرَّقوا. فاخذتُ بيدِ أبي، فخرجتُ فقلت: يا أبتِ أهذا هو الحسن؟ قال: نعم. قلت: قد كنتُ أحسبُ في نفسي أنَّهُ أكبرُ من هذا. قال: فوكَزَ في صدري وَكْزة ثم قال: يا بُني، لقد قرأ علينا آية لو فهمتَها بقلبك لألفَيْتَ لها فيه كلومًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 82، 83).).

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وروى الطبراني عنه أنه قال: ما أُحبُّ أني أعطَيْتُ درهمًا في لَهْو، وأنَّ لي مكانه مئةَ ألف، أخشَى أنْ تصيبَني هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]، الآية (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 83).).

وقال جعفر بن برقان عن ميمون بن مِهْران قال: كنتُ عند عمر بن عبد العزيز، فلما قمتُ قال عمر: إذا ذهب هذا وأضرابُه لم يبقَ من الناس إلَّا رَجَاج (في (ق): "مجاجة"، والمثبت من المصدر السابق، ولسان العرب إذ جاء فيه: في حديث عمر بن عبد العزيز: الناس رجاجٌ بعد هذا الشيخ، يعني مَيْمون بنَ مِهْرانَ؛ هم رَعاعُ الناس وجُهَّالُهم. اللسان (رجج).).

وروى الإمام أحمد عن معمر بن سليمان الرَّقِّي، عن فُرَات بن سليمان، عن ميمون بن مِهْران، قال: ثلاث لا تبلو نفسَك بهنّ: لا تدخلْ على سلطان، وإن قلتَ آمُرُه بطاعةِ اللّه؛ ولا تدخلْ على امرأةٍ وإنْ قلتَ أعلِّمُها كتابَ الله؛ ولا تُصغيَنَّ بسمعكَ إلى ذي هَوًى، فإنك لا تدري ما يَعْلَقُ بقلبك من هواه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 84، 85)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 77).).

وروى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21]، و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، فقال: التَمِسوا هذين المِرْصادَيْن جوازًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 84).).

وفي قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، فيها وَعيدٌ شديد للظَّالم وتعزيةٌ للمظلوم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 83، 84).).

وقال: لو أنَّ أهلَ القرآن صلَحُوا لصَلَحَ الناس.

وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: حَدَّثَنَا عيسى بن سالم الثاشي، حَدَّثَنَا أبو الْمَليح قال: سمعتُ ميمون بن مِهْران يقول: لا خيرَ في الدنيا إلَّا لِرجلَيْن: رجل تائب - أو قال: يتوب - من الخطيئات؛ ورجل يعملُ في الدرجات (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 83)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 194).).

فلا خيرَ في العيش والبقاء في الدنيا إلَّا لهذَيْن الرجلَيْن؛ رجل يعملُ في الكفَّارات؛ ورجل يعملُ في الدرجات، وبقاءُ ما سواهما وبالٌ عليه.

وقال جعفر بن بُرْقان: سمعتُ ميمونَ بن مِهْران يقول: إنَّ هذا القرآن قد خُلق في صدور كثيرٍ من الناس، فالتَمسوا ما سواه من الأحاديث، وإنَّ فيمن يتبع هذا العلم قومًا يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا؛ ومنهم منْ يُريد أن يُماري به، وخيرُهم منْ يتعلَّمه ويُطيع اللهَ عز وجل به.

وقال: مَنِ اتَّبَعَ القرآن قادَهُ القرآنُ حتى يحلَّ به الجنة، ومنْ ترك القرآنَ لم يدَعْهُ القرآنُ يتَّبِعُه حتى يَقذِفَهُ في النار (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 84).).

وقال الإمامُ أحمد: حَدَّثَنَا خالد بن حيان، حدثنا جعفر بن بُرْقان، عن مَيمون بن مِهْران، قال: لا يَسْلمُ للرجلِ الحلالُ حتى يجعلَ بينهُ وبينَ الحَرَام حاجزًا من الحَلال (المصدر السابق.).

وقال ميمون: منْ كان يُريد أنْ يعلمَ ما مَنْزلتُهُ عندَ اللّه فَلْيَنظُرْ في عمَلِه، فإنه قادمٌ عليه كائنًا ما كان (المصدر السابق.).

وقال عبدُ الله بن أحمد بن حنبل: حَدَّثَنَا يحيى بن عثمان الحَرْبِي، حَدَّثَنَا أبو المَليح عن ميمون بن مِهْران قال: نظرَ رجلٌ من المهاجرينَ إلى رجل يُصلِّي، فأخفَّ (في (ق):"فأخفى"، والمثبت من الحلية (4/ 84) والخبر =

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فيه.) الصلاة فعاتَبهُ فقال: إني ذكرتُ ضيعةً لي. فقال: أكبرُ الضَّيعة أضعتَه.

وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الرَّسْعَني (في (ق): "الدسعني" وفي الحلية: "الرسغني"، وكلاهما تصحيف، والمثبت من تقريب التهذيب ص (141) في ترجمته.)، حَدَّثَنَا أبو جعفر النُّفيلي، حدّثنا عثمان بن عيد الرحمن، عن طلحة بن زيد، قال: قال ميمون: لا تعرفِ الأمير، ولا تعرفْ مَنْ يعرِفه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 85).).

وروَى عبد اللّه بن أحمد، عنه أيضًا، قال: لأنْ أُؤتَمَنَ على بيتِ مالٍ أحبُّ إليَّ منْ أنْ أؤتمنَ على امرأة (المصدر السابق.).

وقال أبو يعلى المَوْصلي: حَدَّثَنَا هاشم بن الحارث، حَدَّثَنَا أبو المليح الرَّقِّيّ، عن حبيب بن أبي مَرْزوق، قال: قال ميمون: وَدِدْتُ أنَّ إحدى عينيَّ ذهبَتْ وبقيتِ الأخرى أتَمَتَّعُ بها، وأني لم ألِ عملًا قطّ. قلتُ: ولا لِعُمَرَ بنِ عبدِ العزيز؛ قال: ولا لعمرَ بنِ عبد العزيز؛ لا خيرَ في العملِ لا لِعُمر، ولا لِغَيْرِه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 86).).

وقال أحمد: حَدَّثَنَا زيدُ بن الحُبَاب، حَدَّثَنَا سفيان، حَدَّثَنَا جعفر بن بُرْقان، عن ميمون بن مِهْران، قال: ما عرضتُ قولي على عمَلي إلَّا وجدتُ من نفسِي اعتِراضًا (المصدر السابق.).

وقال الطبراني: حَدَّثَنَا المِقْدام بن داود، حَدَّثَنَا على بنُ مَعْبد، حَدَّثَنَا خالد بن حيَّان، حَدَّثَنَا جعفر، عن ميمون، قال: قال لي مَيمون: قُلْ لي في وجهي ما أكره، فإنَّ الرجلَ لا يَنْصحُ أخاهُ حتى يقولَ لهُ في وجهِهِ ما يَكْرَه (المصدر السابق.).

وروى عبدُ الله بن أحمد، عنه، في قوله تعالى:{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3]، قال: تَخْفِضُ أقوامًا وترفَعُ آخرين (المصدر السابق.).

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدّثني عيسى بن سالم، حَدَّثَنَا أبو المَلِيح، حَدَّثَنَا بعضُ أصحابي قال: كنتُ أمشي مع مَيمون، فنظَرَ، فرأى عليَّ ثوْبَ كَتَّان، فقال: أمَا بلغَكَ أنَّه لا يَلْبسُ الكَتَّانَ إلَّا غَنِيٌّ أو غاوٍ (المصدر السابق.)؟.

وبهذا الإسناد، سمعتُ مَيْمون بنَ مِهْران يقول: أولُ منْ مَشَتِ الرِّجالُ معهُ وهو راكِبٌ الأشعثُ بن قيس الكِنْديّ، ولقد أدركتُ السَّلَفَ وهم إذا نظروا إلى رجلٍ راكبٍ ورجلٍ [ماشٍ] يحضُرُ معهُ قالوا: قاتله [اللّه]، جَبَّار (المصدر السابق، وما بين معقوفين منه.).

وقال عبد الله بن أحمد: بَلَغني عن عبد اللّه بن كريم بن حيان وقد رأيته، حَدَّثَنَا أبو المَليح، قال: قال ميمون: ما أُحبُّ أن لي ما بين بابِ الرُّهَا إلى حَوْران بخمسة دراهم. وقال ميمون: يقولُ أحدُهم: اجلِسْ في بيتك، وأغلقْ عليك بابَك، وانظُرْ هل يأتيكَ رِزْقُك؟ نعَمْ واللّه، لو كان له مثلُ يقينِ مَرْيمَ وإبراهيمَ عليه السلام، وأغلق عليه بابَه، وأرخَى عليه سِتْرَه لجاءَهُ رزقُه. وقال: لو أنَّ كل إنسانٍ مثا يتعاهدُ كَسْبَه، فلم يَكْسِبْ إلَّا طيِّبًا فأخرَجَ ما عليه، ما احتيجَ إلى الأغنياء، ولا احتاجَ الفقراء (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 87).).

وقال أبو المليح عن ميمون، قال: ما بَلَغني عن أخٍ لي مكروهٌ قطُّ إلَّا كانَ إسقاطُ المكروهِ عنه أحَبُّ إليَّ من تَخْفيفِهِ عليه؛ فإنْ قال: لم أقُلْ، كان قولُهُ: لم أقُلْ أحَبُّ إليَّ من ثمانيةٍ يشهدونَ عليه؛ فإنْ قال: قلتُ ولم يعتذِرْ أبغَضْتُهُ من حيثُ أحبَبْتُه.

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال: سمعتُ ابن عباس يقول: ما بَلغني عن أخٍ لي مكروهٌ قطُّ إلَّا أنزَلْتُه إحدى ثلاث منازِل: إنْ كان فَوْقي عرَفْتُ له قَدْرَه؛ وإنْ كان نَظيري تفضَّلْتُ عليه؛ وإنْ كانَ دُوني لم أحْفِلْ به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رَغبَ عنها فإنَّ أرضَ الله واسعة (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 85).).

وقال أبان بن أبي راشد القُشَيري: كنتُ إذا أردتُ الصائفةَ أتيتُ ميمونَ بن مِهْران أوَدِّعُه، فما يزيدُني على كلمتَيْن: اتَّقِ الله، ولا يغرَّنَّك طمعٌ ولا غَضَب (المصدر السابق، وفيه: "ولا يغيرك طمع .. ".).

وقال أبو المليح عن ميمون قال: العلماءُ هُمْ ضالَّتي في كلِّ بلدة، وهم أحِبَّتي في كل مِصْر، ووجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماء (المصدر السابق.).

وقال في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، قال: غُرَفًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 87).).

وقال: لأنْ أتصدَّقَ بدِرهم في حياتي أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بمئةِ درهم بعد موتي (المصدر السابق.).

وقال: كان يُقال: الذِّكْرُ ذِكْران: ذِكْرُ اللهِ باللسان، وأفضلُ من ذلك أنْ تذكرَهُ عند ما أحلَّ وحَرَّم، وعند المعصية، فتكفُّ عنها وقد أشرفتَ [عليها](المصدر السابق، ومابين معقوفين منه.).

وقال: ثلاثٌ الكافرُ والمؤمنُ فيهنَّ سواء: الأمانةُ تؤديها إلى مَنِ ائتمَنَكَ عليها منْ مسلم وكافر، وبرُّ الوالدَيْن وإنْ كانا كافرَيْن؛ والعَهْدُ تَفي بهِ للمؤمن والكافر (المصدر السابق.).

وقال أبو المليح (في (ق): "وقال صفوان عن خلف بن حوشب عن ميمون". والمثبت من مصادر التخريج.)، عن ميمون، قال: أدركتُ منْ لم يكنْ يملأُ عينيْهِ من السماء فَرَقًا من ربه عز وجل (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 88)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 194)، والذهبي في السير (5/ 77).).

وقال أحمد بن بَزيع: حَدَّثَنَا يعلى بن عُبيد، حَدَّثَنَا هارون أبو محمد البربري، أنَّ عمرَ بن عبدِ العزيز استعملَ مَيْمونَ بنَ مِهْران على الجزيرةِ وعلى قضائها وخراجِها؛ فمكثَ حِينًا، ثم كتب إلى عمر يستعفيهِ عن ذلك وقال: كلَّفْتَني ما لا أُطيق، أقْضي بين الناس وأنا شيخ كبير ضعيفٌ رَقيق. فكتب إليه عمر اجْبِ من الخراجِ الطَّيُب، واقضِ بما استبانَ لك، فإذا استبانَ لك، فإذا التبسَ عليكَ أمر فارْفَعْهُ إليّ، فإنَّ الناسَ لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دِينٌ ولا دُنيا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 88).).

قال قتيبة بنُ سعيد: حَدَّثَنَا كثير بن هشام، حَدَّثَنَا جعفر بن بُرْقان، قال: سمعتُ ميمونَ بن مِهْران يقول: إنَّ العبدَ إذا أذنبَ ذنبًا نُكتَ في قلبه نُكتة سوداء، فإذا تابَ مُحِيَتْ من قلبه، فتَرَى قلبَ المؤمن مَجْليًّا مثلَ المراَة، ما يأتيه الشيطانُ من ناحيه إِلَّا أبصرَه؛ وأَمَّا الذي يتتابعُ في الذنوب فإنه كلَّما أذنبَ نُكِتَتْ في قلبه نُكتة سوداء، حتى يسوَدَّ قلبُه، فلا يُبصِرُ الشيطانَ من أينَ يأتيه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 89).).

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عليُّ بن ثابت، حَدَّثَنَا جعفر، عن ميمون، قال: ما أقلَّ أكياسَ الناس! لا يُبصرُ الرجلُ أمرَه حتى ينظرَ إلى الناسِ وإلى ما أُمِروا به (في (ق): "ما أدوا به"، والمثبت من الحلية (4/ 89).)، وإلى ما قد أكبُّوا عليه من الدنيا، فيقوَل: ما هؤلاء إِلَّا أمثال الأباعر، لا همَّ لها إلَّا ما تجعلُ في أجوافِها، حتى إذا أبصرَ غفلَتهم، نظرَ إلى نفسِهِ فقال: والله إني لأُراني من شرِّهم بعيرًا واحدًا. وبهذا الإسناد عنه: ما مِنْ صدَقَةٍ أفضلَ من كلمةِ حَقٍّ عندَ إمامٍ جائر (المصدر السابق.).

وقال: لا تُعذِّبِ المملوكَ ولا تضرِبْهُ على كلِّ ذنب، ولكنِ احفَظْ ذلك له، فإذا عَصَى الهَ عز وجل فعاقِبْهُ على =

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= معصيةِ اللّه، وذَكِّرْهُ الذنوبَ التي أذنبَ بينك وبينه (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 88، 89).).

وقال قُتيبة: حَدَّثَنَا جعفر بن بُرْقان: سمعتُ مَيمون بن مِهْران يقول: لا يكونُ الرجلُ منَ المتَّقين حتى يُحاسبَ نفسَهُ أشدَّ من محاسبةِ الشَّريك شَرِيكَه، حتى يعلمَ من أين مَطْعَمُه؛ ومن أين مَشْربُه؟ [ومن أين مَلْبَسُه؟] أمِنْ حلالٍ ذلك أمْ من حرام (المصدر السابق ص (89).)؟.

وقال أبو زُرْعة الرازي (في (ق): "أبو زرعة الدارمي، والمثبت من الحلية.): حَدَّثَنَا سعيدُ بن حَفْص النُّفَيلي، حَدَّثَنَا أبو المليح عن ميمون، قال: الفاسقُ بمَنْزلةِ السَّبُع، فإذا كلمتَ فيه فخلَّيْتَ سبيلَهُ، فقد خَلَّيْتَ سَبُعًا على المسلمين (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 91).).

وقال جعفر بن بُرْقان: قلت لميمون بن مِهران: إنَّ فلانًا يستبطئُ نفسَهُ في زيارتِك، قال: إذا ثبتَتِ المودةُ في القلوب فلا بأسَ وإنْ طالَ المُكْثُ (المصدر السابق.).

وقال أحمد: حَدَّثَنَا مَيمون الرَّقِّي، حَدَّثَنَا الحسن أبو المَليح، عن مَيمون، قال: لا تَجِدُ غريمًا أهونَ عليك من بطنِكَ أو ظَهْرِك (المصدر السابق.).

وقال الإمام أحمد أيضًا: حَدَّثَنَا عبد اللّه بن مَيمون، حَدَّثَنَا الحسن، عن حَبيب بن أبي مَرْزوق، قال: رأيت على مَيمون جُبَّةَ صوفٍ تحتَ ثيابِه، فقلتُ له: ما هذا؟ قال: نعَمْ، فلا تُخبِرْ بِهِ أحدًا (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 91، 92).).

وقال عبد اللّه بن أحمد: حدّثي يحيى بن عثمان، حَدَّثَنَا أبو المليح عن ميمون، قال: منْ أساءَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا، ومنْ أساءَ علانيةً فَلْيَتُبْ علانيةً، فإنَّ اللّه يغفِرُ ولا يعيِّر، وإنَّ الناسَ يُعَيِّرونَ ولا يغفِرون (أخرجه أبو نعيم في الحلية (92/ 4).).

وقال جعفر: قال ميمون: في المال ثلاثُ آفات: إنْ نَجَا صاحبُه من واحدة لم ينْجُ من اثنتَيْن، وإنْ نَجَا من اثنتَيْن كان قَمِينًا أنْ لا يَنْجوَ من الثالثة، يَنبغي أنْ يكونَ حَلالًا طيِّبًا؛ فأيُّكمُ الذي يَسْلمُ كَسْبُه فلم يُدخِلْهُ إِلَّا طيِّبًا، فإنْ سَلِم من هذه فيَنبغي أنْ يؤديَ الحقوقَ التي تَلْزَمُهُ في مالِه؛ فإنْ سلم من هذه فينبغي أنْ يكونَ في نفَقَتِه لش بمُسْرفٍ ولا مُقَتِّر. وقال: سمعتُ ميمونًا يقول: أهونُ الصَّوم تَرْكُ الطعامِ والشراب (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 89، 90).).

وقال عبد اللّه بن أحمد: حَدَّثَنَا يحيى بن عثمان الحَرْبي، حَدَّثَنَا أبو المليح عن مَيمون بن مِهران، قال: ما نالَ رجلٌ من جَسيم الخير - نبيٌّ أو غيرُه - إلَّا بالصبر (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 90).).

وبهذا الإسناد قال: الدنيا حُلوة خَضِرَة، قد حُفَّتْ بالشهوات، والشيطانُ عدوٌّ حاضر، فيظنُّ (في الحلية:"فطن".) أنَّ أمْرَ الآخرة آجِل، وأمرَ الدنيا عاجل (المصدر السابق.).

وقال يونس بن عُبيدة: كان طاعونٌ قِبَلَ بلادِ مَيمون بن مِهران، فكتبتُ إليه أسألُهُ عن أهله، فكتب إلي: بلَغَني كتابُكَ تسألُني عن أهلي، هانَّه ماتَ من أهْلي وخاصَّتي سبعةَ عشرَ إنسانًا، وإني أكرهُ البلاءَ إذا أقبلَ، فإذا أدبر لم يَسُرَّني أنه لم يَسُرَّني أنه لم يكنْ؛ وأمَّا أنت، فعليك بكتابِ اللّه، فإن النَّاسَ قد بَهَوْا به - يعني أنِسُوا - واختاروا الأحاديثَ أحاديثَ الرجال؛ وإياك والمِرَاءَ في الدين. قال أبو عُبيد في الغريب (هو القاسم بن سلّام في كتابه غريب الحديث (4/ 473). وقد صُحفت العبارة في الحلية و (ق)، وأثبتُّ ما جاء في غريب الحديث.): بَهَؤوا بِه - مَهْموزًا - ومعناه أنِسُوا به.

وقال عمرو بن مَيمون: كنتُ مع أبي ونحنُ نطوفُ بالكعبة فلَقيَ أبي شيخٌ فعانقه، ومع الشيخ فَتًى نَحْوٌ مِنِّي. فقال =

ص: 163

نافع مولى ابن عمر

(1)

أبو عبد اللّه المدني: من بلاد المغرب، وقيل من نيسابور، وقيل من كابُل،

وقيل غيرُ ذلك.

= له أبي: منْ هذا؟ قال: ابني. قال: كيف رِضاكَ عنه؟ فقال: ما بَقيتْ خَصْلةٌ يا أبا أيُّوب من خصال الخير إلَّا وقد رأيتُها فيه إلَّا واحدة. قال: وما هي؟ قال: أنْ يموتَ فأُؤجَرَ فيه - أو قال: فاحتسبه - ثم فارَقَهُ أبي؛ فقلتُ منْ هذا الشيخ؟ فقال: مَكْحول (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 90، 91).).

وقال: شرُّ الناسِ العيَّابون، ولا يَلْبسُ الكَتَّانَ إلَّا غَنيٌّ أو غَوِيّ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 92).).

وروى الإمام أحمد عنه قال: يا بنَ آدم، خَفِّفْ عن ظَهرِك، فإنَّ ظهرَك لا يُطيقُ كل هذا الذي يَحْمِلُ مِنْ ظُلْم هذا، وأكْلِ مالِ هذا، وغَشْمِ هذا، وكل هذا على ظهرِك تَحْمِلُه، فخَففْ عن ظهرِك. وقال: إن أعمالَكُمْ قليلة فأخلِصُوا هذا القليل. وقال: ما أتَى قومٌ في نادِيهمُ المُنْكَرَ إلَّا حَقَّ هَلاكُهُمْ (المصدر السابق.).

وروى عبدُ اللّه بن أحمد عنه، أنَّه قرأ:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] ثم فارَقَ حتَّى بَكَى، ثم قال: ما سَمِعَ الخلائقُ بَنعْتِ أشدَّ منه (المصدر السابق، وفيه "بعتبٍ قط

".).

وقال أبو عوانة: ح إبراهيم (في (ق): "حَدَّثَنَا إبراهيم" وهو تحريف، هنا في إسناد أبي نعيم في الحلية علامة تحويل للسند، وما يأتي بين معقوفين منه يبين ذلك.) بن عبد اللّه، حدثنا محمد بن إسحاق، حَدَّثَنَا قُتيبة بن سعيد، حَدَّثَنَا خالد، [قالا]: عن حُصين بن عبد الرحمن، عن مَيمون، قال: أربعٌ لا تكلمَ فيهم: عليٌّ، وعثمان، والقدر، والنجوم (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 92.).).

وقال: احذروا كلَّ هوىً يسَمَّى بغيرِ الإسلام (المصدر السابق.).

وروَى شبَابةُ عن فرات بن السائب، قال: سألتُ ميمونَ: أعَلِيٌّ أفْضَلُ عندَك أمْ أبو بكرٍ وعمر؟ فارتعد حتى سقطَتْ عصاهُ من يدهِ، ثم قال: ما كنتُ أظُنُّ أنْ أبقَى إلى زمان يُعْدَلُ بهما غيرُهما، إنهما كانا رِدْأَيِ الإسلام، ورأسَ الإسلام، ورأسَ الجماعة. فقلتُ: فأبو بكرٍ كانَ أولَ إسلامًا أمْ علي؟ فقال: واللهِ لقد آمنَ أبو بكرٍ بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ بَحيرا الرَّاهب حين مَرَّ به، وكان أبو بكر هو الذي يختلفُ بينه وبينَ خَدِيجة، حتى أنْكَحَها إيَّاه، وذلك كُلُّه قَبْلَ أنْ يُولَدَ علي، وكان صاحبَهُ وصديقَهُ قبلَ ذلك (أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 92، 93).).

وروى مَيمون بن مِهران عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَلَّما يوجَدُ في آخر الزمان درهمٌ من حلال، أو أخٌ يُوثَقُ به"(أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 94)، وإسناده ضعيف.).

وروَى عن ابن عُمرَ أيضًا، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"شَرُّ المالِ في آخرِ الزمانِ المماليكُ"(أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 94) وهو حديث موضوع ساقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 235).).

وروى ابنُ أبي الدنيا عنه قال: مَنْ طلبَ مرضاةَ الإخوانِ بلا شيءٍ فَلْيصادِقْ أهلَ القبور.

وقال: من ظَلَمَ أحدًا ففاته أنْ يَخرُج من مَظْلِمَتِه، فاستغفر له دُبُرَ كل صلاةٍ، خَرَج من مَظْلِمَتِه، وهذا إنْ شاء الله يدخل فيه الأعراضُ والأموالُ وسائرُ المظالم.

وقال ميمون: القاتلُ والآمِرُ. والمأمورُ والظالِمُ والراضي بالظُّلم، كلُّهم في الوِزْرِ سَوَاء.

وقال: أفضلُ الصبرِ الصبرُ على ما تكرَهُ نفسُكَ من طاعةِ اللّهِ عز وجل.

روى مَيمون عن جماعةٍ من الصحابة، وكان يسكنُ الرَّقَّة. رحمه الله تعالى].

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (8/ 84)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 310)، الثقات لابن حبان (5/ 467)، الجرح والتعديل (8/ 451)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 123)، وفيات الأعيان (5/ 367)، سير أعلام =

ص: 164

روى عن مولاه عبد اللّه بن عمر، وجماعةٍ من الصحابة، مثل رافع بن خَدِيج، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأمِّ سَلَمة، وغيرِهم. ورَوَى عنه خَلْقٌ من التابعينَ وغييرهم، وكان من الثقاتِ النُّبَلاء، والأئمةِ الأجِلَّاء.

قال البخاري: أصَحُّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر

(1)

.

وقال غيرُه: كان عمرُ بن عبد العزيز قد بعثَهُ إلى مصر يعلِّمُ الناسَ السُّنن، وقد أثنى عليه غيرُ واحدٍ من الأئمة ووثَّقوه.

ومات في هذه السنة على المشهور.

ذو الرُّمَّة الشاعر

(2)

: واسمه غَيلان بن عُقْبَة بن بُهَيش

(3)

، من بني عبدِ مَنَاة بن أُدِّ بن طابخةَ بنِ إلْياس بن مُضَر، أبو الحارث، أحدُ فُحولِ الشعراء، وله ديوانٌ مشهور، وكان يتغزَّل في ميّ بنت مقاتل بن طِلْبة بن قيس بن عاصم المِنْقَري، وكانتْ جميلة، وكان هو دَمِيمَ الخَلق، أسودَ اللَّون، ولم يكنْ بينهما فُحْشٌ ولا خَنَا، ولم يكنْ رآها قطُ ولا رأَتْهُ، وإنما كانتْ تسمَعُ به ويَسمعُ بها. ويقال: إنَّها كانت تنذُرُ إنْ هي رأَتْهُ أنْ تذبح جَزُورًا، فلمّا رأْتُه قالتْ: واسوأتاه! ولم تُبدِ له وَجْهَها قَطُ إلَّا مرَّةً واحدة، فأنشأ يقول:

على وجهِ مَيٍّ لَمْحَةٌ من حلاوةٍ

وتحتَ الثيابِ العارُ لو كان بادِيَا

قال: فانسلخَتْ من ثيابها، فقال:

ألم ترَ أنَّ الماءَ يَخْبُثُ طَعمُهُ

وإنْ كان لونُ الماءِ أبيضَ صافِيَا

فقالت: تريدُ أنْ تذوقَ طعمَه؟ فقال: إي واللّه. فقالت: تذوقُ الموتَ قبلَ أنْ تذوقَه. فأنشأ يقول:

فوَاضَيعةَ الشعرِ الذي راحَ وانقضى

بِمَيٍّ ولم أملِكْ ضلالَ فؤادِيَا

(4)

قال ابن خَلِّكان

(5)

: ومن شعرهِ السائر بين الناس ما أنشده:

= النبلاء (5/ 95)، تدكرة الحفاظ (1/ 99)، العبر (1/ 147)، مرآة الجنان (1/ 251)، تهذيب التهذيب (12/ 414)، طبقات الحفاظ ص (47)، شذرات الذهب (1/ 154).

(1)

أخرجه البيهقيّ في السنن الكبرى (10/ 283)(21169)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 97).

(2)

ترجمته في طبقات فحول الشعراء (2/ 534)، الأغاني (5/ 18)، المنتظم (7/ 72)، وفيات الأعيان (4/ 11)، سير أعلام النبلاء (5/ 267) نزهة الألباب (291)، الإكمال (1/ 376)، النجوم الزاهرة (1/ 248).

(3)

صُحِّف اسمه في الأصول كلها، والحبت من مصادر ترجمته.

(4)

أخرجه أبو الفرج الأصبهاني بنحوه في الأغاني (18/ 32).

(5)

في كتابه وفيات الأعيان (4/ 13).

ص: 165

إذا هبت الأرياحُ من نحوِ جانبٍ

بهِ أهلُ مَيٍّ هاجَ شَوْقِي هُبوبُها

هَوًى تَذْرِفُ العَيْنانِ منه وإنما

هَوَى كلِّ نفسِ أينَ حَلَّ حَبِيبُها

(1)

‌ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومئة

فيها غزا معاويةُ وسليمانُ ابنا أميرِ المؤمنين هشامِ بن عبد الملك بلادَ الرُّوم. وفيها قصَدَ شخصٌ يُقال له عمار بن يزيد، ثم تَسَمَّى بِخِدَاش إلى بلادِ خُراسان، ودعا الناسَ إلى خلافةِ محمدِ بنِ علي بن عبد اللّه بن عباس، فاستجابَ لَهُ خَلْقٌ كثير، فلما التفُّوا عليه دعاهم إلى مَذْهَبِ الخُرَّمِيَّةِ الزنادقة

(2)

وأباح لهم نساءَ بعضِهم بعضًا، وزعم لهم أنَّ محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذَبَ عليه، فأظهر اللّه عليه الدولةَ فأُخذ فجيءَ به إلى خالد بن عبد اللّه القَسْري أميرِ العراق وخُراسان، فامر به فقُطعَتْ يدُه، وسُلَّ

(3)

لسانُه، ثم صُلب بعدَ ذلك

(4)

.

وفيها حجَّ بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، أمير المدينة ومكة والطائف.

وقيل إنَّ إمْرَةَ المدينة كانتْ مع خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، والصحيح أنه كان قد عُزل ووُلِّي مكانَهُ محمد بن هشام بن إسماعيل، وكانتْ إمْرَةُ العراق إلى خالد بن عبد اللّه القَسْري، ونائبه على خراسان وأعمالها أخوهُ أسد بن عبد الله القسري.

وفيها كانت وَفَاةُ:

عليِّ بنِ عبدِ اللّهِ بنِ عباس

(5)

بن عبد المطلب: القرشيُّ الهاشميُّ أبو الحسن، ويُقال أبو محمد، وأمُّه

(1)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي:

[وأنشدَ عند الموت:

يا قابض الرُّوح في جسمي إذا احتُضِرَتْ

وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عن النَّارِ]

(2)

الخُرَّمِيَّة: وخُرَم: لفظ أعجمي يُنبي عن الشيء المستلَذّ المستطاب، الذي يرتاح الإنسان له، ومقصود هذا الاسم تسليطُ اللسانِ على اتباع اللذّات وطلب الشهوات كيف كانتْ، وطيُّ بساطِ التكليف، وحطُّ أعباء الشرع عن العِبَاد. وقد كان هذا الاسم لقبًا للمَزْدَكية، وهم أهلُ الإباحةِ من المجوس الذين اتبعوا في أيام قُبَاذ، وأباحوا النساء المحرّمات، وأحلّوا كل محظور، فسُمُّوا هؤلاء بهذا الاسم لمشابهتهم إياهم في نهاية هذا المذهب وإن خالفوهم في مقدماته. تلبيس إبليس ص (128).

(3)

في (ح): "وانتثل"، وفي (ب): و "وأرسل"، والمثبت من (ق).

(4)

انظر تاريخ الطبري (4/ 164) في حوادث هذه السنة.

(5)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 312)، طبقات خليفة (239 و 255)، تاريخ خليفة (199 و 349)، التاريخ الكبير (6/ 282)، المعرفة والتاريخ (2/ 381)، تاريخ أبي زرعة الدمشقي (2/ 713)، الكامل للمبرد =

ص: 166

زرْعَة بنتُ مِشْرَح بن مَعْدِيْكَرِب الكِنْدي أحد مُلوك الأربعةِ الأقيال، المذكور في الحديث الذي رواه أحمد، وهم مِشْرَح وجَمْد ومِخْوَس وأبْضَعَة

(1)

وأختهم العَمَرَّدة، وكان مَوْلد عليٍّ هذا يومَ قُتل عليُّ بنُ أبي طالب، فسماه أبوهُ باسمِه، وكنَّاهُ بكنيتِه، وقيل: إنه وُلد في حياةِ عليّ، وهو الذي سمّاه وكنَّاه ولقَّبَهُ بأبي الأملاك، فلمَّا وَفَدَ على عبدِ الملك بنِ مروان أجلَسَه معه على السَّرير، وسألهُ عن اسِمه وكنيتِه، فأخبره، فقال له: ألَكَ ولد؟ قال: نعم، وُلد لي ولد سَمَّيتُه محمدًا. فقال له: أنت أبو محمد، وأجْزَلَ عطيتَه، وأحسَنَ إليه، وقد كان هذا في غايةِ العبادةِ والزهادةِ والعِلم والعمَل، وحُسنِ الشَّكْلِ والعدالةِ والثِّقَة، وكانَ يُصَلِّي في كلِّ يومٍ وليلةٍ ألف رَكْعَةٍ.

قال عمرو بن علي الفَلَّاس: كان من خيرِ الناس، وكانت وفاتُه بالحُمَيْمَة من أرض الشَّرَاة

(2)

، في هذه السنة وقد قارب الثمانين.

وقد ذكر ابن خَلِّكان

(3)

أنه تزوَّجَ لُبَابة بنتَ عبدِ الله بن جعفر التي كانتْ تحتَ عبدِ الملك بن مروان فطلَّقها، وكان سببُ طلاقِهِ إياها أنَّه عَضَّ تفاحةً ثم رَمَى بها إليها، فأخذَتِ السِّكِّينَ فحزَّتْ من التفاحةِ ما مَسَّ فمَهُ منها فقال: ولمَ تفعلين هذا؟ قالت: أزِيلُ الأذَى عنها. وذلك لأنَّ عبدَ الملك كان أبْخَر، فطلَّقها عبدُ الملك، فلما تزوَّجها عليُّ بن عبد الله بن عباس هذا نَقَم عليه الوليدُ بن عبدِ الملك لأجلِ ذلك، فضرَبَهُ بالسِّيَاط وقال: إنما أرَدْتَ أن تُذِلَّ بنيها من الخلفاء، وضربه مرَّةً ثانيةً لأنه اشتهر عنه أنه قال: الخلافةُ صائرةٌ إلى بيتِه. فوقع الأمرُ كذلك.

وذكر المُبَرِّد

(4)

أنَّه دخلَ على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه السَّفَّاح والمنصور، وهما صغيران، فأكرَمَهُ

= (124، 327، 756)، الجرح والتعديل (6/ 192)، الثقات لابن حبان (5/ 160)، حلية الأولياء (3/ 207)، تاريخ مدينة دمشق (12/ 226) ب، صفة الصفوة (2/ 107)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 63)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 350)، وفيات الأعيان (3/ 274)، مختصر تاريخ دمشق (18/ 117)، تهذيب الكمال (21/ 35)، سير أعلام النبلاء (5/ 252 و 284)، تهذيب التهذيب (7/ 357)، شذرات الذهب (1/ 148).

(1)

هذه الأسماء صُحّفت في الأصول، فأثبتنا ما في الإكمال لابن ماكولا (2/ 541 و 7/ 175 و 194) وغيره من كتب الضبط.

(2)

في (ق): "بالجهمة من أرض البلقاء"، وهو تصحيف ما عدا "البلقاء"، لأن البلقاء هي مدينة الشراة كما في معجم البلدان (1/ 489)، والحُمَيْمَة - كما جاء تعريفها في معجم البلدان أيضًا (2/ 307) -: بلفظ تصغير الحُمَة، بلد من أرض الشراة من أعمال عمان في أطراف الشام كانتْ مَنزِلَ بني العباس.

(3)

في كتابه وفيات الأعيان (3/ 275).

(4)

في كتابه الكامل (2/ 758)، والنص هنا منقول بألفاظ مقاربة.

ص: 167

هشامٌ وأَدْنَى مجلسَه، وأطْلَقَ له مئةً وثلاثين ألْفًا

(1)

، وجعل عليُّ بنُ عبد الله يُوصيِه بابنَيْه خَيْرًا، ويقول: إنَّهما سيليانِ الأمر، فجعل هشامٌ يتعجَّبُ من سلامةِ باطنِه، وينسُبُه في ذلك إلى الحُمْق! فوَقَع الأمرُ كما قال.

قالوا: وقد كان عليٌّ في غايةِ الجمال، وتمام القامة، كان بين الناس كأنَّه راكبٌ، وكان إلى مَنْكِبِ أبيه عبدِ الله، وكان عبدُ اللّه إلى مَنْكِبِ أبيه العباس، وكان العباسُ إلى مَنْكِبِ أبيه عبد المطلب، وقد بايع كثيرٌ من الناس لابنهِ محمدٍ بالخلافة قبلَ أن يموتَ عليٌّ هذا قبلَ هذه السنة بسنوات، ولكنْ لم يظهرْ أمرُهُ حتى مات، فقام بالأمرِ مِنْ بعدِه ولَدُه عبدُ الله أبو العباس السفَّاح، وكان ظهورُه في سنةِ اثنتين وثلاثين كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

وممن تُوفِّي في هذه السنة:

عمرو بن شُعيب.

وعُبَادَة بن نُسَيّ.

وأبو صخرة جامعُ بن شدَّاد.

وأبو عياش المعافري.

‌ثم دخلت سنة تسع عشرة ومئة

ففيها غزا الوليد بن القعقاع العَبْسي أرضَ الروم، وفيها قتل أسَدُ بن عبد الله القَسْريُّ مَلِكَ التُّرْكِ الأعظم خاقان، وكان سببَ ذلك أَنَّ أسَدَ بن عبد الله أميرَ خُراسان عَمِلَ نيابةً عن أخيه خالد بن عبد الله على العراق، ثم سار بجيوشهِ إلى مدينةِ خُتَّل

(2)

فافتتحها وتفرَّقتْ في أرضها جنودُه يقتلون ويأْسِرون ويغنمون، فجاءتِ العيونُ إلى ملك الترك خاقان، أنَّ جيشَ أسد قد تفرَّقَ في بلاد خُتَّل، فاغتنم خاقانُ هذه الفرصة، فركب من فَوْرِهِ في جنودِهِ قاصدًا إلى أسد، وتزوَّدَ خاقانُ وأصحابُه سلاحًا كثيرًا وَقَدِيدًا ومِلْحًا، وساروا في خَلْقٍ عظيم. وجاءتِ العين الصافيةُ إلى أسد، فاعلمَتْهُ بقَصْدِ خاقانَ له في جيشٍ عظيمٍ كثيف، فتجهَّزَ لذلك، وأخذَ أُهْبَتَه، وأرسلَ من فَوْرِهِ إلى أطرافِ جيشهِ، فلَمَّها وأشاع بعضُ الناس أنَّ خاقانَ قد هَجَمَ على أسَدِ بن عبد الله فقتَلَهُ وأصحابَه، ليحصلَ بذلك خِذْلانٌ لأصحابِهِ فلا يجتمعونَ

(1)

الذي في الكامل: "ثلاثون ألف درهم".

(2)

خُتَّل - بضم أوله وتشديد ثانيه وفتحه - كورة واسعة كثيرة المدن، على تخوم السند يقال لقصبتها هلبك. قال الإصطخري: أول كورةٍ على جيحون من وراء النهر الختل والوخش، وهما كورتان، غير أنهما مجموعتان في عمل واحد، انظر معجم البلدان (2/ 346).

ص: 168

إليه، فرَدَّ اللّه كيدَهُمْ في نحورِهم، وجعل تدميرَهم في تدبيرِهم، وذلك أنَّ المسلمينَ لَمّا سمعوا بذلك أخذَتْهُمْ حَمِيَّةُ الإسلام وازدادوا حَنَقًا على عدوِّهم، وعَزَموا على الأخْذِ بالثأر، فقصدوا الموضعَ الذي فيه أسَد، فإذا هو حَيّ، قد اجتمعتْ عليه العساكرُ من كلِّ جانب، وسار أسَدٌ نحوَ خاقان، حتى أتى جبل المِلْح، وأراد أنْ يخوضَ نَهرَ بَلْخ، وكان معهم أغنامٌ كثيرة، فكَرِه أسَدٌ أنْ يتركَها وراءَ ظهرِه، فأمر كلَّ فارِسٍ أنْ يحمِلَ بين يديه شاةً وعلى عُنُقِهِ شاة، وتوعَّدَ منْ لم يفعلْ ذلك بقَطْع اليد، وحَمَل هو معه شاةً، وخاضوا النهر، فما خلَصُوا منه جيدًا حتى دَهِمَهُم خاقانُ من ورائهم في خيلٍ دُهْم، فقتلوا مَنْ وجدوه لم يقطَعِ النهرَ وبعضَ الضَّعَفَة، فلما وقفوا على حافةِ النهر أحجموا وظَنَّ المسلمون أنَّهم لا يقطعون إليهم النهر، فتشاور الأثراكُ فيما بينهم ثم اتفقوا على أنْ يحمِلوا حملةً واحدة، وكانوا خمسين ألفًا، فيقتحمون النهر فضربوا بكُوساتِهم

(1)

ضربًا شديدًا حتى ظنَّ المسلمون أنَّهم معهم في عسكرِهم، ثم رَمَوا بأنفسِهم في النهر رَمْيَةَ رجلٍ واحد، فجعلَتْ خيولهُم تَنْخُرُ أشدَّ النَّخِيرِ، وخرجوا منه إلى ناحيةِ المسلمين، فثبتَ المسلمونَ في معسكرِهم، وكانوا قد خَنْدَقوا حولَهم خندقًا لا يَخلُصون إليهم منه، فباتَ الجيشانِ تتراءى ناراهما، فلما أصبحا مالَ خاقان على بعض الجيوش، فَقَتلَ منهم خَلقًا، وأسَرَ أُمَمًا، وأخَذَ أموالًا كثيرة وإبلًا مُوقَرَة، ثم إنَّ الجيشَيْنِ تواجهوا في يوم عيدِ الفِطْر، حتى خاف جيشُ أسَدٍ أنْ لا يُصَلُّوا صلاةَ العِيد، فما صلَّوها إلَّا على وَجَل، ثم سار أسَدٌ بِمَنْ معه حتى نزلَ مَرْجَ بلخ، حتى انقَضَى الشتاء، فلما كان يومُ عيدِ الأضحى خَطَبَ أسَد الناس واستشارَهم في الذهاب إلى مَرْو أو في لقاء خاقان، أو في التحَصُّنِ ببَلْخ، فمنهم مَنْ قال نتحصَّنُ ببلخ، ونبعثُ إلى خالدٍ والخليفة، ومن قائل يشير بالذهابِ إلى مَرْوٍ، وأشار آخرون بِمُلتقاه والتوكُّلِ على اللّه، فوافق ذلك رأيَ أسَدٍ الأسَدّ، فقَصَد بجيشِهِ نحوَ خاقان، وصلَّى بالناسِ ركعَتيْنِ أطالَ فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نُصرتُمْ إن شاء اللّه - ثلاثًا. ثم سار بِمَنْ معه من المسلمين، فالتقَتْ مقدِّمَتُهُ بمقدِّمةِ خافان، فقَتَل المسلمون منهم بشرًا كثيرًا، وأسروا أميرَهم، وسبعةً معه، ثم ساق أسدٌ فانتهى إلى أغنامِهم، فاستاقها فإذا هي مئةُ ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معَهم، وكان خاقانُ في هذا اليوم إنما معه أربعةُ آلاف أو نحوُها ومعه رجلٌ من العرَب قد خَامرَ إليه يقالُ له الحارث بن شُرَيح، فهو يدُلُّه على عَوْراتِ المسلمين، فلما أقبَلَ الناسُ هَرَبتِ الأتراك في كلِّ جانب، وانهزم خاقانُ ومعه الحارث بنُ شريح يحمِّيه ويُثبِّتُه، فتبعَهم أسد فلمَّا كان عندَ الظهيرة انخذلَ خاقانُ في أربعِمئةٍ من أصحابهِ، عليهمُ الخَزّ، ومعَهم الكُوسات

(2)

فلما أدركَهُ المسلمون أمرَ بالكوساتِ فضُربَتْ ضربًا شديدًا ضَرْبَ الانصرافِ ثلاثَ مرَّات، فلم يستطيعوا الانصراف، فتقدَّم المسلمون فاحتاطوا على مُعسكرِهم فاحتازوه بما فيه من الأمتعةِ العَظيمة، والأواني من الذهب

(1)

الكوسات: مفردها كُوس، بالضم، الطَّبْل. ويقال: هو معرَّب. لسان الحرب (كوس).

(2)

تقدم شرح معناها في الحاشية السابقة.

ص: 169

والفِضَّة، والنساء والصِّبْيانِ من الأتراك ومَنْ معَهم من الأسارى، من المسلماتِ وغيرِهم مما لا يُحَدُّ ولا يُوصَف لِكثْرَتِه، وعِظَمِ قِيمَتِهِ وحُسْنِه، غيرَ أنَّ خاقان لَمَّا أحَسنَ بالهلاك ضرَب امرأتَهُ بخِنجَرٍ فقتَلَها، فوصل المسلمون إلى المعسكر وهي في آخرِ رَمَق، تتحرَّك. ووجدوا قدورَهُم تغلي بأطعِماتِهم، وهرب خاقانُ بمَنْ معه، حتى دخل بعضَ المدن فتحصَّنَ بِها، فاتَّفَق أنه لعب بالنَّرد مع بعضِ الأمراءِ فَغَلبه الأمير، فتوَعَّدَه خاقانُ بقطعِ اليد، فَحَنِقَ عليه ذلك الأمير، ثم عَمِلَ على قتله فَقَتله، وتفرَّقَتِ الأتراكُ فِرَقًا يَعْدو بعضُهم على بعض، وينهَبُ بعضُهم بعضًا، وبعثَ أسَد إلى أخيه خالد يُعلِمه بما وقع من النصر والظَّفَرِ بخاقان، وبعث إليه بطبول خاقان، وكانتْ كِبارًا لها أصواتٌ كالرَّعْد وبشيءٍ كثيرٍ من حَوَاصله وأمتعتِه فَوَفدَ بها خالدٌ إلى أمير المؤمنين هشام، ففَرِح بذلك فرحًا شديدًا، وأطلقَ للرُّسُلِ أموالًا جَزِيلة كثيرة من بيتِ المال. وقد قال بعضُ الشعراء في أسَدٍ يَمْدَحُه على ذلك:

لو سرتَ في الأرضِ تَقِيسُ الأرضا

تبينُ منها طولَها والعَرْضَا

لم تلقَ خيرًا إمْرَة ونقضا

من الأميرِ أسدٍ وأمْضَى

أفضى إلينا الخيرَ حتى أفضَى

وجمَعَ الشَّمْلَ وكان ارْفَضَّا

ما فاتَهُ خاقانُ إِلَّا رَكْضَا

قد فَضَّ من جموعِهِ ما فَضَّا

يابنَ شُريحٍ قد لَقِيتَ حَمْضَا

حمْضًا به تَشفِي صُدَاع المَرْضَى

وفيها قتل خالدُ بن عبدِ الله القسري المغيرةَ بن سعيد وجماعةً من أصحَابِهِ الذين تابعوهُ على باطِله، وكان هذا الرجلُ ساحرًا فاجرًا شِيعِيًّا خَبِيثًا.

قال ابنُ جرير

(1)

: حَدَّثَنَا ابنُ حُميد، حَدَّثَنَا جرير عن الأعمش قال: سمعتُ المغيرةَ بنَ سعيد يقول: لو أرادَ عليٌّ

(2)

أنْ يُحيى عادًا وثمودَ وقُرونًا لأحياهم. قال الأعمش: وكان المغيرةُ هذا يَخرجُ إلى المَقْبُرَةِ فيتكلّم فيرَى مثلَ الجَرَاد على القبور أو نحو هذا من الكلام.

وذكر ابنُ جَرِيرِ له غيرَ ذلك من الأحوال

(3)

التي تدلُّ على سِحْرِه وفُجورِه، ولما بلغ خالدًا أمرُه أمرَ بإحضاره، فجيء به في ستةِ نفر أو سبعةِ نفر، فأمر خالد فأبرزَ سريره إلى المسجد، وأمرَ بإحضار أطنانِ

(4)

القَصَب والنِّفط فصُبَّ فوقها، وأمَر المغيرةَ أنْ يحتضنَ طنًّا منها فامتنع، فضُرب حتى احتَضَن منها واحدًا وصُبَّ فوقَ رأسِه النِّفط، ثم أُضرم بالنار، وكذلك فعل ببقيَّة أصحابه.

وفي هذه السنة خرج رجلٌ يُقال له بهلول بن بشر، ويُلَقَّب بكثارة، واتبعه جماعاتٌ من الخوارج دون

(1)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 174).

(2)

سقطت كلمة "علي" من تاريخ الطبري، و (ق)، وهي مثبتة في (ب، ح).

(3)

في (ق) الأشياء، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في (ق): "أطناب" والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري (4/ 175).

ص: 170

المئة، وأمرهمِ أن يقتلوا خالدًا القَسْري، فبعث إليهم البُعوث، فكسروا الجيوش واستفحل أمرُهم جدًّا لشجاعتهم وجلدِهم، وقلةِ نُصح من يقاتلُهم من الجيوش، فردُّوا العساكرَ من الألوفِ المؤلَّفة ذواتِ الأسلحةِ والخيل المسوَّمة، هذا وهم لم يبلغوا المئة، ثم إنَّهم راموا قدومَ الشام لقَتْلِ الخليفة هشام فصَمَدوا

(1)

نحوَها، فاعترضهم جيشٌ بأرضِ الجزيرة، فاقتَتَلوا معهم قتالًا عظيمًا، وقُتل عامَّةُ أصحابِ بُهلول الخارجي، ثم إنَّ رجلًا من جَدِيلةَ يُكْنَى أبا الموت، ضرَبَ بُهلولًا ضربةً فصَرَعه، وتفرَّقَتْ عنه بقيةُ أصحابه، وكان جميعُهم سبعين رجلًا، وقد رثاهُمْ بعض أصحابِهم فقال:

بدلت بعد أبي بشر وصحبته

قومًا علي مع الأحزابِ أعوانا

بانوا كأنْ لم يكونوا من صحابَتِنا

ولم يكونوا لنا بالأمْسِ خِلَّانا

يا عينُ أذْرِي دموعًا منكِ تهتانًا

وابكي لنا صُحبةً بانُوا وجيرانا

خَلُّوا لنا ظاهرَ الدنيا وباطنَها

وأصبحوا في جِنانِ الخُلْدِ جِيرانا

(2)

ثم تجمَّع طائفةٌ منهم أخرى على بعضِ أُمرائهم فقاتلوا وقُتلوا، وجهَّزَ إليهم خالدٌ الجيوش، ولم يَزلْ حتى أباد خضراءَهم، ولم يبق لهم باقية.

وفيها غزا أسَدٌ القَسْريُّ بلادَ التُّرك، فعرض عليه مَلِكُهم بدر طُرْخان ألف ألف فلم يقبَلْ منه شيئًا، وأخَذَهُ قَهْرًا فقتلَهُ صبرًا بين يديه، وأخذَ مدينتَه وقلعتَه، وحَوَاصلَهُ ونساءَه وأموالهُ وأملاكَه.

وفيها خرج الصَّحاريُّ بن شَبِيب الخارجي، واتبعه طائفةٌ قليلة نحوٌ من ثلاثينَ رجلًا، فبعث إليهم خالدٌ القَسْري جُندًا، فقتلوهُ وجميعَ أصحابه، فلم يتركوا منهم رجلًا واحدًا.

وحجَّ بالناسِ في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحجَّ معه ابنُ شهابٍ الزُّهْرِيّ ليُعَلِّمهُ مناسكَ الحَجِّ وشؤونه، وكان أميرُ مكةَ والمدينةِ والطائفِ محمدَ بن هشام بن إسماعيل، وأميرُ العراق والمشرق بكمالِه خالد بن عبد الله القسري، ونائبه على خُراسان بكمالِها أخوهُ أسد بن عبد الله القسري، وقد قيل؛ إنَّه تُوفي في هذه السنة، وقيل في سنةِ عشرين. فالله أعلم. ونائبُ أرْمِيِنيةَ وأذْرَبيجان مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار. والله أعلم.

‌سنة عشرين ومئة من الهجرة

فيها غزا سُليمان بن هشام بن عبد الملك بلادَ الروم وافتتح هنالكَ حُصونًا.

وفيها غزا إسحاق بن مسلم العُقيلي تومان فماه وافتتحها وخرَّب أراضيَها.

(1)

في (ق): "فقصدوا" والمثبت من (ب، ح) وهما بمعنى.

(2)

الخبر والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 177).

ص: 171

وفيها غزا مروانُ بن محمد الحمار بلادَ الترك.

وفيها كانتْ وفاةُ أسد بن عبد الله القَسْري أمير خُراسان وأعمالها، نيابةً عن أخيه خالد بن عبد الله، وكانتْ وفاته بسببِ أنَّه كانتْ لهُ دُبيلة في جَوْفِه، فلما كان مِهْرجانُ هذه السنة قَدِمَتِ الدَّهاقينُ - وهم امراء المدن الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتُّحَف على أسَد، وكان فيمن قَدِم نائبُ هَرَاةَ ودِهْقانُها واسم دهقانها خُراسان شاه، فقَدِمَ بِهدايا عظيمة، وتُحَفٍ عَزيزة

(1)

، وكان من جُملةِ ذلك قصرٌ من ذهب، وقصر من فِضَّة، وأباريق من ذهب، وصِحَاف من ذهبٍ وفِضة، وتفاصيلَ من حَريرِ تلك البلاد، ألوان ملونة

(2)

، فوَضع ذلك كُلَّه بين يدَيْ أسد، حتى امتلأ المجلس، ثم قام الدِّهْقانُ خَطِيبًا، فامتدح أسَدًا بخصالٍ حسَنة، على عَقْلِه ورِياسَتِه وعَدْلِه، ومَنْعِه أهلَهُ وخاصَّتهُ أن يظلِمُوا أحدًا من الرَّعَايا بشيء قَل أو كَثُر، وأنه قهر الخاقان الأعظم، وكان في مئة ألف فكسرَهُ وقتَلَه، وأنَّهُ يَفرَحُ بما يَفِدُ إليه من الأموال، وهو بما خرج من عِندِه أفرَحُ وأشدُّ سُرورًا، فأثنى عليه أسَد، وأجلَسَهُ، ثم فَرَّقَ أسَدٌ جميعَ تلك الهدايا والأموال، وما هناك أجمَع على الأمراء والأكابرِ بين يديه، حتى لم يبقَ منه شيء، ثم قام من مجلسِه وهو عليلٌ من تلك الدُّبَيْلة، ثم أفاقَ إفاقةً وجيء بهديَّةِ كُمَّثرَى، فجعل يفرِّقُها على الحاضرينَ واحدة واحدة، فألقَى إلى دِهْقانِ خُراسانَ واحدة، فانفجرَت دُبَيْلَتُه، وكان فيها حَتْفُه، واستخلف على عملهِ جعفرَ بن حَنْظَلَةَ البَهْراني، فمكثَ أميرًا أربعةَ أشهر، حتى جاء عَهْدُ نصرِ بن سَيَّار في رجبٍ منها، فعلى هذا تكونُ وفاةُ أسدٍ في صفَر من هذه السنة، وقد قال ابنُ عرس العَبْدي يرثيه:

نَعَى أسدَ بنَ عبد الله ناعِ

فرِيعَ القلب للمَلِكِ المُطَاعِ

بِبلْخٍ وافَقَ المقدار

(3)

يسري .... وما لقضاء رَبِّكَ من دِفَاعِ

فجودي عينُ بالعَبَراتِ سَحًّا

ألم يَحْزُنْكِ تَفْرِيقُ الجِمَاعِ

أتاهُ حِمَامُهُ في جَوْفِ صِيْغٍ

(4)

وكم بالصِّيغِ من بطلٍ شُجاعِ

كتائبُ قد يُجيبونَ المنادي

على جُردٍ مُسَوَّمَةٍ سِرَاع

سُقيتَ الغَيْثَ إنَّكَ كُنتَ غَيْثًا

مَرِيعًا عند مُرْتادِ النِّجَاعِ

وفيها عزل هشامٌ خالدَ بنَ عبدِ الله القَسْري عن نيابةِ العراق، وذلك أنَّه انحصرَ منه، لما كان يَبْلُغه من

إطلاقِ عبارةٍ فيه، وأنه كان يقول عنه: ابن الحمقاء، وكتب إليه كتابًا فيه غِلْظة، فردَّ عليه هشامٌ ردًّا

(1)

في (ح): "غزيرة"، والمثبت من (ب، ق).

(2)

"ألوان ملونة" ليست في (ب، ح).

(3)

في (ب، ح): "المرار".

(4)

صيغ - بالكسر ثم السكون وآخره غين معجمة بلفظ لم يسم فاعله من ماضي صاغ يصوغ -: ناحيةٌ من نواحي خُراسان. قال ياقوت: كان بها مَهْلِكُ أسد بن عبد اللّه القسري. معجم البلدان (3/ 439).

ص: 172

عَنِيفًا. ويقال: إنَّه حسَدَه على سَعَةِ ما حَصَل له من الأموال والحواصل والغَلَّات، حتى قيل إنه كان دَخْلُه في كلِّ سنةٍ ثلاثةَ عشرَ ألف ألف دينار، وقيل: دِرْهَم. ولولدِه يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف. وقيل إنه وفَد إليه رجلٌ من ألزامِ أمير المؤمنين من قريش يقالُ له ابنَ عمرو، فلم يُرِحِّبْ به ولم يَعْبأ به، فكتب إليه هشامٌ يُعنِّفُه ويُبَكِّتُه على ذلك، وأنَّه حالَ وصولِ هذا الكتاب إليه يقومُ مِن فوْرِهِ بِمَنْ حَوْلَه من أهلِ مجلسِه، فينطلق علىِ قدمَيْهِ حتى يأتيَ بابَ ابن عمرو صاغرًا ذليلًا مستأذنًا عليه، متنصِّلا إليه مما وقع، فإن أذِنَ لك، وإلَّا فقِفْ على بابِه حَوْلًا غيرَ مُتَحَلِّلٍ من مكانِكَ ولا زائل، ثم أمْرُكَ إليه إنْ شاء عزلك، وإن شاء أبْقاك، وإن شاء انتصر، وإنْ شاء عَفَا، وكتب إلى ابن عمرٍو يُعلِمُه بما كثب إلى خالد، وأمَرَهُ إنْ وقف بين يديه أنْ يَضْربَهُ عشرين سَوْطًا على رأسه إنْ رأى ذلك مصلحة.

ثم إنَّ هشامًا عزَلَ خالدًا وأخفَى ذلك، وبعث البريدَ إلى نائبهِ على اليَمن، وهو يوسف بن عمر، فولَّاهُ إمْرَةَ العراق، وأمَرَهُ بالمَسيرِ إليها والقدومِ عليها في ثلاثينَ راكبًا، فقدموا الكوفة وقت السَّحَر، فدخلوها، فلما أذَّنَ المؤذَنُ أمَرَهُ يوسفُ بالإقامة، فقال: إلى أنْ يأتيَ الإمامُ - يعني خالدًا - فانتهرَهُ، وأمرَهُ بالإقامة، وتقدَّمَ يوسفُ فصلَّى وقرأ:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، و {سَأَلَ سَائِلٌ} ثم انصرف، فبعثَ إلى خالدٍ وطارقٍ وأصحابِهما فأُحضِروا، فأخذ منهم أموالًا كثيرة، صادَرَ خالدًا بمئة ألف ألف دِرْهَم.

وكانتْ وِلايةُ خالدٍ على العراق في شوالَ سنةَ خمسين ومئة، وعزل عنها في جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة عشرين ومئة، وفي هذا الشهر قَدِمَ يوسفُ بنُ عمر على ولاية العراق مكانَ خالد بن عبد اللّه القسري، واستنابَ على خُراسان جُدَيْع بن علي الكَرْماني، وعَزَل جعفرَ بن حَنْظلةَ الذي كان استنابَهُ أسَد، ثم إنَّ يوسف بن عمر عزل جُدَيعًا في هذه السنة عن خُراسان وولَّى عليها نَصْرَ بن سَيار، وذهب جميعُ ما كان اقتناهُ وحَصَّلَهُ خالدٌ من العَقَار والأملاك وَهْلَةً واحدة، وقد كان أشار عليه بعضُ أصحابِه لما بلغهم عَتْبُ هشامٍ عليه، أنْ يبعثَ إليه يعرِضُ عليه بعضَ أملاكِه، فما أحَبَّ منها أخَذَه، وما شاء تَرَك، وقالوا له: لأنْ يذهبَ البعضُ ويبقَى البعضُ خيرٌ من أنْ يذهبَ الجميعُ مع العَزْل والإخراق، فامتنع من ذلك واغترَّ بالدنيا، وعزَّت نفسُهُ عليه أنْ يَذِلّ، ففجأَهُ العَزْل، وذهب ما كان حَصَّلَهُ وجمعَه ومنعَه، واستقرَّتْ ولايةُ يوسفَ بنِ عمر على العِراقِ وخُراسان، واستقرَّتْ ولايَتُهُ لِنَصْرِ بن سَيَّار على خُراسان، فتمهَّدَتِ البلاد، وأمِنَ العباد ولله الحمد والمنة.

وقد قال سوار بن الأشعر

(1)

في ذلك:

أضْحَتْ خُراسانُ بعدَ الخَوْفِ آمنةً

من ظُلم كلِّ غَشُومِ الحُكْمِ جَبَّارِ

(1)

في ق: "الأسْعري"، وفي (ب، ح)"الأشقر"، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير. وذكره ابن ماكولا في الإكمال 1/ 89 فقال:"سوار بن الأشعر التميمي كان يلي شرطة سجستان فغلب عليها أيام الفتة"(بشار).

ص: 173

لَمَّا أتَى يوسفًا أخبارُ ما لَقِيَتْ

اِختارَ نَصْرًا لها نصرَ بنَ سَيَّارِ

وفي هذه السنة أستبطأتْ شيعةُ آلِ العباس كتابَ محمدِ بن علي إليهم، وقد كان عَتَب عليهم في اتباعِهم ذلك الزَّنْدِيق الملقَّب بَخِدَاش، وكان خُرَّمِيًّا، وهو الذي أحلَّ لهمُ المُنكراتِ، وولى

(1)

المحارم والمصاهرات، فقتله خالدٌ القَسْري كما تقدَّم، فعَتب عليهم محمد بن علي في تصديقِهم له، واتباعِهم إيَّاه على الباطل، فلما استبطؤوا كتابَهُ إليهم بعثوا إليهِ رسولًا يخبر لهم أمرَه، فلما جاء الرسول أعلمه محمدٌ بماذا عَتَب عليهم في قضية خِدَاش الخُرَّمي، وأرسل مع الرسول كتابًا مختومًا، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى: بسم الله الرحمن الرحيم، تعلَّموا أنَّه إنما تعتَّبَ عليكم بسبب الخُرَّمي، ثم أرسلَ رسولًا إليهم، فلم يصدِّقْه كثيرٌ منهم وهَمُّوا به، ثم جاءتْ من جهتِه عَصا مَلْوِيٌّ عليها حديدٌ ونُحاس، فعلموا أنَّ هذا إشارةٌ لهم إلى أنَّهم عصاة، وأنَّهم مختلفون كاختلافِ ألوانِ النَّحاسِ والحديد.

قال ابنُ جَرير

(2)

: وحجَّ بِالناسِ في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المَخْزومي فيما قالهُ أبو معشر. قال: وقد قيل: إنَّ الذي حجَّ بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: ابنُه يزيد بن هشام. فالله سبحانه وتعالى أعلم.

‌ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومئة

ففيها غزا مسلمةُ بنُ هشام بلاد الرُّوم، فافتتحَ مَطَامِير - وهو حِصْن - وافتتح مروان بن محمد بلادَ صاحبِ الذهب. وأخذ قِلاعَهُ وخرَّب أرضَه، فأذعن له بالجِزْيةِ في كُلِّ سنة بألف رأسٍ يؤدِّيها إليه وأعطاه رَهْنًا على ذلك.

وفيها في صَفَر قُتل زيدُ بن علي بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب الذي تنتسبُ إليه الطائفةُ الزَّيدية في قولِ الواقدي، وقال هشام الكلبي: إنما قُتل في صفر من سنةِ ثنتينِ وعشرين. فالله أعلم.

وقد ساقَ محمدُ بنُ جرير

(3)

سببَ مَقتَله في هذه السنة تبعًا للواقدي، وهو أنَّ زيدًا هذا وفَدَ على يوسف بن عمر، فسأله: هل أودَعَ خالدٌ القَسْريُّ عندَك مالًا؟! فقال له زيد بن علي: كيف يودعني الرجل مالًا وهو يشتم آبائي على منبره في كل جمعة؟ فأحلَفهُ أنَّه ما أودعَ عنده شيئًا، فأمر يوسف بن عمر بإحضار خالدٍ من السجن، فجيء به في عباءة، فقال: أنتَ أودعتَ هذا شيئًا نستخلصُه منه؟ قال: لا، وكيف وأنا أشتُمُ أباهُ كلَّ جمعة؟! فتركه عمر، وأعلمَ أميرَ المؤمنين بذلك، فعفا عن ذلك. يقال: بلِ

(1)

كذا في (ب، ح)، وفي (ق):"ودنَّس".

(2)

في كتابه تاريخ الطبري (4/ 192).

(3)

في تاريخه (4/ 193).

ص: 174

استحضرَهم فحلفوا بما حلفوا، ثم إنَّ طائفةً من الشِّيعة التفَّتْ على زيد بن علي، وكانوا نحوًا من أربعين ألفًا، فنهاهُ بعضُ النُصحَاءِ عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وقال له: إنَّ جدَّكَ خيرٌ منكَ، وقد التفَّتْ على بيعَتِه من أهل العراق ثمانون ألفًا، ثم إنهم خانوهُ أحوجَ ما كان إليهم، وإنِّي أحَذرُكَ من أهلِ العراق. فلم يقَبلْ، بلِ استمرَّ يبايع الناس في الباطن في الكوفة على كتابِ الله وسنةِ رسولِهِ، حتى استفحلَ أمرُهُ بها في الساكن، وهو يتحوَّلُ من مَنْزل إلى مَنزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنةُ ثنتين عشرين ومئة، فكان فيها مَقتَلُه كما سنذكر قريبًا.

وفيها غزا نَصْرُ بنُ سَيَّار أميرُ خراسانَ غزَوَاتٍ متعدِّدةٍ في التُّرْك، وأسَرَ مَلِكَهم كورصول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفهُ، فلما تيقَّنَهُ وتحقَّقه سأل منه كورصول أن يُطلقَه على أنْ يُرسلَ له ألفَ بعيرٍ من إبلِ التُّرك - وهي البَخَاتِيّ - وألف بِرْذَوْن، وهو مع ذلك شيخٌ كبيرٌ جدًّا، فشاورَ نصرٌ مَنْ بحضرتِهِ من الأمراء في ذلك، فمنهم مَنْ أشارَ بإطلاقِه، ومنهم من أشارَ بقتلِه، ثم سأله نَصْرُ بن سيَّار: كم غزَوْتَ من غزوة؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة. فقال له نصر: ما مِثْلُكَ يُطلق، وقد شهدتَ هذا كفَه! ثم أمَرَ به فضُربَتْ عُنقه، وصَلَبَه. فلما بلغَ ذلك جيشَهُ من قَتْلِه باتوا تلك الليلة يجعُرون ويبكون عليه وجَذُّوا لِحاهم وشعورَهم وقطَعوا آذانَهم، وحرقوا خيامًا كثيرةً وقتلوا أنعامًا كثيرة. فلما أصبح أمرَ نصرٌ بإحراقِهِ لئلا يأخذوا جُثته، فكان حريقُه أشدَّ عليهم من قتلِه. وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين، ثم كرَّ نصرٌ على بلادِهم فقتل منهم خلقًا وأسَرَ أُمَمًا لا يُحصَوْنَ كثرةً، وكان فيمَنْ حضر بين يديه عجوزٌ كبيرةٌ جدًّا من الأعاجم أو الأتراك. وهي من بيت مملكة، فقالت لنصرِ بن سيَّار: كل ملكٍ لا يكونُ عندَهُ ستةُ أشياء فهو ليس بملك: وزيرٌ صادقٌ يَفصِلُ خصوماتِ الناس، ويشاوِرُه ويناصحُه، وطبَّاخٌ يصنَعُ له ما يشتهيه، وزوجةٌ حسناءُ إذا دخل عليها مغتَمًّا فنظر إليها سَرَّتْهُ وذهبَ غَمُّه، وحِصْنٌ مَنِيعٌ إذا فَزِعَ رعاياهُ لجَؤوا إليه فيه، وسيفٌ إذا قارعَ به الأقرانَ لم يخشَ خيانتَه، وذخيرةٌ إذا حملها فأينَ ما وقع من الأرض عاش بِها.

وحجَّ بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائبُ مكّةَ والمدينةِ والطائف، ونائبُ العراق يوسف بن عمر، ونائبُ خُراسان نصرُ بن سَيَّار، وعلى أرْمِينيَةَ مروان بن محمد بن مروان الحمار.

‌ذكرُ مَنْ تُوفِّيَ فيها من الأعيان:

زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

(1)

: والمشهور أنه قُتل في التي بعدَها كما سيأتي بيانُه إنْ شاء الله.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 325)، طبقات خليفة (258)، التاريخ الكبير (3/ 403)، الجرح والتعديل (3/ 568)، مشاهير علماء الأمصار ص (63)، مقاتل الطالبيين (127)، بغية الطلب في تاريخ حلب (9/ 4027)، البدء والتاريخ (6/ 49)، وفيات الأعيان (5/ 122)، تهذيب الكمال (10/ 95)، الرياض النضرة (1/ 384)، تهذيب التهذيب (3/ 362)، تقريب التهذيب ص (224).

ص: 175

مسْلَمة بن عبد الملك

(1)

بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القُرَشيُّ الأمَويّ، أبو سعيد وأبو الأصْبَغ الدمشقي.

قال ابن عساكر

(2)

: وداره بدمشق في مَحَلَّةِ القِباب عند بابِ الجامعِ القبْلي، ووَليَ المَوْسِمَ أيَّام أخيه الوليد، وغزا الرُّوم غزواتٍ، وحاصرَ القُسْطَنْطِينيِّةَ وولَّاهُ أخوهُ يزيدُ إمرةَ العِراقينِ ثم عزله، ووُلِّي أرمِينية.

وروى الحديث عن عمرَ بن عبد العزيز. وعنه عبدُ الملك بن أبي عثمان، وعُبيد الله بن قُزَعَة، وعُيينة والدُ سُفيانَ بنِ عينية بن أبي عمران

(3)

، ومعاوية بن حُدَيج

(4)

، ويحيى بن يحيى الغساني.

قال الزُّبير بن بكَّار: كان مسلمةُ من رجالِ بني أمية، وكان يلقب بالجرَادةِ الصفراء، وله آثار كثيرة وحروبٌ ونِكَايةٌ في الرُّوم.

قلت: وقد فَتَح حصونًا كثيرة من بلادِهم، ولما وَلِي أرْمينيَة غزا التُّرك فبلغ بابَ الأبواب فهدَم المدينة التي عندَه، ثم أعادَ بناءَها بعد تسعِ سنين. وفي سنة ثمانٍ وتسعين غزا القُسْطنطينِية فحاصرَها وافتتحَ مدينةَ الصَّقَالِبَة، وكسر مَلِكَ البُرْجَان

(5)

، ثم عاد إلى محاصرة القُسْطنطيِنيَّة.

قال الأوزاعي: فأخذَهُ وهو يُغازيهم صُدَاعٌ عظيمٌ في رأسِهِ، فبعث ملكُ الرُّوم إليه بقَلَنْسُوَة، وقال: ضعَها على رأسِكَ يذْهَبْ صُداعُك. فخَشي أنْ تكونَ مَكِيدة، فوضعها على رأسِ بهيمةء فلم يرَ إلَّا خيرًا، ثم وضعها على رأسِ بعض أصحابِه فلم يرَ إلَّا خيرًا، فوضعَها على رأسِه فذهَبَ صُدَاعُه، ففتقَها فإذا فيها سبعون سطرًا هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، مكررة، لا غير. رواهُ ابنُ عساكر

(6)

.

وقد لَقِيَ مسْلمةُ في حصاره القُسْطنطينيَّة شدَّة عظيمة، وجاعِ المسلمونَ عندَها جُوعًا شديدًا، فلما وُلِّيَ عمرُ بن عبد العزيز أرسل إليهمُ البريدَ يأمرُهم بالقُفول، فحَلفَ مَسْلمةُ أنْ لا يُقلِعَ عنهم حتى يبنوا له

(1)

ترجمته في تاريخ خليفة (301)، التاريخ الكبير (3/ 387)، الجرح والتعديل (8/ 266)، تهذيب الكمال (27/ 562)، سير أعلام النبلاء (5/ 241)، تاريخ الإسلام (4/ 302)، تهذيب التهذيب (10/ 144).

(2)

انظر مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (24/ 263).

(3)

في (ق): "وابن أبي عمران، تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، ومصادر ترجمة سفيان.

(4)

صحفت في (ق) إلى "خديج".

(5)

بُرْجَان: جنس من الروم يُسمَّون كذلك. قال الأعشى:

وهرقل يوم ذي ساتيدما

من بني برجان في البأس رجح

لسان العرب (برج).

(6)

انظر مختصره لابن منظور (24/ 266).

ص: 176

جامعًا كبيرًا بالقُسْطنطيِنيَّة

(1)

فَبَنوا بها جامعًا ومنارةً، فهو بها إلى الآن يُصلِّي فيه المسلمون الجُمعة والجماعة.

قلتُ: وهي آخر ما يفتَحُه المسلمونَ قبلَ خروج الدجَّال في آخرِ الزمان، كما سنوِرِدُه في الملاحم والفِتَن من الحديث الصحيح عند مسلم رحمه الله

(2)

. وبالجملة كانت لمسلمةَ مواقفُ مشهورةٌ مشهودة، وغزوات متتالية منثورة محمودة، وقد افتتح حصونًا وقلاعًا، وأحيا بعزمِهِ قصورًا وبقاعًا، وكان في زمانه في الغزوات نظيرَ خالدِ بن الوليد في أيامه في كثرةِ مَغَازيه، وكثرةِ فُتوحه، وقوَّةِ عزمه، وشدةِ بأسِه، وجَوْدَةِ تصرُّفِه في نقضِهِ وإبرامِه، وهذا مع الكرمِ والفصاحة، والرياسةِ والسَّماحة، والأصالةِ والرجاحة.

ومن كلام الحسن قوله: مروءتان ظاهرتان: الرياش والفصاحة. وقال يومًّا لِنُصَيبِ الشاعر: سلني. قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأنَّ كفَّكَ بالجزيلِ أكثرُ من مسألتي باللسان. فأعطاهُ ألفَ دينار.

وقال أيضًا: الأنبياءُ لا يتثاءَبونَ كما يتثاءبُ الناس، ما تثاءَبَ نبيٌّ قَطّ.

وقد أوصىَ بثُلثِ عالِه لأهلِ الأدب وقال: إنها صِناعةٌ مَجْفُوٌّ أهلُها.

وقال الوليد بن مسلم وغيرُه: توفي يوم الأربعاء لسبعٍ مَضَيْنَ من المحرَّم، سنة إحدى وعشرين ومئة. وقيل: في سنة عشرين ومئة. وكانت وفاته بموضعٍ يُقالُ له الحانوت. وقد رثاه بعضُهم وهو ابنُ أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال:

أقول وما البعدُ إلَّا الرَّدَى

أمَسْلَمُ لا تَبْعِدَنْ مَسْلَمَهْ

فقد كنتَ نورًا لنا في البلادِ

مضِيئًا فقد أصبحتْ مُظِلمَهْ

ونَكْتُمُ مَوْتَكَ نخشَى اليقينَ

فأبْدَى اليقينُ عنِ الجُمْجُمَه

نُمَيْر بن أُوَيس

(3)

الأشعري، قاضي دمشق، تابعيٌّ جَلِيل، روى عن حُذيفة مرسلًا، وأبي موسى مرسلًا، وأبي الدرداء، وعن معاوية مرسلًا، وعن غيرِ واحدٍ من التابعين. وحدَّث عنه جماعةٌ كثيرون، منهم الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ويحيى بن الحارث الذِّمَارِي.

(1)

جاء في معجم البلدان لياقوت (1/ 261) في رسم "أندس" بضم الدال المهملة والسين مهملة أيضًا مدينة على غربي خليجِ القسطنطينية بين جبلين بينها وبين القسطنطينية ميل، في مستو من الأرض، وبأندس مسجدٌ بناهُ مسلمةُ بن عبد الملك في بعضِ غزواته.

(2)

في (ق): "من كتابنا هذا إن شاء الله. ونذكر الأحاديث الواردة في ذلك هناك" بدل "الحديث الصحيح عند مسلم رحمه الله" والمثبت من (ب، ح). على أن السلطان محمدًا الفاتح قد افتتحها سنة 1453 م.

(3)

في (ق): "نمير بن قيس" تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، ومصادر ترجمته وهي: طبقات ابن سعد (7/ 456)، التاريخ الكبير (8/ 117)، الجرح والتعديل (8/ 498)، الاستيعاب (4/ 1511)، تهذيب الكمال (30/ 21)، الكاشف (2/ 326)، تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل ص (329)، تهذيب التهذيب (10/ 424)، الإصابة (6/ 511).

ص: 177

ولَّاهُ هشام بنُ عبد الملك القضاءَ بعدَ عبد الرحمن بن الخشخاش العُذْري، ثم استعفى هشامًا فأعفاهُ، وولَّى مكانه يزيدَ بن عبد الرحمن بن أبي مالك، وكان نُمَيرٌ هذا لا يحكمُ باليمينِ مع الشاهد، وكان يقول: الأدَبُ من الآباء، والصلاحُ من الله.

وقال غيرُ واحد: تُوفِّي سنة إحدى وعشرين ومئة. وقيل: سنة ثنتين وعشرين ومئة. وقيل: سنة خمس عشرة ومئة - وهذا غريب جدًّا - واللّه سبحانه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومئة

ففيها كان مَقْتَلُ زيدِ بن عليِّ بنِ الحُسين بن عليِّ بن أبي طالب

(1)

، وكان سببُ ذلك أنَّه لمَّا أخذَ البَيْعَةَ مِمَنْ بايَعَهُ من أهلِ الكوفة أمرَهم في أَوَّلِ هذه السنةِ بالخُروجِ والتأهُّبِ له. فشرَعوا في أخْذِ الأُهْبَةِ لذلك، فانطلق رجلٌ يقالُ له سليمان بن سُرَاقة إلى يوسف بنِ عمر نائبِ العراق، فأخبره - وهو بالحِيرَةِ يومئذٍ - خبرَ زيدِ بن علي على هذا، وعندَ مَنْ يكونُ من أهلِ الكوفة، فبعثَ يوسفُ بن عمر يتطلَّبُه ويُلِحُّ في تطَلُّبِه، فلما علمتِ الشيعةُ ذلك اجتمعوا عند زَيد بن عليٍّ فقالوا له: ما قولُك - يرحمك الله - في أبي بكرٍ وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعتُ أحدًا من أهلِ بيتي تبرَّأ منهما، ولا يقولُ فيهما إِلَّا خيرًا. قالوا: فلم تطلُبْ إذًا بِدَمِ أهل البيت؛ فقال: إنَّا كُنَّا أحَقَّ الناسِ بإذا الأمر، ولكنَ القومَ استأثروا علينا به، ودفعونا عنه، ولم يبلُغْ ذلك عندنا بِهم كُفرًا، وقد وَلُّوا فعَدَلوا، وعمِلوا بالكتاب والسُّنَّة. قالوا: فلِمَ تُقاتِلُ هؤلاءِ إذًا؟ قال: إنَّ هؤلاء ليسوا كأولئك، إنَّ هؤلاء ظلموا الناسَ وظلموا أنفسَهم، وإني أدعو إلى كتابِ الله وسنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السُّنَن، وإماتةِ البِدَع، فإن تسمعوا يَكُنْ خيرًا لكم ولي، وإن تابَوْا فلستُ عليكم بوَكِيل. فرفضوهُ وانصرفوا عنه، ونقَضُوا بيعتَه وتركوه. فلهذا سُمُّوا الرَّافِضَةَ يومئذٍ، ومَنْ تابعه من الناس على قولهِ سُمُّوا الزَّيْدِيَّة، وغالب أهلِ الكوفةِ منهم رافضة، وغالبُ أهلِ مكةَ إلى اليوم على مذهبِ الزَّيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تَعْدِيلُ الشيخَيْن، وباطلٌ وهو اعتقادُ تقديمِ عليٍّ عليهما، وليس عليٌّ مقدَّمًا عليهما، بل ولا عثمان على أصَحِّ قَوْلَيْ أهلِ السنَّةِ الثابتة والآثار الصحيحة الثابتةِ عن الصحابة رضي الله عنهم. وقد ذكرنا ذلك في سيرةِ أبي بكرٍ وعمر فيما تقدَّم. ثم إنَّ زيدًا عزَمَ على الخروج بِمَنْ بَقِيَ معه من أصحابهِ، فواعَدَهم ليلةَ الأربعاء مُستَهَلَّ صَفَر من هذه السنة، فبلغ ذلك يوسفَ بنَ عمر فكتب إلى نائبِهِ على الكوفة - وهو الحكم بن الصَّلتْ - يأمرُهُ بِجَمْعِ الناسِ كلِّهم في المسجدِ الجامع، فجمعَ الناسَ لذلك في يوم الثلاثاء سَلْخَ المحرَّم، قبلَ خروجِ زيدٍ بيوم، وخرج زيدٌ بِمَنْ معَهُ ليلةَ الأربعاء في بردٍ شديد، ورفع أصحابُهُ النِّيرانَ وجعلوا ينادُون، يا منصور، يا منصور، فلمَّا طلَعَ

(1)

تقدمت مصادر ترجمته في حاشية ص (175).

ص: 178

الفجرُ إذا قدِ اجتمع معه مئتانِ وثمانيةَ عشرَ رجلًا فجعل زيدٌ يقول: سبحان الله! أينَ الناس؟ فقيل: هم في المسجد مَحْصورون. وكتب الحكمُ إلى يوسف بن عمر يعلِمهُ بخروجِ زيدِ بن عليّ، فبعث إليه سَرِيَّةً إلى الكوفة، وركبتِ الجيوشُ مع نائبِ الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضًا في طائفةِ كبيرةٍ من الناس، فالتقى بِمَنْ معه جُرْثومةً منهم فيهم خمسُ مئةِ فارس فهزمهم، ثم أتَى الكُنَاسةَ، فحلَّ على جَمع من أهلِ الشام فهزمهم، ثم اجتازَ بيوسفَ بنِ عمر وهو واقفٌ فوقَ تلّ، وزيدٌ في مئتي فارس، ولو قصد يوسفُ بن عمر لقَتَلَه، ولكنْ أخذ ذاتَ اليمين، وكلَّما التقى طائفة من أهلِ الكوفةِ هزمهم، وجعل أصحابُهُ ينادون: يا أهلَ الكوفة، اخرجوا إلى الدِّينِ والعِزِّ والدنيا، لستم في دينٍ ولا عِزٍ ولا دنيا، ثم لما أمسَوْا انضاف إليه جماعةٌ من أهلِ الكوفة وقد قُتل بعضُ أصحابِه في أولِ يوم، فلما كان في اليوم الثاني اقتتل هو وطائفةٌ من أهلِ الشام، فقتلَ منهم سبعين رجلًا، وانصرفوا عنه بشرِّ حال، وأمسَوْا، فعبَّأ يوسفُ بن عمر جيشَه جيدًا، ثم أصبحوا فالتقَوْا مع زيد بن عليٍّ في أصحابه، فكشفَهم حتى أخرجهم إلى السَّبَخَة، ثم شدَّ عليهم حتى أخرجهم إلى بني سُليم، ثم تَبِعهم في خيلِه ورَجِله، حتى أخذوا على المُسَنَّاة

(1)

ثم اقتتلوا هناك قتالًا شديدًا جدًّا حتى كان جُنْحُ الليل، فرُمِيَ زيدٌ بسهم فأصاب جانبَ جَبهتِه اليُسرى، فوصل إلى دِمَاغِه، فرجع ورجع أصحابُه. ولا يَظنُّ أهلُ الشامِ أنَّهم رجعوا إِلَّا للمساء والليل، وأُدخل زيدٌ في دار سكةِ البَرِيد، وجيء بطبيب فانتَزعَ ذلك السهمَ من جبهتِه، فما عَدَا أن انتزعه حتى ماتَ في ساعتِهِ رحمه الله.

فاختلف أصحابُهُ أين يدفِنُونَه؟ فقال بعضهم: ألبِسُوهُ دِرْعَهُ وألْقُوهُ في الماء. وقال بعضُهم: احتزُّوا رأسَهُ واتركوه في القتلَى. فقال ابنُه: لا والله لا تأكلُ أبي الكلاب. وقال بعضُهم: ادفِنوه في الكناسة

(2)

وقال بعضهم: ادفِنُوهُ في الحفرةِ التي يؤخذُ منها الطِّين. ففعلوا ذلك، وأجرَوْا على قبرِهِ الماءَ لئلا يُعرَف، وتفلَّلَ أصحابُه

(3)

، حيثُ لم يبقَ لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجرُ ولهم قائمةٌ ينهضون بها وتتبَّعَ يوسف بن عمر الجَرْحَى هل يجدُ زيدًا بينهم؛ وجاء مولًى لِزَيْد سِنْديّ، قد شَهِدَ دفنَه، فدلَّ على قبره، فأُخِذَ من قبرِه، فأمر يوسفُ بن عمر بصَلْبِه على خشبةٍ بالكُناسة، ومعه نصرُ بن خُزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وزياد النَّهْدي؛ ويُقال: إنَّ زيدًا مكَثَ مصلوبًا أربعَ سنين، ثم أُنزل بعدَ ذلك وأُحرق، واللّه أعلمُ.

(1)

في (ق): "الساه"، وفي (ب):"اكناه"، وكلاهما تصحيف، والمثبت من (ح) وتاريخ الطبري، والمسنَّاة: - ضُفَيرة تُبنى للسَّيل لتردَّ الماء سميت مُسَنَّاة لأن فيها مفاتيح للماء بقدر ما تحتاج إليه مما لا يَغلِب، مأخوذٌ من قولك سنَّيتُ الشيءَ والأمر إذا فتحتَ وجهه. لسان العرب (سنن). وجاء فيه مادة (نجف): النجفةُ المسنَّاة، والنجف: التل. قال الأزهري: والنجفة التي بظهر الكوفة وهي كالمسناة تمنع ماء السيل أن يعلو منازل الكوفة ومقابرها.

(2)

في (ب، ق): "العباسة" وهو تحريف. والكناسة محلة معروفة بالكوفة.

(3)

في (ق): "وانفتل أصحابه"، والمثبت من (ب، ح)، والفَلُّ: المنهزمون. وفَلَّ القومَ يفُلّهم فَلًّا: هزمهم فانفَلُّوا وتَفَلَّلوا. وهم قوم فَلٌّ: منهزمون، والجمع فُلول وفُلَّال. لسان العرب (فلل).

ص: 179

وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري

(1)

، أنَّ يوسفَ بن عمر لم يعلمْ بشيءٍ من شأنِ زيدِ بن علي حتى كتب إليه هشامُ بن عبد الملك يقول له: إنَّك لغافل، وإنَّ زيد بن علي غارزٌ ذَنَبَهُ بالكوفة يُبايعُ له، فألِحَّ في طلبه وأعطِهِ الأمان، وإنْ لم يقبلْ فقاتِلْهُ. فتطلَّبه يوسف بن عمر حتى كان من أمْرِهِ ما تقدَّم، فلما ظهر على قبرِهِ حزَّ رأسَهُ وبعث به إلى هشام بن عبد الملك، فنصبه على باب دمشق؛ ثم أمر به فسارَ إلى المدينة حتى نصبوه على أحدِ أبوابها. وأمَّا جثته فلم تزلْ مصلوبةً تُحرسُ ليلًا ونهارًا، حتى انقضَتْ دولةُ هشام، وقام من بعدِه الوليدُ بن يزيد، فأمر به فأُنزل وحُرّق في أيامِه، قبَّح الله الوليدَ هذا.

فأمَّا ابنُه يحيى بن زيد بن علي فاستجار بعبدِ الملك بن بشر بن مروان؛ فبعث إليه يوسفُ بن عمر يتهدَّدُهُ حتى يحضرَه، فقال له عبدُ الملك بنُ بشر: ما كنتُ لآوي مثل هذا الرجل، وهو عدوُّنا وابنُ عدوِّنا. فصدَّقَهُ يوسفُ بن عمر في ذلك. ولما هدأ الطلَبُ عنه سيَّرهُ إلى خُراسان، فخرج يحيى بنُ زيد في جماعةٍ من الزيديَّة إلى خراسان، فأقاموا بها هذه المدة

(2)

.

قال أبو مِخْنَف: ولما قُتل زيد خطَبَ يوسفُ بن عمر أهلَ الكوفةِ فتهدَّدَهم وتوعَّدهم وشتمهم وأنَّبَهم، وقال لهم فيما قال: واللهِ لقد استأذنتُ أميرَ المؤمنين في قَتْلِ خَلْقٍ منكم، ولو أذِنَ لي لقتلتُ مقاتلتّكم وسبيتُ ذرارِيَّكم، وما صعِدْتُ لهذا المنبر إِلَّا لأسمعَكم ما تكرهون.

قال ابنُ جرير

(3)

: وفي هذه السنة قُتل عبدُ الله البطال في جماعةٍ من المسلمين بأرضِ الروم.

ولم يَزِدِ ابنُ جريرٍ على هذا، وقد ذكر هذا الرجلَ الحافظُ ابنُ عساكر في تاريخه الكبير فقال:

‌عبد اللّه أبو يحيى المعروف بالبَطَّال

(4)

كان يَنْزل أنطاكِية، حكى عنه أبو مروان الأنْطَاكي، ثم روى بإسناده أنَّ عبد الملك بن مروان حينَ عقَدَ لابنهِ مَسْلَمة على غزوِ بلادِ الروم ولَّى على رؤساءَ أهلِ الجزيرةِ والشام البَطَّال، وقال لابنه مسلمة: سَيِّرْهُ على طلائعِك، وأمُرْهُ فليعُسَّ بالليل العسكر، فإنَّهُ أمينٌ ثقةٌ مِقْدامٌ شجاعِ. وخرج معهم عبدُ الملك يُشيِّعُهم إلى بابِ دِمَشق. قال: فقدَّم مسلمةُ البطَّالَ على عشرةِ آلافٍ يكونون بين يديه تُرْسًا من الرُّوم أنْ يصلوا إلى جشِ المسلمين.

قال محمد بن عائذ الدمشقي: حَدَّثَنَا الوليد بن مسلمة، حدّثني أبو مروان شيخٌ من أهلِ أنطَاكِيَةَ قال:

(1)

في تاريخه (4/ 208).

(2)

في (ب، ج): "كانوا بها مقيمين".

(3)

هو الطبري في تاريخه (4/ 210).

(4)

ترجمته في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (14/ 137)، الكامل (4/ 456)، سير أعلام النبلاء (5/ 268)، العبر (1/ 140)، النجوم الزاهرة (1/ 272)، شذرات الذهب (1/ 159).

ص: 180

كنتُ أغازي مع البَطَّال، وقد أوطأ الرُّومَ ذُلًّا. قال البطال: فسألني بعضُ ولاةِ بني أمية عن أعجَبِ ما كان من أمري في مغازيَّ فيهم، فقلت فيهم: خرجتُ في سَرِيَّةٍ ليلًا، فدفعنا إلى قرية، فقلتُ لأصحابي: أرْخُوا لُجُمَ خيلِكم، ولا تحرِّكوا أحدًا بقتلٍ ولا بشيء حتى تَشْحَنوا

(1)

القرية فإنَّهم في نَوْبة. ففعلوا، وافترقوا في أزِقَّتِها، فدفعتُ في أناسٍ من أصحابي إلى بيتٍ يَزْهرُ سِرَاجُه

(2)

، وإذا امرأةٌ تُسكِّتُ ابنَها من بكائه وهي تقول له: لَتسكتَنَّ أو لأدفعنَّكَ إلى البطَّال يذهَبُ بك. وانتشلَتْهُ من سريره وقالتْ: خُذْهُ يا بَطَّال. قال: فأخذتُه

(3)

.

وروى محمد بن عائذ عن الوليد بن مسلم، عن أبي مروان الأنطاكي، عن البطال، قال: انفردتُ مرَّةً على فرسي ليس معي أحدٌ من الجُند، وقد سمطتُ

(4)

خلفي مِخْلاةً فيها شعير، ومعي مِنديل فيه خُبز وشِوَاء، فبينا أنا أسير لعلِّي ألقَى أحدًا منفردًا، أو أطَّلِعُ على خبر، إذا أنا ببستانٍ فيه بُقولٌ حسنة، فَنَزلْتُ وأكلتُ من ذلك بالخبزِ والشِّوَاء مع البَقْل، فأخذَني إسهالٌ عظيم، قمتُ منه مِرارًا، فخفتُ أنْ أضعُفَ من كثرةِ الإسهال، فركبتُ فرسي والإسهالُ مستمِرٌّ على حالِه، وجعلتُ أخشى إنْ أنا نزَلْتُ عن فرسي أنْ أضعُفَ عن الرُّكوب، وأفرطَ بي الإسهالُ في السَّرْج حتى خَشيتُ أنْ أسقُطَ من الضَّعْف، فأخذتُ بعِنَانِ الفرس، ونمتُ على وجهي، لا أدري أين يسيرُ الفرسُ بي، فلم أشعر إِلَّا بِقَرْعِ نعالِهِ على بَلاط، فأرفعُ رأسي فإذا دَيْر، وإذا قد خرج منه نِسْوةٌ صحبةَ امرأةٍ حسناء جميلةٍ جدًّا، فجعلَتْ تقولُ بلِسانها أنزِلْنَه. فأنزَلْنَني، فغسَلْنَ عني ثيابي وسَرْجي وَفَرَسي، ووضَعْنَني على سرير، وعَمِلْنَ لي طعامًا وشرابًا، فمكثتُ يومًا وليلةً مَسْبوتًا

(5)

ثم أقمتُ بقيةَ ثلاثةِ أيام حتى تُردَّ إليَّ حالي، فبينا أنا كذلك إذْ قيل: جاء البِطْريقُ، وهو يريد أنْ يتزوَّجَها، فأمرَتْ بفرَسي فحُوِّلَ وعُلِّق على الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بِطْريقٌ كبيرٌ فيهم، وقد جاء لخطبتها، فأخبرَهُ منْ كان هنالك بأن هذا البيتَ فيه رجلٌ وله فرَس، فهمَّ بالهجومِ عليّ، فمنعَتْهُ المرأةُ من ذلك، وأرسلَتْ تقولُ له: إنْ فَتح عليه الباب لم أقضِ حاجَته. فثناهُ ذلك عن الهجومِ عليّ؛ وأقامَ البِطْريقُ إلى آخرِ النهارِ في ضيافتهم، ثم ركبَ فرسَه، وركب معه أصحابُهُ وانطلق.

(1)

في (ق): "تستمنوا من القرية ومن سكانها"، والمثبت من (ب، ح) ومختصر تاريخ ابن عساكر، ومعنى تشحنوا: من شَحَنَ البلدَ بالخَيل: مَلأه. وبالبلد شحْنةٌ من الخيل أي رابطة. لسان العرب (شحن).

(2)

زهَرَ السراجُ يَزْهرُ زُهُورًا: ازْدَهَرَ وتلألأ، وكذلك الوجه والقمر والنجم. لسان العرب (زهر).

(3)

مختصر تاريخ ابن عساكر (14/ 137).

(4)

سَمطَ الشيءَ سَمْطًا عَلَّقَهُ. والمْطُ الدرْعُ يُعَلِّقُها الفَارسُ على عَجُزِ فرسه. والسُّمْوطِ هي سُيور تُعلَّقُ من السرجِ سَمَّطْتُ الشيءَ عَلَّقْتُه على السُّموط - لسان العرب (سمط).

(5)

في (ب، ق): "مستويا"، والمثبت من (ح)، يقال: سُبتَ المريضُ فهو مَسْبُوت لا يَتَحرَّكُ؛ والمَسْبُوتُ المَيِّتُ وَالمَغْشيُّ عليه، وكذلك العليل إذا كان مُلْقَّىً كالنائم يُغمِّضُ عينيه في أكثر أحواله. والسُّباتُ نوم المريضِ والشيخِ المُسنِّ، وهو النَّومةُ الخَفيفة، وأصْلُه من السَّبْتِ الراحة والسُّكون. لسان العرب (سبت).

ص: 181

قال البطال: فنهضتُ في أثَرِهم، فهَمَّتْ أنْ تمنعَني خوفًا عليَّ منهم، فلم أقبلْ، وسقتُ حتى لَحِقتُهم، فحمَلْتُ عليه، فانفرجَ عنه أصحابُه، وأرادَ الفِرَار، فألحقُهُ فاضرب عُنقَه، و استلَبْتُهُ، وأخذتُ رأسَه مُسْمطًا على فرسي، ورجعتُ إلى الدِّيْر، فخَرَجْنَ إليَّ ووقَفْنَ بين يديّ، فقلتُ اركَبْنَ، فرَكِبْنَ ما هنالكَ من الدوابّ، وسقتُ بهنَّ حتى أتيْتُ أميرَ الجيش، فدفعتُهن إليه، فنفَلَني ما شئتُ منهنَّ، فأخذتُ تلك المرأةَ الحسناءَ بعينِها، فهي أُمُّ أولادي. والبِطْريقُ في لغةِ الرُّوم عبارةٌ عن الأميرِ الكبيرِ فيهم. وكان أبوها بِطْريقًا كبيرًا فيهم. يعني تلك المرأة، وكان البطالُ بعدَ ذلك يُكاتبُ أباها ويُهادِيه.

وذكر محمد بن عائذ عن الوليد، سمعتُ عبدَ اللّه بن راشد مولى خزاعة، يُخبر عمَّن سمعه من البطال، أنَّ هشامَ بن عبد الملك بن مروان لما ولاه المِصِّيصَة بعثَ البطالُ سَريَّةً إلى أرض الروم، فغابَ عنهُ خبَرُها، فلم يَدْرِ ما صنعوا، فركب بنفسِهِ وحدَهُ على فرس له، وسار حتى وصل عَمُّوريَّة، فطرَقَ بابَها ليلًا فقال له البواب: منْ هذا؟ قال البطال: فقلتُ أنا سيَّافُ المَلِك ورسولُهُ إلى البِطْريق، فأخذَ لي طريقًا إليه، فلما دخلتُ عليه إذا هو جالسٌ على سرير، فجلستُ معه على السَّرير إلى جانبِه، ثم قلتُ له: إني قد جئتُكَ في رسالة، فمُرْ هؤلاءَ فَلْيَنصرِفوا. فأمَرَ منْ عندَهُ فذهبُوا، قال: ثم قام فأغلقَ بابَ الكنيسة عليَّ وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطتُ سيفي وضربتُ به رأسَه صفحًا وقلتُ له: أنا البطال، فاصْدُقْني عمَّا أسألُكَ عنه، وإلَّا ضربتُ عُنقكَ الساعة. قال: وما هو؟ قلتُ: السَّريَّة التي بعثتُها ما خبَرُها؟ فقال: هم في بلادي يَنتهبونَ ما تهيَّأَ لهم، وهذا كتابٌ قد جاءني يُخبرُ أنهم في وادي كذا وكذا، واللهِ لقد صدقتُك. فقلت: هاتِ الأمان. فاعطاني الأمان، فقلت: ائتِني بطعام. فأمر أصحابَهُ فجاؤوا بطعام، فوُضعَ لي، فأكلتُ، فقمتُ لأنصرف، فقال لأصحابه: اخرُجوا بين يدَيْ رسولِ الملك. فانطلقوا يتعادَوْن بين يديّ؛ وانطلقتُ إلى ذلك الوادي الذي ذكر، فإذا أصحابي هنالك، فأخذتُهم، ورجعتُ إلى المِصِّيصَة. فهذا أغربُ ما جرَى.

قال الوليد: وأخبرني بعضُ شيوخِنا أنَّهُ رأى البطالَ وهو قافلٌ من حجَّتِه، وكان قد شُغل بالجهادِ عن الحَجّ، وكان يسأل اللّه دائمًا الحَجَّ ثم الشهادة، فلم يتمكَّنْ من حجَّةِ الإسلام إِلَّا في السنة التي استشهد فيها. رحمه اللّه تعالى. وكان سببُ شهادَتِه أنَّ ليون مَلِكَ الرُّوم خرج من القُسْطَنْطينيَّةِ في مئةِ ألفِ فارس، فبعث البِطْريق - الذي البطالُ متزوجٌ بابنتِه التي ذكَرْنا أمرَها - إلى البطَّال يُخبرُه بذلك. فأخبرَ البطالُ أميرَ عساكرِ المسلمين بذلك، وكان الأميرُ مالك بن شَبيب، وقال له: إنَّ المصلحةَ تقتضي أنْ نتحَصَّنَ في مدينةِ حرَّان، فنكونُ بها حتى يقدَمَ علينا سُليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية، فأبَى عليهِ ذلك ودَهِمَهُمُ الجيش، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، والبطَالُ بين يدَي الأبطال، ولا يتجاسَرُ أحدٌ أنْ يُنوِّهَ باسمه خوفًا عليه من الروم؛ فاتَّفقَ أن فدَاهُ بعضُهم، وذكر اسمَه غلطًا منه، فلما سمع ذلك فُرسان الرُّوم حَمَلوا عليه حملةً واحدة، فاقتلعوهُ من سَرْجِهِ برماحِهم، فألقَوْهُ إلى الأرض، وساقوا وراءَ الناسِ يقتلون ويأسرون،

ص: 182

وقُتل الأميرُ الكبير مالك بن شَبيب، وانكسر المسلمون، وانطلقوا إلى تلك المدينةِ الخرَاب، فتحصَّنوا فيها، وأصبح ليون، فوقف على مكانِ المعركة، فإذا البطَّالُ بآخرِ رَمَق، فقال له ليون: ما هذا يا أبا يحيى!؟ فقال: هكذا تُقتلُ الأبطال. فاستدعى ليون بالأطباء ليداووه، فإذا جراحُهُ قد وصلَتْ إلى مَقَاتِلِه، فقال له ليون: هل من حاجةٍ يا أبا يحيى؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: تأمر منْ معَكَ من الأسارى من المسلمين، أنْ يلُوا غَسْلي والصلاةَ عليَّ ودَفْني. ففعل الملكُ ذلك. وأطلقَ لأجلِ ذلك أولئك الأسارى، وانطلقَ ليون إلى جيشِ المسلمين الذين تحصَّنوا فحاصرَهم، فبينما هم في تلك الشِّدَّةِ والحِصار إذْ جاءَتْهُم البُرُدُ بقدومِ سليمان بنِ هشام في الجيوش الإسلامية، ففرَّ ليون في جيشِهِ الخبيث هاربًا، راجعًا إلى بلاده، قبَّحه الله، فدخل القُسْطَنْطينيَّةَ وتحصَّنَ بها.

قال خليفةُ بن خياط

(1)

: كانتْ وفاةُ البَطَّال ومَقْتَلهُ بأرضِ الرُّوم في سنةِ إحدى وعشرين ومئة.

وقال ابنُ جرير

(2)

: في سنةِ ثنتين وعشرين ومئة.

وقال ابنُ حسانَ الزيادي: قُتل في سنةِ ثلاثَ عشرةَ ومئة. قلتُ: وقد قاله غيرُه، وأنه قُتل هو والأمير عبد الوهاب بن بُخت في سنةِ ثلاثَ عشرةَ ومئة، كما ذكرنا ذلك، فاللّه أعلم، ولكنَّ ابنَ جرير لم يؤرِّخْ وفاتَهُ إلَّا في هذه السنة. واللّه أعلم.

وقال أبو بكر بن عياش: قيل للبطَّال: ما الشجاعة؟ قال: صَبْرُ ساعة.

قلتُ: هذا مُلخَّصُ ابنِ عساكر في ترجمةِ البطَّال، مع تقَصِّيهِ للأخبار واطَلاعِه عليها، وأَمَّا ما يذكره العامَّةُ عن البطَّالِ من السيرةِ المنسوبة إلى دلهمة والبطال والأمير عبد الوهاب والقاضي عُقبة، فكَذِبٌ وافتراء، ووضعٌ بارد، وجهلٌ كبير، وتخبُّطٌ فاحش، لا يُرَوَّجُ ذلك إلَّا على غَبيٍّ أو جاهلٍ رَديء؛ كما يُروَّجُ عليهم سيرةُ عنترةَ العَبْسي المكذوبة؛ وكذلك سيرة البَكْري والدنف وغير ذلك. والكَذِبُ المفتعلُ في سيرةِ البكري أشدُّ إثمًا وأعظَمُ جُرمًا من غيرها، لأنَّ واضعَها يدخل في قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا فلْيَتَبوَّأ مَقْعَدَهُ من النار"

(3)

.

‌وممن تُوفِّي في هذه السنةِ من الأعيان:

إياسُ الذَّكِيّ

(4)

وهو إياسُ بن معاوية بن ...................................................

(1)

في تاريخه ص (352).

(2)

هو الطبري في تاريخه (4/ 210)، كما تقدم ص (180).

(3)

أخرجه البخاري (110) في باب إثم من كذب على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مسلم (3) عن أبي هريرة في المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 234)، التاريخ الكبير (1/ 442)، الجرح والتعديل (2/ 282)، حلية =

ص: 183

قُرَّة

(1)

بن إيَاس بن هلال بن رئاب بن عَبْد

(2)

بن دُرَيد بن أوْس بن سُوَاءَةَ بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن ذُبيان بن ثعلبةَ بنِ أوْس بن عثمان بن عمرو بن أُدِّ بنِ طابِخَة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن معَد بنِ عدنان.

هكذا نسبَهُ خليفة بن خياط

(3)

، وقيل غيرُ ذلك في نسبه، وهو أبو واثلة المُزَني، قاضي البصرة، وهو تابعيّ، ولجَدِّهِ صُحبة، وكان يُضربُ المثلُ بذكائه.

روى عن أبيه عن جَدِّهِ مرفوعًا في الحياء، وأنس بن مالك، وسعيد بن جُبير، وسعيد بن المُسيِّب، ونافع، وأبي مِجْلز. وعنه الحمَّادان، وشعبة، والأصمعي، وغيرُهم.

قال عنه محمد بن سيرين: إنَّه لَفَهِم، إنَّه لَفَهِم. وقال محمد بن سعد والعِجْلي وابنُ مَعين والنسائي: ثقة. زادَ ابنُ سعد

(4)

: وكان عاقلًا من الرجال فَطِنًا. وزاد العِجْلي

(5)

: وكان فقيهًا عَفيفًا.

وقد قدم دمشق في أيامِ عبدِ الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد العزيز، ومرَّةً أخرى حين عزَلَهُ عَديُّ بن أرْطاة عن قضاءِ البَصْرة. قال أبو عُبيدة وغيرُه: تحاكَمَ إياسٌ - وهو صبيٌّ شابٌّ - وشيخ إلى قاضي عبدِ الملك بن مروان بدمشق، فقال له القاضي: إنَّهُ شيخٌ وأنتَ شابّ، فلا تُساوِهِ في الكلام. فقال إياس: إنْ كان كَبيرًا فالحقُّ أكبر منه. فقال له القاضي: اسكُتْ. فقال: ومنْ يتكلَّمُ بحُجَّتي إذا سكتُّ؟ فقال القاضي: ما أحسبكَ تنطقُ بحقٍّ في مجلسي هذا حتى تقوم. فقال إياس: أشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله. زاد غيرُه: فقال القاضي: ما أظنُّك إلَّا ظالمًا له. فقال: ما على ظنِّ القاضي خرجتُ من منزلي. فقام القاضي، فدخل على عبدِ الملك، فأخبرَهُ خبرَه. فقال: اقضِ حاجتَه، وأخرِجْهُ الساعةَ من دمشق لا يُفسد عليَّ الناس.

وقال بعضُهم: لما عزَلَهُ عدِيُّ بن أرطاة عن قضاء البصرة فرَّ منه إلى عمر بنِ عبد العزيز فوجدَهُ قد مات. فكان يَجْلسُ في حَلْقَةٍ في جامعِ دمشق؛ فتكلَّم رجلٌ من بني أمية، فردَّ عليه إياس، فأغلظ له الأموي، فقام إياس، فقيل للأموي: هذا إياسُ بن معاوية المزني. فلما عاد من الغد اعتذَر له الأمويُّ

= الأولياء (3/ 123)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 240)، مشاهير علماء الأمصار ص (153)، الثقات لابن حبان (4/ 35)، صفة الصفوة (3/ 263)، تهذيب الكمال (3/ 407)، سير أعلام النبلاء (5/ 155)، الكاشف (1/ 259)، ميزان الاعتدال (1/ 450)، لسان الميزان (7/ 181)، مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (5/ 92)، تهذيب التهذيب (1/ 341)، تقريب التهذيب ص (117).

(1)

وقع في (ق) تصحيف وتحريف في الأسماء كثير، فأثبتُّ الصواب وأضربتُ عن إثقال الحواشي به.

(2)

وقيل: "عُبيد" كما في تاريخ ابن عساكر انظر مختصر ابن منظور (5/ 92)، وهو بتحقيق كاتب هذه السطور.

(3)

في طبقاته (1/ 37).

(4)

في الطبقات الكبرى (7/ 234).

(5)

في معرفة الثقات (1/ 240).

ص: 184

وقال: لم أعرِفْكَ وقد جلستَ إلينا بثيابِ السُّوقة، وكلَّمتَنا بكلامِ الأشراف فلم نحتمِلْ ذلك.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حَدَّثَنَا نعيم بن حمّاد، حَدَّثَنَا ضَمْرَة، عن ابن شَوْذَب، قال: كان يقال: يُولدُ في كلِّ مئةِ سنةٍ رجلٌ تامُّ العَقْل. فكانوا يرَوْنَ أنَّ إياسَ بن معاويةَ منهم.

وقال العِجْليّ: دخل على إياس ثلاثُ نِسْوة، فلما رآهنَّ قال: أمَّا إحداهنَّ فمُرْضِع، والأخرى بِكْر، والأخرى ثيِّب. فقيل له: بمَ علمتَ هذا؟ فقال: أمَّا المُرضع فكلما قعدَتْ أمسكتْ ثديَها بيدِها، وأمَّا البِكْر فكلَّما دخلتْ لم تلتفتْ إلى أحد، وأَمَّا الثَّيِّبُ فكلَّما دخلتْ نظرَتْ ورَمَتْ بعينها.

وقال يونس بن حَبيب

(1)

: حَدَّثَنَا الأحنفُ بن حَكيم بأصبهان، حَدَّثَنَا حماد بن سَلَمة: سمعتُ إياسَ بنَ معاوية يقول: أعرفُ الليلةَ التي وُلدتُ فيها، وضعَتْ أُمِّي على رأسي جَفْنة.

وقال المدائني: قال إياسُ بنِ معاويةَ لأُمِّه: ما شيءٌ سمعتُهُ وأنا صغير، وله جَلَبةٌ شديدة؟ قالت: ذاك طَسْتٌ من نُحاس، سقطَ من فوْقِ الدَّارِ إلى أسفل، ففَزِعْتُ فوضعتُكَ تلكَ الساعة.

وقال أبو بكر الخرائطي عن عمر بن شَبَّةَ النُّمَيْري، قال: بلغني أنَّ إياسًا قال: ما يَسُرُّني أنْ أكذب كَذْبَةً يَطَّلِعُ عليها أبي معاوية لا أحاسبُ عليها يوم القيامة، وأنَّ الدنيا لي بحذافيرها.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حَدَّثَنَا خلف بن هشام، حَدَّثَنَا حمّاد بن زيد، عن حبيب بن الشهيد، عن إياس بن معاوية قال: ما خاصمتُ أحدًا من أهلِ الأهواء بعَقْلي كُلِّه، إلَّا القدَرِيَّة، قلتُ لهم: أخبروني عن الظلم ما هو؟ قالوا: أخذُ الإنسانِ ما ليس له. قلت: فإنَّ اللّه له كلُّ شيء.

قال بعضُهم عن إيَاس قال: كنتُ في الكُتَّاب وأنا صبي، فجعل أولادُ النصارى يضحكونَ من المسلمين ويقولون: إنهم يزعمون أنَّهُ لا فَضلةَ لطعامِ أهلِ الجنة. فقلت للفقيه - وكان نصرانيًّا - ألستَ تزعمُ أنَّ في الطعامِ ما ينصرفُ في غذاءَ البَدَن؟ قال: بَلَى. قلت: فما يُنكرُ أنْ يجعلَ اللهُ طعامَ أهلِ الجنةِ كلَّهُ غذاءً لأبدانِهم؟ فقال له معلِّمُهُ: ما أنتَ إلَّا شيطان.

وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورَدَ به الحديثُ الصحيح كما سنذكُره إنْ شاء الله في صفةِ أهلِ الجنة أنَّ طعامَهم ينصرفُ جُشاءً وعَرَقًا كَالمِسْك، فإذا البطنُ ضامر

(2)

.

وقال سفيان: وحين قدم إياس واسط فجاءه ابنُ شُبْرمة بمسائلَ قد أعدَّها، فقال له: أتأذنُ لي أنْ أسألكَ؟ قال: سَلْ وقد ارتبتُ حين سألته عن سبعين مسألةً يُجيبُهُ فيها، ولم يختلفا إلَّا في أربعِ مسائل؟

(1)

في (ق): "صلعب" تصحيف والمثبت من (ب، ح)، وطبقات المحدثين بأصبهان (2/ 88)، والخبر فيه.

(2)

رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2835) من حديث جابر بن عبد الله، وأحمد في "مسنده"(4/ 367 و 371) من حديث زيد بن أرقم.

ص: 185

ردَّهُ إياسٌ إلى قوله، ثم قال له إياس: أتقرأُ القرآن؟ قال: نعم. قال: أتحفظُ قولَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]؛ قال: نعم. قال: وما قَبلَها وما بعدَها؟ قال: نعم. قال: فهل أبقَتْ هذه الآية لآلِ شُبْرُمة رأيًا؟.

وقال عباس عن يحيى بن مَعِين

(1)

: حَدَّثَنَا سعيد بن عامر، حَدَّثَنَا عمر بن علي قال: قال رجلٌ لإياسِ بنِ مُعاوية: يا أبا واثلة، حتى متى يبقى الناسُ وحتى متى يتوالَدُ الناسُ ويموتون؛ فقال لجلسائه: أجيبوه. فلم يكن عندَهم جواب، فقال إياس: حتى تتكاملَ العِدَّتان، عدَّةُ أهلِ الجنة وعِدَّةُ أهلِ النار.

وقال بعضُهم: اكترى إياسُ بن معاويةَ من الشام قاصدًا الحجَّ، فركب معه في المحارة

(2)

غَيلانُ القدَرِيّ، ولا يعرفُ أحدُهما صاحبَه، فمكثا ثلاثًا لا يُكلِّمُ أحدُهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث، تحادثا فتعارفا، وتعجَّبَ كلُّ واحدٍ منهما من اجتماعِهِ مع صاحبه، لمباينةِ ما بينهما في الاعتقادِ في القدَر؛ فقال له إياس: هؤلاء أهلُ الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] ويقول أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]؛ وتقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]. ثم ذكر له من أشعارِ العرَب وأمثالِ العجَم ما فيه إثباتُ القدَر؛ ثم اجتمع مرَّةً أخرى إياسٌ وغَيلان عندَ عمر بن عبد العزيز، فناظر بينهما، فقهره إياس، وما زال يحصُرُهُ في الكلام حتى اعترفَ غَيلانُ بالعجز، وأظهرَ التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إنْ كان كاذبًا؛ فاستجاب اللّه منه، فأمكنَ من غَيلان، فقُتل وصُلب بعد ذلك، ولله الحمد والمنة.

ومن كلام إياس الحسَن: لأنْ يكونَ في فعالِ الرجلِ فَضْلٌ عن مقالِهِ خيرٌ من أنْ يكونَ في مقالهِ فضلٌ عن فعالِه.

وقال سفيان بن حسين: ذكرتُ رجلًا بسُوءٍ عندَ إياسِ بنِ معاوية، فنظرَ في وَجْهي وقال؛ أغزوتَ الرُّوم؟ قلت: لا. قال: السِّنْدَ؟ قلت: لا، قال: والهند؟ قُلتُ: لا. قال: والتُّرك؟ قلت: لا. قال: أفَسَلِمَ منك الرُّومُ والسِّندُ والهندُ والتُّرك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعُدْ بعدَها.

وقال الأصمعي عن أبيه: رأيتُ إياسَ بن معاوية في بيتِ ثابتٍ البناني؛ وإذا هو أحمرُ طويلُ الذِّراع، غليظ الثياب، يلُوثُ عِمَامَته

(3)

، وهو قد غلب على الكلام، فلا يتكلَّمُ معه أحدٌ إلَّا عَلاه. وقد قال له

(1)

في تاريخه (رواية الدوري)(4/ 340).

(2)

المحارة: شبه الهودج. القاموس (حور).

(3)

في (ق): "يلون عمامته" تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومعنى يلوثُ من اللَّوث: وهو الطيّ؛ لُثت العمامة ألُوثها لَوْثًا: أدرتُها مرَّتيْن. لسان العرب (لوث).

ص: 186

بعضُهم: ليس فيك عَيب سوى كثرةِ كلامِك. فقال: أفي حقٍّ أتكلَّمُ أمْ باطل؟ فقيل: بل في حَقّ. فقال: كلَّما كثُرَ الحقُّ فهو خير.

ولامَهُ بعضُهم في لبسِهِ الثيابَ الغليظة، فقال: إنما ألْبَسُ ثوبًا يخدمني ولا ألبَس ثوبًا أخدمُه.

وقال الأصمعي: قال إياسُ بن معاوية: إنَّ أشرفَ خِصَالِ الرجلِ صِدْقُ اللِّسان. ومنْ عُدِمَ فَضِيلة الصِّدق فقد فُجع بأكرمِ أخلاقه.

وقال بعضُهم: سأل رجلٌ إياسًا عن النَّبيذِ فقال: هو حرام. فقال الرجل: فأخبِرْني عن الماء؟ فقال: حلال. قال: فالكَشُوت

(1)

؟ قال: حلال. قال: فالتمر؟ قال: حلال. قال: فما بالُهُ إذا اجتمعَ حَرُم؟ فقال إياس: أرأيتَ لو رَمَيتُكَ بهذه الحفنة من التراب، أتوجعُك؟ قال: لا. قال: فهذه الحفنة من التِّبْن؟ قال: لا توجعني. قال: فهذه الغَرْفةُ من الماء؟ قال: لا توجعني شيئًا. قال: أفرأيتَ إنْ خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طِينًا، ثم تركته حتى استحجَر، ثم رَمَيْتُكَ أيوجعُكَ؟ قال: إي واللّه وتقتلُني. قال: فكذلك تلك الأشياءُ إذا اجتمعتْ

(2)

.

وقال المدائني: بعث عمر بن عبد العزيز عَدِيَّ بن أرطاة على البصرة نائبًا، وأمره أن يجمعَ بين إياس والقاسم بن ربيعة الجَوْشَني، فأيُّهما كان أفقهَ فَلْيولِّهِ القضاء. فقال إياس - وهو يريدُ أن لا يتولَّى -: أيُّها الرجل، سلْ فقيهي البصرةِ الحسنَ وابنَ سيرين. وكان إياسٌ لا يأتيهما، فعرف القاسم أنَّه إنْ سألهما أشارَا به [يعني بالقاسم لأنه كان يأتيهما] فقال [القاسم]

(3)

لعدي: واللّه الذي لا إله إِلَّا هو، إن إياسًا أفضَلُ مني وأفقهُ مني وأعلمُ بالقضاء، فإنْ كنتُ صادقًا فولِّه، وإنْ كنتُ كاذبًا فما ينبغي أن تُولِّيَ كاذبًا القضاء. فقال إياس: هذا رجلٌ أوقف على شفيرِ جهنَّم، فافتدَى منها بيمينٍ كاذبةٍ يستغفرُ اللّه منها، فقال عدي: أما إذْ فَطِنتَ إلى هذا فقد وَلَّيتُكَ القضاء. فمكث سنةً يَفصِلُ بين الناس ويُصلحُ بينهم، وإذا تبيَّنَ له الحقُّ حكم به، ثم هرَبَ [إلى عمرَ بنِ عبد العزيز بدمشق](3) فاستعفاه القضاء، فولَّى عَدِيُّ بعدَهُ الحسَنَ البصري.

قالوا: لما توَلَّى إياسٌ القضاءَ بالبَصْرةِ فَرِحَ بهِ العلماء، حتى قال أيوب: لقد رَمَوها بحَجَرِها. وجاء

(1)

في (ق): "فالكسور" تصحيف، والمثبت من (ح) وتهذيب الكمال. والكشُوتُ، والأُكْشُوثُ، والكشُوثَى: كلُّ ذلك نباتٌ مُجْتثٌّ مقطوعُ الأصل، وقيل: لا أصل له، وهو أصْفرُ يتعلق بأطراف الشَّوْكِ وغيره، ويُجْعلُ في النبيذ سوَاديَّةٌ، وقال الجوهري: الكشُوتُ نبتٌ يتعلَّقُ بأغصانِ الشجرِ، من غير أن يَضْربَ بعِرْقٍ في الأرض؛ فلا أصلٌ، ولا وَرَقٌ، ولا نسيمٌ، ولا ظِلٌّ، ولا ثَمَرٌ. ويسميه الناسُ الكشُوثَ، قال: وبزْرٌ قطُونا، قال: والمدُّ فيها أكثر، وقد يقصران، وفتح الكاف من كَشُوثاء. لسان العرب (كشث).

(2)

ذكره المزي في تهذيب الكمال (3/ 415) مسندًا مطوّلًا.

(3)

ما مرَّ بين معقوفين ليس في (ب، ح) وهو من (ق).

ص: 187

الحسنُ وابنُ سِيرين فسلَّمَا عليه، فبكى إياس، وذكر الحديث "القُضاةُ ثلاثة: قاضيانِ في النار وواحدٌ في الجنة"

(1)

. فقال الحسن: فقد قال اللّه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78]، قال: ثم جلس للناسِ في المسجد، واجتمعَ عليه الناسُ للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيَّة، حتى كان يُشبَّهُ بشُرَيح القاضي.

ورُوِي عنه أنَّه كان إذا أشكلَ عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.

وقال إياس: إني لأكلِّمُ الناسَ بنصفِ عَقْلي، فإذا اختصم إليَّ اثنان جمعت لهما عقلي كُلَّه. وقال له رجل: إنَّك لتُعجَبُ بِرأيك. فقال: لولا ذلك لم أقْضِ به. وقال له آخر: إنَّ فيك خِصالًا لا تُعجبُنِي. فقال: تحكمُ قبلَ أنْ تفهم، ولا تجالسُ كلَّ أحد، وتَلبَسُ الثيابَ الغَلِيظة. فقال له: أيُّها أكثر، الثلاثة أو الاثنان؟ قال: الثلاثة. فقال ما أسرَعَ ما فهِمتَ وأجبتَ! فقال: أوَ يَجهَلُ هذا أحد؟! فقال: وكذلك ما أحكمُ أنا بِه. وأما مجالستي لكلِّ أحَد فأنْ أجتمعَ بِمَنْ يَعرِفُ لي قدري أحَبَّ إلي من أنْ أجتمع بِمَنْ لا يَعرِفُني. وأما الثيابُ الغِلاظ فأنا ألْبَسُ منها ما يَقِيني لا ما أقيهِ أنا.

قالوا: وتحاكمَ إليه اثنانِ قد أودَعَ أحدُهما عندَ الآخرِ مالًا، وجحَدَهُ الآخر، فقال إياس للمُودِع: أين أودعتَهُ؟ قال: عند شجرةٍ في بُستان، فقال انطِلقْ إليها فقِفْ عندَها لعلَّكَ تتذكَّرُ - وفي رواية: أنه قال له: هل تستطيعُ أنْ تذهبَ إليها فتأتيَ بورقٍ منها؟ قال: نعم - قال: فانطلق وجلس الآخر، فجعلَ إياسٌ يحكُمُ بين الناس، ويلاحظُه، ثم استدعاهُ فقال له: أوَصَلَ صاحبُكَ بعدُ إلى المكان؟ فقال: لا بعدُ أصلحكَ اللّه. فقال له: قُمْ يا عَدُوَّ اللّه، فأدِّ إليه حَقَّه، وإِلَّا جعلتُكَ نَكَالًا. وجاء ذلك الرجل، فقام معه فدفع إليه وديعتَهُ بكمالِها.

وجاء آخَرُ فقال له: إنِّي أودَعْتُ عندَ فلانٍ مالًا، وقد جَحَدني. فقال له: اذهَبِ الآنَ وأْتِنِي غدًا. وبعثَ من فَوْرِهِ إلى ذلك الرجل الجاحِدِ فقال له: إنَّه قدِ اجتمعَ عندَنا هاهنا مال، فلم نرَ لَهُ أمينًا نضَعُهُ عندَهُ إلَّا أنت، فضَعْهُ عندَكَ في مكانٍ حَرِيز. فقال له: سمعًا وطاعةً. فقال له: اذهبِ الآن وأْتِنِي غدًا. وأصبح ذلك الرجلُ صاحبُ الحق، فجاء فقال له: اذهَبِ الآن إليه، فقل له: أعطِني حَقِّي وإلَّا رفعتُكَ إلى القاضي. فقال له ذلك، فخافَ أنْ لا يُودعَ القاضي عنده المال فدفع إليه حقه وجاء إلى إياس فأعلمَهُ ثم جاء ذلك الرجلُ من الغَدِ رجاءَ أنْ يُودِع، فانتهرَهُ إياسٌ وطرَدَهُ وقال له: أنت خائن.

وتحاكَمَ إليه اثنان في جارية، فادَّعَى المشتري أنَّها ضعيفةُ العَقْل، فقال لها إياس: أيُّ رجلَيْكِ أطول؟ فقالت: هذه. فقال لها: أتذكرينَ ليلةَ وُلدتِ؟ فقالت: نعم. فقال للبائع: رُدَّ رُدّ.

(1)

أخرجه الترمذي (3/ 613)(1322) عن بريدة في الأحكام: باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، وأبو داود (3/ 299) (3573) في الأقضية: باب في القاضي يخطئ، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 188

وروى ابن عساكر أنَّ إياسًا سمع صوت امرأةٍ من بيتِها فقال: هذه امرأةٌ حامِلٌ بصَبي. فلمَّا ولدتْ ولدتْ كما قال، فسئل: بمَ عرفتَ؟ قال: سمعتُ صوتَها ونفَسُها معه، فعلمتُ أنَّها حامل، وفي صوتِها صَحَل

(1)

، فعلمتُ أنَّهُ غلام.

قالوا: ثم مرَّ يومًا ببعضِ المكاتب، فإذا صبيٌّ هنالك فقال: إنْ كنتُ أدري شيئًا فهذا الصبيُّ ابنُ تلك المرأة، فإذا هو ابنُها.

وقال مالك عن الزهري، عن أبي بكر، قال: شهد رجلٌ عندَ إياس، فقال له: ما اسمُك. فقال: أبو العُنْقُر

(2)

. فلم يقبلْ شهادتَه.

وقال سفيان الثوري عن الأعمش: دَعَوني إلى إياس، فإذا رجلٌ كلَّما فرَغَ من حديثٍ أخَذَ في آخر.

وقال إياس: كلُّ رجلٍ لا يَعْرِفُ عَيبَ نفسِه فهو أحمق. فقيل له: ما عَيْبُك؟ فقال: كثرةُ الكلام.

قالوا: ولما ماتت أمُّهُ بَكَى عليها، فقيل له في ذلك، فقال: كان لى بابانِ مفتوحانِ إلى الجنة، فغُلِق

(3)

أحدُهما.

وقال له أبوه: إنَّ الناسَ يلدونَ أبناءً، ووَلَدْتُ أنا أبًا.

وكان أصحابهُ يجلِسُون حولَه ويكتبون عنه الفِرَاسة، فبينما هم حَوْلَه جلوس، إذْ نظرَ إلى رجل قد جاء، فجلس على دَكَّةِ حانوت

(4)

، وجعل كلَّما مَرَّ أحَدٌ ينظرُ إليه. ثم قام فنظر في وجه الرجل، ثم عاد فقال لأصحابه: هذا فقيهُ كُتَّاب، قد أبَقَ له غلامٌ أعور، فهو يتطلَّبُه، فقاموا إلى ذلك الرجل فسألوه، فوجدوهُ كما قال إياس، فقالوا لإياس: مِنْ أينَ عرفتَ ذلك؟ فقال: لَمَّا جلسَ على دَكَّةِ الحانوت علمتُ أنَّهُ ذو ولاية. ثم نظرتُ فإذا هو لا يصلحُ إِلَّا لفَقاهةِ المكتب، ثم جعل ينظرُ إلى كلِّ مَنْ مَرَّ بِه، فعرفتُ أنَّهُ فَقَدَ غلامًا، ثم لما قامَ فنظرَ إلى وجهِ ذلك الرجل من الجانب الآخر عرفتُ أنَّ غلامَهُ أعوَر.

وقد أورد ابنُ خَلِّكَان أشياء كثيرةً في ترجمته

(5)

، من ذلك أنَّه قال: شَهِدَ عندَهُ رجلٌ في بستان فقال

(1)

وفي صَوْتِها صَحَل: يريد فيه كالبُحَّة وهو أنْ لا يكون حادًّا، والصَّحَلُ البُحَّة، ومثله الجَشَّة: وهي شدة الصوت مع بحة، غريب الحديث للخطابي (1/ 437)، ولابن قتيبة (1/ 472).

(2)

نقله من تاريخ دمشق (10/ 30). والعُنْقُر يضم القاف وفتحها أولاد الدهاقين، وبالضم ناقة منجبة، كما في القاموس المحيط.

(3)

أغْلَقَ الباب فهو مُغْلَقٌ والاسم الغَلْقُ. وغَلَقَهُ لغة رديئة متروكة. وغَلَّق الأبواب: شُدِّدَ للكثرة. مختار الصحاح (غلق).

(4)

الدَّكَّةُ: بناءٌ يسطح أعلاه يقعد عليه. لسان العرب (دكك).

(5)

في وفيات الأعيان (1/ 247 - 250).

ص: 189

له: كم عدَدُ أشجارِه؟ فقال له: كم عدَدُ جذوعِ هذا المجلس الذي أنتَ فيه من مُدَّةِ سِنين؟ فقلت: لا أدري. وأقرَرْتُ شهادتَه.

قال خليفة

(1)

وغيرُ واحد: توفي بواسط سنة ثنتين وعشرين ومئة.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومئة

ذكر المدائني عن شيوخه أنَّ خاقانَ ملكَ التُّرْك لما قُتل في ولايةِ أسَدِ بن عبد اللّه القَسْرِيّ على خُراسان تفرَّقَ شملُ الأتراك، وجعل بعضُهم يُغِير على بعض، وبعضُهم يقتلُ بعضًا، حتى كادَتْ أنْ تخرَبَ بلادُهم. واشثغلوا عن المسلمين.

وفيها سأل أهلُ الصُّغْد من أمير خُراسان نصرِ بنِ سَيَّار أن يردّهُمْ إلى بلادهم، وسألوه شروطًا أنكرها العلماء، منها أن لا يعاقب من ارتدَّ منهمْ عن الإسلام، ولا يؤخذُ أسيرُ المسلمينَ منهم، وغير ذلك، فأراد أنْ يوافِقَهم على ذلكِ لِشدَّةِ نكايتِهم في المسلمين، فعاب عليه الناسُ ذلك، فكتب إلى هشامٍ في ذلك، فتوقَّف، ثم رأى أنَّ هؤلاءِ إذا استمرُّوا على معانَدَتِهِم

(2)

للمسلمين كان ضرَرُهم أشَدَّ أجابَهُمْ إلى ذلك. وقد بعثَ يوسفُ بن عمر أميرَ العراق وفدًا إلى أميرِ المؤمنين يسألُ منه أنْ يَضُمَّ إليهِ نِيَابَةَ خُرَاسان، وتكلَّموا في نَصْرِ بن سَيَّار، بأنَّهُ وإنْ كانَ شَهْمًا شجاعًا إلَّا أنَّه قد كَبِرَ وضَعُفَ بصَرُه، فلا يَعرفُ الرجلَ إلَّا من قَرِيبٍ بصَوْتِه، وتكلَّموا فيه كلامًا كثيرًا، فلم يَلْتَفِتْ إلى ذلك هشام، واستمرَّ به على إمرَةِ خُراسانَ وولايتِها.

قال ابنُ جرير

(3)

: وحجَّ بالناسِ فيها يزيدُ بن هشام بن عبد الملك.

والعُمَّالُ فيها مَنْ تقدَّمَ ذِكْرُهم في التي قبلَها.

‌وتُوفِّيَ في هذه السنة:

رَبيعةُ بن يزيد القصير من أهل دمشق.

وأبو يونس سليمان بن جُبير.

وسِمَاك بن حَرْب.

ومحمد بن واسع بن حيان، وقد ذكَرْنا تراجِمَهم في كتابنا "التكميل" وللّه الحمد

(4)

.

(1)

في طبقاته (1/ 212).

(2)

في (ح): "معاداتهم".

(3)

هو الطبري في تاريخه (4/ 214).

(4)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي: =

ص: 190

‌ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومئة

فيها غزا سليمانُ بن هشام بن عبد الملك بلادَ الروم فلقي اليون فقاتله، فسَلِمَ سليمانُ وغَنِم.

وفيها قَدِمَ جماعةٌ من دُعاةِ بني العباس من بلاد خُراسان قاصدينَ إلى مكة، فمرُّوا بالكوفة، فبَلَغهم

= [قال محمد بن واسع (ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 241)، طبقات خليفة (215)، تاريخ خليفة (378)، التاريخ الكبير (1/ 255)، التاريخ الصغير (354)، الجرح والتعديل (8/ 113)، ثقات ابن حبان (7/ 366)، حلية الأولياء (2/ 345)، صفة الصفوة (3/ 266)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 469)، مختصر تاريخ دمشق (23/ 286)، تهذيب الكمال (26/ 576)، سير أعلام النبلاء (6/ 119)، العبر (1/ 290)، ميزان الاعتدال (4/ 258)، الوافي بالوفيات (5/ 172)، تهذيب التهذيب (9/ 499)، طبقات الشعراني (1/ 36)، الكواكب الدرية (1/ 430).): أولُ من يُدْعَى يومَ القيامةِ إلى الحساب القُضاة. وقال: خمسُ خِصَالٍ تُمِيتُ القلب: الذنبُ على الذنب، ومجالسةُ الموتى - قيل له: ومَنِ الموتَى؟ قال: كلُّ غنيٍّ مُتْرَفٍ وسلطانٍ جائر - وكثرةُ مُشاقَّةِ النساء وحديثهنّ، ومُخَالطةُ أهلِه.

وقال مالكُ بن دينار: إني لأغبطُ الرجلَ يكونُ عيشُهُ كَفَافًا فيقنَعُ به. فقال محمد بن واسع: أغبَطُ منهُ والله عِندي مَنْ يُصبِحُ جائعًا وهو عن الله راضٍ.

وقال: ما آسى على الدنيا إِلَّا على ثلاث: صاحبٌ إذا اعوجَجْتُ قوَّمَني، وصلاةٌ في جَماعة يُحمَلُ عنِّي سَهْوُها وأفوزُ بفضلِها، وقُوتٌ من الدنيا ليس لأحدٍ فيه مِنَّة، ولا للّهِ عليَّ فيه تَبِعَة.

وروى زياد (في (ق): "رواد بن الربيع" تصحيف، والمثبت من مصادر تخريج الخبر.) بن الربيع [عن أبيه، قال: رأيتُ محمد بن واسع بسوق مرو (في (ق): "بسوق بزور"، والمثبت من مصادر تخريج الخبر، وفي بعضها "بسوق مرَّةً".) وهو يعرِضُ حمارًا له للبيع، فقال له رجل: أتَرْضاهُ لي؟ فقال: لو رضيتُه لم أبعْه (أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 255) في ترجمة محمد بن واسع، وأبو نعيم في الحلية (2/ 349)، والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 16)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 330)(5296)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 270).).

ولما ثَقُلَ محمد بن واسع كَثُرَ عليه الناسُ في العِيَادة، قال بعضُ أصحابه: فدخلتُ عليه فإذا قومٌ قُعود، وقومٌ قِيَام، فقال: ماذا يُغني هؤلاء عنِّي إذا أُخِد بناصيتي وقدَمي غدًا، وأُلقيت في النار؟!.

وبعثَ بعضُ الخلفاء مالًا مستكثَرًا إلى البصرة ليفرَّقَ في فقراء أهلها، وأمرَ أنْ يُدفَعَ إلى محمد بن واسع منه، فلم يقبَلْهُ ولم يلتمِسْ منه شيئًا. وأمَّا مالك بن دينار فإنه قَبِلَ ما أُمِرَ له به، واشترى به أرِقَّاء وأعتقهم ولم يأخد لنفسِهِ منه شيئًا، فجاءه محمد بن واسع يلومُه على قَبُولهِ جوائزَ السلطان، فقال له: يا مالك، قَبِلتَ جوائزَ السلطان!؟ فقال له مالك: يا أبِا عبد اللّه، سَل أصحابي ماذا فعلتُ منه، فقالوا له: إنه اشترى به أرِقَّاء وأعتقهم. فقال له: سألتُكَ باللّه أقلبُكَ الآن لهم مثلُ ما كان قبلَ أنْ يَصِلوك؟ فقام مالك وحَثَى على رأسِهِ الترابَ وقال: إنما يعرفُ اللّهَ محمدُ بن واسع، إنما مالِكٌ حمار، إنما مالك حمار.

وكلامُ محمدِ بن واسع كثيرٌ جِدًّا رحمه الله].

ص: 191

أن في السجنِ جماعةً من الأمراء من نُوَّابِ خالد بن عبد اللّه القَسْري، قد حبسَهم يوسفُ بن عمر، وفيهم عيسى بن معقل العجلي، فاجتمعوا بهم في السجن، فدعَوْهُمْ إلى البيعةِ لبني العباس وإذا عندَهم من ذلك جانبٌ كبير، فقَبِلوا منهم، ووجدوا عندهم في السجن أبا مسلمٍ الخُراساني، وكان إذْ ذاكَ غلامًا يَخدِمُ عيسى بن معقل العِجْلي، وكان محبوسًا فأعجَبَهم شهامَتُه وقوَّتُه، واستجابته مع مولاه إلى هذا الأمر، فاشتراهُ بكرُ بن ماهان بأربعمئةِ درهم، خرَجوا بهِ معَهم، فاستندَبُوهُ لهذا الأمر، فكانوا لا يوجِّهونَهُ إلى مكان إلَّا ذهب ونَتَج ما يوجِّهونه إليه، ثم كان من أمرِهِ ما سنذكرُه إن شاء الله تعالى فيما بعد.

قال الواقدي: ومات في هذه السنة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي يدعو إليه دعاةُ بني العباس، فقام مقامَهُ ولدُه أبو العباس السَّفَّاح، والصحيح أنَّهُ إنَّما تُوفِّي في التي بعدَها.

قال الواقدي وأبو معشر: وحجَّ بالناس فيها عبدُ العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك ومعه امرأته أم سلمة بنت هشام بن عبد الملك. وقيل: إنما حجَّ بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل. قاله الواقدي، والأول ذكره ابنُ جرير

(1)

، واللّه أعلم.

وكان نائبُ الحجاز محمد بن هشام بن إسماعيل يَقِفُ على باب أم سلمة ويهدي إليها الألطاف والتُّحَف، ويعتذِرُ إليها من التقصير، وهي لا تلتفتُ إلى ذلك. ونوَّابُ البلاد هُمُ المذكورون في التي قبلَها.

وفيها تُوفِّيَ:

القاسم بن أبي بَزَّة

(2)

أبو عبد اللّه المكِّي القارئ، مولى عبدِ اللّه بن السائب، تابعيٌّ جليل.

روى عن أبي الطُّفيل عامرِ بن واثلة، وعنهُ جماعة، ووثَّقه الأئمة.

وكانتْ وفاتُهُ في هذه السنة على الصحيح، وقيل بعدَها بسنة، وقيل: سنةَ أربعَ عشرة، وقيل: سنة خمسَ عشرة، فاللّه أعلم.

الزُّهْرِيّ

(3)

محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرَة بن

(1)

تاريخ الطبري (4/ 215).

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 479)، التاريخ الكبير (7/ 167)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 209)، رجال صحيح البخاري (2/ 617)، تهذيب الكمال (23/ 338)، الكاشف (2/ 127)، تهذيب التهذيب (8/ 278)، تقريب التهذيب ص (449).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (2/ 388)، والقسم المتمم (157)، طبقات خليفة (261)، تاريخ خليفة (218)، (356)، التاريخ الكبير (1/ 220)، التاريخ الصغير (1/ 356)، الجرح والتعديل (8/ 71)، ثقات ابن حبان (5/ 349)، حلية الأولياء (3/ 360)، الأنساب (6/ 328)، طبقات الشيرازي (63)، صفة الصفوة (2/ 136)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 438)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 90)، وفيات الأعيان (4/ 177)، مختصر تاريخ دمشق (23/ 227)، تهذيب الكمال (26/ 419)، سير أعلام النبلاء (5/ 326)، =

ص: 192

كِلاب بن مُرَّة، أبو بكر القُرَشيُّ الزُّهْرِى، أحَدُ الأعلام من أئمةِ الإسلام. تابعيٌّ جليل، سمع غيرَ واحدٍ من التابعين وغيرِهم.

روى الحافظُ ابنُ عساكر عن الزُّهْري، قال: أصابَ أهلَ المدينهِّ جَهْدٌ شَديد، فارتحلتُ إلى دمشق، وكان عندي عِيَالٌ كثيرهّ، فجئتُ جامعَها، فجلستُ في أعظم حَلْقَة، فإذا رجلٌ قد خرج من عندِ أميرِ المؤمنين عبدِ الملك فقال: إنَّهُ مّد نزلَ بأميرِ المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيدِ بن المسيِّب فيها شيئًا وقد شذَّ عنه في أُمَّهاتِ الأولاد يرويهِ عن عمر بن الخطاب - فقل: إني أحفظُ عن سعيد بن المسيِّب عن عمرَ بن الخطاب، فأخذني، فأدخلني على عبدِ الملك، فسألني مِمَّنْ أنت؟ فانتسبتُ له، وذكرتُ له حاجتي وعِيَالي فسألنى: هل تحفَظُ القرآن. قلت: نَعَمْ والفرائضَ والسُّنَن، فسألَني عن ذلك كلِّه فأجبتُه

(1)

، فقَضَى دَيْنِي، وأَمَرَ لي بجائزةٍ وقال لي: اطلبِ العِلم، فإنِّي أرَى لكَ عَينًا حافظة، وقلبًا ذَكيًّا. قال: فرجعتُ إلى المدينةِ أطلبُ العِلْم وأتتبَّعُه، فبلغني أنَّ امرأهّ بقُبَاء رأتْ رؤيا عَجيبة فأتيتُها فسألتُها عن ذلك، فقالتْ: إنَّ بعلي ماتَ وترك لنا خادمًا وداجنًا ونُخيلات نشربُ من لبنها، ونأكلُ من ثمرها، فبينما أنا بين النائمةِ واليقظَى رأيتُ كأنَّ ابني الكبير وكان مشتدًّا قد أقبل، فأخذ الشفرةَ فذبح ولدَ الداجنِ وقال: إنَّ هذا يُضَيِّقُ علينا اللَّبَن، ثم نَصَب القِدْرَ، وقطَّعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرةَ فذبح بها أخاه، وأخوه صغير، كما قد جاء، ثم استيقظتُ مذعورةً، فدخل ولدي الكبير فقال: أين اللَّبَن؟ فقلت: يا بُنِي، شَرِبَهُ ولدُ الدَّاجن. فقال: إنَّهُ قد ضَيَّقَ علينا اللبن، ثم أخذ الشفرهَّ فذبحَهُ وقطَّعَهُ في القِدْر، فبَقِيتُ مشفِقَةً خائفةً ممَّا رأيت، فأخذتُ ولديَ الصغير، فغَيَّبْتُهُ في بعضِ بيوتِ الجيران، ثم أقبلتُ إلى المنْزِل وأنا مشفِقةٌ جدًّا ممَّا رأيت، فأخذَتْني عيني فنِمت، فرأيتُ في المنام قائلًا يقول: ما لك مغتمَّة؟ فقلت: إني رأيتُ منامًا، فانا أحذَرُ منه، فقال: يا رؤيا يا رؤيا، فاقبلتِ امرأةٌ حسناءُ جميلةٌ، فقال: ما أردتِ من هذه المرأةِ الصالحة؟ قالتْ: ما أردتُ إلَّا خيرًا. ثم قال: يا أحلام، يا أحلام، فأقبلتِ امرأةٌ دونها في الحُسن والجمال، فقال: ما أردتِ إلى هذ المرأة الصالحة؟ فقالت: ما أردتُ إِلَّا خيرًا. ثم قال: يا أضغاث، يا أضغاث، فأقبلتِ امرأةٌ سوداءُ شَعِثَة، فقال: ما أردتِ إلى هذه المرأة الصالحة؟ فقالت: إنها امرأةٌ صالحة، فأحببتُ أنْ أعَلمَها ساعة. ثم استيقظتُ، فجاء ابني فوضعَ الطعامَ وقال: أين أخي؟ فقلت: إنه درَجَ إلى بيوتِ الجيران، فذهب وراءه، فكأنما هُدِيَ إليه، فأقبل به يُقَبِّلُه، ثم جاء فوضَعَه، وجلَسْنا جميعًا، فأكلنا من ذلك الطعام

(2)

.

= تاريخ الإسلام (5/ 136)، تذكرة الحفاظ (1/ 108)، ميزان الاعتدال (4/ 40)، العبر (1/ 158)، الوافي بالوفيات (5/ 24)، طبقات القراء (2/ 262)، تهذيب التهذيب (9/ 445)، النجوم الزاهرة (1/ 294)، طبقات الحفاظ (42)، شذرات الذهب (1/ 162)، الكواكب الدرية (1/ 439، و 4/ 541).

(1)

في (ب، ح): "وسأله عن ذلك كله فأجاد".

(2)

انظر مختصر تاريخ دمشق (23/ 229 - 231).

ص: 193

ولد الزُّهري في سنةِ ثمانٍ وخمسين في آخرِ خلافةِ معاوية، وكان قصيرًا قليلَ اللِّحْية، له شعراتٌ طوال، خفيفَ العارضَيْن. قالوا: وقد قرأ القرآن في نَحوٍ من ثمانٍ وثمانينَ يومًا. وجالس سعيدَ بن المُسيِّب ثمانَ سنين، تَمَسُّ ركبتُه ركبتَه، وكان يخدمُ عبدَ اللّه

(1)

بن عبدِ اللّه يستقي له الماء المالح، ويدورُ على مشايخِ الحديث ومعه ألواحٌ يكُتبُ عنهم فيها الحديث، ويكتبُ عنهم كل ما سمِعَ منهم، حتى صار من أعلمِ الناس، وأعلمهم في زمانه، وقد احتاج أهلُ عصرِهِ إليه.

وقال عبدُ الرزاق: أخبرنا معمَرٌ عن الزهري قال: كُنَّا نكرَهُ كتابَ العلم حتى أكرَهَنا عليه هؤلاء الأمَراء، فرأينا أنْ لا نَمْنعَهُ أحدًا من المسلمين

(2)

.

وقال ابنُ إسحاق: كان الزُّهري يرجعُ من عندِ عُروةَ فيقولُ لجاريةٍ عندَه فيها لُكْنَة: حَدَّثَنَا عروة، ثنا فلان. ويسرُدُ عليها ما سَمِعَهُ منه، فتقول له الجارية: والله ما أدري ما تقول. فيقول لها: اسكتي لَكَاعِ فإني لا أريدُك، إنما أُريدُ نفسي

(3)

.

ثم وفد على عبدِ الملك بن مروان بدمشق - كما تقدَّم - فأكرمَهُ وقضَى دَينه، وفرَضَ له في بيتِ المال، ثم كان بعدُ من أصحابِهِ وجلسائه، ثم كان كذلك عندَ أولادِهِ من بعدِه الوليدُ وسليمان، وكذا عند عُمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاهُ يزيدُ مع سليمانَ بن حَبيب، ثم كان حَظِيًّا عند هشام، وحجَّ معَه، وجعله معلم أولادِهِ إلى أنْ تُوفي في هذه السنة قبلَ هشام بسنة.

وقال ابنُ وَهْب: سمعتُ اللَّيثَ يقول: قال ابنُ شهاب: ما استودعتُ قلبي شيئًا قطُّ فنَسِيتُه. قال: وكان يكرَهُ أكلَ التفَّاح وسؤرَ الفَأْرِ ويَقُول: إنَّهُ يُنْسِي، كان يشربُ العَسلَ ويقول: إنَّهُ يُذكِّر

(4)

.

وفيه يقولُ فائدُ بنُ أقْرم:

زُرْ ذا وأثنِ على الكريم محمدٍ

واذكرْ فواضِلَهُ على الأصحابِ

وإذا يقالُ مَنِ الجوَادُ بمالِهِ

قِيل الجوادُ محمدُ بنُ شهابِ

أهل المدائنِ يعرفونَ مَكانَهُ

وربيعُ نادِيِه علىِ الأعرابِ

يَشْرِي وفاءَ جِفَانِهِ وَيمُدُّها

بكُسورِ أثباجٍ

(5)

وفتْقِ لُبَابِ

(1)

في بعض النسخ: عُبيد الله.

(2)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 389)، والقسم المتمم ص (169).

(3)

مختصر تاريخ دمشق (23/ 232).

(4)

أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 264)(1803)، وذكره المزي في تهذيب الكمال (26/ 434)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 332).

(5)

في (ق): "انتاج"، والمثبت من (ب، ح)، والأثباج: جمع ثَبَج، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. لسان العرب (ثبج). والأبيات ما عدا الأخير في سير أعلام النبلاء (5/ 332).

ص: 194

وقال ابنُ مَهْدي: سمعتُ مالكًا يقول: حدَّث الزُّهريُّ يومًا بحديث، فلما قام أخذتُ بِلِجامِ دابته فاستفهمته، فقال: أتستفهمُني؟! ما استفهمتُ عالمًا قطّ، ولا ردَدْتُ على عالمٍ قطّ. ثم جعل ابنُ مهدي يقول: فتلك الطِّوَال، وتلك المغازي

(1)

.

وروى يعقوبُ بن سُفيان عن هشام بن خالد السلامي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني ابنَ عبد العزيز - أنَّ هشام بن عبد الملك سأل الزُّهريَّ أن يكتُبَ لِبَنيهِ شيئًا من حديثِه، فأملَى على كاتِبِه أربع مئة حديث، ثم خرج على أهلِ الحديث فحدَّثهم بها، ثم إنَّ هشامًا قال للزُّهْري: إنَّ ذلك الكتابَ ضاع، فقال: لا عليك. فأملى عليهم تلك الأحاديث، فأخرج هشامٌ الكتابَ الأول، فإذا هو لم يغادرْ حَرفًا واحدًا، وإنما أرادَ هشامٌ امتحانَ حِفظِة

(2)

.

وقال عمر بنُ عبد العزيز: ما رأيتُ أحدًا أحسَنَ سَوْقًا للحديث إذا حدَّث من الزُّهري.

وقال سفيان بنُ عُيَينة عن عمرو بن دينار: ما رأيتُ أحدًا أنصَّ للحديثِ من الزُّهري، ولا أهونَ من الدينارِ والدرهم عندَه! وما الدراهمُ والدنانيرُ عندَ الزُّهريِّ إِلَّا بِمَنْزلةِ البَعْر. قال عمرو بن دينار: ولقد جالستُ جابرًا وابنَ عباس وابنَ عمر وابنَ الزبير، فما رأيتُ أحدًا أسْيَقَ للحديثِ من الزُّهري.

وقال الإمامُ أحمد: أحسنُ الناسِ حديثًا وأجوَدُهم إسنادًا الزُّهري.

وقال النسائي: أحسنُ الأسانيد: الزُّهريُّ عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدِّه عليّ، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

وقال سعيد عن الزهري: مكثتُ خمسًا وأربعينَ سنةً أختلفُ من الحجازِ إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنتُ أسمعُ حديثًا أستطرفُه.

وقال الليث: ما رأيتُ عالمًا قطُ أجمعَ من ابن شهاب، ولو سمعتَه يحدِّثُ في الترغيبِ والترهيب لقلتَ: ما يُحسنُ غيرَ هذا؛ وإن حدث عن الأنبياء وأهلِ الكتاب قلت: لا يُحسنُ إلَّا هذا؛ وإنْ حدَّثَ عن الأعرابِ والأنسابِ قلت: لا يُحسنُ إلَّا هذا؛ وإنْ حدَّث عن القرآن والسُّنَّة كانَ حديثُهُ بِدْعًا جامعًا؛ وكان يقول: اللهمَّ إني أسألكَ من كلِّ خيرٍ أحاطَ به عِلمُك، وأعوذُ بك من كلِّ شرٍّ أحاطَ به علمُكَ في الدنيا والآخرة.

قال الليث: وكان الزُّهريُّ أسخَى منْ رأيت، يُعطِي كلَّ منْ جاءَ وسألَه، حتى إذا لم يبقَ عندَهُ شيءٌ

(1)

انظر مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (23/ 233).

(2)

انظر مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (23/ 234).

ص: 195

استسلف. وكان يُطعم الناسَ الثَّريد، ويسقيهم العسَل، وكان يسمُرُ على شرابِ العِّسَل كما يسمُرُ أهلُ الشرابِ على شرابهم ويقول: أسقونا وحدِّثونا. فإذا نَعَسَ أحدُهم يقول له: ما أنتَ من سمَّارِ قُريش. وكانتْ له قُبَّةٌ معصفَرة، وعليه مِلْحفةٌ معصفَرة، وتحتَهُ بساطٌ معصفرٌ.

وقال الليث: قال يحيى بن سعيد: ما بقي عندَ أحدٍ من العلم ما بقي عندَ ابنِ شهاب.

وقال عبد الرزاق: أنبأ معمر قال: قال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابنِ شهاب، فانه ما بقي أحدٌ أعلىم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه، وكذا قال مَكْحول.

وقال أيوب: ما رأيتُ أحدًا أعلَمَ من الزُّهري! فقيل له: ولا الحسَن؟ فقال: ما رأيتُ أعلمَ من الزهري!

وقيل لمكحول: منْ أعلَمُ من لَقيت؟ قال الزهري: قيل: ثم منْ؛ قال: الزهري. قيل: ثم منْ؟ قال: الزهري.

وقال مالك: كان الزهريُّ إذا دخل المدينةَ لم يحدِّثْ بها أحدًا حتى يخرج.

وقال عبدُ الرزاق عن ابنِ عُيَينة: محدِّثو أهلِ الحجاز ثلاثة: الزهري، ويحيى بن سعيد، وابنُ جُريج.

وقال عليُّ بن المَدِيني: الذين أفتَوْا أربعة: الزُّهْري، والحكَم، وحماد، وقتادة، والزُّهري أفقَهُهُمْ عندي.

وقال الزهري: ثلاثةٌ إذا كُنَّ في القاضي فلس بقاضٍ: إذا كَرِهَ المَلاوم، وأحبَّ المحامِد، وكَرِهَ العزْل.

وقال أحمد بن صالح: كان يُقال: فُصَحاء زمانِهم الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وموسى بن طلحة، وعُبيد الله، رحمهم الله.

وقال مالك عن الزهري أنه قال؛ إنَّ هذا العلم الذي أَدَّبَ اللهُ بهِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأدَّب رسولُ الله بهِ أُمَّتَه أمانةُ الله إلى رسولهِ ليؤدِّيَهُ على ما أُدِّيَ إليه، فمنْ سَمِعَ علمًا فَلْيَجعَلْهُ أمامَهُ حجَّةً فيما بينه وبين الله عز وجل.

وقال محمد بن الحسين عن يونس، عن الزهريِّ قال: الاعتصام بالسنَّةِ نجاة

(1)

.

وقال الوليد عن الأوزاعي عن الزهري، قال: أمِرُّوا أحاديثَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم كما جاءت.

(1)

أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1/ 56).

ص: 196

وقال محمد بن إسحاق عن الزهري: إنَّ من غوائلِ العلم أنْ يُترَك العالِمُ حتى يذهبَ عِلمه

(1)

.

وقال أبو زرعة عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثَوْر، عن معمر، عن الزهري، قال: القراءةُ على العالِمِ والسماعُ عليه سواءٌ إن شاء اللّه تعالى.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إذا طال المجلسُ كان للشيطانِ فيه حظٌّ ونَصيب. وقد قضَى عنه هشامٌ مرَّةً ثمانين ألف درهم. وفي رواية: سبعةَ عشرَ ألفًا. وفي رواية: عشرين ألفًا.

وقال الشافعي: عَتَبَ رجاءُ بنُ حَيْوة على الزُّهري في الأسراف، وكان يَدَّان

(2)

، فقال له: لا آمنُ أنْ يحبِسَ هؤلاء القومُ ما بأيديهم عنك، فتكون قد حملتَ على أمانيك. قال: فوعده الزهريُّ أنْ يُقصِر، فمَرَّ به بعد ذلك وقد وضعَ الطعامَ ونصبَ موائدَ العَسَل، فوقف به رجاء وقال: يا أبا بكر، ما هذا بالذي فارقْتَنا عليه. فقال له الزهري: انزِلْ فإنَّ السَّخيَّ لا تؤدِّبُهُ التجارِب

(3)

.

وقد أنشدَ بعضُهم في هذا المعنى:

له سحائبُ جودٍ في أنامِلِهِ

أمطارُها الفِضَّةُ البيضاءُ والذهبُ

يقول في العُسْرِ إنْ أيْسَرتُ ثانيةً

أقصَرْتُ عن بعضِ ما أُعطي وما أهَبُ

حتى إذا عادَ أيامُ اليسَارِ لَهُ

رأيتَ أموالَهُ في الناسِ تُنْتَهَبُ

وقال الواقدي

(4)

: ولد الزُّهريُّ سنة ثمانٍ وخمسين، [في آخرِ خلافةِ معاوية بن أبي سفيان، وهي السنةُ التي ماتتْ فيها عائشةُ زوجُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم]، وقَدِمَ في سنةِ أرِبعٍ وعشرين ومئة إلى أمواله بثلاث

(5)

: بِشَغْب وبَدَا

(6)

فأقام بها، فمرض هناك ومات. وأوصَى أنْ يُدفنَ على قارعةِ الطريق وكانتْ وفاتُه لسبعَ عشرةَ من رمضان في هذه السنة، وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة. قالوا: وكان ثقةً كثيرَ الحديث والعلم

(1)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي:

[وفي رواية: أنْ يترُكَ العالِمُ العمَل بالعلم حتى يذهب، فإنَّ منْ غوائِلِهِ قِلَّةَ انتفاعِ العالِمِ بعِلْمِه]، و [من غوائله] النِّسيان والكذب، وهو أشدُّ الغوائل.

(2)

في (ق): "يستدين" والمثبت من (ب، ح)، وكلاهما بمعنى يستقرض.

(3)

أخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان (7/ 451).

(4)

انظر قول الواقدي في طبقات ابن سعد القسم المتمم ص (185) وما بين معقوفين منه.

(5)

كذا في (ق)، وفي (ب، ح): "بثلثة"، وفي طبقات ابن سعد (بثلية)، ولم أهتد إلى وجه الصواب فيه.

(6)

شَغْب - بفتح أوله وسكون ثانيه وآخره باء موحدة -: هي ضيعة خلف وادي القرى، كانت للزُّهري وبها قبره، يُروى مقصورًا، ويروى بغير ألف، يُنسب إليها زكرياء بن عيسى الشغبي مولى الزهري. وقيل: شَغْبَى - وبَدا بالفتح والقصر - موضعان بين المدينة وأيْلَة من ساحل البحر. وقيل بوادي القرى، وقيل بوادي عذرة. معجم البلدان (1/ 356، و 3/ 351 و 352).

ص: 197

والرواية، فقيهًا جامعًا. وقال الحسين بن المتوكِّل العَسْقلاني: رأيتُ قبرَ الزهري بشَغْب وبَدَا

(1)

من فِلَسْطينَ مُسَنَّمًا مُجَصَّصًا.

وقد وقف الأوزاعي يومًا على قبرِهِ فقال:

يا قبر كم فيك من علم ومن حلم

يا قبر كم فيك من علم ومن كرم

وكم جمعتَ رواياتٍ وأحكاما

..............................

(2)

وقال الزُّبير بن بكار: توفي الزهري بأموالِهِ بِشَغْب

(3)

ليلةَ الثلاثاء لسبعَ عشرةَ ليلةً خلتْ من رمضان سنة أربع وعِشرين ومئة، عن ثنتين وسبعينَ سنة، ودُفن على قارعةِ الطريق، ليدعُوَ له المارَّة. وقيل: إنه تُوفي سنةَ ثلاثٍ وعشرين ومئة. وقال أبو معشر: سنةَ خمسٍ وعشرين ومئة. والصحيح الأول. واللّه أعلم

(4)

.

(1)

في طبقات ابن سعد (القسم المتمم) ص (186): "رأيت قبر الزهري بأُدْمى وهي خلف شَغْب وبَدا، وهي أول أعمال فلسطين .. ".

(2)

كذا في (ق)، وأما (ب، ح) فلم يذكر سوى قوله: "يا قبر كم فيك من علم وحلم".

(3)

في (ق): "بشغب ثنين"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وقد تقدم التعريف بشغب.

(4)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي:

[فصل (هذا الفصل ليس في (ب، ح)، وهو زيادة من (ق).):

وروى الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم، حَدَّثَنَا عبد الرزاق، عن معمر، قال: أخبرني صالح بن كَيْسان، قال: اجتمعتُ أنا والزهري ونحن نطلبُ العِلْم، فقلنا: نحنُ نكتُبُ السُّنَن؛ فكتبنا ما جاء عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثم قال لي: هَلُمَّ فَلْنكتُبْ ما جاء عن أصحابه، فإنه سُنَّة. فقلت: إنه ليس بِسُنَّة، فلا نكتُبه. قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنجحَ وضَيَّعتُ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 360) عن الطبراني. وأخرجه وابن سعد في طبقاته (القسم المتمم) ص (168)؛ وأبو الوليد الباجي في التعديل والتجريح (2/ 783) عن عبد الرزاق.).

وروى الإمام أحمد عن معمر، قال: كنَّا نرى أنَّا قد أكثَرْنا عن الزهري حتى قُتل الوليد، فإذا الدفاترُ قد حُمِلَتْ على الدوابِّ من خزانته، يقول: من علم الزُّهري (حلية الأولياء (3/ 361).).

ورُوي عن الليث بن سعد قال: وضع الطَّسْتُ بين يديِ ابنِ شهاب، فتذكَّر حديثًا، فلم تزلْ يدُهُ في الطَّسْت حتى طلعَ الفَجْر [حتى] صحَّحَه (المصدر السابق، وما بين معقوفين منه.).

وروى أصبغ بن الفرج عن ابن وَهْب، عن يونس، عن الزُّهري، قال: للعلمِ وادٍ، فإذا هبطتَ واديَهُ فعليك بالتُّؤَدة، حتى تخرجَ منه، فإنك لا تَقطَعُه حتى يقطعَ بك.

وقال الطبراني: حَدَّثَنَا أحمد بن يحيى ثعلب، حَدَّثَنَا الزُّبير بن بكَّار، حدَّثني محمد بن الحسن بن زَبَالَة، عن مالك بن أنس، عن الزُّهري، قال: خدَمْتُ عُبيد الله بن عُتْبة، حتى إنْ كان خادمُه ليخرُجُ فيقول: منْ بالباب؟ فتقول الجارلة: غلامُك الأعمش، فتظنُّ أنِّي غلامُه، وأنِّي كنتُ لأخدمه حتى أستقيَ وضوءَه.

وروى عبدُ الرحمن بن أحمد، عن محمد بن عبّاد، عن الثوري، عن مالك بن أنس - أراهُ عن الزُّهري - قال: تبعت سعيدَ بن المُسيِّب ثلاثةَ أيَّام في طلَبِ حديث. =

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وروى الأوزاعيُّ عن الزهري قال: كنَّا نأتي العالِم، فما نتعلَّمُ من أدبِه أحبُّ إلينا من عِلْمه.

وقال سفيان: كان الزُّهري يقول: حدّثني فلان وكان من أوعيةِ العِلم. ولا يقول: كان عالمًا.

وقال مالك: أولُ مَنْ دَوَّنَ العِلم ابنُ شهاب. وقال أبو المَلِيح: كان هشامٌ هو الذي أكرَهَ الزهريّ على كتابةِ الحديث، فكان الناسُ يكتبونَ بعد ذلك.

وقال رشيد بن سعد (كذا في (ق)، ولعل الصواب فيه:"رشدين بن سعد".): قال الزهري: العلمُ خزائن، وتفتحُها المسائل.

وقال الزهري: كان يُصطادُ العلمُ بالمسألة كما يُصادُ الوحش.

وكان ابنُ شهاب يَنْزلُ بالأعراب يُعلِّمُهم لئلا يَنسَى العلم. وقال: إنما يُذهبُ العلمَ النسيانُ وتَرْكُ المذاكرة.

وقال: إنَّ هذا العلم إنْ أخذتَهُ بالمُكابرَةَ غلَبَكَ ولم تظفَرْ منه بشيء، ولكنْ خُذْهُ مع الأيامِ والليالي أخذًا رَفيقًا تظفرْ به.

وقال: ما أحدَث الناسُ مروءةً أعجبَ إليَّ من الفصاحة.

وقال: العلمُ ذكَرٌ، لا يُحبُّهُ إلَّا الذكورُ من الرجال، ويكرَهُهُ مؤنَّثُوهم.

ومرَّ الزُّهريُّ على أبي حازمٍ وهو يقول: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أرى أحاديثَ ليس لها خُطُمٌ ولا أزِمَّة؟.

وقال: ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أفضلَ من العلم.

وقال ابن مسلم أبي عاصم (كذا في (ق)، والخبر في حلية الأولياء (3/ 365، 366)، وفيه: عبد اللّه بن محمد بن جعفر عن أبي عاصم.): حَدَّثَنَا دُحَيم، حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هِزَّان، أنَّه سمع الزُّهْري يقول: لا يوثقُ الناسُ بعلمِ عالمِ لا يعمل به، ولا يؤمن بقولِ عالمٍ لا يرضى.

وقال ضمرة عن يونس، عن الزهري، قال: إياك وغلولَ الكُتب. قلت: وما غلولُها؛ قال: حَبْسُها عن أهْلِها.

وروى الشافعيُّ عن الزهري قال: حضور المجلِسِ بلا نُسخةٍ ذُلّ.

وروى الأصمعي عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب قال: جلستُ إلى ثعلبةَ بنِ أبي مَعين، فقال: أراكَ تُحبُّ العلم. قلتُ: نعم. قال: فعليك بذاك الشيخ. يَعني سعيدَ بن المُسيِّب. قال: فلزِمْتُ سعيدًا سبعَ سنين، ثم تحوَّلْتُ عنه إلى عروة، ففجَّرتُ ثَبَجَ بحرِه.

وقال الليث: قال ابنُ شهاب: ما صبرَ أحدٌ على عليم صَبْري، وما نشرهُ أحدٌ قطُّ نشري. فأمَّا عروةُ بن الزُّبير فبئرٌ لا تُكدِّرُهُ الدِّلاء، وأمَّا ابنُ المسيِّب فانتصب للناس، فذهب اسمُه كلَّ مذهب.

وقال مكي بن عبدان: حَدَّثَنَا محمد بن عبد العزيز بن عبد اللّه الأوسي، حدثنا مالك بن أنس أنَّ ابنَ شهاب سأله بعضُ بني أمية عن سعيد بن المسيِّب، فذكر علمَهُ بخير، وأخبرَهُ بحالِه؛ فبلغ ذلك سعيدًا، فلما قدم ابنُ شهاب المدينةَ جاء فسلَّم على سعيد، فلم يردَّ عليه ولم يكلِّمْه، فلما انصرف سعيد مَشَى الزهريُّ معه، فقال: ما لي سلَّمْتُ عليك فلم تكلِّمْني؟ ماذا بلغك عني؟ وما قُلتُ إلَّا خيرًا. قال له: ذكرتَني لبني مروان.

قال أبو حاتم: حَدَّثَنَا مكي بن عبدان، حَدَّثَنَا محمد بن يحيى، حدّثني عطَّاف بن خالد المخزومي، عن عبد الأعلى بن عبد اللّه بن أبي فروة، عن ابن سْهاب قال: أصاب أهلَ المدينةِ حاجةٌ زمانَ فتنةِ عبدِ الملك بنِ =

ص: 199

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= مروان، فعمَّتْ أهلَ البلد، وقد خُيِّلَ إليَّ أنَّه قد أصابنا أهلَ البيتِ ما ذلك ما لم يصِبْ أحدًا من أهلِ البلد؛ وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكَّرْتُ هل من أحدٍ أمُتُّ إليهِ برَحِمٍ أو موَدَّةٍ أرجو إنْ خرَجْتُ إليه أنْ أُصيبَ عندَهُ شيئًا؛ فما علمتُ من أحدٍ أخرُجُ إليه. ثم قلتُ إن الرزق بيدِ اللّه عز وجل. ثم خرجتُ حتى قدمتُ دمشق، فوضعتُ رَحْلي، ثم أتيتُ المسجدَ، فنظرتُ إلى أعظمِ حَلْقةٍ رأيتُها وأكبرِها، فجلست فيها، فبينا نحنُ على ذلك إذْ خرجَ رجلٌ من عندِ أميرِ المؤمنين عبد الملك كأجسمِ الرجالِ وأجمَلِهم وأحسنِهم هيئةً! فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فَتحثحثوا له - أي أوسعوا - فجلس، فقال: لقد جاء أميرَ المؤمنين اليومَ كتابٌ ما جاءه مثله منذُ استَخلفَهُ الله. قالوا: ما هو؟ قال: كتب إليه عاملُهُ على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أنَّ ابنًا لمُصعب بنِ الزُّبير من أُمّ ولد مات، فأرادَتْ أُمُّه أنْ تأخذَ ميراثًا منه، فمنعَهُ عروةُ بن الزُّبَير، وزعم أنَّهُ لا ميراثَ لها. فتوهَّم أميرُ المؤمنين حديثًا في ذلك سمِعَهُ منِ سعيدِ بن المسيِّب يذكرُ عن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب في أُمَّهات الأولاد، ولا يحفَظُهُ الآن، وقد شذَّ عنه ذلك الحديث. قال ابنُ شهاب: فقلتُ: أنا أحدِّثُه به. فقام إليَّ قَبيصةُ حتى أخذ بيدي، ثم خرج حتى دخل الدارَ على عبد الملك فقال: السلام عليك. فقال له عبد الملك مجيبًا: وعليك السلام. فقال قبيصة: أَنَدْخل؟ فقال عبدُ الملك: ادخل. فدخلَ قَبيصَةُ على عبدِ الملك وهو آخذٌ بيدي. وقال: هذا يا أميرَ المؤمنين يحدِّثُكَ بالحديث الذي سمعتَهُ من ابنِ المُسَيِّب في أُمَّهاتِ الأولاد. فقال عبدُ الملك: إيهِ. قال الزُّهري: فقلت: سمعتُ سعيد بن المسيِّب يذكر أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأُمَّهات الأولاد أن يقوَّمْنَ في أموال أبنائهنَّ بقيمةِ عَدْلٍ ثم يُعتقن. فكتبَ عمرُ بذلك صدرًا من خلافتِهِ، ثم توفي رجل من قريشٍ كان لهُ ابن من أُمِّ ولَد، وقد كان عمر يعْجبُ بذلك الغُلام. فمرَّ ذلك الغلامُ على عمرَ في المسجد بعدَ وفاةِ أبيهِ بليالٍ، فقال له عمر: ما فعلتَ يا بنَ أخي في أُمِّك؟ قال: فعلتُ يا أميرَ المؤمنين خيرًا؛ خيَّروني بين أنْ يَسترقُّوا أُمِّي [أو يُخرِجوني من مِيراثي من أبي، فكان ميراثُ أبي أهونَ عليَّ من أنْ يسترقُّوا أمي](ما بين معقوفين ناقص في (ق) واستدركتُهُ من حلية الأولياء (3/ 368).). فقال عمر: أو لستُ إنما أمرتُ في ذلك بقيمةِ عَدْل؟ ما أرى رأيًا وما أمرتُ بأمرٍ إلَّا قلتم فيه. ثم قام فجلَسَ على المِنْبَر، فاجتمعَ الناسُ إليه، حتى إذا رَضِيَ من جماعتِهم قال: أيُّها الناس، إنِّي قد كُنتُ أمَرْتُ في أُمَّهاتِ الأولاد بأمرٍ قد علمتموه، ثم حدَثَ رأيٌ مخيرُ ذلك، فأيُّما امرئٍ كان عندَهُ أُمُّ ولد، فمَلَكَها بيمينه ما عاش، فإذا ماتَ فهي حُرَّةٌ لا سبيلَ لهُ عليها. فقال لي عبدُ الملك: منْ أنت؟ قلتُ: أنا محمد بن مُسلم بن عُبيد الله بن شهاب. فقال: أمَا واللهِ إنْ كان أبوكَ لأبًا نَعَّارًا في الفتنة، مؤذيًا لنا فيها. قال الزُّهري: فقلت: يا أميرَ المؤمنين، قلْ كما قال العبدُ الصالحُ:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92]. فقال: أجل. {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} .

قال: فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، افرِضْ لي فإني منقطعٌ من الديوان. فقال: إن بلدك ما فرَضْنا فيه لأحدٍ منذُ وإن هذا الأمر. ثم نظر إلى قَبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أومأ إليه أن افرِضْ له؛ فقال: قد فَرضَ إليك أميرُ المؤمنين. فقلت: إني واللهِ ما خرَجْتُ من عندِ أهلي إلَّا وهم في شدَّةٍ وحاجةٍ ما يعلَمُها إِلَّا الله وقد عمَّتِ الحاجةُ أهلَ البلد. قال: قد وصلك أميرُ المؤمنين. قال: قلت: يا أميرَ المؤمنين، وخادمٌ يخدمُنا فإنَّ أهلي ليس لهم خادِمٌ إلَّا أختي فإنها الآن تعجنُ وتخبزُ وتطحَن. قال: قد أخدمكَ أميرُ المؤمنين.

وروى الأوزاعي عن الزُّهري، أنه روى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَزني الزَّاني حين تزْني وهو مؤمن". فقلتُ للزُّهْري: ما هذا؟ فقال: من اللهِ العِلْم، وعلى رسولِ البَلاغ، وعلينا التسليم، أمرُّوا أحاديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما =

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= جاءتْ (أخرجه بهذا الإسناد واللفظ أبو نعيم في الحلية (3/ 369). والحديث مسندًا أخرجه البخارى (2/ 875)(2343) في المظالم: باب النهبى بغير إذن صاحبه؛ ومسلم (1/ 76)(57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي.).

وعن ابن أخي ابنِ شهاب، عن عمِّه قال: كان عمرُ بن عبد الخطاب يأمُرُ بروايةِ قصيدةِ لَبيد بنِ رَبيعة التي يقول فيها:

إنَّ تَقْوى رَبِّنَا خَيرُ نَفَلْ

وبإذنِ اللهِ رَيْثِي والعَجَلْ

أحمدُ اللهَ فلا ندَّ لَهُ

بيديهِ الخيرُ ما شاءَ فَعَل

منْ هداهُ سُبُلَ الخيرِ اهتدَى

ناعمَ البالِ ومنْ شاءَ أضَلْ

(الأبيات من قصيدة للبيد في ديوانه ص (139).)

وقال الزُّهري: دخلتُ على عُبيد الله بن عبدِ الله بن عُتبة مَنْزِله، فإذا هو مغتاظٌ ينفُخ! فقلت "ما لي أراكَ هكذا؟! فقال: دخلتُ على أميرِكمْ آنقًا - يعني عمرَ بن عبدِ العزيز - ومعه عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، فسلَّمْتُ عليهما، فلم يَرُدَّا عليَّ السلام، فقلت:

لا تَعْجَبا أَنْ تُؤتَيا فتكلَّما

فما حُشِيَ الأقوامُ شرًّا من الكِبْرِ

ومُسَّا تُرابَ الأرضِ منهُ خُلِقتُما

وفيها المعادُ والمصيرُ إلى الحَشْرِ

فقلت: يرحمك الله، مِثْلُكَ في فقهِكَ وفضلِك وسنِّك تقولُ الشّعر!؟ فقال: إنَّ المصدورَ إذ نَفَثَ بَرَأ (الخبر والأبيات في التمهيد (9/ 93) لابن عبد البر وزاد في الأبيات بيتين آخرين وهما:

فلو شئتُ أن ألقَى عدوًّا وطاعنًا

للاقَيْتُهُ أو قال عنديَ في السرِّ

فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنْه عنكما

ضحكتُ له حتى يلجَّ وَيَسْتَشْري)

وجاء شيخ إلى الزُّهري فقال: حدّثني. فقال: إنك لا تعرفُ اللغة. ققال الشيخ: لعلِّى أعرفها. فقال: فما تقولُ في قولِ الشاعر:

صَريع نَدَامَى يَرفَعُ الشَّرْبُ رأسَهُ

وقد ماتَ منهُ كل عُضْوٍ ومِفْصَلِ

ما المِفْصل؟ قال: اللسان. قال: عُدْ عليَّ أُحدِّثْكَ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 378) وروايته: "اغدُ عليَّ أحدِّثك".).

وكان الزُّهريُّ يتمثل كثيرًا بهذا:

ذهب الشبابُ فلا يعود جُمانا

وكأنَّ ما قد كانَ لم يَكُ كانا

قطويتُ كَفِّي يا جُمانُ على العصَا

وكَفَى جُمانُ بطَيِّها حَدَثَانا

(الخبر والشعر في الحلية (3/ 370) ورواية. "فطويت كفًّا يا جمان على الغضا".)

وكان نقشُ خاتم الزُّهري: محمدٌ يسألُ اللهَ العافية.

وقيل لابنِ أخي الزُّهري: هل كان عمُّك يتطيَّب؟ قال: كنتُ أشمُّ ريحَ المسكِ منْ سَوْطِ دابَّةِ الزُّهري.

وقال: استكثروا من شيءٍ لا تَمسُّه النار. قيل: وما هو؟ قال: المعروف.

وامتدحه رجلٌ مرَّهَّ فأعطاه قميصَه، فقيل له: أتُعطي على كلام الشيطان؟ فقال: إنَّ من ابتغاءِ الخيرِ اتِّقاءَ الشّرّ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 371)، وروايته:"إن من ابتغى الخير اتقى الشر".).

ص: 201

وممنْ تُوفِّي في خِلافةِ هشام بن عبد الملك كما أوردَهُ ابنُ عساكر:

بلال بن سعد

(1)

بن تميم السَّكوني أبو عمرو، ويقال: أبو زُرْعة، إمامُ جامع دمشق أيامَ هشام، وقاصُّ أهلِ الشام؛ وكان من الزُّهاد الكِبَار، والعُبَّاد الصُّوَّام القُوَّام.

روَى عن أبيه، وكان أبوهُ له صُحْبَة، وعن جابر، وابنِ عمر، وأبي الدرداء، وغيرهم. وعنه جماعةٌ، منهم أبو عمرو الأوزاعي، وكان الأوزاعي يكتبُ عنه ما يَقُولُه من الفوائدِ العظيمةِ من قَصَصِهِ ووَعْظِه، وقال: ما رأيتُ واعِظًا قَطُّ مِثلَه.

وقال أيضًا: ما بلَغَني عن أحدٍ من العبادةِ ما بلَغَني عنه، كان يُصلِّي في اليومِ والليلةِ ألفَ رَكْعَة، قال غيره - وهو الأصمعي -: كان إذا نَعَسَ في ليلِ الشتاء ألقَى نفسَهُ في ثِيابِه في البِرْكة، فعاتَبَهُ بعضُ أصحابِه في ذلك فقال: إنَّ ماء البِرْكةِ أهوَنُ من صَديدِ جهنم.

وقال الوليدُ بن مسلم: كان إذا كبَّرَ في المِحراب سمعوا تكبيرَهُ من الأوْزاع، قلت: وهي خارج بابِ الفرادِيس، بِمَحلَّةِ سوق قُميلة اليوم، قال: وكنّا نتبيّنُ قراءتَهُ من عقَبَة الشيخ عند دار الضيافة

(2)

. يعني من عند دار الذهب داخل باب الفراديس.

وقال أحمد بن عبد اللّه العِجْلي - وهو شامي - تابعيٌّ ثِقَة.

وقال أبو زرعة الدمشقي: كان أحدَ العلماء، وكان قاصًّا، حسَنَ القَصَص، وقد اتَّهمَهُ رجاءُ بن

= وقال سفيان: سئل الزُّهريُّ عن الزاهد، فقال: منْ لم يمنَعِ الحلالُ شُكْرَه، ولم يغلبِ الحرامُ صبرَه.

وقال سفيان: قالوا للزهري: لو أنك الآن في آخرِ عُمرك أقمتَ بالمدينة فغدَوْتَ (في (ق):! فقعدت

ودرجت"، والمثبت من الحلية (3/ 371).) إلى مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورُحْتَ وجلسنا إلى عمودٍ من أعمدتِه، فذكَّرت الناسَ وعلَّمتَهم. فقال: لو أني فعلتُ ذلك لوُطِّئَ عَقِبي، ولا ينبغي لي أنْ أفعلَ ذلك حتى أزهدَ في الدُّنيا، وأرغبَ فِي الآخرة.

وكان الزهري يحدِّثُ أنه هلك في جبال بيتِ المقدِس بضعةٌ وعشرون نبتًا ماتوا من الجُوع والعمل، كانوا لا يأكلونَ إلَّا ما عرفوا، ولا يَلْبسُونَ إلَّا ما عَرفوا. وكان يقول: العِبَادة هي الوَرَعُ والزُّهْد، والعِلْمُ هو الحسَنَةُ، والصَّبْرُ هو احتمالُ المكارِه، والدعوةُ إلى الله على العمل الصالح].

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 461)، التاريخ الكبير (2/ 108)، الكنى لمسلم ص (151)، الجرح والتعديل (2/ 398)، الثقات لابن حبان (4/ 66)، الحلية (5/ 221)، تاريخ ابن عساكر (10/ 354)، صفة الصفوة (4/ 217)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (1/ 481)، مختصر تاريخ ابن عساكر (5/ 268)، تهذيب الكمال (4/ 291)، سير أعلام النبلاء (5/ 90)، تاريخ الإسلام (4/ 234)، الوافي (10/ 277)، تهذيب التهذيب (1/ 503)، الكواكب الدرية (1/ 91).

(2)

كذا في الأصول (ب، ح، ق) وتاريخ دمشق، وفي سير أعلام النبلاء (5/ 92):"دار الصيارفة".

ص: 202

حَيْوَة بالقَدَر، حتى قال بلال يومًا في وَعظِه: رُبَّ مسرورٍ مَغْبُون، ورُبَّ مَغْبُونٍ

(1)

لا يَشْعُر، فوَيلٌ لِمَنْ له الوَيْلُ وهو لا يَشْعُر، يأكلُ ويشرَبُ ويَضْحَك وقد حَقَّ عليه في قضاءَ الله أنَّهُ من أهلِ النار، فياوَيْل لك جسدًا! فلْتبكِ وِلْتبكِ عليك البواكي لطولِ الأبَد.

وقد ساق ابنُ عساكر شيئًا حَسنًا من كلامه في مواعظهِ البليغة، فمنْ ذلك قولُه: واللّهِ لكفَى به ذنبًا أنَّ اللهَ يُزَهِّدُنا في الدنيا ونحنُ نرغَبُ فيها. زاهِدُكم راغب، وعالمكم جاهل، ومجتهدُكم مقصِّر.

وقال أيضًا: أخٌ لك كلَّما لَقِيَكَ ذكَّركَ بنصيبكَ من اللّه، وأخبركَ بعَيْبٍ فيك أحَبُّ إليك وخيرٌ لك مِنْ أخٍ كلَّما لَقِيَكَ وضعَ في كفِّكَ دينارًا.

وقال أيضًا: لا تكنْ وَلِيًّا للهِ في العلانية، وعدوَّهُ في السِّرّ، [ولا تكنْ عدُوَّ إبليسَ والنفسِ والشَّهَواتِ في العلانية، وصديقَهم في السِّرّ]

(2)

. ولا تَكُنْ ذا وجهَيْنِ وذا لسانين فتظهرَ للناس أنك تخشَى اللّه ليحمَدُوك، وقلبُكَ فاجر.

وقال أيضًا: أيّها الناس، إنَّكم لم تُخلقُوا للفَنَاء وإنَّما خُلقتُمْ للبقاء، ولكنَّكم تَنْتقِلُون من دارٍ إلى دار، كما نُقلتمْ من الأصلابِ إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبورِ إلى المَوقْف، ومن الموقف إلى الجنَّةِ أو النار.

وقال أيضًا: عبادَ الرحمن، إنكم تعملونَ في أيامٍ قصار لأيامٍ طِوَال، وفي دارِ زَوَالٍ إلى دارِ مُقَام، وفي دارِ حُزْنِ ونَصَب، لِدارِ نعيمٍ وخلُود، فمن لم يعمَلْ على يقين فلا يتعَنَّ، عبادَ الرحمن، لو قد غُفرَتْ خطاياكمُ الماضية لكان فيما تستقبلون لكمْ شُغُلًا، لو عَمِلتم بما تعلمون لكنتم عبادَ اللّه حَقًّا. عبادَ الرحمن، أَمَّا ما وكَّلَكُمْ بهِ فتضيِّعونَه، وأَمَّا ما تكَفَّلَ اللّه لكُمْ بهِ فتطلبونه! ما هكذا نعَتَ اللّهُ عبادَهُ المُوقِنِين، أذَوُو عَقْلٍ في الدنيا وبُلْهٌ في الآخرة، عُمْيٌ عَمَّا خُلقْتمْ له، بُصَراء في أمرِ الدُّنيا! فكما ترجونَ رحمةَ الله بما تؤدُّونَ من طاعتِه، فكذلك أشفِقُوا من عَذَابِه بما تنتهِكُونَ من معَاصِيه. عبادَ الرحمن، هل جاءكمِ مُخبِرٌ يُخبرُكم أنَّ شيئًا من أعمالِكُمْ قد تُقُبِّلَ منكم؛ أو شيئًا مِنْ خطاياكم قد غُفِرَ لكم؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، واللهِ لو عَجَّلَ لكم الثوابَ في الدنيا لاستقلَلْتُمْ ما فرض عليكم، أترغبون في طاعةِ الله لتعجيلِ دار هَمّ، ولا ترغبون وتُنافِسونَ في جنَّةٍ أكُلُها دائمٌ وظِلُّها؟ وعَرْضُها عرضُ الأرض والسماوات. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35].

وقال أيضًا: الذِّكرُ ذِكْران، ذكرُ اللّهِ باللِّسان حَسَنٌ جميل، وذكرُ اللّهِ عندما أحَلَّ وحرَّم أفضل. عبادَ

(1)

في (ق): "مغرور"، في الموضعين، والمثبت من (ب، ح).

(2)

ما بين معقوفين ليس في (ب، ح) وهو من (ق).

ص: 203

الرحمن، يقالُ لأحَدِنا تُحِبُّ أن تموت؟ فيقول: لا. فيقال له: لِمَ؟ فيقول: حتى أعمَل. فيُقال له: اعمَلْ. فيقول: سوف أعمل. فلا تُحِبُّ أنْ تموتَ ولا تُحبُّ أنْ تعمَل! وأحَبُ شيْءٍ إليه يُحِبُّ أنْ يؤخِّرَ عمَلَ اللّه، ولا يُحِبُّ أنْ يؤخِّرَ الله عنهُ عَرَضَ الدنيا!.

عبادَ الرحمن، إنَّ العبدَ ليعمَلُ الفريضةَ الواحدةَ من فرائضِ اللّه، وقد أضاعَ ما سِواها، فما يزالُ يُمَنِّيهِ الشيطانُ ويُزَيِّنُ له حتى ما يَرَى شيئًا دونَ الجنة مع إقامَتِهِ على مَعَاصي الله. عبادَ الرحمن، قبلَ أنْ تعمَلُوا أعمالَكمْ فانظروا ماذا تُريدون بها، فإنْ كانَتْ خالصة فامْضُوها، وإنْ كانت لغيرِ الله فلا تَشُقُّوا على أنفسكم، فإنَّ اللّه لا يقبلُ من العمل إلَّا ما كان لهُ خالصًا، فإنه قال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وقال أيضًا: إنَّ الله ليس إلى عذابِكم بِسَرِيع، يقبَلُ المُقبِل ويَدْعو

(1)

المُدْبِر.

وقال أيضًا: إذًا رأيتَ الرجلَ مُتحرِّجًا لَجُوجًا مماريًا مُعجبًا برأيه فقد تَمَّتْ خسارَتُه.

وقال الأوزاعي: خرج الناسُ بدمشقَ يَسْتَسقون، فقام بهم بلالُ بنُ سعدٍ فقال: يا معشر مَنْ حَضَر، ألستُمْ مُقِرِّينَ بالإساءة؟ قالوا: نعم. فقال: اللَّهُمَّ إنَّكَ قلت: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وقد أقرَرْنا بالإساءة فاعفُ عنَّا واغفِرْ لنا. قال: فسُقُوا يومَهمْ ذلك.

وقال أيضًا: سمعتُه يقول: لقد أدرَكْتُ أقوامًا يشتدُّونَ بين الأغراض، ويضحَكُ بعضُهم إلى بعض، فإذا جَنَّهُمُ الليلُ كانوا رُهْبانًا

(2)

.

وسمعتُهُ أيضًا يقول: لا تَنظُرْ إلى صِغَرِ الذنب، وانظُرْ إلى مَنْ عصَيْت.

وسمعتُه يقول: من بادأَكَ بالوُدِّ فقدِ استرقَّكَ بالشُّكْر.

وكان من دعائه: اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من زَيْغِ القُلوب، ومن تَبِعاتِ الذنوب، ومن مُرْدِياتِ الأعمال، ومُضِلَّاتِ الفِتَن

(3)

.

(1)

في (ح): "ويدع"، والمثبت من (ب، ق).

(2)

أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (47)، وأبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (5/ 303)(26326)، وابن أبي عاصم في الزهد ص (210).

(3)

وهذه من الزيادة المقحمة وهي:

[وقال الأوزاعي عنه، أنه قال: عبادَ الرحمن، لو أنتم لم تَدَعوا إلى الله طاعةً إلَّا عَمِلْتُموها؛ ولا مَعْصِيَةً إلَّا اجْتَنَبْتُموها إلَّا أنكم تُحِبُّون الدنيا لَكفاكُم ذلك عقوبةً عندَ الله عز وجل.

وقال: إنَّ الله يغفِرُ الذنوبَ لِمَنْ تابَ منها، ولكنْ لا يَمْحوها من الصَّحِيفةِ حتى يوقَفُ العبدُ عليها يومَ القيامة. ترجمة].

ص: 204

الجَعْدُ بن دِرْهَم

(1)

: هو أول من قال بِخَلْقِ القرآن، وهو الذي يُنسَبُ إليه مروان الجَعْدِيّ، وهو مروانُ الحمار آخرُ خلفاءِ بني أمية. كان شيخُه الجعدَ بن دِرْهم، أصلُه من حَرَّان

(2)

، ويقال: إنه من موالي بني مروان، سكن الجعدُ دمشق، وكان له بها دارٌ بالقُرب من القلانسيِّين إلى جانب الكنيسة، ذكره ابنُ عساكر. قلت: وهي مَحَلَّةٌ بالقرب من الخوَّاصِين اليوم، غربيها عند حمام القطَّانين الذي يقال له حمام قلينس.

قال ابنُ عساكر وغيرُه

(3)

: وقد أخذ الجَعْدُ بِدعَتَهُ عن أبان بن سمعان

(4)

، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لَبِيد بن أعصم زوجِ ابنتِه، وأخذها لَبِيدُ بن أعصَم الساحر الذي سحرَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن يَهوديٍّ باليمن، وأخذ عن الجَعْد الجَهْم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي، وقد أقامَ بِبلْخ، وكان يُصلّي مع مُقاتِل بن سليمان في مسجدِه، ويتناظران، حتى نُفِيَ إلى تِرْمِذ، ثم قُتل الجَهْم بأصبهان، وقيل بِمَرْو، قتله نائبُها سَلْم بن أحْوزَ رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا، وأخذَ بِشْرٌ المريْسِي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دُوَاد عن بِشر. وأمَّا الجَعْدُ فإنه أقامَ بدمشق حتى أظهرَ القولَ بخَلقْ القرآن، فتطلَّبه بنو أمية، فهرب منهم، فسكن الكوفة، فلَقِيَهُ فيها الجَهْمُ بنُ صفوان، فتقلَّد هذا القول عنه. ثم إنَّ خالد بن عبد الله القَسْري قَتَل الجعدَ يومَ عيدِ الأضحى بالكوقة، وذلك أنَّ خالدًا خطَبَ الناسَ فقال في خُطْبَتِهِ تِلك: أيها الناس، ضَحُّوا يَقْبل اللّه ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرْهَم، إنَّه زَعَمَ أَنَّ الله لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يكلِّم موسى تكْلِيمًا، تعالى اللّه عمَّا يقولُ الجَعْدُ عُلُوًّا كَبيِرًا. ثم نزلَ فَذَبحَهُ في أصْلِ المِنْبَر بيدِه، أثابَهُ الله تعالى وتقبَّلَ منه، وذلك في أيام هشام بن عبد الملك، وقد كان هشامٌ صَلَبَهُ بدمشق حين أظهرَ ما أظهر، ثم إنَّه هربَ يعدَ ذلك، فكَتَبَ إلى نائبِهِ خالد بن عبد الله القَسْري أنْ يقتُلَه، فقتلَهُ كما ذكَرْنا.

(1)

ترجمته في الفهرست لابن النديم ص (472)، الضعفاء للعقيلي (1/ 206)، مختصر تاريخ دمشق (6/ 50)، الكامل لابن الأثير (4/ 466)، سير أعلام النبلاء (5/ 433)، ميزان الاعتدال (2/ 124)، لسان الميزان (2/ 105)، المغني في الضعفاء ص (131)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 382) لأبي القاسم اللالكائي.

(2)

في (ق): "خراسان"، وهو تصحيف، والمثبت من (ح)، ومختصر تاريخ دمشق (6/ 50) وتوحيد المقاصد في شرح قصيدة ابن القيم (1/ 49)، ومنهاج السنة (3/ 192) لابن تيمية.

(3)

انظر مختصر تاريخ دمشق (6/ 51).

(4)

في (ح، ق): "بيان بن سمعان"، وما أثبتناه موافق لما في مختصر تاريخ دمشق (6/ 51)، والكامل لابن الأثير (6/ 221)، وتوحيد المقاصد في شرح قصيدة ابن القيم (1/ 49)، وأقاويل الثقات لمرعي بن يوسف ص (330)، والتحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر ص (166) وسيأتي ذكر الخبر مرة أخرى في ص 234 من هذا المجلد، في ترجمة خالد بن عد الله القسري.

ص: 205

وقد روى قصَّتَه مع خالد البخاري في [خَلْق] أفعال العباد

(1)

، وابن أبي حاتم، وغير واحدٍ مِمَّنْ صنَّف في السنَّة، كالطبراني، وابن أبي عاصم، والبيهقي، وعبد الله بن أحمد، وذكرَهُ الحافظُ ابنُ عساكر في التاريخ

(2)

، وذكر أنَّهُ كان يتردَّدُ إلى وَهْب بن مُنَبِّه، وأنه كان كلَّما راح إلى وَهْب يغتسل ويقول: أجْمَعُ للعَقْل. وكان يسألُ وَهْبًا عن صفاتِ الله عز وجل، فقال له وهبٌ يومًا: ويلك يا جعد، أقصرِ المسألةَ عن ذلك، إني لأظنُّكَ من الهالكين، لو لم يُخبِرْنا الله في كتابه أنَّ لَهُ يدًا ما قُلنا ذلك، وأنَّ لَهُ عينًا ما قُلنا ذلك، وأنَّ لَهُ نَفْسًا ما قُلنا ذلك، وأنَّ له سَمْعًا ما قُلنا ذلك. وذكَرَ الصفاتِ من العِلْمِ والكلامِ وغيرِ ذلك، ثم لم يَلْبَثِ الجَعْدُ أنْ صُلِبَ ثم قُتِل. ذكره ابنُ عساكر وذكرَ في ترجمتهِ أنَّه قال للحجَّاجِ بن يوسف، ويُروَى لِعمْرانَ بنِ حِطَّان

(3)

:

ليثٌ عليَّ وفي الحروب نَعَامةٌ

فَتْخاءُ تَجْفُلُ من صفِيرِ الصافِرِ

هلَّا بَرَزْتَ إلى غزالةَ في الوَغَى

بل كان قلبُكَ في جنَاحَيْ طَائِرِ

‌ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومئة

قال الحافظ أبو بكر البَزَّار

(4)

؛ حَدَّثَنَا رزق اللّه بن موسى، حَدَّثَنَا محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، حَدَّثَنَا عبدُ الملك بن زَيد، عن مصعب بن مصعب، عن الزُّهري، عن أبي سَلَمَة بنِ عبدِ الرحمن، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تُرفَعُ زِينةُ الدُّنيا سنةَ خمس وعشرين ومئة"، وكذا رواهُ أبو يعلى في مُسندِهِ

(5)

(1)

صفحة (29) بتحقيق د. عبد الرحمن عميرة، طبعة دار المعارف السعودية، الرياض (1398/ 1978)، وسوف يذكره المؤلف في صفحة (19) من الجزء العاشر من نسخة (ق).

(2)

انظر مختصر تاريخ دمشق (6/ 50، 51).

(3)

ذكر البيتين وعزاهما إلى عمران بن حطان خليفةُ بن خياط في تاريخه ص (274، 275)، وذكر الخبر عبد الغني بن سعيد الأزدي في المتوارين ص (72، 73) وعزاهما إلى عمران أيضًا، وزاد عليهما ثالثًا وهو قوله:

ذعرت غزالة قلبه بفوارس

تركت فوارسه كأمس الغابر

وذكرهما مع هذا البيت ابن عساكر في ترجمة عمران (انظر مختصره لابن منظور (18/ 239))، وذكرهما ابنُ خَلِّكان في وفيات الأعيان (2/ 455)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 147) من غير عزو، وقد تقدّم ذكرُ البيتين في مقتل شبيب في سنة سبع وسبعين.

(4)

في البحر الزخار رقم (1027).

(5)

مسند أبي يعلى (2/ 160)(851)، وذكره الديلمي في مسند الفردوس (2/ 73)(2414)، وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 308) في ترجمة عبد الملك بن زيد عن أبي العلاء، حَدَّثَنَا أبو الطاهر، حَدَّثَنَا ابن أبي فديك، به، وذكره الدارقطني في العلل (9/ 250، 251) وقال؛ عن أبي سلمة عن أبيه وليس بمحفوظ. وسيعاد ذكر الحديث في الصفحة (211) من هذا الجزء، وثمة تفسير زينة الدنيا.

ص: 206

عن أبي كُرَيب، عن ابنِ أبي فُديك، عن عبد الملك بن زيد بن سعيد بن نُفَيل، عن مصعب بن مصعب، عن الزُّهْري، به.

قلتُ: وهذا حديثٌ غَرِيبٌ مُنْكَر، ومُصْعَب بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهري تكلَّمَ فيه وضعَّفَهُ على بن الحسين بن جنيد، وكذا تكلَّم في الراوي عنه أيضًا. والله أعلم.

وفيها غزا النعمانُ بن يزيد بن عبد الملك الصائفةَ من بلادِ الروم، وفي ربيع الآخِر منها تُوفِّي أميرُ المؤمنين:

‌هشامُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوَان

(1)

‌ذكر وفاته وترجمته رحمه الله:

هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبدِ شمس أبو الوليد القُرشي الأموي الدمشقي أمير المؤمنين، وأمه أُمُّ هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت دارُهُ بدِمَشق عند باب الخوَّاصين، وبعضُها اليوم مدرسةُ نورِ الدينِ الشهيد التي يُقالُ لها النُّورِيَّة الكبيرة، وتُعرَفُ بدارِ القَبَّابِين - يعني الذين يبيعون القِبَاب وهي الخِيَام - فكانت تلك المحلَّةُ دارَه، والله أعلم.

وقد بُويع له بالخِلافةِ بعدَ أخيه يزيدَ بنِ عبدِ الملك بعهدٍ منهُ إليه، وذلك يومَ الجمعة لأربعٍ بَقِينَ من شعبان سنةَ خمسٍ ومئة، وكان له من العمر يومئذٍ أربعٌ وثلاثون سنة، وكان جميلًا أبيضَ أحْوَل، يَخْضِبُ بالسَّوَاد، وهو الرابعُ من ولَدِ عبد الملك لِصُلْبِهِ الذين وَلُوا الخِلافة، وقد كان عبدُ الملك رأى في المنام كأنَّهُ بالَ في المِحراب أربعَ مَرَّات، فدسَّ إلى سعيدِ بن المسيَّب مَنْ سألَهُ عنها، ففسَّرَها له بأنَّهُ يَلِي الخلافةَ مِنْ وَلَد أربعة، فوقَعَ ذلك، فكانَ هشامٌ آخِرَهُمْ، وكان في خلافتِهِ حازمَ الرَّأي، جَمَّاعًا للأموال يُبَخَّل، وكان ذَكيًّا مُدَبِّرًا، له بصَرٌ بالأمور جَليلِها وحَقيرِها، وكان فيه حِلْمٌ وأنَاة، شتَمَ مرَّةً رجلًا من الأشرافِ فقال: أتشتُمُني وأنتَ خليفةُ اللهِ في الأرض!؟ فاستحيا وقال: اقتصَّ مِنِّي بدلَها - أو قال بمثلِها - قال: إذًا أكونُ سَفيهًا مثلَك. قال: فخذْ عِوَضًا منها. قال: لا أفعل. قال: فاتُركْها لله. قال: هي للّه، ثم لك. فقال هشامٌ عند ذلك: واللّه لا أعودُ إلى مثلِها.

وقال الأصمعي: أسمَعَ رجلٌ هشامًا كلامًا فقال له: أتقولُ لي مثل هذا وأنا خَلِيفتُك؟!

وغَضِبَ مرَّة على رجلٍ فقال له: اسكُتْ وإِلَّا ضرَبْتكَ سَوْطًا.

(1)

ترجمته في تاريخ الطبري (4/ 217)، تاريخ اليعقوبي (2/ 316)، الكامل (4/ 370 و 465)، سير أعلام النبلاء (5/ 351)، تاريخ الخلفاء ص (247)، شذرات الذهب (1/ 163).

ص: 207

وكان عليُّ بنُ الحسين قد اقترَضَ من مروان بنِ الحكم مالًا أربعةَ آلافِ دينار، فلم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ من بني مروان، حتى استُخلف هشام، فقال: ما فعَلَ حَقُّنا قِبَلَك؟ قال: مَوْفورٌ مَشْكور. فقال: هو لك

(1)

.

وكان هشامٌ من أكرَهِ الناسِ لسَفْكِ الدماء، ولقد دخلَ عليهِ من مَقْتَل زيدِ بن عليٍّ وابنه يحيى أمرٌ شدِيد وقال: وَدِدْتُ أني أفتدَيْتُهما [بجميع ما أملك].

وقال المدائنِي عن رجلٍ من غَنِيّ

(2)

عن بشر مولى هشام، قال: أُتِيَ هشامٌ برجل عندَهُ قِيَان وخَمْرٌ وبَرْبَط، فقال: اكسِروا الطُّنْبُور على رأصه وقرنه، فبَكَى الشيخ، قال بشر:[فقلتُ له وأنا أُعَزِّيه: عليك بالصبر] فقال: أتُراني أبكي للضَّرْب، إنَّما أبكي لاحتقارِك البربطَ حتى سمَّيتَهُ طُنبورًا.

وأغلظ لهشامٍ رجلٌ يومًا في الكلام فقال: ليس لك أنْ تقولَ هذا لإمامك.

وتفقَّدَ أحدَ ولَدِهِ يومَ الجمعة، فبعث إليه: ما لَكَ لم تشهدِ الجُمعة؟ فقال: إنَّ بغلَتي عجزَتْ عني. فبعث إليه: أما كان يُمكِنكَ المشي؟ وحرمَةُ

(3)

أن يركبَ سنةً، [وأن يشهدَ الجمعة ماشيًا].

وذكر المدائني أنَّ رجلًا أهدَى إلى هشام طيرَيْن، فأتى بهما السفير إلى هشام وهو جالسٌ على سرير في وسطِ داره، فقال له: أرسِلْهما في الدار. فأرسلهما ثم قال: جائزتي يا أميرَ المؤمنين فقال: ويحك! وما جائزتُكَ على هديةِ طيرَيْن؟ خُذْ أحدَهما، فجعل الرجلُ يسعىَ خلفَ أحدِهما، فقال: ويحك! ما بالُك؟ فقال: أختارُ أجودَهما. قال: وتختارُ أيضًا الجيِّدَ وتَترُكُ الرديء! ثم أمرَ له بأربعينَ أو خمسينَ درهمًا. وذكر المدائني عن قحذم

(4)

كاتب يوسف بن عمر، قال: بعثنِي يوسفُ إلى هشام بياقوتةٍ حمراء ولؤلؤةٍ كانتا لرابعة

(5)

جاريةِ خالد بن عبد الله القَسْري، مُشْترَى الياقوتةِ ثلاثةٌ وسبعون ألف دينار، قال: فدخلتُ عليه وهر على سريرٍ فَوْقَه فُرش، لم أرَ رأْسَهُ من عُلوِّ تلك الفُرش، فأوردتها له، فقال: كم زِنَتُها؟ فقلت: إنَّ مثلَ هذهِ لا مِثْلَ لها. فسكت.

(1)

وهذه زيادة مقحمة أيضًا وهي.

[قَلتُ: هذا الكلامُ فيهِ نَظَر. وذلك أَنَّ عليَّ بن الحسين مات سنةَ الفقهاء، وهي سنةُ أربعٍ وتِسعينَ قبلَ أنْ يَلِيَ هشامٌ الخِلافة بإحدى عشرةَ سنة، فإنه إنَّما وَلِيَ الخلافةَ سنة خمسٍ ومئة. فقَوْلُ المؤلف: إنَّ أحدًا من خلفاءِ بنى مروان لم يتعرَّضْ لِمُطالبة عليِّ بن الحسين حتى وَلِيَ هشام فطالب بالمال المذكور فيه نظر، ولا يَصِحُّ لتقدُّم مَوْتِ عليٍّ على خلافةِ هشام. والله سبحانه وتعالى أعلم].

(2)

في (ق): "حي" وهو تصحيف، والمثيت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (4/ 219)، والخبر فيه وما بين معقوفين منه.

(3)

في (ق): "ومنعه"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في (ق): "محرم" تصحيف والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري، (4/ 221) والخبر فيه.

(5)

كذا في الأصول (ب، ح، ق)، وفي تاريخ الطبري "لرائقة".

ص: 208

قالوا: ورأى قومًا يَفْرُطُون الزيتون، فقال: القطُوه لَقْطًا ولا تنفضوهُ نفضًا، فتُفقأ عيونُه، وتُكسرَ غصونُه.

وكان يقول: ثلاثةٌ. لا يَضَغْنَ الشريف: تعاهُدُ الضَّيْعة

(1)

، وإصلاحُ المعيشة، وطلَبُ الحَقِّ وإنْ قلّ.

وقال أبو بكر الخرائطي: يُقالُ إن هشامًا لم يَقُلْ من الشعرِ سوَى هذا البيت:

إذا أنتَ لم تعصِ الهوَى قادَكَ الهوَى

إلى كُلِّ ما فيهِ عليكَ مَقَالُ

وقد رُوِيَ له شعرٌ غيرُ هذا.

وقال المدائني عن ابن يسار

(2)

الأعرجي، حدثني ابنُ أبي بجيلة

(3)

عن عقال بن شبة قال: دخلتُ على هشامٍ وعليهِ قَبَاءُ فَنَكٍ

(4)

أخضر، فوجَّهَني إلى خراسان، ثم جعل يُوصيني وأنا أنظُرُ إلى القباء ففَطِنَ فقال: ما لك؟ قلتُ: عليك قَباءُ فَنَكٍ أخضر، وكنتُ رأيتُ عليك مِثْلَهُ قبلَ أن تَلِيَ الخلافة، فجعلتُ أَتأمَّلُ هذا هو ذاك أمْ غيرُه؟ قال: واللهِ الذي لا إله غيرُه هو ذاك، ما لي قَبَاءٌ غيرُه، وما تَرَونَ مِنْ جَمْعِي لهذا المال وصَوْنهِ إلا لكم. قال عِقَال: وكان هشامٍ مَحْشُوًّا عقلًا

(5)

.

وقال عبدُ الله بن علي عَمُّ السَّفَّاح: جمعتُ دواوينَ بني أمية فلم أرَ أصلحَ للعامَّةِ والسُّلطانِ من ديوانِ هشام.

وقال المدائني عن غسان

(6)

بن عبد الحميد: لم يكنْ أَحَدٌ من بني مروانَ أشدَّ نَظَرًا في أصحابِهِ ودواوينه ولا أَشدَّ مبالغةً قي الفَحْصِ عنهم من هشام! وهو الذي قتلَ غَيلانَ القَدَري، ولما أُحضِرَ بين يديه قال له: ويْحَك! قُلْ ما عندَك، إنْ كان حقًّا اتَّبَعْناه، وإن كانَ باطلًا رجعتَ عنه. فناظرَهُ مَيمونُ بن مِهْران، ققال لِمَيمون: أشاءَ اللهُ أنْ يُعْصَى؟ ققال له ميمون: أفَعُصِيَ اللهُ كارهًا؟ فسكتَ غَيلان، فقَيَّدَهُ حينئذٍ هشامٌ وقتَلَه.

(1)

في (ق): "الصنيعة" والمثبت من (ب، ح).

(2)

كذا في الأصول (ب، ح، ق)، وفي تاريخ الطبري "ابن وسنان" والخبر فيه (4/ 218) وفي الكامل (4/ 465).

(3)

كذا في (ق)، وفي (ب، ح) بمهملات لم يعجم منها سوى الجيم، وفي تاريخ الطبري "نحيلة".

(4)

الفَنَكُ: جلْدٌ يُلْبَس، معرَّب، قال ابن دريد: لا أحسبه عربيًّا، وقال كراع: الفَنَكُ دابه يُفْتَرى جلدُها أي يليس جلدها فَروًا. لسان العرب (فنك).

(5)

في (ق): "بخلًا"، والمثبت من (ب، ح).

(6)

في (ق): "المدائني عن هشام بن عبد الحميد" والمثبت من (ب، ح).

ص: 209

وقال الأصمعي عن أبي الزِّناد، عن منذر بن أبي ثَوْر، قال: أصَبْنا في خزائنِ هشام اثني عشرَ ألف قميص، كلُّها قد أثر بها.

وشكى هشامٌ إلى أبيه ثلاثًا: إحداها أنه يَهَابُ الصعودَ إلى المِنبر، والثانية قِلَّةُ تناولِ الطعام، والثالثة أنَّ عندَهُ في القصر مئةَ جاريةٍ من حسانِ النساء، لا يكادُ يَصِلُ إلى واحدةٍ منهن. فكتب إليه أبوه: أمَّا صعودُكَ إلى المنبر فإذا علَوْتَ فوقَهُ فارمِ ببَصَرِكَ إلى مؤخِّرِ الناس، فهو أهونُ عليك، وأمَّا قِلَّةُ تناوُلِ الطعام فمُرِ الطبَّاخَ فَلْيُكْثِر الألوان، فلعَلَّك أن تتناول من كل لَوْنٍ لُقْمَةً، وعليك بكل بيضَاءَ بَضَّة، ذاتِ جَمَالٍ وحُسْن.

وقال أبو عبد الله الشافعي: لما بَنَى هشامُ بن عبد الملك الرُّصَافةَ قال: أُحِبُّ أنْ أخلُوَ بِها يومًا لا يأتيني فيه خبَرُ غَمٍّ. فما انتصفَ النهار حتى أتَتْهُ رِيشةُ دَمٍ من بعضِ الثُّغُور، فقال: ولا يومًا واحدًا؟!.

وقد رُويتْ هذه الحِكاية من وَجْهٍ آخر لم يمكُثْ بعد ذلكَ إلّا شهرًا واحدًا.

وقال سفيان بن عُيينة: كان هشامٌ لا يُكتَبُ إليه بكتابٍ فيه ذكرُ الموت.

وقال أبو بكر بن أبي خَيْثَمة: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا حُسين بن زيد، عن شهاب بن عبد رَبِّه، عن عمر بن علي، قال: مشَيْتُ معَ محمدِ بن عليّ - يعني ابنَ الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى دارِهِ عند الحمام، فقلت له: إنَّهُ قد طالَ مُلكُ هشامٍ وسُلْطانُه، وقد قَرُبَ من العشرين سنة، وقد زَعَمَ الناسُ أنَّ سليمانَ سألَ ربَّهُ مُلكًا لا يَنبغي لأحدٍ من بعدِه، فزعم الناسُ أنها العشرون. فقال: ما أدْري ما أحاديثُ الناس، ولكنَّ أبي حدّثني عن أبيه، عن عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لَنْ يَعْمُرَ اللهُ مُلْكًا في أمَّةِ نبيٍّ مَضَى قَبلَهُ ما بلَغَ ذلك النبيُّ من العُمر في أُمَّتِه، فإن الله عمَّرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشرةَ سنة بمكَّة، وعشرًا في المدينة".

وقال أبو بكر بنُ أبي خَيثمة: ليس حديثٌ فيه توقيتٌ غيرَ هذا، قرأه يحيى بن مَعِين على كتابي فقال: منْ حدَّثك به؟ فقلت: إبراهيم. فتلهَّف أنْ لا يكونَ سمعَه. وقد رواه ابنُ جرير في تاريخه

(1)

عن أحمد بن زهير، عن إبراهيم بن المنذر الحِزَامي.

[وروى مسلم بن إبراهيم، حدّثنا القاسم بن الفضل، حدّثني عياد بن الْمَغْراء العَتكي

(2)

عن عاصم بن المنذر بن الزبير، حدّثني

(3)

عبدُ الله بن الزبير أنه سمع عليًّا يقول: هلاكُ مُلكِ بني أميةَ على رجلٍ أحول. يعني هشامًا]

(4)

.

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 221)، وأخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك (3/ 3)(4257) وإسناده ضعيف.

(2)

في (ق): "عباد بن المعرا الفتكي" تصحيف، والمثبت من لسان الميزان (4/ 389) في ترجمة عياد هذا، والخبر فيه بالإسناد نفسه.

(3)

في (ق): "عن عبد الله .. " والمثبت من لسان الميزان.

(4)

هذا الحديث محصور بين معقوفين من زيادات نسخة (ق)، ليس في (ب، ح).

ص: 210

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عمر بن أبي معاذ النُّمَيري عن أبيه، عن عمرِو بنِ كليع

(1)

عن سالم كاتبِ هشام بن عبد الملك، قال: خرجَ علينا يومًا هشامٌ وعليه كآبةٌ وقد ظهر عليه الحُزْن، فاستدعى الأبرشَ بنَ الوليد، فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين، ما لي أراكَ هكذا؟ فقال: ما لي لا أكونُ وقد زعم أهلُ العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثينَ من يومي هذا؟! قال: فكتَبْنا ذلك، فلمّا كان آخرُ ليلةٍ من ذلك جاءني رسولُهُ في الليل يقول: أحضِرْ معك دواء للذَّبْحَة. وكان قد أصابتْهُ قبلَ ذلك، فاستعملَ منه فعُوفي فذهبتُ إليه ومعي ذلك الدواء، فتناولَهُ وهو في وَجَعٍ شديد، واستمرَّ فيه عامَّةَ الليل، ثم قال: يا سالم، أذهبْ إلى مَنْزلك، فقد وجدتُ خِفَّةً، وذرِ الدواءَ عِنْدي. فذهبتُ، فما هو إلَّا أنْ وصلتُ إلى منزلي حتى سمعتُ الصِّيَاحَ عليه، فجئتُ فإذا هو قد مات.

ولما ماتَ جاءتِ الخَزنة، فختموا على حواصله، وأرادوا تسخينَ الماء، فلم يقدِروا له على قُمْقُم

(2)

حتى استعاروا له. وكان نقشُ خاتمِه الحكمُ للحَكَمِ الحَكيم. وكانتْ وفاتُه بالرُّصَافة يومَ الأربعاء، لِستٍّ بَقينَ من ربيعِ الآخِر سنةَ خمسٍ وعِشرين ومئة، وهو ابنُ بِضْعٍ وخمسين سنة. وقيل: إنه جاوزَ الستين، وصلَّى عليه الوليدُ بن يَزيد بن عبد الملك، الذي وَلي الخلافة بعدَه؛ وكانتْ خلافةُ هشام تسعَ عشرةَ سنة، وسبعةَ أشهر وأحدَ عشرَ يومًا؛ وقيل: وثمانية أشهر وأيام، فالله أعلم.

وقال ابنُ أبي فُدَيك: حدّثنا عبد الملك بن زيد، عن مُصْعب، عن الزُّهْري، عن أبي سَلَمَة بنِ عبدِ الرحمن، عن أبيه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"تُرْفَعُ زينةُ الدُّنيا سنةَ خمسٍ وعِشرينَ ومئة"

(3)

. قال ابنُ أبي فُديك: زِينتُها نورُ الإسلامِ وبَهْجتُه. وقال غيرُه: يعني الرجالَ. والله أعلم.

قلت: لما مات هشامُ [بن عبدِ الملك ماتَ ملكُ بني أميةَ] وتولَّى، [وأدبرَ أمرُ الجِهادِ في سبيلِ الله]، واضطرَبَ أمرُهُمْ جدًّا وإنْ كانتْ قد تأخرَتْ أيامُهم بعدَهُ نحوًا من سبعِ سنين، ولكنْ في اختلافٍ وهَيْج، وما زالوا كذلك حتى خرجَتْ عليهم بنو العباس فاستلبوهم [نعمتَهم و] مُلْكَهم [وقتلوا منهم خَلْقًا وسَلَبوهُمُ] الخِلافة

(4)

[كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى ذلك مبسوطًا مقدَّرًا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم]

(5)

.

نهاية الجزء التاسع من نسخة القاهرة (ق)

(1)

كذا في الأصول، وتاريخ الطبري، ولم أقف على ترجمة له.

(2)

في (ب، ق): "فحم"، والمثبت من (ح).

(3)

تقدم ذكر الحديث ص (206)، وتخريجه ثمة.

(4)

في (ب، ح): "خلافتهم". وكل ما هو محصور بين معقوفين زيادة في (ق) ليس في (ب، ح).

(5)

جاء في نهاية هذا الجزء من نسخة (ق) المطبعة ما نصه: "بحمد الله قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر وأوله خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك".

ص: 211

‌خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

(1)

قال الواقدي والمدائني: بُويع له بالخلافةِ يومَ ماتَ عمُّهُ هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء لستٍّ خلَوْنَ من ربيعِ الآخر سنهَّ خمسٍ وعشرينَ ومئة.

وقال هشام بن الكلبي: بُويع له يومَ السبت في ربيع الآخر، وكان عُمرُه إذْ ذاكَ أربعًا وثلاثين سنة، وكان سببُ ولايتِهِ أنَّ أباه يَزيد بن عبد الملك كان قد جعلَ الأمرَ من بعدِهِ لأخيه هشام، ثم من بعدِهِ لولَدِهِ الوليد هذا، فلمَّا وَليَ هشامٌ أكرمَ ابنَ أخيه الوليد حتى ظهرَ عليه أمرُ الشرابِ وخُلَطَاءِ السَّوْء

(2)

، ومجالسِ اللَّهْو، فأراد هشامٌ أن يقطعَ ذلك عنه، فأمَّره على الحجِّ سنةَ ستَّ عشرةَ ومئة، فأخذَ معهُ كلابَ الصَّيد خُفْيةً من عمِّه، حتى يُقال إنه جعلَها في صناديق، فسقطَ منها صندون فيه كلب، فسُمع صَوْت، فأحالوا ذلك على الجمَّال فضُرب على ذلك. قالوا: واصطنَعَ الوليدُ قُبَّةً على قَدْر الكعية، ومن عزمه أن ينصبَها فوقها، ويجلس هو وأصحابُه هنالك، واستصحَبَ معه الخمورَ [وآلاتِ الملاهي] وغيرَ ذلك عن المنكرات، فلما وصل إلى عكة هابَ أنْ يفعلَ ما كان قد عزمَ عليه عن الجلوسِ فوقَ ظهرِ الكعبة خوفًا من الناس ومن إنكارِهم عليه ذلك؛ فلما تحقَّق عمُّهُ ذلك منه نهاهُ مِرارًا فلم ينتهِ، واستمرَّ على حاله القبيحة، وعلى فعلهِ الرَّديء، فعزَم عمُّه على خَلْعِهِ مغ الخِلافة -[وليتَهُ فعَل]- وأن يولِّيَ بعدَه مَسْلمة بن هشام، وأجابَهُ إلى ذلك جماعةٌ من الأمراء، ومنْ أخوالهِ، وعن أهلِ المدينة ومن غيرِهم - وليتَ ذلك تمَّ - ولكنْ لم ينتظِمْ حتى قال هشامٌ يومًا للوليد: ويحك! واللهِ ما أدري أعَلى الإسلام أنتَ أم لا؟ فإنك لم تدعْ شيئًا عن المنكراتِ إلَّا أتَيْتَه، غيرَ مُتحاشٍ ولا مُستَتِر. فكتبَ إليه الوليدُ بن يزيد:

يا أيُّها السائلُ عن دِيننا

ديني على دينِ أبي شاكِرِ

نشْرَبُها صِرْفًا وممزوجةً

بالسُّخْنِ أحيانًا وبالفاترِ

(1)

ترجمته في تاريخ اليعقوبي (2/ 331)، تاريخ الطبري (4/ 222)، مروج الذهب (2/ 145)، الأغاني (7/ 951)، الكامل لابن الأثير (5/ 264)، سير أعلام النبلاء (5/ 370)، تاريخ الإسلام (5/ 173، 179)، تاريخ ابن خلدون (3/ 106)، الوزراء والكتاب ص (68)، تاريخ الخميس (3/ 320)، خزانة الأدب (1/ 328). وانظر ترجمته في هذا الكتاب ما سيأتي ص (216) في مطلع حوادث سنة ست وعشرين ومئة، وفيها نبأ مقتله.

(2)

في (ب، ح): "والخلطاء" من غير كلمة "السوء"، والمثبت من (ق).

ص: 212

فغَضِبَ هشام على ابنِه مَسْلَمة، وكان يُكنَى بأبي شاكر، وقال له: يتشبَّهُ بكَ الوليد بن يزيد وأنا أرتَجيكَ للخلافة. وبعثَهُ على الْمَوْسم سنةَ تسعَ عشرةَ ومئة، فأظهر النُّسْكَ والوَقَار، وقسم بمكة والمدينة أموالًا، فقالا مولًى لأهلِ المدينة:

يا أيها السائلُ عن ديننا

نحنُ على دينِ أبي شاكِرِ

الواهبِ الجُرْدَ بأرسَانِها

ليس بزنْديقٍ ولا كافِرِ

(1)

ووقعَتْ بن هشام وبينَ الوليد بن يزيدَ وَحْشةٌ عظيمةٌ بسببِ تَعَاطي الوليدِ ما كانَ يَتعاطاهُ من الفواحِشِ والمنكرات، فتنكَّرَ له هشامٌ وعزَمَ على خلْعِه وتوليةِ ولدِهِ مَسْلَمة ولايةَ العَهْد؛ ففرَّ منهُ الوليدُ إلى الصحراء، وجعلا يتراسلانِ بأقبحِ المراسلات، وجعل هشامٌ يتوعَّده وعيدًا شديدًا، ويتهدَّده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليدُ في البرِّيَّة، فلما كانتِ الليلةُ التى قدِمَ في صَبيحتِها عليه البُرُدُ بالخِلافة قَلِقَ الوليدُ تلك الليلةَ قلقًا شديدًا وقال لبعض أصحابه: ويحك قد أخَذَني الليلةَ قلقٌ عظيم، فارْكَبْ بنا لعلَّنا ننشَط، فسارَ مقدارَ ميلَيْن يتكلَّمانِ في هشام وما يتعلَّقُ بهِ من كُتبه إليه بالتهديدِ والوَعيد، ثم رأيا من بُعْدِ رَهَجًا وأصواتًا وَغُبارًا، ثم انكشف ذّلك عن بُرُدٍ يَقْصدونَهُ بالولاية، فقال لصاحبه: ويحك، إنَّ هذه رُسُلُ هشام؛ اللهمَّ أعطنا خيرها. فلما اقتربَتِ البُرُدُ منه وتَبيَّنُوهُ ترجَّلُوا إلى الأرض، وجاؤوا فسلَّموا عليه بالخِلافة، فبُهتَ وقال: وَيْحكم! أماتَ هشام؟ قالوا: نعم. قال: فمنْ بعثَكُمْ؟ قالوا: سالم ين عبد الرحمن صاحبُ ديوانِ الرسائلِ. وأعطَوْهُ الكتاب؛ فقرأه ثم سألهم عن أحوالِ الناس، وكيف مات عمُّه هشام؟ فأخبروه، فكتبَ من فوْرهِ بالاحتياطِ على أموالِ هشامٍ وحَوَاصلِه بالرُّصَافة، وقال في ذلك:

ليتَ هشامًا عاش حتى يرَى

مكيالَهُ الأوفرَ قد ضُيِّعا

(2)

كِلْناهُ بالصَّاع الذي كالَهُ

وما ظلَمْناهُ بهِ إصبعا

وما أتينا ذاك عن بدْعةٍ

أحلَّهُ الفُرْقانُ لي أجمَعَا

(3)

[وقد كان الزهري يَحُثُّ هشامًا على خَلْعِ الوليد هذا ويستنهِضُهُ في ذلك، فيُحجمُ هشام عن ذلك خَوْفَ الفَضيحةِ من الناس، ولئلا تتنكَّر قلوبُ الأجنادِ من أجلِ ذلك. وكان الوليدُ يفهمُ ذلك من الزُّهري ويُبْغضُه ويتوعَّدهُ ويتهدَّدُه، فيقول له الزهري: ما كانَ اللهُ ليُسلِّطَكَ عليَّ يا فاسق. ثم ماتَ الزهريُّ قبلَ ولايةِ الوليد؛ ثم فرَّ الوليدُ من عمِّه إلى البرِّيَّة، فلم يزَلْ بها حتى مات، فاحتاطَ على أموالِ عمِّه ثم ركب من فَوْرِهِ من البرِّيَّة، وقصَدَ دمشق، واستعملَ العُمَّال، وجاءَتْهُ البيعةُ من الآفاق، وجاءَتْهُ الوفود، وكتب

(1)

الخبر والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 222).

(2)

في (ق) وتاريخ الطبري: "قد طبعا" والمثبت من (ب، ح).

(3)

انظر الخبر والأبيات تاريخ الطبري (4/ 225، 226).

ص: 213

إليه مروانُ بن محمد، وهو إذ ذاك نائبُ إرْمينية يُباركُ له في خلافةِ الله له على عبادِه، والتمكينِ في بلاده، ويهنِّئه بموتِ هشام، وظفَرِهِ به، والتحكُّم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدَّد البيعةَ له في بلاده، وأنَّهم فرحوا واستبشروا بذلك، ولولا خوفُهُ من الثَّغْر لاستنابَ عليه ورَكِبَ بنفسِهِ شوقًا إلى رؤيته، ورغبةً في مُشَافَهتِه، ثم إنَّ الوليدَ سارَ في الناسِ سيرة حسنةً في بادئِ الأمر، وأعطَى الزَّمْنى والمَجْذومين والعُمْيان، لكل إنسانِ خادمًا، وأخرج من بيتِ المال الطيبَ والتُّحَف لعيالات المسلمين، وزادَ في أُعطِيَاتِ الناس، ولاسيما أهل الشام والوفود، وكان كريمًا مُمَدَّحًا شاعرًا مُجيدًا، لا يُسألُ شيئًا قَطُّ فيقول لا، ومن شعرِهِ قولُه يَمْدحُ نفسَه بالكرم:

ضَمِنْتُ لكم إنْ لم تُعِقْني عوائقٌ

بأنَّ سماءَ الضُّرِّ عنكم سَتُقْلِعُ

سيوشكُ إلحاقٌ معًا وزيادةٌ

وأُعطيةٌ منِّي إليكم تَبَرُّعُ

(1)

مُحَرَّمُكم ديوانُكم وعَطَاؤكم

به يكتب الكُتَاب شهرًا وتَطْبَع

(2)

وفي هذه السنة عقد الوليدُ البيعةَ لابنهِ الحكَم، ثم عثمان على أنْ يكونا وليَّي العَهْدِ من بعدِه، وبعثَ البيعة إلى يوسف بن عمر أميرِ العراق وخُراسان، فأرسلها إلى نائبِ خراسان نصرِ بنِ سيَّار، فخطَبَ بذلك نصرٌ خُطبة عظيمةً بليغةً طويلة، ساقها ابنُ جريرٍ بكمالِها

(3)

، واستُوثِقَ للوليد الممالك في المشارِق والمغَارب، وأُخذتِ البيعةُ لولديهِ من بعدهِ في الآفاق. وكتب الوليدُ إلى نصرِ بن سيار بالاستقلال بولايةِ خُراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد، فسأله أن يردَّ إليه ولايةَ خُراسان، فردَّها إليه كما كانتْ في أيامِ هشام، وأن يكون نصرُ بن سيَّار وعُمَّاله من تحتِ يدِ يوسف بن عمر. فكتب عند ذلك يوسفُ بن عمر إلى نصرِ بن سَيَّار يَسْتوفِدُهُ إلى أميرِ المؤمنين بأهلِهِ وعِيَالهِ، وأنْ يُكثِرَ من استصحابِ الهدايا والتُّحف؛ فحمَلَ نصرُ بن سيَّار ألفَ مملوكٍ على الخيل، وألفَ وَصيفة، وشيئًا كثيرًا من أباريقِ الفِضةِ والذهب وغيرِ ذلكَ من التُّحَف. وكتب إليه الوليدُ يَسْتَحثُّهُ سريعًا، ويطلبُ منه أن يحمِلَ معه طنابيرَ وبَرَابط ومُغنيِّات، وبازات وبَرَاذين فُرْه، وغير ذلكَ من آلاتِ الطَّرَب والفِسْق. فكَرِه الناسُ ذلك منه، وكَرِهوه، وقال المنجِّمون لنصرِ بن سيار: إنَّ الفتنة قريبًا ستقعُ بالشام، فجعلَ يتثاقلُ في سيرِه، فلما أنْ كانَ ببعضِ الطريق جاءَتْهُ البُرُد، فأخبرُوهُ بأنَّ الخليفةَ الوليد قد قُتل، وهاجَتْ فتنةٌ عظيمةٌ في الناسِ بالشام، فعَدَلَ بمَا معَهُ من الهدايا والتحف والحواصل إلى بعضِ المُدُنِ فأقامَ بها، وبلَغَهُ أنَّ يوسفَ بن عمر قد هرَبَ من العراق، واضطرَبَتِ الأمور، وذلك بسببِ قَتْلِ الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان.

(1)

في (ب، ح): "تفرّع"، والمثبت من (ق).

(2)

الخبر والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 227)، والأغاني (7/ 28) على خلاف في بعض الألفاظ.

(3)

انظر تاريخ الطبري (4/ 227) وما بعدها.

ص: 214

وفي هذه السنة ولَّى الوليدُ يوسفَ بن محمد بن يوسف الثقفي ولايةَ المدينةِ ومكةَ والطائف، وأمرَهُ أنْ يُقيمَ إبراهيم ومحمدًا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مُهانَيْن، لكونِهما خالَيْ هشام، ثم يبعثُ بهما إلى يوسُفَ بنِ عُمر نائب العراق، فبعثهما إليه، فما زالَ يعذِّبُهما حتى ماتا، وأخذ منهما أموالًا كثيرة.

وفي هذه السنة وُلِّي يوسفُ بن محمد بن يحيى بن سعيد الأنصاري قضاءَ المدينة.

وفيها بعث الوليدُ بن يزيد إلى أهلِ قُبْرُصَ جيشًا مع أخيه وقال: خيِّرْهُمْ، فمنْ شاءَ أنْ يتحوَّلَ إلى الشام، ومنْ شاء أنْ يتحوَّل إلى الرُّوم. فكان منهم منِ اختارَ جِوَارَ المسلمين بالشام، ومنهم من انتقلَ إلى بلادِ الرُّوم.

قال ابنُ جرير

(1)

: وفيها قَدِم سُليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قريظ، وقَحْطبةُ بنُ شبيب مكة، فلقُوا في قولِ أهلِ السِّيَر محمدَ بن علي فأخبرَهُ بقصةِ أبي مسلم، فقال: أحُرٌّ هوَ أم لا؟ فقالوا: أمَّا هو فيزعُمُ أنَّهُ حُرّ، وأمَّا مولاه فيزعمُ أنه عبدُه، فاشتروهُ فأعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مئتي ألفِ درهم، وكسوة بثلاثين ألفًا، وقال لهم: لعلَّكم لا تلْقَوني بعدَ عامِكم هذا، فإنْ متُّ فإنَّ صاحبَكمْ إبراهيمُ بن محمد - يعني ابنه - فإنِّي أثقُ به، فأوصيكم به. وماتَ محمد بن علي في مُستهلِّ ذي القَعْدة في هذه السنة، بعد أبيهِ بسبعِ سنين.

وفيها قُتل يحيى بن يزيد بن علي بخراسان. وحجَّ بالناس فيها يوسفُ بن محمد الثقفي أميرُ مكةَ والمدينةِ والطائفِ، وأميرُ العراق يوسف بن عمر، وأميرُ خراسان نَصْرُ بن سيَّار، وهو في همَّةِ الوفودِ إلى الوليد بن يزيد أميرِ المؤمنين بما معهُ من الهدايا والتُّحف؛ فقُتل الوليدُ قبل أن يجتمعَ به.

‌وممَّن تُوفِّي فيها من الأعيان:

محمد بن علي

(2)

بنِ عبدِ اللهِ بن عباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور. روى عن أبيه، وجدِّه، وسعيد بن جُبير، وجماعة. وحدث عنه جماعةٌ منهمُ ابناه الخَلِيفتان أبو العباس عبد الله السفَّاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور. وقد كان عبدُ الله بن محمد بن الحنَفيَّة أوصى إليهِ بالأمرِ من بعدِه، وكان عنده علمٌ بالأخبار، فبشَّرَهُ بأنَّ الخلافةَ ستكونُ في

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 232).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 183)، ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم للدارقطني (2/ 229)، تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم للحاكم ص (222)، التعديل والتجريح للباجي (2/ 668)، تهذيب الكمال (53/ 126)، جامع التحصيل لأبي سعيد العلائي ص (267)، الكاشف (2/ 204)، تقريب التهذيب ص (497).

ص: 215

وَلَدك. فدعَا إلى نفسِه في سنةِ سبع وثمانين، ولم يزلْ أمرُهُ يتزايدُ حتى تُوفِّي في هذه السنة، وقيل في التي قَبْلها، وقيل في التي بعدَها، عن ثلاثٍ وستينَ سنة؛ وكان من أحسنِ الناسِ شَكْلًا، فأوصى بالأمرِ من بعدِهِ لولَدِهِ إبراهيم، فما أُبْرمَ الأمرُ إلَّا لوَلَدِهِ السفَّاح، فاستلبَ من بني أمية الأمرَ في سنةِ ثنتين وثلاثين كما سيأتي تفصيلُ ذلك.

وأمَّا: يحيى بن زَيْد

(1)

بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فإنّهُ لمَا قُتل أبوهُ زَيْد في إحدى وعشرين ومئة لم يزَلْ يحيى مُختفيًا في خُراسان عند الحَريشِ بنِ عمرو بن داود بِبَلْخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نَصْر بن سيَّار يُخبرُه بأمرِ يحيى بن زيد، فكتب نصرٌ بن سيار إلى نائبِ بَلْخٍ مع عقيل بن معقل العِجْلي، فأحضر الحريش، فعاقبه ست مئةِ سوْط، فلم يَدُلَّ عليه، وجاء ولَدُ الحريش، فدلَّهم عليه، فحُبس، فكَتبَ نصرُ بن سيار إلى يوسفَ بذلك، فبعث يوسفُ إلى الوليد بن يَزيد يُخبرُهُ بذلك، فكتب الوليد إلى نصرِ بنِ سيَّار يأمرُه بأمانهِ وإطلاقِهِ من السِّجن، صُحْبةَ أصحابِه وتَجهيزهِم إليه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهَّزَهم، فساروا إلى دمشق، فلمّا كانوا ببعض الطريق توهَّمَ نصرٌ منه غَدْرًا، فبعث إليه جيشًا فيه عشرة آلاف، فكسَرَهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلًا، وقتل أميرَهم، واستلَبَ عنهم أَموالًا كثرِة؛ ثم جاءَهُ جيشٌ آخر، فقتلوه واحتزُّوا رأسَه، وقتلوا جميعَ أصحابهِ رحمهم الله.

‌ثم دخلت سنة ست وعشرين ومئة

فيها كان مَقْتلُ الوليدِ بنِ يزيد بن عبد الملك وهذه ترجمته

(2)

:

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو العباس الأموي الدِّمَشْقي، أمير المؤمنين، بُويع لهُ بالخلافة بعدَ عمِّهِ هشام بن عبد الملك في السنة الخالية بعهدٍ من أبيه كما قدَّمْنا، وأمُّه أُّم الحجّاج بنتُ محمد بن يوسف الثقفي، وكان مولدُهُ سنةَ تسعين، وقيل ثنتين وتسعين، وقيل سبع وثمانين. وقتل يومَ الخميس لليلَتيْنِ بقيتا من جُمَادى الآخرة، سنةَ ستٍّ وعِشرين ومئة، ووقعَتْ بسَببِ ذلك فتنةٌ عظيمةٌ بين الناسِ بسببِ قَتْله وهو خليفة، وإنما قُتل لفِسْقِه، وقيل وزَنْدَقتِه، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدّثنا ابنُ عياش حدّثني الأوزاعي وغيرُه، عن

(1)

تحرف في الأصوله إلى "يحيى بن يزيد"، والمثبت عن مصادر ترجمته وهي: تاريخ الطبري (4/ 135)، البداء والتاريخ (6/ 52)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/ 471)، وفيات الأعيان (5/ 123)، المنتظم (7/ 243).

(2)

انظر مصادر ترجمته في حاشية (1) ص (212).

ص: 216

الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن عمرَ بنِ الخطاب، قال: وُلدَ لأخي أمِّ سلمة، زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم غلامٌ فسمَّوْهُ الوليدَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "سَمَّيتُموهُ باسم فرَاعِنَتِكُم

(1)

! لَيكونَنَّ في هذه الأمةِ رجلٌ يُقالُ له الوليد، لهُوَ أشدُّ فسادًا لهذِهِ الأمةِ من فِرْعونَ لِقَومِه"

(2)

.

قال الحافظ ابنُ عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومَعقِل بن زياد، ومحمد بن كثير، وبشر بن أبي بكر عن الأوزاعي، فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابنُ كثير سعيدَ بن المسيِّب، ثم ساق طُرُقَه هذه كلَّها بأسانيدها وألفاظِها، وحُكي عن البيهقي أنه قال: هو مُرْسلٌ حسن، ثم ساقَ من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة عن أمها قالتْ: دخل عليَّ النبيُّ وعندي غلامٌ من آلِ المغيرة اسمُه الوليد. فقال: منْ هذا يا أمَّ سَلَمة؟ قالت: هذا الوليد. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وقد اتخذتمُ الوليدَ حنانًا! غَيِّروا اسْمهُ، فإنه سيكونُ في هذه الأمة فِرْعونٌ يُقالُ له الوليد"

(3)

.

وروى الحافظُ ابنُ عساكر من حديث عبدِ الله بن محمد بن مسلم، حدّثنا محمد بن غالب الأنطاكي، حدّثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، حدّثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبةَ الخُشَني، عن أبي عبيدة بن الجرَّاح، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزالُ هذا الأمرُ قائمًا بالقِسْط، حتى يَثْلُمَهُ رجلٌ من بني أميَّة"

(4)

.

‌صفة مقتله وزوال دولته:

كان هذا الرجل مجاهرًا بالفواحش، مُصرًّا عليها، منتهكًا مَحارمَ الله [عز وجل، لا يَتَحاشى من

مَعْصية]، وربما اتَّهمه بعضُهم بالزَّنْدقةِ والانحلال [من الدِّين]

(5)

، فالله أعلم، لكن الذي يظهر أنَّهُ كان

(1)

لأنَّ اسم فرعون موسى الوليد، المنتظم (7/ 241).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 18)؛ وإسناده ضعيف. وأخرجه الدارقطني في العلل (2/ 159)(186). وذكره ابن حجر في القول المسدد ص (6) وقال: أورده أبو حاتم بن حبان البستي في تاريخ الضعفاء في ترجمة إسماعيل بن عياش وقال: هذا خبر باطل، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولا رواه عمر، ولا حدث به سعيد، ولا الزهري، ولا هو من حديث الأوزاعي بهذا الإسناد، وإسماعيل بن عياش لما كَبِر تغيَّر حفظه فكثر الخطأ في حديثه وهو لا يعلم. وقد أورده ابن الجوزي في موضعين من كتابه الموضوعات وقال: لعل هذا قد أدخل على ابن عياش لما كبر، أو رواه وهو مختلط انتهى.

(3)

ذكره ابن حجر في فتح الباري (10/ 580، 581)، والقول المسدد ص (15)، وإسناده ضعيف.

(4)

أخرجه أبو بكر البزار في مسنده (4/ 109)(1284)؛ ونعيم بن حماد في الفتن (1/ 280)(817)؛ وأبو يعلى في مسنده (2/ 176)(870) وإسناده ضعيف ورواه أيضًا فيه (2/ 176)(871) وفي آخره قوله: "يقال له يزيد"؛ وأخرجه عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (1/ 475)، وهو حديث ضعيف.

(5)

ما مرَّ بين معقوفين ليس في (ب، ح) وهو في (ق).

ص: 217

عاصيًا، شاعرًا ماجنًا، متعاطيًا للمَعَاصي لا يتحاشى بها من أحد ولا يَسْتحي من أحد قبلَ أنْ يَلي الخلافة، وبعدَ أنْ وَلي، وقد رُوي أنَّ أخاهُ سليمان كان في جملةِ منْ سَعَى في قتلِه؛ قال: أشهدُ بعدالةٍ أنه كان شَروبًا للخمر، ماجنًا، فاسقًا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.

وحكى المعافَى بنُ زكريا عن ابنِ دُريد، عن أبي حاتم، عن العُتْبِيّ، أنَّ الوليدَ بن يزيد نظَرَ إلى نصرانيَّةٍ من حِسَان نساءَ النصارى، اسمها سفرَى، فأحبَّها، فبعث يُراودُها عن نفسها، فأبتْ عليه، فألحَّ عليها وعَشِقها، فلم تطاوِعْه، فاتفق اجتماعُ النصارى في بعضِ كنائسهم لعيدٍ لهم، فذهبَ الوليدُ إلى بستانٍ هناك، فتنكَّرَ وأظهرَ أنه مُصَاب، فخرج النساءُ من الكنيسةِ إلى البستان، فرأينَهُ، فأحدقنَ به، فجعل يكلِّمُ سفرَى ويُحادِثُها

(1)

وتُضاحِكُهُ ولا تَعرِفُه، حتى اشتفَى من النظرِ إليها، فلما انصرفَتْ قيل لها: ويحكِ! أتدرينَ منْ هذا الرجل؟ فقالت: لا. فقيل لها: هو الوليد. فلمَّا تحقَّقتْ ذلك حنَّتْ عليه بعد ذلك وكانتْ عليه أحرصَ منه عليها قبلَ أن تحنَّ عليه، فقال الوليد في ذلك أبياتًا:

أَضْحِكْ فؤادَك يا وليدُ عَمِيدا

صبًّا قديمًا للحسانِ صَيُودا

في حُبِّ واضحةِ العوَارِضِ طَفْلَةٍ

برَزَتْ لنا نحوَ الكنيسةِ عِيدا

ما زلتُ أرمُقُها بعينَيْ وامِقٍ

حتى بَصُرْتُ بها تُقبِّلُ عُودا

عودَ الصليبِ فَوَيْحَ نفسي منْ رَأى

منكمْ صَليبًا مثلَهُ مَعْبُودا

فسألتُ رَبِّي أنْ أكونَ مكانَهُ

وأكونَ في لَهَبِ الجَحيمِ وَقُودا

وقال فيها أيضًا لما ظهرَ أمرُهُ وَعَلِمَ بحالِهِ الناس، وقيل إنَّ هذا وقعَ قبلَ أنْ يَليَ الخِلافة:

ألا حبذا سَفْرَى وإنْ قيلَ إنَّني

كَلِفْتُ بنَصْرَانيَّةٍ تشربُ الخَمْرَا

يَهُونُ علينا أنْ نظلَّ نَهارَنا

إلى الليلِ لا ظُهْرًا نُصلِّي ولا عَصْرَا

قال القاضي أبو الفرَج المعافَى بن زكريَّا الجَرِيري المعروف بابن طَرَارَة

(2)

النَّهْرَواني ثم البغدادي، بعد إيرادِهِ هذه الأشياءَ للوليد في نحوِ هذا من الخَلاعةِ والمجون، وسَخَافةِ الدِّين، وما يطولُ ذكرُه. وقد ناقضْناهُ في أشياء منْ منظُومِ شعرِهِ المتضمِّن رَكِيكَ ضلالِهِ وكُفرِه.

وروى ابنُ عساكرَ بسندِه، أنَّ الوليد سمع بخمَّارٍ صَلِف

(3)

بالحِيرة، فقصَدهُ حتى شرب منه ثلاثةَ

(1)

في (ح): "ويمازحها".

(2)

في الأصول: "طرار" تصحيف، ومنهم من يثبت ألفًا بدلَ الهاء هكذا:"طرارا"، والمثبت من تكملة الإكمال لمحمد بن عبد الغني البغدادي (4/ 17)، والمؤتلف والمختلف (1/ 46).

(3)

الصَّلَفُ: مُجاوزةُ القَدْر في الظَّرْف والبراعة، والادِّعاءُ فوق ذلك تكبُّرًا، صَلِفَ صَلَفًا، فهو صَلِف. لسان العرب (صلف).

ص: 218

أرْطالٍ من الخَمْر وهو راكبٌ على فرَسِه، ومعه اثنانِ من أصحابِه، فلما انصرف أمَرَ للخَمَّار بخمس مئةِ دينار.

وقال القاضي أبو الفرج: أخبارُ الوليدِ كثيرة، قد جمعَها الأخباريُّون مجموعةً ومُفْرَدَة؛ وقد جمعتُ شيئًا من سيرَتِه وآثارِهِ، ومن شعرهِ الذي ضمَّنَه ما فَجَرَ به من جُرْأتِهِ وسَفَاهتِه وحُمْقِه، وهَزْلِه ومُجُونِه، وسخافةِ دينه، وما صرَّح به من الإلحاد في القرآنِ العزيزِ والكُفْرِ بمنْ أنزلَهُ وأُنزلَ عليه؛ وقد عارضتُ شعرَهُ السخيفَ بشعرٍ حَصِيف، وباطلهُ بحَقٍّ نَبيهٍ شَرِيف، وتوَخَّيتُ رضاءَ الله عز وجل، واستيجابَ مغفرتِه.

وقال أبو بكر بن أبي خَيْثمة: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، حدّثنا صالح بن سليمان، قال: أرادَ الوليدُ بن يزيد الحجَّ وقال: أشربُ فوقَ ظهرِ الكعبةِ الخَمْر. فهمَّ قومٌ أنْ يَفْتكُوا بِهِ إذا خرج، فجاؤوا إلى خالدِ بن عبدِ الله القَسْري، فسألوهُ أنْ يكونَ معَهم، فأبى، فقالوا له: فاكتُمْ علينا. فقال: أمَّا هذا فنَعَمْ. فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرُجْ فإنِّي أخافُ عليك. فقال: ومنْ هؤلاء الذين تخافُهم عليّ؟ قال: لا أخبرُكَ بهم. قال: إنْ لم تخبرْني بهم بعثتُ بك إلى يوسفَ بنِ عمر. قال: وإنْ بعثْتَ بي إلى يوسفَ بنِ عمر. فبعثه إلى يوسف، فعاقبه حتى قتلَه

(1)

.

وذكر ابنُ جرير

(2)

أنه لمَّا امتنع أنْ يُعلِمَه بهم سجنَهُ ثم سلَّمه إلى يوسف بن عمر يستخلصُ منه أموالَ العراق فقتله. وقد قيل: إنَّ يوسفَ لمَّا وفَدَ إلى الوليد اشترى منه خالدَ بن عبد الله القَسْري بخمسين ألف ألف يُخلِّصُها منه، فما زال يعاقبُه ويستخلصُ منه حتى قتلَه؛ فغَضِبَ أهلُ اليمن من قَتْلِه، وخرجوا على الوليد.

قال الزبيرُ بنُ بكَّار: حدثنا مُصعبُ بن عبدِ الله، قال: سمعتُ أبي يقول: كنتُ عندَ المَهْدي، فذُكرَ الوليدُ بن يزيد، فقال رجلٌ في المجلس: كان زنديقًا. فقال المهدي: خِلافةُ اللهِ عندَه أجلُّ من أن يجعلَها في زِنْدِيق.

وقال أحمد بن عُمير بن جَوصاء الدِّمَشْقي: حدّثنا عبد الرحمن بن الحسن، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا حصين بن الوليد، عن الأزهر بن الوليد قال: سمعتُ أمَّ الدرداء تقول: [سمعتُ أبا الدرداء يقول]: إذا قُتل الخليفةُ الشابُّ من بني أمية بين الشام والعراق مظلومًا لم تزلْ طاعةً مُسْتَخَفًّا بِها، ودَمًا مَسْفُوكًا على وجهِ الأرض

(3)

بغَيْرِ حقّ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي جرادة في بغية الطلب في تاريخ حلب (7/ 3086).

(2)

هو الطبري في تاريخه (4/ 236).

(3)

في الأصل: لم تزل طاعةً مستخف بها، ودم مسفوك على وجه الأرض. وما أثبتناه من بعض النسخ.

(4)

أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1/ 195)(530) عن الوليد بن مسلم، به، وما بين معقوفين منه.

ص: 219

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري

(1)

:

‌ذِكْرُ قَتْلِ يزيدَ بنِ الوليد الذي يقال له الناقص للوليد بن يزيد

قد ذكرنا بعضَ أمرِ الوَليد بن يزيد، وخلاعتِه، ومجانتِه، وفسقِه، وما ذُكر عن تَهاوُنِهِ بالصلوات، واستخفافِه بأمرِ دينِه قَبْلَ خلافَتِه، ولما وَليَ الخلافةَ وأفْضَتْ إليه لم يزْدَدْ في الخلافةِ إلَّا شرًّا ولَهْوًا ولَذَّةً، ورُكوبًا للصيد، وشُربَ المُسْكر، ومنادمةَ الفُسَّاق، فما زادَتْهُ الخلافةُ على ما كانَ قبلَها إلَّا تماديًا وغُرورًا، فثَقُل ذلك على الأمراءَ والرَعيَّةِ والجُنْد، وكرِهوهُ كراهةً شديدة، وكان من أعظمِ ما جَنى على نفسِه حتى أورَثَهُ ذلك هلاكَه إفسادُهُ على نفسِه بني عمَّيهِ هشام والوليد ابني عبدِ الملك، مع إفسادِهِ اليمانية، وهي أعظمُ جندِ خُراسان.

وذلك أنه لما قتل خالدَ بن عبد الله القَسْري، وسلَّمَهُ إلى غَريمِهِ يوسف بن عمر، الذي هو نائبُ العراق إذْ ذاك، فلم يزَلْ يُعاقِبُهُ حتى هلَك؛ انقلبوا عليه، وتنكَّروا له وساءهم قَتلُه كما سنذكُرُه في ترجمته.

ثم روى ابنُ جَرير

(2)

بسنده، أنَّ الوليدَ بن يزيد ضرَبَ ابنَ عمِّه سليمانَ بن هشام مئةَ سوْط، وحلَقَ رأسَهُ ولحْيَتَه، وغَرَّبهُ إلى عُمان فحبَسَه بها، فلم يزَلْ هناك حتى قُتل الوليد، وأخذ جاريةً كانَتْ لآلِ عمِّه الوليدِ بن عبد الملك، فكلَّمَهُ فيها عمرُ بن الوليد فقال: لا أردُّها. فقال: إذًا تكثُرُ الصواهلُ حَولَ عسكرِك. وحَبَس الأفقَم يزيدَ بن هشام، وبايَعَ لولدَيْه الحكم ثم عثمان، وكانا دونَ البُلوغ، فشقَّ ذلك على الناسِ أيضًا ونصَحُوهُ فلم ينتصِحْ، ونَهَوْهُ فلم يَرْتَدِعْ ولم يَقبَلْ.

قال المدائني في روايته: ثَقُل ذلك على الناس، ورماهُ بنو هاشم وبنو الوليدِ بالكفرِ والزندقة، وغشيانِ أمَّهاتِ أولادِ أبيه، [وباللِّوَاطِ وغيره]. وقالوا: اتَّخَذَ مئةَ جامعةٍ

(3)

، على كلِّ جامعةٍ اسمُ رجل من بني هاشم ليقتُلَهُ بها. ورمَوْهُ بالزَّنْدقة، وكان أشدَّهُم منه قولًا يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناسُ إلى قَوْلهِ أمْيَل، لأنه أظهرَ النُّسُكَ والتواضُع، ويقول: ما يَسَعُنا الرِّضا بالوليد حتى حَمَلَ الناسَ على الفَتْكِ به. قالوا: وانتدَبَ للقيامِ عليهِ جماعةٌ من قُضَاعَةَ واليمانيَّة، وخلقٌ من أعيانِ الأمراء وآلِ الوليد بن عبد الملك، وآلِ هشام بن عبد الملك، وكانَ القائمُ بأعباءَ ذلك كلِّه، والداعي إليه يَزيد بن الوليد بنِ عبد الملك، وهو من ساداتِ بني أميَّة، وكان يُنسبُ إلى الصلاحِ والدِّينِ والوَرَع، فبايعه الناسُ

(1)

في تاريخه (4/ 235).

(2)

المصدر السابق.

(3)

الجامعةُ: الغُلُّ، لأنَّها تَجْمعُ اليدين إلى العُنق. لسان العرب.

ص: 220

على ذلك، ومَد نَهَاهُ أخوهُ العباسُ بن الوليد فلم يقبَلْ، فقال: واللهِ لولا أنِّي أخافُ عليك الوليد لقيَّدتك وأرسلتك إليه. واتَّفَقَ خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممَّن خرج الوليدُ بن يزيد أميرُ المؤمنين في طائفةٍ من أصحابه نحو المئتَيْنِ إلى ناحيةِ مشارف دمشق

(1)

، فانتظم لِيَزيدَ بنِ الوليد أمرُه، وجعل أخوهُ العباسُ يَنْهاهُ عن ذلك أشدَّ النَّهْي فلا يَقبَلْ، فقال العباسُ في ذلك:

إني أعيذُكُم باللهِ من فِتَنٍ

مثلَ الجبالِ تَسَامَى ثم تَنْدَفعُ

إنَّ البريَّةَ قد ملَّتْ سياسَتَكُمْ

فاستمسِكُوا بعَمُودِ الدِّينِ وارتَدِعُوا

لا تُلْحِمُنَّ ذئابَ الناس أنفسَكنم

إنَّ الذئاب إذ ما ألْحِمَتْ رَتَعُوا

لا تَبْقُرُنَّ بأيديكم بُطُونَكمُ

فثَمَّ لا حَسْرَةٌ تُغْني ولا جَزَعُ

(2)

فلما استوْثَقَ لِيَزيدَ بنِ الوليد أمْرُهُ، وبايَعهُ منْ بايَعَهُ من الناس قَصَدَ دمشقَ، فدخلها في غَيْبَةِ الولد، فبايَعهُ أكثرُ أهلِها في الليل، وبلَغهُ أنَّ أهلَ المِزَّةِ بايعوا كبيرَهم معاويةَ بنَ مصَاد، فمضى إليه يزيدُ ماشيًا في نفرٍ من أصحابه، فأصابَهم في الطريق خطرٌ شديد، فأتَوْهُ، فطرقُوا بابَهُ ليلًا، ثم دخلوا فكلَّمَهُ يزيدُ في ذلك، فبايعَهُ ابنُ مصَاد ثم رجعَ يزيدُ من ليلتهِ إلى دمشق على طريقِ القَناة، وهو على حمارٍ أسود، فحَلَفَ أصحابُهُ أنه لا يدخلُ دمشقَ إلا في السلاح، فلَبس سلاحًا من تحتِ ثيابه، فدخلَها، وكان الوليدُ قدِ استنابَ على دمشقَ في غَيْبتِهِ عبدَ الملك بن محمد بن الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وقد خرج منها أيضًا من الوباء، فهو مقيمٌ بِقَطَنا

(3)

، واستخلفَ ابنَه

(4)

على دمشق، وعلى شُرْطتِها أبو العاج كثير بن عبد الله السُّلَمي، فلمَّا كان ليلة الجمعة اجتَمَعَ أصحابُ يزيدَ بين العشاءَيْن، عند بابِ الفرَادِيس، فلمَّا أذَّن عشاءُ الآخرة دخلوا المسجد، فلمَّا لم يبقَ في المسجد غيرُهم بعثوا إلى يزيدَ بنِ الوليد، فجاءهم، فقصدوا بابَ المقصورة، ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا

(5)

العاج وهو سكران، فأخذوه وأخذوا خزائنَ بيتِ المال، وتسلَّموا الحواصلَ، وتقوَّوْا بالأسلحة، وأمرَ يزيدُ بإغلاق أبوابِ البلد، وأن لا يُفْتَح إلَّا لِمَنْ يُعرَف، فلمَّا أصبح الناسُ قَدِمَ أهلُ الحَوَاضرِ من كل جانب فدخلوا من سائرِ أبوابِ البلدِ كل أهلِ مَحلَّةٍ من البابِ الذي يَليهم، فكثُرَتِ الجيوشُ حَوْلَ يزيدَ بنِ الوليد بنِ عبد الملك في نُصْرَتِه، وكلُّهم قد بايَعَهُ بالخلافة، وقد قال فيه بعضُ الشعراء في ذلك:

فجاءَتْهُمُ أنصارُهُمْ حينَ أصبحوا

سَكَاسِكَها أهلُ البيوتِ الصنادِدِ

(1)

في (ب، ح): "مشارق".

(2)

الخبر والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 239، 240)، والكامل في التاريخ لابن الأثير (4/ 481، 482).

(3)

قَطَنا: من قرى دمشق، تقع إلى جنوبها الغربي، وتبعدُ عنها نحو خمس وعشرين كيلو مترًا.

(4)

في الأصل: أباه، وفي بعض النسخ: ابنه.

(5)

في الأصل: أبو، وفي بعض النسخ: أبا.

ص: 221

وكلبٌ فجاؤوهم بخيلٍ وعُدَّةٍ

من البيضِ والأبدانِ ثم السواعِدِ

فأكْرِمْ بها أحياءَ أنصار سنَّةٍ

(1)

هُمُ مَنَعُوا حُرْماتِها كُلَّ جاحِدِ

وجاءَتْهُمُ شيبانُ والأزْدُ شُرَّعًا

وَعَبْسٌ وَلَخْمٌ بينَ حامٍ وذائدِ

وغَسَّانُ والحيَّانِ قيسٌ وتَغْلبٌ

وأحْجمَ عنها كلُّ وانٍ وزاهِدِ

فما أصبحوا إلَّا وهُمْ أهلُ مُلْكِها

قدِ استَوْثَقُوا من كُلِّ عاتٍ ومارِدِ

(2)

وبعث يزيدُ بن الوليد عبدَ الرحمنِ بن مصَاد في مئتي فارس إلى قَطَنا، ليأتُوهُ بعبدِ الملك بن محمد بن الحجَّاج نائبِ دمشق، وله الأمان، وكان قد تحصَّنَ في قصرٍ هناك، فدخلوا عليه، فوجدوا عنده جرَّتَيْن

(3)

، في كلِّ واحدةٍ منهما ثلاثون ألفَ دينار، فلما مرُّوا بالمزَّة قال أصحابُ ابنِ مصَاد خُذْ هذا المالَ فهو خيرٌ من يزيدَ بنِ الوليد. فقال: لا والله لا تُحدِّثُ العرب أنِّي أوَّلُ مَنْ خان. ثم أتَوْا بهِ يزيدَ بنِ الوليد، فاستخدَمَ من ذلك المال جندًا للقتال قريبًا من ألفَيْ فارس، وبعثَ بهِ مع أخيه عبدِ العزيز بنِ الوليد بن عبد الملك خَلْفَ الوليدِ بن يزيد ليأتوا به، وركب بعضُ موالي الوليد فرسًا سابقًا، فساق به حتى انتهى إلى مولاهُ من الليل، وقد نَفَقَ الفرسُ من السَّوْق، فأخبرَهُ الخبر، فلم يُصدِّقْهُ وأمرَ بضَرْبِه، ثم تواترتْ عليه الأخبار، فأشارَ عليه بعضُ أصحابِهِ أن يتحوَّلَ من مَنْزلهِ ذاكَ إلى حِمص، فإنها حَصينة، وقال الأبرش سعيدُ بن الوليد الكلبي: انزِلْ على قومي بتَدْمُر. فأبَى أن يقبَلَ شيئًا من ذلك، بل ركب بمَنْ معهُ وهو في مئتي فارس، وقصد أصحابَ يزيد، فالتقَوْا بِثَقَلِهِ في أثناءِ الطريقِ فأخذوه، وجاء الوليدُ فنزَلَ حِصْنَ البَخْراء

(4)

الذي كان للنعمانِ بن بَشير

(5)

، وجاءه رسولُ العباسِ بنِ الوليد أنِّي آتيك - كان من أنصاره - فأمر الوليدُ بإبرازِ سريرِه، فجلس عليه وقال: أعلى يتوثَّبُ الرِّجال وأنا أثِبُ على الأسدِ وأتخصَّرُ الأفاعي؟! وقَدِمَ عبدُ العزيزِ بن الوليد بمَنْ معه، وإنما كان قد خَلَصَ معه من الألفَيْ فارس ثمانُ مئةِ فارس، فتصافُّوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقُتل من أصحاب العباس جماعةٌ حُملتْ رؤوسُهم إلى الوليد، وقد كان جاء العباسُ بن الوليد لِنُصْرَةِ الوليدِ بن يزيد، فبعث إليه أخوهُ عبدَ العزيز، فجيء به قهرًا حتى بايع لأخيه يزيدَ بنِ الوليد، واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناسُ اجتماعَهم فرُّوا من الوليد إليهم، وبقي الوليدُ في ذُلٍّ وقُلٍّ من الناس، فلجأ إلى الحِصْن، فجاؤوا إليه وأحاطوا بهِ من كلِّ جانبٍ يحاصرونَه، فدَنَا الوليدُ من باب الحِصْن فنادَى: لِيُكَلِّمْني رجلٌ شريف. فكلَّمَهُ يزيدُ بن عَنْبَسَة

(1)

في (ب، ح): "أنصار سيد".

(2)

الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (4/ 241).

(3)

في (ب، ق): "خرجين" والمثبت من (ح).

(4)

البخراء: أرض بالشام، سميت بذلك لعفونةٍ في تربتها ونَتْنها. معجم ما استعجم (1/ 230).

(5)

في (ب، ح): "الذي كان للضحاك بن قيس".

ص: 222

السَّكْسَكيُّ فقال الوليد: ألم أدفَعِ الموتَ عنكم؟ ألم أُعطِ فقراءَكم؟ ألم أخدمْ زَمْناكُمْ؟ فقال يزيد: إنما نَنْقِمُ عليكَ انتهاكَ المحارِم، وشُرْبَ الخمور، ونكاحَ أمَّهاتِ أولادِ أبيك، واستخفافَكَ بأمرِ الله عز وجل. فقال: حَسْبُكَ يا أخا السكاسك، لقد أكثرتَ وأغرقْتَ، وإنَّ فيما أحَلَّ اللهُ لي لَسَعةً عمَّا ذكرتَه. ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا تُرْتَقنَّ فتنتكُم وأقبل يقرَأُ فيه وقال: يومٌ كيومِ عثمان. واستسلم، وتسوَّرَ عليه أولئك الحائط، فكان أوَّلَ من نزل إليه يزيدُ بن عَنْبَسة، فتقدَّمَ إليه وإلى جانبه سيف، فقال: نَحِّهِ عنك. فقال الوليد: لو أردتُ القتالَ به لكان غيرَ هذا. فأخذ بيده وهو يريدُ أنْ يحبِسَهُ حتى يبعثَ بهِ إلى يزيدَ بنِ الوليد، فبادرَهُ عليه عشرةٌ من الأمراء، فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسِهِ ووجهِهِ بالسيوفِ حتى قتلوه، ثم جَرُّوهُ برِجْلِهِ لِيُخرِجوه، فصاحَتِ النسوةُ فتركوه، واحتزَّ أبو عِلاقة القُضَاعيُّ رأسَه وخاطوا ما كان جُرحَ بهِ في وجْههِ، وبعَثُوا بهِ إلى يزيدَ مع عشرةِ نفَر، منهم منصورُ بن جُمهور، ورَوْح بن مُقبل، وبشر مولى كِنَانةَ من بني كَلْب، وعبد الرحمن الملقَّب بوَجْه الفَلْس، فلما انتهَوْا إليه بشَّروهُ بقَتْلِ الوليد، وسلَّموا عليه بالخلافة، فأطلق لكلِّ رجل من العشرة عشرةَ آلاف، فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشرْ يا أمير المؤمنين بقتلِ الوليد الفاسق. فسجَدَ شكرًا لله، ورجعتِ الجيوش إلى يزيد، فكان أولَ من أخذ يدَهُ للمبايعة يزيدُ بن عَنبسةَ السَّكْسَكي، فانتزع يدَهُ من يده وقال: اللهم إنْ كان هذا رِضًى لك فأعِنِّي عليه. وكان قد جعلَ لِمنْ جاءه برأسِ الوليد مئة ألف دِرْهم، فلما جيء به وكان ذلك ليلةَ الجمعة - قيل يوم الأربعاء لِلَيْلتَيْنِ بقيتا من جُمادى الآخرة سنةَ ستٍّ وعِشرين ومئة، فأمر يزيدُ بنَصْب رأسِه على رُمْح، وأنْ يُطافَ به في البلد. فقيل له: إنما يُنصبُ رأسُ الخارجي. فقال: والله لأنصبَنَّه. فشهَرَهُ في البلد على رُمْح، ثم أودَعَهُ عند رجل شهرًا ثم بعثَ إلى أخيه سُليمانَ بنِ يزيد، فقال أخوهُ عندَ ذلك: بُعْدًا له، أشهدُ أنَّكَ كنتَ شروبًا للخمر، ماجنًا فاسقًا؛ ولقد أرادَني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه، لم يانَفْ من ذلك. وقد قيل: إن رأسَهُ لم يزل معلَّقًا بحائطِ جامعِ دمشق الشرقي مما يلي الصَّحْن حتى انقضَتْ دولةُ بني أمية. وقيل إنما كان ذلك أثَر دَمِه، وكان عمرُه يومَ قُتل ستًا وثلاثينَ سنة. وقيل ثمانيًا وثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين - وقيل ثنتَيْن، وقيل خمسًا، وقيل ستًا وأربعين - سنة. ومُدَّةُ ولايَتهِ سنةٌ وستةُ أشهرٍ على الأشْهَر، وقيل: ثلاثة أشهر.

قال ابن جرير

(1)

: كان شديدَ البطش، طويلَ أصابعِ الرجلَيْن، كانت تُضربُ له سكَّةُ الحديد في الأرض، ويُرْبطُ فيها خيطٌ إلى رجْلِه، ثم يَثِبُ على الفرس فيَرْكَبُها ولا يَمَسُّ الفرس، فتنقَلِعُ تلك السِّكَةُ من الأرض مع وَثْبَتِهِ.

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 247).

ص: 223

‌خلافةُ يَزيدَ بنِ الوليد بنِ عبدِ الملك بن مَرْوان

(1)

وهو الملقَّبُ بالنَّاقِصِ لِنَقْصِهِ الناسَ من أُعطياتِهم ما كان زادَهُ الوليدُ بن يزيد في أُعْطياتِهم وهي عشرة عشرة، ورَدِّهِ إياهم إلى ما كانوا عليه في زَمَنِ هشام. ويقال: إن أوَّلَ منْ لَقَّبَهُ بذلك مروانُ بن محمد. بُويع له بالخِلافة بعدَ مقتَلِ الوليدِ بنِ يزيد، وذلك ليلةَ الجمعة لِلَيْلتَيْنِ بَقِيتَا من جُمادَى الآخرة من هذه السنة، أعني سنةَ ستٍّ وعشرين ومئة. وكان فيه صلاحٌ ووَرَعٌ قبل ذلك، فأولُ ما عَمِلَ انَتَقصَ من أرزاق الجُنْد ما كان الوليدُ زادَهُمْ وذلك في كلِّ سنةٍ عشرةً عشرةً، فسُمِّيَ الناقصَ لذلك، ويقال في المثل: الأشجُّ والناقِصُ أعْدَلا

(2)

خلفاءِ بني مروان، يعني عمرَ بنَ عبدِ العزيز، وهذا، ولكنْ لم تَطُلْ أيامُه، فإنه تُوفِّيَ من آخِرِ هذه السنة، واضطرَبَتْ عليه الأمور، وانتشرَتِ الفِتَن، واختلفَتْ كلمةُ بني مروان، فنهض سليمانُ بن هشام وكان معتَقَلًا في سِجْنِ الوليد بعُمان، فاستحوزَ على أموالِها وحَوَاصلِها، وأقبلَ إلى دمشق، فجعل يَلْعنُ الوليدَ ويَعيبُه، ويَرْميهِ بالكُفْر، فأكرَمَهُ يزيدُ وردَّ عليه أموالَهُ التي كان أخذها منه الوليد، وتزوَّج يزيدُ أختَ سليمان، وهي أُمُّ هشام بنتُ هشام.

ونهض أهلُ حمصَ إلى دارِ العباسِ بن الوليد التي عندَهم فهدموها، وحبسوا أهلَهُ وبَنيه، وهربَ هو من حمصَ، فلَحِقَ بيزيدَ بنِ الوليد إلى دمشق، وأظهر أهلُ حمْصَ الأخذَ بدَمِ الوليدِ بنِ يزيد، وأغلقوا أبوابَ البلد، وأقاموا النوائحَ والبواكي على الوليد، وكاتبوا الأجنادَ في طلَبِ الأخذِ بالثأر، فأجابَهم إلى ذلك طائفةٌ كبيرةٌ منهم على أن يكونَ الحكَمُ بنُ الوليد بن يزيد الذي أُخذ له العهد هو الخليفةَ، وخلعوا نائبَهم وهو مروانُ بنُ عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوهُ وقتلوا ابنَه. وأمَّروا عليهم معاويةَ بنِ

(1)

ترجمته في تاريخ خليفة (368)، تاريخ اليعقوبي (3/ 74)، تاريخ الطبري حوادث سنة (126)، الكامل في التاريخ لابن الأثير، تاريخ ابن خلدون (3/ 106)، النجوم الزاهرة (1/ 126)، تاريخ الخميس (2/ 321، 322).

(2)

كذا في الأصول، وأفعل التفضيل يضاف إلى نحو ما يضاف إليه، أي تقول: هو أفضل الرجلين، وأفضل القوم، وتقول: هو أفضل رجل، وهما أفضل رجلين، وهم أفضل رجال، والمعنى في هذا إثبات الفضل على الرجال إذا فضلوا رجلًا رجلا واثنين اثنين وجماعةً جماعةً. وله معنيان: أحدُهما أنْ يُرادَ أنه زائدٌ على المضاف إليهم في الخصلة، هو وهم فيها شركاء، والثاني أن يؤخذ مطلِقًا له الزيادةَ فيها إطلاقًا، ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليهم، لكنْ لمُجرَّدِ التخصيص، كما يُضاف ما لا تفضيلَ فيه، وذلك نحو قولك: الناقصُ والأشجُّ أعْدَلا بني مروان. كأنك قلت: عادِلا بني مروان، فأنت على الأول يجوزُ لك توحيدُه في التثنية والجمع، وعلى الثاني ليس لك إلّا أن تثنيه وتجمعه وتؤنثه. وقد اجتمع الوجهان في قوله عليه السلام:"ألا أخبركم بأحبِّكم إلي وأقربكم مني مجالس يومَ القيامة أحاسنُكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون". اهـ المفصل في صنعة الإعراب للزمخشري ص (120).

ص: 224

يزيدَ بنِ حُصين، فلما أنتهى خبَرُهم إلى يزيدَ بنِ الوليد كتب إليهم كتابًا مع يعقوب بن هانئ، ومضمونُ الكتاب أن يدعو إلى أن يكونَ الأمرُ شُورَى، فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الأمرُ كذلك، فقد رَضِيتا بوليِّ عهدِنا الحكمِ بنِ الوليد، فأخذ يعقوبُ بلِحْيَته وقال: ويحك! لو كان هذا الذي تدعو إليه يتيمًا تحتَ حجرِك لم يَحِلَّ لك أن تدفعَ إليه مالَهُ، فكيف أمرُ الأمَّة؟! فوثَبَ أهلُ حمص على رُسلِ يزيدَ بنِ الوليد فطرَدُوهُمْ عنهم، وأخرجوهم من بين أظْهرِهم، وقال لهم أبو محمد السُّفياني: لو قَدِمتُ دمشق لم يختلف عليَّ عنهمُ اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق، وقد أمَّروا عليهم السفياني، فتلقَّاهم سليمانُ بن هشام في جيشٍ كثيف، قد جَهَّزَهم معَه يزيدُ بن الوليد، وجهز أيضًا عبدَ العزيزِ بن الحجاج في ثلاثةِ آلاف يكونون عندَ ثنيَّةِ العُقَابِ

(1)

وجهز هشام بن مصَاد المِزِّى في ألفٍ وخمسِ مئة، ليكونوا على عَقَبَةِ السَّلَميَّة

(2)

، فخرج أهلُ حمصَ فساروا وتركوا جيشَ سليمان بن هشام ذاتَ اليسار وتعَدَّوْه، فلما سمع بهم سُليمانُ ساقَ في طلَبِهم، فلَحِقَهُمْ عند السُّلَيمانية

(3)

، فجعلوا الزيتون عن أيمانِهم، والجبلَ عن شمائِلهم، والجباب من خلفِهم، ولم يبقَ تخلُّصٌ إليهم إلا من جهةٍ واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالةِ الجِسر قتالًا شديدًا، فقُتل طائفة كبيرةَ من الفريقَيْن، فبينما هم كذلك إذْ جاء عبدُ العزيز بنُ الحجاج بمن معه، فحمل على أهلِ حِمص فاخترق جيشَهُم حتى ركب التلَّ الذي في وسطِهم، وكانتِ الهزيمة، فهرب أهلُ حِمص وتفرَّقوا، فاتَّبَعَهُمُ الناسُ يقتلونَ ويأسِرون، ثم تنادَوْا بالكفِّ عنهم على أنْ يُبَايعوا ليزيدَ بنِ الوليد.

وأسروا منهم جماعةً، عنهم أبو محمد السفياني، ويزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، ثم ارتحلَ سليمانُ وعبدُ العزيز فنَزلا عَذراء، ومعهمُ الجيوشُ وأشرافُ الناس وأشرافُ أهلِ حمص من الأسارَى، ومنِ استجابَ من غيرِ أسْر، بعدَما قُتل منهم ثلاث مئة نفس، فدخلوا بهم على يزيدَ ينِ الوليد فأقبل عليهم، وأحسن إليهم وصفَحَ عهم، وأطلق الأُعطياتِ لهم، لا سيما لأشرافِهم، وولَّى عليهم الذي اختاروه، وهو معاويةُ بن يزيدَ بنِ الحُصَين، وطابَتْ عليه أنفسُهم، وأقاموا عندَهُ في دمشق، سامِعين مُطيعين له.

(1)

ثَنيَّةُ العُقَاب: بالضم، وهي ثنيةٌ مشرفةٌ على غوطةِ دِمشق، يَطَؤها القاصدُ من دمشقَ إلى حمص. ويقال: إنما سُمِّيتْ ثنية العُقاب بعُقَابٍ من الطير كان ساقطًا عليها بعُشِّهِ وفراخِه. سار خالد بن الوليد من العراق حتى أتى إليها، فوقف عليها ساعةً ناشرًا رايته وهي رايةٌ كانتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. معجم البلدان (2/ 85). وتُعرف عند العامَّةِ اليوم بـ "طلوع التنايا".

(2)

سَلَمْيَة: بفتح أوله وثانيه وسكون الميم وياء مثناة من تحت خفيفة، كذا جاء به المتنبي في شعره، وهي بُليدة في ناحية البرية من أعمال حماة بينهما مسيرة يومين، وكانت تُعدُّ من أعمال حمص. وأهلُ الشام يقولون: سَلَميَّة - بفتِح أوله وثانيه وكسر الميم وياء النسبة. معجم البلدان (3/ 240، 241). وفي نسخة "مقبة السلامة".

(3)

السُّليمانية: مزرعة كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلا. تاريخ الطبري (4/ 253)، والخبر فيه مفصلًا.

ص: 225

وفيها بايع أهلُ فلسطينَ يزيدَ بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أنَّ بني سليمان كانتْ لهم أملاكٌ هناك، فكانوا يَنْزِلونها، وكان أهلُ فِلَسْطين يُحبُّونَ مجاورَتهم، فلما قُتل الوليد بن يزيد كتب سعيدُ بن رَوْح بن زِنْبَاع - وكان رئيسَ تلك الناحية - إلى يزيدَ بنِ سليمانَ بنِ عبد الملك يدعوهُ إلى المبايعة له، فأجابَهُ إلى ذلك، فلما بلَغَ أهلَ الاْردُن خبرُهم بايعوا أيضًا محمد بن عبد الملك بن مروان، وأمَّروهُ عليهم، فلما انتهى خبرُهُم إلى يزيدَ بن الوليد أميرِ المؤمنين بعث إليهم الجيوشَ مع سليمانَ بنِ هشام في الدماشقةِ وأهلِ حِمص الذين كانوا مع السُّفْياني، فصالحهم أهلُ الأردن أوَّلًا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهلُ فلسطين. وكتب يزيدُ بن الوليد ولايةَ الإمرةِ بالرَّمْلةِ وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد، واستقرَّتِ الممالكُ هنالك.

وقد خطبَ أميرُ المؤمنين يزيدُ بن الوليدِ الناسَ بدمشق، فحمدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، أما والله ما خرجتُ أشرًا ولا بَطرًا، ولا حِرْصًا على الدنيا، ولا رغبةً في المُلك، وما بي إطراء نفسي، إني لظَلُومٌ لِنَفْسي إنْ لم يرحَمْني ربِّي فإني هالك، ولكني خرجتُ غَضَبًا للهِ ورسولهِ ولدينه، وداعيًا إلى الله وكتابِه، وسُنَّةِ نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لمَّا هُدمَتْ معالمُ الدِّين، وأُطفئَ نورُ أهل التقوى، وظهر الجبارُ العَنيد، المستحلُّ لكُلِّ حُرْمة، والراكبُ كلِّ بِدْعة، مع أنه والله ما كان مُصدِّقًا بالكتاب، ولا مؤمنًا بيوم الحساب، وإنه لابنُ عمِّي في النسب، وكُفئي بالحسَب؛ فلمَّا رأيتُ ذلك استخرتُ الله في أمرهِ، وَسألتُهُ أنْ لا يَكِلَني إلى نفسي، ودَعَوْتُ إلى ذلك منْ أجابني من أهلِ ولايتي، وسعَيْتُ فيه حتى أراحَ اللهُ منه العِبَادَ والبلاد، بِحَوْلِ الله وقوَّتِه، لا بِحَوْلي ولا بقُوَّتي. أيها الناس، إنَّ لكم عليَّ أن لا أضعَ حجَرًا على حجر، ولا لَبِنةً على لَبِنَة، ولا أكْري نَهْرًا، ولا أُكثِرَ مالًا، ولا أُعطيَهُ زوجةً ولا وَلَدًا، ولا أنقلَ مالًا من بلد إلى بلد، حتى أسُدَّ ثَغْرَ ذلك البلد، وخصَاصةَ أهلِه بما يُغْنيهم، فإنْ فَضَلَ عن ذلك فَضْلٌ نَقَلْتُهُ إلى البلدِ الذي يَليه، ممَّن هو أحْوجُ إليه، ولا أجَمِّركم في ثُغوركم فأفِتنَكم وأفْتنَ أهليكم، ولا أغلِقَ بابي دونَكم، فيأكلَ قويُّكمْ ضعيفَكُمْ، ولا أحمِلَ على أهلِ جِزْيتكمْ ما يُجْليهم عن بلادِهم، ويقطعُ نَسْلَهُم

(1)

؛ وإنَّ لكم عِندي أُعطياتِكُمْ في كل سنة، وأرزاقَكمْ في كلِّ شهر، حتى تستدِرَّ المعيشةُ بين المسلمين، فيكونُ أقصاهم كأدناهم، فإنْ أنا وفَيْتُ لكم بما قلت فعليكم السمعُ والطاعة، وحُسنُ المؤازرة، وإنْ أنا لم أوفِ لكم فلكم أنْ تخلعُوني وإلَّا أنْ تَسْتتيبوني، فإنْ تُبتُ قَبلتم منِّي، وإنْ عَلِمْتُمْ أحدًا من أهلِ الصلاح والدِّين يُعطيكُمْ من نفسِه مثلَ ما أُعطيكم فأرَدْتُمْ أنْ تبايعُوهُ فأنا أوَّلُ منْ يُبايعُه ويدخُلُ في طاعتِه. أيُّها الناس، إنه لا طاعةَ لِمَخْلوقٍ في معصيةِ الخالق، إنما الطاعةُ طاعةُ الله، فمن أطاعَ الله فأطيعوهُ ما أطاعَ الله، فإذا عَصَى أو دَعَا إلى معصية، فهو أهلٌ أنْ يُعْصى ولا يُطاع، بل يُقتلُ ويُهانُ، أقولُ قَوْلي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم.

(1)

في (ق): "سيلهم"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري.

ص: 226

وفي هذه السنة عَزَل يزيدُ بن الوليد يوسفَ بن عمر عن إمرةِ العِراق، لِمَا ظهر منه من الحَنَق على اليمانيَّة، وهم قومُ خالدِ بنِ عبدِ الله القَسْري، حتى قتلوا الوليدَ بن يزيد، وكان قد سجَنَ غالبَ منْ ببلادِه منهم، وجعل الأرصادَ على الثغور خَوْفًا من جُندِ الخليفة، فعزلهُ عنها أميرُ المؤمنين يزيدُ بن الوليد، وولَّى عليها منصورَ بنَ جُمهور مع بلاد السِّنْد وسِجنسْتان وخُراسان. وقد كان منصور بن جُمهور أعرابيًّا جِلْفًا، وكان يَدينُ بمَذهبِ الغَيْلانيَّةِ القدَريَّة، ولكنْ كانتْ لَهُ آثارٌ حسنة، وعناءٌ كَثير في مَقْتلِ الوَليدِ بنِ يزيد، فحَظيَ بذلك عند يَزيدَ بنِ الوليد. ويقال: إنه لما فرَغ الناسُ من الوليد ذهب من فَوْرِهِ إلى العراق، فأخذ البيعةَ من أهلِها إلى يزيد، وقرَّرَ بالأقاليم نُوَّابًا وعُمَّالًا وكَرَّ راجعًا إلى دمشق في آخرِ رمضان؛ فلذلك ولَّاهُ الخليفةُ ما ولَّاه. والله أعلم.

وأما يوسف بن عمر فإنَّه فرَّ من العراق، فلَحِقَ ببلادِ البَلْقاء، فبعث إليه أميرُ المؤمنين يزيد، فأحضروهُ إليه، فلما وقف بين يديه أخَذَ بلِحيَتِه، وكان كبيرَ اللِّحْيةِ جدًّا، ربما كانتْ تُجاوزُ سُرَّتَه، وكان قصيرَ القامة، فوَبَّخهُ وأنَّبَه ثم سجنَه، وأمرَ باستخلاصِ الحقوقِ منه. ولما انتهى منصورُ بن جُمهور إلى العراق قرأ عليهم كتابَ أميرِ المؤمنين إليهم في كيفية مَقْتل الوليد، وأنَّ الله أخذَهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر، وأنه قد ولَّى عليهم منصورَ بن جُمهور لما يعلمُ من شجاعتِه ومعرفتِه بالحَرْب؛ فبايعَ أهلُ العراق ليزيدَ بنِ الوليد، وكذلك أهلُ السِّنْد وسِجِسْتان.

وأمَّا نَصْرُ بن سَيَّار نائبُ خُراسان فإنه امتنعَ من السَّمْعِ والطاعةِ لِمَنصورِ بنِ جُمهور وأبَى أنْ ينقادَ لأوامرهِ، وقد كان نصرٌ هذا جَهَّزَ هدايا كبيرةً للوليدِ بن يزيد، فاستمرَّتْ له.

وفي هذه السنة كتب مروانُ الملقب بالحِمار كتابًا إلى عمرَ بنِ يزيد أخي الوليد بن يزيد يَحُثُّه على القيامِ بطَلبِ دم أخيه الوليد، وكان مروانُ يومئذٍ أميرًا على أذْرَبِيجَان وأرْمِيِنيَة، ثم إنَّ يزيدَ بن الوليد عزل منصورَ بن جُمهور عن ولايةِ العراق، وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وقال له: إنَّ أهل العِراقِ يُحِبُّونَ أباك، فقد ولَّيتُكَها، وذلك في شوال، وكتب له إلى أُمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم بِه خشيةَ أنْ يمتنِعَ منصورُ بن جُمهور من تسليم البلاد إليه فسلم إليه وأطاعَ وسلَّم، وكتب الخليفةُ إلى نصرِ بن سَيَّار باستمرارِهِ بولايةِ خُراسان، مستقِلًّا بها فخرج عليه رجل يُقالُ له الكَرْماني لأنَّهُ وُلدَ بكَرْمان وهو أبو علي جديع بن علي بن شبيب المعني، واتبعه خلقٌ كثير، بحيثُ إنه كان يشهَدُ الجُمعة في نحوِ ألف وخمسمئة، وكان يُسلِّمُ على نَصْرِ بن سَيَّار ولا يَجلِسُ عنده، فتحيَّرَ نصرُ بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيُهم بعدَ جَهْدٍ على سَجْنِه، فسُجن قريبًا من شهر، ثم أطلقه، فاجتمع إليه ناس كثير، وجَمٌّ غَفِير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصرٌ مَنْ قاتلهم فقتلَهم وقهرَهم وكسرَهم، واستخفَّ جماعاتٌ من أهلِ خَراسان

ص: 227

بأمرِ نَصْرِ بن سيَّار [وتلاشوا أمره وحرمته]

(1)

وألَحُّوا عليه في أعطياتِهم، وأسمعوهُ غَلِيظَ ما يَكْرَه، وهو على المِنبر بسفارةِ سَلْم بن أحوز أدنَى ذلك إليه، وخرجت الباعَةُ من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفضَّ كثيرٌ من الناس عنه، فقال لهم نصرٌ فيما قال: والله لقد نشَرْتُكم وطوَيْتكم، وطوَيْتكم ونشَرْتُكم، فما عِنْدي عشرةٌ منكم على دِين، فاتقوا الله، فوالله لئن اختلفَ فيكم سيفان لَيتمَنَّيَنَّ الرجلُ منكم أنْ ينخلعَ من أهلِهِ ومالهِ وولدِه، ولم يكنْ رآها. ثم تمثلَ بقولِ النابغة

(2)

:

فإنْ يغِلبْ شقاؤكمُ عليكمْ

فإني في صلاحِكُمُ سَعَيْتُ

وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعدي:

أبِيتُ أرْعَى النجومَ مُرْتَفِقًا

إذا استقلَّتْ نَحْوِي أوائِلُها

من فِتْنَةٍ أصبَحَتْ مُجَلّلَةً

قد عَمَّ أهْلَ الصلاةِ شامِلُها

مَنْ بِخُراسانَ والعراقِ ومَنْ

بالشامِ كلٌّ شَجَاهُ شاغِلُها

يَمشي السفيهُ الذي يُعنَّفُ بالْـ

ـــــجهلِ سواء فيها وعاقِلُها

فالناسُ منها في لَوْنِ مُظلِمَةٍ

دهماءَ مُلتَجَّةٍ غَيَاطِلُها

والناسُ في كُرْبةٍ يكادُ لها

تَنْبِذُ أولادَها حوامِلُها

يغدونَ منها في كُل مُبْهَمَةٍ

عمياءَ تَغْتالُهُمْ غَوَائلُها

(3)

لا يُبْصِرُ الناسُ من عواقِبِها

إلَّا التي لا يَبِينُ قائِلُها

كرَغْوَةِ البَكْرِ أو كَصَيْحَةِ حُبْـ

ــــلَى طَرَّقَتْ حَوْلَها قَوَابِلُها

فجاء فينا تُزْرِي بوجهَتِهِ

فيها خُطوب حُمْرٌ زَلازِلُهَا

وفي هذه السنة أخذ الخليفةُ البيعةَ من الأمراء وغيرِهم بولايةِ العَهْدِ من بعدِهِ لأخيه إبراهيمَ بنِ الوليد بن عبد الملك، ثم من بعدِ إبراهيم لعبدِ العزيز بن الحجَّاج بن عبدِ الملكِ بن مروان وذلك بسبَبِ مرَضِهِ الذي ماتَ فيه، وكان ذلك في شهرِ ذي الحِجَّةِ منها وقد حرَّضَهُ على ذلك جماعةٌ من الأمراص والأكابرِ والوزراء. وفيها عزَل يزيدُ عن إمرَةِ الحجاز يوسُفَ بنَ محمد الثقفيّ، وولَّى عليها عبدَ العزيز بنَ عمر بن عبد العزيز، فقَدِمهَا في أواخرِ ذي القَعْدَةِ منها.

وفيها أظهر مروانُ الحِمار الخلافَ لِيَزِيدَ بن الوليد وخرجَ من بلادِ إرْميِنيَةَ يُظْهِرُ أنه يطلُبُ بدَمِ الوليدِ بن يزيد، فلما وصل إلى حَرَّان أظهر الموافقةَ، وبايع لأميرِ المؤمنين يزيدَ بن الوليد.

(1)

ما بين معقوفين زيادة في (ق) ليست في (ب، ح).

(2)

في تاريخ الطبري (4/ 265): "النابغة الذبياني"، ولم أجده في ديوانه.

(3)

في (ق): "تمنى لهم غوائلها"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (4/ 266).

ص: 228

وفيها أرسلَ إبراهيمُ بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا هاشم بكرَ بنَ ماهان إلى أرض خُراسان، فاجتمع بجماعةٍ من أهلِ خُراسانَ بِمَرْو. فقرأ عليهم كتابَ إبراهيمَ بنِ محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيّتَه، فتلَقَّوْا ذلك بالقَبُول، وأرسَلُوا معَهُ ما كان عندَهم من النفقَات.

وفي سَلْخِ ذي القَعْدَة - وقيل في سَلْخِ ذي الحِجَّة، وقيل لعشرِ مضَيْنَ منه، وقيل بعدَ الأضحى منها كانت وفاةُ أميرِ المؤمنين:

‌يزيد بن الوليد بنِ عبدِ الملك بن مروان

(1)

هو يزيدُ بنُ الوليدِ بنِ عبد الملك بنِ مروان بنِ الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مَنَاف بنِ قُصَيّ أبو خالد الأُمَوِي، أميرُ المؤمنين، بُوِيعَ بالخِلافة أولَ ما بويع بِها في قريةِ المِزَّةِ من قُرَى دمشق، ثم دخل دمشقَ فغَلَبَ عليها، ثم أرسلَ الجيوشَ إلى ابنِ عَمِّه الوليدِ بن يزيد، فقَتَلَهُ واستحوَذَ على الخلافةِ في أواخرِ جُمَادَى الآخرة من هذه السنة، وكان يُلَقَّبُ بالنَّاقِص لِنَقْصِهِ الناس العشراتِ التي زادَهُمْ إياها الوليدُ بن يزيد. وقيل: إنَّما سَمَّاهُ بذلك مروانُ الحِمَار، وكان يقول: الناقص ابن الوليد، وأمه شاهفرند

(2)

بنت فيروز بن يَزْدَجِرْد بن كِسْرَى كِسْرَوَيْه.

وقال ابنُ جرير

(3)

: وأمه شاه آفريد بنت فَيْرُوز بن يَزْدَجِرْد بن (شيرويه بن)

(4)

شَهْرَيار بن كِسْرَى، وهو القائل:

أنا ابنُ كِسْرَى وأبي مروان

وقيصَرٌ جَدِّي وجَدِّي خاقان

وإنما قال ذلك لأنَّ جدَّهُ فيروز لأمِّ أُمِّهِ بنت قيصر، وأمُّ شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك. وكانتْ قد سباها قُتيبةُ بنُ مسلم هي وأختٌ لَها فبعثهما إلى الحجَّاج، فأرسلَ بِهذهِ إلى الوليد واستبقى عندَهُ الأخرى، فولدت هذه للوليد يزيد الناقص هذا؛ وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق. وكان مَوْلدُهُ في سنةِ تسعين، وقيل: في سنةِ ست وتسعين. وقد رَوَى عنه الأوزاعيُّ مسألةَ السَّلَم. وقد ذكرنا كيفية ولايِتِه فيما سلَفَ في هذه السنة، وأنه كان عادِلًا دَيِّنًا مُحِبًّا للخير، مُبْغِضًا للشر، قاصدًا للحق.

وقد خرج يومَ عيدِ الفِطْر من هذه السنة إلى صلاةِ العِيد بين صَفّينِ من الخيَّالة، والسيوفُ مُسَلَّلَة عن يَميِنه وشِمالِه، ورجع من الْمُصَلَّى إلى الخضراء كذلك. كان رجلًا صالحًا يقالُ في المثَل: الأشَجُّ

(1)

انظر مصادر ترجمته في حاشية ص (224).

(2)

كذا في (ب، ق) وفي (ح): "شاهفريد".

(3)

هو الطبري في تاريخه (4/ 272).

(4)

هذه الزيادة من (ب، ح) وليست في (ق) ولا تاريخ الطبري.

ص: 229

والناقِصُ أعدَلا

(1)

بني مروان. والْمُراد عمر بن عبد العزيز، وهذا.

وقد قال أبو بكر بنُ أبي الدنيا: حدثني إبراهيمُ بن محمد المَرْوَزِيّ عن أبي عثمان اللَّيثي قال، قال يزيدُ بن الوليد الناقص: يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنَّهُ يُنقِصُ الحياء، وَيزِيدُ في الشَّهْوَة، وَيهْدِمُ المروءة، وإنَّهُ لينوبُ عن الخَمْر، ويفعَلُ ما يفعَلُ الْمُسْكِر، فإنْ كنتُمْ لا بدَّ فاعلين، فجَنّبوهُ النِّسَاء، فإنَّهُ داعِيَةُ الزِّنا

(2)

.

وقال ابن عبد الحكيم عن الشافعي: لَما وليَ يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له الناقص دعا الناسَ إلى القَدَر، وحملَهُمْ عليه، وقَرَّبَ غَيْلان. قاله ابنُ عساكر. قال: ولعلَّه قرَّبَ أصحابَ غَيْلان، لأنَّ غيلان قتَلهُ هشامُ بنُ عبد الملك.

وقال محمد بن المبارك: آخِرُ ما تكلَّم به يزيدُ بن الوليد الناقص: واحسرتاه! واأسفاه

(3)

!. وكان نقشُ خاتمه: العظمة لله.

وكانت وفاتُه بالخَضْراء من طاعونٍ أصابَه، وذلك يوم السبت لسبع مضَيْنَ من ذي الحِجَّة. وقيل: يوم الأضحى منه، وقيل: بعده بأيام، وقيل: لعشرٍ بَقِينَ منه، وقيل: في سَلْخِه، وقيل: في سَلْخِ ذي القَعْدَة من هذه السنة. وأكثرُ ما قيل في عُمره: ست وأربعون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيلَ غيرُ ذلك، فالله أعلم. وكانث مُدة ولايتِه ستةَ أشْهُر على الأشهر، وقيل: خمسة أشهر وأيام. وصلَّى عليه أخوهُ إبراهيم بن الوليد، وهو وليُّ العَهْدِ من بعدِه. رحمه الله.

وذكر سعيدُ بن كثير بن عُفَير أنه دُفن بين باب الجابية وبابِ الصَّغِير. وقيل: إنه دُفن ببابِ الفَرَادِيس، وكان أسمرَ نَحِيفًا، حسنَ الجِسم، حسنَ الوَجْه.

وقال علي بن محمد المديني: كان يَزِيدُ أسمرَ طويلًا صغيرَ الرأس، بوجههِ خال، وكان جميلًا، وفي فَمِهِ بعضُ السَّعَةِ وليس بالمُفْرِط.

وحَجَّ بالناسِ فيها عبدُ العزيزِ بنُ عمرَ بن عبد العزيز، وهو نائبُ الحِجاز، وأخوه عبد الله نائب العِراق، ونصرُ بن سَيَّار على نيابةِ خُراسان

(4)

. والله سبحانه أعلم.

(1)

انظر ما تقدَّم ص (224) حاشية (2) من هذا الجزء.

(2)

ذكره أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (2/ 286)، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص (289)، وابن قيم الجوزية في إغاثة اللهفان (1/ 245، 246).

(3)

في (ق): "واحزناه! واشقاآه" والمثبت من (ب، ح).

(4)

جاء في غاية الصفحة (452) وهي آخر صفحة من هذا الجزء من نسخة (ح) ما نصه:، آخر المجلد، ويتلوه الذي بعدَه إن شاء الله تعالى من توفي في هذه السنة من الأعيان والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد النبي=

ص: 230

(1)

‌ ومِمن تُوفِّي في هذه السنة من الأعيان:

خالد بن عبد الله بن يزيد

(2)

بن أسد بن كُرْز بن عامر بن عَبْقَرِي، أبو الهيثم البَجَليُّ القَسْرِيُّ الدمشقِيّ، أميرُ مكَّةَ والحِجَاز للوليد، ثم لِسُليمان، وأميرُ العراقَيْنِ لهشام خمسَ عشرةَ سنة.

قال ابنُ عساكر: كانتْ دارُهُ بدمشق، في مُربعة القز

(3)

وتعرف اليوم بدار الشريف اليَزِيدي، وإليه يُنسب الحمَّامُ الذي داخلَ بابِ تُوما.

روى عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له:"يا أسَد، أتُحِبُّ الجنَّة"؟ قال: نعم. قال: "فأَحِبَّ للمُسلمينَ ما تُحِبُّ لِنفسِك". رواه أبو يَعْلَى

(4)

عن عثمانَ بنِ أبي شيبة، عن هُشَيْم، عن سَيَّار أبي الحكم

(5)

، أنه سمعه على المِنبر يقولُ ذلك

(6)

.

وممن روى عنه إسماعيل بن أوسط، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحُمَيد الطويل، ورُوي أنه رَوَى عن جَدِّهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفيرِ المرضِ الذنوبَ

(7)

. وكانتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّة. وذكره أبو بكر بن عيَّاش في الأشراف فيمن أُمُّهُ نَصْرانيَّة.

وقال المدائني: أولُ ما عُرف من رياستِهِ أنه وَطَأ صَبِيًا

(8)

بدمشق بفرسِه، فحمَلَهُ، فأشهدَ طائفةً من الناس أنه هو صاحبُه، فإن ماتَ فعليهِ دِيَتُه.

= الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير".

(1)

جاء في بداية الصفحة الثانية من هذا الجزء من نسخة (ح) ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر وأعِنْ يا كريم، واختم بخير في عافية".

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (3/ 158)، الجرح والتعديل (3/ 340)، الأغاني (22/ 5، 29)، تاريخ ابن الأثير (5/ 124 و 276) وما بعدها، بغية الطلب في تاريخ حلب (7/ 3068) وما بعدها، وفيات الأعيان (2/ 226)، تهذيب الكمال (8/ 107)، شذرات الذهب (1/ 169).

(3)

ويقال: إن هذه المربعة بقرب القدم، انظر الدارس (1/ 431).

(4)

في (ق): "عن سيار من أبي الحكم" تحريف، وسيار هو أبو الحكم، والمثبت من (ب، ح) ومصادر تخريج الحديث.

(5)

في مسنده رقم (911).

(6)

أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على مسند أبيه (4/ 70)، وأبو الحسين بن قانع في معجم الصحابة (1/ 42)، والحاكم في المستدرك (4/ 186)(7313) وهو حديث حسن.

(7)

رواه عبد الله بن أحمد في زيادته على مسند أبيه 4/ 70، والطبراني في المعجم الكبير رقم (1002) وهو حديث حسن.

(8)

في (ح): "أوطى ذمِّيًّا".

ص: 231

وقد استنابَهُ الوليدُ على الحجاز من سنةِ تسعٍ وثمانين إلى أنْ تُوفِّيَ الوليد، ثم سليمان من بعده. وفي سنة ستٍّ ومئة إستنابَهُ هشامٌ على العراق إلى سنةِ عِشرينَ ومئة، وسلَّمه إلى يوسف بن عمر الذي وَلَّاه مكانَهُ، فعاقبَهُ وأخذَ منه أموالًا، ثم أطلقَهُ، وأقام بدمشق إلى المحرَّم من هذه السنة، فسلَّمَهُ الوليدُ بن يزيدَ إلى يوسفَ بنِ عمرَ يستخلِصُ منه خمسين ألف ألف، فماتَ تحتَ العُقوبِة البليغة، كسَرَ قدَمَيْه ثم ساقَيْه ثم فَخِذَيه، ثم صدرَه، فمات ولم يتكلَّم كلمةَ واحدة، ولا تَأَوَّهَ حتى خرَجَتْ رُوحُه. رحمه الله.

قال العُتْبي

(1)

عن أبيه خطَبَ خالدٌ القَسْريُّ يومًا فأُرْتِج عليه فقال: أيُّها الناس، إنَّ هذا الكلامَ يَجِئُ أحيانًا، ويعزُبُ أحيانًا، فيتسَبَّبُ عندَ مجِيئهِ سَبَبُهُ، ويتعذَّرُ عندَ عُزوبِهِ مَطْلَبُه، وقدُ يرَدُّ إلى السَّلِيطِ بَيَانُه، ويُنِيبُ

(2)

إلى الحَصِرِ كلامُه، وسيعودُ إلينا ما تُحِبُّون، ونعودُ لكم كما تُريدون.

وقال الأصمعي وغيرُه: خطَبَ خالدٌ القَسْرِيُّ يومًا بواسطَ فقال: يا أيها الناس، تنافسوا في المَكَارِم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمدَ بالجُود، ولا تَكْسِبوا بالمَطْلِ ذَمًّا، ولا تعتدُّوا بمعروفٍ لم تُعَجِّلوه، ومهما تكنْ لأحدٍ منكم نعمة عندَ أحدٍ لم يبلُغْ شكرَها، فالله أحسَنُ له جزاءً، وأجزَلُ عطاءً. واعلموا أنَّ حوائجَ الناسِ إليكم نِعَمٌ فلا تَمَلُّوها، فتُحَوَّلُ نِقَمًا، فإن أفضلَ المالِ ما كَسبَ أجرًا، وأورَثَ ذِكْرًا. ولو رأيتم المعروفَ لرأيتموه رجلًا حسنًا جميلًا، يسرُّ الناظرين، ويفوق العالمين، ولو رأيتُم البُخْلَ لرأيتموهُ رجلًا مشَوَّهًا قَبِيحًا، تَنْفِرُ منهُ القلوب، وتُغَضُّ دونه الأبصار، إنَّهُ مَنْ جادَ ساد، ومَنْ بَخِلَ ذَلّ. وأكرمُ الناسِ مَنْ أعطَى مَنْ لا يَرْجُوه، ومَنْ عَفَا عن قُدْرَة، وأفضلُ الناسِ منْ وَصَلَ عن قَطِيعَة. ومَنْ لم يَطِبْ حَرْثُه، لم يَزْكُ نَبْتُه، والفُروعُ عندَ مغارِسِها تَنْمو، وبأُصولها تسمو.

وروى الأصمعي عن عمر بن الهيثم، أنَّ أعرابيًّا قَدِمَ على خالد فأنشدَهُ قصيدة امتدَحَهُ بِها يقول فيها:

إليك ابنَ كُرْزِ الخَيْرِ أقبلتُ راغبًا

لتَجبُرَ مني ما وَهَى وتَبَدَّدا

إلى الماجدِ البُهْلولِ ذي الحلمِ والنَّدَى

وأكرَمِ خَلْقِ اللهِ فَرْعًا ومَحْتِدَا

إذا ما أُنَاسٌ قَصَّروا بفِعَالِهم

نَهَضْتَ فلم تَلْقَى هنالِكَ مَقْعَدَا

فيا لَكَ بَحْرًا يَغْمُرُ الناسَ مَوْجُهُ

إذا يُسألُ المعروفَ جاشَ وأزْبَدَا

بَلَوْتُ ابنَ عبدِ الله في كُلِّ مَوْطِنٍ

فألفَيْتُ خيرَ الناسِ نفسًا وأمْجَدَا

فلو كان في الدنيا من الناس خالدٌ

يَجُودُ بمعروفٍ لكنتَ مُخَلَّدًا

فلا تَحْرِمَنِّي منكَ ما قَدْ رَجَوْتُهُ

فيصبحَ وجهي كالِحَ اللَّوْنِ أرْبَدَا

قال: فحَفظَها خالد، فلما اجتمع الناسُ عندَ خالد قام الأعرابي يُنشِدها، فابتدَرَهُ إليها خالدٌ فانشدَها

(1)

في بعض النسخ: "الليثي" وهو تحريف. والخبر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 16/ 141.

(2)

في بعض النسخ: "ويثيب"، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ دمشق.

ص: 232

قبلَه وقال: أيُّها الشيخ، إنَّ هذا شعرٌ قد سبَقْناكَ إليه، فنَهَضَ الشيخ، فولَّى ذاهبًا، فأتْبَعَهُ خالدٌ مَنْ يَسْمَعُ ما يقول، فإذا هو يُنشِد هذه الأبيات:

ألا في سبيل الله ما كنتُ أرْتَجِي

لدَيهِ وما لاقَيْتُ مِنْ نَكَدِ الجَهْدِ

دخلتُ على بَحْير يَجُودُ بِمالِه

ويُعْطِي كثيرَ المالِ في طلَبِ الحَمْدِ

فخالَفَني الجَدُّ المَشُومُ لِشِقْوَتِي

وقارَبَنِي نَحْسِي وفارَقَنِي سَعْدِي

فلو كان لي رِزْقٌ لَدَيْهِ لَنِلْتُهُ

ولكنَّهُ أمْرٌ منَ الواحِدِ الفَرْدِ

فرَدَّهُ إلى خالد، وأعلمَهُ بما كان يقول، فأمر لَهُ بعشرةِ آلافِ درهمٌ

(1)

.

وقال الأصمعي: سأل أعرابيٌّ خالدًا القَسْرِيَّ أنْ يَمْلأ له جِرَابَهُ دقِيقًا، فأمرَ بِمَلْئِهِ دراهم، فقيل للأعرابي حين خرج: ما فعلَ معك؟ فقال؛ سألتُهُ بما أشتهي فأمَرَ لي بما يَشْتَهِي هو.

وقال بعضُهم: بينما خالدٌ يَسِير في مَوْكِبه إذْ تلَقَّاهُ أعرابيٌّ فسألَهُ أنْ يَضْرِبَ عُنقَه، فقال: ويحَك! ولمَ؟ أقطَعْتَ السَّبِيل؟ أأخرجتَ يدًا من طاعَة؟ فكلُّ ذلك يقول: لا. قال: فلِمَ؟ قال: من الفقرِ والفاقة. فقال: سَلْ حاجتَك. قال: ثلاثين ألفًا، فقال خالد: ما رَبِحَ أحَدٌ مثلَ ما ربحتُ اليوم. إني وضعتُ في نفسي أنْ يسألَني مئةَ ألف، فسأل ثلاثين فربحتُ سبعين، ارجِعُوا بنا اليوم. وأمَرَ لَهُ بثلاثين ألفًا.

وكان إذا جلس تُوضَعُ الأموالُ بين يديه ويقول: إنَّ هذِهِ الأموالَ ودائعُ لا بُدَّ من تَفْرِقَتِها.

وسقَطَ خاتمٌ لجارِيتهِ رائقة

(2)

يُساوي ثلاثين ألفًا في بالوعَةِ الدار، فسألتْ أنْ تؤتَى بِمَنْ يَستخرجُه، فقال: إنَّ يدَكِ أكرَمُ عليَّ من أنْ تلبَسَهُ بعدَما صارَ إلى هذا المَوْضِعِ القَذِر. وأمرَ لها بخمسةِ ألافِ دينارٍ بدَلَه، وقد كان لرائقةَ هذ من الحُلِيِّ شيءٌ عظيم، من جملةِ ذلك ياقوتةٌ وجوهرة، كلُّ واحدةٍ بثلاثةٍ وسبعين ألف دينار.

وقد روى البخاري في كتاب "أفعال العباد"

(3)

وابنُ أبي حاتم في كتاب السُّنَّة وغيرُ واحدٍ مِمَّنْ صنَّفَ في كُتُبِ السُّنَّة أنَّ خالد بن عبد الله القَسْري خطبَ الناسَ في عيدِ أضحى، فقال: أيُّها الناس، ضَحُّوا يَقْبَلُ اللهُ ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْدِ بن دِرْهَم، إنهُ زعَمَ أنَّ اللهَ لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يُكلِّمْ موسى

(1)

الخبر والشعر في بغية الطلب في تاريخ حلب (7/ 3079).

(2)

في (ح، ق): "رابعة"، والمثبت من "ب" وتاريخ دمشق 16/ 150 وبغية الطلب (7/ 3082).

(3)

هو كتاب "خلق أفعال العباد" في صفحة (29)، وقد سبق للمؤلف أن ذكره في الجزء التاسع ص (350) من نسخة (ق).

ص: 233

تَكْلِيمًا، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الجعدُ بن دِرْهَم عُلُوًّا كبيرًا. ثم نزَلَ فذبحَهُ في أصلِ المِنْبَر

(1)

.

قال غيرُ واحدٍ من الأئمة: كان الجعدُ بنُ دِرْهَم من أهلِ الشام، وهو مؤدِّبُ مروانَ الحِمار، ولهذا يُقالُ له مروان الجَعْدِي، فنُسب إليه، وهو شيخُ الجَهْمِ بنِ صفوانَ الذي تُنسَب إليه الطائفةُ الجهميةُ الذين يقولون: إنَّ الله في كلّ مكان بذاتِه، تعالى الله عمَّا يقولونَ عُلُوًّا كبيرًا.

وكان الجعدُ بن درهم قد تلَقَّى هذا المذْهبَ الخبيثَ عن رجلٍ يُقالُ له أبَان بن سمعان، وأخذه أبَانُ عن طالوت ابن أُختِ لَبيد بن أعْصَم، عن خالِهِ لبيدِ بن أعصَم اليهودي، الذي سَحَرَ النبي صلى الله عليه وسلم في مُشْط ومُشَاطَة، وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ له

(2)

، وتحتَ راعُوفَةٍ ببئرِ ذي أرْوَان

(3)

الذي كان ماؤها نُقَاعَة الحِنَّاء

(4)

، وقد ثَبَتَ الحديثُ بذلك في الصحيحَيْن وغيرهما

(5)

وجاء في بعض الأحاديث أن الله تعالى أنزل بسبب ذلك سورتَي المعوِّذَتَيْن.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي، سمعتُ أبا بكر بن عياش قال: رأيتُ

(1)

سبقت الإشارة إلى رواية البيهقي وابن عساكر لخبر قتله في الصفحة المشار إليها في الحاشية السابقة من البداية والنهاية نسخة (ق)، ويضاف إلى مصادر التخريج أبو القاسم اللالكائي في كتابه اعتقاد أهل السنة (2/ 319)(512)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 158) في ترجمة خالد القسري، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/ 425)، والمزي في تهذيب الكمال (8/ 118) والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 432).

(2)

في (ق): "وماشطة"، والمثبت من (ب، ح) ومصادر تخريج الحديث، ومُشَاطة: بضم الميم، وهي الشعرُ الذي يسقطُ من الرأس أو اللحية عند تسريحِه، وأما الْمُشط ففيه لغات: مُشْط ومُشُط ومِشْط، وأما قوله "وجف"، وفي رواية:"جب" بالجيم وبالباء الموحدة، وهما بمعنى، وهو وِعَاءُ طَلْع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه، ويُطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيَّدَهُ في الحديث بقوله:"طلعة ذكر"، وهو بإضافة طَلْعَةٍ إلى ذكر، والله أعلم، ووقع في البخاري من رواية ابن عُيينة "ومشاقة" بالقاف بدل "مشاطة" وهي الْمُشاطة أيضًا، وقيل: مُشَاقَةُ الكَتَان. شرح النووي (14/ 177).

(3)

راعوفة البئر: صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتُفرت، تكونُ ثابتةً هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنْقِي عليها، ويقال: بل هو حجرٌ ناتئ في بعض البئر يكون صُلبًا، لا يمكنهم حفره فيُترك على حاله، ويقال: هو حجرٌ يكون على رأس البئر يقوم عليه المستقي. وقد روى بعض المحدِّثين هذا الحديث أنه جعل سِحرَهُ في جُب طلعة، ولا أعرف الجُبَّ إلا البئر التي ليست بمطوية، ولا أرى المحفوظ في الحديث إلا الجف - بالفاء. قال أبو عبيد: يقال: أرعُوفة البئر وراعُوفه. غريب الحديث لابن سلام (2/ 268). وبئر ذي أروان: ووقع في بعض روايات البخاري "ذروان" وكلاهما صحيح، والأول أجود وأصحّ، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق. شرح النووي (14/ 177).

(4)

النُّقاعة، بضم النون: الماء الذي يُنقَع فيه الحناء، شرح النووي (14/ 177).

(5)

صحيح البخاري (5/ 2174 و 2176)(5430 و 5433) ومسلم (4/ 1720)(2189)، وابن حبان في صحيحه (14/ 545 - 546)(6583 و 6584).

ص: 234

خالدًا القَسْريَّ حين أُتِيَ بالمغيرة وأصحابِه، وقد وُضع له سريرٌ في المسجد، فجلس عليه ثم أمر برجلٍ من أصحابه فضُربَتْ عُنقه، ثم قال للمغيرة بن سعيد: أحْيِه - وكان المغيرةُ يزعمُ أنَّهُ يُحْيي الموتى - فقال له: واللهِ - أصلحك الله - ما أحيي الموتى. قال: لتُحيينَّهُ أو لأضربن عنقك. قال: والله ما أقدِرُ على ذلك. ثم أمَرَ بِطنِّ قَصَبٍ فأضرموا فيه نارًا، ثم قال للمغيرة: اعتَنِقْهُ. فأبَى، فعدا رجلٌ من أصحابِهِ فاعتنَقَه، قال أبو بكر: فرأيتُ النارَ تأكلُهُ وهو يُثِيرُ بالسَّبَّابة. قال خالد: هذا واللهِ أحَقُّ بالرِّياسةِ منك. وقتلَ أصحابَه.

وقال المدائني: أُتِي خالدُ بنُ عبدِ الله برجلٍ تنَبَّأ بالكوفة، فقيل له: ما علامةُ نُبُوَّتِك؟ قال: قد أُنْزِلَ عليَّ قرآن. قيل: ما هو؟ قال: إنَّا أعطيناكَ الجماهر، فصلِّ لرَبكَ ولا تُجَاهِرْ، ولا تُطِعْ كلَّ كافرٍ وفاجر. فأمَرَ به فصُلب، فقالَ وهو يُصْلَب: إنا أعطيناكَ العَمُود، فصل لِرَبِّكَ على عُود، فأنا ضامِنٌ لكَ ألَّا تَعُود.

وقال المبرِّد: أُتِيَ خالدٌ بشابٍّ قد وُجد في دارِ قَوْم، وادُّعِيَ عليه السرقة، فسألَهُ، فاعترَف، فأمرَ بقطعِ يدِه، فتقدَّمَتْ حَسْناءُ فقالت:

أخالدُ قد أُوطِئتَ واللهِ عَشْوَةً

(1)

وما العاشقُ المسكينُ فينا بسَارِقِ

أقرَّ بِما لم يَجْنِهِ غيرَ أنَّهُ

رأى القَطْعَ أولَى من فَضِيحِة عاشِق

(2)

فأمر خالدٌ بإحضارِ أبيها، فزَوَّجَها من ذلك الغلام، وأمهَرها عنه عشرةَ آلافِ درهم.

وقال الأصمعي: دخل أعرابيٌّ على خالدٍ فقال: إني قد مدَحْتُكَ ببيتَيْن، ولستُ أُنشِدُهما إلَّا بعشرةِ آلاف وخادِم. فقال: نعَمْ. فأنشأ يقول:

لَزِمْتَ نَعَمْ حتى كأنَّكَ لم تَكُنْ

سمعتَ من الأشياءَ شيئًا سوى نَعَمْ

وأنكرتَ لا حتى كأنَّكَ لم تكنْ

سمعتَ بها في سالفِ الدَّهْرِ والأُمَمْ

قال: فأمرَ له بعشرةِ آلاف درهم وخادمٍ يَحمِلُها.

قال: ودخل عليه أعرابيٌّ فقالَ له: سَلْ حاجَتَك. فقال: مئةَ ألف. فقال: أكثَرْتَ، حُطَّ منها.

(1)

في (ق): "عثرة" وفي (ح): "عزة"، وكلاهما تصحيف، والمثبت من (ب)، ومعناه مِنْ أَوطأَه العَشوةَ وعَشْوةً: أي أَرْكَبَه على غير هُدىً. يقال: مَنْ أَوطاْكَ عَشْوةً؟ وأَوطَأْتُه الشيء فوَطِئَه. والوَطْأَةُ: موضع القَدَم. وقالوا في المثل "أوْطاتَه العَشْوة": إذا سامه أمرًا ملتبسًا يَغْترُّ به، لأن مَنْ وطِئَ الظلمةَ يطأُ ما لا يُبْصره، فربما تردَّى في هُوَّة أو وضع قدمه على هامَّة. الفائق للزمخشري (1/ 86)، واللسان (وطأ).

(2)

الخبر والبيتان في تاريخ دمشق (16/ 150) المستطرف لابن حجة الحموي (1/ 453).

ص: 235

قال: أضَعُ تسعين ألفًا فتعَجَّبَ منه خالد! فقال: أيها الأمير، سألتُك على قَدْرِك. ووَضَعْت على قدري، فقال له: لن تغلِبَني أبدًا، وأمرَ له بمئةِ ألف.

قال: ودخلَ عليه أعرابيٌّ فقال: إني قد قلتُ فيك شعرًا وأنا أستصغِرُهُ فيك، فقال: قُلْ. فأنشأ يقول:

تعرَّضتَ لي بالجُودِ حتى نعَشْتَني

وأعطيتَني حتى ظَنَنْتُكَ تَلْعَبُ

فأنتَ الندَى وابنُ الندَى وأخو الندَى

حليفُ الندى ما للنَّدَى عنكَ مَذْهَبُ

فقال: سَلْ حاجتَك. قال: علي خمسونَ ألفَ دينار. فقال: قد أمرتُ لك بها وأضْعَفْتُهَا لك

(1)

. فأعطاهُ مئةَ ألف.

قال أبو الطيب محمدُ بن إسحاق بن يحيى الوَشَّاء

(2)

: دخل أعرابي على خالدٍ القَسْرِيِّ فأنشده:

كتبتَ نَعَمْ ببابِكَ فهي تَدْعُو

إليكَ الناسَ مُسْفِرَةَ النِّقَابِ

وقلتَ لِلاعليكِ بِبابِ غَيْرِي

فإنَّكِ لنْ تُرَيْ أبدًا بِبَابِي

قال: فأعطاهُ على كلِّ بيتٍ خمسين ألفًا.

وقد قال فيه ابنُ مَعِين: كان رَجُلَ سَوْء، يَقَعُ في على بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه.

وذكر الأصمعيُّ عن أبيه، أن خالدًا حَفَرَ بئرًا بمكة ادَّعَى فَضْلَها على زَمْزَم. وله في رواية عنه تفضيلُ الخليفةِ على الرسول، وهذا كفر، إلا أنْ يُريدَ بكلامِهِ غيرَ ما يَبْدو منه، والله أعلم. والذي يَظْهَر أنَّ هذا لا يَصِحُّ عنه، فإنَّهُ كان قائمًا في إطفاءِ الضَّلال والبِدَع كما قدَّمنا من قَتْلِهِ للجَعْدِ بنِ دِرْهَم وغيرِهِ من أهلِ الإلحاد.

وقد نَسَبَ إليه صاحبُ العِقْد أشياءَ لا تَصحّ، لأنَّ صاحبَ العِقْد كان فيه تشَيُّعٌ شَنِيع، ومُغَالاةٌ في أهلِ البيت، وربما لا يَفهَمُ أحدٌ من كلامِهِ ما فيه من التشيُّع. وقد اغترَّ بِهِ شيخنا الذهبي فمَدَحَهُ بالحِفظِ وغيرِه.

وقد ذكر ابنُ جرير وابنُ عساكر وغيرُهما

(3)

أن الوليدَ بن يزيد كان قد عزَمَ على الحَجِّ في إمارتِه، فمن نِيَّتِهِ أن يشربَ الخمرَ على ظهرِ الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الأمراء اجتمعوا على قتلِه، وتوليةِ غيرِهِ

(1)

في (ب، ح): "وشفعتها لك".

(2)

في (ق): "الوساى"، تصحيف، وهو محمد بن إسحاق أبو الطيب النحوي، يعرف بابن الوشاء، كان من أهل الأدب، حسن التصانيف، مليح الأخبار، وحدث عن عبد الله بن أبي سعد الوراق وأبي العباس ثعلب، والمبرد وطبقته، روت عنه منية جارية خلافة أم ولد المعتمد على الله. تاريخ بغداد (1/ 253، 254).

(3)

انظر مختصر تاريخ ابن عساكر (7/ 384)، وما تقدم ص (219) من هذا الجزء.

ص: 236

من الجماعة، فحَذَّرَ خالدٌ أميرَ المؤمنين منهم، فسأله أن يُسمِّيَهم فأبى عليه، فعاقبه عقابًا شديدًا، ثم بعث بهِ إلى يوسفَ بن عمر، فعاقبه حتى ماتَ شرَّ قِتْلَةٍ وأسوَأِها، وذلك في مُحَرَّم من هذه السنة. أعني سنةَ ستٍّ وعشرين ومئة.

وذكره القاضي ابنُ خَلِّكَان في الوفيات وقال

(1)

: كان مُتَّهمًا في دينه، وقد بَنَى لأُمِّهِ كَنِيسةً في دارهِ، فنال منه بعضُ الشعراء بسببِ ذلك

(2)

.

وقال صاحبُ الأعيان

(3)

: كان في نسبِهِ يهود، فانتمَوْا إلى العرب، وكان يقرب إلى شِقٍّ وسَطِيح، قال القاضي ابن خَلِّكان

(4)

: وقد كانا ابنَي خالة، وعاش كلٌّ منهما ستَّ مئة، ووُلدَا في يومٍ واحِد، وذلك يوم ماتتْ طريفة بنت الخير بعدَما تفلَتْ في فمِ كلٍّ منهما وقالت: إنَّهُ سيقومُ مقامي في الكَهَانة. ثم ماتَتْ من يومِها.

وممن توفي في هذه السنة:

جَبَلَةَ بن سُحيم

(5)

.

ودَرَّاج أبو السَّمْح

(6)

.

وسعيد بن مسروق

(7)

في قول.

وسليمان بن حَبِيب المحاربي قاضي دمشق

(8)

.

(1)

وفيات الأعيان (2/ 228).

(2)

وهو الفرزدق في قوله:

ألا قبح الرحمن ظهر مطية

أتتنا تهادى من دمشقَ بخالدِ

وكيف يؤمُّ الناسَ مَنْ كانتِ امُّهُ

تَدِينُ بأنَّ الله ليس بواحدِ

بَنَى بيعَةً فيها الصليبُ لأُمِّهِ

وَيَهْدِمُ من بغضٍ منارَ المساجدِ

انظر وفيات الأعيان (2/ 228، 229). وانظر ديوان الفرزدق ص (26) فروايته "وهدَّم من بغض الصلاةِ المساجد".

(3)

هو ابن خلِّكان السابق ذكره في الوفيات (2/ 230).

(4)

في وفيات الأعيان (2/ 230).

(5)

ترجمته في التاريخ الكبير (2/ 219)، الجرح والتعديل (1/ 136)، سير أعلام النبلاء (5/ 315).

(6)

هو ابن سمعان، ترجمته في التاريخ الكبير (3/ 256)، الجرح والتعديل (3/ 441)، مشاهير علماء الأمصار ص (189)، تهذيب الكمال (8/ 477)، تقريب التهذيب ص (201).

(7)

ترجمته في التاريخ الكبير (3/ 513)، الجرح والتعديل (4/ 66)، مشاهير علماء الأمصار ص (167).

(8)

ترجمته في التاريخ الكبير (4/ 6)، الجرح والتعديل (4/ 105)، مشاهير علماء الأمصار ص (116)، سير أعلام النبلاء (5/ 309).

ص: 237

وعبد الرحمن بن قاسم شيخ مالك.

وعبيد الله بن أبي يزيد

(1)

.

وعمرو بن دينار

(2)

. وقد ذكرنا تراجِمَهم في كتاب "التكميل".

‌ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومئة

استُهلَّت هذه السنةُ والخليفةُ إبراهيم بن الوليدِ بن عبدِ الملك بوَصِيَّةِ أخيه يزيدَ الناقصِ إليه، ومبايَعَةِ الأمراءَ له بذلك، وجميعِ أهل الشام، إلَّا أهلَ حِمص فلم يُبايعوه، وقد تقدَّمَ أنَّ مروانَ بن محمد الملقَّبَ بالحِمار كان نائبًا بأذْرَبِيجَانَ وإرْمِينيَة، وتلك كانتْ لأبيه من قبلِه، وكان نَقَمَ على يزيدَ بن الوليد في قَتْلِهِ الوليدَ بن يزيد، وأقبل في طلبِ دَم الوليد، فلما انتهَى إلى حَرَّان أنابَ وبايَعَ يزيدَ بنَ الوليد، فلم يلبَثْ إلَّا قليلًا حتى بلغَهُ موتهُ، فأقبل في أهَلِ الجزيرة، حتى وصل قِنَّسْرِين، فحاصرَ أهلَها فنَزَلوا على طاعته، ثم أقبلَ إلى حمص وعليها عبدُ العزيز بن الحجَّاج من جهةِ أميرِ المؤمنين إبراهيمَ بنِ الوليد، فحاصرهم حتى يبايعوا لإبراهيم بنِ الوليد، وقد أصرُّوا على عدَمِ مُبايعته، فلما بلغ عبدَ العزيز قربُ مروانَ بنِ محمد ترحَّلَ عنها، وقدم مروانُ إليها، فبايعوه وساروا معَهُ قاصِدينَ دمشق، ومعهم جندُ الجزيرة وجُندُ قِنَسْرِين، فتوجَّهَ مروانُ إلى دمشقَ في ثمانينَ ألفًا وقد بعث إبراهيمُ بن الوليد سليمان

(3)

بنَ هشام بن عبد الملك في مئةٍ وعشرينَ ألفًا، فالتقى الجيشان عندَ عَيْنِ الجَرّ

(4)

من البِقَاع، فدعاهُمْ مروانُ إلى الكفِّ عن القتال، وأن يتخلَّوْا عنِ ابنَيِ الوليد بن يزيد، وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذَ العهدَ لهما، وكان يزيدُ قد سجنَهما بدمشق، فأبَوْا عليه ذلك. فاقتتلوا قِتالًا شديدًا، من حين ارتفاعِ النهار إلى العصر، وبعثَ مروانُ سريةً تأتي جيشَ سليمان بن هشام من ورائهم، فتمَّ لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يُكَبِّرون، وحَمَلَ الآخرون من تلقائهم عليهم، فكانتِ الهزيمةُ في اْصحابِ سليمان، فقتَلَ منهم أهلُ حمصَ خلقًا كثيرًا، واستُبيح عسكرُهم، وكان مقدارُ ما قُتل من أهلِ دمشقَ في ذلك اليوم قريبًا من سبعة عشر ألفًا أو ثمانيةَ عَشرَ ألفًا، وأُسر منهم مثلُهم، فأخذ عليهم مروانُ البيعة للغلامَيْنِ ابنَيِ الوليد الحكمِ

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (5/ 403)، سير أعلام النبلاء (5/ 242).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (6/ 328)، الجرح والتعديل (6/ 231)، سير أعلام النبلاء (5/ 300).

(3)

سقطت كلمة "سليمان" من نسخة (ق)، وهو تحريف شنيع، وأثبتُّها من (ب، ح)، وروي الخبر مفصلًا في تاريخ الطبري (4/ 274).

(4)

الجَرّ، بالفتح والتشديد: وهو في الأصل الجبل، وعين الجر: جبلٌ بالشام، من ناحية بَعْلَبَكّ. معجم البلدان (2/ 124).

ص: 238

وعثمان، وأطلقَهم كلَّهم سوى رجلَيْن، وهما يزيدُ بن العقار، والوليد بن مصَاد الكلبيَّان، فضربَهما بين يديه بالسياط وحبسهما، فماتا في السجن، لأنهما كانا مِمَّنْ باشرَ قتلَ الوليد بن يزيد حين قُتل. وأمَّا سليمان بن هشام وبقيةُ أصحابه فإنهم استمرُّوا منهزِمين، فما أصبحَ لهم الصبحُ إلا بدمشق فأخبروا أميرَ المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤوس الأمراء في ذلك الوقت وهم عبد العزيز بن الحجَّاج، ويزيد بن خالد بن عبد الله القَسْري وأبو علاقة السَّكْسَكي، والأصبغ بن ذؤالة الكلبي، ونظراؤهم، على أن يَعمِدوا إلى قتل ابني الوليد الحكم وعثمان خشيةَ أن يَلِيَا الخلافةَ فيُهْلِكا مَنْ عاداهما وقَتَل أباهما، فبعثوا إليهما يزيدَ بن خالد بن عبد الله القسري فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بَلَغا، ويقال: ولد لأحدِهما ولد، فشدَخَهما بالعُمُد، وقتَلَ يوسفَ بن عُمر وكان مسجونًا معَهما، وكان في سجنِهما أيضًا أبو محمد السفياني، فهرب فدخل في بيتٍ داخلَ السجن، وجعل وراء البابِ رَدْمًا فحاصروه، فامتَنع، فأتَوْا بنارٍ ليحرقوا الباب، ثم اشتغلوا عن ذلك بقُدومِ مروانَ بنِ محمد وأصحابِه إلى دمشق في طلب المنهزمين.

‌ذكرُ دخولِ مروانَ الحمار دمشقَ وولايَتِه الخلافةَ وعزلِهِ إبراهيمَ بنِ الوليدِ عنها

لما أقبل مروانُ بِمَنْ معَه من الجُنود من عينِ الجَرّ، وافتربَ من دمشق وقد انهزمَ أهلُها بين يديه بالأمس، هرَبَ إبراهيمُ بن الوليد، وعمَدَ سليمانُ بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفَقَ ما فيه على أصحابِه ومَنِ اتَّبَعَهُ من الجيوش، وثار موالي الوليدِ بن يزيد إلى دارِ عبد العزيز بن الحجَّاج فقتلوه فيها وانتهبوها، ونبَشوا قبرَ يزيدَ بنِ الوليد وصلبوه على بابِ الجابية، ودخل مروانُ بن محمد دمشق فنَزَل في أعاليها، وأُتِي بالغلامَيْن الحكم وعثمان وهما مقتولان، وكذلك يوسف بن عمر، فأمرَ بهم فدُفنوا، وأُتِيَ بأبي محمد السُّفياني وهو في كُبوله، فسلَّمَ على مروانَ بالخلافة، فقال مروان: مَهْ. فقال: إنَّ هذَيْنِ الغلامَيْنِ جعَلاها لك من بعدِهما. ثم أنشد قصيدة قالها الحكَمُ في السِّجْن، وهي طويلة منها قوله:

ألا مَنْ مُبِلغٌ مروانَ عَنِّي

وعَمِّي الغَمْرَ طالَ بِذا حَنِينَا

بأنِّي قد ظُلمتُ وصارَ قومي

على قَتْلِ الوليد متابعينا

فإنْ أهْلِكْ أنا ووليّ عَهْدِي

فمَروان أميرُ المؤمنينا

ثم قال أبو محمد السُّفياني لمروان: ابْسُطْ يدَك. فكان أولَ مَنْ بايَعَهُ بالخِلافة معاوية

(1)

بن يزيد بن

(1)

في (ق): "فمعاوية"، فعلى هذا يكون السفياني أول من بايعه، ولكنْ ليست الفاء في (ب، ح) ولا في تاريخ الطبري (4/ 280)، ولفظه: "فكان أول من نهض معاوية

"والخبر والقصيدة فيه بتمامها.

ص: 239

حصين بني نمير، ثم بايعه رؤوس أهل الشام منَ أهلِ دمشقَ وحمصَ وغيرِهم، ثم قال لهم مروان: اختاروا أُمرَاء نوَلِّيهمْ عليكم. فاختار أهلُ كلٍّ بلَدٍ أميرًا فوَلَّاهُ عليهم. فعلى دمشق زامِلُ بن عمرو الحُبْراني، وعلى حمص عبد الله بن شجرة الكِنْدي، وعلى الأُرْدُنِّ الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فِلَسْطين ثابت بن نعيم الجذامي، ولما استوَتِ الشامُ لمروانَ بن محمد رجَعَ إلى حَرَّان، وعند ذلك طلَبَ منه إبراهيمُ بن الوليد الذي كان خليفةَ وابنُ عمِّه سليمان بن هشام الأمانَ فأمَّنَهُما، وقدِمَ عليه سليمانُ بن هشام في أهلِ تدمرَ فبايعُوه، ثم لما استقرَّ مروانُ في حَرَّان أقامَ فيها ثلاثةَ أشهر، فانتقصَ عليه ما كان انبرم له من مُبايعة أهل الشام، فنقَضَ أهلُ حمصَ وغيرُهم، فأرسلَ إلى أهلِ حمصَ جيشًا فوافَوْهُمْ ليلةَ عيدِ الفِطْر من هذه السنة، وقَدِمَ مروانُ إليها بعد الفِطْرِ بيومَيْن، فنازَلها مروانُ في جنودِ كثيرة، ومعه يومئذٍ إبراهيمُ بن الوليد المخلوع، وسليمانُ بن هشام وهُما عندَهُ مُكَرَّمانِ خَصِيصَان، لا يَجلِسُ إلَّا بِهما وقتَ الغَدَاء والعَشَاء، فلما حاصَرَ حمصَ نادَوْه: إنَّا على طاعَتِك. فقال: افتحو البابَ البلد. ففتحوه، ثم كان منهم بعضُ القتال، فقُتل منهم نحو الخمسمئة، أو الست مئة، فأمَرَ بِهم فصُلِبوا حول البَلَد، وأمَرَ بِهَدْمِ بعضِ سُورِها.

وأمَّا أهلُ دمشق، فأمَّا أهلُ الغُوطة فحاصروا أميرَهم زاملَ بن عمرو، وأمَّروا عليهم يزيدَ بن خالد القَسْري. وثبت في المدينةِ نائبُها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان من حمص عسكرًا نحوَ عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دمشق خرج النائبُ ومَنْ معَه، والتقَوْا والعسكرَ بأهل الغُوطَةِ فهزمرهم، وحرقوا المِزَّة وقُرَى أخرى معها، واستجار يزيدُ بن خالد القَسْرِيُّ وأبو علاقة الكلبي برجل من أهلِ المِزَّة من لَخْم، فدلَّ عليهم زاملُ بنُ عمرو فقتلَهما وبعثَ برأسَيْهما إلى أميرِ المؤمنين مروانَ وهو بحمص.

وخرج ثابتُ بنُ نُعيم في أهلِ فلَسْطِين على الخليفة، وأتَوْا طَبَرِيَّةَ فحاصروها، فبعث الخليفةُ إليهم جيشًا فأجلَوْهُمْ عنها، واستباحوا عسكرَهم، وفرَّ ثابتُ بنُ نُعَيم هاربًا إلى فِلَسطين، فاتَّبَعَهُ الأمير أبو الوَرْد، فهزمه ثانيةً، وتفرَّقَ عنه أصحابُه. وأسر أبو الورد ثلاثة من أولادِه، فبعثَ بِهم إلى الخليفة وهم جرحَى، فأمرَ بِمُدَاواتِهم، ثم كتبَ أمير المؤمنينَ إلى نائبِ فِلَسْطِين، وهو الرُّمَاحِسُ بن عبد العزيز الكِنَانِي يأمرُهُ بطَلَبِ ثابتِ بن نُعيم حيث كان، فما زالَ يتلطَّفُ بهِ حتى أخذَهُ أسيرًا. وذلك بعد شهرَيْن، فبعثه إلى الخليفة، وأمرَ بقطعِ يديه ورِجْلَيْه، وكذلك جماعة كانوا معَه، وبعثَ بهم إلى دمشق، فأُقِيموا على بابِ مسجدِها، لأنَّ أهلَ دمشقَ كانوا قد أرْجَفوا بأن ثابتَ بن نُعيم ذهب إلى ديارِ مصر، فتغلَّبَ عليها، وقتلَ نائبَ مروانَ فيها، فأُرسل إليهم مقطعَ اليدَيْن والرجلَيْن لِيعوفوا بُطلانَ ما كانوا به أرجفوا، وأقام الخليفهُّ مروانُ بدَيْر أيُّوب عليه السلام مُدَّةَ، حتى بايع لابنِهِ عبدِ الله، ثم عُبيد الله، وزوَّجَهما ابنتَيْ هشام، وهما أمُّ هشام، وعائشة، وكانَ مَجْمَعًا حاقِلًا، وعَقْدًا هائلًا، ومُبايعةَ عامَّةً، ولكن لم تكنْ في نفسِ الأمرِ تامَّةً.

ص: 240

وقَدِمَ الخليفةُ إلى دمشق، وأمر بثابتٍ وأصحابِهِ بعدَما كانوا تقطَّعوا أن يُصَلَّبوا على أبوابِ البلد، ولم يستبقِ منهم أحدًا إلا واحدًا، وهو عُمَرُ بن الحارث الكلبي، وكان عندَهُ فيما زَعَمَ عِلْمٌ بودائعَ كان ثابتُ بنُ نُعيم أودَعَها عندَ أقوام، واستوسَقَ أمرُ الشامٍ لِمَروان ما عدا تَدْمُر، فسار من دمشقَ فنَزَل القَسْطَلَ من أرضِ حِمْص، وبَلَغَهُ أَنَّ أهلَ تَدْمُرَ قد غوَّروا ما بينهُ وبينهم من المياه، فاشتدَّ غَضَبُهُ عليهم، ومعه جحافِلُ من الجيوش، فتكلَّم الأبرشُ بنُ الوليد. وكانوا قومَه، فسأل منه أنْ يُرْسِلَ إليهم أولًا ليُعْذِرَ إليهم، فبعث عمرَو بن الوليد أخا الأبرش، فلمَّا قدِمَ عليهم لم يَلْتفِتوا إليه ولا سمعوا له قولًا فرجع، فهَمَّ الخليفة أنْ يبعثَ الجنود، فسأله الأبرشُ أنْ يذهبَ إليهم بنفسِه، فأرسلَهُ، فلما قَدِمَ عليهم الأبرشُ كلَّمهم واستمالَهم إلى السمعِ والطاعة، فأجابَهُ أكثَرُهم وامتَنَعَ بعضُهم، فكتبَ إلى الخليفةِ يُعلِمُهُ بما وقع، فأمرَهُ الخليفة أن يَهْدِمَ بعضَ سُورِها، وأَنْ يُقَبِلَ بمَنْ أطاعَهُ منهم إليه، ففعل، فلمَّا حضروا عندَه سارَ بِمَنْ معَهُ من الجنود نحوَ الرُّصَافةِ على طريق البَرِّيَّة، ومعه من الرؤوسِ إبراهيم بنُ الوليد المَخْلوع، وسليمان بن هشام، وجماعةٌ من ولدِ الوليد ويزيد وسليمان، فأقام بالرُّصَافةِ أيامًا، ثم شخَصَ إلى الرَّقَّة، فاستأذنه سليمانُ بن هشام أن يقيمَ هناكَ أيَّامًا ليستريحَ وَيحْمِي ظهرَه. فأذِنَ له، فانحدرَ مروانُ فنَزلَ عندَ واسطَ على شَطِّ الفرات، فأقام ثلاثًا، ثم مضى إلى قَرْقِيسِيَا وابن هُبَيرةَ بها ليبعثَهُ إلى العراق لِمُحاربة الضحَّاك بن قيس الشيباني الخارجي الحَرُوري، واشتغل مروانُ بِهذا الأمر، وأقبلَ عشرةُ آلاف فارسٍ ممَّنْ كان مروانُ قد بعثَهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرُّصَافة وفيها سليمانُ بن هشام بن عبد الملك الذي كان أستأذن الخليفةَ في الْمُقَامِ هناك للرَّاحة، فدعَوْهُ إلى البيعةِ له وخَلْعِ مَرْوانَ بن محمد ومحارَبَته، فاستزَلَّهُ الشيطان، فأجابهم إلى ذلك، وخلعَ مروانَ، وسارَ بالجيوشِ إلى قِنَّسْرِين، وكاتَبَ أهلَ الشام، فانتهوا

(1)

إليه من كلِّ وَجْه، وكتب سليمانُ إلى أَبنِ هُبيرةَ الذي جهَّزَهُ مروانُ لقتالِ الضحَّاك بن قيس الخارجي، يأْمرُهُ بالمسيرِ إليه، فالتفَّ إليه نَحْوٌ من سبعين ألفًا، وبعث مروانُ إليهم عيسى بنَ مسلم، في نحوٍ من سبعين ألفًا، فالتقَوْا بأرضِ قِنَّسْرين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وجاء مروانُ والناسُ في حَرْب، فقاتلهم أشدَّ قتالٍ فهزمهم، وقَتَل يومئذٍ إبراهيمَ بنَ سليمان بن هشام، وكانَ أكبرَ ولدِه، وقتل منهم نيفًا وثلاثين ألفًا، وذهب سليمانُ مغلوبًا، فأتى حِمص، فالتفَّ عليه مَنِ انْهَزم من الجيش، فعسكر بهم فيها، وبَنَى ما كان مروانُ هدَمَ من سُورِها، فجاءهم مروان، فحاصرهم بها، ونصَبَ عليهم نيِّفًا وثمانين مَنجَنِيقًا، فمكث كذلك ثمانيةَ أشهرٍ يَرْمِيهم ليلًا نهارًا، ويخرجون إليه كل يوم، ويقاتلون ثم يَرْجِعون. هذا وقد ذهب سليمانُ وطائفة من الجيشِ معَهُ إلى تدمرَ وقد اعترضوا جيشَ مروانَ في الطريق، وهَمُّوا بالفَتْكِ به، وأن ينتهبوه، فلم يُمكْنِهم ذلك، وتَهيَّأَ مروانُ فقاتلهم، فقتلوا من جيشهِ قريبًا من ستةِ آلاف،

(1)

في (ق): "فانفصوا"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 241

وهم تسع مئة، وانصرفوا إلى تدمر، ولَزِمَ مروانُ محاصرةَ حِمص كمال عشرةِ أشهر، فلمَّا تتابعَ عليهمُ البلاءُ ولَزِمَهُمُ الذُّلُّ سألوه أنْ يُؤمِّنَهم، فأبَى إلَّا أنْ يَنْزِلوا على حُكْمِه، ثم سألوه الأمانَ على أنْ يُمكِّنُوهُ من سعيدِ بنِ هشام

(1)

وابنَيْهِ مروانَ وعثمان، ومن السَّكْسَكِيِّ الذي كان معه على جيشه، ومن حُبْشِي - كان يفتري عليه ويشتمه - فأجابَهم إلى ذلك، فأمَّنَهم وقتلَ أولئك، ثم سار إلى الضحَّاك.

وكان عبدُ الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحَّاكَ الخارجي على ما بيدِهِ من الكوفِةِ وأعمالِها، وجاءتْ

(2)

خيول مروانَ قاصدةً إلى الكوفة، فتلقَّاهُمْ نائبُها من جهة الضحَّاك مِلْحَانُ الشيباني، فقاتَلَهم، فقُتِلَ مِلْحان، واستنابَ الضحَّاكُ عليه المثنَى بنَ عمران من بني عائدة، وسار الضحَّاكُ في ذي القعدة إلى المَوْصِل، وسار ابنُ هُبيرة إلى الكوفة، فانتزَعَها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحَّاكُ جيشًا إلى الكوفة فلم يجدْ شيئًا.

وفي هذه السنة خرج الضحَّاكُ بن قيس الشيباني، وكان سببَ خروجه أنَّ رجلًا يُقالُ له سعيدُ بن بَهْدَل - وكان خارجيًا - اغتنمَ غفلةَ الناس، واشتغالَهم بمقتلِ الوليد بن يزيد، فثارَ في جماعةٍ من الخوارج بالعراق، فالتفَّ عليه أربعةُ آلاف - ولم تجتمِعْ قبلَها لخارجيّ - فقصَدَتْهم الجيوش، فاقتتلوا معهم، فتارةً يَكْسِرون، وتارةً يُكْسَرون، ثم مات سعيد بن بهدل في طاعونٍ أصابه، واستخلف على الخوارج من بعدِهِ الضحَّاكَ بنَ قيس هذا، فالتفَّ أصحابُهُ عليه، والتقى هو وجيشٌ كثير، فغلبتِ الخوارجُ وقَتَلوا خلقًا كثيرًا، منهم عاصمُ بن عمر بن عبد العزيز، أخو أميرِ العراق عبدِ الله بن عمر بن عبد العزيز، فرثاه بأشعار، ثم قصَدَ الضحَّاكُ بطائفةٍ من أصحابِهِ مروانَ، فاجتازَ الكوفة، فنهضَ إليهِ أهلُها فكسَرَهم، ودخل الكوفة فاستحوذَ عليها، واستنابَ بِها رجلًا اسْمُهُ حسَّان، ثم استنابَ مِلْحَان الشيبانيَّ في شعبانَ من هذه السنة، وسار في طلب عبدِ الله بن عمر بن عبد العزيز نائبِ العراق، فالتقَوْا، فجرَتْ بينَهم حروبٌ كثيرةٌ يطولُ ذِكْرُها وتَفْصِيلُها.

وفي هذه السنة اجتمعَتْ جماعةٌ من الدُّعَاةِ إلى بني العباس عندَ إبراهيمَ بنِ محمد الإمام، ومعهم أبو مُسلم الخُرَاساني، فدفعوا إليهِ نفَقَاتٍ كثيرةَ، وأعطَوْهُ خُمْسَ أموالِهم، ولم ينتَظِمْ لهمْ أمرٌ في هذه السنة لكثرَة الشُّرورِ المنتشرة، والفِتَنِ الواقعة بين الناس.

وفي هذه السنة خرج بالكوفة معاويةُ بن عبدِ الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسِه وخرجَ إلى محاربة أميرِ العراق وعبدِ الله بن عمر بن عبد العزيز، فجَرتْ بينهما حروبٌ يطولُ ذكرُها، ثم أجلاهُ عنها، فلَحِقَ بالجِبال، فتغلب عليها.

(1)

جاء في (ق) من هذا الموضع علَّق عليها الناسخ أنها زيادة من النسخة المصرية، قلتُ: هذه الزيادة المشار إليها بالحاصرتين والحاشية موجودة في نسختي (ب، ح).

(2)

في (ح): "وكانت".

ص: 242

وفي هذه السنة خرج الحارث بن سُريَج الذي كان لَحِقَ ببلاد التُّرك، ومالأَهُمْ على المسلمين، فمَنَّ اللهُ جمليه بالهِداية، ووفَّقَهُ حتى خرج إلى بلادِ الشام، وكان ذلك عن دعاءِ يزيدَ بنِ الوليد إلى الرجوع إلى الإسلام وأهلِه، فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرَمَهُ نَصْرُ بن سيار نائبُها، وفرح المسلمون به، وجاؤوا لتهنئته، ثم وقعَ بينه وبين نصر بن سيار سَوْرَة

(1)

، واستمرَّ الحارثُ بن سريج على الدعوةِ إلى الكتابِ والسنَّة، وطاعةِ الإمام، وعنده بعضُ المناوَأَة لنصرِ بنِ سيار.

قال الواقدي وأبو معشر

(2)

: وحجَّ بالناسِ في هذه السنة عبدُ العزيز بنُ عمر بن عبد العزيز، أميرُ الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق النَّضْرُ بن سعيد الحَرَشيّ، وقد خرج عليه الضحَّاك الحَرُوريّ وعبد الله بن عبد العزيز، وأميرُ خراسان نصر بن سَيار، وقد خرج عليه الكَرْماني والحارثُ بن سُريج.

وممن تُوفي في هذه السنة:

بُكَير بن الأشج

(3)

،

وسعد بن إبراهيم،

وعبد الله بن دينار،

وعبد الملك بن مالك الجزري،

وعُمير بن هانئ،

ومالك بن دينار،

ووَهْب بن كيْسان،

وأبو إسحاق السَّبِيعِي.

(1)

سَوْرَةُ السُّلْطان: سطوته واعتداؤه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت زينب فقالت: كُلُّ خِلَالهَا محمودٌ ما خلا سَوْرَةً مِنْ حِدَّة. اللسان (سور). وما قبل هذه اللفظة في (ق) ساقط منها وهو مثبت في (ب، ح) ولفظه فيهما "صورة" بدل "سورة".

(2)

ذكر ذلك الطبري في تاريخه (4/ 291).

(3)

في (ق): "بكر" وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وهو بُكير بن عبد الله بن الأشج، ترجمته في التاريخ الكبير (2/ 113)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 254)، الثقات لابن حبان (6/ 106)، التعديل والتجريح (1/ 439)، تهذيب الكمال (4/ 242)، الكاشف (1/ 275)، تقريب التهذيب ص (128).

ص: 243

‌ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومئة

فيها كان مقتلُ الحارثِ بن سُريج، وكان سببُ ذلك أنَّ يزيدَ بن الوليد الناقص كان قد كتبَ إليه كتابَ أمانٍ حتى خرج من بلادِ التُّرك وصار إلى المسلمين، ورجَعَ عن موالاةِ المشركينَ إلى نُصْرَةِ الإسلامِ وأهلِه، وأنّهُ وقع بينه وبين نصرِ بن سيَّار أميرِ خراسان وَحْشَةٌ ومُنَافسَاتٌ كثيرةٌ يطول ذكرُها، فلما صارتِ الخلافةُ إلى مروانَ بنِ محمد استَوْحَش الحارثُ بن سُريج من ذلك، وتولَّى ابنُ هُبيرة نيابةَ العراق، وجاءتِ البيعةُ لمروان، فامتنع الحارثُ من قَبُولها، وتكلَّمَ في مروان، وجاءهُ مَسْلمةُ بن أحْوَز أميرُ الشرطة، وجماعةٌ من رؤوسِ الأجنادِ والأمراء، وطلبوا منه أن يكفَّ لسانَهُ ويدَه، وأن لا يُفرِّقَ جماعةَ المسلمين، فأبَى وبرَزَ ناحيةً عن الناس، ودعا نصرَ بنَ سيارٍ إلى ما هو عليهِ من الدعوةِ إلى الكتابِ والسنَّة، فامتنع نصرٌ من موافقتِه، واستمرَّ هو على خروجهِ على الإسلام، وأمرَ الجَهْمَ بنَ صفوانَ مولى بني راسب - ويُكنَى بأبي محرز، وهو الذي نُسبَتْ إليه الفرقةُ الجَهْمِيَّة - أن يقرأ كتابًا فيه سيرةُ الحارثِ على الناس، وكان الحارثُ يقول: أنا صاحبُ الرايات السود، فبعث إليه نصرٌ يقول: إنْ كنتَ ذاك فلعمري إنكمُ الذين تُخرِبونَ سُورَ دمشق، وتُزيلون بني أمية، فخُذْ مِني خمسَ مئةِ رأس، ومئتَي بَعِير، وما شئتَ من الأموال، وإنْ كنتَ تُريدُ غيرَه فقد أهلكتَ عشيرتَك. فبعث إليه الحارثُ يقول: لعمري إنَّ هذا الأمرَ لكائن، فقال له نصر: فابدَأْ بالكَرْماني أولًا، ثم سِرْ إلى الرَّيّ وأنا في طاعتِكَ إذا وصلتَها.

ثم تناظَرَ نصرٌ والحارثُ ورَضِيَا أنْ يَحْكُمَ بينهما مُقاتِلُ بن حَيَّان، والجَهْمُ بن صَفْوان، فحكمَا أنْ يُعزَلَ نصرٌ ويكونَ الأمرُ شُورَى، فامتنعَ نصرٌ من قَبُول ذلك، ولَزِمَ الجَهْمُ بنُ صفوان وغيرُه قراءةَ سيرةِ الحارثِ على الناس في الجامعِ والطُّرُق، فاستجابَ له خَلْقٌ كَثِير وجمعٌ غفير، فعند ذلك انتدَبَ لقتِالهِ جماعاتٌ من الجيوش عن أمرِ نصرِ بن سَيَّار، فقصَدوه، فجاحَف

(1)

دونه أصحابُه، فقُتل منهم طائفةٌ كثيرةٌ، منهم الجَهْمُ بن صَفوان، طعنَهُ رجلٌ في فيهِ فقتلَه.

‌مقتل الجَهم بن صَفْوان

ويقال: بل أُسرَ الجهمُ، فأوقف بين يدَيْ سَلْم ين أحوَز، فأمرَ بقَتْلِه، فقال: إنَّ لي أمانًا من أبيك. فقال: ما كان له أنْ يؤمِّنَك، ولو فعَل ما أمَّنْتُك، ولو ملأتَ هذهِ الْمُلاءةَ كواكب، وأنزلتَ عيسى ابنَ

(1)

في (ق): "فحارب"، والمثبت من (ب، ح)، وجاحف من تَجَاحُف القوم في القِتال: هو تناوُلُ بعضهم بعضًا بالعِصِيّ والسُّيوف. والجحافُ: مُزاحمةُ الحَرْبِ. لسان العرب (جحف).

ص: 244

مريم ما نجَوْت؛ والله لو كنتَ في بطني لشقَقْتُ بَطْني حتى أقتُلَك. وأمرَ عبد ربه بنَ سيسن

(1)

فقتله، ثم اتفق الحارثُ بن سُريج والكَرْماني على نصر ومخالفتِه، والدعوةِ إلى الكتاب والسنَّة، واتباعِ أئمةِ الهدى، وتحريم المنكرات، إلى غير ذلك مما جاءتْ به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما، واقتتلا قتالًا شديدًا، فغلب الكَرْمانيُّ وانهزَم أصحابُ الحارث، وكان راكبًا على بغل، فتحوَّل إلى فرس، فحرنَتْ أنْ تمشي، وهربَ عنه أصحابُه، ولم يبقَ معهُ منهم سوى مئة، فأدركه أصحابُ الكَرْماني فقتلوه تحتَ شجرةِ زيتون، وقيل: تحت شجرة غُبَيْراء

(2)

، وذلك يوم الأحد لستٍّ بَقينَ من رجب من هذه السنة، وقُتل معه مئةٌ من أصحابه، واحتاط الكرمانيُّ على حواصِلِه وأموالِه، وأخذ أموالَ منْ خرجَ معَه أيضًا؛ وأمر بصَلْبِ الحارث بلا رأس على بابِ مدينة مَرْو.

ولما بلغ نصرَ بنَ سيَّار مقتلُ الحارثِ قال في ذلك:

يا مُدْخلَ الذُّلِّ على قومِهِ

بُعْدًا وسُحْقًا لكَ منْ هالِكِ

شؤمُكَ أرْدَى مُضَرًا كُلَّها

وغَضَّ منْ قَومِكَ بالحارِكِ

ما كانتِ الأزْدُ وأشياعُها

تطمعُ في عَمْرٍو ولا مالِكِ

ولا بني سَعْدٍ إذا ألْجَمُوا

كُلَّ طِمِرٍّ لَوْنُهُ حالِكِ

(3)

وقد أجابهُ عبَّاد

(4)

بن الحارث بن سُريج فيما قال:

ألا يا نصرُ قد بَرِحَ الخَفَاءُ

وقد طالَ التمَنِّي والرجاءُ

وأصبحتِ المزونُ بأرضِ مَرْوٍ

تُقضِّي في الحكومةِ ما تشاءُ

يجوزُ قضاؤها في كلِّ حُكْمٍ

على مُضَرٍ وإنْ جارَ القضاءُ

وحِمْيَرُ في مجالسها قُعودٌ

تَرقْرَقُ في رقابِهمُ الدِّماءُ

فإنْ مُضَرٌ بذا رَضِيتْ وذَلَّتْ

فطال لها المذلَّةُ والشَّقاءُ

وإنْ هي أعتَبَتْ فيها وإلَّا

فحل على عساكرِها العَفَاءُ

(1)

في (ق): "وأمر ابن ميسر فقتله". والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (4/ 295).

(2)

في (ق): "عبيرا"، وفي (ح):"عتبرا"، والمثبت من (ب)، والغبيراء: نباتٌ سُهْليّ، وقيل: الغَبراء شجرته، والغُبيراء ثمرته؛ وهي فاكهة، وقيل: الغُبيراء شجرته، والغَبراء ثمرته، بقلب ذلك، الواحدُ والجمعُ فيه سواء. وأما هذا الثمر الذي يقال له الغُبيراء فدخيلٌ في كلام العرب. قال أبو حنيفة: الغُبيراء شجرةٌ معروفة، سُمِّيتْ غُبيراء لِلَوْن ورَقِها وثمرتِها إذا بدَتْ، ثم تحمرُّ حمرةً شديدة. قال: وليس هذا الاشتقاق بمعروف. قال: ويُقال لثمرتِها الغُبيراء. قال: ولا تُذكر إلا مصغَّرة. لسان العرب (غبر).

(3)

الخبر مفصلًا والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 298، 299)، والكامل لابن الأثير (5/ 20).

(4)

في (ب، ح): "غياث بن الحارث"، والمثبت من (ق) وتاريخ الطبري (4/ 299).

ص: 245

وفي هذه السنة بعث إبراهيمُ بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخُراساني إلى خراسان وكتب معه كتبًا إلى شيعتِهم بها، إنَّ هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد ولَّيتُهُ على ما غلَبَ عليه من أرضِ خُرَاسان، فلمَّا قَدِمَ أبو مسلم خراسان، وقرأ على أصحابه هذا الكتاب لم يلتفتوا إليه، ولم يعملوا به، وأعرضوا عنه، ونَبَذوه وراءَ ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم فاشتكاهم إليه، وأخبرهُ بما قابلُوهُ من المخالفة، فقال له: يا عبدَ الرحمن إنَّك رجلٌ منا أهلَ البيت، ارجِعْ إليهم، وعليك بهذا الحيِّ من اليمن، فأكرِمْهُم

(1)

وانزِلْ بين أظهُرِهم، فإنَّ الله لا يُتمِّمُ هذا الأمرَ إلَّا بهم. ثم حذَّرهُ من بقيةِ الأحياء وقال له: إنِ استطعتَ أنْ لا تدعَ بتلك البلادِ لسانًا عربيًا فافعلْ، ومنْ بلَغَ من أبنائهم خمسةَ أشبار واتَّهمتَهُ فاقتُلْه، وعليك بذاك الشيخ فلا تَعْصِهِ

(2)

- سليمان بن كثير.

وسيأتي ما كان من أمرِ أبي مسلم الخُراساني فيما بعدُ إنْ شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة قُتل الضحَّاكُ بن قيس الخارجي في قولِ أبي مِخْنَف، وكان سببُ ذلك أنَّ الضحاك حاصرَ عبدَ الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، ووافقه على مُحَاصرَتِه منصور بن جُمهور، فكتب عبدُ الله بن عمر بن عبد العزيز إليه: إنه لا فائدةَ لك في محاصرتي، ولكنْ عليك بمروان بن محمد، فسرْ إليه، فإن قتلتهُ اتبعتُك. فاصطلحا على مخالفةِ مروانَ بنِ محمد أميرِ المؤمنين. وترحَّل الضحاك عنه، وسارَ قاصدًا إلى قتالِ مروانَ بن محمد أميرِ المؤمنين، فلما اجتازَ الضحَّاكُ بالمَوْصل كاتبهُ أهلُها فمالَ إليهم، فدخلَها وقتَلَ نائبَها، واستحوذَ عليها، وبلغ ذلك مروانَ وهو مُحاصِرٌ حِمص، ومشغولٌ بأهلها، وعدمِ مبايعتِهم إياه، فكتَب إلى ابنه عبدِ الله بن مروان - وهو نائبُهُ على الجزيرة - يأمرهُ أن يقاتلَ الضحاك بالموصل، وسار الضحاكُ إلى عبد الله بن مروان، وكان الضحاك قد التفَّ عليه مئةُ ألفٍ وعشرون ألفًا، فحاصروا نَصيبين، وساق مروانُ في طلبه، فالتقَيَا هنالك، فاقتتلا قتالًا شديدًا جدًّا، فاقتحمَ الضحاكُ عن فرسِه، وترجَّلَ معه جماعةٌ من كُبَراء الأمراء، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقُتل الضحَّاكُ في المعركة، وحجَز الليلُ بين الفريَقَيْن؛ وفقَدَ أصحابُ الضحاكِ الضحاكَ، وشكُّوا في أمرِهِ حتى أخبرَهم منْ شاهدَهُ قد قُتل، فبكَوْا عليه وناحوا، وجاء الخبرُ إلى مروان، فبعث إلى المعركةِ بالمشاعل ومَنْ يعرفُ مكانَهُ بين القتلَى فلمّا وجدوه جاؤوا به إلى مروانَ وهو مقتول، وفي رأسه ووجههِ نحوٌ من عشرين ضربة، فأمرَ برأسِه فطِيفَ به في مدَائنِ الجزيرة. واستخلف الضحاكُ على جيشهِ من بعدِهِ رجلًا يُقالُ له الخَيْبَري، فالتفَّ عليه بقيةُ جشِ الضحاك، والتفَّ مع الخيبري سليمانُ بن هشام بن عبدِ الملك وأهلُ بيتِه ومواليه، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروانَ بنَ

(1)

في (ح): "فالزمهم"، وما أثبتاه موافق لتاريخ الطبري.

(2)

في بعض النسخ: "تقصه" وما أثبتناه من (ح) وتاريخ الطبري.

ص: 246

محمد عن الخلافة لأجلِه، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخيبريُّ في أربعمئة من شجعان أصحابه على مروانَ وهو في القلب، فكرَّ منهزمًا، واتبعوهُ حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكرَه، وجلس الخيبريُّ على فُرُشِه، هذا وميمنةُ مروانَ ثابتة، وعليها ابنُه عبدُ الله، وميسرتُهُ أيضًا ثابتةٌ وعليها إسحاق بن مسلم العقيلي، ولما رأى عبدُ الله العسكر فارِّين مع الخيبري، وأنَّ الميمنةَ والميسرةَ من جهتهم

(1)

باقيتان، طَمِعُوا فيه، فأقبلوا إليه بعُمُد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتلُهُ مروانَ وقد سارَ عن الجيش نحوَ خمسةِ أميال أو ستة، فرجع مسرورًا، وانهزم أصحابُ الضحاك وقد ولَّوْا عليهم شَيبان، فقصَدَهم مروانُ بعدَ ذلك بمكانٍ يُقال له الكراديس

(2)

فهزمهم.

وفيها بعث مروانُ الحمار على إمارةِ العراق يزيدَ بن عمرَ بنِ هُبيرة ليقاتِلَ منْ بها من الخوارج.

وفي هذه السنة حجَّ بالناسِ عبدُ العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو نائبُ المدينةِ مكةَ والطائف، وأميرُ العراق يزيدُ بن عمر بن هُبيرة، وأميرُ خراسان نصر بن سيَّار.

وممن توفي في هذه السنة:

بكرُ بن سَوَادة،

وجابرٌ الجُعْفيّ،

والجَهْمُ بن صَفْوان مقتولًا كما تقدَّم،

والحارثُ بن سُريج أحَدُ كُبَراء الأمراء - وقد تقدَّمَ شيءٌ من ترجمتِه -.

وعاصمُ بنُ بَهْدَلة،

وأبو حَصِين عثمان بن عاصم،

ويَزِيد بنُ أبي حَبِيب،

وأبو التَّيَّاح يزيد بن حُميد،

وأبو جَمْرة الضَّبَعيُّ

(3)

،

(1)

في (ح): "جيشهم".

(2)

كذا في الأصول، وصُحِّف في (ح) إلى "الكرادش"، وهو وهمٌ من المؤلف، فليس ثمة موضع يقال له الكراديس، وعبارة الطبري تكشف عن هذا الوهم إذْ قال في تاريخه (4/ 302):"فقاتلهم مروانُ بعدَ ذلك بالكراديس وأبطلَ الصفَّ منذُ يومئذٍ". فلا يقصد بالكراديس اسم الموضع، وإنما قصدَ طريقةَ القتال بالكراديس. وهي جمع كُرْدُوس، وهو القطعةُ من الخيل العظيمة، ويقال: كَرْدَسَ القائدُ خيلَه: أيْ جعلَها كتيبةً كتيبة.

(3)

واسمه نصر بن عمران بن عصام. تقريب التهذيب ص (561).

ص: 247

وأبو الزبير المكِّي

(1)

،

وأبو عِمْرانَ الجَوْنِي

(2)

،

وأبو قَبيل الْمَعَافِريّ

(3)

؛ وقد ذكَرْنَا تراجِمَهُم في "التكميل".

‌ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومئة

فيها اجتمعتِ الخوارح بعدَ الخيبري على شيبانَ بنِ عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي، فأشار عليهم سُليمان بن هشام أن يتحصَّنوا بالمَوصل، ويجعلوها مَنْزلًا لهم، فتحوَّلوا إليها، وتَبِعهم مروانُ بن محمد أميرُ المؤمنين، فعسكروا بظاهرها، وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان، وقد خندق مروانُ على جيشِهِ أيضًا من ناحيتِهم، وأقام سنةً يُحاصِرُهم ويقتَتِلونَ في كُل يومٍ بُكْرَةً وعشيَّة. وظَفِرَ مروانُ بابنِ أخِ لسليمان بن هشام وهو أمية بن معاوية بن هشام، أسرَهُ بعضُ جيشِه، فأمر بهِ فقُطعتْ يدَاه، ثم ضرب عُنقه، وعمُّه سليمانُ والجيشُ ينظرون إليه؛ وكتب مروان إلى نائبِهِ بالعراق يزيدَ بنِ عمر بن هُبيرة يأمرُهُ بقتالِ الخوارجِ الذين في بلادِه، فجرَتْ له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابنُ هُبيرة وأبادَ خَضْراءَهم، ولم يبقَ لهم بقيَّةٌ بالعراق، واستنقذَ الكوفة من أيدي الخوارج، وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة. وكتب مروانُ إلى ابنِ هُبيرة لما فَرَغ من الخوارج أنْ يمُدَّهُ بعامر بن ضُبَارة

(4)

- وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعةِ آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلتِ الخوارجُ إليه سريَّة في أربعةِ آلاف، فاعترضوه في الطرق، فهزمهم ابنُ ضُبارة، وقتل أميرَهم الْجَوْنَ بن كلاب الشيباني الخارجي، وأَقبل نحو الموصل، ورجعَ فَلُّ الخوارجِ إليهم، فأشار سليمان بنُ هشام عليهم أنْ يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكنْ يُمكِنهُم الإقامةَ بها؛ ومروانُ من أمامِهم وابنُ ضُبارةَ من ورائهم، وقد قطع عنهم المِيرَة، حتى يجدوا شيئًا يأكلونَه، فارتحلوا عنها، وساروا على حُلْوان إلى الأهواز. فأرسل مروانُ بن ضُبَارة في آثارِهم في ثلاثةِ آلاف، فاتَّبعَهمِ يقتلُ منْ تخلَّف منهم، ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، وما زال وراءهم حتى فرَّقَ شَمْلَهم شذَرَ مَذر وهلك أميرُهم شيبان بن عبد العزيز اليَشْكُريُّ بالأهواز في السنة القابلة، قتله خالدُ بن مسعود بن جعفر بن خُليد الأزْدي. وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهلِ بيتِه السُّفُنَ وساروا إلى السِّنْد.

(1)

واسمه محمد بن مسلم بن تَدْرُس. تقريب التهذيب ص (506).

(2)

واسمه عبد الملك بن حبيب الأزدي. تقريب التهذيب ص (362).

(3)

واسمه حُييُّ بن هانئ .. تقريب التهذيب ص (185).

(4)

في الأصول: "عمار بن صبارة"، وهو تصحيف والمثبت من تاريخ الطبري في مواضع عدة.

ص: 248

ورجعَ مروانُ من الموصل فأقام بِمَنْزِله بِحَزَان، وقد وجد سرورًا بزوالِ الخوارج، ولكنْ لم يتمَّ سرورُه، بل أعقبه القدَرُ منْ هو أقوى شوكةً، وأعظَمَ أتباعًا، وأشدَّ بأسًا من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخُراساني، الداعيةُ إلى دولةِ بني عباس.

‌أول ظهورِ أبي مسلم الخُرَاساني

وفي هذه السنة ورَدَ كتابُ إبراهيمَ بنِ محمد الإمام العباسي بطلَبِ أبي مسلم الخُراساني من خُراسان، فسار إليه في سبعينَ من النُّقَبَاء، لا يمرُّونَ ببلدٍ إلَّا سَألوهم: إلى أين تذهبون؟ فيقول أبو مسلم: نُريدُ الحجّ. وإذا توَسَّمَ أبو مسلم من بعضِهم ميلًا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه، فيُجيبُهُ إلى ذلك، فلما كان ببعضِ الطريق جاء كتابٌ ثانٍ من إبراهيمَ الإمام إلى أبي مسلم: إني بعثتُ إليك برايةِ النصر، فارجعْ إلى خُراسان، وأظهرِ الدَّعْوَة. وأمَرَ قحطبةَ بنَ شبيب أن يسيرَ بما معه من الأموال والتُّحَف إلى إبراهيم الإمام، فيوافيه في الموسم.

فرجع أبو مسلم بالكتاب، فدخلَ خُراسان في أولِ يومٍ من رمضان، فرُفعَ الكتاب إلى سليمانَ بنِ كثير، وفيه: أنْ أظهرْ دعوتَك ولا تتربَّصْ. فقدَّموا عليهم أبا مسلمٍ الخُراساني داعيًا إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دُعاتهُ في بلاد خُراسان، وأميرُ خُراسان نصْرُ بن سَيَّار مشغولٌ بقتالِ الكَرْماني، وشيبانَ بنِ سلمةَ الحَرُوريّ، وقد بلغ من أمرِه أنه كان يُسلِّم عليه أصحابُه بالخلافة في طوائفَ كثيرةٍ من الخوارج.

فظهر أمْرُ أبي مسلم، وقصَدَهُ الناسُ من كلِّ جانب، فكان ممَّنْ قصدَهُ في يومٍ واحدٍ أهلُ ستينَ قريةً، فأقام هناك اثنين وأربعين يومًا، ففُتحت على يديه أقاليمُ كثيرة، ولما كان ليلةُ الخميس لخمسٍ بَقِين من رمضان في هذه السنة عقدَ أبو مسلم اللواءَ الذي بعثَهُ إليه الإمامُ - ويُدْعَى الظِّل - على رُفحٍ طولُه أربعةَ عشرَ ذراعًا؛ وعقَدَ الرايةَ التي بعَثَ بها بها الإمام أيضًا - وتُدْعى السحاب - على رمع طولُه ثلاثةَ عشرَ ذراعًا؛ وهما سَوْداوان، وهو يتلو قولَهُ تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]؛ ولَبِسَ أبو مسلم وسليمانُ بن كثير ومنْ أجابهم إلى الدعوة السَّوَاد، وصارت شعارَهم؛ وأوْقَدوا في هذه الليلة نارًا عظيمةً يَدعونَ بها أهلَ تلكَ النواحي؛ وكانتْ علامةً بينهم، فتجمَّعوا، ومعنى تسميةِ إحدَى الرايتَيْن بالسحاب، أنَّ السحابَ كما يُطبقُ جميعَ الأرض، كذلك بنو العباس تطبقُ دعوتُهم أهلَ الأرض. ومعنى تسميةِ الأخرى بالظَّلّ أنَّ الأرضَ كما أنَّها لا تخلو من الظِّلّ، فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرضُ من قائمٍ منهم. وأقبل الناسُ إلى أبي مسلمٍ من كلِّ جانب، وكثُرَ جيشُه.

ولما كان يومُ عيدِ الفِطْر أمرَ أبو مسلمٍ سليمانَ بن كثير أنْ يُصلي بالناس، ونَصَبَ له مِنْبرًا، وأن يُخالفَ في ذلك بني أمية، ويعملَ بالسُّنَّة؛ فنُودِيَ للصلاة الصلاة جامعة، ولم يؤذِّنْ ولم يُقِم، خلافًا لهم، وبدأ بالصلاةِ قبلَ الخُطْبة، وكبَّرَ سبعًا في الأولى قبلَ القراءة لا أربعًا؛ وخمسًا في الثانية لا ثلاثًا،

ص: 249

خلافًا لهم، وابتدأ الخطبةَ بالذِّكْرِ والتكبير، وختمها بالقراءة. وانصرفَ الناسُ من صلاةِ العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلمٍ طعامًا، فوضعهُ بين يدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتابًا بدأ فيه بنفسه ثم قال:

إلى نصرِ بنِ سَيَّار، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله عَيَّرَ أقوامًا في كتابهِ فقال:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} إلى قوله: {تَحْوِيلًا} [فاطر: 42 - 43]. فعَظُمَ على نصر أنْ قَدَّمَ اسمَهُ على اسمِه، وأطال الفِكْرَ وقال: هذا كتابٌ لهُ جواب.

قال ابنُ جرير

(1)

: ثم بعث نصرُ بن سيار خيلًا عظيمةً لمحاربةِ أبي مسلم، وذلك بعد ظهورِهِ بثمانيةَ عشرَ شهرًا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالكَ بن الهيثم الخُزَاعي، فالتقَوْا، فدعاهُمْ مالكٌ إلى الرِّضا عن آلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأبوْا ذلك، فتصافُّوا من أوَّلِ النَّهار إلى العصر، فجاء إلى مالكٍ مدَد، فقَوي عليهم واستظهر، فظَفِرَ بهم مالك، وكان هذا أولُ موقفٍ اقتتَلَ فيه دعاةُ بني العباس وجندُ بني أمية.

وفي ذي القعْدةِ من هذه السنة غلَبَ خازمُ بن خزيمة على مَرْوِ الرُّوذ، وقَتَلَ عاملَها من جهةِ نصرِ بن سَيَّار، وهو بِشْرُ بن جعفر السَّعدي، وكتب بالفَتْحِ إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذْ ذاك شابًّا قد اختاره إبراهيمُ لدعوتِهم، وذلك لشهامتِهِ وصرَامتِه، وقوةِ فهْمهِ وجَوْدةِ ذِهْنه، وأصلُهُ من سوادِ الكُوفة؛ وكان مولًى لإدريسَ بنِ مَعْقل العِجْلي، فاشتراهُ بعضُ دعاةِ بني العباس بأربع مئةِ دِرْهم، ثم أخذه محمدُ بن علي، ثم آلَ وَلاؤهُ لآلِ العباس، وزوَّجهُ إبراهيمُ الإمامُ بابنةِ أبي النَّجْم إسماعيلَ بنِ عمران، وأصدَقَها عنه، وكتب إلى دُعاتِهم بخراسان والعراق، أنْ يسمعوا له. فامتثلوا أمرَهُ في هذه المدَّة، وقد كانوا في السَّنة الماضية قبلَ هذه السنة ردُّوا عليه أمرَهُ لِصِغَرِهِ فيهم؛ فلمَّا كانتْ هذه السنةُ أكَّدَ الإمام كتابهُ إليهم في الوصاةِ به وطاعته، وكان في ذلك الخيرُ له ولهم، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].

ولمَّا فَشَا أمرُ أبي مسلم بخراسان تعاقدَتْ طوائفُ من أحياءَ العربِ الذين بها على حَرْبِه ومُقاتلته، ولم يُكرَهِ الكرماني وشيبان لأنهما خرجا على نصر، وأبو مسلم مخالفٌ لنصر كحالِهما، وهو مع ذلك يَدْعو إلى خَلع مروانَ الحمار، وقد طلب نصرٌ من شيبانَ أنْ يكونَ معهُ على حَرْب أبي مسلم أو يكفَّ عنه حتى يتفرغَ لحَرْبِه، فإذا قتلَ أبا مسلم عادا إلى عداوتِهما؛ فأجابه إلى ذلك فبلغَ ذلك أبا مسلم، فبعث إلى الكَرْمانيِّ يُعلمُه بذلك، فلام الكرمانيِّ شيبانَ على ذلك وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هَرَاة النضرَ بنَ نُعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثى، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملُها إلى نصرٍ هاربًا، ثم إنَّ شيبانَ وادَعَ نصرَ بن سيَّارٍ سنةً على تَرْك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كُرْهٍ من الكَرْمانيّ، فبعث ابنُ الكرماني إلى أبي مسلم: إني معك على قتالِ نصر، ورَكِبَ أبو مسلم في خدمةِ ابنِ الكَرْمانيّ، فنَزلَ عنده، واجتمعا فاتفقا على حربِ نصرٍ ومخالفتِه، وتحول أبو مسلمٍ إلى موضعٍ فسيح،

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 308).

ص: 250

وكَثُرَ جُندُه، وعَظُمَ جيشُه، واستعمل على الحَرَسِ والشُّرطِ والرسائلِ والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمّالًا، وجعل القاسمَ بن مجاشع التميميَّ - وكان أحد النقباء - على القضاء؛ وكان يصلِّي بأبي مسلم الصلوات، ويقصُّ بعض القصص، فيذكر محاسن بني هاشم، ويذم بني أمية، ثم تحوَّل أبو مسلم إلى قريةٍ يُقالُ لها بالين، وكان في مكانٍ منخفِض، فخشيَ أنْ يقطعَ عنه نصرُ بن سيارٍ الماء، وذلك في سادسِ ذي الحجَّة من هذه السنة، وصلَّى بهم يوم النَّحْر القاضي القاسم بن مجاشع، وسار نصرُ بنُ سيار في جحافلَ كالسحاب قاصدًا قتالَ أبي مسلم، واستخلف على البلاد نُوَّابًا، وكان من أمرهما ما سنذكرُه في السنةِ الآتية.

‌مقتل ابن الكرماني

ونَشِبتِ الحرب بين نصرِ بن سيارٍ وبين ابنِ الكَرْماني، وهو جديع بن علي الكَرْماني، فقُتل بينهما من الفريقَيْن خَلْقٌ كَثير، وجعل أبو مسلم يُكاتبُ كلًّا من الطائفتين، ويستميلُهم إليه، يكتبُ إلى نصر، وإلى ابنِ الكَرْماني: إنَّ الإمامَ قد أوصاني بكُمْ خيرًا، ولستُ أعدو رأيَهُ فيكم. وكتب إلى الكُور يَدْعو إلى بني العباس، فاستجاب له خَلْقٌ كَثير، وجَمٌّ غَفِير، وأقبل أبو مسلمٍ فَنزلَ بين خندقِ نصر، وخندقِ ابن الكرماني، فهابَهُ الفريقان جميعًا، وكتب نصرُ بن سيَّارٍ إلى مروانَ يُعلِمُهُ بأمرِ أبي مسلم وكثرةِ منْ معه، وأنه يدعو إلى إبراهيمَ بنِ محمد، وكتب في جملةِ كتابِه:

أرى بين الرَّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ

وأحْرَى أنْ يكونَ لَهُ ضِرَامُ

فإنَّ النارَ بالعِيدانِ تُذْكَى

وإنَّ الحربَ مَبْدؤها الكلامُ

فقلتُ من التعجُّب ليتَ شِعْري

أأيقاظٌ أميةُ أمْ نيام

(1)

فكتب إليه مروان: الشاهِدُ يرَى ما لا يراهُ الغائب. فقال نصر: إنَّ صاحبَكمْ قد أخبرَكم أنْ لا نَصْرَ عنده.

وبعضُهم يرويها بلفظٍ آخر:

أرى خَلَلَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نارٍ

فيوشكُ أنْ يكونَ لَها ضِرَامُ

فإنَّ النارَ بالزَّيْدَيْنِ تُورَى

ونارُ الحربِ أوَّلُها كلامُ

فإن لم يُطْفِها عقلاءُ قومٍ

يكونُ وقودَها جُثَثٌ وهامُ

فقلتُ من التعجُّبِ ليتَ شِعْري

أأيقاظٌ أميةُ أمْ نِيَامُ

(1)

الخبر والأبيات في تاريخ الطبري (4/ 314).

ص: 251

فإنْ كانوا لِحَيْنِهِمُ نيامًا

فقُلْ قوموا فقد حانَ القيامُ

(1)

قال ابنُ خَلِّكان

(2)

: وهذا كما قال بعضُ عَلَويَّةِ الكُوفة حين خرجَ محمدٌ وإبراهيمُ ابنا عبدِ الله بن الحسن على المنصور أخي السفاح:

أرى نارًا تشبُّ على بِقَاعٍ

لهَا في كل ناحيةٍ شُعَاعُ

وقد رَقَدَتْ بنو العباسِ عنها

وباتَتْ وهي آمنةٌ رِتَاعُ

كما رقدَتْ أميةُ ثم هَبَّتْ

تُدَافعُ حين لا يُغْني الدِّفَاعُ

وكتبَ نصرُ بن سيَّار أيضًا إلى نائبِ العراق يزيدَ بنِ عمر بنِ هُبيرة يستمِدُّه، وكتب إليه:

أبلغْ يزيدَ وخيرُ القولِ أصدقُهُ

وقد تبيَّنْتُ أنْ لا خيرَ في الكذِب

(3)

بأنَّ أرضَ خُراسانٍ رأيتُ بها

بيْضًا لو افْرَخَ قد حدَّثْتُ بالعَجَبِ

(4)

فِرَاخُ عامَيْنِ إلَّا أنَّها كَبِرَتْ

لَمَّا يَطِرْنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَب

فإنْ يَطِرْنَ ولم يُحْتلْ لَهُنَّ بها

يُلْهبنَ نِيرانَ حَرْب أيَّما لَهَبِ

(5)

فبعث ابنُ هُبَيرةَ بكتابِ نصرٍ إلى مروان، واتَّفَقَ في وصولِ الكتابِ إليه أنْ وجدوا رسولًا من جهةِ إبراهيم الإمام، ومعه كتابٌ منه إلى أبي مسلم، وهو يشتُمُه فيه ويسُبُّه، ويأمرُهُ أنْ يُناهضَ بنَ سَيَّارٍ وابنَ الكَرْماني، ولا يترُك هناك منْ يُحْسنُ العربية. فعند ذلك بعثَ مروانُ وهو مقيمٌ بحَرَّانَ كتابًا إلى نائبهِ بدمشق، وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمرُهُ أنْ يرسل كتابًا إلى نائبهمْ بالبَلْقاء، أنْ يَذْهب إلى الحُمَيْمَة

(6)

- وهي البلدةُ التي فيها إبراهيمُ بن محمد الإمام - فيُقَيِّدَه ويُرسلَهُ إليه. فبعثَ نائبُ دمشقَ إلى نائبِ البَلْقاء، فذهب إلى مسجدِ البلدةِ المذكورة، فوجدَ إبراهيمَ الإمام جالسًا، فقيَّدهُ وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائبُ دمشقَ من فَوْرِهِ إلى مروان، فأمرَ بِهِ فسُجنَ ثم قُتل كما سيأتي.

وأمَّا أبو مسلم فإنَّه لَمَّا توسَّطَ بين جيشِ نصرٍ وابنِ الكَرْمَانيّ، كاتَبَ ابنَ الكرماني: إني معك. فمالَ إليه، فكتبَ إليه نصر: وَيْحَك! لا تَغْتَرّ، فإنَّهُ إنما يُريد قتلَكَ وقتلَ أصحابِك، فهَلُمَّ حتى نكتبَ كتابًا بيننا بالْمُوَادَعَة. فدخلَ ابنُ الكَرْمانيِّ دارَهُ ثم خرج إلى الرَّحْبَةِ في مئةِ فارس، وبعث إلى نصر هَلُمَّ حتى

(1)

الأبيات والخبر في وفيات الأعيان (3/ 149، 150).

(2)

في وفيات الأعيان (3/ 150).

(3)

في (ق): "وقد تحققت"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في (ق): "بيضًا إذا أفرخت"، والمثبت من (ب، ح).

(5)

الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (4/ 314).

(6)

الحميمة: بلفظ تصغير الحُمَة. بلدٌ من أرض الشراة من أعمال عَمَّان، في أطرافِ الشام، كانتْ منزلَ بني العباس. معجم البلدان (2/ 307).

ص: 252

نتكاتبَ، فأبصرَ نَصْرٌ غِرَّةً من ابنِ الكَرْمانيِّ فنهض إليهِ في خلْقٍ كثير، فحمَلوا عليه فقتلوه، وقتلوا من جماعتهِ جماعةً، وقُتل ابنُ الكرماني في المعركة، طعَنَهُ رجلٌ في خاصِرَتِه، فخَرَّ عن دابَّتِهِ، ثم أمر نصرٌ بصَلْبِه وصَلَب معه جماعةً، وصلَبَ معه سمكة، وانضافَ وَلَدُهُ إلى أبي مسلم الخُراساني، ومعه طوائفُ من الناسِ من أصحابِ ابنِ الكَرْماني، فصاروا كَتِفًا واحدًا على نصر.

قال ابنُ جرير

(1)

: وفي هذه السنة تغلَّبَ عبدُ الله بن معاوية بنِ عبد الله بن جعفر على فارسَ وكُورِها، وعلى حُلْوان، وقُومس، وإصْبهان، والرَّيّ، بعدَ حَرْبٍ يطولُ ذكرُها؛ ثم التقى عامر بن ضبَارة معه بإصْطَخر، فهزمه ابنُ ضُبَارة وأسَرَ من أصحابِهِ أربعينَ ألفًا، فكان منهم عبدُ الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابنُ ضُبارة وقال له: ما جاء بكَ معَ ابنِ معاوية وقد علمتَ خِلافهُ لأميرِ المؤمنين؟ فقال: كان عليَّ دَيْنٌ فأتَيْتُهُ فيه. فقامَ إليه حَرْب بن قَطَنِ بن وهب الهلالي فاستوهَبَهُ منه وقال: هو ابنُ أختنا. فوهَبَهُ لهُ وقال: ما كنتُ لأقدِمَ على رجلٍ من قريش. ثم استعلَمَ ابنُ ضُبارةَ منه أخبارَ ابنِ معاوية، فذَمَّهُ ورَمَاهُ هو وأصحابَه باللِّوَاط؛ وجيء من الأسارَى بمئةِ غلامٍ عليهم الثيابُ المصبغة، وقد كان يعملُ معهمُ الفاحشة. وحمل ابنُ ضُبارة عبدَ الله بن علي على البريد لابن هُبيرة لِيُخبرَهُ بما أخبر به ابنُ ضبارة عن ابنِ معاوية، وقد كتب الله عز وجل أنَّ زوالَ مُلكِ بني أمية يكونُ على يديْ هذا الرجل، وهو عبدُ الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يَشعُرُ واحدٌ منهم بذلك.

قال ابنُ جرير

(2)

: وفي هذه السنة وافَى

(3)

الموسمَ أبو حمزةَ الخارجي، فأظهر التحكيمَ والمخالفة لمروانَ، وتبرَّأ منه. فراسلهم عبدُ الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذٍ أميرُ مكَّةَ والمدينةِ والطائف، وإليهِ أمرُ الحَجِيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الأمانِ إلى يومِ النَّفْر، فوقفوا على حِدَةٍ بين الناس بعرفات، ثم تحيَّزوا عنهم، فلما كان يومُ النَّفْرِ الأولِ تعَجَّلَ عبدُ الواحدِ وترَكَ مكةَ فدخلها الخارجيُّ بغيرِ قتال، فقال بعضُ الشعراء في ذلك:

زارَ الحَجِيجَ عصابةٌ قد خالَفُوا

دِينَ الإلهِ فَفَرَّ عبدُ الواحدِ

ترَكَ الحلائلَ والإمارةَ هاربًا

ومَضَى يُخبِّطُ كالبعيرِ الشَّارِدِ

لو كان والدُهُ تنصَّلَ عِرْقَهُ

لصَفَتْ موارِدُهُ بِعِرْقِ الوالِدِ

ولما رجع عبدُ الواحِدِ إلى المدينة شرَعَ في تجهيز السرايا إلى قتالِ الخارجي، وبَذْلِ النَّفَقات، وزادَ

(1)

في تاريخه (4/ 315).

(2)

هو الطبري في تاريخه (4/ 317).

(3)

في (ح، ق): "ولي"، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري.

ص: 253

في أعطيةِ الأجناد، وسيَّرَهم سريعًا، وكان أمير العراق يزيد بن هُبيرة، وأمير خُراسان نصر بن سَيَّار، وقد استحوذَ على بعضِ بلادِه أبو مسلم الخراساني.

‌ومِمَّنْ تُوفِّي فيها من الأعيان:

سالم أبو النَّضر.

وعلى بن زيد بن جُدْعان في قول.

ويحيى بن أبي كثير. وقد ذكَرْنا تراجِمَهم في "التكميل" ولله الحمد.

‌سنة ثلاثين ومئة

في يوم الخميس لتسعٍ خلَوْنَ من جُمَادَى الأولى منها دخل أبو مسلم الخُراساني مدينةَ مَرْو، ونزَلَ دارَ الإمارةِ بِها وانتزَعَها من يَدِ نَصْرِ بن سَيَّار، وذلك بمساعدة علي بن الكَرْماني، وهرَبَ نصرُ بن سيَّار في شِرْذِمةٍ قليلةٍ من الناس، نحو من ثلاثة آلاف، ومعه امرأتُهُ الْمَرْزُبانة، ثم عجَّلَ الهَربَ حتى لَحِقَ سَرْخَس، وترك امرأتَهُ وراءَهُ ونَجَا بنفسِه، واستفحلَ أمْرُ أبي مسلمٍ جدًّا، والتفَّتْ عليه الطوائفُ من الناس وجماعةٌ من أحياء العرب.

‌مَقْتَلُ شيبانَ بن سَلَمةَ الحَرُورِي

ولما هربَ نصرُ بن سيَّار بَقِيَ شيبان، وكان مُمالئًا له على أبي مسلم، فبعث إليه أبو مسلم رسلًا، فحَبسَهم، فأرسل أبو مسلم إلى بسَّام بن إبراهيم مولى بني ليث، يأمرُه أنْ يركبَ إلى شيبانَ فيُقاتِلَه، فسار إليه، فاقتتلا، فهزمه بسَّامٌ فقتَلَه، واتَّبَعَ أصحابَهُ يقتُلُهم ويأسِرُهم، ثم قتلَ أبو مسلمٍ عليًّا وعثمانَ ابني الكَرْماني. وكان سببُ ذلك أنَّ أبا مسلم كان وَجَّه موسى بن كعب إلى أبِيوَرْدَ فافتتحهَا، وكتبَ إلى أبي مسلم يعلمه بذلك، ووجَّهَ أبا داودَ إلى بَلْخٍ فأخذَها من زياد بن عبد الرحمن القُشَيْري، فجمعَ زيادٌ خلقًا من الجنود من أهلِ تلك الناحية لقتالِ السُّود، فنهضَ إليهم أبو داود، فقاتلهم حتى كَسَرَهم، واستباحَ معسكرَهم، وقتل منهم خلقًا واصطفى أموالًا جَزِيلة، واستفحلَ أمرُهُ هناك، ثم وقعت كائنةٌ اقتضَتْ أن اتَّفَقَ رأيُ أبي مسلم مع أبي داود على قَتْلِ عثمان بن الكَرْماني في يومِ كذا وكذا، وفي ذلك اليوم بِعَيْنِه يقتل أبو مسلم عليَّ بن جديع الكَرْماني، فوقع ذلك كذلك.

وفي هذهِ السنةِ وجَّهَ أبو مسلم قَحْطَبَةَ بن شَبيب إلى نَيْسابورَ لقتالِ نَصْرِ بن سيَّار، ومع قحطبةَ جماعةٌ من كبارِ الأمراء، منهم خالدُ بن بَرْمَك، وخلقٌ منهم، فالتقَوْا مع تميم بن نَصْرِ بن سيَّار وقد وجَّهَهُ أبوهُ لقتالِهم بِطُوس، فقتلَ قحطبةُ من أصحاب نصير نحوًا من سبعةَ عشرَ ألفًا في المعركة، وقد كان أبو مسلم

ص: 254

بعث إلى قحطبةَ مددًا نحَو عشرةِ آلاف فارس، عليهم على بنُ مَعْقِل، فاقتتلوا، فقتلوا من أصحابِ نصرٍ خلقًا كثيرًا، وقتلوا تميمَ بنَ نَصْر، وغَنِموا أموالًا جَزِيلة جدًّا، ثم إنَّ يزيدَ بنَ عمر بنِ هُبيرةَ نائبَ مروانَ على العراق، بعث بسَريَّةٍ مددًا لنصرِ بنِ سيَّار، فالتقى معهم قحطبةُ في مُستهَلِّ ذي الحِجَّة، وذلك يوم الجُمعة، فقام قحطبةُ في الناس خطيبًا، فحثَّهم على الجهادِ والقتال، وذكَّرهم، وأمرهم بالمصابَرَة، ووعدَهم عن الإمام أنهم يُنصَرون في هذا اليوم، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم جندُ بني أمية، وقُتل من أهل الشام وغيرِهم عشرةُ آلاف، منهم أميرُ المدد نُبَاتَةُ بن حنظلة عاملُ جُرْجان ورساتيقها لابن هُبيرة، فبعث قحطبةُ برأسِهِ إلى أبي مسلم.

‌ذكرُ دخولِ أبي حمزةَ الخارجي المدينةَ النبويَّةَ واستيلائِهِ عليها مدة ثلاثة أشهر حتى ارتحل منها

قال ابنُ جرير

(1)

: وفي هذه السنةِ كانت وقعةٌ بقُدَيد من أرض الحجاز، بين أبي حمزةَ الخارجي الذي كان عامَ أول في أيامِ الموسم، فقتل من أهلِ المدينة من قريش وغيرهم خلقًا كثيرًا، ثم دخل المدينةَ وهرَبَ نائبُها عبدُ الواحد بنُ سليمان، فقتل الخارجيُّ من أهلِها خلقًا، وذلك لتسعَ عشرةَ ليلةً خلَتْ من صفرَ من هذه السنة، ثم خطبَ على مِنبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فوبَّخَ أهلَ المدينة وأنَّبَهمْ، وكان فيما وبَّخهمْ به أنْ قال: يا أهل المدينة، إني مررتُ بكمْ أيامَ الأحول - يعني هشامَ بنَ عبدِ الملك - وقد أصابَتْكُمْ عاهةٌ في ثمارِكم فكتبتُمْ إليه تسألونَهُ أنْ يضَعَ الخَرْص

(2)

عن ثمارِكم فوضعه، فزاد غَنِيَّكم غِنىً، وزاد فقيرَكم فقرًا، فكتبتم إليه: جزاكَ الله خيرًا، فلا جَزَاهُ الله خيرًا. في كلام طويل. فأقام عندَهم ثلاثةَ أشهر بقيةَ صفر وشهرَيْ ربيع، وبعض جُمَادَى الأولى فيما قال الواقدي وغيرُه

(3)

.

وقد روى المدائني، أنَّ أبا حمزةَ رَقِي يومًا منبرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة أنَّا لم نخرُجْ من ديارِنا وأبنائنا بطَرًا ولا أشَرًا، ولا عبثًا، ولا لِدَوْلةِ مَلِكٍ نُريد أن

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 328).

(2)

الخَرْصُ: حَزْرُ ما على النَّخْل من الرُّطَب تمرًا، وقد خَرَصْت النخلَ والكرْمَ أخْرُصُه خَرْصًا، إذا حَزَرَ ما عليها من الرُّطب تمرًا، ومن العِنَبِ زبيبًا، وهو مَن الظنّ لأن الحَزْر إنما هو تقديرٌ بظَنٍ، وخرَصَ العدَدَ يَخْرُصُه ويَخْرِصُه خَرْصًا وخِرْصًا: حَزَرَه، وقيل: الخَرْصُ المصدرُ والخِرْصُ، بالكسر، الاسمُ. يقال: كم خِرْصُ أرْضِك وكم خِرْصُ نَخْلِكَ؟ بكسر الخاء، وفاعلُ ذلك الخارِصُ، وكان النبيّ يبعَث الخُرَّاص على نَخِيل خَيْبَر عند إدْراك ثَمرِها، فَيحزِروُنه رُطبًا كذا وتَمرًا كذا، ثم يأخذهم بمَكِيلة ذلك من التمر الذي يجب له وللمساكين. لسان العرب (خرص).

(3)

انظر قول الواقدي في تاريخ الطبري (4/ 330).

ص: 255

نخوضَ فيه، ولا لِثأرٍ قَدِيم نِيلَ منَّا. ولكنَا لما رأينا مصابيحَ الهُدَى عُطِّلَتْ

(1)

، وضَعُفَ القائلُ بالحق، وقُتل القائمُ بالقسط، ضاقَتْ علينا الأرضُ بما رَحُبَتْ، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعةِ الرحمن وحُكْمِ القرآن، فأجَبْنا داعيَ الله {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32]، أقبَلْنَا من قبائلَ شَتَى، النَّفَرُ مِنَا على بعيرٍ واحد، عليهِ زادُهُمْ وأنْفُسُهم، يتَعَاوَرُونَ لِحَافًا واحدًا، قليلونَ مُسْتَضْعَفونَ في الأرض فآوانا الله وأيَّدَنا بنصرهِ، فأصبَحْنا واللهِ بنعمةِ الله إخوانًا، ثم لَقِيَنا رجالُكمْ بِقُدَيْد، فدعَوْناهم إلى طاعةِ الرحمنِ وحُكْمِ القُرآن، ودعَوْنا إلى طاعة الشيطانِ وحُكم بني مروان، فشَتَانَ لعمرُ الله ما بين الغَيِّ والرُّشْد، ثم أقبلوا نحوَنا يُهْرَعُونَ، قد ضربَ الشيطانُ فيهم بِجِرَانِه، وغلَتْ بدمِائِهم مَرَاجِلُه، وصدَق عليهم ظَنُّهُ فاتَّبعوه، وأقبلَ أنصارُ الله عصائبَ وكتائبَ، بكُلِّ مُهَنَّدٍ ذي رونق، فدارَتْ رَحَانا، واستدارَتْ رَحَاهُمْ بضربٍ يَرْتابُ منه المُبْطِلون. وأنتم يا أهل المَدينة، إنْ تَنْصُروا مروانَ يُسْحِتكُمُ الله بعذابِ من عنده أو بأيدينا ويَشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين، يا أهلَ المدينة، أوَّلُكمْ خيرُ أول، وآخِرُكم شَرُّ آخِر، يا أهلَ المدينة، الناسُ مِنَّا ونحن منهم، إلَّا مُشْرِكًا عابدَ وَثَن، أو كافرًا أهلَ كتاب، أو إمامًا جائرًا، يا أهل المدينة، مَنْ زَعَم أنَّ الله يُكَلَّفُ نفسًا فوق طاقَتِها، أو يسألها ما لم يؤتِها فهو لله عدوّ، وأنا له حَرْب، يا أهلَ المدينة، أخبِروني عن ثمانيةِ أسْهُمٍ فرَضَها الله في كتابهِ على القويِّ والضعيف، فجاءَ تاسِعٌ ليس له منها ولا سهمٌ واحد، فأخذها لنفسِهِ مُكابِرًا محارِبًا لِرَبِّه، يا أهلَ المدينة، بَلَغَني أنكم تَنْتَقِصونَ أصحابي، قلتُمْ شَبَابٌ أحداث، وأعرابٌ جُفَاةٌ أجلاف، وَيْحكم! فهل كان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلَّا شبابًا أحداثًا؟ شُبَّانٌ والله مُكْتَهِلُون في شَبَابِهم، غَضَّةٌ عن الشرِّ أعينُهم، ثَقِيلةٌ عن السَّعْيِ في الباطل أقدامُهم، قد باعوا للهِ أنفسًا تموت، بأنفسِ لا تموت، قد خالطوا كلالَهم بكلالِهم، وقيامَ ليلِهم بصيام نهارهِم، مُنحَنِيةٌ أصلابُهم على أجزاءَ القرآن، كلَّما مرُّوا بآيِةِ خوفٍ شَهَقُوا خوفًا من النار، وإذا مرُّوا بآيةِ شَوْقٍ شَهَقوا شوقًا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد انتُضيَتْ، وإلى الرَّمَاحِ قد شُرعتْ وإلى السهامِ قد فُوِّقَتْ، وأرعدَتِ الكتيبةُ بصواعقِ الموت استخفُّوا واللهِ وَعِيدَ الكتيبةِ لِوَعِيدِ الله في القرآن، ولم يستخفُّوا وَعِيدَ الله لِوَعيدِ الكتيبة، فطُوبى لهم وحسنُ مآب. فكم من عينِ في مناقيرِ الطيرِ طالما فاضَتْ في جَوْفِ الليل من خشيةِ الله؟ وطالما بكَتْ خاليةً من خوفِ الله! وكم من يدٍ زالَتْ عن مَفْصِلها طالما ضرَبَتْ في سبيل الله! وجاهدَتْ أعداءَ الله، وطالما اعتمَدَ بها صاحبُها في طاعةِ الله! أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلتُ، وإليه أُنِيب

(2)

.

ثم روى المدائني عن العباس، عن هارون، عن جَدِّه، قال: كان أبو حمزةَ الخارجي قد أحسن

(1)

في (ق): "مصابيح الحق طمست" والمثبت من (ب، ح).

(2)

أخرج الخبر الطبري في تاريخه (4/ 330).

ص: 256

السيرةَ في أهلِ المدينة، فمالوا إليه حتى سمعوهُ يقول: بَرِحَ الخَفَاء، أين عن بابِك نذهب؟ ثم قال: مَنْ زَنَا فهو كافر، ومَنْ سَرَقَ فهو كافر. فعند ذلك أبغضوهُ ورجَعُوا عن محبَّتِه، وأقام بالمدينةِ حتى بعث مروانُ الحمار عبدَ الملك بن محمد بن عَطِيَّة، أحَدَ بني سعدٍ في خيلِ أهلِ الشام أربعة آلاف، قدِ انتخَبَها مروانُ من جيشِه، وأعْطَى كل رجلٍ منهم مئةَ دينار، وفرسًا عربيَّةً، وبَغْلًا لِثَقَلِه، وأمرَهُ أنْ يُقاتِلَهُ ولا يَرْجعَ عنه، ولو لم يَلْحَقْهُ إلَّا باليمن فلْيَتْبَعْهُ إليها، ولْيُقاتِلْ نائبَ صنعاء عبدَ الله بن يحيى، فسارَ ابنُ عطيَّة حتى بلَغَ وادي القُرَى، فتلقَّاهُ أبو حمزةَ الخارجيّ قاصدًا قتالَ مروانَ بالشام، فاقتتلوا هنالكَ إلى الليل، فقال له: وَيْحَك يا ابنَ عطية، إنَّ الله قد جعلَ الليلَ سكَنًا، فأخِّرْ إلى غد. فأبى عليهِ أنْ يُقلعَ عن قتاله، فما زال يُقاتلهم حتى كسرَهم فولَّوْا، ورجع فَلُّهم إلى المدينة، فنَهَضَ إليهم أهلُ المدينة، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ودخل ابنُ عطيةَ المدينة وقد انهزَمَ جيش أبي حمزةَ عنها، فيقال إنه أقامَ بِها شهرًا ثم استخلف عليها، ثم استخلف على مكَّة وسار إلى اليمن، فخرج إليه عبدُ الله بن يحيى نائبُ صنعاء فاقتتلا، فقَتَله ابنُ عَطِيَّةَ وبعث برأسِهِ إلى مروان، وجاء كتابُ مروانَ إليه يأمرُهُ بإقامةِ الحجِّ للناس في هذِه السنة، ويستعجلُه في المسيرِ إلى مكة، فخرجَ من صنعاءَ في اثني عشر راكبًا، وتركَ جيشَه بصنعاء ومعه خُرْج

(1)

فيه أربعون ألفَ دينار، فلما كان ببعضِ الطريق نزلَ مَنْزِلًا إذْ أقبل إليه أميرانِ يُقال لهما ابنا جُمانة، من ساداتِ تلك الناحية، فقالوا: وَيْحَكم! أنتم لصوص. فقال: أنا ابنُ عَطِيَّةَ وهذا كتابُ أميرِ المؤمنينَ إليَّ بإمْرَةِ الحَجّ، فنحن نُعَجِّلُ السيرَ لِنُدرِكَ المَوْسِم، فقالوا: هذا باطل، ثم حَمَلوا عليهم فقتلوا ابن عطيةَ وأصحابهُ ولم يُفلِتْ منهم إلَّا رجلٌ واحد، وأخذوا ما معَهم من المال.

قال أبو معشر: وحجَّ بالناس في هذه السنة محمدُ بن عبد الملك بن مروان، وقد جُعلت إليه إمرةُ المدينةِ ومكةَ والطائفِ، ونائبُ العراق ابنُ هُبيرة، وإمرةُ خُراسان إلى نَصْرِ بن سيار، غيرَ أن أبا مسلمٍ قدِ استحوَذَ على مُدُن وقُرىً كثيرةٍ من خُراسان وكُورًا ورَسَاتِيق، وقد أرسل نصرٌ إلى ابنِ هُبيرةَ يستَمِدُّهُ ويستنجِدُهُ، ويطلبُ أن يُمِدَّهُ من عند بعشرةِ آلافٍ قبلَ أنْ لايكفيَهُ مئةُ ألف، وكتبَ أيضًا إلى مروانَ يستَمِدُّه، فكتب مروانُ إلى ابنِ هُبيرةَ يُمِدُّه بما أراد.

ومِمَّنْ تُوفِّي فيها من الأعيان:

شُعيب بن الحَبْحَاب.

وعبدُ العزيزِ بنُ صُهيب.

وعبدُ العزيزِ بنُ رُفَيع.

وكعب بن علقمة.

(1)

الخُرْجُ: وعاء معروف، عربيٌّ صحيح، والجمع خِرَجَة، وزان عنبة. المصباح المنير (خرج).

ص: 257

ومحمد بن المُنْكَدِر.

والله سبحانه أعلم.

‌ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومئة

في المحرَّمِ منها وجَّهَ قَحْطَبَةُ بن شَبِيب ولدَهُ الحسن إلى قُومِسَ لِقِتالِ نصرِ بنِ سيَّار، وأردَفَهُ بالأمْداد، فخامَرَ بعضُهم إلى نصر، وارتحل نصرٌ فنَزلَ الرَّيّ، فأقام بها يومين، ثم مَرِضَ فسار منها إلى هَمَذَان، فلمَّا كان بسَاوَة

(1)

، قريبًا من هَمَذان، تُوفِّيَ لمُضِيِّ ثنتَيْ عشرةَ ليلةً خلَتْ من ربيعِ الأول من هذه السنة، عن خمسٍ وثمانينَ سنة. فلَّما ماتَ نصرٌ تمكَّنَ أبو مسلمٍ وأصحابُه من بلادِ خُراسان، وقَوِيَتْ شَوْكتُهم جدًّا، وسار قحطبةُ من جُرْجَان، وقَدِمَ أمامَهُ زيادُ بن زُرارَةَ القُشَيري، وكان قد نَدِم على اتباعِ أبي مسلم، فترك الجيش وأخذَ جماعةً معه، وسلك طريقَ أصبَهَان ليأتِيَ ابنَ ضُبَارَة، فبعثَ قحطبةُ وراءَهُ جيشًا، فقتلوا عامَّةَ أصحابِه، وأقبل قحطبةُ ورَاءَهُ، فقَدِمَ قُومِسَ وقد افتتحها ابنُهُ الحسن، فأقام بها وبعث ابنَهُ بين يديه إلى الرَّي، ثم ساق وراءَهُ فوجدَهُ قد افتتحها، فأقام بها. وكتبَ إلى أبي مسلم بذلك، وارتحلَ أبو مسلمٍ من مَرْوَ، فنَزل نَيْسابور، واستفحل أمرُه، وبعث قحطبةُ بعدَ دخولهِ الرَّي ابنَهُ الحسن بين يديه إلى هَمَذان، فلما اقتربَ منها خرجَ منها مالكُ بن أدهم وجماعةٌ من أجنادِ الشام وخُراسان، فنَزلوا نَهَاوَنْد، فافتتح الحسنُ هَمَذان، ثم سار وراءَهُم إلى نَهَاوَنْد، وبعث إليه أبوهُ بالأمداد، فحاصرَهم حتى افتتحَها.

وفي هذه السنة مات عامرُ بن ضُبَارة، وكان سببُ ذلك أنَّ ابنَ هُبَيرةَ كتب إليهِ أنْ يسيرَ إلى قحطبةَ وأمَدَّهُ بالعساكر، فسار ابنُ ضُبَارةَ حتى التقى مع قحطبة، وابنُ ضُبَارةَ في مئةٍ وخمسين ألفًا، وكان يقالُ له عسكر العساكر، وقحطبة في عشرين ألفًا، فلما تواجَهَ الفريقان رفَعَ قحطبةُ وأصحابُهُ المصاحفَ ونادى المنادي: يا أهلَ الشام إنَّا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشَتَموا المنادِيَ وشتموا قحطبة، فأمر قحطبةُ أصحابَهُ أنْ يحمِلوا عليهم، فلم يكنْ بينَهم كبيرُ قتال حتى انهزم أصحابُ ابنِ ضُبَارَة، واتَّبعهم أصحابُ قحطبةَ فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وقتلوا ابنَ ضُبَارةَ في العسكر [لشجاعَتِه، فإنَّه لم يُوَلِّ]

(2)

وأخذوا منْ عسكرِهم ما لا يُحدُّ ولا يُوصَف.

(1)

سَاوَهْ: بعد الألف واو مفتوحة، بعدَها هاءٌ ساكنة: مدينةٌ حسنةٌ بين الرَّيِّ وهَمَذان، في وَسَط، بينها وبين كلِّ واحدٍ من همذان والري ثلاثون فرسخًا، وكان بها دارُ كتب، لم يكن في الدنيا أعظمُ منها، بلغني أنهم أحرقوها، اهـ معجم البلدان (3/ 179).

(2)

ما بين معقوفين ليس في الأصول، وهو مثبت هكذا بين الحاصرتين في (ق).

ص: 258

وفيها حاصرَ قحطبةُ نَهَاونْدَ حصارًا شديدًا، حتَّى سألَهُ أهلُ الشام الذين بِها أنْ يُمْهِل

(1)

أهلَها حتَّى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه أمانًا، فقال لهم مَنْ بها من أهلِ خُرَاسان: ما فعلتُمْ؟ فقالوا: أخَذْنا لنا ولكم أمانًا. فخرجوا ظانِّين أنهم في أمان، فقال قحطبةُ للأمراء الذين معه: كلُّ مَنْ حَصَل عندَه أسيرٌ من الخراسانيِّين فَلْيضرِبْ عُنقَه، وَلْيأتنَا برأسِه، ففعلوا ذلك، ولم يبقَ ممن كان هرَبَ من أبي مسلم أحدٌ. وأطلقَ الشاميِّين وأوفى لهم عَهْدَهم، وأخذَ عليهمُ الميثاق أنْ لا يُمالئوا عليه عدوًّا. ثم بعث قحطبةُ أبا عَوْن إلى شَهْرَزُور عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفًا، فافتتحها وقتل نائبَها عثمانَ بن سفيان، وقيل: لم يُقتَل، بل تحوَّلَ إلى المَوْصل والجزيرة، وبعث إلى قحطبةَ بذلك، ولما بلغ مروانَ خبَرُ قحطبةَ وأبي مسلم وما وقع من أمرِهما تحوَّلَ مروانُ من حَرَّان، فنَزل بمكانٍ يُقال له الزابُ الأكبر.

وفيها قصد قحطبةُ في جيشٍ كثِيف نائبَ العراق يزيدَ بن عمر بن هُبيرة، فلما اقتربَ منه تقهقر ابنُ هُبيرةَ إلى ورائه، وما زال يتقهقَرُ إلى أنْ جاوز الفُرَات، وجاء قحطبةُ فجازها وراءَه، وكان من أمرِهما ما سنذكرُهُ في السنةِ الآتيةِ إنْ شاءَ اللَّه تعالى.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومئة

في المحرَّمِ منها جاز قحطبة بنُ شَبِيب الفرات، ومعه الجنودُ والفرسان، وابنُ هُبيرةَ مُخيِّمٌ على فَمِ الفرات مما يلي الفَلُّوجَة

(2)

في خلقٍ كثير، وجَمٍّ غَفِير، وقد أمِدَّ مروان بجنودٍ كثيرة، وانضاف إليه كلُّ مَنِ انهزَمَ من جيشِ ابن ضُبَارة، ثم إنَّ قحطبةَ عدَلَ إلى الكوفةِ ليأخذَها، فاتبعهُ ابنُ هُبيرةَ، فلما كانتْ ليلةُ الأربعاء لثمانٍ مضَيْنَ من المحرم اقتتلوا قتالًا شديدًا، وكَثُرَ القتلُ في الفريقَيْن، ثم ولَّى أهلُ الشامِ مُنْهَزِمين، واتبعهم أهلُ خُراسان، وفُقد قحطبةُ من الناس، فأخبرهم رجلٌ أنه قُتلَ وأوصى أنْ يكونَ أميرَ الناسِ من بعده ولدُهُ الحسنُ حاضرًا عند الجيش، فبايعوا حُمَيد بن قحطبةَ لأخيهِ الحسن، وذهبَ البريدُ إلى الحسن ليحضُر، وقُتل في هذه الليلةِ جماعةٌ من الأمراء، والذي قتلَ قحطبةَ مَعْنُ بن زائدة ويحيى بنُ حصين، وقيل: بل قتلَهُ رجلٌ ممن كان معه آخذًا بثأرِ ابني نصرِ بن سيَّار، فاللّه أعلم، ووُجدَ قحطبةُ في القتلى، فدُفن هنالك.

(1)

في (ب، ح): "يشغل" بدل "يمهل".

(2)

الفَلوجَة: بالفتح ثم التشديد، وواو ساكنة، وجيم: قال الليث: فَلاليجُ السواد قُراها، وإحداها الفَلُّوجَة، والفلوجة الكبرى، والفلوجة الصغرى، قريتان كبيرتان من سوادِ بغدادَ والكوفة، قربَ عينِ التمر، ويقال الفلوجة العليا، والفلوجة السفلى أيضًا، وفي الصحاح: الفلوجة: الأرض المصلحة للزرع، ومنه سُمِّي موضعٌ على الفرات الفلوجة، والجمع فلاليج. معجم البلدان (4/ 275)، وهي اليوم مدينة معروفة بغربي بغداد تبعد عنها (70) كيلو مترًا.

ص: 259

وجاءَ الحسَنُ بنُ قحطبةَ فسار نحو الكوفة، وقد خرج بها محمدُ بن خالد بن عبد الله القَسْري، ودعا إلى بني العباسِ وسَوَّد، وكان خروجُهُ ليلةَ عاشوراء المحرم من هذه السنة، وأخرج عامِلَها من جهةِ ابنِ هُبيرةَ وهو زيادُ بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن خالد إلى قَصْرِ الإمارة، فقصد حَوْثَرَةَ في عشرين ألفًا من جهةِ ابنِ هُبيرة، فلما اقترب من الكوفة أصحابُ حَوْثرَة يذهبون إلى محمد بن خالد، فيبايعونه لبني العباس، فلما رأى حوثرةُ ذلك ارتحل إلى واسط. ويقال: بل دخل الحسنُ بن قحطبةَ الكوفة، وكان قحطبةُ قد جعل وصيَّته أنْ تكونْ وزارةُ الخلافةِ إلى أبي سلمةَ حفصِ بنِ سليمان مولى السَّبِيع الكوفي الخلَّال، وهو بالكوفة، فلمَّا قَدِموا عليه أشار إلى أن يذهب الحسنُ بن قحطبةَ في جماعةٍ من الأمراء إلى قتالِ ابنِ هُبيرة بِوَاسِط، وأنْ يذهبَ أخوهُ إلى المدائن، وبعثَ البعوثَ إلى كلِّ جانبٍ يفتتحونَها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلمُ بن قُتيبة لابنِ هُبيرة، فلما قُتل ابنُ هُبيرةَ جاء أبو مالك عبدُ الله بنُ أسيد الخُزَاعي، فأخذ البصرة لأبي مسلم الخُراسانى

(1)

.

وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاثَ عشرةَ خلَتْ من ربيعِ الآخر أُخذتِ البيعةُ لأبي العباس السفَّاح، وهو عبدُ الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. قاله أبو معشر وهشام الكلبي. وقال الواقدي: في جُمَادَى الأولى من هذه السنة، فالله أعلم.

‌ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام

وقد ذكرنا في سنةِ تسع وعشرين ومئة، أنَّ مروانَ اطَّلَعَ على كتابٍ من إبراهيمَ الإمام إلى أبي مسلم الخراساني يأمرُهُ فيه بأن لا يُبْقِي أحدًا بأرضِ خُراسانَ مِمَّنْ يتكلمُ بالعربيةِ إِلَّا أبادَ

(2)

، فلما وقف مروانُ على ذلك سأل عن إبراهيمَ فقيل له: هو في البَلْقاء، فكَتَبَ إلى نائبِ دمشقَ أنْ يحضُر، فبعث نائبُ دمشق بريدًا ومعَهُ صِفَتُه ونَعْتُه، فذهب الرسولُ فوجد أخاهُ أبا العباس السفَّاحَ، فاعتقَدَ أنَهُ هو، فأخذَهُ، فقيل له: إنه ليس به، وإنما هو أخوه. فدُلَّ على إبراهيم، فأخذَهُ وذهبَ معَهُ بأمِّ وَلَدٍ كان يُحِبُّها، وأوصَى إلى أهلهِ أنْ يكونَ الخليفةَ من بعدِهِ أخوهُ أبو العباس، وأمرَهم بالمسيرِ إلى الكوفة، فارتحلوا من يومِهم

(3)

إليها، وكانوا جماعةً، منهم أعمامُه الستة، وهم: عبدُ الله، وداودُ، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبدُ الصمد بنو علي، وأخواه أبو العباس عبد الله السفاح، ويحيى ابنا محمد بن علي، وابناه محمد وعبد الوهاب ابنا إبراهيم الإمام الممسوك، وخَلْقٌ سِواهم، فلمَّا دخلوا الكوفة أنزَلَهم أبو سلمة الخلَّال

(1)

انظر تاريخ الطبري (4/ 343).

(2)

انظر ما سبق ص (246 و 252).

(3)

في (ب، ح): "فورهم".

ص: 260

دارَ الوليدِ بن سعد مولى بني هاشم، وكَتَم أمرَهم نحوًا من أربعين ليلةً من القُوَّاد والأمراء، ثم ارتحلَ بِهم إلى موضعٍ آخر، ثم لم يزَلْ يَنقُلُهم من مكانٍ إلى مكان، حتَّى فُتحت البلاد، ثم بُويع للسَّفَّاح.

وأما إبراهيمُ بن محمد الإمام فإنَّه سِيرَ به إلى أميرِ المؤمنينَ في ذلك الزمان مروانَ بنِ محمد، وهو بِحَرَّان، فحبسَه - كما قدَّمنا

(1)

- وما زال في السِّجْن إلى هذهِ السنة، فمات في صفر منها في السِّجن عن ثمانٍ وأربعينَ سنة، وقيل: إنه نجُمَّ بِمِرْفَقَةٍ

(2)

وُضِعتْ على وجههِ حتَّى ماتَ عن إحدى وخمسين سنةً، وصلَّى عليهِ رجلٌ يُقال له بُهْلول بن صفوان، وقيل: إنه هُدِمَ عليه بيتٌ حتَّى مات، وقيل: بل سُقِيَ لبنًا مسمومًا فمات، وقيل: إنَّ إبراهيم الإمام شَهِدَ الموسم عامَ إحدى وثلاثين، واشتهَرَ أمرُه هنالك، لأنَّهُ وقف في أُبَّهَةٍ عظيمة، ونَجَائب كثيرة، وحُرْمَةٍ وافرة، فأُنْهِي أمره إلى مروان، وقيل له: إنَّ أبا مسلمٍ يَدْعو الناسَ إلى هذا، ويسمُّونَهُ الخليفة، فبعثَ إليه في المحرَّم من سنةِ ثنثين وثلاثين، وقله في صفر من هذه السنة. وهذا أصَحُ مِمَّا تقدَّم وقيل: إنما أخذَهُ من الكوفةِ لا من حُمَيْمَةِ البلقاء، واللّه أعلم.

وقد كان إبراهيمُ هذا كريمًا وجوادًا، له فضائلُ وفواضل. وروَى الحديثَ عن أبيه، عن جَدِّه، وأبي هاشم عبدِ اللَّه بن محمد بنِ الحنَفِيَّة. وعنه أخواه عبدُ اللَّه السفاح، وأبو جعفر عبدُ الله المنصور، وأبو سلَمَة عبدُ الرحمن بن مسلم الخُراساني، ومالك بن هاشم.

ومن كلامِهِ الحسَنِ: الكاملُ المروءة منْ أحرَزَ دِينَه، ووَصَلَ رَحِمَه، واجتنبَ ما يُلامُ عليه.

‌خِلافةُ أبي العباس السَّفَّاح

لما بلَغَ أهلَ الكوفةِ مقتَلُ إبراهيمَ بن محمد أراد أبو سَلَمةَ الخلَّال أنْ يحَوِّلَ الخِلافةَ إلى آلِ علي بنِ أبي طالب، فغلَبَهُ بقيَّةُ النُقَبَاء والأمراء، وأحضروا أبا العباس السفَّاح، وسلَّمُوا عليهِ بالخِلافة، وذلك بالكوفة، وكان عمرُهُ إذ ذاك سِتًّا وعشرين سنةً. وكان أولَ مَنْ سَلَّمَ عليه بالخِلافة أبو سلمةَ الخَلَّال، وذلك ليلةَ الجُمعة، لثلاثَ عشرةَ ليلة خلَتْ من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقتُ صلاةِ الجُمعة خرَجَ السفاحُ على بِرْذَوْنٍ أبْلَق، والجنودُ مُلبَسَةٌ معه، حتَّى دخل دارَ الإمارة، ثم خرج إلى المسجدِ الجامع، وصلى بالناس ثم صَعِدَ المِنبَر، وبايَعَهُ الناسُ وهو على المِنْبَرِ في أعلاه، وعَمُّهُ داودُ بن علي واقفٌ دونَهُ بثلاث درج، وتكلَّمَ السفَّاحُ وكان أوَّلَ ما نطَقَ به أنْ قال: الحمدُ للّهِ الذي اصطَفَى لنفسهِ دِينًا، وكرَّمَهُ وشرَّفَهُ وعَظَمَهُ، واختارَهُ لنا، وأيَّدَهُ بنا، وجعلَنَا أهلَهُ وكَهْفَه، والقُوَّامَ به، والذَّابِّينَ عنه،

(1)

انظر ما سبق ص (252).

(2)

في (ق): "بمرققة" تصحيف، والمِرْفَقَة - بالكسر - والْمِرْفَق: الْمُتَّكأ، والمِخَدَّة، وقد تَمَرْفق: إذا أخذَ مِرْفَقَة. لسان العرب (رفق).

ص: 261

والناصرينَ له، وألزمَنَا كلمةَ التقوَى، وجعلنَا أحقَّ بِها وأهلَها، خَصَّنا بِرَحِمِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقَرَابتَه، ووضَعَنا بالإسلامِ وأهلِهِ في المَوْضِع الرَّفِيع، وأنزلَ بذلك على أهلِ الإسلام كتابًا يُتلَى عليهم، فقال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وقل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7]، الآية. فأعلمهم عز وجل فضلنَا وأوجَبَ عليهم حقَّنا ومودَّتنا، وأجزل من الفَيْءَ والغَنِيمةِ نصيبنَا. تكرِمَةً لنا، وتَفْضِلَة

(1)

علينا، واللّه ذو الفضلِ العظيم، وزعمتِ السَّبَئيَّة الضُّلَّال أنَّ غيرَنا أحَقُّ بالرياسةِ والسِّياسةِ والخلافةِ منَّا، فشاهتْ وجوهُهم.

أيُها الناس! بنا هَدَى اللَّه الناسَ بعدَ ضلالَتِهم ونصرَهم بعد جهالَتِهم، وأنقذَهُم بعد هَلَكَتِهم وأظهرَ بنا الحق وأدْحَضَ بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا ورفَعَ بنا الخسيسة، وأتمَّ النَّقِيصة، وجمع الفُرْقة، حتَّى عاد الناسُ بعد العداوةِ أهل تَعاطُفٍ وبِرٍّ ومواساةٍ في دنياهم، وإخوانًا على سُرُرٍ متقابِلِين في أخرَاهم، فتَحَ اللّهُ علينا ذلك مِنَةً ومِنْحَة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلما قبَضَهُ إليه قام بذلك الأمرَ بعدَهُ أصحابُه، وأمْرُهُمْ شُورى بينهم، فحوَوْا مَوَاريثَ الأُمَم، فعدَّلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب بنو حربٍ ومروان، فابتزوها لأنفسهم، وتداوَلوها، فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلَها، فأملى الله لهم ح {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، فانتزع منهم ما بأيديهمْ بأيدينا، وردَّ الله علينا حَقَّنا، وتدارَكَ بنا أُمَّتنا، وتولَّى أمرَنا والقيامَ بنصرِنا لِيَمُنَّ بنا على الذين استُضْعِفُوا في الأرض، وختَمَ بنا كما افتتح بنا.

وإنِّي لأرجو أنْ لا يأتيَكُم الجَوْرُ من حيثُ جاءكمُ الخير، ولا الفسادُ من حيثُ جاءكمُ الصلاح، وما توفيقُنا أهلَ البيتِ إلَّا باللّه، يا أهلَ الكوفة، أنتم مَحَلُّ مَحبَّتنَا، ومَنْزِلُ مودَّتِنا، وأنتم أسعدُ الناسِ بنا، وأكرمُهم علينا؛ وقد زِدْتُكُمْ في أُعطياتِكم مئةَ دِرْهم، فاستعدُّوا، فأنا السَّفَّاحُ الهائج، والثائرُ الْمُبير. وكان به وَعْك، فاشتدَّ عليه حتَّى جلس على المنبر، ونهَضَ عمُّه داود فقال: الحمدُ للّه شكرًا، الذي أهلَكَ عدوَّنا، وأصارَ إلينا مِيراثنا من بيتنا. أيها الناس، الآنَ انقشعَتْ حَنَادسُ الظلماتِ وانكشف غِطَاؤها، وأشرقَتْ أرضُها وسماؤها، فطلعتْ شمسُ الخِلافةِ مِنْ مَطْلعها، وبَزَغَ القمرُ من مَبْزَغِه، ورجَعَ الحقُّ إلى نصابِه، في أهلِ نبيِّكُمْ، أهلِ الرأفةِ والرحمةِ والعَطْف، عليكم أيُّها الناس، إنَّا واللّهِ ما خرَجْنا لهذا الأمر، لِنَكْنزَ لُجَيْنًا ولا عِقْيَانًا، ولا لِنحفِرَ نَهْرًا ولا لِنَبْنيَ قصرًا، ولا لنجمعَ ذهبًا ولا فِضَّة، وإنما أخرجَتْنا الأنَفَةُ من انتزَاعِ حَقِّنا، والغضَب لبني عَمِّنا، ولِسُوء سيرةِ بني أميةَ فيكم،

(1)

في (ب، ح): "وفضله".

ص: 262

واستذلالِهم لكم، واستئثارِهِم بفَيْئكمْ وصدَقَاتِكم؛ فلكُمْ علينا ذِمَّةُ اللّهِ وذمَّةُ رسولِه، وذمَّةُ العباس أنْ نحكمَ فيكم بما أنزل اللَّه، ونعملَ بكتاب اللَّه، ونسيرَ في العامَّةِ والخاصَّةِ بسيرةِ رسولِ اللَّه. تَبًّا تَبًّا لبني أميةَ وبني مروان، آثروا العاجلةَ على الآجِلة، والدارَ الفانيةَ على الدارِ الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارِم، وغَشُوا الجرائم، وجاروا في سيرَتِهم في العباد، وسُنَّتِهم في البلادِ التي بها استلذُّوا تسَرْبُلَ الأوزار، وتجَلْبُبَ الآصار، ومرَحُوا في أعِنَّةِ المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلًا منهم باستدراجِ اللَّه، وعُميًا عن أخذِ اللَّه، وأمنًا لِمَكْرِ اللَّه، فأتاهم بأسُ اللَّه بياتًا وهُمْ نائمون، فأصبحوا أحاديثَ ومُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق؛ فبُعدًا للقوم الظالمين، وأدالنَا اللّهُ من مروان

(1)

، وقد غَرَّهُ باللّهِ الغَرور، أرسلَ عدوُّ اللَّه في عِنَانه، حتَّى عَثَرَ جوادُهُ في فَضْلِ خِطَامِه، أظنَّ عدوُّ الله أنْ لن يَقِدرَ عليه أحَد؛ فنادَى حزبَه، وجمعَ مكايدَة

(2)

، ورمَى بكتائبه

(3)

، فوجَدَ أمامَهُ ووراءَهُ وعن يمينِه وعن شمَالِه، ومن فوقِهِ ومن تحتِه من مكرِ اللَّه وبأسِهِ ونِقمتِه ما أماتَ باطلَه، ومَحَق ضلالَه، وأحلَّ دائرَةَ السَّوْءَ به، وأحيا شرفَنا وعزَّنا، وردَّ إلينا حقَّنا وإرْثَنا. أيُّها الناس، إنَّ أميرَ المؤمنين نصرَهُ اللَّه نصرًا عزيزًا، إنما غادَ إلى المنبرِ بعدَ صلاةِ الجمعة لأنه كَرِه أن يخلِطَ بكلامِ الجُمعةِ غيرَه، وإنما قطعَهُ عن استتمامِ الكلام شدَّةُ الوَعْك، فادْعوا اللّهَ لأميرِ المؤمنين بالعافية، فقد أبَدَلَكم الله بمروانَ عدوِّ الرحمن، وخليفةِ الشيطان، المتَّبعِ للسِّفْلَةِ الذين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون، المتوكِّلَ على اللَّه، المقتدي بالأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرضَ بعدَ فسادِها بمعالمِ الهدى ومناهجِ التَّقوى. قال: فعَجَّ الناسُ له بالدُّعاءَ ثم قال: واعلموا يا أهل الكوفةِ، أنه لم يصعَدْ مِنبرَكم هذا خليفةٌ بعد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَّا أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وأميرُ المؤمنين هذا - وأشارَ بيده إلى السفَّاح - واعلموا أنَّ هذا الأمرَ فينا ليس بخارجٍ عنا حتَّى نُسْلِمَهُ إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والحمدُ للّه ربّ العالمين على ما أبلانا وأولانا

(4)

.

ثم نزل أبو العباس وداود حتَّى دخلا القصر، ثم دخلَ الناسُ يُبايعون إلى العَصْر، ثم من بعدِ العصر إلى الليل، ثم إنَّ أبا العباس خرج فعسكَرَ بظاهرِ الكوفة، واستخلَفَ عليها عمَّهُ داود بن علي، وبعث عمَّه عبدَ اللَّه بنَ علي إلى ابنِ عَوْن بن أبي يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسنِ بن قَحْطَبة، وهو يومئذٍ بواسط يُحاصرُ ابنَ هُبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى حُميد بن قَحْطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمةَ بنَ عمرو بن عثمان إلى مالِكِ بنِ الطواف، وأقام هو بالعسكر أشهرًا؛ ثم ارتحل

(1)

يقال: أدالَ اللّهُ زيدًا من عمرو - مجازًا -: نَزَع اللَّه الدولة من عمرٍو فآتاها زيدًا. الفائق للزمخشري (1/ 446).

(2)

في (ق): "وجمع جنده"، والمثبت من (ب، ح)، وتاريخ الطبري.

(3)

في (ب، ح): "ورمى بكنانته".

(4)

خطبة السفاح وعمه في تاريخ الطبري (4/ 346 - 348) بنحوه.

ص: 263

فنزل المدينةَ الهاشميةَ في قصرِ الإمارة وقد تنكَّر لأبي سلمةَ الخلَّال، وذلك لمَا كان بلَغَهُ عنه من العُدول بالخلافة عن ابن عباس إلى آلِ عليِّ بن أبي طالب؛ واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

‌ذكرُ مَقْتَلِ مروانَ بنِ محمد بن مروان

آخرِ خلفاء بني أمية، وتحوُّل الخلافةِ إلى بني العباس.

وذلك من قولِه تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك} [آل عمران: 26] الآية، وقد ذكَرْنا أنَّ مروان لَمَّا بلغَهُ خبرُ أبي مسلم وأتباعِه، وما جرَى بأرضِ خُراسان تحوَّلَ من حَرَّان، فنزل على نهرٍ قريبٍ من المَوْصل يقالُ له الزَّاب من أرضِ الجزيرة، ثم أبلغَهُ أنَّ السفَّاحَ قد بُويع له بالكوفة، والتفَّ عليه الجنود، واجتمع له أمرُه اشتدَّ عليه ذلك جدًّا، وجمع جنودَهُ، فتقدَّم إليه أبو عَون بن أبي يزيد في جيشٍ كثيف وهو أحدُ أمراص السفَّاح، فنازلهُ على الزَّاب، وجاءتْه الأمدادُ من جهةِ السفَّاح، ثم ندَبَ السفاحُ الناسَ ممن يلي القتال من أهل بيتِه، فانتدَبَ له عبدَ اللَّه بن علي، فقال: سِرْ على بركةِ الله. فسار في جنوب كثيرة، فقَدِم على أبي عَوْن، فتحوَّل له أبو عَون عن سُرَادِقِه، وخلَّاه لَهُ وما فيه؛ وجعل عبدُ اللَّه بن علي على شُرْطَتِه حَيَّاشَ بنَ حبيب الطائي، ونَصيرَ بن الْمُحْتَفِز، ووجَّه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلًا على البريد إلى عبدِ الله بن علي، يحُثُّهُ على مناجزَةِ مروان، والمبادرةِ إلى قتالهِ ونِزالِهِ قبلَ أن تحدُثَ أمورٌ، وتبردَ نيرانُ الحرب. فتقدَّمَ عبدُ الله بن علي بجنودِه حتَّى واجه جيشَ مروان، ونهض مروانُ في جنودِه، وتصافَّ الفريقانِ في أول النهار.

ويقال إنه كان مع مروان يومئذِ مئةُ ألفٍ وخمسون ألفًا. ويقال: مئةٌ وعشرون ألفًا. وكان عبدُ اللَّه بن علي في عشرين ألفًا، فقال مروانُ لعبدِ العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إنْ زالتِ الشمسُ يومئذٍ ولم يقاتلونا كنَّا نحنُ الذين ندفَعُها إلى عيسى ابنِ مريم، وإنْ قاتلونا قبل الزوال فإنَّا للّه وإنَا إليه راجعون.

ثم أرسل مروانُ إلى عبدِ اللَّه بن علي يسألُهُ المُوادَعةَ. فقال عبدُ اللَّه: كذَبَ ابنُ زُرَيق، لا تزولُ الشمسُ حتَّى أوطئَهُ الخيلَ إِن شاء الله. وكان ذلك يوم السبت لإحدى عشرةَ ليلةً خلَتْ من جُمادى الآخرة من هذه السنة، فقال مروان لأهلِ الشام: قفوا، لا تبتدئوهُمْ بقتال. وجعل ينظرُ إلى الشمس، فخالفهُ الوليدُ بن معاويةَ بنِ مروان - وهو خَتنُ مروانَ على ابنتِه - فحمَل، فغَضِبَ مروانُ فشتمَه فقاتَلَ أهلُ الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبدِ اللَّه بنِ علي، فقاتل موسى بن كعب لعبدِ اللَّه بن علي، فأمر الناسَ فنَزلوا، ونُودي: الأرضَ الأرض. فنَزلوا وأشرعوا الرماحَ وجثَوْا على الرُّكَب، وقاتلوهم، وجعل أهلُ الشامِ يتأخَّرون، كأنما يُدفعون، وجعل عبدُ اللَّه يمشي قُدُمًا، وجعل يقول: يا ربّ، حتَّى متى نُقتلُ فيك؛ ونادَى: يا أهلَ خُراسان، يا ثاراتِ إبراهيمَ الأمام، يا محمد، يا منصور. واشتدَّ القتالُ جدًّا بين

ص: 264

الناس، فلا تَسْمعُ إلَّا وقعًا كالمرازب

(1)

على النحاس، فأرسل مروانُ إلى قُضاعةَ يأمرُهم بالنُّزول، فقالوا: قُلْ لبني سُليم فَلْيَنزلوا. وأرسلَ إلى السَّكَاسِكِ أن احْمِلوا، فقالوا: قُلْ لبني عامرٍ أنْ يحملوا. فأرسل إلى السَّكونِ أن احْمِلوا، فقالوا: قُلْ إلى غَطَفانَ فَلْيحملوا. فقال لصاحبِ شُرْطتِه: انزِلْ. فقال: لا واللّهِ لا أجعلُ نفسي غَرَضًا. قال: أمَا واللّهِ لأسوءَنَّك. قال: وَدِدْتُ لو قدَرْت على ذلك.

ويُقال: إنه قال ذلك لابنِ هُبَيرة. قالوا: ثم انهزَمَ أهلُ الشام، واتبعَتْهُمْ أهلُ خُرَاسانَ في أدبارِهم يقتلون ويأسِرون، وكان منْ غَرِقَ من أهل الشَّام أكثَر ممَّنْ قُتل؛ وكان في جُملةِ منْ غَرِق إبراهيمُ بن الوليد بن عبدِ الملك المخلوع، وقد أمرَ عبدُ اللَّه بنُ علي بعَقْدِ الجِسْر، واستخرَجَ منْ غَرِف في الماء، وجعلَ يتلو قولهُ تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50] وأقام عبدُ اللَّه بن علي في موضعِ المعركهَ سبعةَ أيام، وقد قال رجلٌ من ولَدِ سعيدِ بنِ العاص في مروانَ وفِرَاره يومئذٍ:

لَجَّ الفِرَارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ .... عادَ الظَّلُومُ ظَليمًا همُّهُ الهَرَبُ

أين الفِرَارُ وتَرْكُ الملكِ إذْ ذهبَتْ ..... عنك الهُوَيْنا فلا دينٌ ولا حسَبُ

فراشة الحِلْم فِرْعون العقاب وإنْ ..... تطلبْ نَدَاهُ فكلبٌ دونَهُ كَلَب

(2)

واحتاز عبدُ الله ما في مُعَسْكرِ مروان من الأموالِ والأمتعةِ والحواصل، ولم يجد فيه امرأةً سوى جاريةٍ كانتْ لعبدِ الله بن مروان. وكتب إلى أبي العباس السفاح بما فتحَ اللَّه عليه من النصر، وما حَصَلَ لهم من الأموال، فصلَّى السفَّاحُ ركعتَيْنِ شكرًا للهِ عز وجل، وأطلقَ لكلِّ من حضرَ الوقعة خمسَ مئةٍ خمسَ مئة، ورفعَ في أرزاقِهم إلى ثمانين، وجعل يَتْلو قوله:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249]. الآية.

‌صِعفَةُ مَقْتلِ مَرْوان الحمار

ويقال له الجَعْدي، لأنه تأدَّب على الجَعْدِ بنِ درهم، وهو آخرُ خلفاء بني أمية:

لَمَّا انهزمَ مروانُ سارَ لا يَلْوي على أحد، فأقامَ عبدُ اللَّه بن علي في مكانِ المعركةِ سبعةَ أيام، ثم سار خلفَهُ بمنْ معَهُ من الجنود، وذلك عن أمرِ السَّفَّاح له بذلك، فلمَّا مَرَّ مروانُ بحَرَّانَ اجتازَها، وأخرجَ أبا محمدٍ السفيانيَّ من سِجنِه، واستخلف عليها أبانَ بنَ يزيد - وهو ابنُ أُختِه وزوجُ ابنتِه أم عثمان - فلمَّا قَدِمَ عبدُ الله على حَرَّان خرَجَ إليه أبانُ بنُ يزيد مُسودًا فأمَّنَه عبدُ الله بن علي، وأقرَّهُ على عملِه، وهدَمَ الدارَ التي سُجنَ فيها إبراهيم الإمام، واجتازَ مروانُ قِنَّسرِينَ قاصدًا حِمص، فلمَّا جاءها خرج إليه أهلُها

(1)

المرازب: جمع مِرْزَبَة، وهي المطرقة الكبيرة تكون للحدّاد. لسان العرب (رزب).

(2)

الأبيات والخبر في تاريخ الطبري 4/ 351 والكامل في التاريخ (5/ 71).

ص: 265

بالأسواق والمعايش

(1)

، فأقام بها يومَيْنِ أو ثلاثة، ثم شَخَصَ منها، فلمَّا رأى أهلُ حمصَ قلَّةَ منْ معَه اتَّبَعوهُ لِيَقتُلوه، طمعًا فيه وقالوا: مَرْعُوبٌ مهزوم. فأدركوهُ بوَادٍ عندَ حِمْص، فأكمَنَ لهم أميرَيْن، فلما تلاحقوا بِمَرْوان عَطَفَ عليهم فأنشَدَهُمْ أنْ يَرْجِعوا، فأبَوا إلَّا مقاتَلَته، فثارَ القتالُ بينهم وثارَ الكَمينان من ورائهم، فانهزم الحِمْصيُّون، وجاء مروانُ إلى دمشق وعلى نيابتِها من جهتِه زوجُ ابنتِهِ الوليدُ بن معاويةَ بنِ مروان، فترَكهُ بها واجتاز عنها قاصدًا إلى الديارِ المِصْريَّة، وجعل عبدُ اللَّه بنُ علي لا يَمرُّ ببلدٍ إِلَّا خرجوا إليه وقد سوَّدُوا، فيُبايعونه ويعطيهمُ الأمان، ولما وصل إلى قِنَّسْرينَ وصل إليه أخوهُ عبدُ الصمد بنُ علي في أربعةِ آلاف، وفد بعثهمُ السفاح مددًا له؛ ثم سار عبدُ اللَّه حتَّى أتى حمصَ، ثم سار منها إلى بَعْلَبَكّ، ثم منها حتَّى أتى دمشق من ناحيةِ الْمِزَّة، فنزل بها يومين أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددًا من السفاح، فنزل صالحٌ بِمَرْجِ عَذْراء، ولما جاء عبدُ اللَّه بنُ علي دمشقَ نزلَ على البابِ الشرقي، ونزَلَ صالحٌ أخوه على بابِ الجابية، ونزل أبو عَوْن على بابِ كَيْسان، على الباب الصَّغِير، وحُمَيْد بن قَحْطَبة على باب تُوما. وعبدُ الصمد وَيحيى بنُ صفوان والعباسُ بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرَها أيامًا ثم افتتَحَها يومَ الأربعاء لعشرٍ خلَوْنَ من رمضان هذه السَّنَة، فقتَلَ مِنْ أهلها خلفًا كثيرًا وأباحَها ثلاثَ ساعاتٍ وهَدَمَ سُورَها. ويُقال إنَّ أهلَ دمشقَ لما حاصرهم عبدُ اللَّه اختلفوا فيما بينهم ما بين عباسيٍّ وأُمويّ، فاقتتلوا، فقتَلَ بعضُهم بعضًا، وقتلوا نائبَهم، ثم سلَّموا البلد، وكان أولَ منْ صَعِدَ السُّور من ناحيةِ البابِ الشرقي رجلٌ يُقال له عبدُ الله الطائي، ومن ناحيةِ البابِ الصغير بسَّامُ بن إبراهيم. ثم أُبيحَتْ دمشقُ ثلاثَ ساعاتٍ حتَّى قيل: إنه قُتل بِها في هذه المُدَّة نحوٌ من خمسين ألفًا.

وذكر ابنُ عساكر في ترجمة عبيد بن الحسن الأعرج

(2)

من ولدِ جعفر بن أبي طالب، وكان أميرًا على خمسةِ آلافٍ مع عبد اللَّه بن علي في حصارِ دمشق، أنَّهم أقاموا محاصريها خمسةَ أشهر، وقيل مئةَ يوم، وقيل شهرًا ونصفًا، وأنَّ البلد كان قد حصَّنهُ نائبُ مروان تحصينًا عظيمًا، ولكن اختلف أهلُها فيما بينهم بسبب اليمانية والمُضَريَّة؛ وكان ذلك بسبب الفتح، حتَّى إنهم جعلوا في كلِّ مسجدٍ مِحْرابَيْن للقِبْلَتَيْن، حتَّى في المسجدِ الجامع منبرَيْن، وإمامَينِ يَخطُبانِ يومَ الجُمعة على المنبرَيْن. وهذا من عَجيبِ ما وقَع، وغَريب ما اتّفق، وفَظيعِ ما أُحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية نسأل الله السلامة والعافية. وقد بسط ذلك ابنُ عساكر في هذه الترجمة المذكور

(3)

.

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 353): "بالأسواق وبالسمع والطاعة".

(2)

انظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (37/ 423 - 425).

(3)

قال ابن عساكر في تاريخه: (37/ 425) بعد سياقه هذه الأخبار بإسناده: هذا منقطع، والواقدي ضعيف، والمدائني شيعي متهم. اهـ.

ص: 266

وذكر رحمه الله في ترجمة محمد بن سليمان بن عبد اللَّه النَّوفَليّ قال

(1)

: كنتُ مع عبدِ الله بن عليّ أولَ ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتلَ فيها ثلاثَ ساعات، وجعل جامعَها سبعينَ يومًا إسطبلًا لدوابِّه وجمَاله، ثم نَبشَ قبورَ بني أمية، فلم يَجدْ في قبرِ مُعاوية إلَّا خيطًا أسودَ مثلَ الهَبَاء، ونَبشَ قبرَ عبدِ الملك بنِ مروان، فوجَدَ جُمْجُمتَه، وكان يجدُ في القبر العُضْوَ بعدَ العُضو، إلَّا هشامَ بنَ عبدِ الملك فإنَّه وجدَهُ صحيحًا لم يَبْلَ منه غيرُ أرنبةِ أنفِه، فضَرَبه بالسِّيَاطِ وهو ميت، وصلَبَهُ أيامًا ثم أحرَقَهُ ودَقَّ رمادَهُ ثم ذرَّهُ في الرّيح، وذلك أنَّ هشامًا كان قد ضرَبَ أخاهُ محمد بن عليٍّ حينَ كان قد اتُّهم بقتلِ ولدٍ له صغير سبعَ مئةِ سَوْط ثم نَفَاهُ إلى الحُمَيْمةِ بالبَلْقاء

(2)

.

قال: ثم تتبعَّ عبدُ اللَّه بن علي بني أمية من أولادِ الخلفاءَ وغيرِهم، فقتَل منهم في يومٍ واحدٍ اثنينِ وتسعين ألفًا عندَ نهرٍ بالرَّمْلة، وبسَطَ عليهمُ الأنطاع، ومدَّ عليهم سماطًا، فأكلَ وهم يَختلجون تحتَه. وهذا من الجَبَروتِ والظُّلم الذي يُجازيهِ اللَّه عليه؛ وقد مَضى ولم يَدُمْ لهُ ما أرادَهُ ورَجاه - كما سيأتي في ترجمته - وأرسل امرأةَ هشامِ بنِ عبدِ الملك وهي عبدةُ بنت عبد اللَّه بن يزيدَ بنِ معاوية، صاحبةُ الخال مع نفرٍ من الخُراسانيَّة إلى البرِّيَّة ماشيةً حافية حاسرةً [عن وَجْهها وجسدها وثيابها]، أتَوْا بها ثم قتلوها، ثم أُحرق ما وُجِدَ منْ عَظْم ميتٍ منهم، وأقام بها عبدُ اللَّه خمسةَ عشر يومًا.

وقد استدَعى بالأوزاعي، فأُوقفَ بين يديه، فقال له: يا أبا عمرو، ما تقولُ في هذا الذي صنعناه؟ قال: فقلتُ له لا أدري، غيرَ أنه قد حدَّثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمالُ بالنيات" .. فذكر الحديث. قال الأوزاعي: وانتظرتُ رأسيَ أنْ يسقُطَ بين رِجْليّ، ثم أُخرجتُ، وبَعَث لي بمئةِ دينار، ثم سارَ وراءَ مروان، فنزل على نَهرِ الكُسوة

(3)

ووجَّه يحيى بن جعفر الهاشميَّ نائبًا على دمشق، ثم سار وارتحلَ إلى الأُرْدُنّ، فأتَوْه وقد سَوَّدوا. ثم سار إلى بَيْسان، ثم سار فنَزل مَرْج الرُّوم، ثم أتَى نَهْرَ أبي فُطْرُس

(4)

(1)

تاريخ مدينة دمشق (53/ 127).

(2)

انظر التعريف بالحُميمة ص (33) حاشية (6).

(3)

الكُسْوة: قريةٌ هي أولُ منْزِلٍ تَنْزلُه القوافلُ إذا خرَجَتْ من دمشق إلى مصر. قال الحافظ أبو القاسم: وبلغني أنَّ الكُسوة إنّما سُمِّيتْ بذلك لأنَّ غسانَ قتلَتْ بها رُسُلَ ملكِ الرّوم لمّا أتَوْا إليهم لأخذِ الجِزْيَةِ منهم. واقتسمتْ كسوتهم. معجم البلدان (4/ 461).

(4)

نهر أبي فُطْرس - بضم الفاء وسكون الطاء وضم الراء وسين مهملة -: موضعٌ قُرْبَ الرَّمْلَة من أرضِ فلسطين. قال المهلَّبي: على اثني عشرَ ميلًا من الرَّمْلَة، في سَمْتِ الشَّمَال نهرُ أبي فُطْرُس، ومَخْرَجُه من أعْيُنٍ في الجبلِ المتَّصِل بنابُلُس، ويَنْصبّ في البحرِ الملح بين يدي مدينتي أرسوف ويافا. به كانت وقعةُ عبدِ اللَّه بن علي بنِ عبدِ اللَّه بن العباس مع بني أمية فقتَلَهم في سنة. معجم البلدان (5/ 315).

ص: 267

فوجد مروانَ قد هرَب، فدخل مصرَ وجاءَهُ كتابُ السَّفَّاح ابعثْ صالحَ بنَ عليٍّ في طلَبِ مَرْوان، وأقِمْ أنتَ في الشام نائبًا عليها، فسار صالحُ بن عليٍّ يطلبُ مروانَ في ذي القَعْدةِ من هذه السنة ومعه أبو عَوْن وعامر بن إسماعيل، فَنزلَ على ساحلِ البحر، وجَمع ما هناك من السُّفُن، وبلغَهُ أن مروانَ قد نَزلَ الفَرَما

(1)

وقيل الفَيُّوم، فجعلَ يسيرُ على الساحل والسُّفُنُ تُقادُ معه في البحر حتَّى أتى العَريش، ثم سار حتَّى نزلَ على النِّيل، ثم سار إلى الصَّعِيد، فعبرَ مروانُ النِّيل، وقطعَ الجِسرَ، وحرق ما حَوْلَهُ من العَلَفِ والطعام، ومَضَى صالحٌ في طَلَبه فالتقَى بخيل لِمروان، فهزَمَهم، ثم جعل كلَّما التَقَوْا مع خيل لِمروانَ يَهْزمُونَهم حتَّى سألوا بعضَ منْ أسرُوا عن مروان، فدلُّوهم عليه، وإذا به في كَنِيسَةِ بُوصير

(2)

فوافَوْهُ من آخرِ الليل، فانهزم منْ معهُ من الجُند، وخرج إليهم مروانُ في نَفَر يَسيرٍ معَه، فأحاطوا به حتَّى قتلوهُ، طَعَنهُ رجلٌ من أهلِ البصرةِ يُقالُ له مُعَوِّذ ولا يَعرِفُه، حتَّى قال رجلٌ: صُرع أمير المؤمنين. فابتدرَهُ رجلٌ من أهلِ الكوفة كان يَبيع الرمان، فاحتزَّ رأسَه، فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السريَّة إلى أبي عَوْن، فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي، فبعث به صالح مع رجل يقال له خُزيمة بن يزيد بن هانئ، كان على شرطته لأميرِ المؤمنين السفَّاح.

وكان مقتلُ مروانَ يومَ الأحد لثلاثٍ بَقينَ من ذي الحجَّة، وقيل يوم الخميس لستٍّ مَضَيْنَ منها سنةَ ثِنتَيْنِ وثلاثين ومئة، وكانت خلافتُه خمسَ سِنين وعشرةَ أشهر وعشبرةَ أيام على المشهور. واختلفوا في سنه، فقيل أربعون سنة، وقيل ست، وقيل ثمان وخمسون سنة، وقيل ستون، وقيل اثنتان، وقيل ثلاثٌ، وقيل تسعٌ وستون سنة، وقيل ثمانون، والله أعلم.

ثم إنَّ صالح بنَ عليٍّ سارَ إلى الشام، واستخلفَ على مصر أبا عَوْن بنَ أبي يزيد، والله سبحانه أعلم.

وهذا شيءٌ من ترجمةِ مروانَ الحمار، وهو:

‌مروان بن محمد

ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي

(3)

أبو عبد الملك، أميرُ المؤمنين، آخرُ

(1)

الفَرَما: مدينةٌ على الساحل من ناحية مصر. وقال الحسن بن محمد المهلبي: الفَرَما حصن على ضفة البحر لطيف. انظر معجم البلدان (4/ 255).

(2)

بوصِير - بكسر الصاد وياء ساكنة وراء -: اسمٌ لأربعَ قُرًى بمصر، بوصير قوريدس، وقال الحسن بن إبراهيم بن زولاق: بها قُتل مروان بن محمد بن مروان بن الحَكم الذي به انقرض ملكُ بني أمية وهو المعروف بالحمار والجعدي، قُتل بها لسبعٍ بَقينَ من ذي الحجة سنة (132). وقال أبو عمر الكِنْدي: قُتل مروان ببُوصير من كورةِ الأشمونين. انظر معجم البلدان (1/ 509).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 237)، تاريخ خليفة (403 - 409)، تاريخ الطبري (4/ 280) وما بعدها، =

ص: 268

خلفاءِ بني أمية، وأمُّهُ أمَةٌ كُرْديَّة يُقال لها لُبَابَة، وكانت لإبراهيمَ بنِ الأشتر النَّخَعي، أخذها محمد بن مروان يومَ قتلَه، فاستولدَها مروانَ هذا. ويُقال: إنها كانتْ أولًا لِمُصعَب بنِ الزُّبير، وقد كانتْ دارُ مروانَ هذا في سوق الأكَّافين. قاله ابنُ عساكر

(1)

.

بُويع له بالخلافة بعد قتلِ الوليدِ بنِ يزيد، وبعد موتِ يزيدَ بنِ الوليد، ثم قَدِمَ دمشق وخلَعَ إبراهيم بن الوليد، واستتبَّ لهُ الأمر في نصفِ صفر، سنةَ سبعٍ وعشرين ومئة.

وقال أبو معشر: بُويع بالخلافة في ربيع الأول سنةَ تسبعٍ وعشرين ومئة، وكان يُقال له مروان الجَعْدِي نسبةً إلى رأي الجَعدِ بنِ دِرْهَم، وتلقَّبَ بالحمار، وهو آخرُ منْ ملَكَ من بني أمية. وكانت خلافتُهُ منذُ سلمَ إليه إبراهيمَ بن الوليد إلى أن بويع السفَّاح خمسَ سنين وعشرةَ أشهرٍ وعشرةَ أيَّام وقيل خمس سنين وشهرًا. وبَقيَ بعدَ أن بُويع للسَّفاح تسعةَ أشهر. وكانَ أبيضَ مُشربًا بالحُمرة، أزرقَ العينَيْن، كبيرَ اللِّحْية، ضخمَ الهامة، رَبْعَةً، ولم يكن يَخْضب. ولَّاهُ هشامٌ نيابةَ أذْرَبيجانَ وإرْمينيَةَ، والجزيرة في سنةِ أربعَ عشرةَ ومئة، ففتح بلادًا كثيرةً وحُصونًا متعددةً في سنينَ كثيرة، وكان لا يُفارقُ الغزوَ في سبيلِ اللَّه، وقاتَلَ طوائفَ من الناس الكفارِ ومن التُّرْكِ والخَزَرِ واللَّان وغيرِهم، فكسرَهم وقهرَهم؛ وقد كان شُجاعًا بطَلًا مِقْدامًا، حازمَ الرأي، لولا أنَّ جُندَهُ خَذَلوه بتقديرِ اللَّه عز وجل، لِمَا لَهُ من ذلك من حكمةِ سَلْبِ الخلافة، لِشجاعتِهِ وصرامَتِه؛ ولكنْ منْ يَخْذِلِ اللَّه يُخْذَلْ، ومنْ يُهنِ اللَّه فما لَهُ من مُكْرِم.

قال الزُّبَير بن بَكَّار عن عَمِّهِ مُصعب بن عبد اللَّه: كان بنو أمية يرَوْنَ أنَّهُ تذهَبُ منهمُ الخلافةُ إذا وَليها مَنْ أُمُّهُ أمَة؛ فلمَّا وَليها مروانُ هذا أُخِذَتْ منهم في سنةِ ثنتين وثلاثين ومئة.

وقد قال الحافظُ ابن عساكر

(2)

: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسن، أخبرنا سهل بن بشر، أنبأ الخليل بن هبة اللَّه بن الخليل، أنبا عبد الوهاب الكلابي، حَدَّثَنَا أبو الجهم أحمد بن الحسين، أنبأ العباس بن الوليد بن صبح، حَدَّثَنَا عباس بن نجيح

(3)

أبو الحارث، حدثني الهيثم بن حُميد، حدثني راشد بن داود، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ الخِلافةُ في بني أمية يتلَقَّفُونَها تلَقُّفَ الغِلمانِ الكُرَة، فإذا خرجتْ من أيديهِمْ فلا خيرَ في عيش".

هكذا أورده ابنُ عساكر وسكت عليه، وهو منكرٌ جدًّا، وقد سأل الرشيدُ أبا بكر بن عيَّاش: خيرُ

= و (4/ 353) وما بعدها، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (57/ 319)، الكامل (5/ 4) وما بعدها، سير أعلام النبلاء (6/ 74)، مآثر الإنافة (1/ 162).

(1)

في تاريخ مدينة دمشق (57/ 320).

(2)

في تاريخ مدينة دمشق (57/ 331، 330).

(3)

في بعض النسخ: "يحيى"، وهو تحريف. وهو العباس بن عبد الرحمن بن الوليد بن نجيح الدمشقي. وانظر ترجمته في الجرح والتعديل 6/ 211، وتاريخ دمشق 26/ 272.

ص: 269

الخلفاءِ نحنُ أو بنو أُميَّة؟ فقال: هم كانوا أنفعَ للناس، وأنتم أقومُ للصلاة. فأعطاهُ ستةَ آلاف.

قالوا: وقد كان مروانُ هذا كثيرَ المروءة، كثيرَ العَجَب، يُعجبهُ اللَّهْوُ والطرَب، ولكنَّهُ كان يشتغلُ عن ذلك بالحرب.

قال ابنُ عساكر

(1)

: قرأت بخط أبي الحسن عليِّ بن مقلد بن نصر بن مُنقِذ ابن الأمير، في مجموعٍ له: كتب مروانُ بنُ محمد إلى جاريةٍ لهُ ترَكَها بالرَّمْلةِ عندَ ذهابهِ إلى مصرَ منهزمًا:

وما زال يدعوني إلى الصبرِ ما أرى

فآبى ويُدنِيني الذي لكِ في صَدْري

وكان عزيزًا أنْ تَبيتي وبيننا .... حِجَابٌ فقد أمسَيْتِ منِّي على عَشْرِ

وأنكاهما واللّهِ للقلبِ فاعلمي

إذا زدتِ مِثلَيْها فَصِرت على شهرِ

وأعظمُ من هذينِ واللّهِ أنَّني .... أخافُ بأنْ لا نلتقي آخرَ الدَّهْرِ

سأبكيكِ لا مُستبقيًا فيضَ عَبْرةٍ

ولا طالبًا بالصبرِ عاقبةَ الصَّبرِ

وقال بعضُهم: اجتاز مروانُ وهو هاربٌ براهب، فاطَّلَعَ عليه الراهب، فسلَّمَ عليه، فقال له: يا راهب، هل عندك علمٌ بالزمان؟ قال: نعم، عندي مِن تَلَوُّنِهِ ألوان. قال: هل تبلغُ الدنيا من الإنسانِ أنْ تجعلَهُ مملوكًا بعدَ أنْ كان مالِكًا؟ قال: نعم. قال: فكيف؟ قال: بِحُبِّهِ لهَا وحِرْصِهِ على نَيْلِ شهواتها، وتَضْييعِ الحَزْمِ، وتَرْكِ انتهازِ الفُرَص؛ فإنْ كنتَ تُحبُّها فإنَّ عبدَها منْ أحبَّها. قال: فما السبيلُ إلى العَتق؛ قال: بِبُغضها والتجافي عنها. قال: هذا ما لا يكون. قال الراهب: أمَا إنَّه سيكون، فبادرْ بالهرَبِ منها قبلَ أنْ تُسلبَها. قال: هل تعرفُني؟ قال: نعم. أنت مَلِكُ العَرَب مروان، تُقتلُ في بلاد السُّودان، وتُدفنُ بلا أكفان. فلولا أنَّ الموتَ في طلبك لدَلَلْتُكَ على مَوْضعِ هَرَبِك.

قال بعض الناس: كان يُقال في ذلك الزمان: يَقْتُل ع بن ع بن ع [بن ع] م بن م بن م. يَعْنُونَ يَقْتُلُ عبدُ اللَّه بنُ عليِّ [بن عبد اللَّه] بنِ عباس مروانَ بنَ محمدِ بنِ مروان.

وقال بعضُهم: جلس مروانُ يومًا وقد أُحيطَ به، وعلى رأسِهِ خادمٌ قائمٌ فقال مروانُ لبعضِ مَنْ يُخاطِبُه: ألا ترى ما نحنُ فيه، لَهْفِي على يدٍ ما ذُكرَتْ، ونعمةٍ ما شُكرت، ودولةٍ ما نُصرَتْ. فقال له الخادم: يا أميرَ المؤمنين، من ترَكَ القليلَ حتَّى يَكْثُر، والصغيرَ حتَّى يَكْبَر، والخَفِيَّ حتَّى يظهرَ، وأخَّرَ فعلَ اليومِ لغَدٍ حَلَّ بِهِ أكثرُ مِنْ هذا، فقال مروان: هذا القولُ أشدُّ عليَّ مِنْ فَقْدِ الخِلافة.

وقد قيل: إنَّ مروانَ قُتل يومَ الإثنين، لثلاثَ عشرةَ خلَتْ من ذي الحِجَّة سنة ثنتين وثلاثين ومئة، وقد جاوز السِّتِّينَ وبلَغَ الثمانين. وقيل: إنما عاش أربعينَ سنةً. والصحيحُ الأول، وكانتْ خِلافتُه خمسَ سنين وكسرًا. وهو أخِرُ خلفاءِ بني أمية، به انقضَتْ دولتُهم.

(1)

في تاريخ مدينة دمشق (57/ 337).

ص: 270

‌ذكرُ ما ورد في انقضاءِ دولةِ بني أمية وابتداءِ بني العباس من الأخبار النبويَّة وغيرها

قال العلاءُ بنُ عبدِ الرحمن عن أبيه. عن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا بَلَغَ بنو [أبي] العاص أربعين رجلًا اتخذوا دينَ اللّهِ دَغَلًا، وعبادَ اللَّه خَوَلًا، ومالَ اللّهِ دُوَلًا

(1)

".

ورواهُ الأعمش عن عَطيّة، عن أبي سعيد مرفوعًا بنحوِهِ

(2)

. وروى ابنُ لَهِيعةَ عن أبي قَبِيل، عن ابن وَهْبٍ أنَّه كان عندَ معاوية، فدخل عليه مروانُ بنُ الحكم، فتكلَّم في حاجة، فقال: اقضِ حاجتي، فإنِّي لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعمُّ عشرة. فلما أدبرَ مروانُ قال معاويةُ لابنِ عباس وهو معه على السرير: أما تعلَمُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلًا اتَّخذوا مالَ اللّهِ بينهم دُوَلًا، وعبادَ اللّهِ خَوَلًا، وكتابَ اللّهِ دَغَلًا، فإذا بلغوا سبعةً وتسعين وأربع مئة كان هلاكُهُمْ أسرعَ من لَوْكِ تَمْرَة"؟ فقال ابنُ عباس: اللهمَّ نعم. فلما أدبرَ عبد الملك

(3)

قال معاوية: أنْشُدُكَ بالله يا بن عباس، أما تعلَمُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ هذا، فقال:"أبو الجبابرة الأربعة"؟ فقال ابنُ عباس: اللهّمَ نعم.

وقال أبو داود الطيالسي

(4)

: حَدَّثَنَا القاسم بن الفضل، حَدَّثَنَا يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجلٌ إلى الحسن بن علي فقال: يا مسوِّدَ وجوهِ المؤمنين. فقال الحسن: لا تؤنِّبْنِي - رحمك الله - فإنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى بني أميةَ يَخطُبون على مِنبرِهِ رجلًا رجلًا فساءهُ ذلك، فَنزلتْ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وهو نهرٌ في الجنة، ونَزلَتْ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} السورة إلى قوله:{خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] مملكة بني أمية. قال: فحَسَبْنَا ذلك، فإذا هو كما قال، لا يَزِيدُ ولا يَنْقُص.

وقد رواه الترمذي

(5)

عن محمود بن غَيلان، عن أبي داود الطيالسي، ثم قال: غريبٌ لا نعرِفُهُ إِلَّا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة، وثَّقَهُ يحيى القطَّان وابنُ مهدي. قال: وشيخُه يوسف بن سعد - ويقال: يوسف بن مازن - رجلٌ مجهول، ولا نعرفُ [هذا الحديث] بهذا اللفظ إلَّا من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم في مستدركه

(6)

من حديث القاسم بن الفضل الحُدَّاني. وقد تكلَّمتُ على نكارةِ هذا

(1)

حديث أبي هريرة رواه البيهقيّ في دلائل النبوة 6/ 507 هكذا مرفوعًا، ورواه أبو يعلى في مسنده (6523) من قول أبي هريرة موقوفًا (بشار).

(2)

حديث أبي سعيد الخدري نقله المؤلف من دلائل النبوة للبيهقي 6/ 507. وقد أخرجه أحمد في المسند 3/ 80 وأبو يعلى في مسنده (1152)، والحاكم في المستدرك، وإسناده ضعيف.

(3)

في بعض النسخ: "مروان" وما أثبتناه موافق لما في دلائل النبوة، وهو الذي يدل عليه السياق.

(4)

نقله المؤلف من دلائل النبوة للبيهقي 6/ 509 - 510.

(5)

في سننه (5/ 444)(3350) في التفسير: باب ومن سورة القدر، وإسناده ضعيف.

(6)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 186)(4796) وإسناده ضعيف.

ص: 271

الحديث في التفسير

(1)

بكلامٍ مبسوط وللّه الحمدُ والمِنَّة، وإنما يكونُ متجهًا إذا قيل إنَّ دولَتهم ألف شهر بأن نُسقط منها أيامَ عبدِ اللَّه بن الزُّبير، وذلك أنَّ معاويةَ بُويع له مستقلًا بالمُلك في سنةِ أربعين، وهي عامُ الجماعة حينَ سَلَّم إليه الحسَنُ بن علي الأمرَ بعدَ ستةِ أشهرٍ من قتل علي. ثم زالتِ الخلافةُ عن بني أُمية في هذه السنة وهي سنةُ ثنتينِ وثلاثين ومئة، وذلك ثنتان وتسعونَ سنة وإذا أُسقط منها تسعُ سنين خلافةُ ابنِ الزُّبير بقِيَ ثلاثٌ وثمانون سنة، وهي مُباينةٌ لِمَا وَرَدَ في هذا الحديث، ولكنْ ليس هذا الحديثُ مرفوعًا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فسَّر الآيةَ بهذا العدد، وإنما هذا من قَوْلِ بعضِ الرواة، وقد تكلَّمنا على ذلك مطوَّلًا في التفسير

(2)

وتقدَّم في الدلائل أيضًا تقريرُهُ، واللّه أعلم.

وقال عليُّ بنُ المديني عن يحيى بن سعيد، عن سفيانَ الثوريّ، عن عليِّ بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ بني أميةَ يصعدون مِنبري، فشقَّ ذلك عليّ، فأُنزلَتْ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . فيه ضَعفٌ وإرسال

(3)

.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حَدَّثَنَا يحيى بن مَعِين، حَدَّثَنَا عبد الله بن نُمير، عن سفيان، عن عليِّ بنِ زيد، عن سعيد بن المسيِّب في قوله:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: رأى ناسًا من بني أميةَ على المنابرِ، فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي دُنيا يُعطَوْنَها وتَضْمَحِلُّ عن قليل، فسُرِّيَ عنه

(4)

.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع قال: لَمَّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فلانًا وهو من بعضِ بني أمية على المنبر يخطُبُ الناس، فشق ذلك عليه، فأنزل الله {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]

(5)

.

وقال مالك بن دينار: سمعتُ أبا الجوزاء يقول: واللّه لَيُعِزَّنَّ

(6)

اللَّه مُلكَ بني أمية كما أعزَّ مُلكَ مَنْ

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 530، 531) في تفسير سورة القدر.

(2)

ومن جملة ما قاله المؤلف في التفسير: ومما يدلُّ على ضعف هذا الحديث أنه سيق لِذَمِّ دولةِ بني أمية، ولو أُريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإنَّ تفضيلَ ليلة القدر على أيامهم لا يدلُّ على ذمِّ أيامهم، فإنَّ ليلة القدر شريفةٌ جدًّا، والسورة الكريمة إنما جاءت لِمَدْحِ ليلة القدر فكيف تُمدح لتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث. اهـ.

(3)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 44) وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 701)(1170)، ولفظهما:"رأيتُ بني أمية في صورة القردة والخنازير يصعدون .... "، وإسناده ضعيف.

(4)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/ 310) في تفسير الآية بنحوه، وقال: أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، أقول: وإسناده ضعيف.

(5)

وإسناده ضعيف.

(6)

في بعض النسخ: ليُغَيِّرنِّ الله.

ص: 272

كان قبلَهم، ثم لَيُذِلَّنَّ مُلكَهم كما أذلَّ مُلكَ مَنْ كان قبلَهم، ثم تلا قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140][فيه ضعف وإرسال].

وقال ابنُ أبي الدنيا

(1)

: حدثني إبراهيمُ بن سعيد، حَدَّثَنَا أبو أسامة، حَدَّثَنَا عمر بن حمزة، أخبرني عمر بن سيف

(2)

مولًى لعثمانَ بن عفان، ثم قال: سمعتُ سعيدَ بنَ المُسَيِّب وهو يقولُ لأبي بكرِ بنِ عبد الرحمن، ولأبي بكر بن سُليمانَ بنِ أبي خيثمة، وذكروا بني أمية فقال: لا يكونُ هلاكُهم إلَّا بينَهم، قالوا: كيف؟ قال: يَهْلِكُ خُلفاؤهم ويَبْقَى شرارُهم، فيتنافسونها، ثم يكثرُ الناسُ عليهم فيُهلِكُونَهم.

وقال يعقوب بن سفيان: أنب [أحمد بن محمد الأزرقي، حَدَّثَنَا الزَّنْجِي عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"رأيتُ في النوم بني أبي الحكم، أو بني أبي العاص يَنْزونَ على مِنْبَري كما تَنْزو القِردَة". قال: فما رُئيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا بعدَها حتَّى تُوفِّي

(3)

.

قال أبو محمد عبدُ اللَّه بن عبد الرحمن الدَّارِمِي

(4)

: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، حَدَّثَنَا سعيد بن زيد - أخو حَمَّاد بن زيد - عن علي بن الحكم البُنَاني، عن أبي الحسن هو الحمصي، عن عمرو بن مُرَّةَ - وكانت له صُحْبة - قال: جاء الحكمُ بنُ أبي العاص يستأذِنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرَفَ كلامَهُ فقال: "ائذنوا له، صُبَّتْ عليه لعنةُ اللَّه وعلى مَنْ يَخْرُجُ من صُلْبِه، إِلَّا المؤمنين، وقَلِيلٌ ما هم، يُشَرَّفون في الدنيا ويُوضَعونَ في الآخرة، ذَوُو دَهَاء وخَدِيعة، يُعْطَوْنَ في الدُّنيا وما لَهُمْ في الآخرِةِ مِنْ خَلاق"

(5)

.

وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: أنبأ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد بن محمد، أنبأ محمد بن المظفر الحافظ، أنبأ أبو القاسم تمام بن خريم بن محمد بن مروان الدمشقي، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن هشام بن ملابس، حَدَّثَنَا أبو النظر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد مولى أمَّ الحكم بنت عبد العزيز، حَدَّثَنَا يزيد بن ربيعة، حَدَّثَنَا أبو الأشعث الصَّنْعاني، عن ثوبان، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نائمًا، واضعًا رأسه على فَخِذِ أمِّ حَبِيبة بنتِ أبي سفيان، فنَحَب ثم تبسَّم، فقالوا: يا رسول اللَّه، رأيناك نَحَبْتَ ثم تبسَّمْتَ!

(1)

في كتابه الحلم ص (54) برقم (65).

(2)

كذا في الأصول، وفي "الحلم":"عمرو بن سيف" ولم أقف على ترجمة له.

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 527)(8481) والبيهقي في الدلائل 6/ 511 من طريق الأزرقي به، وأبو يعلى في مسنده (11/ 348)، وهو حديث حسن.

(4)

جاء في (ق): "الداري" وأتبعها بقوله بين معقوفين [لعله الدارمي] وهو صحيح، ترجمته في تهذيب الكمال (15/ 210)، وروايته عن مسلم بن إبراهيم ثابتة فيه، وهو من شيوخه. روايته عنه في السنن كثيرة.

(5)

أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 528)(8484) بإسناده عن مسلم بن إبراهيم، حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، حَدَّثَنَا علي بن الحكم البناني به. وإسناده ضعيف لجهالة أبي الحسن الحمصي.

ص: 273

فقال: "رأيتُ في منامي بني أميةَ يتعاوَرُونَ على مِنْبَرِي. فساءني ذلك، ثم رأيتُ بني العباس يتعاورون على مِنبري فسرَّني ذلك"

(1)

.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس، حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم، حدثني أبو عبد الله عن الوليد بن هشام الْمُعَيطِي، عن أبان بن الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط

(2)

، قال: قدم ابنُ عباس على معاويةَ وأنا حاضر، فأجازه فأحسَنَ جائزتَه، ثم قال: يا أبا العباس، هل يكونُ لكُمْ دَوْلة؟ فقال: اعْفِني يا أمير المؤمنين. فقال: لَتُخْبِرَنِّي. قال: نعم. قال: فمن أنصارُكم؟ قال: أهلُ خُراسان، ولبني أميةَ من بني هاشمٍ نَطَحات

(3)

.

وقال المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبير: سمعتُ ابنَ عباس يقول: يكونُ مِنَّا ثلاثةٌ أهلَ البَيْت: السَّفَّاح، والمنصور، والمَهْدي.

رواه البيهقيّ من غيرِ وَجْه، ورواه الأعمَشُ عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا

(4)

.

وروى ابن أبي خيثمة عن ابن مَعِين، عن سفيان بن عُيَينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: كما افتَتَح اللَّه بأوَّلِنا فأرجو أنْ يَخِتمَهُ بآخرنا.

وهذا إسنادٌ صحيح إليه، وكذا وقع ويَقَعُ للمَهْديِّ إنْ شاء الله.

وروى البيهقيُّ عن الحاكم، عن الأصَمّ، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يخرُجُ رجلٌ من أهلِ بيتي عنِ انقطاع من الزمان، وظهورٍ من الفتن، يُقالُ له السَّفَّاح، يُعطي المالَ حَثْيًا"

(5)

.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 96)(1425)، وفيه يزيد بن ربيعة، وهو الرحبي، متروك (ميزان الاعتدال 4/ 422).

(2)

في (ق): "عن أبان بن الوليد، عن عقبة بن أبي معيط" والمثبت من (ب، ح)، وكتاب الفتن.

(3)

أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1/ 202) برقم (550) ولفظه: "ولبني أمية من بي هاشم نطحات، ولبني هاشم من بني أمية نطحات، ثم يخرج السُّفياني".

(4)

قلت: أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1/ 96) برقم (228) عن المنهال به، ولفظه "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ذكروا عده اثني عشر خليفة ثم الأمير. فقال ابن عباس: والله إنَّ منَّا بعد ذلك السفاح والمنصور، والمهدي يدفعها إلى عيسى بن مريم، وأخرجه بنحوه في (1/ 400) برقم (1203) و (1/ 444) برقم (1282) والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 63) قال بشار: هو حديث موضوع ولا يصح عن ابن عباس شيء في ذلك، كما بينته مفصلًا في تعليقي على تاريخ مدينة السلام للخطيب 1/ 370 فيما بعد.

(5)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 48 و 60 و 80)، وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف.

ص: 274

وقال عبد الرزاق

(1)

: حَدَّثَنَا الثوري عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند حَرَّتِكُم هذه ثلاثةٌ كلُّهم وَلَدُ خليفة، لا تَصِيرُ إلى واحدٍ منهم، ثم تُقبِلُ الراياتُ [السود] من خُراسان، فيقتلونكم مَقْتَلَةً لم يُرَ مثلها - ثم ذكر شيئًا - فإذا كان كذلك فأتُوهُ ولو حَبْوًا على الثَّلْج، فإنَّهُ خليفةُ اللَّه المَهْدِي".

رواه بعضُهم عن ثوبان، فوَقَفَه، وهو أشبه

(2)

، واللّه أعلم.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدثني يحيى بن غيلان، وقتيبة بن سعيد، قالا: حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بن سعد، [قال يحيى بن غَيْلان في حديثه:] حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قَبِيصة - هو ابن ذؤيب - عن أبي هُريرة، عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يخرج من خُراسانَ راياتٌ سُود، لا يَرُدُّها شيء حتَّى تُنصَبَ بإيلياء".

وقد رواه البيهقيّ في الدلائل من حديث رِشْدِين بن سعد المصري

(4)

، وهو ضَعِيف، ثم قال: قد رُوي قريبًا من هذا عن كعب الأحبار - وهو أشبه - ثم قال: من طريق يعقوب بن سفيان حَدَّثَنَا محدِّثٌ عن أبي المغيرة عبد القدوس، عن ابن عباس، يحدثه عن كعب أيضًا قال:"تظهر راياتٌ سود لبني العباس حتَّى ينزلوا الشام، ويَقتُلُ اللَّه على أيديهم كلَّ جبَّارٍ وعَدُوٍّ لهم"

(5)

.

وروى إبراهيمُ بن الحسين بن ديزيل، عن ابن أبي أُوَيس عن ابن أبي ذؤيب

(6)

، عن محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للعباس:"فيكم النبوَّة وفيكمُ المَمْلَكة"

(7)

.

وروى عبد اللَّه بن أحمد عن ابن مَعِين، عن عبيد بن أبي قُرَّة، عن الليث، عن أبي قَبِيل، عن

(1)

أخرجه من طريق عبد الرزاق مرفوعًا ابن ماجة في سننه (4084)، والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 515.

(2)

أخرج الموقوف: الحاكم 4/ 502 والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 516.

(3)

في المسند (2/ 365) وما يأتي بين معقوفين منه، وإسناده ضعيف.

(4)

قلت: ورواه أيضًا في المعجم الأوسط (4/ 31)(3536) بالإسناد نفسه.

(5)

انظر الفتن لنعيم بن حماد (1/ 209)(570).

(6)

في الدلائل: عن ابن أبي فديك.

(7)

أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (488/ 489)(197)، وابن عدي في الكامل (4/ 262) في ترجمة عبد اللَّه بن شبيب، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 289)، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 118) في ترجمة عبد الله بن شبيب أيضًا، وابن حجر في لسان الميزان (3/ 299)، وقال: لم ينفرد بها عبد اللَّه بن شبيب (وهو متروك) بل رواه عن إسماعيل بن أبي أويس أيضًا الإمام المجمع على حفظه وثقته إبراهيم بن الحسن بن ديزيل، أورده البيهقيّ في "دلائل النبوة"، من طريقه ثم قال: تفرد به محمد بن عبد الرحمن العامري وليس بالقوي. اهـ.

ص: 275

أبي مَيْسرة مولى العباس، قال: سمعتُ العباسَ يقول: كنتُ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة، فقال:"انظُرْ، هل ترى في السماء من شيء؟ " قلت: نعَمْ. قال: "ما ترى؟ " قلتُ: الثُّرَيَّا. قال: "أما أنَّهُ سَيمْلِكُ هذه الأمة بِعَدَدِها من صُلْبِكَ". قال البخاري: عُبيد بن أبي قُرَّة لا يُتابَعُ على حديثِه

(1)

.

وروى ابنُ عدي

(2)

من طريق سويد بن سعيد، عن حجاج بن تميم، عن مَيمون بن مِهْران، عن ابن عباس قال: مررتُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعه جِبريل وأنا أظنُّهُ دِحْيَةَ الكلبي، فقال جبريلُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنه لَوَسِخُ الثياب، وسيلبَسُ ولَدُهُ من بعدِه السواد. وهذا منكَرٌ من هذا الوَجْه.

ولا شكَّ أنَّ بني العباس كان السوادُ من شِعارِهم، أخذوا ذلك من دخولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ يومَ الفَتْح، وعلى رأسه عِمَامَةٌ سَوْداء، فأخذوا بذلك وجعَلُوهُ شعارَهُم في الخُطَبِ والأعياد والجُمَعِ والمَحافل. وكذلك كان جُنْدُهم لا بدَّ من أن يكونَ على أحدِهم شيءٌ من السَّوَاد، ومن ذلك ما يُلْبِسُهُ الملوكُ لِلأُمَراء حين يُخلَعُ عليهم بالإمرة، لا بدَّ وأن يلبَسَ شيئًا من السواد، وهو الشَّرْبُوش، وكذلك دخل عبد الله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد، فجعل النساءُ والغِلْمان يعجَبُون من لباسِه، وكان دخولُهُ من بابِ كَيْسان، وقد خطَبَ الناسَ يوم الجمعة، وصلَّى بِهم وعليهِ السواد.

وقد رَوَى ابنُ عساكر عن بعض الخُراسانية قال: لَمَّا صلَّى عبدُ اللَّه بن علي بالناسِ يومَ الجمعة صلَّى إلى جانبي رجلٌ فقال: اللَّه أكبر، سبحانك اللهمَّ وبحمدك! وتبارَكَ اسْمُكَ، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرُك، انظروا إلى عبدِ اللَّه بن علي، ما أقبحَ وجهَه! وأشْنَعَ سوادَه!.

وما زال السوادُ شعارهم إلى يومكَ هذا كما تراه على الخُطباء يومَ الجمعةِ والأعياد.

(1)

أخرجه البخاري في الكنى (1/ 75) ترجمة أبي ميسرة، وأحمد في المسند (1/ 209)، والحاكم في المستدرك (3/ 368)(5414)، والمقدسي في المختارة (8/ 384 - 386)(474 - 476)، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (5/ 29، 30) في ترجمة عبيد بن أبي ترة، وقال: هذا باطل، وقد روى إبراهيم بن سعيد الجوهري عنه أحاديث منكرة عن ابن لهيعة، ساقها ابن عدي، وعقَّب عليه ابن حجر في لسان الميزان (4/ 122) بقوله: ولم أر من سبق المؤلف إلى الحكم على هذا الحديث بالبطلان، وقد قال ابنُ أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حَدَّثَنَا عبيد بن أبي قرة بهذا الحديث. قال: وسمعتُ أبي يقول: هذا حديث لم يروه إلًا عُبيد بن أبي قُرَّة، وكان عند أحمد بن حنبل أو يحيى بن معين، وكان يَضَنُّ به، قال: ورأيت أبي يستحسن هذا الحديث ويُسَرُّ به، حيث وجده عند يحيى بن سعيد. وقال عبد اللَّه بن أبي داود: حَدَّثَنَا أبي حَدَّثَنَا حجاج - يعني ابن الشاعر - حَدَّثَنَا عبيد بهذا الحديث، قال عبد الله: كتب هذا الحديث أحمد بن صالح عن أبي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: من أهل بغداد، سكن مصر، ربما خالف. وأخرج الحاكم في مستدركه حديثه المذكور عن مشايخه، عن عبيد اللَّه بن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن عبيد بن أبي قرة، اهـ.

(2)

في كتابه الكامل (2/ 229) في ترجمة حجاج بن تميم.

ص: 276

‌ذِكرُ استقلالِ أبي العباس عبدِ الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقَّب بالسَّفَّاح بالخلافة وما اعتمدَهُ في أيامه من السيرة الحسنة

قد تقدَّم أنه أول ما بُويع له بالخِلافة بالكوفة يومَ الجمعةِ الثاني عشر من ربيعِ الآخر، وقيل: الأول من هذه السنة سنةِ ثنتَيْنِ وثلاثين ومئة. ثم جرَّد الجيوش إلى مروان [الحمار] فطرَدُوهُ عن المملكة، وأجلَوْهُ عنها، وما زالوا خَلْفَهُ حتى قتلوه بِبُوصيرَ من بلادِ الصَّعيد بأرضِ مِصْر، في العشر الأخير من ذي الحِجَّة من هذه السنة - على ما تقدَّم بيانه - وحينئذ استقلَّ السفاحُ بالخلافة، واستقرَّتْ يَدُهُ على بلادِ العراقِ وخُراسانَ والحِجَاز والشامِ والديارِ المصرية، لكنْ لم يحكمْ على بلادِ الأندلس، ولا على بلادِ المغرب، فإنَّهُ لم يَحْكُمْ عليها ولا وَصَلَ سلطانُه إليها، وذلك أن بعضَ مَنْ دخلَها من بني أميةَ استحوَذَ عليها ومَلَكَها كما سيأتي بَيَانُه.

وقد خرَج على السفَّاحِ في هذه السنةِ طوائفُ، فمنهم أهلُ قِنَّسْرينِ بعدَما بايعوه على يدَيْ عَمِّهِ عبدِ اللَّه بن علي، وأقرَّ عليهم أميرَهم وهو أبو الوَرْد مَجْزَأة بن الكَوْثَر بن زُفر بن الحارث الكِلابيّ، وكان من أصحاب مروانَ وأُمرائه، فخَلَعَ السفاح ولَبِسَ البياض، وحمل أهلَ البلدِ على ذلك، فوافقوه، وكان السفَّاحُ يومئذٍ بالحِيرة، وعبدُ اللَّه بنُ علي مشغولٌ بالبَلْقاء، يقاتِلُ بها حَبِيبَ بنَ مُرَّةَ المُرِّي

(1)

ومَنْ وافَقَهُ من أهلِ البَلْقاء والبَثَنِيَّةِ

(2)

وحَوْرَان على خَلْعِ السفاح، فلمَّا بلَغَهُ عن أهلِ قِنَّسْرِينَ ما فعلوا صالَحَ حَبِيبَ بن مُرَّة، وسارَ نحو قِنَّسْرين، فلمَّا اجتازَ بدمشق - وكان بها أهلُه وثَقَلُه - استخلف عليها أبا غانم عبدَ الحميد بن رِبْعِي الكِنَاني في أربعةِ آلاف، فلمَّا جاوزَ البلد وانتهى إلى حِمص نَهَضَ أهلُ دمشقَ مع رجل يُقالُ له عثمان بن عبد الأعلى بن سُرَاقة، فخلَعُوا السفَّاح وبيَّضوا، وقَتلوا الأميرَ أبا غانم، وقتلوا جماعةً من أصحابهِ، وانتهبوا ثَقَلَ عبدِ اللَّه بن علي وحواصِلَه، ولم يتعرَّضُوا لأهلِه، وتفاقَمَ الأمرُ على عبدِ اللَّه بن علي، وذلك أنَّ أهلَ قِنَّسْرِين تراسلوا مع أهل حِمص وتَدْمُر، واجتمعوا على أبي محمد السُّفْياني، وهو أبو محمد بن عبدِ اللَّه بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوهُ بالخِلافة، وقام معَهُ نحوٌ من أربعين ألفًا، فَقَصَدَهُمْ عبدُ الله بنُ علي، فالتقَوْا بِمَرْجِ الأخْرَم، فقدَّمَ عبدُ اللَّه بنُ علي أخاهُ عبدَ الصمد بن علي في عشرة آلاف من الفرسان بين يدَيْه، فاقتتلوا مع مقدِّمةِ السُّفياني وعليها أبو الوَرْد، فاقتتلوا قتالًا شديدًا وهَزَموا عبد الصَّمَد، وقُتل من الفريقَيْنِ ألوف، فتقدم إليهم عبدُ الله بن علي ومعه

(1)

في بعض النسخ: "المزي"، وما أثبتناه موافق لتاريخ الطبري.

(2)

البَلْقَاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القُرى، قصبتها عمان، وفيها قرى كثيرة ومزارعُ واسعة. وبِجَوْدَةِ حنطتها يضرب المثل، والبَثَنِيَّة: اسمُ ناحية من نواحي دمشق بين دمشق وأذرعات، انظر معجم البلدان (1/ 338 - 489).

ص: 277

حُميد بن قَحْطبة بمن معه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، وجعل أصحابُ عبدِ اللَّه يَفِرُّون، وهو ثابتٌ هو وحُميد، وما زال حتَّى هزم أصحاب أبي الورد، وثبَتَ أبو الورد في خمسمئةِ فارس من أهل بيتِه وقومِه فقُتلوا جميعًا. وهرب أبو محمد السُّفياني ومَنْ معَهُ حتَّى لَحِقوا بتَدْمُر، وأمَّنَ عبدُ اللَّه أهلَ قِنَّسْرين، وسوَّدوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة، ثم كرَّ عبدُ الله راجعًا إلى دمشق، وقد بلَغهُ ما صنعوا، فلما دَنَا منها تفرَّقوا عنها وهرَبوا، ولم يكنْ منهم قتال، فأمَّنهم ودخلوا في الطاعة، وسوَّدوا موافقةً للخليفة، وكان ذلك شعارَ السمعِ والطاعة.

وأما أبو محمد السُّفياني فإنه ما زال مُضَيَّعًا، ومشتتًا من بلدٍ إلى بلد، حتَّى لَحِقَ بأرضِ الحِجَاز فقاتَلَهُ نائبُ أبي جعفر المنصور في أيامِ المنصور، فقتله وبعثَ برأسِهِ وبابنينِ له أخذَهما أسيرَيْن، فأطلقهما المنصورُ في أيامه. وقد قيل إنَّ وقعةَ السفيانيِّ يوم الثلاثاء آخر يومٍ من ذي الحِجَّة سنةَ ثنتين وثلاثين ومئة، واللّه أعلم.

ومِمَّنْ خلعَ السفَّاح أيضًا أهلُ الجزيرة حين بلَغَهم أنَّ أهْلَ قِنَسْرينَ خلَعوا، فوافَقوهم وبيَّضوا ورَكِبوا إلى نائب حَرَّان من جهةِ السفَّاح، وهو موسى بن كعب، وكان في ثلاثةِ آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبًا من شهرَيْن، ثم بعث السفاحُ أخاه أبا جعفر المنصور فيمَنْ كان بواسطةِ محاصِرِي ابنِ هُبيرة، فمَرَّ في مسيرهِ إلى حَزَان بِقَرْقِيسيا

(1)

وقد بيَّضوا، فغلَّقوا أبوابَها دونَه، ثم مَرَّ بالرَّقَة وعليها بَكَّار بن مسلم، وهم كذلك، ثم بِحَاجِر

(2)

، وعليها إسحاق بن مسلم، فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونَها. فرحل إسحاقُ عنها إلى الرُّهَا. وخرج موسى بنُ كعب فيمَنْ معه من جُند حَرَّان، فتلقَّاهُ المنصور، ودخلوا في جيشه، وقَدِمَ بكَّار بن مسلم على أخيه إسحاقَ بنِ مسلم بالرُّهَا، فوجَّهَهُ إلى جماعةِ ربيعة بدارا وماردِين، ورئيسُهم حَرُورِيٌّ يُقال له بُريكة، فصارا حزبًا واحدًا، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالًا شديدًا، فقُتل بُريكة في المعركة، وهرب بكَّارٌ إلى أخيه بالرُّهَا، فاستخلَفَهُ بها ومَضَى بِمُعظَمِ العسكر حتَّى نزل سُمَيْساط، وخندَقَ على عسكرِه، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكَّارًا بالرُّهَا، وجرت له معه وقعات، وكتب السفَّاحُ إلى عمّه عبدِ اللَّه بن علي أن يسيرَ إلى سُميساط وقد اجتمع على إسحاقَ بنِ مسلم ستون ألفًا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبدُ اللَّه، واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاقُ وطلب منهم الأمان، فأجابوهُ إلى ذلك على إذْنِ أمير المؤمنين.

(1)

قَرْقيسِيا: بالفتح ثم السكون وقاف أخرى وياء ساكنة وسين مكسورة وياء أخرى وألف ممدودة، ويقال بياءٍ واحدة، قال حمزة الأصبهاني: قرقيسيا مُعَرَّب كركيسيا، وهو مأخوذ من كركيس وهو اسمٌ لأرسال الخيل المسمَّى بالعربية الحَلْبَة، وكثيرًا ما يجيء في الشعر مقصورًا، وهي بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ وعندها مصب الخابور في الفرات، فهي في مثلث بين الخابور والفرات، معجم البلدان (4/ 328).

(2)

في بعض النسخ: ثم جاء حرَّان.

ص: 278

وولَّى السفَّاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرةَ وأذْرَبِيجانَ وأرْمِيِنيةَ، فلم يزَلْ عليها حتَّى أفَضَتْ إليه الخلافةُ بعد أخيه، ويُقال إن إسحاق بن مسلم العُقيلي إنمَّا طلبَ الأمانَ لَمَّا تحقَّقَ أنَّ مروانَ قد قُتل، وذلك بعد مُضِيِّ سبعةِ أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبًا لأبي جعفر المنصور فآمنه.

وفي هذه السنة ذهب أبو جعفر المنصور عن أمْرِ أخيه السفَّاح إلى أبي مسلم الخُراساني، وهو أميرها

(1)

ليستطلعَ رأيَهُ في قتلِ أبي سلَمَة، حفص بن سليمان الوزير، وكان سببُ ذلك أن السفَّاحَ سَمَرَ ليلَةً مع أهلِ بيته، فتذاكروا ما كان من أمرِ أبي سلَمَة حين كان أرادَ أنْ يصرِفَ الخلافةَ عن بني العباس، فسألَ سائلٌ: هل ذلك كان عن مُمَالأةِ أبي مسلم لأبي سَلَمَةَ في ذلك أم لا؟ فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيِه، إنا لَبِعُرْضِ بَلاءً عظيم، إِلَّا أنْ يدفعَهُ اللَّه عنا. قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما تَرَى؟ فقلت: الرأيُ رأيُك. فقال: إنه ليس أحدٌ أخَصَّ بأبي مسلم منك، فاذهبْ إليهِ فاعلَمْ لي عِلْمَه، فإن كان عن رأيِهِ احتَلْنا له، وإنْ لم يكنْ عن رأيِهِ طابَتْ أنفسُنا. قال أبو جعفر: فخرَجْتُ إليه قاصدًا على وَجَل. قال المنصور: فلمَّا وصلتُ إلى الريّ إذا كتابُ أبي مسلم إلى نائبِها يستحثني إليه في المسير، فازدَدْتُ وَجَلًا، فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابُه يستحثُّني أيضًا، وقال لنائبها: لا تدَعْهُ يَقَرُّ ساعة واحدةً، فإنَّ أرضَكَ بِها خوارجُ كثيرة. فانشَرَحْتُ لذلك، فلما صرتُ من مَرْوَ على فرسخَيْن، خرج يتلقَّاني ومعه الناس، فلما واجَهَني ترخلَ، فقبَّلَ يدي، فأمَرْتُهُ فركِب، فلما دخلتُ مَرْوَ ونزلتُ في دارِه، فمكثتُ ثلاثًا لا يسألُني في أيِّ شَيْءٍ جئت؛ فلما كان اليومُ الرابع سأَلني: ما أقدَمَكَ؟ فأخبَرْتُهُ بالأمر. فقال: أفَعَلَها أبو سَلَمَة؟! أنا أكفيكُمُوه. فدعا مرارَ بن أنس الضَّبِّيَّ فقال: اذهَبْ إلى الكوفة، فحيثُ لَقِيتَ أبا سَلَمَة فاقتُلْه، وانتَهِ في ذلك إلى رأي الإمام. فقَدِمَ مرارٌ الكوفة الهاشمية، وكان أبو سَلَمة يَسْمُرُ عند السفَّاح، فلمَّا خرج قتَلَهُ مرار. وشاعَ أنَّ الخوارجَ قتلوه. وغلّقت البلد، ثم صلَّى عليه يحيى بن محمد بن علي، أخو أميرِ المؤمنين، ودُفن بالهاشمية، وكان يقال له وزيرُ آلِ محمد، ويقال لأبي مسلم أميرُ آل محمد. قال الشاعر:

إنَّ الوزيرَ وزير آلِ محمدٍ ..... أوْدَى فمَنْ يَشْنَاكَ كان وَزِيرا

ويُقال: إنَّ أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتْلِ أبي سَلَمَة، وكان معه ثلاثون رجلًا على البريد، منهم الحجَّاج بن أرطاة وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعةٌ من السادات، ولما رجع أبو جعفر من خُراسان قال لأخيه: لستَ بخليفةٍ ما دام أبو مسلمٍ حيًّا حتَّى تقتلَه. لِمَا رأى من طاعةِ العساكرِ والأمراءَ له، فقال له السفَّاح اكُتمْها. فسكت، ثم إنَّ السفَّاح بعثَ أخاهُ أبا جعفر إلى قتالِ ابنِ هُبيرة بواسط، فلما اجتاز بالحسن بن قَحْطبة أخَذَهُ معه، فلما أُحيط بابن هُبيرة كتب إلى محمد بن عبد اللَّه بن الحسن لِيُبايع له

(1)

يعني أمير خراسان.

ص: 279

بالخِلافة، فأبطأ عليه جوابُه، فمال إلى مُصالحةِ أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاهُ السفَّاح في ذلك، فأذِنَ له في المصالحة، فكتب له أبو جعفر كتابًا بالصُّلح، فمكَثَ ابنُ هُبيرة يُشاور فيه العلماء أربعين يومًا، ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاث مئة من البخاريَّة، فلمَّا دَنَا من سُرَادِق أبي جعفر همَّ أنْ يدخلَ بفرسَهِ فقال الحاجب سلام: انزِلْ أبا خالد. وكان حولَ السُّرادِق عشرة آلاف من أهل خُراسان، ثم أذن له في الدخول، فقال: أنا ومَنْ معي؟ قال: لا، بل أنتَ وحدَك. فدَخل، ووُضعت له وساد فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة، ثم خرج من عندِهِ، فأتْبعَه أبو جعفر بصَرَه، ثم جعل يأتيهِ يومًا بعدَ يوم في خمس مئةِ فارس وثلاث مئة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر، فقال أبو جعفر للحاجب: مُرْهُ فَلْيَأتِ في حاشيته. فكان يأتي في ثلاثين نفسًا، فقال الحاجب: كأنَّك تأتي متأهِّبًا

(1)

. فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشَيْتُ إليكم. ثم كان يأتي في ثلاثةِ أنفس، وقد خاطَبَ ابنُ هُبيرة يومًا لأبي جعفر فقال في غبون

(2)

كلامه: يا هناه - أو قال: يا أيها المرء - ثم اعتذر إليه بأنه قد سبَقَ لسانُهُ إلى ذلك، فأعذَرَه.

وقد كان السفَّاحُ كتَبَ إلى أبي مسلم يستشيرُه في مصالحةِ ابنِ هُبيرة، فنَهاه عن ذلك، وكان السفَّاحُ لا يقطَعُ أمرًا دُونَ مراجعةِ أبي مسلم، فلما وَقَعَ الصُلْحُ على يدي أبي جعفر لم يحبَّ السفاحُ ذلك ولم يُعجِبْه. وكتب إلى أبي جعفر يأمرُ بِقَتْلِه، فراجَعَهُ أبو جعفر مرارًا لا يُفيدُهُ ذلك شيئًا، حتَّى جاء كتابُ السفَّاح: أن اقتُلْهُ لا محالة، لا حول ولا قوة إِلَّا باللّه العلي العظيم! كيف يُعطي الأمانَ ويَنْكُث؟! هذا فعلُ الجبابرة. وأقسم عليه في ذلك، فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخُراسانية، فدخلوا عليه وعندَهُ ابنُه داود، وفي حجْرِهِ صبيٌّ صغير، وحوله مَوَاليه وحاجِبُه، فدافع عنه ابنُهُ حتَّى قُتل، وقُتل خلقٌ من مَوَاليه، وخَلَصوا إليه، فألقَى الصبيَّ من حجرِهِ وخَرَّ ساجدًا، فقُتل وهو ساجد. واضطربَ الناسِ، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان، إِلَّا عبدَ الملك بن بشر، وخالد بن سلمة المخزومي، وعمر بن ذَرّ. فسكَنَ الناس، ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقُتل بعضهم.

وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس، وأمرَهُ أنْ يأخذَ عُمَّالَ أبي سلمةَ الخلَّال فيضربَ أعناقَهم، ففعل ذلك.

وفيها ولَّى السفَّاحُ أخاه يحيى بن محمد الموصلَ وأعمالَها، وولَّى عمَّهُ داودَ مكَّةَ والمدينة واليمن

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 363): "مباهيًا".

(2)

كذا في الأصول، وقد تردد ذكر هذه الكلمة في عدد من أجزاء الكتاب مرارًا، وهو من قولهم غَبَنَ الثوبَ: إذا ثناه وعطَفَه والمراد هنا تضاعيف الكلام ومثانيه. انظر لسان العرب والقاموس (غبن).

ص: 280

واليمامة، وعزلَهُ عن الكوفة، وولَّى مكانَهُ عليها عيسى بن موسى، وولَّى قضاءَها ابنَ أبي ليلى، وكان على نيابةِ البصرة سفيانُ بن معاوية المهلَّبي، وكان على قضائها الحجَّاج بن أرطاة، وعلى السِّنْد منصور بن جُمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى أرميِنيَةَ وأذْرَبِيجَانَ والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالِها عبدُ الله بن علي عمُّ السفّاح، وعلى مصر أبو عَوْن عبدُ الملك بن يزيد، وعلى خُراسان وأعمالِها أبو مسلم الخُراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن بَرْمَك. وحجَّ بالناس فيها داودُ بن علي.

‌ذِكرُ مَنْ تُوفِّى فيها من الأعيان:

مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك الأموي آخر خلفاء بني أمية، فقُتل في العشر الأخير من ذي الحِجَّة من هذه السنة، كما تقدَّمَ ذلك مبسوطًا

(1)

، ووزيرُهُ:

عبدُ الحميد بن يحيى بن سعد

(2)

: مولى بني عامر بن لؤي، الكاتبُ البَلِيغ، الذي يُضرَبُ به المَثلُ فيقال: فُتحتِ الرسائلُ بعبد الحميد، وخُتمتْ بابنِ العَمِيد. وكان إمامًا في الكتابةِ وجميعِ فنونِها، وهو القدوةُ فيها، وله رسائلُ في ألفِ ورَقة، وأصلُهُ من قَيْسَارِيَّة، ثم سكن الشام، وتعلم هذا الشأنَ من سالم مولى هشام بن عبد الملك، وكان يعقوبُ بن داود وزيرُ المهدي يكتبُ بين يديه، وعليه تخرَّج، وكان ابنُه إسماعيل بن عبدِ الحميد ماهرًا في الكتابة أيضًا. وقد كان أولًا يُعلِّمُ الصِّبيان، ثم تقلَّبَتْ به الأحوال حتَّى وَزَرَ لمروان، وقَتَلَهُ السفَّاحُ ومَثَّلَ به، وكان اللائقُ بمثلِهِ العَفْوَ عنه.

ومن مُستجاد كلامِه: العلمُ شجرةٌ ثَمَرَتُها الألفاظ، والفكرُ بحرٌ لؤلؤهُ الحِكْمَة.

ومن كلامه وقد رأى رجلًا يكتُبُ خطًا رديئًا، فقال: أطِلْ جَلْفَةَ قَلَمِكَ وأسْمِنْها، وحَرِّفْ قَطتَكَ وأيمِنْها. قال الرجل: ففعلتُ ذلك، فجادَ خَطِّي

(3)

.

وسأله رجلٌ أن يكتبَ له كتابًا إلى بعضِ الأكابر يُوصيهِ به، فكتب إليه: حَقُّ موصِلِ كتابي إليك كَحَقِّهِ علي إذ رآكَ مَوْضِعًا لأمَلِه، ورآني أهلًا لحاجتهِ، وقد قضيتُ أنا حاجتَه فصَدِّقْ أنتَ أمله

(4)

.

وكان كثيرًا ما يُنشِدُ هذا البيت:

(1)

تقدمت ترجمته ومصادرها في الحاشية (3) من الصفحة (268).

(2)

ترجمته في الفهرست ص (170)، وفيات الأعيان (3/ 228)، ثمار القلوب ص (196)، سير أعلام النبلاء (5/ 462)، أبجد العلوم (3/ 66).

(3)

الرجل هو إبراهيم بن جبلة كما في ثمار القلوب ص (198)، والخبر فيه.

(4)

ذكره ابن خلِّكان في وفيات الأعيان (3/ 229)،

ص: 281

إذا خرج

(1)

الكُتّابُ كان دوِيُّهُمْ

قِسِيًّا وأقلامُ القِسِيِّ لهم نَبْلًا

(2)

وأبو سلمة حفصُ بن سُليمان

(3)

: هو أولُ من وزَرَ لآلِ العباس، قتَلَهُ أبو مسلم بالأنبار عن أمرِ السفَّاح بعدَ ولايتِهِ بأربعة أشهر في شهر رجب، وكان ذا هيئةٍ فاضلًا حسنَ المفاكهة وكان السفاحُ يأنَسُ به، ويحبُ مسامرَتَه لِطيبِ مُحاضرته، ولكنْ توَهَّمَ مَيْلَهُ لآلِ عليّ، فدَسَّ أبو مسلم عليه مَنْ قتَلَهُ غِيلَة كما تقدَّم، فأنشد السفاحُ عند قتله:

إلى النارِ فَلْيذْهَبْ ومَنْ كان مِثْلَهُ ....... على أيِّ شيءٍ فاتَنَا منه نأسَفُ

(4)

كان يقالُ له وزيرَ آلِ محمد، ويُعرف بالخَلّال لِسُكْناهُ الخَلَّالِين بالكوفة، وهو أولُ مَنْ سُمِّي بالوزير. وقد حكى ابن خَلِّكان

(5)

عن ابن قُتيبة أنَّ اشتقاقَ الوزير من الوِزْر، وهو الحِمْل، فكأنَّ السلطانَ حَمَّلَهُ أثقالًا لاستنابٍ إلى رأيه، وقال الزجَّاج: هو مشتقٌّ من الوَزَر، وهو الجبَل، وكأنَ السلطانَ لجَأَ إلى رأيِهِ كما يلجأ الخائفُ إلى جبَل يعتصِمُ به. واللّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومئة

فيها ولَّى السفَّاح عمَّه سليمانَ بن علي البصرةَ وأعمالَها، وكُورَ دِجْلةَ والبحرَين وعُمَان، ووجَّه عمَّه إسماعيل بن علي إلى كُورِ الأهْوَاز.

وفيها قَتَل داودُ بنُ علي من بمكَّةَ والمدينة من بني أمية. وفيها تُوفِّي داودُ بنُ علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، واستخلف ابنَهُ موسى على عملِه، وكانت ولايتُهُ على الحجاز ثلاثةَ أشهر، فلمَّا بلغ السفَّاحَ موتُه استنابَ على الحجاز خالَهُ زيادَ بن عبيد اللَّه بن عبد الدار

(6)

الحارثي، وولَّى اليمن لابنِ خالِه محمد بن يزيد بن عبيد اللَّه بن عبد الدار، وجعل إمرةَ الشام لعمَّيه عبدِ اللَّه وصالح ابني علي، وأقرَّ أبا عَوْن على الديارِ المصرية نائبًا.

(1)

في بعض النسخ: إذا جرح.

(2)

المصدر السابق.

(3)

ترجمته في المنتظم (7/ 315)، وفيات الأعيان (2/ 195)، سير أعلام النبلاء (6/ 7)، تاريخ اليعقوبي (2/ 352).

(4)

وفيات الأعيان (2/ 196). والبيت من ثلاثة أبيات قيلت في الفضل بن مروان كاتب المعتصم. انظر الكامل لابن الأثير (6/ 22).

(5)

في وفيات الأعيان (2/ 197).

(6)

في بعض النسخ: عبد الدان، هنا، إلى آخر البحث.

ص: 282

وفيها توجَّه محمد بن الأشعث إلى إفْرِيقِيَةَ، فقاتلهم قتالًا شديدًا، حتَّى فتحها. وفيها خرجَ شَرِيك ابن شيخ المهري بِبُخَارى على أبي مسلم، وقال: ما على هذا بايَعْنا آلَ محمد، على سفكِ الدماء وقتلِ الأنفُس، واتَّبَعه على ذلك نحوٌ من ثلاثينَ ألفًا، فبعث إليه أبو مسلم زيادَ بن صالح الخزاعي فقاتله فقَتَله.

وفيها عزَلَ السفَّاحُ أخاه يحيى بن محمد عن المَوْصل وولَّى عليه عمَّه إسماعيل.

وفيها ولَّى الصائفةَ من جهتِه صالحَ بن علي بن سعيد بن عبيد اللَّه، وغزا ما وراءَ الدُّروب، وحجَّ بالناس خالُ السفَّاح زياد بن عُبيد اللَّه بن عبد الدار الحارثي، ونُوَّابُ البلادِ همُ الذين كانوا في التي قبلَها سوى مَنْ ذكَرْنا أنه عُزل.

‌ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومئة

فيها خلَعَ بسامُ بن إبراهيم بن بسام الطاعة، وخرج على السفَّاح، فبعث إليه خازم بن خزيمة فقاتله، فقتَلَ عامةَ أصحابِه واستباح عسكرَه، ورَجَع فمر بملأٍ من بني عبدِ الدار أخوالِ السفَّاح فسألهم عن بعضِ ما فيه نُصرة للخليفة فلم يردُّوا عليه، واستهانوا به، وأمرَ بضَرْبِ أعناقِهم، وكانوا قريبًا من عشرين رجلًا ومثلِهم من مواليهم، فاستعدى بنو عبدِ الدار على خازم بن خزيمة إلى السفاح، وقالوا: قَتَل هؤلاء بلا ذنب، فهم السفَّاحُ بقتلِه، فأشار عليه بعضُ الأمراء بأنْ لا يقتُلَه، ولكنْ لِيبْعَثَهُ مبعثًا صعْبًا. فإنْ سَلِم فذاك، وإنْ قُتل كان الذي أراد، فبعثَهُ إلى عُمَان وكان بها طائفةٌ من الخوارج قد تمرَّدوا، وجهَّز معه سبعَ مئةِ رجل، وكتبَ إلى عمِّه سليمانَ بالبصرةِ أنْ يحمِلَهم في السفن إلى عُمَان ففعل، فقاتل الخوارجَ فكسرَهم وقهرَهم واستحوذَ على ما هنالك من البلاد، وقتلَ أميرَ الخوارجِ الصُّفْريَّة، وهو الجُلنْدَى، وقتَلَ من أصحابِهِ وأنصارِهِ نحوًا من عشرةِ آلاف، وبعث بِرؤوسِهم إلى البصرة، فبعث بها نائبُ البصرة إلى الخليفة، ثم بعدَ أشهر كتب إليه السفَّاح أن يرجِع، فرجع سألمًا غانمًا منصورًا.

وفيها غزا أبو مسلم بلاد الصُّغْد

(1)

، وغزا أبو داود أحدُ نُوَّابِ أبي مسلم بلادَ كَشّ

(2)

، فقَتَل خلقًا كثيرًا، وغَنِمَ من الأواني الصَيِنيَّة المنقوشةِ بالذهبِ شيئًا كثيرًا جدًّا.

(1)

الصُّغْد - بالضم ثم السكون وآخره دال مهملة وقد يقال بالسين مكان الصاد -: هي كُورةٌ عجيبةٌ قَصَبتها سَمَرْقَنْد، وقيل: هما صغدان صغد سمرقند، وصغد بخارى. وقيل: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، ونهر الأُبُلَّة، وشِعْبُ بَوَّان. وهي قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريبٍ من بُخارى، لا تبين القرية حتَّى تأتيها لالتحافِ الأشجار بها، وهي من أطيب أرض اللَّه، كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، متجاوبة الأطيار. معجم البلدان (3/ 409).

(2)

كَشّ - بالفتح ثم التشديد - قريةٌ على ثلاثةِ فراسخَ من جُرْجان على جبل. معجم البلدان (4/ 462).

ص: 283

وفيها بعث السفَّاحُ موسى بن كعب إلى منصور بن جُمهور وهو بالهند في اثني عشر ألفًا، فالتقاهُ موسى بن كعب وهو في ثلاثةِ آلاف، فهزَمَهُ واستباحَ عسكرَه.

وفيها مات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد الدار، فاستخلف السفاحُ عليها عمَّه، وهو خالُ الخليفة.

وفيها تحوَّلَ السفاحُ من الحِيرة إلى الأنبار. وحجَّ بالناس نائبُ الكوفة عيسى بن موسى، ونوَّابُ الأقاليم هم هم.

‌وفيها توفي من الأعيان:

أبو هارون العَندي.

وعُمارة بن جُوين.

ويزيد بن جابر الدمشقي. والله أعلم.

‌ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومئة

فيها خرج زياد بن صالح من وراءِ نَهرِ بَلْخ على أبي مسلم فأظفَرهُ اللَّه بهم، فبدَّد شملَهم، واستأصل خضراءهم، واستقرَّ أمرُه بتلك النواحي، وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائبُ البَصْرة، والنوَّاب همُ المذكورون قبلَها.

‌وممن تُوفِّي فيها من الأعيان:

يزيدُ بن سِنان،

وأبو عَقِيل زهرةُ بن مَعْبَد،

وعطاء الخراساني.

‌ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومئة

فيها قدم أبو مسلم من خُراسان على السفَّاح بالعراق، وذلك بعد استئذانه الخليفةَ في القُدومِ عليه، فكتب إليه أنْ يقدَمَ في خمسِ مئةٍ من الجند، فكتب إليه: إني قد وَتَرْتُ الناس، وإني أخشى من قِلَّةِ الخمس مئة، فكتبَ إليه أن يقدَمَ في ألف، فقدِمَ في ثمانيةِ آلاف، فرَّقهم وأخذ معه من الأموال والتُّحَفِ والهدايا شيئًا كثيرًا. ولما قدم لم يكنْ معَهُ سوى ألفٍ من الجُند، فتلقَّاه القوَّادُ والأمراء إلى مسافةٍ بعيدة،

ص: 284

ولما دخل على السفاح أكرَمَهُ وعظَّمَهُ واحترَمَه، وأنزله قريبًا منه، وكان يأتي إلى الخدمةِ كلَّ يوم، واستأذَنَ الخليفةَ في الحجِّ فأذِنَ له وقال: لولا أنِّي عَيَّنْتُ الحجَّ لأخي أبي جعفر لأمَّرْتُكَ على الحَجّ. وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابًا، وكان يُبغِضُه، وذلك لِمَا رأى ما هو فيه من الحُرْمَةِ حين قَدِم عليه نَيْسابور في البَيْعَةِ للسفَّاح وللمنصورِ من بعده، فحارَ في أمره لذلك، فحقَدَ عليه المنصور، وأشار على السفَّاح بقَتلِه، فأمَرَهُ بِكَتْمِ ذلك، وحين قَدِم أمَرَهُ بقَتْلِهِ أيضًا، وحرَّضَهُ على ذلك، فقال له السفَّاح: قد علمتَ بلاءَهُ معَنا وخدمَتَهُ لنا! فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما ذلك بدَوْلَتِنا، واللّه لو أرسلتَ سِنَّوْرًا لسَمِعوا لها وأطاعوا، وإنِّك إنْ لم تتعشَّ بهِ تغدَّى بك هو، فقال له: كيف السبيل إلى ذلك؟ فقال: إذا دخل عليك فحادِثْهُ، ثم أجيء أنا من ورائِهِ فأضْرِبُهُ بالسيف. قال: كيف بِمَنْ معه؟ قال: هم أذَلُّ وأقل. فأذِنَ له في قَتْلِه، فلما دخل أبو مسلم على السفَّاح نَدِم على ما كان أذِنَ لأخيه فيه، فبعث إليه الخادمَ يقول له: إنَّ ذاك الذي بينك وبينه نَدِمَ عليه فلا تفعَلْه، فلما جاءه الخادمُ وجَدَهُ محتبيًا بالسيف، قد تهيَّأ لِمَا يُريد من قَتْلِ أبي مسلم، فلما نهاهُ عن ذلك غَضِب أبو جعفر غضبًا شديدًا.

وفيها حَجَّ بالناسِ أبو جعفر المنصور عن ولايةِ أخيه السفَّاح، وسار معه إلى الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمرِ الخليفة، وأذِنَ له في الحَجّ، فلمَّا رجعا من الحجّ، وكانا بذاتِ عِرْق جاء الخبَرُ إلى أبي جعفر - وكان يسير قبلَ أبي مسلم بمرحلة - بِمَوْتِ أخيه السفَّاح، فكتب إلى أبي مسلم أنْ قد حدَثَ أمرٌ فالعَجَلَ العجَل. فلمَّا استعلم أبو مسلم الخبَر عَجَّلَ السَّيْرَ وراءه، فلَحِقَهُ إلى الكوفة، وكانتْ بيعةُ المنصور على ما سيأتي بيانُه وتفصيلُه قريبًا، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

‌ترجمة أبي العباس السفَّاح أولِ خلفاء بني العباس وذكر وفاته

(1)

هو عبد اللَّه السفاح - ويقال له المرتضى والقاسم أيضًا - ابن محمد بن الإمام ابن علي السَّجَّاد بن عبد اللَّه الحَبْر بن العباس ذي الرأي ابن عبد المطلب، شيبةِ الحَمْد، هاشم بن عمرو بن عبد مناف بن قُصَيّ، أبو العباس القرشيُّ الهاشميّ، أميرُ المؤمنين الملَقَّب بالسفَّاح، وهو أول خلفاء بني العباس، وأمُّه رَيْطَة - ويُقال رائطة - بنت عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عبد الْمَدَان بن الدَّيَّان الحارثي. كان مولد السفاح بالحُمَيْمَةِ من أرضِ الشَّرَاةِ من البَلْقَاءِ بالشام، ونشأ بها حتَّى أخذ مروانُ أخاهُ في حياة مروانَ يومَ الجمعة، الثاني عشر من ربيع الأول بالكوفةِ كما تقدَّم. وتُوفِّي بالْجُدَرِيِّ بالأنْبَار يوم الأحد الحادي عشر - وقيل

(1)

ترجمته في تاريخ خليفة ص (409)، تاريخ بغداد (10/ 46)، تاريخ اليعقوبي (2/ 349)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (32/ 276)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 99). سير أعلام النبلاء (6/ 77)، طبقات الحنفية ص (423)، تاريخ الخلفاء ص (256)، مآثر الإنافة (1/ 170)، شذرات الذهب (183/ 1، 195)، وما بعدها.

ص: 285

الثالث عشر - من ذي الحِجَّة سنةَ سِتٍّ وثلاثين ومئة، وكان عمرهُ ثلاثًا - وقيل: ثنتين، وقيل: إحدى - وثلاثين سنة، وقيل ثمان وعشرين سنة.

قال غير واحد: وكانتْ خلافتهُ أربعَ سنين وتسعةَ أشهر، وكان أبيضَ جميلًا طويلًا أقْنَى الأنف، جَعْدَ الشعر. حسن اللَّحْيَة، حسنَ الوَجْه، فصيحَ الكلام، حسنَ الرَّأي، جيدَ البَدِيهة، دخل عليه في أول ولايته عبدُ اللَّه بن حسن بن حسن بن عليّ ومعه مُصحف، وعند السفَّاح وجوهُ بني هاشم من أهل بيتِه وغيرِهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، أعطِنا حقَّنا الذي جعلَهُ اللَّه لنا في هذا المصحف. قال: فأشفَقَ عليه الحاضرونَ أن يَعْجَلَ السفَّاحُ عليه بشيء، أو يَعْيَا بِجوابِه فيبقَى ذلك سُبَّة عليه وعليهم، فأقبل السفاح عليه غيرَ مُغْضبٍ ولا مُنْزَعِج فقال: إنَّ جَدَّكَ عليًّا كان خيرًا مِنِّي، وأعدَل، وقد وَلِيَ هذا الأمر، فأعطَى جدَّيك الحسنَ والحُسين - وكانا خيرًا منك - شيئًا قد أعطيتكهُ وزدْتُكَ عليه، فما كان هذا جزائي منك. قال: فما ردَّ عليه عبدُ اللَّه بن حسن جوابًا، وتعجَّبَ الناسُ من سُرعةِ جوابِه، وجِدَّتِه وجَوْدَتِه على البديهة.

وقد ورد في حديثٍ ذكره رحمه الله فقال الإمامُ أحمد في مسند

(1)

: حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا جرير عن الأعمش، عن عطيَّة العَوْفي، عن أبي سعيد الخُدْري، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرجُ عند انقطاع من الزمان وظهورٍ من الفِتَن رجلٌ يُقالُ له السفَّاح، يكونُ إعطاؤه المال حَثْيًا"

(2)

.

وكان رواه زائدةُ وأبو معاوية عن الأعمش به، وهذا الحديث في إسناده عطيةُ العَوْفي وقد تكلَّموا فيه، وفي أنَّ المراد بهذا الحديث هذا السفَّاح نَظَرٌ، واللّه أعلم. وقد ذكَرْنا فيما تقدَّم عند زوالِ دولةِ بني أميةَ أخبارًا وآثارًا في مثلِ هذا المعنى

(3)

.

وقال الزُّبَير بن بَكَّار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى عن أبيه، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وهو السفَّاح - قال: دخلتُ على عمرَ بن عبد العزيز وعنده رجلٌ من النصارَى، فقال له عمر: من تجدونَ الخليفةَ بعدَ سليمان؟ قال له النصراني: أنت. فأقبل عمر بن عبد العزيز فقال له: زِدْني من بيانِك. فقال: ثم آخر، إلى أنْ ذكر خلافةَ بني أمية إلى آخرِها، قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلتُ ذلك النصراني في بالي، فرأيتُه يومًا، فأمرتُ غلامي أن يحبِسَهُ علي، وذهبتُ إلى منزلي، فسألته عَمَّا يكونُ

(1)

رواه أحمد في مسنده (3/ 80) وإسناده ضعيف.

(2)

وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1/ 362)(1056)؛ وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (5/ 957)(509) وعبد الكريم القزويني في تاريخ قزوين (2/ 227)، وإسناده ضعيف.

(3)

انظر ص (271) من هذا الجزء.

ص: 286

في خلفاءِ بني أمية، فذكرهم واحدًا واحدًا، وتجاوز عن مروانَ بنِ محمد، قلت: ثم مَنْ؟ قال: ابنُ الحارثيَّة، وهو ابنُك. قال: وكان ابني ابنُ الحارثية إذا ذاك حَمْلًا. قال: ووفد أهلُ المدينة على السفَّاح، فبادروا إلى تقبيلِ يدهِ غيرَ عمرانَ بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن مطيع العَدوِي، فإنه لم يُقبِّل يده، إنما حيَّاهُ بالخلافةِ فقط وقال: واللّهِ يا أميرَ المؤمنين، لو كان تقبيلُها يَزِيدُكَ رفعةً ويزيدُني وَسيلةً إليك ما سَبَقَني إليها أحدٌ من هؤلاء، وإنِّي لَغَنِيٌّ عمَّا لا أجرَ فيه، ورُبَّما قادَنَا عمَلُهُ إلى الوِزْر. ثم جلس. قال: فواللَّه ما نَقَصَهُ ذلك عندَهُ حظًّا من حط أصحابِه بل أحبَّهُ وزادَه.

وذكر القاضي الْمُعافَى بن زكريَّا أنَّ السَّفَّاح بعث رجلًا يُنادي في عَسْكَرِ مروانَ بهذَيْنِ البيتَيْنِ ليلًا ثم رجع:

يا آلَ مروانَ إنَّ اللَّه مُهْلِكُكُمْ ...... ومُبْدِلٌ أمنَكُمُ خوفًا وتَشْريدا

لا عَمَّرَ اللَّه من أنسألِكُم أحدًا ...... وبَثَّكمْ في بلادِ الخَوْفِ تَطْرِيدا

(1)

وروى الخطيب البغدادي

(2)

أنَّ السفَّاح نظرَ يومًا في المرآة وكان من أجملِ الناسِ وجهًا - فقال: اللهمَّ لا أقولُ كما قال سُليمانُ بن عبدِ الملك: أنا الخليفةُ الشابّ، ولكن أقول: اللهمَّ عَمِّرْني طويلًا في طاعتك، مُمَتَّعًا بالعافية، فما استتَمَّ كلامهُ حتَّى سمع غلامًا يقولُ لآخر: الأجَلُ بيني وبينك شهرانِ وخمسةُ أيام، فتطَيَّرَ من كلامِهِ وقال: حسبي اللَّه لا قوةَ إِلَّا باللّه، عليه توكَّلْتُ وبه أستعين. فمات بعدَ شهرَيْن وخمسةِ أيام.

وذكر محمد بن عبد اللَّه بن مالك الخُزَاعي، أنَّ الرَّشيد أمرَ ابنَهُ أنْ يسمعَ من إسحاق بن عيسى بن على ما يرويه عن أبيه في قصةِ السفَّاح، فأخبره عن أبيه عيسى، أنه دخل على السفَّاح يومَ عرَفَةَ بُكْرَةً فوجدَهُ صائمًا، فأمرَهُ أنْ يحادِثَهُ في يومِهِ هذا، ثم يختِمُ ذلك بفِطْرِه عندَه، قال: فحادَثْتُه حتَّى أخذَهُ النَّوم، فقمتُ عنهُ وقلت: أقِيلُ في مَنْزِلي، ثم أجيءُ بعدَ ذلك، فذهبتُ فنمتُ قليلًا ثم قمتُ فأقبلتُ إلى دارِه، فإذا على بابهِ بَشِيرٌ يُبَشِّرُ بفتحِ السِّند وبيعتِهمْ للخليفة، وتسليم الأمور إلى نُوَّابِه، قال: فحَمِدتُ اللَّه الذي وفَّقني في الدخولِ عليهِ بِهذه البِشارة، فدخلتُ الدَّار، فإذا بشير آخر معه بشارةٌ بفتحِ إفْريقيَة، فحمِدت اللَّه، فدخلت عليه فبشَّرْتُهُ بذلك وهو يُسَرِّحُ لِحيتَهُ بعدَ الوضوء، فسقط المشطُ من يدِه ثم قال: سبحان اللَّه! كلُّ شيءٍ بائدٌ سواه، نُعِيَتْ واللّهِ إليَّ نفسي، حدثني إبراهيمُ الإمام عن أبي هاشم، عن عبد اللَّه بن محمد بن عليِّ بن أبي طالب، عن علي بن أبي طالب، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يَقْدَمُ عليَّ في مَدينتي

(1)

ذكر البيتين ابن الأثير في الكامل في التاريخ (5/ 99)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (79/ 6) وعزاهما للسفاخ.

(2)

في تاريخ بغداد (10/ 49).

ص: 287

هذِهِ وافدان، وافدُ السِّنْد، والآخر وافدُ إفريقِيَةَ بسَمْعِهم وطاعَتِهم وبَيْعَتِهم، فلا يَمضي بعدَ ذلك ثلاثةُ أيام حتَّى أموت". قال: وقد أتاني الوافدان، فأعظَمَ اللّهُ أجرَكَ يا عَمُّ في ابن أخيك، فقلت: كلَّا يا أميرَ المؤمنين إن شاء الله، قال: بلا إن شاء اللَّه. لئن كانتِ الدنيا حبيبةً فالآخرةُ أحَبُّ إليَّ، ولقاءُ رَبِّي خيرٌ لي. وصحَّةُ الروايةِ عن رسولِ الله بذلك أحَبُّ إلي منها، والله ما كَذَبْت ولا كُذِبْت. ثم نهض ودخل مَنْزِله، وأمرَني بالجلوس، فلما جاء المؤذِّنُ يُعلِمُه بوقتِ الظُّهر خرج الخادم يُعلمني أنْ أصلِّيَ عنه، وكذلك العصرَ والمغربَ والعشاء، كل ذلك يخرجُ الخادم فيأمرني أن أصلِّي عنه، وبِتُّ هناك، فلما كان وقتُ السَّحَر أتاني الخادمُ بكتاب معه، يأمرُني أنْ أصلِّيَ عنه الصُّبحَ والعِيد، ثم أرجعُ إلى داره، وفيه يقول: يا عَمّ. إذا متُّ فلا تُعلِمِ الناسَ في موتي حتَّى تقرأَ عليهم هذا الكتاب، فيُبايعوا لِمَنْ فيه، قال: فصلَّيت بالناس، ثم رجعتُ إليه، فإذا ليس به بأس، ثم دخلتُ عليه من آخرِ النهار، فإذا هو على حالِه، غيرَ أنه قد خرجَتْ في وجههِ حبَّتان صغيرتان ثم كَبُرتَا ثم صار في وجهه حَبٌّ صغار بِيض، يُقالُ إنه جُدَرِيّ، ثم بكَّرتُ إليه في اليوم الثاني من أيَّامِ التشريق. فإذا هو قد هُجِر، وذهبَتْ عنه معرفتي ومعرفةُ غيري، ثم رجعتُ إليه بالعَشِي، فإذا هو انتفخَ حتَّى صار مثل الزِّقّ، وتُوفيَ اليومَ الثالث من أيام التشريق، فسَجَّيتُهُ كما أمَرني، وخرجتُ إلى الناس فقرأتُ عليهم كتابَه، فإذا فيه: من عبدِ الله أميرِ المؤمنين إلى الرسولِ والأولياء وجماعة المسلمين، سلامٌ عليكم، أمَا بعد، فقد قَلَّدَ أميرُ المؤمنمِن الخلافةَ عليكم بعدَ وفاتِهِ أخاه، فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلَّدها من بعدِه عيسى بنَ موسى إنْ كان. قال: فاختلف الناسُ في قولهِ إنْ كان، قيل إنْ كان أهلًا لها، وقال آخرون: إنْ كان حيًا. وهذا القول الثاني هو الصواب. ذكره الخطيب

(1)

وابنُ عساكر مطوَّلًا

(2)

، وهذا مُلَخَّصٌ منه، وفيه ذكرُ الحديثِ المرفوع، وهو مُنكَر جِدًّا.

وذكر ابنُ عساكر

(3)

أن الطبيبَ دخل عليه فأخذ بيده، فأنشأ يقول عند ذلك:

انظُرْ إلى ضَعْفِ الحرَا ..... كِ وذُلِّهِ بعدَ السُّكُونْ

يُنْبِيكَ أنَّ بيانَهُ .... هذا مقدِّمةُ الْمَنُونْ

قال الطبيب: أنتَ صالح. فأنشأ يقول:

يُبَشِّرُنِي بأنِّي ذو صلاح

يَبِينُ لَهُ وبي داءٌ دَفينُ

لقد أيقنتُ أنِّي غيرُ باقٍ

ولا شَكٌّ إذا وَضَحَ اليَقِينُ

(1)

في تاريخه 10/ 50 - 51.

(2)

في تاريخ مدينة دمشق (32/ 291 - 294).

(3)

في تاريخ مدينة دمشق (32/ 290).

ص: 288

قال أهلُ العلم: كان آخرَ ما تكلَّمَ به السفَّاح: الملكُ لله الحَيِّ القَيُّوم، ملكِ الملوك، وجبَّارِ الجبابرة، وكان نقشُ خاتَمهِ: اللَّه ثقةُ عبد اللَّه. وكان موتُهُ بالجُدَرِيّ، في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحِجَّة سنةَ ستٍّ وثلاثين ومئة بالأنبارِ العَتيقة، عن ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، وكانتْ خلافتُهُ أربعَ سنين وتسعةَ أشهر على أشهر الأقوال، وصلَّى عليه عمُّه عيسى بن علي. ودُفن في قصرِ الإمارةِ من الأنبار، وتَرَك تسع جِباب، وأربعةَ أقمصة، وخمسَ سراويلات، وأربعة طيالِسَة، وثلاثةَ مَطَارِفِ خَزٍّ، وقد ترجَمَهُ ابنُ عساكر فذكر بعضَ ما أورَدْنا

(1)

والله أعلم.

‌وممن تُوفي فيها من الأعيان:

السفَّاح كما تقدَّم،

وأشعَثُ بن سَوَّار،

وجعفر بنُ أبي ربيعة

وحُصين بن عبد الرحمن،

ورَبيعة الرأي،

وزيد بن أسلم،

وعبد الملك بن عُمير،

وعبد اللَّه بن أبي جعفر،

وعطاء بن السائب، وقد ذكرنا تراجمهم في "التكميل" وللّه الحمد.

‌خلافة أبي جعفر المنصور

واسمه عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، قد تقدَّمَ أنَّهُ لَمَّا مات السفَّاح كان في الحجاز، فبلَغَهُ موتُه وهو بذاتِ عِرْق راجعًا من الحَجّ، وكان معه أبو مسلم الخُرَاساني فعجَّل السَّير، وعزَّاهُ أبو مسلم في أخيه، فبَكَى المنصور عندَ ذلك، فقال له: أتبكي وقد جاءَتْك الخلافة، أنا أكفيكَها إنْ شاء اللَّه، فسُرِّيَ عنه. وأمر زيادَ بنَ عُبيد اللَّه أنْ يرجعَ إلى مكَّة واليًا عليها، وكان السفَّاحُ قد عزلَهُ عنها بالعباس بن عبد اللَّه بن معبد بن عباس، فأقَرَّهُ عليها. والنُوَّابُ على أعمالِهم حتَّى انسلخَتْ هذه السنة. وقد كان عبدُ الله بن علي قَدِم على ابن أخيه السَّفَّاح الأنبارَ فأمَّرَهُ على الصائفة، فركب في جيوشٍ عظيمةٍ

(1)

انظر مصادر ترجمته في حاشية الصفحة (285).

ص: 289

إلى بلادِ الرُّوم، فلما كان ببعضِ الطريق بلغَهُ موتُ السفَّاح فكَرَّ راجعًا إلى حَرَّان، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفَّاحَ كان عهِد إليه حينَ بعثه إلى الشام أنْ يكونَ وليَّ العهدِ من بعدِه، فالتفَّتْ عليه جيوشٌ عظيمة، وكان من أمرِهِ ما سنذكرُهُ في السنةِ الآتية إنْ شاء اللَّه تعالى.

‌ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومئة

‌ذكر خروج عبد اللَّه بن علي بن عبد اللَّه بن العباس على ابنِ أخيه المنصور

لما رجَعَ أبو جعفر المنصور من الحج بعدَ موتِ أخيه السفَّاح دخل الكوفةَ فخطَبَ بأهلِها يوم الجمعة، وصلَّى بِهم، ثم ارتحل منها إلى الأنبار وقد أخذَتْ له البَيْعَةُ من أهل العراق وخُراسان وسائرِ البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بنُ علي بيوتَ الأموالِ والحواصلِ للمنصور حتَّى قَدِمَ فسلَّمَ إليه الأمر، وكتب إلى عمِّهِ عبدِ اللَّه بنِ علي - وهو بالرُّوم - يُعلِمُهُ بوفاةِ السفَّاح، فلما بلَغَهُ الخبَرُ نادَى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الأمراءُ والناس فقرَأَ عليهم وفاةَ السفَّاح، ثم قام فيهم خطيبًا، فذكر أنَّ السفَّاح كان عَهِدَ إليه حين بعثه إلى مروان أنْ يكونَ الأمرُ إليه من بعدِه، وشهد له بذلك بعضُ أمراءَ العِراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجَعَ إلى حَرَان فتسلَّمَها من نائبِ المنصور بعدَ محاصرةٍ أربعينَ ليلة، وقتل مقاتل العَتكِي نائبُها، فلمَّا بلغ المنصورَ ما كان من أمرِ عمِّه بعثَ إليه أبا مسلمٍ الخُراسانيَّ ومعه جماعةٌ من الأمراء، وقد تحصَّنَ عبدُ الله بن علي بِحَرَّان، وأرصد عنده مما يحتاجُ إليه من الأطعمةِ والسلاح شيئًا كثيرًا جدًّا، فسار إليه أبو مسلمٍ الخُراسانيّ، وعلى مقدّمتهِ مالكُ بن هيثم الخُزَاعي، فلما تحقَّق عبدُ الله قدومَ أبي مسلم إليه خَشِيَ من جيشِ العراق الذين معَهُ أنْ لا يُناصحوه، فقَتَلَ منهم سبعةَ عشرَ ألفًا، وأراد قتلَ حُميد بن قَحْطَبة، فهرَبَ منه إلى أبي مسلم، فركب عبدُ اللَّه بن علي فنَزل على نَصِيبِين، وخندَقَ حولَ عسكرِه وأقبل أبو مسلم فنَزل ناحيته، وكتب إلى عبدِ اللَّه: إني لم أومَرْ بقتالِك، وإنما بعثني أميرُ المؤمنين واليًا على الشام، فأنا أريدها. فخاف جنودُ الشام من هذا الكلام فقالوا: إنَّا نخافُ على ذَرَارِينا وديارِنا وأموالِنا، فنحن نذهبُ إليها نَمْنَعُهم منه. فقال عبدُ اللَّه: ويحكم، واللّهِ لم يأتِ إلَّا لقتالِنا، فأبَوْا إلَّا أنْ يَرتحلوا نحو الشام، فتحوَّل عبدُ اللَّه من مَنْزليِ ذلك، وقصَدَ ناحيةَ الشام، فنهض أبو مسلم فنَزَل موضعَهُ، وغوَّر ما حولَهُ من المياه، وكان موضعُ عبدِ اللَّه الذي تحوَّلَ منه موضعًا جيدًا جدًّا، فاحتاجَ عبدُ اللَّه وأصحابُه فنَزلوا في موضعِ أبي مسلم فوجدوه مَنْزلًا رديئًا.

ثم أنشأ أبو مسلمٍ القتال، فحَاربَهم خمسةَ أشهر، وكان على خيلِ عبدِ اللَّه أخوهُ عبدُ الصمدِ بن علي، وعلى ميمنتِهِ بَكَّارُ بن مسلم العُقَيلي، وعلى ميسرته حَبِيب بن سُويد الأسدي، وعلى ميمنةِ أبي مسلم الحسنُ بن قَحْطبة، وعلى ميسرَتِهِ أبو نصر خازم بن خُزَيمة، وقد جرَتْ بينهم وقعات، وقُتل منهم جماعاتٌ في أيامٍ نَحِسات، وكان أبو مسلم إذا حمَل يرتجزُ ويقول:

ص: 290

مَنْ كانَ يَنْوِي أهلَهُ فلا رَجَعْ ....... فَرَّ من الموتِ وفي الموت وَقَعْ

وكان يُعمل له عريش، فيكونُ فيه إذا التَقَى الجيشان، فما رأى في جيشِهِ من خلَل أرسل فأصلَحَه، فلمَّا كان يومُ الثلاثاء أو الأربعاء لسبعٍ خَلَوْنَ من جُمادَى الآخرة التَقَوْا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فمَكَرَ بِهم أبو مسلم، بعث إلى الحسن بن قَحْطَبة أميرِ الميمنة فأمرَهُ أن يتحوَّل بِمَنْ معه إِلَّا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهلُ - الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاءِ الميسرة التي تعمَّرَتْ، فأرسل حينئذٍ أبو مسلمٍ إلى القلب أنْ يَحمِلَ بمَنْ بقي في الميمنة على ميسرةِ أهلِ الشام، فحَطَموهُمْ، فجالَ أهلُ القلب والميمنةِ من الشاميِّين، فحمل الخراسانيُّون على أهلِ الشام، وكانتِ الهزيمة، وانهزم عبدُ اللَّه بن علي بعد تلوُّم، واحتاز أبو مسلم ما كانَ في مُعَسكرِهم من الأموالِ. والحَوَاصل، وأمَّنَ أبو مسلم بقيَّةَ الناس، فلم يقتلْ منهم واحدًا، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصورُ مولاه أبا الخصيب، لِيُحصِيَ ما وجدوا في معسكر عبد اللَّه، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني.

واستوسقتِ الممالكُ لأبي جعفر المنصور، ومضى عبدُ اللَّه بن علي وأخوه عبدُ الصمد على وجهَيْهِما، فلمَّا مَرَّا بالرُّصافة أقام بها عبدُ الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجدَهُ بِها، فأخذه معَهُ مقيَّدًا في الحديد، فأدخله على المنصور فدفعَهُ إلى عيسى بن موسى، فاستأمَنَ له المنصور، وقيل: بل استأمنَ له إسماعيلُ بنُ علي، وأمَّا عبدُ اللَّه بنُ علي فإنَّهُ ذهبَ إلى أخيه سُليمانَ بنِ علي بالبصرة، فأقام عندَهُ زمانًا مختفيًا، ثم علم به المنصور، فبعث إليه فسجنَهُ [في بيتِ بني أساسهُ على الملح، ثم أطلق عليه الماء، فذابَ المِلْحُ وسقطَ البيتُ على عبدِ اللّه فمات. وهذه من بعضِ دواهي المنصور، واللّه سبحانه أعلم]

(1)

. فلَبِثَ في السّجْنِ سبعَ سنين، ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء اللَّه تعالى.

‌مَهْلِكُ أبي مسلم الخراسانيّ

في هذه السنة أيضًا لَمَّا فرغ أبو مسلم من الحَجّ سبق الناسَ بِمَرْحَلَة، فجاءه خبَرُ السفَّاح في الطريق، فكتب إلى أبي جعفر يُعَزِّيِه في أخيه، ولم يهنئِّهُ بالخلافة، ولا رَجَعَ إليه، فغَضِبَ المنصورُ من ذلك مع ما كان قد أضمرَ له من السُّوءِ إذا أَفْضَتْ إليه الخلافة، وقيل: إنَّ المنصور هو الذي كان قد تقدَّمَ بين يدَيِ الحَجِّ بمَرْحلة، وإنه لَمَّا جاء خبَرُ موت أخيه كتبَ إلى أبي مسلم يستعجلُهُ في السيرِ كم قدَّمنْا

(2)

، فقال لأبي أيوب: اكتُبْ له كتابًا غليظًا. فلمّا بلغَهُ الكتابُ أرسلَ يُهنئِّهُ بالخلافة، وانقَمَع من ذلك، وقال بعضُ

(1)

هذه الزيادة بين الحاصرتين ليست في (ب، ح)، وهي زيادة وجدت في نسخة الآستانة كما في (ق).

(2)

في ص (285).

ص: 291

الأمراء للمنصور: إنَّا نرى أنْ لا تُجامعَهُ في الطريق، فإنَّ معه من الجنودِ مَنْ لا يُخالفُه، وهم لَهُ أهْيَب، وعلى طاعَتِهِ أحرص، وليس معَكَ أحد. فأخذ المنصورُ برأيه، ثم كان من أمرِهِ في مبايعته لأبي جعفر ما ذكَرْنا، ثم بعث إلى عَمَّه عبدِ اللَّه فكسَرَهُ كما تقَدَّم.

وقد بعثَ في غُبونِ ذلك

(1)

الحسنَ بن قَحْطَبَة لأبي أيُّوب كاتِبِ رسائلِ المنصور يشافههُ ويُخبِرُهُ بأنَّ أبا مسلمٍ متَّهَمٌ عند أبي جعفر، فإنَّهُ إذا جاءه كتابٌ منه يقرؤهُ ثم يَلْوِي شدقَيْه، وَيرْمِي بالكتابِ إلى أبي نصر، ويضحكانِ استهزاءً. فقال أبو أيوب: إنَّ تُهمة أبي مسلم عندنا أظهَرُ من هذا.

ولَمَّا بعث أبو جعفر مولاهُ أبا الخصيب يقطين ليحتاطَ على ما أُصيب من معسكر عبدِ اللَّه من الأموال والجواهر الثمينةِ وغيرِها غضب أبو مسلم، فشتَمَ أبا حعفرٍ وهَمَّ بأبي الخَصِيب حتَّى قيل له: إنما هو رسول، فتركَهُ ورجع أبو الخصيب. فلما قدم أخبر المنصورَ بما كان، وبما هَمَّ به أبو مسلم من قتلِه، فغضب المنصورُ وخشي أن يذهب أبو مسلم من مكانِه إلى خراسان فيشقُّ عليه تحصيلُهُ بعدَ ذلك، وأن تحدث حوادِثُ. فكتب إليه مع يقطين: إني قد ولَّيتك الشامَ ومِصر، وهما خيرٌ من خراسان، فابعَثْ إلى مصرَ مَنْ شئتَ وأقِمْ أنتَ بالشام لتكونَ أقربَ إلى أميرِ المؤمنين إذا أرادَ لقاءك كنتَ منه قريبًا. فغضب أبو مسلم من ذلك وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولايةُ خراسان، فإذًا أذهبُ إليها وأستخلفُ على الشام ومصر. فكتب إلى المنصور بذلك، فقَلِقَ المنصورُ من ذلك كثيرًا.

ورجع أبو مسلم من الشام قاصدًا خُراسانَ وهو عازِمٌ على مخالفةِ المنصور، فخرج المنصورُ من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم بالمصيرِ إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزَّاب عازِمٌ على الدخول إلى خُراسان، أنه لم يبقَ لأميرِ المؤمنين عدوٌّ إِلَّا مَكَّنَهُ الله منه، وقد كُنَّا نَرْوِي عن ملوكِ آلِ ساسان أنَّ أخوفَ ما يكونُ الوزراء إذا سكَنتِ الدهماء، فنحن نافرونَ من قُرْبِك، حريصون على الوفاءِ بعهدك ما وفيت، حَريُّونَ بالسمعِ والطاعة، غيرَ أنَّها من بعيد حيثُ يُقارِنُها السلامة، فإنْ أرضاكَ ذلك فأنا كأحسَنِ عبيدك، وإنْ أبيتَ إِلَّا أنْ تُعطيَ نفسك إرادَتَها نقَضْتُ ما أبرمتُ من عهدِكَ ضَنًّا بنفسي عن مقاماتِ الذُّلِّ والإهانة. فلما وصل الكتابُ إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمتُ كتابَك، وليستْ صِفَتُكَ صِفَةَ أولئك الوزراء الغَشَشَة إلى ملوكِهم الذين يتمنَّوْنَ اضطرابَ حبلِ الدولةِ لكثرةِ جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدُّدِ نظام الجماعة، فلِمَ سوَّيتَ نفسَكَ بهم وأنتَ في طاعتك ومُناصحتِك واضطلاعِكَ بما حملتَ من أعباء هذا الأمر على ما أنتَ به، وليس مع الشريطةِ التي أوجبَتْ منك سمعٌ ولا طاعة، وقد حمَّلَ أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسألةً ليسكُنَ إليها قلبُكَ إنْ أصغيتَ إليها، وأسألُ اللّهَ أنْ يحولَ

(1)

يعني في أثناء ذلك، انظر حاشية (2) الصفحة (280).

ص: 292

بين الشيطانِ ونزَغَاتِهِ وبينك، فإنَّهُ لم يجدْ بابًا يُفسِدُ به نِيَّتَك أوكدَ عندَهُ من هذا، ولا أقربَ من طبّهِ

(1)

من الباب الذي فَتَحَهُ عليك.

ويُقال: إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أمَّا بعد، فإني اتَّخذتُ رجلًا إمامًا، ودليلًا على ما افترض اللَّه على خلقِه، وكان في محلَّةِ العلمِ نازلًا، وفي قرابتِهِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قريبًا، فاستجهَلَني بالقرآنِ فحرَّفَهُ عن مواضعِهِ، طمعًا في قليل قد تعافاهُ اللَّه إلى خلقِه، وكان كالذي دَلَّى بغَرُور، وأمرني أنْ أُجَرّدَ السيفَ وأرفعَ المَرْحَمَة، ولا أقبلَ المعذِرَة، ولا أُقيلَ العَثَرة، ففعلتُ توطيدًا لسلطانِكُمْ، حتَّى عرَّفكم اللَّه مَنْ كان يجهَلُكم، وأطاعَكم مَنْ كان عدوَّكم، وأظهركم اللَّه بي بعد الإخفاء والحقارَةِ والذُّلّ، ثم استنقذني اللَّه بالتَّوبة، فإنْ يعفُ عني فقديمًا عُرف به، ونُسب إليه، وإنْ يعاقِبْني فبما قدَّمَتْ يداي، فما اللَّه بظلامٍ للعبيد. ذكره المدائني عن شيوخه

(2)

.

وبعث المنصورُ إليه جريرَ بنَ يزيدَ بنِ عبدِ اللَّه البَجَلي، وقد كان أوحدَ أهلِ زمانهِ في جماعةٍ من الأمراء، وأمرَهُ أنْ يُكَلّمَ أبا مسلمٍ باللّين كلامًا يقدِرُ عليه، وأن يكون في جملةِ ما يكلِّمُه به أنه يُريدُ رفعَ قَدْرِك، وعلوَّ مَنْزلتِك، والإطلاقاتِ لك، فإنْ جاء بهذا فذاك، وإنْ أبَى فقلْ: هو بريءٌ من العباس إنْ شققتَ العَصَا على وجهك، لَيُدْرِكَنَّكَ بنفسِه، وليقاتلَنَّك دونَ غيرِه، ولو خُضتَ البحرَ الخِضَمَّ لخاضَهُ خلفَك حتَّى يدركَكَ فيقتلكَ أو يموتَ قبل ذلك، ولا تقلْ له هذا حتَّى تيأسَ من رجوعِهِ بالتي هي أحسن.

فلمَّا قَدِمَ عليه أمراءُ المنصورِ بِحُلْوان دخلوا عليه، ولامُوهُ فيما هَمَّ بهِ من مُنابَذَةِ أميرِ المؤمنين وما هو فيه من مخالفتِه، ورغَّبوهُ الرجوعَ إلى الطاعة، فشاوَرَ ذوي الرأي من أمرائِه، فكلُّهم نَهاهُ عن الرجوعِ إليه وأشاروا بأنْ يُقيمَ في الرَّيّ، فتكونُ خراسانُ تحتَ حُكمِه، وجنودُه طوعًا له، فإن استقام لَهُ الخليفةُ وإلَّا كانَ في عِزٍّ ومَنَعَةٍ من الجُند، فعند ذلك أرسلَ أبو مسلم إلى أمراءَ المنصور فقال لهم: ارجِعوا إلى صاحبِكم، فلستُ ألقاه، فلمّا استيأسوا منه قالوا ذلك الكلامَ الذي كان المنصور أمرَهم به، فلما سمع ذلك كَسَرَهُ جِدًّا وقال: قوموا عني الساعة.

وكان أبو مسلم قدِ استخلف على خُراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصورُ في غَيبةِ أبي مسلم حين اتُّهم: إنَّ ولايةَ خُراسانَ لكَ ما بَقِيت، فقد ولَّيتكَها وعزَلْتُ عنها أبا مسلم. فعند ذلك كتَبَ أبو داودَ إلى أبي مسلمٍ حينَ بلَغَهُ ما عليه من مُنَابَذَةِ الخليفة أنه ليس يليقُ بنا منابذةُ خلفاءِ أهلِ بيتِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فارجِعْ إلى إمامِكَ سامعًا مُطيعًا والسلام. فزادَهُ ذلك كسرًا أيضًا، فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعثُ إليه أبا إسحاق، وهو مِمَّنْ أثِقُ به، فبعث أبا إسحاق إلى المنصور، فأكرمه

(1)

في (خ): "ظنه".

(2)

أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه (4/ 382) عن المدائني.

ص: 293

ووَعَدَهُ بنيابةِ العرافِ إنْ هو ردَّه، فلمَّا رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك؛ قال: رأيتُهم مُعظِمينَ لك، يعرفون قدرَك. فغَرَّهُ ذلك، وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرًا يُقالُ له نَيْزَك فنهاه، فصمَّمَ على الذهاب، فلما رآهُ نيزك عازمًا على الذهاب تمثَّلَ بقولِ الشاعر:

ما لِلرِّجَالِ مع القضاءَ محَالَةٌ .... ذهب القضاءُ بِحِيلَةِ الأقوامِ

ثم قال له: احفظْ عني واحدةً. قال: وما هي؟ قال: إذا دخلتَ عليه فاقتُلْهُ ثم بايعْ مَنْ شئتَ بالخلافة، فإنَّ الناسَ لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم يُعِلمُهُ بقُدومِهِ عليه. قال أبو أيوب كاتبُ الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جال في خِبَاءَ شعَر، جال في مُصَلاهُ بعدَ العَصْر، وبين يديه كتاب، فألقاهُ إليّ، فإذا هو كتابُ أبي مسلم يُعلمه بالقُدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملأتُ عيني منه لأقتلَنَّه. قال أبو أيوب: فقلتُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاَ إِليهِ رَاجُعونَ} [البقرة: 156] وبِتُّ تلك الليلةَ لا يأتيني نَوْم، وأفكِّرُ في هذه الواقعة، وقلت: إنْ دخل أبو مسلم خائفًا ربما يَبدو منه شرٌّ إلى الخليفة، والمصلحةُ تقتضي أن يدخلَ آمنًا ليتمكَّنَ منه الخليفة، فلما أصبحتُ طلبتُ رجلًا من الأمراء وقلتُ له: هل لك أن تتولَّى مدينةَ كَسْكَر

(1)

فإنها مُغِلَّةٌ في هذه السنة. فقال: ومَنْ لي بذلك؟ فقلت له: فاذهَبْ إلى أبي مسلم فتلقَّاهُ في الطريق فاطلبْ منه أنْ يُولِّيَكَ تلك البلد، فإنَّ أمير المؤمنين يُريد أن يُولِّيَهُ ما وراء بابه ويستريحَ لنفسه. واستأذنتُ المنصورَ له أنْ يذهبَ إلى أبي مسلم، فأذِنَ له وقال له: سَلِّمْ عليه وقُلْ له: إنَّا بالأشواق إليه. فسار ذلك الرجلُ وهو سلمة بن فلان

(2)

إلى أبي مسلم فأخبرَهُ باشتياقِ الخليفةِ إليه، فسرَّهُ ذلك وانشرح، وإنما هو غرورٌ ومَكْرٌ به، فلما سمع أبو مُسلم بذلك عجَّلَ الشَيْرَ إلى مَنِيَّتِه، فلما قرب من المدائن أمر الخليفةُ القوَّادَ والأمراءَ أنْ يتلقَّوه، وكان دخولُه على المنصور من آخرِ ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أنْ يؤخِّرَ قتلَهُ في ساعتِهِ هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه، فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العَشِيّ أظهر له الكرامةَ والتعظيم، ثم قال: اذهَبْ فأرح نفسَك، وادخُلِ الحمَّام، فإذا كان الغَدُ فأْتِني، فخرج من عنِده، وجاءه الناسُ يُسلِّمون عليه، فلما كان الغدُ طلب الخليفةُ بعضَ الأمراء فقال له: كيف بلائي عندَك؟ فقال: واللّه يا أمير المؤمنين لو أمرتَني أن أقتلَ تفسي لقتلتُها. قال: فكيف بك

(1)

كَسْكَر: بالفتح ثم السكون وكاف أخرى وراءه: معناه عامل الزرع، كُورةٌ واسعة يُنسَبُ إليها الفراريج الكَسْكَرية لأنها تكثر بها جدًّا، رأيتها أنها تُباع فيها أربعة وعشرون فروجًا كبارًا بدرهم واحد، قال ابن الحجاج: ما كان قط غذاءها إِلَّا الدجاج المصدّر، والبط يُجلب إليها، لكنْ يُجلَب من بعض أعمال كسكر، وقصَبَتُها اليومَ واسط، القصبة التي بين الكوفةِ والبصرة، وكان قصبتها قبل أن يُمَصِّرَ الحجاِجُ واسطًا خسرو سابور، ويقال: إنَّ حَدَّ كورةِ كَسْكَر من الجانب الشرقي في آخرِ سقْي النهروان إلى أن تصُبَّ دِجلةُ في البحرِ كله من كسكر فتدخل فيه على هذا البصرة ونواحيها. معجم البلدان (4/ 461).

(2)

هو سلمة بن سعيد بن جابر كما في تاريخ الطبري (4/ 384).

ص: 294

لو أمرتُكَ بقتلِ أبي مسلم؟ قال: فوَجَم ساعةً ثم قال له أبو أيوب: ما لَكَ لا تتكلَّم؟ فقال قولةً ضعيفة: أقتلُه. ثم اختار له من عيونِ الحرَس أربعةً، فحرَّضَهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرُّوَاق، فإذا صفَّقتُ بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه. ثم أرسل المنصورُ إلى أبي مسلم رسلًا تَتْرَى يتبع بعضُهم بعضًا، فأقبل أبو مسلم فدخل دارَ الخلافة، ثم دخل على الخليفة وهو يبتسِم، فلمَّا وقف بين يديه جعل المنصورُ يعاتِبُهُ في الذي صنَعَ واحدةً واحدةً، فيعتذِرُ عن ذلك كلِّه، فيما كان اعتمدَهُ من الأمور التي تسَرَّعَ فيها، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أرجو أن تكونَ نفسُكَ قد طابَتْ عليّ. فقال المنصور: أما واللّه ما زادَني هذا إلَّا غَيْظًا عليك. ثم ضرَبَ بإحدى يديه على الأخرى، فخرج عثمانُ وأصحابُه فضربوه بالسيوف حتَّى قتلوه ولفُّوهُ في عباءة، ثم أمَرَ بإلقائه في دِجْلَة، وكان آخرَ العَهْدِ به، وكان مقتَلُهُ في يومِ الأربعاء لأربع بَقِينَ من شعبان سنةَ سبعٍ وثلاثين ومئة. وكان من جُملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبتَ إليَّ مرَّاتٍ تبدأ بنفسِك، وأرسلتَ تخطبُ عمَّتي أمينة، وثزعمُ أنك ابن سليط بن عبد اللَّه بن عباس إلى غيرِ ذلك. فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين لا يُقال لي هذا وقد سعَيْتُ في أمرِكم بما عَلِمَهُ كلُّ أحد. فقال: وَيْلَك! لو قامَتْ في ذلك أمَةٌ سوداء لأتَمهُ اللَّه لجِدّنا وحَيْطَتِنا. ثم قال: واللّه لأقتلَنَّك. فقال: استبقِني يا أميرَ المؤمنين لأعدائك. فقال: وأيّ عدوٍّ لي أعدَى منك؛ ثم أمر بقتلِهِ كما تقدَّم. فقال له بعضُ الأمراء: يا أميرَ المؤمنين الآنَ صرتَ خليفة.

ويقال: إنَّ المنصور أنشدَ عندَ ذلك:

فألقَتْ عصاها واستقرَّ بِها النَّوَى

كما قَرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ

وذكر ابنُ خَلِّكان أنَّ المنصور لَمَّا أرادَ قتلَ أبي مسلم تحيَّرَ في أمره، هل يستشيرُ أحدًا في ذلك أو يستبدُّ هو لئلا يَشِيعَ وينتشر؟ ثم استشار واحدًا مَن نُصَحاء أصحابِه، فقال: يا أمير المؤمنين، قال اللَّه تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فقال له: لقد أودعتَها أُذُنًا واعية. ثم عزم على ذلك.

‌ترجمة أبي مسلم الخراساني

(1)

هو عبدُ الرحمن بن مسلم أبو مسلم، صاحبُ دولةِ بني العباس، ويُقالُ له أميرُ آلِ بيتِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (10/ 207)، تاريخ مدينة دمشق (35/ 408 و 67/ 224)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/ 461، و 5/ 21)، وفيات الأعيان (3/ 145)، المغني في الضعفاء (2/ 387)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (2/ 76)، ميزان الاعتدال (4/ 317)، لسان الميزان (3/ 436)، نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر (2/ 272)، النجوم الزاهرة (1/ 335).

ص: 295

وقال الخطيب

(1)

: يقال له عبد الرحمن بن مسلم بن سنفيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزِيّ، صاحبُ الدولةِ العباسية، يَرْوي عن أبي الزُّبَير [محمد بن مسلم المكِّي]، وثابت البُنَاني، وإبراهيم، وعبدِ الله بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس. زاد ابن عساكر

(2)

في شيوخه: محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حَرْمَلة، وعكرمة مولى ابن عباس.

قال ابنُ عساكر

(3)

: روى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مُصعَب بن بشر، وعبد الله بن شُبْرُمَة، وعبدُ اللَّه بن مُنِيب المروزي، وقُديد بن مَنِيع، صِهْر أبي مسلم.

قال الخطيب

(4)

: وكان أبو مسلم فاتكًا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن:

وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل إنه ولد بأصبهان، وروى عن السُّدِّي وغيرِه، وقيل اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن جودرن، من ولدِ بُزُرْجمْهر، وكان يُكنى أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السرَّاج، فحمله إلى الكوفة وهو ابنُ سبعِ سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له غَيِّرِ اسْمَكَ وكُنْيَتَك؛ فتَسَمَّى عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى بأبي مسلم، فسار إلى خُراسان وهو ابنُ سبعَ عشرةَ، راكبًا على حمارٍ بإكاف، وأعطاهُ إبراهيم بن محمد نفقة من عنده، فدخل خراسانَ وهو كذلك، ثم آلَ به الحال حتَّى صارَتْ له خُراسانُ بأزِمَّتِها وحَذَافيرِها.

وذكر بعضُهم أنه في ذهابهِ إليها عدا رجلٌ من بعضِ الحانات

(5)

على حمارِهِ فهَلَبَ ذنَبه

(6)

، فلما تمكَن أبو مسلم جعل ذلك المكان دَكًّا، فكان بعدَ ذلك خرابًا.

وذكر بعضُهم أنه أصابه سِبَاءٌ في صِغَرِهِ، وأنه اشتراهُ بعضُ دعاةِ بني العباس بأربعمئة درهم، ثم إن إبراهيم بن محمد الإمام استوهَبَهُ واشتراه، فانتمى إليه، وزوَّجهُ إبراهيمُ بنتَ أبي النَّجْم عمرانَ بنِ إسماعيل الطائيِّ أحَدِ دُعاتِهم لمَّا بعثه إلى خراسان، وأصدَقَها عنه أربعمئة درهم، فوُلد لأبي مسلم بنتان، إحداهما أسماءُ أعقبَتْ، وفاطمة لم تُعقب.

(1)

في تاريخ بغداد (10/ 207).

(2)

في تاريخ مدينة دمشق (35/ 408).

(3)

في تاريخه (408/ 35).

(4)

في تاريخ بغداد (10/ 207).

(5)

في (ح): "الحمامات".

(6)

الهُلْب: الشعر كله، وقيل: هو في الذنب وحده. وفرسٌ مَهْلُوب: مستأصَلُ شعَرِ الذنب، وهُلِبَ ذَنبهُ: أيْ استؤصل جَزًّا. لسان العرب (هلب).

ص: 296

وقد تقدَّمَ ذكرُ كيفيةِ استقلالِ أبي مسلم بأمورِ خُراسانَ في سنةِ تسع وعشرين ومئة، وكيف نشر دعوةَ بني العباس. وقد كان ذا هيبةٍ وصَرَامةِ وإقدام وتسَرُّعٍ في الأمور، وقد روى ابنُ عساكر

(1)

من طريقِ مصعب بن بشر، عن أبيه قال: قام رجلٌ إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السوادُ الذي أرى عليك؛ فقال: حدثني أبو الزُّبَير عن جابر بن عبدِ الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يومَ الفتح وعليهِ عمَامةٌ سوداء، وهذهِ ثيابُ الهيبةِ

(2)

وثيابُ الدولة، يا غلام، اضربْ عُنقَه.

وروى

(3)

من حديث عبد الله بن مُنيب عنه

(4)

عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جدِّهِ عبدِ الله بن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "منْ أراد هوانَ قُريشٍ أهانَهُ الله"

(5)

.

وقد كان إبراهيمُ بن ميمون الصائغُ من أصحابِهِ وجلسائهِ في زمَنِ الدعوة، وكان يَعِدُهُ إذا ظهَرَ أنْ يُقيمَ الحُدود، فلمَّا تمكَّنَ أبو مسلم ألحَّ عليهِ إبراهيمُ بن ميمون في القيام بما وَعَدهُ به حتَّى أحرَجَه، فأمرَ بضَرْبِ عُنقه بعد ما قال له: هلَّا تُنكرُ على نصرِ بنِ سيَّارٍ وهو يعملُ أوانيَ الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية؟ فقال له: إنَّ أولئك لم يُقرِّبوني من أنفسِهم ويَعِدُوني منها ما وعَدْتَني أنت.

وقد رأى بعضُهم - في المنام لإبراهيمَ بنِ مَيْمون هذا منازلَ عالية في الجنة بصَبْرِهِ على الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكر، فإنه كان آمرًا ناهيًا قائمًا في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله.

وقد ذكرنا طاعةَ أبي مسلمٍ للسَّفَاح واعتناءَهُ بأمرِه، وامتثالِ مَرَاسيمِه، فلمّا صار الأمرُ إلى المنصور استخفَّ بهِ واحتقرَهُ، ومع هذا بعثه إلى عمِّه عبدِ الله إلى الشام فكسرَهُ واستنقذ منه الشام ورَدَّها إلى حُكمِ المنصور، ثم شَمَختْ نفسُهُ على المنصور، وهمَّ بقتله، ففَطِنَ لذلك المنصور مع ما كان مُبْطنًا له من البِغْضَة في نفس الأمر، وقد سأل أخاهُ السفاحَ غيرَ مرَّةٍ أنْ يقتُلَهُ فصدَفَ عن ذلك؛ وذكرْنا أيضًا ما كان من أمرِ أبي مسلم والمنصور من المراسلات والمكاتبات حين استوحش منه المنصور، واتَّهَمهُ بسوء النِّيَّة،

(1)

في تاريخ مدينة دمشق (35/ 408، 409).

(2)

في (ق): "الهيئة"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر.

(3)

يعني ابن عساكر في تاريخه (35/ 409).

(4)

يعني أبا مسلم الخراساني.

(5)

رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 109) من طريق عبد اللَّه بن منيب، به، وإسناده ضعيف. ورواه الخطيب في تاريخه (15/ 9 بتحقيقنا) من قول ابن عباس موقوفًا عليه، وإسناده ضعيف أيضًا كما بينته في تعليقي عليه. لكن الحديث قد روي من طرق أخرى يرتقي بمجملها إلى درجة الحسن، فقد أخرجه أحمد في مسنده (1/ 183) والترمذي (3906) من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه أحمد أيضًا (1/ 64) وابن حبان (6269) من حديث عثمان بن عفان.

ص: 297

وما زال يراسِلُهُ ويستدعيه ويَخْدَعُه ويُماكِرُهُ حتَّى استحضَرَهُ فقتَلَه كما قدَّمنا بيانه

(1)

.

قال بعضُهم كتبَ المنصورُ إلى أبي مسلم: أمَّا بعد، فإنه يُرينُ على القلوب، ويَطْبَعُ عليها المعاصي فعِ أيها الطائش، وأفِقْ أيُّها السَّكْران، وانتبِهْ أيها النائم، فإنَّك مغرورٌ بأضغاثِ أحلام كاذبة، في بَرْزَخ دُنيا قد غرَّتْ منْ كانَ قَبْلَك، وُسِمَ بها سوالفُ القُرون {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] وإن اللَّه لا يُعجِزُهُ منْ هرَب، ولا يَفُوته من طلب، فلا تغترّ بمن معك من شيعتي وأهلِ دعوتي، فكأنَّهم قد صالوا عليك بعدَ أنْ صالوا معكَ إنْ أنتَ خلعتَ الطاعةَ وفارقتَ الجماعة، وبدا لَكَ من اللَّه ما لم تكنْ تحتسِب، مهلًا مهلًا، احذرِ البغيَ أبا مسلم، فإنه من بَغَى واعتَدَى تخفَى الله عنه، ونصر عليه منْ يصرَعُهُ لليدينِ والفمِ، واحذرْ أنْ تكونَ سُنَّةً في الذين قد خَلَوْا من قبلك، ومُثْلةً لمن يأتي بعدَك، فقد قامتِ الحُجة، وأعذرتُ إليك وإلى أهل طاعتي فيك. قال تعالى: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].

فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأتُ كتابَك، فرأيتُك فيه للصواب مجانبًا، وعن الحقِّ حائدًا، إذ تضربُ فيه الأمثالَ على غيرِ أشكالِها، وكتبتَ إليَّ فيه آياتٍ مُنْزلةً من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنَّني والله ما انسلختُ من آياتِ الله، ولكنَّني يا عبدَ اللّهِ بن محمد، كنتُ رجلًا متأوِّلًا فيكم من القرآن آياتٍ أوجبَتْ لكمُ الولايةَ والطاعة، فأتمَمْتُ بأخوينِ لك من قبلِك، ثم بكَ من بعدِهما، فكنتُ لهما شيعةً متديِّنًا، أحسبُني هاديًا مُهتدِيًا، وأخطأتُ في التأويل، وقِدْمًا أخطأ المتأوِّلون، وقد قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]؛ وإنَّ أخاكَ السفِّاحَ ظَهَرَ في صورةِ مَهْدِيّ، وكان ضالًا، فأمَرَنِي أن أُجَرِّدَ السيف وأقتلَ بالظِّنَّة، وأُقدمَ بالشُّبْهَة، وأرفعَ الرَّحْمَة، ولا أُقيلَ العَثَرة، فوترتُ أهلَ الدُّنْيا في طاعتِكم، وتَوْطِئَة سُلطانكم، حتَّى عرَّفكم اللَّه منْ كانَ جَهِلَكُم، ثم إن الله سبحانه وتعالى تدارَكَني منه بالنَّدَم، واستنقذني بالتَّوبة، فإنْ يَعْفُ عنِّي ويصفَح، فإنه كان للأوَّابين غفورًا، وإنْ يُعاقِبْني فبذنوبي، وما ربُّكَ بظلامٍ للعَبيد.

فكتب إليه المنصور: أمَّا بعدُ أيها المجرمُ العاصي، فإنَّ أخي كان إمامَ هُدى، يَدْعو إلى الله على بَيِّنةٍ من رَبّه، فأوضح لك السبيل، وحَمَلكَ على المنهِج السَّديد، فلو بأخي اقتديت لمَا كنتَ عن الحقِّ حائدًا، وعن الشيطانِ وأوامرِهِ صادرًا، ولكنَّه لم يسنحْ لكَ أمرانِ إِلَّا كنتَ لأرشَدِهما تاركًا، ولأغواهُما راكبًا، تقتُل قتلَ الفراعنة، وتبطِشُ بطشَ الجبابرة، وتَحكُمُ بالجَوْرِ حُكْمَ المفسدين، وتبذِرُ المالَ وتضَعُه في غير مَوَاضعِهِ فعلَ المسرفين؛ ثم من خَبَري أيها الفاسق، أنِّي قد ولَّيتُ موسى بن كعبٍ

(1)

انظر ص (291) من هذا الجزء.

ص: 298

خُراسان، وأمَرْتُهُ أنْ يُقيمَ بنَيْسابور، فإنْ أردتَ خُراسان لَقيَكَ بمَنْ معه من قُوَّادي وشيعتي، وأنا مُوَجِّهٌ للقائك أقرانَك، فاجْمَعْ كَيْدك وأمْرُكَ غيرُ مسدَّدٍ ولا مُوَفَّق؛ وحَسْبُ أميرِ المؤمنينَ ومَنِ اتَّبَعَهُ اللَّه ونعمَ الوَكيل.

ولم يزَلِ المنصورُ يُراسلهُ تارةً بالرغبة، وتارةً بالرَّهْبة، ويستخِفُّ أحلامَ منْ حَوْلَهُ من الأمراءَ والرسُل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور، ويَعِدُهم حتَّى حَسَّنوا لأبي مسلم في رأيه القُدومَ عليه سوى أمير معه يُقال له نَيْزك، فإنَّه لم يُوافقْ على ذلك، فلمَّا رأى أبا مسلم وقد انصاعَ لهم أنشدَ عن ذلك البيت المتقدِّم

(1)

وهو:

ما للرجال مع القضاء مُحالةٌ .... ذهب القضاءُ بحيلةِ الأقوام

وأشار عليه بأن يقتلَ المنصور ويستخلفَ بدَلَه؛ فلم يُمْكِنْهُ ذلك، فإنَّه لما قَدِمَ المدائن تلقَّاهُ الأمراءُ عن أمرِ الخليفة، فما وصل إلَّا آخرَ النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتبُ الرسائل أنْ لا يَقْتُلَهُ يومَهُ هذا كما تقدَّم. فلما وقف بين يدي الخليفة أكرَمهُ وعَظَمهُ وأظهرَ احترامَه وقال: اذهبِ الليلةَ فأذهبْ عنك وعْثاءَ السَّفَر ثم ائتِني من الغد. فلما كان الغَدُ أرصَدَ لهُ من الأمراءَ منْ يَقْتُلُه منهم عثمان بن نَهِيك، وشبيب بن واج، وأرسل إليه رسلًا تترى ليقدم عليه، فقتلوه كما تقدَّم

(2)

.

ويُقال بل أقام أيامًا يُظهِرُ له المنصورُ الإكرام والاحترام، ثم بَدَا له منه الوَحْشةُ، فخاف أبو مسلم، واستشفَعَ بعيسى بنِ موسى، واستجارَ به وقال: إني أخافُهُ على نفسي. فقال: لا بأس عليك. فانطلِقْ فإنِّي آتٍ وراءَكَ، أنتَ في ذمَّتي حتَّى آتيَكَ. ولم يكنْ مع عيسى خبرٌ بما يُريدُ بهِ الخليفة؛ فجاء أبو مسلم يستأذنُ المنصور، فقالوا له: اجلِسْ هاهنا، فإنَّ أميرَ المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يودُّ أنْ يطولَ مجلسُه، ليجيءَ عيسى بنُ موسى، فأبطأ، وأذنَ له الخليفة، فدخل عليه، فجعل يُعاتِبُهُ في أشياءَ صدَرَتْ منه، فيعتذرُ عنها جيدًا، حتَّى قال له: فلِمَ قتلتَ سليمان بن كَثير، وإبراهيمَ بنَ ميمون وفلانًا وفلانًا؛ قال: لأنَّهم عصَوْني وخالفوا أمْري. فغَضبَ عندَ ذلكَ المنصور وقال: وَيْحَك! أنتَ تقتُلُ إذا عُصيت، وأنا لا أقتُلُكَ وقد عصَيْتَني؟! وصَفَّقَ بيدَيْه، وكانتِ الإشارةَ بينه وبين أولئكَ المُرْصَدِين لقَتْلِه، فتبادروا إليه ليقتلوه، فضرَبَهُ أحدُهم فقطَعَ حمائلَ سيفِه، فقال: يا أميرِ المؤمنين استبقِني لأعدائك. فقال: وأيُّ عدوٍّ أعْدَى منك؟! ثم زجَرَهُم المنصور، فقطَّعوهُ قِطَعًا ولفُوْهُ في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على إثْر ذلك، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا أبو مسلم. فقال: إنا للّه وإنَّا إليه راجعون. فقال له المنصور: أحمد اللَّه الذي هجمت عليَّ نِعَمُه، ولم تَهجُمْ عليَّ نِقَمُه. ففي ذلك يقول أبو دُلامة:

(1)

تقدم ص (294).

(2)

تقدم ص (295).

ص: 299

أبا مسلم ما غيَّرَ اللّهُ نِعمةً ..... على عبدِهِ حتَّى يُغيِّرَها العَبْدُ

أبا مسلمٍ خَوَّفتَني القتلَ فانْتحى ..... عليك بما خَوَّفتَني الأسَدُ الوَرْدْ

(1)

وذكر ابنُ جرير

(2)

أنَّ المنصور تقدَّمَ إلى عثمانَ بنِ نَهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس، أن يكونوا قريبًا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه، وضرب بإحدى يديه على الأخرى فَلْيَقتلوه. فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور ما فعلَ السيفانِ اللذانِ أصبتَهما من عبدِ الله بن علي؟ فقال: هذا أحدُهما. فناوله السيف فوضعه تحت ركبته، ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاهُ عن الموات، أردتَ أنْ تعلِّمَنا الدِّين؟! قال: إنَّني ظننتُ أنَّ أخْذَهُ لا يَحِلّ، فلما جاءني كتابُ أميرِ المؤمنين علمتُ أنه وأهلَ بيته مَعْدِنُ العِلْم. قال: فلِمَ تقدَّمتَ عليَّ في طريقِ الحجّ؟ قال: كرهتُ اجتماعَنا على الماء، فيضرّ ذلك بالناس، فتقدَّمْتُ التماسَ الرِّفق. قال: فلِمَ لا رجعتَ إليَّ حين أتاكَ خبرُ موتِ أبي العباس؟ قال: كرهتُ التضييقَ على الناسِ في طريقِ الحجِ، وعرفتُ أنَّا سنجتمعُ بالكوفة، وليس عليكَ مني خلاف. قال: فجاريةُ عبدِ اللَّه بنِ علي أردتَ أن تتَّخِذها لنفسِك؟ قال: لا، ولكنْ خفتُ أن تَضِيعَ فحمَلْتُها في قُبَّة، ووكَلْتُ بِها من يَحفَظُها. ثم قال: ألستَ الكاتبَ إليَّ تبدأُ بنفسِك؟ والكاتب إليَّ تَخطُبُ أمينةَ بنتَ علي، وتزعمُ أنك ابنُ سَليط بن عبدِ الله بن عباس؟ هذا كلُّه ويَدُ المنصورِ في يَدِهِ يَعْرِكُها ويُقَبِّلُها ويعتذر؛ ثم قال له: فما حَمَلكَ على مُرَاغمتي ودخولكَ إلى خُراسان؟ قال: خِفْتُ أنْ يكونَ دَخَلكَ منِّي شيء، فأردتُ أنْ أدخُلَ خراسانَ وأكتبَ إليكَ بعُذْري. قال: فلِمَ قتلتَ سليمانَ بنَ كَثير وكان من نُقبانا ودُعاتنا قَبْلَك؟ قال: أرادَ خِلافي. فقال: وَيْحك! وأنتَ أردتَ خلافي وعَصَيتني، قَتَلَني اللَّه إنْ لم أقتُلْك. ثم ضرَبَهُ بعمودِ الخيمة، وخرج إليه أولئك، فضربه عثمانُ فقطَعَ حمائلَ سيفه، وضرَبَهُ شبيبٌ فَقَطعَ رِجْلَه، وحمَلَ عليه بقيتُهُمْ بالسيوف، والمنصورُ يَصيح: ويحكم اضربوه، قطَعَ اللَّه أيديكم. ثم ذبَحوه وقطَّعوه قطعًا قِطَعًا، ثم أُلقي في دِجْلة.

ويُروى أنَّ المنصورَ لمَّا قتلَه وقف عليه فقال: رَحِمكَ الله أبا مسلم بايعتَنا فبايعناك، وعاهدتَنا وعاهَدْناك، ووفيتَ لنا فوَفيْنا لك، وإنَّا بايعناك على أنْ لا يَخرجَ علينا أحدٌ في هذه الأيام إِلَّا قَتَلْناه، فخرَجْتَ علينا فقتَلْناك وحَكَمْنا عليك حُكْمكَ على نفسِك لنا. ويُقال: إنَّ المنصور قال: الحمدُ لله الذي أرانا يومكَ يا عدوَّ اللَّه.

(1)

البيتان في ديوان أبي دلامة ص (51): وزاد فيهما بيتًا ثالثًا هو:

أفي دَولَةِ الْمَهْديِّ حَاوَلْتَ غَدْرَةً .... ألا إن أهْلَ الغَدْرِ آباؤُكَ الكُرْدُ

(2)

هو الطبري في تاريخه (4/ 385) بألفاظ مقاربة.

ص: 300

قال ابنُ جرير

(1)

: وقال المنصورُ عند ذلك:

زعمتَ أنَّ الدَّيْن لا يُقتضَى .... فاستوفِ بالكَيْلِ أبا مُجْرِمِ

سُقيتَ كأسًا كنتَ تَسْقِي بها .... أمَرَّ في الحَلْق من العَلْقم

ثم إنَّ المنصورَ خطَبَ في الناسِ بعدَ قتلِ أبي مسلم فقال: أيها الناس، لا تُنَفِّروا أطيارَ النِّعَم بتَرْكِ الشُّكْر، فتَحِلَّ بكُمُ النِّقَم، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأئمَّة، فإنَّ أحدًا لا يُسِرُّ منكمْ شيئًا إِلَّا ظَهَرَ في فَلَتاتِ لسانِه، وصَفَحاتِ وَجْهِه، وطوالِعِ نَظَرِه، وإنَّا لنْ نجهَلَ حقوقَكُمْ ما عرَفْتُمْ حَقَّنا، ولا نَنْسى الإحسانَ إليكم ما ذكرتُمْ فضلَنا، ومنْ نازَعَنا هذا القَميص أوطأَنا أمَّ رأسِهِ حتَّى يستقيمَ رجالُكم، وترتَدِعَ عُمَّالُكم، وإنَّ هذا الغَمْرَ أبا مسلم، بايَعَ على أنَّهُ منْ نَكَثَ بيعتَنا، وأظهرَ غِشَّنا، فقد أباحَنا دَمَه، فنكَثَ وغدَرَ وفجَرَ وكفَر، فحكَمْنا عليه لأنفسنا حُكْمَهُ على غيرِه لنا؛ وإنَّ أبا مسلمٍ أحسَنَ مُبتديًا وأساءَ منتهيًا، وأخذَ من الناسِ بنا لنفسِهِ أكثرَ ممَّا أعطانا، ورَجَّحَ قبيحَ باطِنِه على حُسْنِ ظاهِرِه، وعَلِمْنا من خُبْثِ سريرَتِه وفسادِ نِيَّتِهِ ما لو علم اللائمُ لنا فيه لما لام، ولو اطَّلع على ما اطَّلَعْنا عليه منه لعَذَرَنا في قَتْلِه، وعَنَّفَنا في إمْهالِه، وما زال يَنْقُضُ بيعتَه، ويَخْفِرُ ذمَّتَه حتَّى أحلَّ لنا عقوبتَه، وأباحَنا دَمَه، فحكمنا فيه حُكْمهُ في غيرِهِ مِمَّنْ شقَّ العَصَا، ولم يمنَعْنا الحقُ له من إمضاءِ الحقِّ فيه، وما أحسن ما قالَ النابغةُ الذبياني للنعمان - يعني ابنَ المنذر:

فمنْ أطَاعكَ فانفَعْهُ بطاعتِهِ .... كما أطاعَكَ وادْلُلْهُ على الرَّشَدِ

ومنْ عصاكَ فعاقِبْهُ مُعاقبةً ..... تَنْهى الظلومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ

(2)

وقد روى البيهقيُّ عن الحاكمِ بسندِه، أنَّ عبدَ اللَّه بنَ المبارك سُئل عن أبي مسلم، أهو خيرٌ أمِ الحجَّاح؟ فقال: لا أقولُ أنَّ أبا مسلمٍ كان خيرًا من أحد، ولكنْ كان الحجَّاج شرًّا منه، قد اتهمَهُ بعضُهم على الإسلام، ورَمَوْهُ بالزَّنْدقة؛ ولم أرَ فيما ذكروهُ عن أبي مسلم ما يدلُّ على ذلك، بل على أنه كان ممَّنْ يخافُ الله من ذنوبهِ، وقد ادَّعَى التَّوْبة فيما كان منه من سَفْكِ الدماء في إقامةِ الدولة العباسية، والله أعلمُ بأمرِه.

وقد روى الخطيب

(3)

عنه أنه قال: ارتديتُ الصَّبْر، وآثرتُ الكفاف

(4)

، وحالفْتُ الأحزانَ والأشجان، وشامَخْتُ

(5)

المقاديرَ والأحكام، حتَّى بلغتُ غايةَ همَّتي، وأدركتُ نهايةَ بُغْيتي ثم أنشأ يقول:

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 386).

(2)

البيتان في ديوان النابغة الذبياني من قصيدة يمدح فيها النعمان المذكور ص (30).

(3)

في تاريخ بغداد (10/ 208).

(4)

في تاريخ الخطيب: "الكتمان"، وهو الأوفق.

(5)

في تاريخ الخطيب وسير أعلام النبلاء 6/ 53: "وسامحت".

ص: 301

قد نلتُ بالعَزْم والكِتْمانِ ما عَجَزتْ

عنه ملوكُ بني مروانَ إذْ حَشَدوا

ما زلتُ أضرِبُهم بالسيفِ فانتبهوا ..... من رَقْدةٍ لم ينَمها قبلَهم أحدُ

وطُفْتُ أسعى عليهم في ديارِهم ..... والقومُ في مُلكِهم في الشامِ قد رَقدوا

ومنْ رَعى غنمًا في أرضِ مَسْبعةٍ ..... ونامَ عنها تولَّى رَعْيَها الأسدُ

وقد كان قتلُ أبي مسلم بالمدائن يومَ الأربعاء لسبعٍ خلَوْنَ - وقيل لخمسٍ بَقين، وقيل لأربعٍ، وقيل لليلتينِ بَقِيتا - من شعبان من هذه السنة، أعني سنةَ سبعٍ وثلاثين ومئة.

قال بعضُهم: كان ابتداءُ ظهورِهِ في رمضان من سنةِ تسعٍ وعشرين ومئة، وقيل: في شعبان سنة سبعٍ وعشرين ومئة.

وزعم بعضُهم أنه قُتل ببغداد في سنةِ أربعين؛ وهذا غلَطٌ من قائله، فإنَّ بغدادَ لم تكُنْ بُنيت بعدُ كما ذكرَهُ الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول.

ثم إنَّ المنصور شرع في تأليف أصحابِ أبي مسلم بالأُعطية والرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعزِّ أصحابِ أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضَرْبِ عُنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما أمنتُ قطُّ إِلَّا في هذا اليوم، وما من مرَّةٍ كنتُ أدخلُ عليك إِلَّا تحنَّطْتُ ولبستُ كفَني، ثم كشف عن ثيابِهِ التي تَلِي جسَدَه، فإذا هو مُحنَّطٌ وعليه أدراعُ أكفان، فرن له المنصور وأطلَقَه.

وذكر ابنُ جرير

(1)

أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاهُ لأجل دولةِ بني العباس ستَّمئةِ ألفٍ صَبْرًا زيادة عن منْ قتلَ بغيرِ ذلك. وقد قال للمنصور وهو يعاتبهُ على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين لا يُقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني. فقال له: يا بن الخبيثة، لو كانتْ أمةٌ مكانَكَ لأجزأتْ ناحيتها، إنما عملتَ ما عملتَ بدولتِنا وبريحِنا، ولو كان ذلك إليك لما قطعتَ فَتيلًا. ولمَّا قتله المنصور لُفَّ في كساءً وهو مقطَعٌ إرْبًا إرْبًا، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟ قال: قد كان هاهنا آنفًا. فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفتَ طاعتَهُ ونَصِيحتَه، ورأيَ إبراهيمَ الإمامِ فيه! فقال له: يا أنْوَك، واللّه ما أعلمُ في الأرض عدوًّا أعدَى لكَ منه، هاهو ذاك في البِساط. فقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون. فقال له المنصور: خلَعَ اللَّه قلبَك، وهل كان لكم مكانٌ أو سلطان أو أمرٌ أو نَهْيٌ مع أبي مسلم؟ ثم استدعى المنصورُ برؤوسِ الأُمَرَاءِ فجعل يستشيرُهم في قتلِ أبي مسلم قبلَ أنْ يعلموا بقتلِه، فكلُّهم يُشيرُ بقتلِه، ومنهم منْ كانَ إذا تكلَّم أسَرَّ كلامَهُ خوفًا من أبي مسلم لئلا يُنقل إليه. فلمَّا

(1)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 386، 387).

ص: 302

أطلعَهم على قَتْلِه أفزَعهم ذلك، وأظهروا سرورًا كثيرًا. ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدَّم.

ثم كتب المنصورُ إلى نائبِ أبي مسلم على أموالِهِ وحواصِلِهِ بكتابٍ على لسان أبي مسلم، أنْ يقدمَ بجميعِ ما عندَهُ من الحواصلِ والذخائرِ والأموالِ والجواهر. وختم الكتابَ بخاتم أبي مسلم بكمالِه مطبوعًا بكلِّ فَصِّ الخاتم، فلما رآه الخازنُ استرابَ في الأمر، وقد كان أبو مسلم تقدَّمَ إلى خازِنِه، أنَّهُ إذا جاءك كتابي فإنْ رأيتَهُ مختومًا بنصفِ الفَصّ فامضِ لما فيه، فإني إنما أختمُ بنصفِ فَصِّهِ على كُتبي، وإذا جاءك الكتاب مختومًا عليه بكمالِهِ فلا تقبَلْ ولا تُمْضِ ما فيه. فامتَعَ عندَ ذلك خازنُه أنْ يقبلَ ما بعثَ به المنصور، فأرسلَ المنصورُ بعد ذلك إليه منْ أخذَ جميعَ ذلك. وقتَلَ ذلك الرجلَ الخازن.

وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيمَ بنِ خالد بإمْرَةِ خُراسان كما وَعَدهُ قبلَ ذلك عوضًا عن أبي مسلم.

وفي هذه السنة خرج سنباذ يطلُبُ بدمِ أبي مسلم، وقد كان سنباذُ هذا مجوسيًّا، تغلَّبَ على قُومِسَ

(1)

وأصبهان، ويُسمَّى بفيروز إصْبَهَبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشًا هم عشرة آلاف فارس، عليهم جَهْوَر بن مرار العِجْلي، فالتقَوْا بين هَمَذانَ والرَّيِّ بالمفازة، فهزم جَهْوَرُ لسنباذ، وقتل من أصحابِهِ ستينِ ألفًا وسَبَى ذرارِيَّهُمْ ونساءَهم، وقتل سنباذَ بعدَ ذلك، فكانتْ أيامُهُ سبعينَ يومًا، وأخَذَ ما كان استحوَذ عليهِ من أموالِ أبي مسلمٍ التي كانتْ بالرَّيّ

(2)

.

وخرج في هذه السنةِ أيضًا رجلٌ يُقالُ له مُلْبد بن حَرْمَلة الشيباني في ألفٍ من الخوارجِ بالجزيرة، فجهَّزَ إليه المنصورُ جيوشًا متعدِّدة كثيفة، كلُّها تنفرُ منه وتنكسِر، ثم قاتله حُميدُ بن قحطبة نائبُ الجزيرةِ فهزمَهُ مُلْبِد، وتحصَّنَ منه حُميد في بعضِ الحُصون، ثم صَالحَهُ حُميد بن قَحْطَبة على مئةِ ألف، فدفعها إليه وقَبِلَها مُلْبِد وانقلعَ عنه

(3)

.

وحج بالناس في هذه السنة عمُّ الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، قال الواقدي: وكان نائبَ المَوْصِل - يعني عمَّ المنصور - وعلى نيابةِ الكوفةِ عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حُميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله. ولم يكن للناس في هذه السنة صائفةٌ لشُغلِ الخليفةِ بسنباذ وغيرِه.

(1)

قُومِس: بالضم ثم السكون وكسر الميم وسين مهملة: هي تعريب كومس، وهي كُورةٌ كبيرة واسعة، تشتمل على مدنٍ وقُرىً ومزارع، وهي في ذيلِ جبالِ طَبَرسْتان، وأكبر ما يكون في ولاية ملكها وقصبتها المشهورة دامغان، وهي بين الري ونيسابور. معجم البلدان (4/ 414).

(2)

انظر تاريخ الطبري (4/ 388).

(3)

انظر تاريخ الطبري (4/ 388،389).

ص: 303

‌ومن مشاهير منْ تُوفِّي فيها:

أبو مسلم الخراساني كما تقدَّم.

ويزيدُ بن أبي زياد، أحدُ منْ تُكُلِّمَ فيه، كما ذكرناهُ في التكميل. والله سبحانه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومئة

فيها دخل قسطنطين ملكُ الرُّوم مَلَطيَةَ عَنْوة، فهدَمَ سورَها، وعَفَا عمَّنْ قدَرَ عليه من مُقاتليها.

وفيه غزا الصائفة صالحُ بنُ علي، نائبُ مصر، فبَنى ما كان هدَمَ ملكُ الروم من سُورِ مَلَطية، وأطلقَ لأخيهِ عيسى بنِ علي أربعين ألفَ دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباسِ بن محمد بن علي أربعين ألفَ دينار.

وفيها بايع عبدُ الله بن علي الذي كسَرَهُ أبو مسلم، وانهزَمَ إلى البصرة، واستجار باخيهِ سليمان بن علي حتَّى بايعَ للخليفةِ في هذه السنة ورجَعَ إلى طاعَتِهِ، ولكنْ حُبس في سجنِ بغداد كما سيأتي.

وفيها خَلَعَ جَهْوَرُ بن مرار العِجليُّ الخليفةَ المنصورَ بعدما كسرَ سنباذَ واستحوذَ على حواصلِه وعلى أموالِ أبي مسلم، فقويَتْ نفسهُ بذلك، وظنَّ أنه يقدرُ على منابذَةِ الخليفةِ بتلك الأموال، فأرسل إليه الخليفةُ محمدَ بن الأشعث الخُزاعيَّ في جيشٍ كَثيف، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهُزم جَهْوَر، وقُتل عامَّةُ منْ معه، وأُخذ ما كان معه من الأموالِ والحواصِلِ والذخائر، ثم لَحِقُوهُ فقتلوه.

وفيها قُتل المُلْبدُ الخارجيُّ على يدَيْ خازِم بن خُزيمة في ثمانية آلاف، وقُتل من أصحابِ المُلْبِد ما يزيدُ على ألف، وانهزم بقيَّتُهم.

قال الواقدي

(1)

: وحَجَّ بالناسِ فيها الفضلُ [بن صالح] بن علي [بن عبد الله بن عباس] والنوابُ فيها همُ المذكورونَ بالتي قبلَها.

‌وممَّن تُوفِّي فيها من الأعيان:

زيدُ بن واقد.

والعلاء بن عبد الرحمن.

وليث بن أبي سُليم في قول.

(1)

انظر تاريخ الطبري (4/ 391) وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 304

وفيها كانتْ خلافةُ الداخلِ من بني أمية إلى بلادِ الأندلس؛ وهو عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي [قلتُ: ليس هو بهاشمي إنما هو من بني أمية، ويُسمَّى أمويًّا]

(1)

، كان قد دخل إلى بلادِ المغرب [فِرَارًا من عبدِ اللَّه بن علي بن عبدِ اللَّه بن عباس] فاجتازَ بمَنْ معه من أصحابِه [الذين فَرُّوا معه] بقويم يقتتلونَ على عصبيَّةِ اليمانيةِ والمضريَّة؛ فبعث مولاه بدرًا إليهم فاستمالَهم إليه، فبايعوه ودخل بِهم، ففتح بلادَ الأندلس، واستحوذَ عليها، وانتزَعها من نائبِها يوسفَ بنِ عبدِ الرحمن بن حبيب بن أبي عُبيدة بن عُمبةَ بنِ نافع الفِهْرِي، وقتله وسكن عبدُ الرحمن قُرْطُبَة، واستمرَّ في خلافته في تلك البلاد من هذهِ السنة أعني سنةَ ثمان وثلاثين ومئة، إلى سنة ثنتَيْنِ وسبعين ومئة، فتوفِّي فيها ولَهُ في الملك أربعٌ وثلاثون سنةً وأشْهُرٌ، ثم قام من بعد ولَدُه هشام ستَّ سنين وأشهرًا، ثم مات فوَليَ بعدَهُ الحكَمُ بن هشام ستًا وعشرين سنةً وأشهرًا، ثم مات، ثم ولي بعده ولَدُه عبدُ الرحمن بن الحكم ثلاثًا وثلاثين سنة، ثم مات، ثم ولي بعدَهُ محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستًا وعشرين سنة، ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه محمد بن المنذر، وكانت أيامُه بعد الثلاث مئة بدَهْر. ثم زَالتْ تلك الدولةُ كما سنذكرُه من زوالِ تلك السنين وأهلِها، [وما قضَوْا من النعيمِ والعيش الرغيد، والنساء الحسان:

ثم انقضَتْ تلك السنونُ وأهلُها] ...... فكأنَّهم كانوا على ميعاد

(2)

[ثم أضحَوْا كأنَّهم ورَقٌ جَفّ

فألوَتْ عليهِ الصَّبا والدَّبُورُ]

(3)

‌ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومئة

فيها أكمل صالحُ بن علي بناءَ مَلَطْيَة، ثم غزا الصائفةَ على طريق الحدث، فوَغَلَ في بلادِ الروم، وغزا معه أختاه أمُّ عيسى ولُبَابَةُ ابنتا علي، وكانتا نذَرَتا إنْ زال ملكُ بني أميَّةَ أنْ يُجاهدا في سبيلِ اللَّه عز وجل.

وفيها كان الفداءُ الذي حصَلَ بين المنصور وبين ملكِ الرُّوم، فاستنقذَ بعض أسرى المسلمين، ثم لم يكنْ للناس صائفةٌ في هذه السنةِ إلى سنةِ ستٍّ وأربعين، وذلك لاشتغالِ المنصور بامرِ ابني عبدِ الله بن

(1)

ليس ما بين المعقوفين في (ب، ح)، وهو من (ق).

(2)

صدر البيت من قصيدة لأبي تمام وعجزه: "فكأنها وكأنهم أحلامُ" ص (72). وعجز البيت من قصيدة للأسود بن يعفر ذكرها صاحب الأغاني (13/ 20، 21، 23)، وصدره فيه:"جرت الرياح على محلِّ ديارهم".

(3)

نثر البيت في جميع النسخ وحرف، وهو من قصيدة لعدي بن زيد العبادي ذكرها أبو الفرج في أغانيه (2/ 139).

ص: 305

حسَن، كما سنذكره. ولكنْ ذكرَ بعضُهم أنَّ الحسن بن قَحْطَبة غزا الصائفةَ مع عبدِ الوهاب بنِ إبراهيم الإمام سنةَ أربعين، فاللّه أعلم.

وفيها وسَّع المنصور المسجدَ الحرام، وكانت هذه السنةُ خِصْبَة جدًّا، أي: كثيرَةَ الخِصْبِ، فكان يُقال لها السنة الخِصْبة، وقيل: إنما كان ذلك في سنةِ أربعين.

وفيها عزَلَ المنصورُ عمَّهُ سُليمان عن إمْرَةِ البصرة، فاختفى عبدُ اللَّه بن علي وأصحابهُ خوفًا على أنفسهم، فبعث المنصورُ إلى نائبِهِ على البصرة - وهو سفيان بن معاوية - يستحثُّهُ في إحضارِ عبدِ الله بن عليٍّ إليه، فبعثه في أصحابِه، فقتَلَ بعضهم، وسجَنَ عبدَ الله بن عليٍّ عمَّهُ، وبعث بقيةَ أصحابه إلى أبي داود، نائبِ خُراسان، فقتلهم هناك.

وحَجَّ بالناس فيها العباسُ بن محمد بن علي بن عبدِ اللَّه بن عباس.

وفيها تُوفِّي:

عمرو بن مجاهد.

ويزيد بن عبد الله بن الهاد.

ويونس بن عُبيد، أحَدِ العُبَّاد، وصاحبُ الحسن البصري.

‌ثم دخلت سنة أربعين ومئة

فيها ثار جماعةٌ من الجند على أبي داود نائبِ خُراسان، وحاصروا دارَه، فأشرف عليهم وجعَلَ يستغيثُ بجندِهِ ليَحْضُروا إليه، واتَّكأ على آجُرَّةٍ في الحائط فانكسرَتْ به، فسقط فانكسَرَ ظهرُهُ فمات، فخَلَفَهُ على خراسان عاصمٌ صاحبُ الشُّرطة، حتَّى قدِمَ الأميرُ من جهةِ الخليفةِ عليها، وهو عبدُ الجبار بن عبدِ الرحمن الأزْدي، فتسلَّمَ بلادَ خُراسان، وقتَلَ جماعة من الأمراء، لأنه بلغَهُ عنهم أنهم يدعون إلى خلافةِ آلِ عليِّ بن أبي طالب، وحبَسَ آخرين، وأخذ نُوَّابَ أبي داود بِجبِاية الأموالِ المنكسرةِ عندَهم.

وفيها حَجَّ بالناس الخليفةُ المنصور، أحرَمَ من الحِيرة، ورَجَعَ بعدَ انقضاءِ الحج إلى المدينة، ثم رَحَلَ إلى بيتِ المقدِس، فزارَهُ ثم سلك الشام إلى الرَّقهّ، ثم سار إلى الهاشمية، هاشميةِ الكوفة، ونُوَّابُ الأقاليم همُ المذكورون في التي قبلَها سوى خراسان، فإنه مات نائبُها أبو داود، فخلَفَهُ مكانَهُ عبدُ الجبار الأزْدي.

وفيها تُوفِّي:

داودُ بن أبي هِنْد.

ص: 306

وأبو حازم سلمَةُ بن دِينار.

وسُهيل بنُ أبي صالح.

وعُمَارة بن غَزِيَّة.

وعمرو بن قيس السَّكُونيّ.

‌ثم دخلت سنة وإحدى وأربعين ومئة

فيها خرجَتْ طائفةٌ يُقال لها الرَّاوَنْدِيَّة على المنصور.

ذكَرَ ابنُ جَرِير

(1)

عن المدائني أنَّ أصلَهُمْ من خُراسان، وهم على رأي

(2)

أبي مسلم، كانوا يقولونَ بالتناسُخ، ويَزْعُمون أنَّ رُوح آدَمَ انتقلَتْ إلى عثمان بن نَهِيك، وأنَّ رَبَّهم الذي يُطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور، وأنَّ الهيثم بن معاوية جبريل. قبَّحهم اللَّه.

قال ابنُ جرير

(3)

: فأتَوْا يومًا قصرَ المنصور، قد جعلوا يطوفونَ به ويقولون: هذا قصرُ رَبِّنا، فأرسل المنصورُ إلى رؤسائهم، فحبس منهم مئتين، فغَضِبوا من ذلك وقالوا: علامَ تحبسُهم؟ ثم عمدوا إلى نَعْشٍ فحملوهُ على كواهِلِهم، وليس عليه أحد، واجتمعوا حَوْلَه، كأنَّهم يشيِّعون جنازةً، واجتازُوا ببابِ السِّجْن، فألقَوُا النعشَ ودخلوا السجنَ قَهْرًا، واستخرجوا مَنْ فيهِ من أصحابِهم، وقصدوا نحو المنصور، وهم في ست مئة، فتنادَى الناسُ وغُلِّقَتْ أبوابُ البلد، وخرج المنصور من القصر ماشيًا، لأنه لم يَجِدْ دابةً يركبها، ثم جيء بدابَّة فركبها، وقصد نحو الراوندِيَّة، وجاء الناسُ من كلِّ ناحية، وجاء معنُ بن زائدة، فلما رأى المنصورَ ترجَّلَ وأخَذَ بلِجَام دابَّةِ المنصورِ وقال: يا أميرَ المؤمنين، ارجِعْ نحنُ نَكْفيكَهم، فأبَى، وقامَ أهلُ الأسواقِ إليهم فقاتلوهم، وجاءتِ الجيوش، فالتفُّوا عليهم من كلِّ ناحية، فحصدوهم عن آخرِهم، ولم يبقَ منهم بقيَّة، وجرحوا عثمانَ بن نَهيك بشهمٍ بين كتفَيْه، فمرض أيامًا ثم مات، فصلَّى عليه الخليفة، وقام على قبرِه حتَّى دُفن، ودَعَا له، وولَّى أخاه عيسى بن نَهِيك على الحرس، وكان ذلك كُلُّه بالمدينة الهاشميةِ بالكوفة، ولَمَّا فرغ المنصورُ من قتال الرَّاوَنْدِيَّةِ ذلك اليوم صلَّى بالناسِ الظُّهر في آخرِ وقتِها، ثم أُتِيَ بالطعام فقال: أين مَعْنُ بن زائدة؟ وأمسك عن الطعام حتَّى جاء مَعْن، فأجلسَهُ إلى جَنْبِه، ثم أخَذَ في شُكْرِهِ لِمَنْ بِحَضرته، لمَا رأى من شهامتِهِ يومئذٍ، فقال مَعْن:

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 395).

(2)

في (ب، ح): "على دين أبي مسلم".

(3)

هو الطبري في تاريخه (4/ 395).

ص: 307

واللّه يا أميرَ المؤمنين، لقد جئتُ وإني لوَجِل، فلمَّا رأيتُ استهانتَكَ بِهِمْ وإقدامَك عليهم قَوِيَ قَلْبي واطمأنّ، وما ظننتُ أنَّ أحدًا يكونُ في الحَرْب هكذا، فذاك الذي شجَّعني يا أمير المؤمنين، فأمر له المنصور بعشرةِ آلاف، ورضي عنه، وولَّاهُ اليمن، وكان مَعْنُ بن زائدةَ قبلَ ذلك متخفيًا، لأنَّهُ قاتَلَ المسوِّدَةَ مع ابنِ هُبيرة، فلم يظهروا إِلَّا في هذا اليوم، فلمَّا رأى الخليفةُ صِدْقَهُ في قتالِه رضي عنه.

ويُقال: إن المنصور قالَ عن نفسِه: أخطأتُ في ثلاث: قتلتُ أبا مسلم وأنا في جماعةٍ قليلة، وحين خرجتُ من الشام، ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبَتِ الخلافة، ويوم الراوَنْدِيَّة، لو أصابني سَهْمٌ غَرْبٌ لذهبْتُ ضيَاعًا. وهذا من حَزْمِهِ وصرَامَتِه.

وفي هذه السنة ولَّى المنصورُ ابنَهُ محمدًا العَهْدَ من بعدِه، ودعاهُ بالمَهْدِيّ، وولَّاهُ بلادَ خُراسان، وعزَلَ عنها عبدَ الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتَلَ خَلْقًا من شيعةِ الخليفة، فشكاهُ المنصورُ إلى أبي أيوب كاتبِ الرسائل، فقال: يا أمير المؤمنين، أكتُبْ إليه لِيَبْعَثْ جيشًا كَثِيفًا من خُراسان إلى غَزْوِ الروم، فإذا خرجوا بعثتَ إليه مَنْ شئتَ فأخرجوه من بلادِ خراسانَ ذَلِيلًا. فكتب إليه المنصورُ بذلك، فردَّ الجوابَ بأنَّ بلادَ خراسان قد عاثَّتْ بِهَا الأتراك، ومتى خرَجَ منها جيشٌ خِيفَ عليها، وفسَدَ أمرُها. فقال المنصور لأبي أيوب: ماذا ترى؟ قال: فاكتُبْ إليه: إن بلادَ خراسان أحَقُّ بالمَدَدِ لثغورِ المسلمين من غيرِها، وقد جهَّزْتُ إليك الجنود، فكتب إليه أيضًا: إنَّ بلادَ خُراسان ضيقَةٌ في هذا العامِ أقواتُها، ومتى دخلها جيشٌ أفسدَها. فقال الخليفةُ لأبي أيوب: ماذا تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا رجلٌ قد أبدَى صفحتَه وخُلع، فلا تُناظِرْه. فحينئذٍ بعث المنصورُ ابنَهُ محمدًا المهديَّ لِيُقيمَ بالرَّيّ. فبعث المهديُّ بين يديه خازمَ بن خُزَيمة، مقدمةً إلى عبدِ الجبار، فما زال به يَخْدَعُهُ ومَنْ معه حتَّى هرَبَ مَنْ معه، وأخذوهُ هو، فأركبوه بعيرًا محوَّلًا وجهُهُ إلى ناحيةِ ذَنَبِ البعير، وسَيَّروهُ كذلك في البلاد، حتَّى أقدموه على المنصور، ومعه ابنُه وجماعةٌ من أهلِه، فضَرَبَ المنصورُ عُنقَه، وسيَّرَ ابنَهُ ومَنْ معه إلى جزيرةٍ في طرَفِ اليمن، فأسرَتْهُمُ الهنودُ بعدَ ذلك، ثم فُودي بعضُهم بعدَ ذلك، واستقرَّ المهديُّ نائبًا على خراسان، وأمرَهُ أبوهُ أنْ يَغْزُوَ طَبَرِسْتان، وأنْ يُحاربَ الإصْبَهْبَذ بِمَنْ معه من الجنود، وأمدَّهُ بجيشٍ عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلمِ الناس بِحَرْبِ طَبَرسْتان، وهو الذي يقول فيه الشاعر:

فقلْ للخليفة إن جئتَهُ .... نَصِيحًا ولا خيرَ في المتَّهَمْ

إذا أيقَظَتْكَ حُروبُ العِدَا .... فَنبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ

فَتىً لا ينامُ على دِمْنَةٍ .... ولا يشرَبُ الماءَ إِلَّا بِدَم

(1)

(1)

الشاعر بشار بن برد، والأبيات من قصيدة في ديوانه ص (588)، وتاريخ الطبري (4/ 398).

ص: 308

فلما تواقفتِ الجيوش على طَبَرِسْتانَ فتحوها، وحصروا الأصبَهْبَذ حتى ألجؤوهُ إلى قلعتِه، فصالَحَهم على ما فيها من ذخائر.

وكتب المهديُّ إلى أبيه بذلك، ودخل الأصبهبَذُ بلادَ الدَّيْلَم، فمات هناك، وكسروا أيضًا ملكَ التُّرك الذي يُقال له المَصْمَغان، وأسَرُوا أُمَمًا من الذَّرَارِي، فهذا فتحُ طَبَرِسْتانَ الأول.

وفيها فرغ بناء المصيصة على يَدَيْ جبريلَ بنِ يحيى الخراساني، وفيها رابَطَ محمدُ بن إبراهيم الإمام ببلادِ مَلَطْيَة.

وفيها عزَلَ المنصورُ زيادَ بن عبيد اللّه عن إمرةِ الحجاز، وولَّى المدينةَ محمد بن خالد القَسْري، وقَدِمَها في رجب. وولَّى مكةَ والطائف الهيثم بن معاوية العَكِّيّ، وفيها تُوفِّي موسى بن كعب، وهو على شُرْطةِ المنصور، وعلى مصر مَنْ كان عليها في السنةِ الماضية، ثم ولَّى مصر محمد بن الأشعث، ثم عزله عنها وولَّى نَوْفلَ بن الفرات.

وحجَّ بالناس فيها صالحُ بنُ علي، وهو نائبُ قِنَّسْرِينَ وحِمْصَ ودمشق، وبقيةُ البلاد عليها مَنْ ذكَرْنا في التي قبلَها، واللّه أعلم.

وفيها توفِّي:

أبانَ بن تغلب.

وموسى بن عُقْبَة صاحبُ المغازي.

وأبو إسحاق الشَّيباني في قول، واللّه سبحانه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومئة

فيها خلَعَ عُيَينةُ بن موسى بنِ كعب نائبُ السِّنْد الخليفة، فجهَّزَ إليه العساكر صُحبةَ عمرَ بنِ حفص بن أبي صُفْرَة، وولَّاهُ السِّنْدَ والهِنْد، فحاربه عمر بنُ حفص وقهَرَهُ على الأرض، وتسلَّمها منه.

وفيها نكَثَ أصبَهْبَذُ طَبَرِسْتانَ العَهْدَ الذي كان بينَهُ وبين المسلمين، وقتل طائفةً مِمَّنْ كان بطَبَرسْتان، فجهَّز إليه الخليفةُ الجيوش صُحبةَ خازم بن خُزيمة، ورَوْح بن حاتم، ومعهم مَرْزوق أبو الخَصِيب مولى المنصور، فحاصروهُ مُدَّة طويلة، فلما أعياهُمْ فَتْحُ الحِصْنِ الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أنَّ أبا الخَصِيب قال: اضرِبُوني واحلِقُوا رأسِي ولحْيتي، فذهب إليه كأنَّهُ مُغاضِبٌ للمسلمين، قد ضربوه وحَلَقوا لِحْيتَه، فدخل الحِصْنَ، ففرِحَ به الأصْبَهْبَذ، وأكرَمَهُ وقرَّبه، وجعل أبو الخَصِيب يُظْهِرُ له النُّصْحَ والخِدْمة حتى خدَعَهُ وحظي عندَه جِدًّا، وجعله من جُملةِ مَنْ يتولَّى فتحَ الحِصْنِ وغَلْقَه، فلمَّا تمكَن من

ص: 309

ذلك كاتَبَ المسلمين وأعلَمَهم أنه الليلةَ الفلانية في حرَسِه، فاقترِبُوا من الباب حتى أفتحَهُ لكم. فلما كانتْ تلك الليلة فتَحَ لهم بابَ الحصن، فدخلوا فقتلوا مَنْ فيهِ من المقاتِلة، وسبَوْا الذُرِّيَّة، وامتصَّ الأصْبَهْبَذُ خاتمًا مسمومًا فمات. وكان فيمن أَسِروا يومئذٍ أُمُّ منصورٍ بن المهدي، وأُمُّ إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بناتِ الملوك الحِسَان.

وفيها بَنَى المنصورُ لأهلِ البَصرةِ قبلتَهم التي يُصلُّون عندها بالجَبَّان، وتولى بناءها سَلَمَةُ بن سعيد بنِ جابر نائبُ الفرات والأُبُلَّة. وصام المنصورُ شهر رمضانَ بالبصرة، وصلَّى بالناسِ العِيدَ في ذلك المصلَّى.

وفيها عزَلَ المنصور نوفلَ بن الفُرَات عن إمْرَةِ مصر، وولَّى عليها حُميدَ بن قَحْطَبة، وحجَّ بالناسِ فيها إسماعيلُ بن علي.

وفيها تُوفي:

سليمانُ بن علي بن عبدِ اللّه بن عباس

(1)

: عَمُّ الخليفة، ونائبُ البصرة، كان ذلك يومَ السبت لسبعٍ بَقِينَ من جُمَادَى الآخرة وهو ابنُ تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوهُ عبدُ الصمَد، ورَوَى عن أبيه وعكرمة، وأبي بُرْدَةَ بنِ أبي موسى. وعنه جماعةٌ منهم بنوهُ جعفر، ومحمد، وزينب، والأصمعي.

وكان قد شاب وهو ابنُ عشرين سنة، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن. وكان كريمًا جوادًا مُمَدَّحًا، وكان يُعتِقُ عشيةَ عرفة في كل سنة مئةَ نسمة، وبلغتْ صِلاتُهُ لبني هاشم وسائرِ قريش والأنصار خمسةَ آلافِ ألف. واطَّلعَ يومًا من قصره، فرأى نسوةً يَغْزِلْنَ في دارٍ من دورِ البصرة، فاتفق في نظرِهِ إليهن أنْ قالَتْ واحدةٌ منهنّ: لو أنَّ الأمير نظَرَ إلينا واطلع على حالِنا فأغنانا عن الغَزْل. فنهض من فوره، فجعل يدورُ في قصره، ويجمَعُ من حُلِي نسائهِ من الذهبِ والجواهر وغيرِها ما ملأ به مِنْديلًا كبيرًا، ثم دَلَّاهُ إليهن ونثَرَ عليهنَّ من الدنانير والدراهمِ شيئًا كثيرًا، فماتَتْ إحداهنَّ من شدَّةِ الفرَح، فأعْطَى دِيَتَها، وما تركَتْهُ من ذلك لورَثَتِها.

وقد وليَ الحجَّ في أيامِ السفَّاح، ووَليَ البصرةَ أيامَ المنصور، وكان من خِيَارِ بني العباس، وهو أخو إسماعيل، وداودَ وصالحٍ وعبدِ الصمد وعبدِ الله وعيسى ومحمد، وهو عَمُّ السفَّاحِ والمنصور.

(1)

ترجمته في: طبقات ابن سعد (القسم المتمم) ص (246)، التاريخ الكبير (4/ 25)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 69)، تهذيب الكمال (12/ 44)، الكاشف (1/ 462)، سير أعلام النبلاء (6/ 162)، تقريب التهذيب (253).

ص: 310

‌وممن تُوفِّي فيها من الأعيان:

خالدٌ الحذَّاء.

وعاصمٌ الأحول.

وعمرو بن عُبيد القَدَريُّ في قول، وهو: عمرو بن عُبيد بن باب

(1)

ويُقال: ابن كيسان التميمي، مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناءِ فارِس، شيخِ القَدَرِيَّة والمعتزلة. روى الحديث عن الحسن البصري، وعبيد اللّه بن أنس، وأبي قِلابة. وعنه الحمَّادان، وسفيان بن عُيينة، والأعمش - وكان من أقرانه - وعبدُ الوارث بن سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطَّان، ويَزِيد بن زُرَيع.

قال الإمام أحمد بن حنبل

(2)

: ليس بأهلٍ أن يُحدَّث عنه.

وقال علي بن المديني ويحيى بن معين: ليس بشيء. وزاد ابنُ مَعِين: وكان رجلَ سَوْء، وكان من الدَّهْرِيَّة الذين يقولون: إنما الناس مثلُ الزَّرْع

(3)

.

وقال الفلَّاس: متروك، صاحبُ بِدْعَة، كان يحيى القطَّان يحدِّثنا عنه ثم تركه. وكان ابنُ مهدي لا يحدِّث عنه. وقال أبو حاتم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال شعبة عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عُبيد يكذِبُ في الحديث. وقال حماد بن سلمة: قال لي حُميد: لا تأخُذْ عنه، فإنه كان يكذِبُ على الحسَنِ البصري. وكذا قال أيوب وعوف وابنُ عَوْن. وقال أيوب: ما كنتُ أعدُّ لهُ عَقْلًا. وقال مطر الوزَاق: واللّه لا أُصدِّقُه في شيء. وقال ابنُ المبارك: إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القَدَر.

وقد ضعَّفه غيرُ واحدٍ من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزُهدِهِ وتقشُّفه. قال الحسن البصري: هذا سيدُ شبابِ القُرَّاء ما لم يُحدِث. قالوا فأحدثَ واللّه أشدَّ الحدَث.

وقال ابن حبّان

(4)

: كان من أهلِ الورع والعبادةِ إلى أن أحدَثَ ما أحدث، واعتزَلَ مجلسَ الحسَن هو

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (6/ 352)، الضعفاء الصغير له ص (85)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 547)، الضعفاء والمتروكين للنسائي ص (79)، الجرح والتعديل (6/ 246)، الكامل لابن عدي (5/ 96)، الضعفاء للعقيلي (3/ 277)، الضعفاء لأبي نعيم ص (118)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 229)، تهذيب الكمال (123/ 22)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 390)، سير أعلام النبلاء (6/ 104)، ميزان الاعتدال (5/ 329) لسان الميزان (7/ 326).

(2)

في كتابه بحر الدم ص (321).

(3)

انظر المجروحين لأبي حاتم بن حبان البستي (2/ 70).

(4)

في المجروحين (2/ 69).

ص: 311

وجماعةٌ معه، فسُمُّوا المعتزلة، وكان يشتُمُ الصحابةَ ويكذِبُ في الحديث وَهْما لا تعَمُّدًا.

وقد رُوي عنه أنه قال: إنْ كانتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] في اللَّوح المحفوظ فما تُعَدُّ منه على ابنِ آدمَ حُجَّة

(1)

.

ورُوي له حديثُ ابنِ مسعود: حدثنا الصادف المصدوق "إنَّ خَلْقَ أحَدِكم يُجمَعُ في بطنِ أُمِّه أربعين يومًا" حتى قال: "فيؤمر بأربعِ كلماتٍ رزقِهِ وأجَلِهِ وعمَلِهِ وشقيٌّ أمْ سعيد"

(2)

إلى آخره، فقال: لو سمعتُ الأعمش يرويه لكذبتُه، ولو سمعتُه من زيد بنِ وَهْب لما أحببتُه، ولو سمعتُه من ابنِ مسعود لما قَبِلْتُه، ولو سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لردَدْتُه، ولو سمعتُ اللّه يقولُ هذا لقلتُ ما على هذا أخذتَ علينا الميثاق. وهذا أقبحُ من الكفر، لعنه الله إنْ كان قال هذا، وإذا كان مكذوبًا عليه فعلى مَنْ كذَبَهُ عليه ما يستحقُّه.

وقد قال عبدُ الله بن المبارك رحمه الله:

أيها الطالبُ علمًا

إيتِ حَمَّادَ بنَ زَيْد

فخُذِ العلمَ بِحِلْمٍ

ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ

وذَرِ

(3)

البِدْعَةَ مِنْ آ

ثارِ عَمْرِو بن عُبَيْدِ

(4)

وقال ابنُ عدي

(5)

: كان عمرٌو يغزُ الناس بتقَشُّفِهِ، وهو مذمومٌ ضعيفُ الحديثِ جدًّا، مُعْلِنٌ بالبِدَع.

وقال الدارَقُطْني: ضعيف الحديث. وقال الخطيب البغدادي

(6)

: جالس الحسن واشتهرَ بصُحْبَتِه، ثم أزالَهُ واصلُ بنُ عطاء عن مذهبِ أهلِ السُّنَة، وقال بالقَدَر ودَعَا إليه، واعتزَلَ أصحابَ الحديث، وكان له سمت

(7)

وإظهار زُهْد.

(1)

المصدر السابق.

(2)

أخرجه البخاري (6/ 2713)(7016) باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، وأحمد في مسنده (1/ 382)، وابن ماجة في سننه (1/ 29) (76) في باب: في القدر.

(3)

في (ح): "واردد البدعة"، والمثبت من (ب) ومصادر التخريج.

(4)

الأبيات الثلاثة في الكامل لابن عدي (5/ 100)، وحلية الأولياء (6/ 258) ورواية البيت الثالث فيه:

لا كثور وكجهم

وكعمرو بن عُبيدِ

والأول والثاني في التاريخ الكبير للبخاري (3/ 25)، والجرح والتعديل (1/ 179)، والمعجم الأوسط (3/ 380)(3455) وتاريخ بغداد (6/ 29).

(5)

في كتابه الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 110).

(6)

في تاريخ بغداد (12/ 166).

(7)

في تاريخ بغداد "سمعة".

ص: 312

وقد قيل: إنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين. وحكى البخاري

(1)

أن عَمْرًا مات سنة ثنتين أو ثلاثٍ وأربعين ومئة بطريق مكة.

وقد كان عمرو مَحْظِيًّا عند أبي جعفر المنصور، كان المنصورُ يُحبُّه ويعظّمه لأنه كان يَفِدُ على المنصور مع القرَّاء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذُ عمرٌو منه شيئًا، وكان يسألُهُ أنْ يقبلَ كما يقبَلُ أصحابهُ فلا يقبَلُ منه، فكان ذلك مما يغُزُ المنصور ويروج به عليه حالُه، لأنَّ المنصورَ كان بخيلًا، وكان يُعجِبُهُ ذلك منه ويُنشد:

كلُّكمْ يَمْشِي رُويْدْ

كلُّكُمْ يَطلُبُ صَيْدْ

غيرَ عمرِو بنِ عُبَيْد

(2)

ولو تبصَّرَ المنصور لعلم أنَّ كلَّ واحد من أولئك القراء خيرٌ من مِلْءِ الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزُّهد لا يدلُّ على صلاح، فإنَّ بعضَ الرُّهبان قد يكونُ عنده من الزُّهد ما لا يُطِيقُهُ عمرو. ولا كثيرٌ من المسلمين في زمانه.

وقد روَيْنا عن إسماعيل بن خالد القَعْنَبي، قال: رأيتُ الحسنَ بن جعفر في المنام بعدَما مات بعَبَّادان فقال لي: أيوب ويونس وابن عَوْن في الجنة. قلتُ: فعمرو بن عُبيد؟ قال: في النار. ثم رآه مرَّةً ثانية - ويُروى ثالثة - فيسأله فيقول له مثلَ ذلك، وقد رُئيت له مناماتٌ قَبِيحة، وقد أطال شيخُنا في تهذيبه في ترجمَتِهِ

(3)

ولَخَّصنا حاصلَها في كتاب "التكميل" وإنما أشَرْنا هاهنا إلى نُبْذَةٍ من حالِهِ ليُعرَف فلا يُغْتَرّ به. واللّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومئة

فيها ندب المنصورُ الناسَ إلى غَزْوِ الدَّيْلَم لأنَّهم قتلوا من المسلمين خلقًا، وأمر أهلَ الكوفة والبصرة مَنْ كان منهم يقدِرُ على عشرةِ آلافِ فصاعدًا فَلْيَذْهَبْ مع الجيش إلى الدَّيْلَم، فانتدب خلقٌ كثير، وجَمٌّ غَفِيرٌ لذلك.

وحجَّ بالناس فيها عيسى بن موسى نائبُ الكوفة وأعمالِها.

(1)

في التاريخ الكبير (6/ 352).

(2)

ذكر الأبيات الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 168)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (6/ 105).

(3)

انظر تهذيب الكمال (22/ 133).

ص: 313

وفيها تُوفي:

حجَّاجُ الصواف.

وحُميد بن زاذويه الطويل.

وسليمان بن طرخان التميمي - وقد ذكرناهُ في التي قبلَها -.

وعمرو بن عُبيد في قول.

وليث بن أبي سُليم على الصحيح،

ويحيى بن سعيد الأنصاري.

‌ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومئة

فيها سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمرِ عمه المنصور إلى بلاد الدَّيلم، ومعه الجيوشُ من الكوفةِ والبصرةِ وواسط والموصل والجزيرة.

وفيها قدم محمد بن جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلادِ خُراسان، ودخل بابنةِ عَمِّهِ رائطة بنتِ السفاح بالحِيرَة.

وفيها حَجَّ بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحِيرة والعسكر خازمَ بن خُزيمة، وولَّى رباح بن عثمان الْمُرِّي المدينة، وعزَلَ عنها محمدَ بن خالد القَسْري، وتلقَّى الناسُ أبا جعفرٍ المنصور إلى أثناء طريقِ مكة في حَجِّهِ في سنة أربعٍ وأربعين ومئة؛ وكان من جُملة من تلقاه عبدُ الله بن حسن بن حسن بن عليِّ بن أبي طالب، فأجلسه المنصورُ معه على السِّمَاط، ثم جعل يُحادثهُ بإقبالٍ زائد، بحيثُ إنَّ المنصور اشتغلَ بذلك عن عامَّةِ غَدَائه، وسأاله عن ابنَيْهِ إبراهيم ومحمد: لِمَ لا جاأاني مع الناس؟ فحلَفَ عبدُ الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض اللّه؟ وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد اللّه بن حسن كان قد بايَعَهُ جماعةٌ من أهلِ الحجاز في أواخرِ دولةِ مروانَ الحمار بالخلافةِ وخَلْعِ مروان، وكان في جُمْلة منْ بايَعَهُ على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبلَ تحويلِ الدولةِ إلى بني العباس، فلما صارتِ الخلافةُ إلى أبي جعفر المنصور خاف محمدُ بن عبدِ اللّه بن الحسن وأخوه إبراهيم منهُ خوفًا شديدًا؛ وذلك لأن المنصور توهَّمَ منهما أنهما لا بدَّ أنْ يخرجا عليه كما أرادا أنْ يخرُجا على مروان؛ والذي توَهَّم منه المنصورُ وقع فيه؛ فذهبا هرَبًا في البلاد التاسعة، فصارا إلى اليمن ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها، فدلَّ على مكانِهما الحسنُ بن زيد، فهرَبَا إلى موضع آخر، فاستدلَّ عليهِ الحسنُ بن زيد ودَلَّ عليهما، وانتصَبَ إلْبًا عليهما عندَ المنصور؛ والعجب منه أنه من أتباعِهما! واجتهد المنصورُ بكل

ص: 314

طريقٍ على تحصيلِهما فلم يَتَّفِقْ له ذلك وإلى الآن؛ فلما سأل أباهما عنهما حلَفَ أنه لا يَدْري أين صارا من أرضِ اللّه، ثم ألَحَّ المنصورُ على عبدِ اللّه في طلَبِ ولدَيْه، فغضب عبدُ اللّه من ذلك وقال: واللّهِ لو كانا تحتَ قدمي ما دلَلْتُكَ عليهما. فغضب المنصورُ وأمر بسَجْنِه، وأمَرَ ببيعِ رقيقِهِ وأموالِه، فلبث في السجنِ ثلاثَ سنين، وأشاروا على المنصور بحَبْس بني حسن عن آخرِهم، فحبسهم وجدَّ في طلب إبراهيمَ ومحمدٍ جدًّا، هذا وهما يحضرانِ الحجَّ في غالب السنين، ويَكْمُنانِ في المدينةِ في غالبِ الأوقات ولا يَشْعُرُ بهما من يَنِمُّ عليهما وللّه الحمد؛ والمنصور يعزلُ نائبًا عن المدينة ويُوَلِّي عليها غيرَه، ويُحرِّضُهُ على إمساكهما والفَحْصِ عنهما، وبَذْلِ الأموالِ في طلَبِهما، وتُعْجزُهُ المقاديرُ عنهما لمَا يُريدُهُ اللّهُ عز وجل.

وقد واطأهما على أمرِهما أميرٌ من أمراءَ المنصور يُقالُ له أبو العساكر خالدُ بن حسان، فحزموا في بعضِ الحجَّاتِ على الفتكِ بالمنصور بين الصَّفَا والمَرْوَة، فنهاهُمْ عبدُ اللّه بن حسن لِشَرَفِ البُقْعة، وقد اطَّلَعَ المنصورُ على ذلك، وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذَّبه حتى أقرَّ بما كانوا تمالؤوا عليه من الفَتْكِ به، فقال: وما الذي صرَفَكُمْ عن ذلك؟ فقال: عبدُ اللّه بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفةُ فغُيِّبَ في الأرض، فلم يَظْهَر حتى الآن. وقد استشار المنصور منْ يَعْلَم من أمرائِهِ ووزرائه من ذوي الرأي في أمرِ ابني عبدِ اللّه بن حسن؛ وبعث الجواسيس والقُصَّادَ في البلاد، فلم يقَعْ لَهُما على خبر، ولا ظهر لهما على عَيْنٍ ولا أثر، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]، وقد جاء محمدُ بن عبد اللّه بن حسن إلى أمِّه فقال: يا أُمَّه، إني قد شَفِقْتُ على أبي وعُمومتي، ولقد هممتُ أن أضعَ يدي في يد هؤلاء لأريحَ أهلي، فذهبَتْ أمُّه إلى السجن، فعرضَتْ عليهم ما قال ابنُها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبِرُ على أمرِه، فلعلَّ اللّه يفتَحُ على يديه خيرًا، ونحن نصبِرُ وفرَجُنا بيدِ اللّه، إنْ شاء فرَّجَ عنَّا وإنْ شاء ضيَّق وتمالؤوا كلُّهم على ذلك رحمهم الله.

وفيها نُقل آلُ حسنٍ من حَبْسِ المدينة إلى حَبْسٍ بالعراق وفي أرجُلِهمُ القيود، وفي أعناقهم الأغلال، وكان ابتداءُ تقييدِهم من الرَّبَذَة بأمرِ أبي جعفر المنصور، وقد أشخَصَ معهم محمدَ بنَ عبدِ اللّه العثماني - وكان أخا عبدِ اللّه بن حسن لأمِّه - وكانتِ ابنتُه تحتَ إبراهيمَ بنِ عبدِ اللّه بن حسن، وقد حملَتْ قريبًا، فاستحضرَهُ الخليفةُ وقال: قد حلفتَ بالعتاقِ والطلاق إنك لم تغشَّني وهذه ابنتُك حامل، فإنْ كان من زوجِها فقد حَبِلَتْ منهُ وأنتَ تعلمُ به، وإنْ كان من غيرِه فأنتَ ديُّوث. فأجابه العثمانيُّ بجوابٍ أحفَظَهُ به، فأمر به فجُرِّدتْ عنه ثيابُه، فإذا جسمُهُ مثلُ الفضَّةِ النقيَّة ثم ضرَبَهُ بين يديهِ مئةً وخمسين سَوْطًا، منها ثلاثونَ فوق رأسِه أصابَ أحدُها عينَهُ فسالَتْ، ثم ردَّهُ إلى السجن، وقد بقيَ كأنه عبدٌ أسود من زُرْقَةِ الضَّرْبِ وتراكُمِ الدِّماءِ فوقَ جِلْدِه، فأُجلس إلى جانبِ أخيهِ لأُمِّه عبدِ اللّه بن حسن، فاستسقى ماءً، فما جَسَرَ أحدٌ أنْ يَسْقيهُ حتى سقاهُ خُراسانيٌّ من جملةِ الجلاوزة الموكَّلين بهم.

ثم ركب المنصورُ هوْدَجَهُ وأركبوا أولئك في مَحَامِلَ ضيقة وعليهمُ القيودُ والأغلال، فاجتاز بهم

ص: 315

المنصورُ وهو في هَوْدَجه، فناداهُ عبدُ اللّه بن حسن: واللّه يا أبا جعفر ما هكذا صنَعْنا بأسراكُمْ يومَ بَدْر! فأخسأ ذلك المنصور، وثَقُلَ عليه، ونفرَ عنهم. ولما انتهَوْا إلى العراق حُبسوا بالهاشمية وكان فيهم محمدُ بن إبراهيم بن عبدِ اللّه بن حسن، وكان جميلًا فتيًا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلى حُسنهِ وجَمَالِه، وكان يُقال له الدِّيباج الأصفر، فأحضرَهُ المنصورُ بين يديه وقال له: أما لأقتلَنَّكَ قتلةً ما قتلتُها أحدًا. ثم ألقاهُ بين أسْطُوانتَيْن، وسدَّ عليه حتى مات. فعلى المنصورِ ما يَسْتَحِقُّهُ من عذابِ اللّهِ ولعنتِه.

وقد هَلَك كثيرٌ منهم في السجن، حتى فرِّجَ عنهم بعدَ هلاكِ المنصور على ما سنذكُرُه. فكان فيمن هلَكَ في السجن عبدُ اللّه بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب؛ وقد قيل: والأظهَرُ أَنَّهُ قُتل صبرًا، وأخوهُ إبراهيمُ بن الحسن وغيرُهما؛ وقل منْ خرَجَ منهم من الحَبْس؛ وقد جعلَهُمُ المنصورُ في سجنٍ لا يسمعون فيه أذانًا ولا يعرفون فيه وقتَ صلاة إلَّا بالتلاوة. ثم بعث أهلُ خراسانَ يَشفعونَ في محمدِ بنِ عبدِ الله العثماني، فأمر به فضُربَتْ عُنقُه، وأرسل برأسِهِ إلى أهلِ خُراسان - لا جزاهُ الله خيرًا - ورحم اللّه محمدَ بن عبدِ اللّه العثماني، وهو:

محمد بن عبدِ اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي

(1)

رحمه الله، أبو عبدِ الله المدني المعروف بالدِّيباج لِحُسْنِ وجههِ، وأمُّهُ فاطمةُ بنت الحسين بن علي. رَوَى الحديثَ عن أبيه وأُمِّه، وخارجةَ بنِ زيد، وطاوس، وأبي الزناد، والزُّهْري، ونافع، وغيرِهم. وحاث عنه جماعة، ووثَّقَهُ النَّسائي وابنُ حبَّان. وكان أخا عبدِ الله بنِ حسن لأمِّه. وكانتِ ابنتُه رُقيَّة زوجةَ ابنِ أخيه إبراهيم بن عبدِ اللّه، وكانتْ من أحسنِ النساء، وبِسَبَبِها قَتَلهُ أبو جعفر المنصور في هذه السنة، وكان كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.

قال الزُّبير بن بَكَّار: أنشَدَني سليمانُ بن عباس السَّعدي لأبي وَجْزَةَ السَّعْدي يَمْدَحُه:

وجدْنا الْمَحْضَ الأبيضِ من قريشٍ

فَتًى بين الخليفةِ والرسولِ

أتاك المجدُ من هذا وهذا

(2)

وكنتَ له بِمُعْتَلجِ السُّيُولِ

فما للمجد دونك منْ مَبيتٍ

وما للمجدِ دونك منْ مَقيلِ

ولا يمضي وراءك يبتغيهِ

ولا هو قابلٌ بكَ منْ بَدِيل

(3)

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (1/ 138)، التاريخ الصغير له (2/ 81)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 242)، الثقات لابن حبان (7/ 417)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (6/ 218)، تاريخ بغداد (5/ 385)، تهذيب الكمال (25/ 516)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 355)، لسان الميزان (7/ 364)، نزهة الألباب في الألقاب ص (269، 270)، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي (2/ 498).

(2)

في (ب): "من هنا وهنا". وكذا في مصادر التخريج. والمثبت من (ح).

(3)

الأبيات في تاريخ بغداد (5/ 387)، وتهذيب الكمال (25/ 521)، والبيت الأول منها في التحفة اللطيفة (2/ 498).

ص: 316

‌ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومئة

فمما كان فيها من الأحداث مَخْرَجُ محمدِ بن عبدِ الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة على ما سَنُبيِّنُهُ إنْ شاء اللّه.

أمَّا محمد فإنه خرج على أثَرِ ذهابِ أبي جعفر المنصور بأهلِهِ بني حَسَن من المدينة إلى العراق على الصفةِ والنعتِ الذي تقدَّم ذكرُه، وسجَنَهم في مكانٍ ساء مُستقرًّا ومُقامًا، لا يسمعون فيه أذانًا، ولا يعرفون فيه دخولَ أوقاتِ صلوات إلَّا بالأذكار والتلاوة؛ وقد مات أكثرُ أكابرِهم هنالك رحمهم الله. هذا كلُّه ومحمد الذي يطلبه مُختفٍ بالمدينة، حتى إنه في بعض الأحيان اختفى في بئرٍ نزل في مائه كلِّه إلا رأسَه وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتًا معيَّنًا يظهران فيه هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزَلِ الناسُ - أهلُ المدينة وغيرُهم - يؤنِّبون محمدَ بن عبدِ اللّه في اختفائه وعدَمِ ظهوره، حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضرَّ به شدَّةُ الاختفاء، وكثرةُ إلحاحِ رَبَاحٍ نائبِ المدينة في طلبه ليلًا ونهارًا؛ فلمَّا اشتدَّ به الأمرُ وضاق الحالُ واعَدَ أصحابَهُ على الظهورِ في الليلةِ الفلانية، فلما كانتْ تلكَ الليلة جاء بعضُ الوشاة إلى متولِّي المدينة، فأعلَمَهُ بذلك فضاقَ ذَرْعًا، وانزعج لذلك انزعاجًا شديدًا، وركب في جَحَافِلِهِ، فطاف المدينةَ وحولَ دارِ مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يُشْعَرْ بهم، فلما رجَعَ إلى مَنْزِلهِ بعث إلى بني حُسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوسٌ من ساداتِ قريش وغيرِهم، فوعَظَهُمْ وأنَّبهم وقال: يا معشرَ أهلِ المدينة، أميرُ المؤمنين يتطلَّبُ هذا الرجلَ في المشارقِ والمغارب، وهو بين أظهُركم!؟ ثم ما كفاكم حتى بايَعْتُموه على السمعِ والطاعة! واللّه لا يبلُغني عن أحدٍ منكم خرَجَ معه إلَّا ضربتُ عُنقَه. فأنكر الذين هُمْ هنالكَ حاضرون أنْ يكونَ عندَهم علمٌ أو شعورٌ بشيء من هذا وقالوا: نحن نأتيك برجالٍ مُسَلَّحين يُقاتلون دونَكَ إنْ وَقَعَ شيءٌ من ذلك. فنهضوا، فجاؤوه بجماعةٍ مسلَّحين، فاستأذنوه في دخولِهم عليه، فقال: لا إذنَ لهم، إني أخشى أنْ يكونَ ذلك خديعة. فجلس أولئك على الباب، ومكث الناسُ جلوسًا حولَ الأمير وهو واجمٌ لا يتكلَّمُ إلَّا قليلًا؛ حتى ذهبتْ طائفةٌ من الليل، ثم ما فُجئ الناسُ إلَّا وأصحابُ محمد بن عبدِ اللّه قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناسُ في جوف الليل، وأشارَ بعضُ الناسِ على الأمير أنْ يضربَ أعناقَ بني حُسين. فقال أحدُهم: علامَ ونحن مُقِرُّونَ بالطاعة؟! واشتغل الأميرُ عنهم بما فجأهُ من الأمر، فاغتنموا الغفلةَ ونَهضوا سِراعًا، فتسوَّروا جدارَ الدار، وألقَوْا أنفسَهُمْ على كُنَاسةٍ هنالك؛ وأقبلَ محمدُ بن عبدِ اللّه بن حسن في مئتين وخمسين، فمرَّ بالسِّجنِ فأخرج منْ فيه، وجاء دارَ الإمارة فحاصرَها فافتتحها، ومسك الأميرَ رَبَاحَ بنَ عثمان نائبَ المدينة، فسجنه في دارِ مروان، وسجن معه ابن مُسلم بن عُقْبة، وهو الذي أشار بقتلِ بني حُسين في أولِ هذه الليلة، فنجَوْا وأُحيط به. وأصبح محمد بن عبد اللّه بن حسن وقد استظهر على المدينة، ودانَ له أهلُها، فصلَّى بالناسِ

ص: 317

الصُّبح، وقرأ فيها سورةَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، وأسفرَتْ هذه الليلة عن مُستهلِّ رجل من هذه السنة، وقد خطَبَ محمدُ بن عبد اللّه أهلَ المدينة في هذا اليوم، فتكلَّم في بني العباس، وذكر عنهم أشياءَ ذَمَّهُمْ بها، وأخبرَهم أنه لم ينْزِلْ بلدًا من البلدان، إلَّا وقد بايعوه على السمعِ والطاعة، فبايعه أهل المدينةِ كلُّهم إلَّا القليل.

وقد روى ابنُ جرير

(1)

عن الإمام مالك، أنه أفتَى الناسَ بمبايعته؛ فقيل له: فإن في أعناقنا بيعة للمنصور. فقال: إنما كنتمْ مُكْرَهين، وليس لِمُكْرَهٍ بَيْعة. فبايعَهُ الناسُ عندَ ذلك عن قولِ مالك. ولزِمَ مالكٌ بيتَه. وقد قال له إسماعيل بنُ عبدِ اللّه بن جعفر حين دعاه إلى بيعتِه: يا ابنَ أخي، إنك مقتول. فارتدَعَ بعضُ الناسِ عنه، واستمرَّ جُمهورهُم معه. فاستنابَ عليهم عثمانَ بنَ محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبدَ العزيزِ بن المطلب بن عبدِ اللّه المخزومي، وعلى شُرْطتها عثمانَ بن عبدِ اللّه بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبدَ اللّه بن جعفر بن عبدِ اللّه بن مِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، وتلقَّبَ بالْمَهْديِّ طمعًا في أن يكونَ المذكورَ في الأحاديث التي سنوردُها في كتاب "الفتن والملاحمِ" فلم يكنْ إياه، ولا تمَّ له ما رَجَاه، ولا ما تمنَّاه، فإنَّا للّه. وقد ارتحل بعضُ أهلِ المدينةِ عنها ليلةَ دخَلها؛ فطوَى المراحلَ البعيدةَ إلى المنصور في سبعِ ليالٍ فورَدَ عليه، فوجَدَهُ نائمًا في الليل، فقال للربيع الحاجب: استأذنْ على الخليفة. فقال: إنه لا يُوقظُ في هذه الساعة. فقال: إنه لا بُدَّ من ذلك. فاخبرَ الخليفةَ فخرج، فقال: ويحك! ما وراءك. فقال: إنه خرج ابنُ حسن بالمدينة، فلم يُظهرِ المنصورُ لذلك اكتراثًا وانزعاجًا، بل قال: أنتَ رأيتَه؟ قال: نعم. فقال: هَلَك واللّهِ وأهلَكَ منِ اتَّبَعَه. ثم أمرَ بالرجلِ فسُجن، ثم جاءتِ الأخبارُ بذلك فتواترتْ، فأطلقهُ المنصور، وأطلَقَ لهُ عن كل ليلةٍ ألفَ دِرْهم، فأعطاهُ سبعةَ آلافِ درهم.

ولما تحقَّقَ المنصورُ الأمرَ من خروجِه ضاقَ ذَرْعًا، فقال له بعضُ المنجِّمين: يا أمير المؤمنين، لا عليكَ منه، فوالله لو ملَكَ الأرضَ بِحَذَافيرِها فإنه لا يُقيم أكثرَ من سبعين يومًا. ثم أمر المنصورُ جميعَ رؤوس الأمراء أنْ يذهبوا إلى السجن، فيجتمعوا بعبدِ اللّه بن حسن والدِ محمد فُيخبروه بما وَقَعَ من خروجِ ولدِه، ويسمعوا ما يقولُ لهم. فلمَّا دخلوا عليه أخبروه بذلك، فقال: ما ترونَ ابنَ سلامة فاعلًا - يعني المنصور - فقالوا: لا ندري. فقال: واللّه لقد قَتَلَ صاحبَكُمُ البُخل، ينغي له أنْ يُنفقَ الأموال، ويستخدم الرجال، فإنْ ظهر فاسترجاعُ ما أنفقَ سَهْل، وإلَّا لم يكن لصاحبكم شيءٌ في الخزائن، وكان ما خَزَنَ لغيرِه. فرجعوا إلى الخليفةِ فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجَزَتِهِ؛ فاستدعَى عيسى بن موسى فنَدَبه إلى ذلك ثم قال: إني سأكتُبُ إليه كتابًا أنْذِرُهُ بهِ قبلَ قتالِهِ. فكتب إليه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبدِ اللّه أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ

(1)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 427).

ص: 318

يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}، الآية إلى قوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34]. ثم قال: فلَكَ عَهْدُ اللّهِ وميثاقُه، وذِمَّتُهُ وذِمَّةُ رسوله، إنْ أنتَ رجعتَ إلى الطاعة لأؤمِّنكَ ومَنِ اتَّبَعَك، ولأعطينَّكَ ألفَ ألفِ دِرْهم، ولأدَعنَّكَ في أحبِّ البلادِ إليك، ولأقضيَنَّ لك جميعَ حوائجكَ

في كلامٍ طويل.

فكتب إليه محمدٌ جوابَ كتابِه:

من عبدِ اللّه المهدي محمد بن حسن، بسم اللّه الرحمن الرحيم {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 1 - 5]. ثم قال: وإني أعرضُ عليكَ من الأمانِ ما عرضتَ عليّ، فأنا أحقُّ بهذا الأمرِ منكم، وأنتم إنما وصلتُمْ إليه بِنَا، فإنَّ عليًّا كان الوَصِيَّ وكان الإمام، فكيف وَرِثْتُمْ ولايَتَهُ وولَدُهُ أحياء، ونحن أشرَفُ أهلِ الأرض نسَبًا، فرسولُ اللّه خيرُ الناس، وهو جدُّنا، وجدَّتُنا خديجةُ، وهي أفضلُ زوجاتِه، وفاطمةُ ابنتُهُ أُمُّنا، وهي أكرمُ بناتِه، وإنَّ هاشمًا وَلَدَ عليّا مرَّتَيْن، وإنَّ حَسَنًا ولَدَهُ عبدُ المطلب مرَّتَيْنِ، وهو وأَخوه سيِّدا شبابِ أهلِ الجنة، وإنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَلَدني مرَّتَيْن، [منْ قِبَلِ حسن وحسين] وإني أوسطُ بني هاشم نسبًا، [وأصرَحُهم أبًا، لم تُعرقْ فيَّ العَجَم، ولم تنازعْ فيَّ أمهاتُ الأولاد]

(1)

.

فأنا ابنُ أرفعِ الناس درجةً في الجنة، وأخفِّهم عذابًا في النار، فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالعهد، وأوفى به منك، فإنك تُعطِي العَهْدَ ثم تَنْكُثُ ولا تَفِي، كما فعلتَ بابنِ هُبيرة، فإنَّك أعطَيْتَهُ العهدَ ثم غدَرْتَ به؛ ولا أشدُّ عذابًا من إمامٍ غادِر، وكذلك فعلتَ بعمِّك عبدِ اللّه بن علي، وأبي مسلم الخراساني؛ ولو أعلم أنك تصدُق لأجبتُكَ لمَا دعوتَني إليه، ولكنَّ الوفاءَ بالعهدِ من مثلِكَ لِمِثلي بعيد. والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر جوابَ ذلك في كتابٍ طويل، حاصلُه: أمَّا بعد، فقد قرأتُ كتابَك، فإذا جُلُّ فَخْرِكَ وإدْلالِكَ قرابةُ النساء، لِتُضلَّ به الجُفَاةَ والغَوْغاء، ولم يجعلِ اللّه النساءَ كالعمومةِ والآباء، لا كالعُصوبةِ

(2)

والأولياء، وقد أنزل اللّه:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ وكان حينئذٍ لَهُ

(1)

ما بين معقوفين من تاريخ الطبري (4/ 431).

(2)

في (ب): "كالعصبية" وفي تاريخ الطبري: "كالعَصَبَة" والمثبت من (ب، ح)، والعَصَبةُ: قرابةُ الرجل لأبيه وكأنَّه جمِعُ عاصب، وإن لم نسمع به، من عَصَبُوا به: إذا أحاطوا حوله، ثم سُمِّي به الواحدُ والجمعُ والمذكَّر والمؤنَّث للغَلبة وقالوا في مصدرها: العُصُوبة. والذكر يُعَصِّبُ الأنثى، أيْ يجعلها عَصَبة. المغرب (عصب)(2/ 64).

ص: 319

أربعةُ أعمام، فاستجاب له اثنان، أحدُهُما جَدُّنا، وكفر اثنان، أحدُهما أبوك - يعني جدَّهُ أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعلْ بينهما إلَّا ولا ذِمَّة، وقد أنزل اللّه في عدم إسلامِ أبي طالب:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]؛ وقد فَخرْتَ به وأنَّهُ أخَفُّ أهلِ النار عذابًا، وليس في الشرِّ خِيَار، ولا ينبغي لمؤمنٍ أنْ يفخرَ بأهلِ النار؛ وفخرتَ بأن عليًا ولَدَهُ هاشم مرَّتَيْن، وأنَّ حسنًا ولَدَهُ عبدُ المطلب مرَّتين، فهذا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إنما ولَدَهُ عبدُ اللّه مرةً واحدة؛ وقولُكَ إنَّكَ لم تلِدْكَ أمهاتُ أولاد؛ فهذا إبراهيمُ ابنُ الرسول صلى الله عليه وسلم من مارية، وهو خيرٌ منك، وعليُّ بن الحسن منْ أُمِّ وَلَد، وهو خير منك، وكذلك ابنُه محمد بن علي، وابنُه جعفر بن محمد جَدَّاتُهما أمهاتُ أولاد، وهما خيرٌ منك، وأما قولُكَ بنو الرسولِ فقد قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]؛ وقد جاءتِ السنَّةُ التي لا خلافَ فيها بين المسلمين أنَّ الجَدَّ أبا الأمِّ والخال والخالة لا يُورَّثون، ولم يكنْ لفاطمةَ مِيراثٌ من رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم بنَصِّ الحديث، وقد مَرض رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأبوك حاضر، فلم يأمُرْهُ بالصلاةِ بالناس، بل أمَرَ غيرَه؛ ولما تُوفي لم يَعْدِلِ الناسُ بأبي بكرٍ وعُمرَ أحدًا، ثم قدَّموا عليه عثمانَ في الشُّورى والخلافة؛ ثم لما قُتل عثمان اتَّهمَهُ بعضُهم به، وقاتله طلحةُ والزبير على ذلك وامتنع سعد من مبايعتِه، ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يَفِ به، ثم صارت إلى الحسن فباعَها بِخِرَقٍ ودراهم، وأقام بالحجاز مالًا من غيرِ حِلِّه، وسلَّم الأمرَ إلى غيرِ أهله، وترك شيعَتَهُ في أيدي بني أميةَ ومعاوية. فإنْ كانتْ لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنِها؛ ثم خرج عمُّكَ حُسينٌ على ابن مَرْجانة، وكان الناسُ معهُ عليه، حتى قتلوه وأتَوْا برأسِهِ إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جُذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى الشام، حتى خرَجْنا عليهم نحن، فأخَذْنا بثأركم وأدْرَكْنا بدمائكم وأورثناكم أرضَهم وديارَهم، وذكَرْنا فضلَ سَلَفكمْ، فجعلتَ ذلك حُجَّةً علينا، وظننتَ أنَّا إنَّما ذكَرْنا فَضْلَهُ على أمثالِه، على حمزةَ والعباس وجعفر، وليس الأمر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوْا ولم يدخلوا الفِتَن، وسَلِموا من الدنيا، فلم تنقصْهم شيئًا، فاستوفوا ثوابَهم كاملًا، وابتُليَ بذلك أبوك، وكانتْ بنو أمية تَلْعنُهُ كما تلعنُ الكفرةَ في الصلواتِ المكتوبات، فأحيينا ذكرَه، وذكَرْنا فضلَه، وعنَّفْناهم بما نالوا منه. وقد علمتَ أنَّ مَكْرُمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم، وخدمةِ زَمْزَم، وحَكَمَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لنا بها، ولما قُحط الناس زمنَ عمر استَسْقى بأبينا العباس، وتوسَّل به إلى ربِّه، وأبوكَ حاضِر، وقد علمتَ أنه لم يبقَ أحدٌ من بني عبد المطلب بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس، فالسقايةُ سقايتُه، والوراثةُ وِرَاثته، والخلافةُ في وَلَدِه، فلم يبق شرَفٌ في الجاهلية والإسلام

(1)

إلا والعباس وارِثُهُ ومُوَرثه. في كلامٍ طويل، فيه بحثٌ ومناظرةٌ وفصاحة، وقد استقصاهُ ابنُ جرير بطوله، واللّه سبحانه أعلم.

(1)

في (ب، ح): "في الدنيا والآخرة"، والمثبت من (ق) وتاريخ الطبري.

ص: 320

‌فصل في ذكر مقتل محمد بن عبد اللّه بن حسن

(1)

بعَثَ محمدُ بن عبد الله بن حسن في غبونِ

(2)

ذلك رسولًا إلى أهلِ الشام يدعوهم إلى بيعتِهِ وخِلافَتِه، فأبَوْا قَبُولَ ذلك منه، وقالوا: قد ضَجِرنا من الحروب، ومَلِلْنا القتال. ولم يكترثوا بأصحابه، فرجعوا إليه بعدَ ما خافوا على أنفسِهم؛ وجعل يستميلُ رؤوسَ أهلِ المدينة، فمنهم من أجابَه، ومنهم منِ امتنع عليه، وقال له بعضُهم: كيف أُبايعُك وقد ظهرتَ في بلدٍ ليس فيه مالٌ تستعينُ به على استخدامِ الرجال؟. ولَزِمَ بعضُهم مَنْزلَهُ فلم يخرُجْ حتى قُتل محمد.

وبعَثَ محمدٌ الحسنَ بن معاوية

(3)

في سبعين رجلًا ونحوًا من عشرةِ فوارس إلى مكةَ نائبًا إنْ هو دخلَها، فساروا إليها، فلما بلغ أهلَها قدومُهم خرجوا إليهم في ألوفٍ من المقاتلة، فقال لهم الحسن بن معاوية: علامَ تُقاتلون وقد ماتَ أبو جعفر؟ فقال السريُّ بنُ عبدِ الله زعيمُ أهلِ مكة: إنَّ بُرُدَهُ جاءتنا من أربعِ ليالٍ وقد أرسلتُ إليه كتابًا فأنا أنتظرُ جوابهُ إلى أربع؛ فإنْ كان ما تقولون حقًا سلَّمتكم البلدَ وعليَّ مؤنة رجالِكم وخيلكم، فامتنع الحسنُ بنُ معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيتُ الليلةَ إلا بمكَّة إلَّا أن يموت؛ وأرسل إلى السري، أن ابرُزْ من الحرَم إلى الحل حتى لا تُراقَ الدماءُ في الحرم. فلم يخرُجْ فتقدَّموا إليهم فصافُّوهم، فحملَ عليه الحسن وأصحابُه حملةً واحدة، فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة، فلما أصبحوا خطَبَ الحسنُ بن معاوية الناسَ وعَزَّاهم

(4)

بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي.

‌خروج أخيه إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن

وظهر بالبصرة أيضًا إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريدُ إلى أخيه محمد، فانتهى إليه فاستؤذن له عليه وهو بدارِ مروان، فطرق بابها فقال: اللهم إني أعوذُ بك من شرِّ طوارقِ الليلِ والنهار إلا طارقًا يطرُقُ بخيرٍ يا رحمن. ثم خرج فأخبر أصحابَه عن أخيه، فاستبشروا جدًّا وفرحوا كثيرًا، كان يقول للناسِ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ والمغرب: ادعوا الله لإخوانكم أهلِ البصرة، وللحسن بن معاوية بمكّة، واستنصروهُ على أعدائكم.

(1)

ستأتي ترجمته في الصفحة (331) من هذا الجزء.

(2)

كذا في الأصول، وانظر حاشيتي الصفحتين (280 و 292) ذات الرقم (2 و 1) على التوالي من هذا الجزء.

(3)

في (ق): "الحسين بن معاوية" وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري.

(4)

في (ق): "وأغراهم"، وفي تاريخ الطبري:"ونعى إليهم أبا جعفر"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 321

وأما ما كان من المنصور فإنه جهَّز الجيوشَ إلى محمد بن عبد اللّه بن حسن صحبةَ عيسى بن موسى عشرةَ آلاف فارس من الشجعان المنتخَبين، منهم محمد بن أبي العباس، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحُميد بن قَحْطَبة. وكان المنصورُ قد استشارَهُ فيه فقال: يا أمير المؤمنين ادعُ بمنْ شئتَ مِمَّنْ تَثِقُ به من مواليك، فابعَثْ بهم إلى وادي القُرى يمنعونَهم من ميرِةِ الشام، فيموتُ هو ومنْ معه جُوعًا، فإنه ببلدٍ ليس فيه مالٌ ولا رجالٌ ولا كُرَاع ولا سلاح. وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي، وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودَّعه: يا عيسى إني أبعثُكَ إلى ما بين جنبيَّ هذين، فإنْ ظَفِرت بالرجل، فشِمْ سيفَك، ونادِ في الناس بالأمان، وإنْ تغيَّب فضَمِّنْهُمْ إيَّاهُ حتى يأتوكَ به، فإنَّهمْ أعلمُ بمذاهبه. وكتب معه كُتبًا إلى رؤساءَ قريش والأنصارِ من أهلِ المدينة يدفعُها إليهم خُفْية، يدعوهم إلى الرجوعِ إلى الطاعة. فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكُتبَ مع رجل، فأخذه حرسُ محمدِ بن عبد اللّه بن حسن، فوجدوا معه تلك الكُتب، فدفعوها إلى محمد، فاستحضر جماعةً من أولئك فعاقبهم وضرَبهم ضربًا شديدًا وقيَّدهم قيودًا لْقالًا، وأودَعهم السجن. ثم إنَّ محمدًا استشارَ أصحابَهُ بالقيام بالمدينة حتى يأتيَ عيسى بن موسى فيُحاصرهم بها أو أنه يخرجُ بمنْ معه فيقاتل أهلَ العراق، فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأيُ على المقامِ بالمدينة، لأنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَدِمَ يومَ أحُد على الخروجِ منها؛ ثم اتّفقوا على حفرِ خندقٍ حولَ المدينةِ كما فعل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب، فأجابَ إلى ذلك كلِّه، وحَفَرَ مع الناسِ في الخندق بيدِهِ اقتداءً برسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لهم لَبِنةٌ من الخندقِ الذي حفرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وكَبَّروا، وبشَّروهُ بالنَّصْر، وكان محمدٌ حاضرًا عليه قَباءٌ أبيض، وفي وسطه مِنْطقة، وكان شَكِلًا

(1)

ضخمًا أسمرَ عظيمَ الهامة.

ولما نزل عيسى بنُ موسى الأعْوَص

(2)

واقترب من المدينة صَعِدَ محمدُ بن عبد اللّه المنبرَ، فخطب الناسَ وحثَّهم على الجهاد، وكانوا قريبًا من مئة ألف، فقال لهم في جملةِ ما قال: إنِّي جعلتكم في حِلٍّ من بيعتي، فمنْ أحبَّ منكم أنْ يُقيم عليها فعَل، ومَنْ أحبَّ أنْ يترُكَها فعَل. فتسلَّلَ كثيرٌ منهم أو أكثرُهم عنه، ولم يبقَ إلَّا شِرْذمةٌ قليلةٌ معه؛ وخرج أكثرُ أهل المدينة بأهلِهم منها لئلا يشهَدوا القتالَ بها؛ فنَزَوا الأعراضَ ورؤوسَ الجبال

(3)

، وقد بعث محمدٌ أبا الليث ليردَّهم! عن الخروج فلم يُمكنْهُ ذلك في أكثرِهم، واستمرُّوا ذاهبين؛ وقال محمدٌ لرجل: أتأخذُ سيفًا ورُمحًا وتردُّ هؤلاء الذين خرجوا من

(1)

رجل أشكَلُ العين، وأشْهَلُ العين، وفيها شُكْلَة، وهي حُمْرة في بياضِها، وشُهْلةٌ في سوادِها. المغرب (شكل)(1/ 452).

(2)

الأعوص - بفتح أوله وبالصاد المهملة على وزن أفعل -: موضعٌ بشَرْتي المدينة، على بضعة عشرَ ميلًا منها. معجم ما استعجم (1/ 173).

(3)

أعراضُ المدينة: هي بطونُ سوادِها، وقراها التي في أوديَتها، حيث الزرعُ والنخل. معجم البلدان (1/ 220).

ص: 322

المدينة؟ فقال: نعم إنْ أعطيتَني رمحًا أطعَنُهم وهم بالأعراض، وسيفًا أضرِبُهم وهم في رؤوس الجبال فعَلْتُ. فسكت محمد ثم قال لي: ويحك! أهلُ الشام والعراقِ وخُراسان قد بيَّضوا - يعني لبسوا البياض - موافقةً لي وخلَعُوا السواد. فقال: وماذا ينفعُني أنْ لو بقيتِ الدنيا زبدةً بيضاء، وأنا في مثلِ صُوفةِ الدواة؟! وهذا عيسى بن موسى نازلٌ بالأعْوَص. ثم جاء عيسى بن موسى فَنزل قريبًا من المدينة على ميل منها، فقال له دليلُهُ ابنُ الأصم: إني أخشى إذا كشفتُموهم أنْ يَرْجِعوا إلى معسكرِهم سريعًا قبل أن تدركهم الخيل. ثم ارتجلَ به فأنزلَهُ الجُرْف على سقاية سليمان بنِ عبد الملك على أربعةِ أميالٍ من المدينة، وذلك يوم السبت لِصُبْحِ اثنتي عشرةَ ليلةً خلَتْ من رمضان من هذه السنة؛ وقال: إنَّ الراجل إذا هرب لا يقدِرُ على الهرولةِ أكثرَ من ميلَيْنِ أو ثلاثة فتدركُه الخيل.

وأرسل عيسى بن موسى خمس مئة فارس، فنَزلوا عندَ الشجرةِ في طريقِ مكة، وقال لهم: هذا الرجلُ إنْ هرب فليس له ملجأٌ إلَّا مكة، فاقتلوه وحُولوا بينهُ وبينها

(1)

. ثم أرسل عيسى إلى محمدٍ يدعوه إلى السمعِ والطاعةِ لأميرِ المؤمنين المنصور، وأنَّه قد أعطاهُ الأمانَ له ولأهلِ بيته إنْ هو أجابَه. فقال محمد للرسول: لولا أنَّ الرسل لا تُقتل لقتلتُك. ثم بعث إلى عيسى بنِ موسى يقولُ له: إني أدعوك إلى كتابِ الله وسنةِ رسولِه، فاحذَرْ أنْ تمتنعَ فأقتُلَكَ فتكونَ شرَّ قَتيل أو تقتُلَني فتكونَ قتلتَ منْ دعاك إلى اللهِ ورسوله. ثم جعلت الرسلُ تتردَّدُ بينهما ثلاثةَ أيام هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا؛ وجعل عيسى بن موسى يقفُ كلَّ يومٍ من هذه الأيام الثلاثة على الثنيَّةِ عندَ سَلْعٍ فيُنادي: يا أهلَ المدينة إنَّ دماءكم علينا حرام، فمنْ جاءنا فوقف تحت رايتِنا فهو آمِنْ، ومنْ خرج من المدينةِ فهو آمنْ، ومنْ دخلَ دارَه فهو آمن، ومن ألقى سلاحهُ فهو آمن، فليس لنا في قتالِكم أرَب، وإنما نريدُ محمدًا وحدَه لنذهبَ بهِ إلى الخليفة. فجعلوا يَسُبونهُ وينالونَ من أُمِّه، ويكلِّمونه بكلامٍ شَنيع، ويخاطبونه مخاطبةً فظيعة، وقالوا له: هذا ابنُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معهُ نقاتلُ دونه. فلمّا كان اليومُ الثالث أتاهُمْ في خيل ورجالٍ وسلاحٍ ورماح، لم يُر مثلُها فناداه: يا محمد، إن أميرَ المؤمنين أمرني أنْ لا أُقاتلكَ حتى أدعوكَ إلى الطاعة، فإنْ فعلتَ أمَّنَكَ وقضَى دَيْنك، وأعطاكَ أموالًا وأراضي، وإنْ أبيت قاتلتُك؛ فقد دعوتُك غيرَ مرَّة. فناداهُ محمد: إنَّه ليس لكم عندي إلَّا القتال فنشبتِ الحربُ حينئذٍ بينهم، وكان جيشُ عيسى بن موسى فوقَ أربعةِ آلاف، وعلى مقدمته حُميد بن قَحْطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داودُ بن كَرَّاز

(2)

، وعلى الساقةِ الهيثمُ بن شعبة؛ ومعهم عُددٌ لم يُر مثلها. وفرَّق عيسى أصحابَه في كلِّ قُطْرٍ طائفة، وكان محمدٌ وأصحابُهُ على عِذَةِ أصحابِ أهلِ بدر، واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا جدًّا،

(1)

في (ق): "فحولوا بينه وبينها"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

في (ح، ق): "داود بن كرار"، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري (4/ 442)، والضبط من الإكمال (7/ 134).

ص: 323

وترجَّلَ محمد إلى الأرض، فيقال إنه قتَلَ بيد من جيشِ عيسى بن موسى سبعينَ رجلًا من أبطالِهم، وأحاط بهم أهلُ العراق، فقتلوا طائفةً من أصحابِ محمد بن عبد اللّه بن حسن، فاقتحموا عليهمُ الخندقَ الذي كانوا قد حفروه، وعملوا أبوابًا على قدرِه. وقيل: إنّهم رَدَموه بحدائجِ الجمال حتى أمكَنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا [في] موضعٍ منه، وهذا في موضعٍ آخر، واللّه أعلم.

ولم تزلِ الحربُ ناشبةً بينهم من بُكْرَةِ النهار حتى صُلِّيتِ العصر، فلما صلَّى محمدٌ العصرَ نزَلوا إلى مَسيلِ الوادي بسَلْع، فكسَرَ جفنَ سيفِه وعَقَر فرسَه، وفعل أصحابُهُ مثلَه، وصبروا أنفسَهم للقِتال وحَميتِ الحربُ حينئذٍ جذًا، فاستظهر أهلُ العراق، ورفعوا رايةً سوداءَ فوقَ سَلْع، ثم دَنَوْا إلى المدينة، فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوقَ مسجدِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى ذلك أصحابُ محمد تنادَوْا: أُخذتِ المدينة، وهرَبوا، وبقي محمدٌ في شِرْذِمةٍ قليلةٍ جدًّا، ثم بقي وحدَهُ وليس معه أحد، وفي يده سيفٌ صَلْتٌ يضربُ به منْ تقدَّم إليه فكان لا يقومُ له شيء [إلَّا أنامه، حتى قتَلَ خلقًا من أهل العراق من الشجعان]، ويقال: إنَّه كان في يده يومئذٍ ذو الفَقَار، ثم تكاثَرَ عليه الناس، فتقدَّم إليه رجلٌ فضربه بسيفِهِ تحتَ شحمةِ أُذُنهِ اليُمنى، فسقطَ لِرُكْبَتِهِ، وجعل يَحْمي نفسَهُ ويقول: ويحكم! ابنُ نبيِّكم مجروحٌ مظلوم! وجعل حُميد بن قَحْطبة يقول: ويحكم! دعوهُ لا تقتلوهُ. فأحْجَمَ عنه الناس، وتقدَّم إليه حُميد بن قَحْطبة فحزَّ رأسَه، وذهب به إلى عيسى بن موسى، فوضعه بين يديه؛ وكان حُميد قد حلَفَ أنْ يقتُلَهُ متى رآه، فما أدرَكَهُ إلَّا كذلك، [ولو كان على حالِهِ وقوَّته لما استطاعه حُميد ولا غيرُه من الجيش]

(1)

.

وكان مقتلُ محمدِ بن عبد اللّه بن حسن عند أحجارِ الزيت يوم الإثنين بعدَ العصر لأربعَ عشرةَ ليلةً خلَتْ من رمضان، سنة خمسٍ وأربعين ومئة. وقال عيسى بن موسى لأصحابهِ حين وُضع رأسُه بين يديه: ما تقولون فيه؟ فنال منه أقوامٌ وتكلَّموا فيه؛ فقال رجل: كذبتُمْ واللّه، لقد كان صَوَّامًا قوَّامًا، ولكنَّه خالفَ أميرَ المؤمنين، وشقَّ عَصَا المسلمين، فقتلْناهُ على ذلك. فسكتوا حينئذ.

وأما سيفُه ذو الفَقَار فإنَّهُ صارَ إلى بني العباس يتوارثونه، حتى جرَّبه بعضُهم فضرب به كلبًا فانقطع. ذكرهُ ابنُ جرير وغيرُه

(2)

.

وقد بلغ المنصورَ في غبونِ

(3)

هذا الأمر أن محمدًا فرَّ من الحَرْب فقال: هذا لا يكون، فإنَّا أهلَ بيتِ لا نَفِرّ

(4)

.

(1)

ما مرَّ بين معقوفين ليس في (ب، ح)، أثبتناه من (ق).

(2)

ابن جرير هو الطبري في تاريخه (4/ 446).

(3)

كذا في الأصول، انظر حواشي الصفحات (280 و 292 و 321) ذوات الأرقام (2 و 1 و 2) على التوالي من هذا الجزء.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 447).

ص: 324

وقال ابنُ جرير

(1)

: حدّثني عبدُ اللّه بن راشد أبو الحجَّاج قال: إنِّي لقائمٌ على رأسِ المنصور وهو يسألني عن مَخرجِ محمد، إذْ بلَغَهُ أنَّ عيسى ين موسى قد انهزم، وكان متكئًا فجلس، فضرب بقضيبٍ معه مصلاه وقال: كلَّا، وأين لُعبُ صبياننا بها على المنابر ومشورةُ النساء؟ ما أنى لذلك بعد. وبَعَثَ عيسى بنُ موسى بالشارةِ إلى المنصور مع القاسم بن حسن، وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمرَ بدفن الجُثَّة. فدُفن بالبَقيع، وأمر بأصحابِه الذين قُتلوا معه فصُلبوا صَفَّينِ ظاهرَ المدينة ثلاثة أيام، ثم طُرحوا على مقبرةِ اليهودِ عندَ سَلْع، ثم نُقلوا إلى خندقٍ هناك. وأخذَ أموالَ بني حسن كلَّها، فسوَّغَها له المنصور؛ ويقال: إنه ردَّها بعدَ ذلك إليهم. حكاهُ ابنُ جرير

(2)

.

ونُودي في أهلِ المدينة بالأمان، فأصبح الناسُ في أسواقِهم، وترفَّعْ عيسى بن موسى في الجيش إلى الجُرْف من مطرٍ أصابَ الناسَ يومَ قُتل محمد، وجعل ينتابُ المسجد من الجُرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسعَ عشرَ من رمضان، ثم خرج منها قاصدًا مكة؛ وكان بها الحسن بن معاوية من جهةٍ محمد، قد كتب إليه يقدمُ عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعضِ الطريق تلفتْهُ الأخبارُ بقتلِ محمد، فاستمرَّ فارًّا إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيمَ بنِ عبدِ اللّه الذي كان قد خرج بها، ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكرُه.

ولما جيء المنصورُ برأسِ محمد بنِ عبد اللّه بن حسن، فوُضع بين يديه أمَرَ فطيفَ به في طَبَقٍ أبيض، ثم طِيف به في الأقاليم بعدَ ذلك، ثم شرَعَ المنصورُ في استدعاءَ منْ خَرَجَ مع محمدٍ من أشرافِ أهلِ المدينة، فمنهم من قتلَه، ومنهم من ضربَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، ومنهم من عفا عنه. ولما توجَّه عيسى إلى مكة استنابَ على المدينةِ كثيرَ بن حصين، فاستمرَّ بها شهرًا، حتى بعث المنصورُ على نيابتِها عبدَ اللّه بن الربيع، فعاث جندُهُ في المدينة، فصاروا إذا اشترَوا من الناس شيئًا لا يُعطونهم ثمنَه، وإنْ طُولبوا بذاك ضرَبوا المطالِب وخوَّفوهُ بالقتل؛ فثار عليهم طائفةٌ من السودان، واجتمعوا ونفخوا في بُوقٍ لهم، فاجتمع على صوته كلُّ أسودَ في المدينةْ، وحملوا عليهم حملةً واحدةً وهم ذاهبون إلى الجمعة لسبعٍ بَقينَ من ذي الحجَّة من هذه السنة، وقيل: لخمسٍ بَقينَ من شوَّال منها؛ فقتلوا من الجندِ طائفةً كثيرة بالمزاريق وغيرِها، وهرب الأميرُ عبدُ اللّه بن ربيع، وترك صلاةَ الجمعة، وكان رؤس السودان وثيقٌ ويَعقل ورمقة وحديا وعُنقود ومِسعر وأبو النار؛ فلما رجع عبدُ اللّه بنُ الربيع ركبَ في جنودِه والتقى مع السودان فهزموهُ أيضًا، فلحقوه بالبقيع، فألقَى لهم رداءه يشغَلُهم فيه حتى فجا بنفسِه ومنِ اتَّبعه، فلحق ببَطْنِ نَخْلٍ على ليلتَيْنِ من المدينة، ووقع السودانُ على طعامِ للمنصور كان مخزونًا في دارِ مروان، قد قدِم به في البحر،

(1)

في تاريخه (4/ 448).

(2)

في تاريخه (4/ 451).

ص: 325

فنهبُوه ونهبوا ما للجند الذين في المدينة من دَقيقٍ وسَويقٍ وغيرِه، وباعوا ذلك بأرخصِ ثمن، وذهب الخبرُ إلى المنصور بما كان من أمرِ السُّودان، وخاف من معرَّةِ ذلك، فاجتمعوا وخطَبهم ابنُ أبي سَبْرَةَ، وكان مسجونًا، فصعِدَ المنبر وفي رجليهِ القيود، فحثَّهم على السمعِ والطاعةِ للمنصور، وخوَّفهم شرَّ ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أنْ يكُفُّوا مواليَهم ويفرِّقوهم ويذهبوا إلى أميرِهم فيردُّوه إلى عملِه، ففعلوا ذلك، فسكنَ الأمرُ وهدَأ الناس، وأنطفاتِ الشرور، ورجع عبدُ اللّه بن الربيعِ إلى المدينة، فقطَعَ يدَ وثيق وأبي النار ويَعقِلَ ومِسْعَر.

‌ذكر خروج إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بالبصرة

كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنَزَلَ في بني ضُبيعةَ من أهلِ البصرة في دارِ الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومُهُ إليها بعدَ أن طاف بلادًا كثيرة جدًّا، وجرَتْ عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلة، وانعقد أسبابُ هلاكِهما في أوقاتٍ متعادَة، ثم كان آخرُ ما استقرَّ أمرُه بالبصرة في سنةِ ثلاث وأربعين ومئة، بعد مُنصرَفِ الحَجِيج؛ وقيل: إنَّ قدومَهُ إليها كان في مستهلِّ رمضان سنةَ خمسٍ وأربعين ومئة، بعثَه أخوهُ إليها بعد ظهورهِ بالمدينة. قاله الواقدي

(1)

. قال: وكان يدعو في السرِّ إلى أخيه، فلما قُتل أخوهُ أظهرَ الدعوةَ إلى نفسِهِ في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياةِ أخيه، دعا لنفسِه كما تقدَّم واللّه أعلم.

ولما قَدِم البصرة نزلَ عند يحيى بن زياد بن حسان النَّبَطي، فاختفى عندَهُ هذه المدَّةَ كلَّها، حتى ظهر في هذه السنة في دارِ أبي فَرْوة، وكان أولَ من بايعه نُميلة بن مرَّة، وعفوُ الله بن سفيان

(2)

، وعبدُ الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهُجيمي، وعبيد اللّه بن يحيى بن حُضَين الرقاشي. وندبوا الناسَ إليه، فاستجاب له خلقٌ كثير، فتحوَّل إلى دارِ أبي مروان في وسطِ البصرة، واستفحل أمرُه، وبايعه فئامٌ من الناس، وتفاقم الخَطْبُ به، وبلغ خبَرُه إلى المنصور، فازدادَ غَمًّا إلى غَمِّهِ بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهَرَ قبلَ مقتل أخيه، وإنما كان سببَ تعجيِلِه الظهورَ كتابُ أخيه إليه، فامتثَلَ أمرَه، ودعا إلى نفسه، فانتظم أمرُهُ بالبصرة، وكان نائبَها من جهةِ المنصور سفيانُ بن معاوية، وكان ممالئًا لإبراهيمَ هذا في الباطن، ويبلغُهُ أخبارُه فلا يكترِثُ بها، ويُكَذِّبُ منْ أخبرَه، ويودُّ أنْ يتَّضِحَ أمرُ إبراهيم، وقد أمدَّه المنصورُ بأميرينِ من أهلِ خُراسان، معهما ألفا فارسٍ وراجل؛ فأنزلهما عندَه، ليتقوَّى بهما على محاربةِ إبراهيم. وتحوَّلَ المنصورُ من بغداد - وكان قد شَرَعَ في عِمَارتِها - إلى الكوفة، وجعل كلَّما اتَهم رجلًا من

(1)

انظر قول الواقدي في تاريخ الطبري (4/ 468).

(2)

في (ح، ق): "عبد الله بن سفيان"، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري (4/ 465).

ص: 326

أهلِ الكوفة في أمرِ إبراهيم بعث إليه يقتلُه في الليل في مَنْزِله، وكان الفُرَافصةُ العِجْلي قد همَّ بالوثوبِ بالكوفةِ فلم يمكنْهُ ذلك، لمَكانِ المنصورِ بها، وجعل الناسُ يقصدُونَ البصرةَ من كلِّ فجٍّ لمُبايعةِ إبراهيم، ويفدون إليها جماعاتٍ وفُرَادى، وجعل المنصورُ يرصُدُ لهم المسالِحَ فيقتلونَهم في الطريق، ويأتونه برؤوسِهم فيصلبها بالكوفةِ ليتَّعِظَ بها الناس، وأرسل المنصورُ إلى حرب الراوندي، وكان مرابطًا بالجزيرة في ألفَيْ فارسٍ لقتالِ الخوارج، يستدعيهِ إليه إلى الكوفة، فأقبل بمَنْ معه، فاجتاز ببلدة بها أنصارٌ لإبراهيم، فقالوا له: لا ندَعُكَ تجتاز، لأن المنصور إنما دعاكَ لقتالِ إبراهيم. فقال: ويحكم! دعوني. فأبَوْا، فقاتلهم، فقتل منهم خمسمئة، وأرسل برؤوسِهم إلى المنصور، فقال: هذا أول الفتح.

ولما كانتْ ليلةُ الإثنين مستهلَّ رمضان من هذه السنة خرجَ إبراهيمُ في الليل إلى مقبرةِ بني يَشكُر في بضعةَ عشرَ فارسًا، وقدم في هذه الليلةِ أبو حماد الأبرَص في ألفَيْ فارس مددًا لسفيانَ بن معاوية، فأنزلهمُ الأميرُ في القصر، ومال إبراهيمُ وأصحابه ومن التفَّ عليه وصار إلى دوالب أولئك الجيش وأسلحتِهم، فأخذوها جميعًا فتقوَّوْا بها، فكان أول ما أصاب؛ وما أصبح الصباح إلَّا وقد استظهر جدًّا، فصلَّى بالناسِ صلاةَ الصُّبح في المسجدِ الجامع، والتفَّ الخلائقُ عليه، ما بين ناظرٍ وناصِر، وتحصَّن سفيانُ بن معاوية نائبُ الخليفة بقصرِ الإمارة، وحبس عندَهُ الجنودَ فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيانُ بن معاوية من إبراهيمَ الأمانَ فأعطاهُ الأمانَ ودخل إبراهيمُ قصرَ الإمارة، فبُسطت له حصير ليجلسَ عليها في مقدَّمِ إيوانِ القصر، فهبَّتِ الرِّيحُ فقلبت الحصيرَ ظهرًا لبطن، فتطيَّرَ الناسُ بذلك، فقال إبراهيم: إنَّا لا نتَطَّير. وجلس على ظهرِ الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدًا، وأرادَ بذلك براءةَ ساحتِهِ عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيتِ المال، فإذا فيه ستمئة ألف، وقيل: ألفا ألف. فقَوِيَ بذلك جدًّا.

وكان في البصرةِ جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عمِّ الخليفة المنصور، فركبا في ستمئة فارس إليه، فهزمهما، وأركب إبراهيمُ المضاءَ بنَ القاسم في ثمانيةَ عشرَ فارسًا وثلاثين راجلًا فهزم ستَّمئةِ فارسٍ كانت لهما؛ وآمنَ منْ بقيَ منهم، وبعث إبراهيم إلى أهلِ الأهواز، فبايعوهُ وأطاعوه، وأرسل إلى نائبِها مئتي فارس، عليهم المغيرة، فخرج إليه محمد بن الحصين نائبُ البلاد في أربعةِ آلاف فارس، فهزمه المغيرةُ واستحوَذَ على البلاد، وبعث إبراهيم إلى بلادِ فارس فأخذها، وكذلك واسطَ والمدائن والسواد، واستفحل أمرُهُ جدًّا، ولكنْ لمّا جاءه نعيُ أخيهِ محمد انكسر جِدًّا، وصلَّى بالناسِ يومَ العيدِ وهو مكسور. قال بعضُهم: والله لقد رأيتُ الموتَ في وجههِ وهو يخطبُ الناس، فنَعَى إلى الناسِ أخاه محمدًا، فازداد الناسُ حَنَقًا على المنصور، وأصبح فعسكر بالناسِ واستناب على البصرةِ نُميلة، وخلَّف ابنَه حسنًا معه.

ولما بلغ المنصورَ خبَرُه تحَيَّرَ في أمرِه، وجعل يتأسَّفُ على ما فرَّق من جندِهِ في الممالك، وكان قد

ص: 327

بعث مع ابنِهِ المهديِّ ثلاثين ألفًا إلى الرَّيّ، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقيةَ أربعين ألفًا، والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفَيْ فارس، وكان يأمرُ بالنيرانِ الكثيرة فتُوقدُ ليلًا فيحسب الناظرُ إليها أن ثمَّ جُندًا كثيرًا. ثم كتب المنصورُ إلى عيسى بن موسى إذا قرأتَ كتابي هذا فأقبلْ من فَوْرك، ودَعْ كلَّ ما أنتَ فيه. فلم ينشبْ أنْ أقبل إليه، فقال له: اذهبْ إلى إبراهيمَ بالبصرة، ولا يهولنَّك كثرةُ منْ معه، فإنَّهم جملا بني هاشمٍ المقتولانِ جميعًا، فابسُطْ يدَك، وثِقْ بما عندَك، وستذكرُ ما أقولُ لك. فكان الأمرُ كما قال المنصور.

وكتب المنصور إلى ابنِهِ المهدي أنْ يوجِّهَ خازمَ بن خُزيمةَ في أربعةِ آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها، فأخرج منها نائبَ إبراهيم، وهو المغيرة، وأباحها ثلاثةَ أيام، ورجع المغيرةُ إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كلِّ كُورةٍ من هذه الكُور التي نقضَتْ بيعتَه جندًا يردُّونَ أهلَها إلى الطاعة. قالوا ولزِمَ المنصورُ موضعَ مُصَلَّاه، فلا يبرَح منه ليلًا ونهارًا في ثيابٍ بذْلَةٍ قدِ اتَّسختْ؛ فلم يزَلْ مقيمًا هناك بضعًا وخمسين يومًا حتى فتح الله عليه وقد قيل له في غبون

(1)

ذلك إنَّ نساءك قد خَبُثَتْ نفسُهن لغيبتِكَ عنهنّ. فانتهَرَ القائلَ وقال: وَيْحكَ! ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأسَ إبراهيمَ بين يدي، أو يُحمل رأسي إليه.

وقال بعضُهم: دخلتُ على المنصور وهو مهمومٌ من كثرةِ ما وقع من الشرور وهو لا يستطيع أن يتابعَ الكلامَ من كثرةِ كَرْبِهِ وهمِّه، وما تَفَتَّقَ عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعدَّ لكلِّ أمرٍ ما يسدُّ خَلَلَهُ به، وقد خرجَتْ عن يده البصرةُ والأهواز وأرضُ فارس والمدائنُ وأرضُ السواد؛ وفي الكوفةِ عندَهُ مئةُ ألفٍ مغمدةٌ سيوفها تنتظرُ به صيحةً واحدة فيَثبُونَ مع إبراهيم، وهو مع ذلك يَعْرِكُ النوائبَ ويَمْرُسُها، ولم تقعُدْ به نفسُه، وهو كما قال الشاعر:

نفسُ عصامٍ سَوَّدتْ عصاما

وعلَّمَتْهُ الكَرَّ والإقداما

فصيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَاما

(2)

وأقبل إبراهيمُ بعساكرَ من البصرة إلى الكوفة في مئةِ ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصورُ عيسى بنَ موسى في خمسةَ عشرَ ألفًا، وعلى مقدَّمته حُميد بن قحطبة في ثلاثةِ آلاف، وجاء إبراهيمُ فنزلَ في باخُمْرَى

(3)

في جحافلَ عظيمة، فقال له بعضُ الأمراء إنَّكَ قد اقترَبْتَ من المنصور، فلو أنك سرتَ إليه بطائفةٍ من جيشِك لأخذتَ بقفاه، فإنه ليس عندَهُ من الجيوشِ ما يردُّون عنه. وقال آخرون: إنَّ الأولى أنْ

(1)

كذا في الأصول، انظر حوالي الصفحات (280 و 292 و 321 و 324) ذوات الأرقام (2 و 1 و 2 و 3) على التوالي من هذا الجزء.

(2)

نسبت الأبيات للنابغة الذبياني، وهي في ديوانه ص (118). وزاد بيتًا رابعًا وهو قوله:

حتى علا وجاوز الأقواما

(3)

باخمرى - بالراء - موضعٌ بين الكوفةِ وواسط، وهو إلى الكوفةِ أقرب تبعد عنها ستة عشر فرسخًا. معجم البلدان (1/ 316)، وكما سيأتي بعد قليل.

ص: 328

نُناجز هؤلاءِ الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتِنا، فثناهُمْ ذلك عن الرأيِ الأول، ولو فعلَهُ لتمَّ لهمُ الأمر. ثم قال بعضُهم: خَندِقْ حولَ الجيش. وقال آخرون: إنَّ هذا الجيش لا يحتاجُ إلى خندقٍ حوله. فترك ذلك، ثم أشار بعضُهم أنْ يُبَيِّتَ جيشَ عيسى بن موسى

(1)

، فقال إبراهيم: أنا لا أرَى ذلك. فتركه، ثم أشار آخرون بأنْ يجعل جيشَهُ كراديس، فإنْ غُلب كردوس ثَبتَ الآخر. وقال آخرون: الأولى أن نُقاتِلَ صفوفًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، والأمر للّه وما شاء فعل. ولو ساروا إلى الكوفة وبيَّتوا الجيشَ أو جعلَ جيشه كراديسَ لتمَّ له الأمر مع تقديرِ اللّه تعالى.

وأقبلَ الجيشان، فتصافُّوا في باخُمْرَى، وهي على ستةَ عشرَ فرسخًا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا فانهزم حُميد بن قحطبةَ بمنْ معه من المقدَّمة، فجعل عيسى يُناشدهم اللّه في الرجوعِ والكرَّة، فلا يلوي عليه أحد، وثبَتَ عيسى بن موسى في مئةِ رجل من أهلِه؛ فقيل له: لو تنَحَّيْتَ من مكانك هذا لئلا يحطِمَكَ جيشُ إبراهيم. فقال: واللّه لا أزولُ منه حتى يفتحَ اللّه لي أو أقتلَ هاهنا. وكان المنصورُ قد تقدَّم إليه بما أخبره بعضُ المنجِّمين، أنَّ الناس يكونُ لهم جَوْلة عن عيسى بن موسى، ثم يقومون إليه، وتكونُ العاقبةُ له. فاستمرَّ المنهزمون ذاهبين إلى نهير بين جبلَيْن، فلم يُمكنهم خوضه، فكرُّوا راجعينَ بأجمعِهم، وكان أولُ راجعٍ حُميد بن قحطبة الذي كان أولَ منِ انهزم، ثم اجتلدوا هم وأصحابُ إبراهيم، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتل من كلا الفريقَيْنِ خلقٌ كثير، ثم انهزم أصحابُ إبراهيم، وثبَتَ هو في خمسمئة، وقيل: في أربعمئة، وقيل: في تسعين رجلًا، واستظهر عيسى بنُ موسى وأصحابُه، وقُتل إبراهيم في جملةِ من قُتل، واختلط رأسُه مع رؤوسِ أصحابه، فجعل حُميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأسَ إبراهيم، فبعثوه مع البشيرِ إلى المنصور، وكان نيبخت المنجِّم قد دخل على المنصور قبلَ مجيء الرأس، فأخبره أنَّ إبراهيم مقتول، فلم يصدَّقْه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنْ لم تصدِّقْني فاحبِسْني، فإنْ لم يكنِ الأمرُ كما ذكرتُ فاقتُلْني. فبينما هو عندَه إذْ جاء البشيرُ بهزيمةِ جيشِ إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيتِ مُعَقِّرِ بنِ أوسِ بنِ حمار البارقيّ:

فألقَتْ عصاها واستقرَّ بها النَّوَى

كما قَرَّعينًا بالإيابِ المُسَافرُ

وقيل: إنَّ المنصور لمّا رأى الرأسَ بكى حتى جعلتْ دموعُه تسقُطُ على الرأس، وقال: واللّهِ لقد كنتُ لهذا كارهًا، ولكنَّكَ ابتُليتَ بي وابتليتُ بك. ثم أمرَ بالرأسِ فنُصب بالسوق، وأقطَعَ نيبختَ المنجِّم الكذَّاب ألفَيْ جَريب

(2)

.

(1)

بيَتَ جيش العدوّ: أوقَعَ بهم ليلًا. القاموس (بيت).

(2)

وهذه زيادة من (ق) المقحمة وهي: =

ص: 329

وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جيء برأسِ إبراهيمَ جلس المنصورُ مجلسًا عامًّا، وجعل الناسُ يدخلونَ عليه فيهنِّئونه وينالونَ من إبراهيم، ويُقبِّحون الكلامَ فيه ابتغاءَ مرضاةِ المنصور، والمنصورُ ساكتٌ متغيِّرُ اللون لا يتكلَّم، حتى دخل جعفرُ بن حَنْظلةَ البهراني، فوقف فسلَّم ثم قال: أعظَمَ الله أجرَكَ يا أميرَ المؤمنين في ابنِ عمِّك، وغفَرَ له ما فرَّط من حَقِّك. قال: فاصفرَّ لونُ المنصور، وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد، مرحبًا وأهلًا، هاهنا فاجلسْ، فعلم الناسُ أنَّ ذلك وقع منه موقعًا جيدًا؛ فجعل كلُّ منْ جاء يقولُ كما قال جعفرُ بن حنظلة.

قال أبو نُعيم الفضلُ بن دُكين: كان مقتلُ إبراهيمَ في يوم الخميس، لخمسٍ بقينَ من ذي الحجَّةِ من هذه السنة.

‌ذكرُ منْ تُوفِّي فيها من الأعيان:

فمن أعيانِ أهلِ البيت عبدُ اللّه بن حسن.

وابناه محمد وإبراهيم.

وأخوه حسن بن حسن.

وأخوه لأمِّه محمد بن عبدِ اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقَّب بالدِّيباج؛ وقد تقدَّمت ترجمتُه

(1)

.

وأما أخوه:

عبدُ اللّه بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب

(2)

: القرشيُّ الهاشميُّ فتابعيّ، روى عن أبيه وأُمِّه فاطمةَ بنتِ الحسين، وعبدِ اللّه بن جعفر بن أبي طالب - وهو صحابيٌّ جليل - وغيرهم. وروى عنه جماعة، منهم سفيانُ الثوري، والدَّرَاوَرْدي، ومالك. وكان معظَّمًا عندَ العلماء، وكان عابدًا كبيرَ القَدْر. قال يحيى بنُ معين: كان ثقةً صدوقًا، وَفَد على عمرَ بن عبد العزيز فأكرَمه، ووفد على السفَّاح فعطمهُ وأعطاهُ ألفَ ألفِ درهم؛ فلمّا ولي المنصورُ عامَلَهُ بعكسِ ذلك، وكذلك أولادُه وأهلُه؛ وقد مضَوْا جميعًا، والتقَوْا عندَ الله عز وجل.

= [فهذا المنجِّم إنْ كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياءَ كثيرة، فهُمْ كَذَبةٌ كَفَرة؛ وقد كان المنصورُ في ضلالٍ مع منجِّمهِ هذا. وقد ورَّث الملوكَ اعتقادَ أقوالِ المنجِّمين، وذلك ضلالٌ لا يجوز].

(1)

في ص (316) من هذا الجزء.

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (5/ 71)، مشاهير علماء الأمصار (1/ 127)، الثقات لابن حبان (7/ 1)، تاريخ بغداد (9/ 431)، الكاشف للذهبي (1/ 545)، تهذيب الكمال (14/ 414)، طبقات الحنفية (1/ 454).

ص: 330

وأخذهُ المنصورُ وأهلَ بيتِهِ مقيَّدين مغلولين مُهانينَ من المدينةِ إلى الهاشميَّة، فأودعهُمُ السِّجنَ الضيق - كما قدَّمنا - فماتَ أكثرُهم فيه، فكان عبدُ الله بن حسن هذا أولَ منْ ماتَ فيه بعدَ خروج محمدٍ بالمدينة. وقد قيل: إنه قُتل في السجن عمدًا، وكان عمرُه يومَ مات خمسًا وسبعين سنة؛ وصلَّى عليه أخوهُ لأمِّهِ الحسنُ بن الحسن بن علي، ثم ماتَ بعدَهُ أخوه حسن، فصلَّى عليه أخوه لأمِّه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان، ثم قُتل بعدَهما وحُمل رأسُهُم إلى خُراسان كما تقدَّم.

وأمَّا ابنُه:

محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ين أبي طالب

(1)

: الذي خرج بالمدينة، فروى عن أبيه، ونافع، وعن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، في كيفيَّةِ الهُويِّ إلى السُّجود. وحدَّث عنه جماعةٌ. ووثقه النسائي وابنُ حئان، وقال البخاري: لا يُتابع حدِيثه؛ وقد ذكر أن أُمَّه حملَتْ به أربعَ سنين، وكان طويلًا سمينًا أسمرَ ضَخْمًا، مُفَخَّمًا، ذا هِمَّةٍ سامية، وسَطْوةٍ عالية، وشجاعةٍ باهرة، قُتل بالمدينةِ في مُنتصَفِ رمضان، سنةَ خمس وأربعين ومئة، وله خمسٌ وأربعون سنة. وقد حملوا برأسِهِ إلى المنصور، وطِيف به في الأقاليم.

وأما أخوه إبراهيم فكان ظهورُه بالبصرةِ بعد ظهورِ أخيهِ بالمدينة، وكان مقتَلُه بعدَ مقتلِ أخيه في ذي الحِجَّة من هذه السنة، وليس له شيءٌ في الكتبِ الستَّة. وحكى أبو داود السِّجسْتاني عن أبي عوانة أنه قال: كان إبراهيمُ وأخوهُ محمد خارجِيَّيْن

(2)

. قال داود: ليس كما قال، هذا رأيُ الزيديَّة. قلتُ: وقد حُكي عن جماعةٍ من العلماءِ والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورِهما. وفي هذا نظر، والله أعلم.

‌وفيها تُوفِّي من المشاهيرِ والأعيان:

الأجلحُ بن عبدِ اللّه.

وإسماعيلُ بنُ أبي خالد - في قول -.

وحبيب بن الشهيد.

وعبد الملك بن أبي سليمان.

وعمرو مولى عَفْرة.

(1)

ترجمته في الثقات لابن حبان (9/ 40)، تهذيب الكمال (25/ 645)، المغني في الضعفاء (2/ 596)، الكاشف (2/ 185)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 452)، لسان الميزان (7/ 363)، تقريب التهذيب ص (487).

(2)

في (ق): "خارجين"، وفي (ب، ح): "خارجيان".

ص: 331

ويحيى بن الحارث الذِّمَاري.

ويحيى بن سعيد أبو حيان التيميّ.

ورؤبة بن العَجَّاج

(1)

: والعجَّاج لقَب، واسمهُ أبو الشعثاء عبد اللّه بن رؤبة، أبو محمد التميمي البصري الراجز ابن الراجز، ولكلٍّ منهما ديوانُ رَجَز؛ وكلٌّ منهما بارعٌ في فَنِّهِ لا يُجارى ولا يُمارى، عالمٌ باللغة.

وعبدُ الله بن المقفَّع

(2)

: الكاتبُ المفَوَّه، أسلم على يدِ عيسى بنِ عليّ، عَمِّ السفَّاحِ والمنصور، وكتبَ له، وله رسائلُ وألفاظٌ صحيحة، وكان مُتَّهمًا بالزَّنْدَقة، وهو الذي صنَّف كتابَ "كليلة ودِمْنَة"؛ ويُقال: بل هو الذي عرَّبها من الفارسيَّة إلى العربية، قال المهدي: ما وُجدَ كتابُ زَنْدقةٍ إلَّا وأصلُه من ابنِ المقفَّع. وقال الجاحظ: الزنادقةُ ثلاثة؛ ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد. قالوا: ونَسِيَ الجاحظُ نفسَهُ، وهو رابعُهم. وكان مع هذا فاضِلًا بارعًا فَصِيحًا. قال الأصمعي: قيل لابنِ المقفَّع: منْ أدَّبك؟ قال: نفسي؛ إذا رأيتُ منْ غيري قَبِيحًا أبَيتُه، وإذا رأيتُ حسنًا أتَيْتُه.

ومن كلامه: شربتُ من الخُطَب رِيًّا، ولم أضبِطْ لها رَوِيًّا، فغاضَتْ ثم فاضَتْ، فلا هي نِظَامًا وليس غيرها كلامًا.

وكان قتلُ ابنِ المقفَّع على يدِ سفيان بن معاوية بن يزيدَ بنِ المهلَّبِ بنِ أبي صُفْرَة، نائبِ البصرة، وذلك أنه كان يعبثُ به ويسبُّ أُمَّه، وإنما كان يسمِّيه ابنَ المغتلمة، وكان كبيرَ الأنف، وكان إذا دخل عليه يقول: السلامُ عليكما على سبيلِ التهكُّم. وقال لسفيانَ بنِ معاويةَ مرَّةً: ما نَدمتُ على سكوتٍ قطّ. فقال: صدقتَ، الخرَسُ لك خيرٌ من كلامِك. ثم اتفق أنَّ المنصورَ غَضِبَ على ابنِ المقفَّع، فكتب إلى نائبِهِ سفيانَ بنِ معاويةَ هذا أنْ يقتُلَه؛ فأخذهُ فأحْمَى له تَنُّورًا، وجعل يُقطعُهُ إرْبًا إرْبًا، ويُلقيهِ في ذلك التنُّور حتى حَرَقه كلَّه، وهو ينظر إلى أطرافِهِ كيف تُقطَع ثم تُحرق. وقيل غيرُ ذلك في صِفَةِ قتلِه.

قال ابنُ خلِّكان: ومنهم منْ يقول: إنَّ ابن المقفَّع نُسب إلى بيعِ القفاع، وهي من الجريد كالزَّنْبيل بلا آذان

(3)

. والصحيح أنه ابنُ المقفع وهو أبو داذويه، كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخانَ، فعاقَبَهُ حتى تقفَّعَتْ يداه، واللّه أعلم.

(1)

ترجمته في طبقات فحول الشعراء (2/ 738 و 761)، التاريخ الكبير (3/ 340)، الجرح والتعديل (3/ 521)، والأغاني (20/ 359)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 143)، الأسماء المفردة ص (136).

(2)

ترجمته في وفيات الأعيان (2/ 151)، سير أعلام النبلاء (6/ 208)، لسان الميزان (3/ 366)، الفهرست ص (172).

(3)

جاء في لسان العرب (قِفع) ما نصه: والقَفَعةُ: جماعةُ الجرادِ. وفي حديث عمر: أنه ذكر عنده الجراد فقال: لَيْتَ عندنا منه قَفْعةً أو قفْعَتَيْن؛ القَفْعة: هو هذا الشبيه بالزَّبيل، وقال الأزهري: هو شيء كالقفة يتخذ واسعَ =

ص: 332

وفيها خرج التُّرك والخَزَر ببابِ الأبواب، فقتلوا من المسلمين بأرمينيةَ جماعةً كثيرة، وحجَّ بالناس في هذه السنةِ [السريُّ بن عبد اللّه بن الحارث بن عباس بن عبد المطلب نائب مكة، وكان، نائب المدينة عبدُ اللّه بن الربيع الحارثي، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سلم بن قُتيبة، وعلى مصر يزيدُ بن حاتم.

‌ثم دخلت سنة ست وأربعين ومئة

فيها تكامل بناءُ مدينةِ السلام ببغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذهِ السنة، وكان مقيمًا قبلَ ذلك بالهاشميَّة المتاخمةِ للكوفة، وكان قد شَرَعَ في بنائِها في السنةِ الخارجة، وقيل في سنةِ أربع وأربعين ومئة. فاللّه أعلم.

وقد كان السبَبُ الباعثُ له على بنائها أنَّ الرَّاوَنْديَّة لمَّا وثبوا عليهِ بالكوفة، ووقاهُ اللّه شرَّهم، بقيَتْ منهم بقيَّة، فخَشِيَ على جُنده، فخرج من الكوفةِ يَرْتادُ لهم موضعًا لبناء مدينة؛ فسار في الأرض حتى بلَغَ الجزيرة، فلم يرَ موضعًا أحسنَ لوضعِ المدينةِ من موضعِ بغدادَ الذي هي فيه الآن؛ وذلك بأنَّهُ موضعٌ يُغدَى إليه ويُرَاحُ بخيراتِ ما حَوْلهُ في البرِّ والبحر، وهو مُحَصَّنٌ بدِجْلَةَ والفُرات، من هاهنا وهاهنا، لا يقدِرُ أحدٌ أنْ يتواصل إلى موضعِ الخليفةِ إلَّا على جِسْر؛ وقد بات به المنصورُ قبلَ بنائِه ليالي، فرأى الرياحَ تَهُبُّ بهِ ليلًا ونهارًا [من غير انجعارٍ ولا غُبَار]

(1)

؛ ورأى طيبَ تلك البُقعة، وطيبَ هوائها، وقد كان في موضعِها قُرًى وديورٌ لِعُبَّادِ النَّصَارى وغيرِهم. ذكر ذلك مفصَّلًا بأسمائه وتَعْدادِه أبو جعفر بنُ جَرير

(2)

؛ فحينئذ أمر المنصور باختطاطِها، فرسموها له بالرَّماد، فمشى في طُرقِها ومسالِكها، فأعجبه ذلك، ثم سلَّم كلَّ رُبع منها لأميرٍ يقومُ على بنائه، وأحضر من كلِّ البلادِ فُعَّالًا

(3)

وصُنَّاعًا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوفٌ منهم، ثم كان هو أوَّلَ منْ وضع لَبنةً فيها بيدِه، وقال: بسم اللّه والحمدُ للّه {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. ثم قال: ابنوا على بَرَكةِ اللّه. وأمر ببنائها مُدَوَّرَةً، سَمْكُ سورِها من أسفلِهِ خمسون ذراعًا، ومن أعلاه عشرون ذراعًا،

= الأسفل ضَيِّقَ الأعلى، حَشْوُها مكانَ الحَلْفَاءِ عَراجينُ تُدَقُّ، وظاهرها خُوص على عمَلِ سلالِ الخوص. وفي المحكم: القَفْعةُ هنةٌ تُتَّخذُ من خوص تشبه الزَّبيلَ ليس بالكبير، لا عُرى لها، يُجْنى فيها الثمر ونحوه وتسمى بالعِراق القُفّة. وقال ابن الأعرابي: القَفْع القِفافُ، واحدتُها قَفْعةٌ. وقال محمد بن يحيى: القَفْعة الجُلّة بلغة اليمن يحمل فيها القطن.

(1)

ما بين معقوفين انفردت فيه (ق).

(2)

في تاريخه (4/ 478).

(3)

في (ب، ح): "فعولا"، والمثبت من (ق).

ص: 333

وجعل لها ثمانيةَ أبوابٍ في السور البرَّاني، ومثلها في الجُوَّاني، وليس كلُّ واحدٍ تجاهَ الآخر، ولكنْ جعله أزْوَرَ عن الذي يليه، ولهذا سُمِّيت بغدادُ الزَّوْراء لازْوِرَارِ أبوابِها بعضِها عن بعض؛ وقيل: سُمِّيتْ بذلك لانحراف دِجْلَةَ عندها.

وبَنَى قصرَ الإمارةِ في وسط البلد، ليكون الناس منه على حدٍّ سواء، واختطَّ المسجدَ الجامع إلى جانبِ القَصْر، وكان الذي وضع قبلتَهُ الحجَّاجُ بن أرطاة.

وقال ابنُ جرير

(1)

: ويقال: إنَّ في قِبْلَتِه انحرافًا يحتاجُ المصلي فيه أن ينحرفَ إلى ناحيةِ بابِ البصرة، وذكر أنَّ مسجدَ الرُّصافة أقربُ إلى الصوابِ منه لأنَّه بُني قبلَ القصر، وجامعُ المدينة بُني على القصر، فاختلَّتْ [قِبلته] بسببِ ذلك.

وذكر ابنُ جرير

(2)

عن سليمان بن مُجالد أنَّ المنصور أراد أبا حنيفةَ النعمانَ بن ثابت على القضاء بها، فأبَى وامتنع؛ فحَلَفَ المنصورُ أن يتولَّى له، وحلف أبو حنيفةَ أنْ لا يتولَّى له؛ فولَّاهُ القيامَ بأمرِ المدينةِ وضَرْبِ اللَّبِن، وأخذ الرجالُ بالعمل، وكان أبو حنيفة المتولّي لذلكَ حتى فرغوا من استتمامِ حائطِ المدينةِ مما يلي الخندق. وكان استتمامُهُ في سنةِ أربع وأربعين ومئة.

قال ابنُ جرير

(3)

: وذُكر عن الهيثم بن عديّ، أنَّ المنصورَ عَرَض على أبي حنيفةَ القضاءَ والمظالِمَ فامتنع، فحَلَف أنْ لا يُقلعَ عنهُ حتى يعمَلَ له، فأُخبرَ بذلك أبو حنيفة، فدعا بقَصَبةٍ فعَدَّ اللَّبِنَ لِيَبرَّ بذلك يمينَ أبي جعفر. ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك.

وذكر

(4)

أنَّ خالدَ بنَ بَرْمَك هو الذي أشار على المنصورِ ببنائها، وأنه كان مستحثًا فيها للصُّنَّاع، وقد شاور المنصورُ الأمراءَ في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد، لأجل قصرِ الإمارة بها، فقالوا: لا تفعلْ فإنَّهُ آيةٌ في العالَم، وفيه مُصَلَّى أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب. فخالفَهُمْ ونقلَ منه شيئًا كثيرًا، فلم يفِ ما تحصَّلَ منه بأجرةِ ما يُصرَف في حَمْلِه؛ فتركه ونقَلَ أبوابَ قصرِ واسطَ إلى أبوابِ قصرِ الإمارةِ ببغداد. وقد كان الحجَّاجُ نَقَلَ حجارتَهُ من مدينةٍ هناك كانتْ من بناء سليمانَ بنِ داود؛ وكانتِ الجنُّ قد عملَتْ تلكَ الأبواب، وهي حجارةٌ هائلة، وقد كانت الأسواقُ وضَجيجُها تُسمع من قصرِ الإمارة، فكانتْ أصواتُ الباعةِ وهَوسناتُ الأسواق تُسمع منه؛ فعاب ذلك بعضُ بطارقةِ النصارَى ممَّنْ قدِمَ في بعض الرسائلِ من الرُّوم، فأمر المنصورُ بنقلِ الأسواقِ من هناك إلى موضعٍ آخر، وأمر بتوسعةِ الطُّرقاتِ أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا؛ ومنْ بَنَى في شيء من ذلك هُدم.

(1)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 479).

(2)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 459).

(3)

في تاريخه (4/ 460).

(4)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 478).

ص: 334

قال ابنُ جرير

(1)

: وذُكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدتُ في خزائنِ المنصورِ في الكتب أنَّه أنفق على بناءِ مدينةِ السلام ومسجدِها الجامع وقصرِ الذهب بها والأسواقِ والفصلان والخنادق وقبابها أربعةَ آلاف [ألف] وثمان مئة وثلاثة وثمانين ألف درهم؛ وكان أجرةُ الأستاذ من البنَّائين كل يوم قيراط فِضَّة، وأُجرة الصانع من الحَبَّتَيْنِ إلى الثلاثة.

قال الخطيب البغدادي

(2)

: وقد رأيتُ ذلك في بعض الكتب. وحكى عن بعضِهم أنه قال: أنفق عليه ثمانيةَ عشرَ ألف ألف. فاللّه أعلم.

وذكر ابنُ جرير

(3)

أنَّ المنصورَ ناقَصَ أحدَ المهندسين الذي بنى بيتًا حسنًا في قصرِ الإمارة، فَنَقَصهُ درهمًا عمَّا ساوَمَهُ، وأنَّهُ حاسَبَ بعضَ المستحِثِّين على الذي كان عندَه، ففَضَلَ عندَهُ خمسة عشر درهمًا، فحبَسَهُ حتى جاء بِها وأحضرها، وكان شحيحًا.

قال الخطيب

(4)

: وبناها مُدوَّرة، ولا يُعرف في أقطارِ الأرض مدينةٌ مدوَّرةٌ سواها؛ ووضِع أساسَها في وقتٍ اختارَهُ له نُوبَخْت المنجِّم. ثم ذكرَ عن بعضِ المنجِّمين قال: قال لي المنصور لَمَّا فرَغ من بناءَ بغداد: خُذِ الطالِعَ لها. فنظرتُ في طالِعِها، وكان المشتري في القَوْس، فأخبرتُهُ بما تدلُّ عليه النجومُ من طولِ زمانِها، وكثرةِ عِمارتِها، وانصبابِ الدنيا إليها، وفقرِ الناسِ إلى ما فيها. قال: ثم قلت له: وأُبَشِّرُكَ يا أمير المؤمنين، أنه لا يموتُ فيها أحدٌ من الخلفاءَ أبدًا. قال: فرأيتُهُ يتبَسَّم، ثم قال: الحمدُ لله، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21 والجمعة: 4]. وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرًا، منه:

قَضى رَبُّها أنْ لا يموتَ خليفةٌ

بها إنَّهُ ما شاء في خلقِهِ يَقْضِي

(5)

وقد قرَّرَهُ على هذا الخطأ الخطيب وسلَّم ذلك ولم ينقُضْهُ بشيء، بل قرَّرَهُ مع اطِّلاعِهِ ومعرفتِه

(6)

.

قال

(7)

: وزعم بعضُ الناس أن الأمين قُتل بدَرْبِ الأنبار منها. فذكرتُ ذلك للقاضي أبي القاسم

(1)

في تاريخه (4/ 481).

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 69).

(3)

في تاريخه (4/ 481).

(4)

في تاريخ بغداد (1/ 67).

(5)

أورد الخطيب في تاريخه (1/ 68) عدة أبيات نسبها إلى عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطَفَى، ثم قال: بعد روايتها: وقد رويت هذه الأبيات لمنصور النمري. واللّه أعلم.

(6)

انظر تاريخ بغداد (1/ 68).

(7)

يعني الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 68).

ص: 335

علي بن حسن التنوخي فقال: محمد الأمين لم يُقتل بالمدينة، إنما قد نزل في سفينةٍ إلى دِجلة ليَتَنزَّه، فقُبض عليه في وسط دجلة وقُتل هناك. وذكر ذلك الصُّولي وغيرُه.

وذكر عن بعضِ مشايخِ بغداد، أنه قال: اتساعُ بغدادَ مئةٌ وثلاثون جَريبًا، وذلك بقَدْرِ ميلَيْن في مَيلَيْن.

قال الإمام أحمد

(1)

: بغداد من الصَّراة إلى باب التبن.

وذكر الخطيب

(2)

أنَّ بين كلِّ بابَيْنِ من أبوابِها الثمانية ميلًا. وقيل أقلّ من ذلك.

وذكر الخطيب

(3)

صفةَ قصرِ الإمارة، وأنَّ فيه القبَّةَ الخضراء، طولُها ثمانون ذراعًا، على رأسِها تمثالُ فَرَس عليه فارسٌ في يَد رُمْحٌ يدورُ به، فأيُّ جهةٍ استقبلها واستمرَّ مستقبلَها عَلِمَ السلطانُ أنَّ في تلك الجهةِ قد وقع حدَث، فلم يلبَثْ أن يأتيَ الخليفةَ خبرُه.

وهذه القبةُ وهي على مجلسٍ في صدرِ إيوانِ المحكمة، وطولُه ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا وقد سقطَتْ هذه القبةُ في ليلة بردٍ ومطر ورعدٍ وبَرْق، ليلةَ الثلاثاء لسبعٍ خلَوْنَ من شهرِ جُمَادَى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاث مئة.

وذكر الخطيبُ البغدادي

(4)

أنه كان يُباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدِرْهم، والحَمَلَ بأربعةِ دوانِق، ويُنادى على لحمِ الغنم كلّ ستينَ رطلًا بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلًا بدرهم، والتمر كل ستين رطلًا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطالٍ بدرهم، ولهذا الأمن والرُّخص كَثُرَ ساكنوها، وعَظُمَ أهلوها، وكَثُرَ الدارجُ في أسواقِها وأزِقَّتها، حتى كان المارُّ لا يستطيعُ أنْ يجتازَ في أسواقِها لكثرةِ زِحامِ أهلِها.

قال بعضُ الأمراص وقد رجَعَ من السُّوق: طالَ واللّهِ ما طرَدْتُ خلفَ الأرانب في هذا المكان.

وذكر الخطيب

(5)

أن المنصور جلس يومًا في قصرِه، فسمع ضجَّة عظيمة، ثم أخرى، ثم أخرى، فقال للربيع الحاجب: ما هذا؟ فكشف فإذا بقرةٌ نفرَتْ من جازِرِها هاربةً في الأسواق. فقال الرومي: يا أمير المؤمنين، إنك بنَيْتَ بناءً لم يبنِهِ أحدٌ قبلَك، وفيه ثلاثةُ عيوب: بُعدُهُ من الماء، وقُرْبُ الأسواقِ منه، وليس عندَه خُضْرة، والعينُ خضراء تُحبُّ الخُضرة. فلم يرفَعْ بِها المنصورُ رأسًا. ثم أمَرَ بتغييرِ

(1)

تاريخ بغداد: (1/ 70، 71).

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 71).

(3)

في تاريخ بغداد (1/ 73).

(4)

في تاريخ بغداد (1/ 70).

(5)

في تاريخ بغداد (1/ 78).

ص: 336

ذلك، ثم بعدَ ذلك ساق إليها الماء، وبَنَى عندَها البساتين، وحوَّلَ الأسواقَ من ثمَّ إلى الكَرْخ.

قال يعقوبُ بن سفيان: كمَلَ بناءُ بغداد في سنةِ ست وأربعين ومئة، وفي سنة سبعٍ وخمسين حوَّل الأسواقَ إلى بابِ الكَرْخ وباب الشعير وباب المحوَّل، وأمر بتَوْسعةِ الأسواق أربعين ألفًا

(1)

. وبعد شهرين من ذلك شرَعَ في بناءِ قصره المسمَّى بالخُلد، فكمَلَ سنةَ ثمانٍ وخمسين ومئة، وجعَلَ أمرَ ذلك إلى رجل يُقال له الوضَّاح. وبنى للعامَّةِ جامعًا للصلاةِ والجُمعة لئلا يدخلوا إلى جامعِ المنصور. فأمَّا دارُ الخلافة التي كانت ببغداد بعدَ ذلك فإنَّها كانت للحسن بن سهل، فانتقلَتْ من بعدِهِ إلى بُوران زوجةِ المأمون، فطَلَبها منها المعتضد - وقيل المعتمد - فأنعمَتْ له بِها، ثم استنظرَتْهُ أيامًا حتى تنتقلَ منها؛ فأنظَرَها، فشرَعَتْ في تلك الأيام في ترميمِها وتبييضِها وتحسينِها، ثم فرشَتْها بأنواعِ الفُرش والبُسط، وعلَّقَتْ فيها أنواعَ الستور، وأرصدَتْ فيها ما ينبغي للخلافةِ من الجواري والخدم، وألبسَتْهم أنواعَ الملابس، وجعلَتْ في الخزائنِ ما ينبغي من أنواعِ الأطعمةِ والمآكل، وجعلتْ في بعض بيوتِها من أنواعِ الأموال والذخائر، ثم أرسلَتْ بمفاتيحِها إليه. ثم دخلَها فوجَدَ فيها ما أرصدَتْه بها، فهالَهُ ذلك واستعظمَه؛ وكان أولَ خليفةٍ سكنها، وبنى عليها سورًا. ذكرَهُ الخطيب.

وأما التاج فبناه المكتفي على دِجْلة، وحَوْلَهُ القِبَابُ والمجالس والميدان والثرَيَّا وحَيْرُ الوحوش

(2)

. وذكر الخطيب صفةَ دارِ الشجرة التي كانت في زمنِ المقتدر باللّه وما فيها من الفُرُشِ والسُّتور والخدمِ والمماليك والحشمةِ الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها أحد عشر ألف طَوَاشي، وسبع مئة حاجب. وأَمَّا المماليك فألوفٌ لا يُحصونَ كثرةً. وسيأتي ذكرُ ذلك مفصّلًا في أيامِهم ودولتِهم التي ذهبَتْ كأنها أحلامُ نُوَّم بعدَ سنة ثلاث مئة.

وذكر الخطيب

(3)

دار الملك التي بالْمُخَرِّم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الأنهار والجُسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أُحدث بعده إلى زمانه. وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دِجْلَة:

يوم سرقنا العيشَ فيه خِلْسَةً

في مجلسٍ بِفنَاءِ دِجلَةَ مُفْرَدِ

رَقَّ الهواءُ برقَّةٍ قدَّامهُ

فغدوتُ رقًّا للزمانِ الْمُسْعَدِ

فكأنَّ دِجلةَ طيلسانٌ أبيضٌ

والجسرُ فيها كالطِّرازِ الأسودِ

(1)

في بعض النسخ: ذراعًا.

(2)

الحَيْر: الحظيرة. لسان العرب (حير).

(3)

في تاريخ بغداد (1/ 105 - 117).

ص: 337

وقال آخر:

أيا حبَّذا جسرٌ على مَتْنِ دِجْلةٍ

بإتقانِ تأسيسٍ وحُسْنٍ ورَوْنَقِ

جَمالٌ وحسنٌ للعراقِ ونُزْهةٌ

وسَلوةُ منْ أضناهُ فَرْطُ التشوُّقِ

تراهُ إذا ما جئتَهُ متأمِّلًا

كسطرِ عَبيرٍ خُطَّ في وَسْطِ مُهْرَقِ

أو العاجِ فيه الآبَنُوسُ مُرَقَّشٌ

مثالُ فيولٍ تحتَها أرضُ زئبقِ

وذكر الصولي قال

(1)

: ذكر أحمدُ بن أبي طاهر في كتاب بغداد أنَّ ذراعَ بغدادَ من الجانبين ثلاثةٌ وخمسون ألف جَريب، وسبعمئة وخمسون جريًا، وأنَّ الجانبَ الشرقيَّ ستةٌ وعشرون ألف جَرِيب وسبعُمئةٍ وخمسون جَريًا، وأنَّ عدَّةَ حَمَّاماتِها ستون ألفَ حَمَّام؛ وأقلُّ ما في كلِّ حَمَّامٍ منها خمسةُ نفر: حَمَّامي، وقَيِّم، وزَبَّال، ووَقَاد، وسَقَاء؛ وأنَّ بإزاءَ كلِّ حَمَّام خمسةُ مساجد؛ فذلك ثلاث مئةِ ألفِ مسجد، وأقلُّ ما يكون في كلِّ مسجدٍ خمسةُ نفر: يعني إمامًا وقيِّمًا ومأذونًا ومأمومين. ثم تناقصَتْ بعدَ ذلك، ثم دُثرَتْ بعدَ ذلك حتى صارتْ كأنَّها خَربةٌ صورةً ومعنى، على ما سيأتي بيانُه في موضعِه.

وقال الحافظ أبو بكر البغدادي

(2)

: لم يكن لبغداد نظيرٌ في الدنيا، في جلالةِ قدرِها، وفخامةِ أمرِها، وكثرةِ علمائها وأعلامها، وتَمَيُّزِ خواصِّها وعوامِّها، وعظم أقطارِها وسعةِ أطرارها، وكثرةِ دُورِها ودُروبها ومنازِلها وشوارعِها ومَحَالِّها وأسواقِها وسِكَكِها وأزِقتِها ومساجدِها وحماماتِها وخاناتِها؛ وطيبِ هوائها، وعذوبةِ مائها، وبَرْدِ ظلالِها، واعتدالِ صيفِها وشتائها، وصحَّةِ ربيعِها وخريفِها، وأكثر ما كانتْ عمارةً وأهلًا في أيامِ الرَّشيد. ثم ذكرَ تناقُصَ أحوالِها وهلمً جَرّا إلى زمانِه.

قلتُ: وكذا من بعدِهِ إلى زمانِنا هذا، ولاسيما في أيامِ هولاكو بن تولي بن جنكز خان التركي، الذي وضع معالِمَها، وقتلَ خليفَتها وعالِمَها، وخرَّب دُورَها، وهدَمَ قصورَها، وأبادَ الخواصَّ والعوامَّ، وأهلَكَ ما يقرب من ألفي ألف من أهلِها في ذلك العام؛ وأخَذَ الأموالَ والحواصِل، ونَهبَ الذرَاريَّ والأصائل، وأورث بها حُزْنًا يُعدَّدُ به في البُكْراتِ والأصائل، وصيَّرها مُثْلَةً في الأقاليم، وعِبْرَةً لكلِّ معتبرٍ عليم، وتذكرةً لكلِّ ذي عقلٍ مستقيم، وبُدِّلت بعدَ تلاوةِ القرآنِ بالنغماتِ والألحانِ وإنشادِ الأشعار، وكان وكان؛ وبعدَ سماعِ الأحاديث النبوية بدَرْسِ الفلسفةِ اليونانيَّة والمناهجِ الكلاميَّة، والتأويلاتِ القِرْمطيَّةِ، وبعد العلماء بالحكماء، وبعد الخليفةِ العبَّاسيّ، بشرِّ الوُلاةِ من الأناسيّ، وبعد الرِّياسةِ والنباهَةِ، بالخساسةِ والسَّفَاهة، وبعد العُبَّاد بالأنكاد، وبعدَ الطلبة المشتغلين بالظَّلَمة والعَيَّارين، وبعد الاشتغال بفنون العلم من التفسير والفقه والحديث، وتعبيرِ الرؤيا بالزَّجَل والموشح

(1)

ذكر قول الصولي الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 117).

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 119).

ص: 338

ودوبيت ومواليا. وما أصابهم ذلك إلَّا ببعضِ ذنوبهم؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، والتحوُّلُ منها في هذا الزمان لكثرةِ ما فيها من المنكرات الحِسِّيَّة والمعنوية، وأكْلِ الحشيشة، والانتقالِ عنها إلى بلادِ الشام الذي تكفَّلَ اللّه بأهلها أفضلُ وأكملُ وأجمَل. وقد روى الإمام أحمدُ عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقومُ الساعةُ حتى يتحوَّلَ خيارُ أهلِ العراقِ إلى الشام، وشرارُ أهلِ الشامِ إلى العراق"

(1)

.

‌ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار

فيها أربعُ لغات: بغداد وبغداذ - بإهمال الدال الثانية وإعجامها - وبغدان - بالنون آخره - وبالميم مع ذلك أولًا: مَغْدان. وهي كلمةٌ أعجمية؛ قيل: إنّها مركبةٌ من "بَغْ" و "داد"، فقيل: بَغْ بستان، وداد اسمُ رجل. وقيل: بَغْ اسمُ صَنَم، وقيل: شيطان، وداد عطيَّةُ الصنم، ولهذا كَره عبدُ اللّه بنُ المبارك والأصمعي وغيرُهما تسميتَها بغداد، وإنما يُقال لها مدينة السلام؛ وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لأنَّ دجلةَ كان يُقال لها وادي السلام، ومنهم من يُسميها الزَّوراء؛ وهو لَقَبٌ لها.

فروى الخطيبُ البغدادي

(2)

من طريقِ عمَّار بن سيف - وهو مُتَّهم - قال: سمعتُ عاصم الأحول يحدِّثُ عن سفيانَ الثوريّ، عن أبي عثمان، عن جريرِ بنِ عبد اللّه قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "تُبنى مدينةٌ بين دِجْلَة ودُجَيل وقُطْرُبُلَّ والصَّرَاة، تُجْبَى إليها خزائنُ الأرض، وملوكُها جبابرة، فلَهيَ أسرعُ ذهابًا في الأرضِ من الوَتِدِ الحديدِ في الأرضِ الرِّخْوَة".

قال الخطيب: وقد رواهُ عن عاصم الأحول سيف ابنُ أختِ سفيان الثوري، وهو أخو عمار بن يوسف.

قلتُ: وكلاهما ضعيفٌ متَّهَم، يُرمَى بالكذب، ومحمد بن جابر اليمامي

(3)

ضعيف، وأبو شهاب الحنَّاط ضعيف.

وروى عن سفيان الثوري عن عاصم، من طُرق، ثم أسند ذلك كلَّه.

وأورد من طريق يحيى بن معين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمار بن سيف، عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره.

قال أحمد ويحيى: ليس لهذا الحديث أصل. وقال أحمد: ما حدَّث به إنسانٌ ثقة.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 249) من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف.

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 28).

(3)

في (ح، ب): "اليماني" والمثبت من (ب) والتاريخ الكبير (1/ 53)، والتاريخ الصغير (2/ 188)، وسير أعلام النبلاء (8/ 238)، وتقريب التهذيب ص (471).

ص: 339

وقد عَلَّلَه الخطيبُ من جميعِ طُرقه

(1)

، وساقه أيضًا من طريقِ عمَّار بن سيف، عن الثوري، عن أبي عُبيدةَ حُميد الطويل، عن أنس بن مالك؛ ولا يَصِحُّ أيضًا. ومن طريقِ عمر بن يحيى، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن رِبْعِيّ، عن حُذيفة مرفوعًا بنحوِهِ ولا يَصِحّ. ومن غيرِ وَجْهٍ عن علي بنِ أبي طالب، وابنِ مسعود، وثَوْبان، وابنِ عباس، وفي بعضها ذكرَ السفياني، وأنَّه يُخرِّبُها.

ولا يَصِحُّ إسنادُ شيءٍ من هذه الأحاديث، وقد أوردها الخطيبُ بأسانيدِها وألفاظِها؛ وفي كلٍّ منها نَكَارَة؛ وأقربُ ما فيها عن كعبِ الأحبار، وقد جاء في آثارٍ عن كتبٍ متقدِّمة أنَّ بانِيها يُقال له مِقْلاص، وذو الدَّوَانيق. وقد كان المنصور يُلقَّب بمِقلاص في صِغَرِه، ولما وُلِّي لُقِّب بذي الدَّوانيق لِبُخْلِهِ.

‌فصل محاسن بغداد ومساوئها وما روي في ذلك عن الأئمة

قال يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي: قال لي الشافعي: هل رأيتَ بغداد؟ قلت: لا. فقال: ما رأيتَ الدنيا. وقال الشافعي: ما دخلتُ بلدًا قطُ إلَّا عدَدْتُهُ سفرًا إلَّا بغداد، فإنِّي حين دخلتُها عدَدْتها وطنًّا

(2)

.

وقال بعضُهم: الدنيا بادية، وبغدادُ حاضِرَتُها.

وقال ابنُ عُلَيَّة: ما رأيتُ أعقلَ في طلَبِ الحديث من أهل بغداد، ولا أحسَنَ دَعةً منهم.

وقال ابنُ مجاهد: رأيتُ أبا عمرو بنَ العلاء في النوم فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فقال: دَعْني من هذا، من أقامَ ببغدادَ على السُّنَّةِ والجماعة ومات، نُقل من الجنَّةِ إلى الجنَّة

(3)

.

وقال أبو بكر بن عياش: الإسلامُ ببغداد، وإنَّها لَصَيَّاد، تَصيدُ الرجال، ومن لم يرَها لم يرَ الدنيا.

وقال أبو معاوية: بغدادُ دارُ الدنيا والآخرة.

وقال بعضُهم: من محاسنِ الإسلام يومُ الجمعةِ ببغداد، وصلاةُ يومِ الجمعة ببغداد، وصلاةُ التراويح بمكة، ويومُ العيد بطرَسُوس.

قال الخطيب

(4)

: منْ شهد يومَ الجُمعة بمدينةِ السلام عَظَّمَ اللّه في قلبه محلَّ الإسلام، لأنَّ مشايخَنَا كانوا يقولون: يوم الجمعة ببغداد كيومِ العيدِ في غيرِها من البلاد.

(1)

انظر تاريخ بغداد (1/ 33، 34).

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 46).

(3)

في تاريخ بغداد (1/ 46).

(4)

في تاريخ بغداد (1/ 47).

ص: 340

وقال بعضهم: كنتُ أواظِبُ على الجمعةِ بجامعِ المنصور، فعرَضَ لي شُغل، فصلَّيتُ في غيره، فرأيتُ في المنام كأنَّ قائلًا يقول: تركتَ الصلاةَ في جامع المدينة، وإنه ليصلي فيه كلَّ جمعةٍ سبعون وليًا!.

وقال آخر: أردتُ الانتقالَ من بغداد، فرأيتُ كأنَّ قائلًا يقولُ في المنام: أتنتقلُ من بلدٍ فيه عشرةُ آلافِ وليٍّ للّهَ عز وجل؟

وقال بعضُهم: رأيتُ كأنَّ ملَكَيْنِ أتيا بغداد، فقال أحدُهما لصاحبِه: اقلِبْ بها، فقد حقَّ القولُ عليها. فقال الآخر: كيف أقلِبُ ببلدٍ يُختمُ فيها القرآن كلَّ ليلةٍ خمسةَ آلافِ ختمه

(1)

؟.

وقال أبو مُسهر عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى قال: إذا كان علمُ الرجلِ حجازيًّا، وخُلُقه عِراقيًّا، وصلاتُه شاميَّةً فقد كمَل

(2)

.

وقالت زُبيدة لمنصور النَّمَريّ: قُلْ شعرًا تُحبِّبُ فيه بغدادَ إليّ، فقد أختارُ عليها الرافقة. فقال:

ماذا ببغدادَ منْ طيبِ الأفانينِ

ومنْ مَنَازل

(3)

للدنيا وللدِّينِ

تُحْيي الرياحُ بها المَرْضَى إذا نَسَمَتْ

وجَوَّسَتْ بين أغصانِ الرياحينِ

قال فأعطَتْهُ ألفَيْ دينار

(4)

.

وقال الخطيب

(5)

: وقرأتُ في كتابِ طاهر بن مظفَّر بن طاهر الخازن بِخَطِّه من شعره:

سقى اللّه صَوْبَ الغادياتِ مَحلَّةً

ببغدادَ بين الكَرْخِ فالخُلْدِ فالجسرِ

هي البلدةُ الحسناءُ خُصَّتْ لأهلِها

بأشياءَ لم يُجْمَعْنَ مُذْ كنَّ في مِصْرِ

هواءٌ رقيقٌ في اعتدالٍ وصِحَّةٍ

وماءٌ له طَعْمٌ ألذُّ من الخَمْرِ

ودِجْلَتُها شَطَّانِ قد نُظِما لنا

بتاجٍ إلى تاجٍ وقصرٍ إلى قصرِ

تراها كمِسْك والمياهُ كفِضَّةٍ

وحَصْبَاؤها مِثْلُ اليواقيتِ والدُّرِّ

وقد أورد الخطيبُ في هذا أشعارًا كثيرةً، وفيما ذكرْنا كفاية.

وقد كان الفراغُ من بناءِ بغدادَ في هذه السنة - أعني سنةَ ستٍّ وأربعين ومئة. وقيل: في سنة ثمانٍ

(1)

في تاريخ بغداد (1/ 48).

(2)

في تاريخ بغداد (1/ 50).

(3)

في (ق)، وتاريخ بغداد:"منازه"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في تاريخ بغداد (1/ 52).

(5)

في تاريخ بغداد (1/ 52، 53).

ص: 341

وأربعين. وقيل: إنَّ خندقَها وسُورَها كملا في سنةِ سبعٍ وأربعين، ولم يزَلِ المنصور يَزيدُ فيها ويتأنَّقُ في بنائها، حتى كان آخرَ ما بنى فيها قصر الخُلْد؛ فظنَّ أنه يَخلُدُ فيها، أو أنّها تخلُد فلا تَخْرَب؛ فعندَ كمالِهِ مات. وقد خَرِبَتْ بغدادُ مرَّاتٍ كما سيأتي بيانُه.

قال ابنُ جرير

(1)

: وفي هذه السنة عزل المنصورُ سَلْمَ بنَ قُتيبة عن البصرة؛ وولَّى عليها محمدَ بنَ سليمانَ بن علي، وذلك لأنَّه كتب إلى سَلْمٍ يأمرُه بِهَدْمِ بيوت الذين بايعوا إبراهيمَ بنَ عبد اللّه بن حسن؛ فتوانَى في ذلك، فعزلَهُ وبعَثَ ابنَ عمِّه محمد بن سليمان، فعاث بِها فسادًا، وهدم دورًا كثيرةً، وعزل عبدَ اللّه بن الرَّبيع عن إمرةِ المدينة، وولَّى عليها جعفرَ بن سليمان؛ وعزل عن مكةَ السريَّ بنَ عبدِ اللّه، وولَّى عليها عبدَ الصمد بن علي.

قار

(2)

: وحجَّ بالناس في هذه السنة عبدُ الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي، قالَهُ الواقدي وغيرُه.

قال

(3)

: وفيها غزا الصائفةَ من بلاد الروم جعفرُ بن حنظلةَ البهراني.

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

أشعثُ بن عبد الملك.

وهشام السائب الكلبي.

وهشام بن عروة.

ويزيد بن أبي عُبيد - في قولٍ.

‌ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومئة

فيها أغار اشترخان الخُوَارزْمي في جيشٍ من الأتراك على ناحيةِ أرْمِينيَة، فدخلوا تَفْلِيس، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وأسروا كثيرًا من المسلمينَ وأهلِ الذِّمَّة، ومِمَّنْ قُتل يومئذٍ حَرْبُ بن عبدِ الله الراوَنْديّ، الذي تُنسبُ إليه الحَرْبيَّةُ ببغداد، وكان مقيمًا بالمَوْصِل في ألفين لمقاتلةِ الخوارج، فسيَّرَهُ المنصورُ لمساعدةِ المسلمينَ ببلاد أرمينية، وكان في جيشِ جبريلَ بنِ يحيى، فهُزم جبريلُ وقُتل حربٌ رحمه الله.

وفي هذه السنة كان مَهْلِكُ عبدِ الله بن عليٍّ عمِّ المنصور، وهو الذي أخَذَ الشامَ من أيدي بني أُمية،

(1)

في تاريخه تاريخ الطبري (4/ 481).

(2)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 481، 482).

(3)

المصدر السابق.

ص: 342

وكان عليها واليًا حتى ماتَ السفَّاح، فلما مات دعا إلى نفسِه فبعث إليه المنصورُ أبا مسلمٍ الخُراساني فهزَمَهُ أبو مسلم، وهرب عبدُ الله إلى عندِ أخيه سليمانَ بنِ عليٍّ والي البصرة، فاختفَى عندَه مُدَّةً، ثم ظهر المنصورُ على أمرِه فاستدعى به وسجَنَه؛ فلما كان في هذه السنة عزم المنصورُ على الحجّ، فطلب ابن أخيه عيسى بن موسى - وكان وليَّ العَهْدِ من بعدِ المنصور عن وصيَّةِ السفَّاح - وسلَّمَ إليه عمَّه عبدَ اللّه بن علي وقال له: إنَّ هذا عدوِّي وعدوُّك فاقتُلْهُ في غيبتي عنكَ ولا تتَوَانَى. وسار المنصورُ إلى الحجّ، وجعل يكتبُ إليه من الطريق يستحثُّه في ذلك ويقولُ له: ماذا صنعتَ فيما أوعزتُ إليك فيه؟ مرَّةً بعدَ مرَّة.

وأما عيسى بن موسى فإنَّه لمَّا تسلَّم عَمه حارَ في أمرِه وشاوَرَ بعضَ أهلِه؛ فأشار بعضُهم ممن له رأيٌ أنَّ المصلحةَ تقتضي أنْ لا تقتُله وأبقِهِ عندَك، وأظهِرْ قتلَه، فإنَّا نخشَى أنْ يطالِبَكَ به جَهْرةً فتقول قتلتُه، فيأمرُ بالقَوَد، فتدَّعي أنه أمَرَك بقتِلِهِ بالسِّرِّ بينك وبينه، فتعجز عن إثبات ذلك، فيقتُلَكَ به، وإنما يريدُ المنصورُ قتلَهُ وقتلَكَ ليستريحَ منكما معًا. فتغيَّرَ عيسى بنُ موسى عند ذلك، وأخفَى عمَّه، وأظهر أنه قتَله. فلما رجَعَ المنصورُ من الحجِّ أمَرَ أهله أنْ يدخلوا عليه ويشفَعُوا في عَمِّ عبدِ الله بن علي، فجاؤوا كلُّهم، فدخلوا عليه، وشفعوا في عبد اللّه بن علي، وألحُّوا في ذلك، فأجابَهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له: إنَّ هؤلاءَ شفعوا في عبدِ الله بن علي وقد أجبتُهم إلى ذلك، فسلِّمْهُ إليهم. فقال عيسى: وأين عبدُ اللّه ذاك قتلتُهُ منذُ أمرتَني. فقال المنصور: لم آمُرْكَ بذلك، وجَحَد ذلك، وأنْ يكونَ تقدَّمَ إليه منه أمرُه في ذلك. فأحضَرَ عيسى الكُتبَ التي كتب إليه المنصورُ مرَّةً في ذلك، فأنكَرَ أنْ يكونَ أرادَ ذلك، وصمَّمَ على الإنكار، وصمَّمَ عيسى بنُ موسى أنه قد قتَله. فأمرَ المنصورُ عند ذلك بقتلِ عيسى بنِ موسى قِصَاصًا بعبدِ اللّه. فخرج به بنو هاشمٍ ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: رُدُّوني إلى الخليفة. فردُّوهُ إليه، فقال له: إنَّ عمَّكَ حاضرٌ ولم أقتُلْه. فقال: هلُمَّ بهِ فأحْضِرْه. فسُقِط في يدِ الخليفة، وأمرَ بسَجْنِه بدارٍ جدرانُها مبنيَّةٌ على مِلْح، فلمّا كان الليل، أرسل على جدرانِها الماء، فسقَطَ عليهِ البناءُ فهَلَك.

ثم إن المنصور خلَعَ عيسى بنَ موسى عن ولايةِ العَهْد، وقدَّمَ عليهِ ابنَهُ المَهْديّ، وكان يُجلِسُهُ فوق عيسى بنِ موسى عن يمينِه، ثم كان لا يلتفتُ إلى عيسى بنِ موسى، ويُهينُهُ في الإذْنِ والمشورَةِ، والدخولِ عليه، والخروجِ من عندِه؛ ثم ما زال يُقصيهِ ويُبعِدُه ويتهدَّده ويتوعَّدُه، حتى خلَعَ نفسَهُ بنفسِه، وبايَعَ لمحمدِ بن منصور، وأعطاهُ المنصورُ على ذلك نحوًا من اثني عشرَ ألفَ ألفِ دِرهم. وانصَلَح أمرُ عيسى بن موسى وبنيه عندَ المنصور، وأقبلَ عليهِ بعدَما كان قد أعرضَ عنه. وكان قد جرَت بينهما قبلَ ذلك مكاتباتٌ في ذلك كثيرةٌ جدًّا، ومُراوداتٌ في تمهيدِ البيعةِ لابنِهِ المهدي؛ وخلع عيسى نفسَه، وإنَّ العامَّةَ لا يَعْدلُوْنَ بالمهدِيِّ أحدًا؛ وكذلك الأمراءُ والخواصّ، ولم يزَلْ بهِ حتى أجابَ إلى ذلك مُكْرَهًا، فعوَّضَهُ عن ذلك ما ذكرنا. وسارتْ بَيْعَةُ المهديِّ في الآفاقِ شرقًا وغربًا وبُعدًا وقُربًا، وفرح المنصورُ

ص: 343

بذلك فرحًا شديدًا، واستقرَّتِ الخلافةُ في ذُرِّيتِهِ إلى زمانِنا هذا؛ فلم يكنِ الخليفةُ من بني العباس إلَّا من سُلالتِه، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96 ويس: 38 وفصلت: 12].

‌وفيها تُوفي:

عُبيد الله بن عمر العُمري.

وهاشم بن هاشم.

وهشام بن حسان صاحبُ الحسن البصري.

‌ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومئة

فيها بعث المنصورُ حُميدَ بنَ قحطبةَ لِغَزْوِ التُّرْك الذين عاثوا في السنةِ الماضيةِ ببلادِ تَفْليس، فلم يجد منهم أحدًا، فإنَّهم انشمروا إلى بلادِهم.

وحجَّ بالناس فيها جعفرُ بن أبي جعفر، ونُوَّابُ البلاد فيها همُ المذكورون في التي قبلَها.

وفيها تُوفي جعفر بن محمدِ الصادِق المنسوبُ إليه كتاب "اختلاج الأعضاء" وهو مكذوبٌ عليه.

وفيها توفي سليمان بن مِهْرَانَ الأعمش، أحدُ مشايخِ الحديث، في ربيع الأول منها.

وعمرو بن الحارث.

والعوَّامُ بن حَوْشَب.

والزبيدي.

ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

ومحمد بن عَجْلان.

‌ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومئة

فيها فرع من بناءِ سورِ بغداد وخَنْدَقها؛ وفيها غزا الصائفة العباسُ بن محمد، فدخل بلادَ الرُّوم ومعه الحسينُ بن قَحْطبة، ومحمد بن الأشعث، ومات محمد بن الأشعث في الطريق.

وفيها حجَّ بالناس محمد بنُ إبراهيمَ بن محمد بنِ علي، وولَّاه المنصورُ على مكةَ والحِجَاز عوضًا عن عمِّه عبدِ الصَّمَدِ بن علي؛ وعمَّالُ الأمصار فيها همُ الذين كانوا في السنةِ قبلَها.

ص: 344

وفيها تُوفي:

زكريا بنُ أبي زائدة.

وكَهْمَس بن الحسن.

والمثنَّى بن الصباح.

وعيسى بن عمر أبو عمرو الثقفي البصري النحوي

(1)

: شيخُ سِيبَويه، يُقال إنه من مَوَالي خالدِ بن الوليد، وإنما نزَلَ في ثَقيف فنُسب إليهم، وكان إمامًا كبيرًا جليلًا في اللغةِ والنَّحْوِ والقراءاتِ.

أخذ ذلك عن عُبيد اللّه بن كثير، وابن المحيصِن، وعبد اللّه بن أبي إسحاق. وسمع الحسنَ البصري وغيرَهم.

وعنه الخليل بن أحمد، والأصمعي، وسِيبَوَيه، ولَزِمَهُ وعُرف به، وانتفع به، وأخذ كتابَهُ الذي سماه بالجامِع، فزادَ عليه وبسَطَهُ، فهو كتابُ سيبويه اليوم، وإنما هو كتابُ شيخِه، وكان سِيبَويْه يسألُ شيخَهُ الخليلَ بنَ أحمد عمَّا أشكَلَ عليه فيه، فسأله الخليلُ أيضًا عمَّا صنَّف عيسى بن عمر فقال: جمعَ بضعًا وسبعين كتابًا ذهبَتْ كلُّها إِلَّا كتاب "الإكمال" وهو بأرض فارس، وكتابه "الجامع" وهو الذي أشتغلُ فيه وأسألُكَ عن غوامضِه. فأطرَقَ الخليلُ ساعةً ثم أنشد:

ذهبَ النحوُ جميعًا كلُّهُ

غير ما أحدث عيسى بن عُمَرْ

ذاك إكمالٌ وهذا جامعٌ

وهما للناسِ شمسٌ وقمَرْ

وقد كان عيسى يُغرب ويتقَعَّر في عبارتِهِ جدًّا

(2)

، وقد حكى الجوهري عنه في الصّحَاح أنه سقطَ يومًا عن حمارِه، فاجتمع عليه الناسُ فقال: ما لَكُمْ تَكَأْكَأْتُمْ على تَكَأْكُؤَكُمْ على ذي جِنَّةٍ؟! افْرَنْقِعُوا عَنِّي. معناه ما لكم تَجَمَّعْتُمْ علي تجمُّعَكمْ على مجنون؟! انكشِفُوا عني.

وقال غيرُه: كان به ضيقُ نَفَس فسقَطَ بسببِه، فاعتقد الناسُ أنه مصروع، فجعلوا يعوِّذونه ويقرؤون عليه؛ فلمَّا أفاق من غَشْيَتِه قالَ ما قالَ. فقال بعضُهم: إنَّ جِنِّيتَهُ تتكلَّمُ بالفارسيَّة.

وذكر ابنُ خلِّكان أنه كان صاحبًا لأبي عمرٍو بن العلاء، وأنَّ عيسى بن عمر قال يومًا لأبي عمرِو بن

(1)

ترجمته في الفهرست ص (62)، الكامل لابن الأثير (5/ 189)، المنتظم (6/ 98، و 8/ 118)، وفيات الأعيان (3/ 486)، سير أعلام النبلاء (7/ 200)، معرفة القراء الكبار (1/ 119)، طبقات المحدثين ص (56)، أخبار النحويين ص (20)، البلغة ص (167)، شذرات الذهب (1/ 224)، النجوم الزاهرة (2/ 11).

(2)

في (ح): "وقد كان عيسى بن عمر يتبعه في عبارته جدًّا".

ص: 345

العلاء: أنا أفصَحُ من مَعَدِّ بنِ عدنان. فقال له أبو عمرو: كيف تقرأُ هذا البيت؟

قد كُنَّ يَخْبأنَ الوجوهَ تَسَتُّرًا

فاليوم حين بَدَأْنَ للنُّظَّارِ

أو "بَدَيْنَ" فقال: بدَيْن. فقال أبو عمرو: أخطأت، ولو قال: بدأنَ لأخطَأَ أيضًا، وإنما أرادَ أبو عمرو تغليطَهُ، وإنما الصوابُ بدَوْنَ، منْ بدَا يَبْدُو إذا ظَهَرَ. وبدَأ يبدَأُ: إذا شرَعَ في الشيء.

‌ثم دخلت سنة خمسين ومئة من الهجرة

فيها خرج رجلٌ من الكَفَرَةِ يُقال له أستاذسيس في بلادِ خُراسان، فاستحوَذَ على أكثرِها، والتفَّ معه نحوُ ثلاثِ مئة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقًا كثيرًا، وهزموا الجيوشَ في تلك البلاد، وسبَوْا خلقًا كثيرًا، وتحكَّمَ الفسادُ بسببهم، وتفاقَمَ أمرُهم، فوجَّهَ المنصورُ خازمَ بنَ خُزيمة إلى ابنِهِ المَهْديِ لِيُولِّيَهُ حربَ تلك البلاد، ويضُمَّ إليه من الأجناد ما يُقاومُ أولئك، فنهَضَ المهديُّ في ذلك نَهْضَةً هاشميَّة، وجمَعَ لِخازمِ بن خُزيمة الإمرةَ على تلك البلاد والجيوش، وبعثَهُ في نحوٍ من أربعينَ ألفًا، فسار إليهم، وما زال يُراوِغُهم ويُماكرُهم ويعملُ الخديعةَ فيهم، حتى فاجأَهُمْ بالحرب، وواجههم بالطَّعْنِ والضرب، فقتل منهم نحوًا من سبعين ألفًا، وأسر منهم أربعةَ عشرَ ألفًا، وهرب مِلكُهم أستاذسيس، فتحرَّزَ في جبل، فجاء خازمٌ إلى تحتِ الجبل، وقتل أولئك الأسرى كلَّهم، ولم يزَلْ يُحاصرُه حتى نزلَ على حُكْمِ بعضِ الأمراءَ، فحكم أن يُقيَّدَ بالحديد هو وأهلُ بيته، وأن يعتقَ منْ معَهُ من الأجناد، وكانوا ثلاثين ألفًا، ففعل خازمٌ ذلك كلَّه وأطلَقَ لكلِّ واحدٍ ممَّن كانَ مع أستاذسيس ثوبَيْن، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهديُّ بذلك إلى أبيه المنصور.

وفيها عزَلَ الخليفةُ عن إمرةِ المدينةِ جعفرَ بن سليمان، وولَّاها الحسنَ بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وفيها حجَّ بالناس عبدُ الصمد ابنُ عمِّ الخليفة.

وتُوفِّي فيها جعفرُ ابن أميرِ المؤمنين المنصور، ودُفن ليلًا بمقابر بني هاشم من بغداد، ثم نُقل منها إلى موضعٍ آخر.

وفيها توفي عبدُ الملك بن عبد العزيز بن جُريج، أحدُ أئمةِ أهلِ الحجاز، ويُقال إنَّهُ أولُ منْ جمَعَ السننَ.

وعثمان بن الأسود.

وعمر بن محمد بن زيد.

ص: 346

وفيها تُوفِّي:

الإمامُ أبو حنيفة

(1)

.

ذكرُ ترجمته:

هو الإمامُ أبو حَنيفة، واسمه النُّعمانُ بن ثابت التَّيْمي مولاهم الكوفي، فقيهُ العراق، وأحدُ أئمةِ الإسلام، والسادةِ الأعلام، وأحدُ أركانِ العُلماء، وأحدُ الأئمة أصحابِ المذاهبِ المُتَّبعة، وهو أقدمُهم وفاةً، لأنَّه أدركَ عصرَ الصحابة، ورأى أنسَ بن مالك، قيل: وغيرَه. وذكر بعضُهم أنه روى عن سبعة من الصحابة. فاللّه أعلم

(2)

.

(1)

ترجمته في الكنى والأسماء لمسلم (1/ 276)، طبقات خليفة ص (167 و 327)، بحر الدم ص (430)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 314)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (7/ 5)، الضعفاء للعقيلي (4/ 268)، كتاب المجروحين لابن حبان (3/ 61)، الضعفاء لأبي نعيم ص (157)، الفهرست ص (284)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 163)، تهذيب الأسماء (2/ 501)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 204)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 351)، الجرح والتعديل (8/ 449)، تاريخ بغداد (13/ 323)، تهذيب الكمال (29/ 417)، الكاشف (2/ 322)، تذكرة الحفاظ (1/ 168)، سير أعلام النبلاء (6/ 390)، ميزان الاعتدال (7/ 37)، طبقات المحدثين ص (57)، تقريب الهذيب ص (563)، طبقات الحفاظ ص (80).

(2)

هنا زيادة مقحمة من (ق) وهي:

[وروى عن جماعةٍ من التابعين، منهم الحكم، وحمَّاد بن أبي سليمان، وسَلَمَةَ بنِ كُهَيل، وعامرٍ الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزُّهري، ونافع مولى ابنِ عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو إسحاق السَّبيعي. وروى عنهُ جماعةٌ، منهم ابنُه حمَّاد، وإبراهيمُ بن طَهْمَان، وإسحاقُ بن يوسف الأزرق، وأسدُ بن عمرو القاضي، والحسنُ بن زياد اللؤلؤي، وحمزةُ الزيات، وداود الطائي، وزُفر، وعبد الرزاق، وأبو نُعيم، ومحمد بن الحسن الشَّيباني، وهُشيم، ووَكيع، وأبو يوسف القاضي.

قال يحيى بنُ مَعين: كان ثقةً، وكان من أهلِ الصِّدْق، ولم يُتَّهمْ بالكذِب، ولقد ضرَبَهُ ابنُ هُبيرَة على القضاءِ فأبى أنْ يكون قاضيًا. وقد كان يحيى بن سعيد يختار قولَهُ في الفتوى. وكان يحيى يقول: لا نكذب اللّه، ما سَمِعْنا أحسنَ من رأيِ أبي حنيفة. وقد أخذ بأكثرِ أقوالِه. وقال عبدُ اللّه بنُ المبارك: لولا أنَّ اللّه أغاثني بأبي حنيفةَ وسفيانَ الثوريّ لكنتُ كسائرِ الناس.

وقال الشافعي عن مالك: رأيتُ رجلًا لو كلَّمَكَ في هذا السارية أنْ يجعلَها ذهبًا لقام بحُجَّتِه.

وقال الشافعي: منْ أرادَ الفقهَ فهو عيالٌ على أبي حَنيفة؛ ومن أرادَ السِّيَر فهو عيالٌ عَلى محمدِ بنِ إسحاق؛ ومن أراد الحديث فهو عيالٌ على مالك؛ ومن أراد التفسير فهو عيالٌ على مُقاتل بنِ سليمان.

وقال عبدُ اللّه بن داود الخُريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتِهم لأبي حنيفةَ لحفظِه الفقهَ والسُّنَّة عليهم.

وقال سفيانُ الثوريُّ وابنُ المبارك: كان أبو حنيفةَ أفقهَ أهلِ الأرضِ في زمانِه.

وقال أبو نُعيم: كان صاحبَ غَوْصٍ في المسائل.

وقال مكي بنُ إبراهيم: كان أعلمَ أهلِ الأرض. =

ص: 347

‌ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومئة

فيها عزل المنصورُ عمرَ بنَ حفص عن السِّنْد، وولَّى عليها هشامَ بن عمرٍو التغلبي، وكان سببَ عزِله عنها أنَّ محمد بن عبدِ اللّه بن حسن لَمّا ظهر بعث ابنَهُ عبدَ اللّه الملقَّب بالأشتر ومعهُ جماعةٌ بهديَّةٍ وخيولٍ عِتَاق إلى عمرَ بنِ حفص هذا إلى السِّنْد، فقَبِلَها، فدَعَوْهُ إلى دعوةِ أبيه محمد بن عبدِ اللّه بن حسن في السِّرّ، فأجابهم إلى ذلك وبايع له مَنِ استطاعَ من الأمراء سِرًّا، فأجابوه إلى ذلك، ولَبِسُوا البياض. ولَمَّا جاء خبرُ مقتلِ محمدِ بنِ عبد اللّه بالمدينة سُقِطَ في أيدي عمر بن حفص وأصحابه، وأخذوا في الاعتذارِ إلى عبدِ اللّه بنِ محمد، فقال له عبد اللّه: إنِّي أخشى على نفسي. فقال: إني سأبعَثُكَ إلى مَلِكٍ من المشركين في جوارِ أرضِنا، وإنَّه من أشدِّ الناسِ تعظيمًا لرسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وإنَّه متى عَرَفَك أنَّكَ من سُلالَتِهِ أحبَّك. فأجابَهُ إلى ذلك، وسار عبدُ اللّه بنُ محمد إلى ذلك الملك، وكان عندَهُ آمنًا، وصار عبدُ اللّه يركبُ في موكبِ الزَّيديَّة، ويتصيَّدُ في جَحْفَلٍ من الجنود، وانضمَّ إليه خلق، وقَدِمَ عليه طوائفُ من الزَّيْديَّة.

وأمَّا المنصور فإنه بعث يعتبُ على عمرَ بنِ حفص نائبِ السِّنْد، فقال رجلٌ من الأمراء: ابعَثْني إليه، واجعل القضيةَ مسندةً إليّ، فإني سأعتذرُ إليه من ذلك، فإنْ سَلِمْتُ، وإلَّا كنتُ فداءَكَ وفداءَ مَنْ عندك من الأمراء. فأرسله سفيرًا في القضيَّةِ إلى المنصور، فلما وقف بين يديِ المنصور أمرَ بضَرْبِ عُنقه. وكتب إلى ابن حفصٍ بعَزْلِهِ عن السند، وولَّاهُ بلادَ إفريقيةَ عوضًا عن أميرِها، ولمَّا وجَّهَ المنصورُ. هشامَ بنَ عمرٍو إلى السِّنْد أمرَهُ أن يجتهدَ في تحصيلِ عبدِ اللّه بن محمد، فجعل يتَوَانى في ذلك، فبعث إليه المنصورُ يستحثُّهُ في ذلك، ثم اتفق الحالُ أنَّ سيفًا أخا هشامِ بن عمرو لَقِيَ عبدَ اللّه بن محمد في بعضِ الأماكن، فاقتتلوا فقُتل عبدُ اللّه وأصحابُه جميعًا، واشتبَهَ عليهم مكانُهُ في القَتْلَى فلم يقدروا عليه؛ فكتب هشامُ بن عمرٍو إلى المنصور يُعلِمُهُ بقتلِه، فبعث يشكرُهُ على ذلك، ويأمرُهُ بقتالِ الملك الذي آواه، ويُعلمه أنَّ عبدَ اللّه كان قد تسرَّى بجاريةٍ هنالك، وأولدَها ولدًا أسماه محمدًا، فإذا ظَفِرْتَ بالملك،

= وروى الخطيبُ بسندِهِ عن أسد بنِ عمرو (في (ق): "أحمد بن عمرو"، والمثبت من (ب، ح)، وتاريخ بغداد (13/ 354).)، أنَّ أبا حنيفةَ كان يُصلِّي بالليلِ ويقرأ القرآنَ كلَّ ليلةٍ ويبكي حتى يرحَمَهُ جيرانهُ؛ ومكثَ أربعين سنة يُصلِّي الصبحَ بوضوءِ العشاء؛ وختَمَ القرآنَ في الموضع الذي تُوفي فيه سبعة آلاف مرَّة.

وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني سنةَ خمسين ومئة - وعن ابن مَعِين سنةَ إحدى وخمسين ومئة. وقال غيرُه سنة ثلاثٍ وخمسين. والصحيح الأول.

وكان مَولدُهُ في سنةِ ثمانين، فتمَّ له من العُمر سبعون سنة، وصُلِّي عليه ببغداد ستَّ مرَّاتٍ لكثرةِ الزِّحَام. وقبره هناك رحمه الله].

ص: 348

فاحتفِظْ بالغلام، فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك، فقاتلَهُ فغلبَهُ وقَهرَهُ على بلادِهِ وأموالِه وحواصله، وبعث بالفتحِ والأخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور؛ ففرح المنصورُ بذلك، وبعث الغلامَ إلى المدينة، وكتب المنصورُ إلى نائبِها يُعلمهُ بصحةِ نسَبِه.

وفي هذه السنة قدم المهديُّ بن المنصور على أبيه من خُراسان فتلقَّاهُ أبوهُ والأمراء والأكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعدَ ذلك نُوَّابُ الشامِ وغيرِها للسلام عليه وتهنئتِهِ بالسلامةِ والنَّصْر، وحملَ إليه من الهدايا ما لا يُحَدُّ ولا يُوصفُ.

‌بناء الرُّصَافَة

قال ابنُ جرير

(1)

: وفي هذه السنةِ شرع المنصورُ في بناء الرُّصافة لابنِهِ المهديّ بعدَ مَقْدَمِهِ من خُراسان؛ وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سُورًا وخندقًا، وعَمِلَ عندها ميدانًا وبستانًا، وأجرى إليها الماء من نَهرِ المهدي.

قال ابن جرير

(2)

: وفيها جدد المنصورُ البيعةَ لنفسِهِ ثم لولدِهِ المهديِّ من بعدِه، ولعيسى بنِ موسى من بعدِهما؛ وجاء الأمراءُ والخواصُّ فبايعوا، وجعلوا يُقبِّلون يدَ المنصورِ ويَدَ ابنِه، ويلمسُونَ يدَ المنصورِ ويَدَ ابنِه، ويلمَسُونَ يدَ عيسى بنِ موسى ويشيرون إليها ولا يُقبِّلُونَها.

قال الواقدي

(3)

: وولَّى المنصور مَعْنَ بنَ زائدة سِجسْتان.

وحجَّ بالناسِ فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائبُ مكة والطائف؛ وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمدُ بن سليمان، وعلى البصرةِ جابرُ بن زيد الكِلابي، وعلى مصر يزيد بن حاتم، ونائبُ خُراسان حُميد بن قَحْطَبة، ونائبُ سِجِسْتانَ مَعْنُ بن زائدة. وغزا الصائفةَ فيها عبدُ الوهاب بن إبراهيم بن محمد.

وفيها تُوفي:

حنظلةُ بن أبي سفيان،

وعبدُ اللّه بن عَوْن.

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 500).

(2)

في تاريخه تاريخ الطبري (4/ 501).

(3)

المصدر السابق.

ص: 349

ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحبُ السيرةِ النبويَّةِ التي جمعَها وجعلَها علمًا يُهتدَى به، وفجرًا يُستجلى به، والناسُ كلُّهم عيالٌ عليه في ذلك كما قال الشافعيُّ وغيرُه من الأئمة.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومئة

فيها عزل المنصورُ عن إمرةِ مصرَ يزيدَ بن حاتم، وولَّاها محمدَ بن سعيد، وبعث إلى نائبِ إفريقية - وكان قد بلغَهُ أنَّهُ عَصَى وخَالَف - فلمَّا جيء به أمرَ بضَرْبِ عُنقه. وعزَلَ عن البصرةِ جابرَ بن زيد الكلابي وولاها يزيدَ بن منصور. وفيها قَتلتِ الخوارجُ مَعْن بنَ زائدة بسِجِسْتان.

وفيها تُوفِّي:

عَبَّاد بن منصور.

ويونُسُ بن يزيد الأيلي.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومئة

وفيها غَضِبَ المنصورُ على كاتبِه أبي أيوب المُورياني وسجَنَه، وسجن أخاه خالدًا وبَني أخيه الأربعة سعيدًا ومسعودًا ومخلدًا ومحمدًا؛ وطالَبَهم بالأموالِ الكثيرة؛ وكان سببُ ذلك ما ذكرَه ابنُ عساكر في ترجمةِ أبي جعفر المنصور

(1)

، وهو أنَّه كان في زمَنِ شبيبتِه قد وردَ الْموْصِلَ وهو فقير لا شيء له، ولا معه شيء، فأجَّر نفسَه من بعضِ الملَّاحين، حتى اكتسبَ شيئًا تزوَّجَ به امرأة، ثم جعلَ يعدُها ويُمنِّيها أنه من بيتٍ سيصيرُ المُلكُ إليهم سريعًا، فاتَّفَقَ حَبَلُها منه، ثم تطلَّبَهُ بنو أميةَ فهرَبَ عنها وتركها حاملًا، ووضع عندَها رُقعةً فيها نسبتُه، وأنه عبدُ اللّه بن محمد بن علي بن عبدِ اللّه بن عباس، وأمَرَها إذا بلَغَها أمرُه أنْ تأتيَهُ، وإذا ولَدَتْ غلامًا أنْ تُسمِّيه جعفرًا؛ فولَدَتْ غلامًا فسمَّته جعفرًا. ونشأ الغلامُ فتعلَّمَ الكتابة، وغَوِيَ العربيةَ والأدَب، وأتقن ذلك إتقانًا جيدًا. ثم آلَ الأمرُ إلى بني العباس، فسألَتْ عن السفَّاح، فإذا هو ليس صاحبَها، ثم قام المنصورُ وصارَ الولدُ إلى بغداد، فاختلط بكُتَّابِ الرسائل، فأُعجب به أيوبُ المورياني صاحبُ ديوانِ الإنشاء للمنصور، وحَظيَ عندَهُ وقدَّمهُ على غيرِه، فاتفق حضورُهُ معه بين يدي الخليفة، فجعل الخليفةُ يلاحِظُه، ثم بعث يومًا الخادمَ ليأتيَهُ بكاتب، فدخل ومعه الغلام، فكتب بين يدي المنصور كتابًا، وجعل الخليفةُ ينظرُ إليه ويتأمَّلُه، ثم سأله عن اسمِه، فأخبرَهُ أنه جعفر، فقال: ابنُ

(1)

ذكر ابن عساكر قصة مطولة، انظر تاريخ ابن عساكر (32/ 332 - 337).

ص: 350

منْ؟ فسكت الغلام، فقال: ما لَكَ لا تتكلَّم؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين إنَّ من خبَرِي كَيْتَ وكَيْت. فتغيَّر وجهُ الخليفة، ثم سأله عن أُمِّه، فأخبرَه، وسأله عن أحوالِ بلدِ المَوْصل، فجعل يُخبره والغلام يتعجَّب. ثم قام إليه الخليفةُ فاحتضَنَهُ وقال: أنتَ ابنِي. ثم بعثَهُ بعِقْدٍ ثمين، ومالِ جَزيل، وكتابٍ إلى أُمِّهِ يُعْلِمُهَا بحقيقةِ الأمر، وحالِ الوَلَد. وخرج الغلامُ ومعه ذلك من بابِ سرِّ الخليفة، فأحرَزَ ذلك، ثم جاءَ إلى أبي أيوب فقال: ما بَطَّأَ بكَ عند الخليفة؟ فقال: إنه استكتَبَني في رسائلَ كثيرة. ثم تقاولا، ثم فارقَهُ الغُلام مُغْضبًا؛ ونَهَضَ من فَوْرِهِ، فاستأجر إلى الموصل لِيُعْلمَ أُمَّهُ ويَحْمِلَها وأهلَها إلى بغدادَ إلى أبيهِ الخليفة؛ فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيُّوب، فقيل: سافر. فظنَّ أبو أيُّوب أنه أفشَى شيئًا من أسرارِهِ إلى الخليفة، وفَرَّ منه، فبعثَ في طلبه رسولًا وقال: حيثُ وجدتَهُ فرُدَّهُ عليّ

(1)

. فسارَ الرسولُ في طلبِهِ، فوجده في بعضِ المنازلِ، فخنقهُ وألقاهُ في بئر، وأخذ ما كانَ معَه. فرجع إلى أبي أيوب، فلما وقف أبو أيُّوب على الكتاب أُسقطَ في يدِه وندم على بَعْثِه خلفَه، وانتظر الخليفةُ عَودَ وَلَدِهِ إليه، واستبطأه، وكشَفَ عن خبَرِه، فإذا رسولُ أبي أيوب قد لَحِقه وقَتَله. فحينئذٍ استحضرَ أبا أيوب. وألزَمهُ بأموالٍ عظيمة، وما زال في العقوبةِ حتى أخذَ جميعَ أموالِهِ وحواصِلِه، ثم قَتَله، وجعل يقول: هذا قَتَل حَبيبي. وكان المنصورُ كلَّما ذكرَ ولدَهُ حزنَ عليه حزنًا شديدًا.

وفيها خرجتِ الخوارجُ من الصُّفْرِيَّة

(2)

وغيرِهم ببلادِ إفريقيَة، فاجتمع منهم ثلاثُمئةِ ألفٍ وخمسون ألفًا، ما بين فارسٍ وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عبَّاد، وانضمَّ إليهم أبو قُرَّةَ الصُّفْري في أربعين ألفًا، فقاتلوا نائبَ إفريقية، فهزموا جيشَه، وقتلوه وهو عمر بن عثمان بن أبي صُفْرَة الذي كان نائبَ السِّنْد، فعزلَهُ المنصور عنها بسببِ مبايعتِهِ محمد بن عبد اللّه بن حسن، وولَّاه هذه البلادَ، فقتلَتْهُ الخوارج رحمه الله. وأكثرتِ الخوارجُ الفسادَ في البلاد، وقتلوا الحريمَ والأولاد، وآذَوْا عامّةَ العباد.

وفيها ألزم المنصورُ الناس بِلُبْسِ قلانسَ سودٍ طِوالٍ جدًّا حتى كانوا يستعينون على رفعها من داخِلها بالقَصَب فقال أبو دُلامةَ الشاعرُ في ذلك:

وكنَّا نُرَجِّي من إمامٍ زيادةً

فزادَ الإمامُ المرتَجَى في القلانسِ

تراها على هامِ الرجالِ كأنَّها

دِنَانُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بالبَرَانِسِ

(3)

(1)

كذا في الأصول، وعبارة ابن عساكر:"فقال لرجلٍ من أصحابه: اخرُجْ إلى طريقِ الموصل، ثم أعط خبر الغلام مَنْزِلًا منزِلًا، حتى تأتي الموصلَ قريةَ كذا وكذا فإذا عرفتَ موضعَه فاقتُلْهُ وجِئْني بما معه". وهو أشبه بالصواب كما يبدو من السياق.

(2)

الصُّفْرِيَّة، - بالضم، ويكسرُ -: قَوْمٌ من الحَرُوريَّةِ، نُسِبوا إلى عبدِ اللّه بنِ صَفَّارٍ، ككَتَّانٍ، أو إلى زياد بن الأصْفَرِ، أو إلى صُفْرَةِ ألوانِهم، أو لِخُلُوِّهم من الدِّينِ. والمَهالِبةُ نُسبُوا إلى آلِ أبي صُفْرَةَ. القاموس (صفر).

(3)

البيتان في ديوانِ أبي دلامة ص (75).

ص: 351

وفيها غزا الصائفةَ مَعْيُوفُ بن يحيى الحُجوري، فأسرَ خلقًا كثيرًا من الروم، ينيفُ على ستةِ آلاف أسير، وغَنم أموالًا جزيلةً.

وحجَّ بالناس المهديُّ بنُ المنصور، وهو وليُّ العَهْد الملقَّب بالمَهْدي، وكان على نيابةِ مكةَ والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسنُ بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد. وذكر الواقدي أنَّ يزيد بن منصور كان ولَّاهُ المنصور في هذه السنة اليمن. فاللّه أعلم.

وفيها تُوفِّيَ:

أبانُ بن صَمعَة.

وأسامةُ بن زيد الليثي.

وثور بن يزيد الحمصي.

والحسن بن عمارة.

وفِطْرُ بن خليفة.

ومعمر.

وهشام بن الغاز. واللّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومئة

فيها دخل المنصورُ بلادَ الشام، وزار بيتَ المقدِس، وجهَّزَ يزيدَ بنَ حاتم في خمسينَ ألفًا، وولَّاهُ بلادَ إفريقية، وأمرَهُ بقتالِ الخوارج؛ وأنفَقَ على هذا الجيش نحوَ ثلاثٍ وستين ألف دِرْهم. وغَزَا الصَّائفةَ زُفَرُ بن عاصم الهلالي.

وحجَّ بالناس فيها محمد بن إبراهيم، ونُوَّابُ البلادِ والأقاليم همُ المذكورون في التي قبلَها، سوى البصرة، فعليها عبدُ الملك بن أيوب بن ظَبْيان.

وفيها تُوفي:

أبو أيوب الكاتب.

وأخوه خالد، وأمرَ المنصورُ ببني أخيه أنْ تُقَطَّعَ أيديهم وأرجُلُهم، ثم تضرَبَ بعدَ ذلك أعناقُهم، ففعل ذلكَ بِهم.

ص: 352

وفيها تُوفي:

أشعَبُ الطامِع

(1)

: وهو أشعبُ بن جُبير أبو العلاء، ويقال: أبو إسحاق المدَني، ويُقال له: ابن أُمِّ حُميدة، وكان أبوهُ مولًى لابنِ الزُّبير، قتلَهُ المختار، وهو خالُ الواقدي.

وروى عن عبدِ اللّه بن جعفر أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان يتخَتَّمُ في اليمين

(2)

. وأبان بن عثمان وسالم وعكرمة، وكان ظريفًا ماجنًا، يُحبُّه أهلُ زمانِهِ لخلاعتِه وطمَعِه؛ وكان يُجيدُ الغناء، وقد وَفَد على الوليد بن يزيد، فتَرْجَمَهُ ابنُ عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياءَ مضحكة

(3)

؛ وأسنَدَ عنه حديثَيْن.

ورُوي عنه أنه سُئل يومًا أنْ يحدِّث فقال: حدّثني عكرمةُ عن ابنِ عباس أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "خَصْلتانِ منْ عمل بِهما دخلَ الجنة"، ثم سكت، فقيل له: ما هما؟ فقال: نَسِي عكرمةُ الواحدة، ونسيتُ أنا الأخرى.

وكان سالم بنُ عبدِ الله بن عمر يستخِفُّه ويستحليه ويضحكُ منه؛ ويأخذُهُ معه إلى الغابة، وكذلك كان غيرُه من أكابرِ الناس.

وقال الشافعي: عَبَثَ الوِلْدانُ يومًا بأشعب، فقال لهم: إن هاهنا أناسًا يُفَرِّقون الجوز؛ لِيطرُدَهُمْ عنه، فتسارَعَ الصبيانُ إلى ذلك، فلمَّا رآهم مسرعين قال: لعلَّهُ حقّ؛ فتَبعَهم.

وقال له رجل: ما بلغَ من طَمَعك؟ فقال: ما زُفَّتْ عروسٌ بالمدينة إلَّا رجَوْتُ أنْ تُزَفَّ إليّ، فأكسحُ داري، وأنظِّفُ بابي، وأكنسُ بيتي.

واجتاز يومًا برجلٍ يصنعُ طبقًا من قَشّ، فقال له: زِدْ فيه طَوْرًا أو طورَيْن، لعلَّهُ أنْ يُهدَى يومًا لنا فيه هديَّة.

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (7/ 37)، الإكمال لابن ماكولا (1/ 90)، تهذيب مستمر الأوهام ص (84)، تاريخ دمشق لابن عساكر (9/ 147)، سير أعلام النبلاء (7/ 66)، ميزان الاعتدال (1/ 422)، لسان الميزان (1/ 450)، المغني في الضعفاء (1/ 91).

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه (9/ 147) عن أشعب عن عبد اللّه بن جعفر. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 477)، وأحمد في المسند (1/ 204)؛ وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 314)(435، 436)؛ والمقدسي في المختارة (9/ 172، 173)(151، 152، 154)؛ والترمذي في السنن (4/ 228)(1744)؛ وابن ماجة في سننه (2/ 1203)(3647)؛ والبزار في مسنده (6/ 215، 219)(2256، 2259) من حديث عبد اللّه بن جعفر، وهو حديث صحيح.

(3)

ترجمته في تاريخ ابن عساكر من (9/ 147 - 163).

ص: 353

وروى ابنُ عساكر

(1)

أنَّ أشعبَ غَنَّى يومًا لسالم بنِ عبدِ اللّه بنِ عمر قولَ بعضِ الشعراء:

مُغِيريَّةٌ كالبدرِ سُنَّةُ وجهِها

مطهَّرةُ الأثوابِ والدِّينُ وافرُ

(2)

لها حسبٌ زاكٍ وعِرْضٌ مُهذَّبٌ

وعن كُلِّ مَكْرُوهٍ من الأمرِ زاجرُ

من الخَفِراتِ البيضِ لم تلقَ ريبَةً

ولم يستَمِلْها عن تُقَى اللّهِ شاعرُ

فقال له سالم: أحسنتَ فزِدْنا. فغنَّاه:

ألمَّتْ بنا والليلُ داجٍ كأنَّهُ

جناحُ غرابٍ عنه قد نفَضَ القَطْرا

فقلتُ أعطَّارٌ ثَوَى في رِحالِنا

وما حَمَلَتْ ليلى سوى رِيحِها عِطْرا

فقال له: أحسنتَ! ولولا أنْ يتحدَّثَ الناسُ لأجزَلْتُ لك الجائزة، وإنَّكَ من الأمرِ لَبِمَكان!.

وفيها تُوفي:

جعفرُ بن بُرقان.

والحكم بن أبان.

وعبد الرحمن بن زيد بن جابر.

وقُرَّة بن خالد.

وأبو عمرو بن العلاء

(3)

: أحدُ أئمَّةِ القُرَّاء، واسمُه كنيتُه؛ وقيل: اسمه زَبَّان؛ والصحيح الأول.

وهو أبو عمرو بنُ العلاءِ بن عمار بنِ العُرْيان بنِ عبدِ الله بن الحُصين التميميُّ المازنيُّ البصري. وقيلَ غيرُ ذلك في نسبه. كان علَّامةَ زمانِه في الفقهِ والنَّحْوِ وعِلْمِ القراءات؛ وكان من كبارِ العلماء العاملين؛ يقال: إنه كتب مِلْءَ بيتٍ من كلامِ العرب، ثم تزَهَّدَ فأحرقَ ذلك كلَّه؛ ثم راجَعَ الأمرَ الأول، فلم يكنْ عندَهُ إلَّا ما كان يحفظُه من كلامِ العرب. وكان قد لَقيَ خلقًا كثيرًا من أعرابِ الجاهليَّة. كان مقدَّمًا أيامَ الحسن البصري، ومن بعدِه. ومن اختياراته في العربية قولُهُ في تفسيرِهِ الغُرَّةَ في الجَنين أنَّها لا يقبلُ إِلَّا

(1)

في تاريخه تاريخ مدينة دمشق (9/ 157).

(2)

الشطر الأول في (ط): "مضين بها والبدر يشبه وجهها"، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ ابن عساكر.

(3)

ترجمته في الكنى والأسماء لمسلم (1/ 564)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 430)، الكنى للبخاري ص (55)، مشاهير علماء الأمصار ص (153)، الثقات (6/ 345)، الفهرست ص (42)، المنتظم لابن الجوزي (8/ 182)، تهذيب الكمال (34/ 120)، البلغة ص (101)، معرفة القراء الكبار (1/ 100)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 359)، وفيات الأعيان (3/ 466)، سير أعلام النبلاء (6/ 407)، ميزان الاعتدال (7/ 405)، الوفيات للقسنطي ص (131)، لسان الميزان (7/ 476)، تهذيب التهذيب (97/ 112)، تقريب التهذيب ص (660)، شذرات الذهب (1/ 237)، أبجد العلوم (3/ 38).

ص: 354

أبيضَ غلامًا كان أو جارية. فَهِمَ ذلك من قولهِ عليه السلام: "غُرَّةٌ عبدٌ أو أمَة"

(1)

، ولو أُريدَ أي عبد كان أو جارية لما قَيَّدَهُ بالغُرَّة، وإنما الغُرَّةُ البياض. قال ابنُ خَلِّكان: وهذا غريب، ولا أعلَمُ هل يوافق قول أحدٍ من الأئمة المجتهدين أم لا؟.

وذُكر عنه أنه كان إذا دخل شهرُ رمضان لا يُنشدُ بيتًا حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن؛ وأنه كان يشتري له كل يومٍ كوزًا جديدًا وريحانًا طريًّا. وقد صَحِبَهُ الأصمعي نحوًا من عشرِ سنين.

كانت وفاتُه في هذه السنة، وقيل في سنةِ ستٍّ وخمسين، وقيل سبعٍ وخمسين ومئة فاللّه أعلم، وقد قَارَبَ التسعين، وقيل: إنه جاوزَها فاللّه أعلم. وقبرُه بالشام، وقيل بالكوفة، فاللّه أعلم.

وقد روى ابنُ عساكر

(2)

في ترجمةِ صالح بن علي بن عبد اللّه بن العباس عن أبيه عن جدِّه عبد اللّه بن عباس مرفوعًا: "لأنْ يُرَبِّي أحدُكم بعدَ أربعٍ وخمسين ومئة جَرْوَ كلبٍ خيرٌ له من أنْ يُرَبِّي ولدًا لِصُلْبِه". وهذا مُنْكرٌ جدًّا. وفي إسنادِهِ نظَر. ذكرَهُ من طريقِ تَمَّام، عن خيثمة بنِ سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عن عبد اللّه بن السمط، عن صالح به؛ وعبد اللّه بن السمط هذا لا أعرفُه، وقد ذكرَهُ شيخنا الحافظُ الذهبي في كتابهِ الميزان

(3)

وقال: رَوَى عن صالحِ بنِ علي حديثًا موضوعًا.

‌ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومئة

فيها دخلَ يزيدُ بن حاتم بلادَ إفريقيَة، فافتتحها عودًا على بَدْء، وقَتَلَ منْ كان فيها ممَّنْ تغلَّبَ عليها من الخوارج، وقتَلَ أمراءَهم، وأسَرَ كُبَراءهم، وأذلَّ أشرافَهم، وأرغَمَ آنافَهم، وبدَّدَ آلافَهم، واستبدلَ أهلَ تلك البلادِ بالخَوفِ أمْنًا وسلامةً، وبالإهانةِ كرامةً.

(1)

الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/ 323، 324)(5917) بسنده عن أبي هريرة قال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الجنين غرة عبد أو أمة. قال: فقال الذي قَضَى عليه: أيعقلُ منْ لا أكلَ ولا شرب ولا صاحَ فاستهلّ؟ فمِثْلُ ذلك يُطَلّ؟! فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا يقولُ بقولِ شاعر، فيه غُرَّةٌ عبد أو أمّةً". ورواه أبو داود رقم (4576) وابن ماجة رقم (2639) وهو حديث صحيح وقال الخطابي في غريب الحديث 1/ 236: قال أبو عمرو بن العلاء: قولُ رسولِ الله: "في الجنين غُرَّة عبد أو أمة"، لولا أنَّ رسولَ اللّه أرادَ بالغُرَّةِ معنى لقال:"في الجنين عبد أو أمة"، ولكنَّه عَنَى البياضَ حتى لا يُقبلَ في الديةِ إِلَّا غلامٌ أو جاريةٌ بيضاء، ولا يُقْبَلَ فيها أسود ولا سوداء. قال أبو سليمان: وهذا شبيهٌ بالمعنى الأول، لأنَّ البياضَ ممّا يُبتغَى في الرقيق، ويُزاد له في القيمة؛ وكانت العَرَب تقتني الحَبَش والنُّوبة، والبياضُ فيهم عزيز، فمنْ أرادَ البياض في الجِنْس كالرُّوم والصقالبة لم يقدرْ عليه إِلَّا بأنْ يرفعَ في الثمن. اهـ.

(2)

تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (23/ 357، 358).

(3)

ميزان الاعتدال (4/ 116).

ص: 355

وكانَ من جُملةِ منْ قَتلَ من أمرائهم أبو حاتم، وأبو عبَّاد، الخارجيَّان، ثم لمّا استقامَتْ له وبه الأمورُ في البلدان دخل بعدَ ذلك بلادَ القَيْروان، فمَهَّدَها وأطَّرها

(1)

وأقرَّ أهلَها، وقرَّرَ أمورَها، وأزال محذورَها. والله سبحانه أعلم.

‌بناءُ الرَّافِقَة المدينة المشهورة

وفيها أمَرَ المنصورُ ولدَهُ الْمَهْديَّ ببناء الرَّافِقَة على مِنْوالِ بناءِ بغداد في هذه السنة؛ وأمرَ فيها ببناءِ سُورٍ وعمَلِ خندَقٍ حولَ الكوفة. وأخذَ ما عزَمَ على ذلك من أموالِ أهلِها، من كلِّ إنسانٍ من أهلِ اليسار أربعين درهمًا. وقد فرَضها أولًا خمسةَ دراهم، ثم جباها أربعين أربعين؛ فقال في ذلك بعضُهم:

يا لَقَوْمي ما رأينا

في أميرِ المؤمنينا

قسَمَ الخمسةَ فينا

وجَبَانا أربعينا

وفيها غَزَا الصائفةَ يزيدُ بن أسد السُّلَمي. وفيها طلبَ ملكُ الرُّوم الصلحَ من المنصور، على أنْ يَحْمِلَ إليه الجزية.

وفيها عزلَ المنصورُ أخاهُ العباس بن محمد عن الجزيرة، وغرَّمَهُ أموالًا كثيرة. وفيها عزَلَ محمد بن سليمان بن علي عن إمرةِ الكوفة، فقيل: لأُمور بلغَتْهُ عنه، في تعاطي منكراتٍ وأمورٍ لا تَليقُ بالعمَّال؛ وقيل: لِقَتْلِهِ محمد بن أبي العَوْجاء، وقد كان ابنُ أبي العوجاء هذا زِنْديقًا، يُقال إنه لما أمَرَ بضرْبِ عُنقه اعترفَ على نفسِه بوضعِ أربعةِ آلافِ حديث يُحلُّ فيها الحرام، ويُحَرِّمُ فيها الحلال، ويصوِّمُ الناسَ يومَ الفِطْر، ويُفَطِّرُهم في أيام الصيام، فأرادَ المنصورُ أن يجعلَ قتلَهُ لهُ ذنبًا؛ فعزلَهُ به؛ وإنما أرادَ أنْ يُقيدَهُ منه، فقال له عيسى بن موسى: يا أميرَ المؤمنين لا تعزِلْهُ بهذا، ولا تقتُلْهُ به، فإنه إنما قتلَهُ على الزَّنْدَقة، ومتى عزلتَهُ به شكرَهُ العامَّةُ وذمُّوك. فترَكَهُ حينًا ثم عزلَهُ وولَّى مكانَهُ على الكوفة عمرَ بن زهير.

وفيها عزل المنصورُ عن المدينة الحسن بن زيد وولَّى عليها عمَّهُ عبدَ الصمد بن علي، وجعل معه فليح بن سليمان مشرفًا عليه. وعلى إمرةِ مكة محمدُ بن إبراهيم بن محمد؛ وعلى البصرة الهيثمُ بن معاوية؛ وعلى مصر محمد بن سعيد؛ وعلى إفريقيَةَ يزيدُ بن حاتم.

وفيها تُوفِّي:

صفوان بن عمر.

وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان.

(1)

هو من التأطير، وهو اتِّخاذ الأطارِ للبيتِ، وهو كالمِنْطَقَةِ حَوْلَهُ. القاموس (أطر).

ص: 356

وعثمان بن عطاء.

ومِسْعَر بن كِدَام.

وحَمَّاد الرَّاوية

(1)

وهو ابنُ أبي ليلى ميسرة، ويقال سابور بن المبارك بن عُبيد الدَّيْلميُّ الكوفيّ، مولى بُكير بن زيد الخيل الطائي. كان من أعلمِ الناس بأيامِ العرب وأخبارِها وأشعارِها ولغاتِها؛ وهو الذي جمعَ السبعَ المعلَّقاتِ الطِّوال؛ وإنما سُمِّي الراويةَ لكثرةِ روايتِهِ الشعرَ عن العرب. اختبرَهُ الوليدُ بن يزيد بن عبدِ الملك أميرُ المؤمنين في ذلك، فأنشدَهُ تسعًا وعشرينَ قصيدةً على حروفِ المعجم، كلُّ قصيدةٍ نحوٌ من مئةِ بيت. وزعم أنه لا يُسمَّى شاعرٌ من شعراءِ العرب إلَّا أنشدَ له ما لا يحفظُه غيرُه. فأطلق له مئةَ ألفِ درهم.

وذكر أبو محمد الحريري في كتابِهِ "دُرَّة الغَوَّاص" أنَّ هشام بن عبد الملك استدعاهُ من العراق من نائبِهِ يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دارٍ قَوْرَاء

(2)

، مُرَخَّمةٍ بالرُّخامِ والذهب، وإذا عنده جاريتانِ حسَنَتان جدًّا، فاستنشدَهُ شيئًا، فأنشده، فقال له: سَلْ حاجَتَك. فقال: كائنةً ما كانت يا أمير المؤمنين؟ فقال: وما هي؟ فقال: تُطلِّق لي إحدى هاتين الجاريتَيْن. فقال: هما وما عليهما لك. وأخلاهُ في بعض دارِه وأطلقَ له مئةَ ألفِ درهم.

هذا مُلَخَّصُ الحكاية، والظاهرُ أنَّ هذا الخليفةَ إنما هو الوليدُ بن يزيد، فإنه ذكَرَ أنه شَرِبَ معهُ الخمر، وهشامٌ لم يكنْ يشرَب، ولم يكنْ نائبَهُ على العراق يوسُف بن عمر، إنما كان نائبَهُ خالدُ بن عبدِ اللّه القَسْري، وبعدَهُ يوسف بن عمر بن عبد العزيز.

وكانت وفاةُ حمَّاد في هذه السنة، عن ستين سنة. قال ابنُ خَلِّكان

(3)

: وقيل إنه أدرك أوَّلَ خلافةِ المهدي في سنةِ ثمانٍ وخمسين. فاللّه أعلم.

وفيها قُتل:

حَمَّاد عَجْرَد

(4)

على الزَّنْدَقَة، وهو حَمَّاد بن عمر بن يونس بن كُليب الكوفي، ويقال إنه واسطي،

(1)

ترجمته في طبقات فحول الشعراء (1/ 48)، الأغاني (6/ 79)، الفهرست ص (134)، وفيات الأعيان (2/ 206)، سير أعلام النبلاء (7/ 157)، النجوم الزاهرة (2/ 28)، المنتظم لابن الجوزي (8/ 272)، نزهة الألباب في الألقاب ص (223)، لسان الميزان (2/ 352)، المزهر للسيوطي (2/ 348).

(2)

الدار القوراء: واسعة الجوف. لسان العرب (قور).

(3)

في وفيات الأعيان (2/ 209).

(4)

ترجمته في الأغاني (14/ 313)، تاريخ بغداد (8/ 148)، المنتظم لابن الجوزي (8/ 296)، وفيات الأعيان (2/ 210)، سير أعلام النبلاء (7/ 156)، كتاب حماد عجرد (ذكره النديم في الفهرست ص (202، نزهة =

ص: 357

مولى بني سواد، وكان شاعرًا ماجنًا ظريفًا زنديقًا خَليعًا، مُتَّهمًا على الإسلام، وقد أدرك الدولتين الأمويَّةَ والعباسية، ولم يشتهر إِلَّا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشَّار بن بُرْد مُهاجاةٌ كثيرة، وقد قُتل بشارٌ هذا على الزَّنْدَقةِ أيضًا كما سيأتي، ودُفن مع حماد هذا جانب قبرِه. وقيل: إنَّ حماد عجرد ماتَ سنةَ ثمانٍ وستين، وقيل: إحدى وستين ومئة. فالله أعلَم.

‌ثم دخلت سنة ست وخمسين ومئة

فيها ظَفِر الهيثمُ بن معاوية نائبُ المنصور على البصرة بعمرو بن شدَّاد، الذي كان عاملًا لإبراهيم بن عبد الله على فارس؛ فقيل: أمر فقُطِعَتْ يداهُ ورِجلاه وضُربت عُنقه ثم صُلب.

وفيها عزل المنصورُ الهيثمَ بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفَعْلَةَ عن البصرة، وولَّى عليها قاضيها سَوَّار بنَ عبدِ الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شُرْطتِها وأحداثِها سعيدَ بنَ دَعْلَج، ورجع الهيثمُ بن معاوية قاتلُ عمرِو بن شدَّاد إلى بغداد، فمات فيها فجأةً في هذه السنة، وهو على بطنِ جاريةٍ له، وصلَّى عليه المنصور، ودُفن في مقابر بني هاشم، ويُقال: أصابَهُ عمرو بن شدَّاد الذي قتله تلك القِتْلَة. فليتَّقِ العبدُ الظلم.

وحجَّ بالناسِ العباسُ بن محمد أخو المنصور؛ ونُوَّابُ البلاد همُ المذكورون في التي قبلَها؛ وعلى فارس والأهواز وكُوَرِ دِجْلَةَ عمارةُ بن حمزة؛ وعلى كَرْمانَ والسِّنْد هشام بن عمرو.

وفيها تُوفِّي:

حمزَةُ الزيَّات

(1)

في قول وهو أحدُ القرَّاء المشهورين، والعُبَّاد المذكورين، وإليه تُنسب المُدودُ الطويلة في الراءة اصطلاحًا من عندِه، وقد تكلَّم فيه بسببِها بعضُ الأئمة، وأنكروها عليه.

وسعيد بن أبي عَرُوبة وهو أولُ منْ جمَعَ السُّنَن في قول.

وعبدُ اللّه بن شَوْذَب.

وعبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم الإفريقي.

وعُمَرُ بن ذَرّ.

= الألباب في الألقاب (2/ 23)، لسان الميزان (2/ 349)، النجوم الزاهرة (2/ 28).

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 385)، مشاهير علماء الأمصار ص (168)، الفهرست ص (44)، صفة الصفوة (3/ 156)، المنتظم (8/ 188)، وفيات الأعيان (2/ 216)، سير أعلام النبلاء (7/ 90)، معرفة القراء الكبار (1/ 111)، العبر (1/ 226)، طبقات المحدثين ص (60)، مآثر الإنافة (1/ 180)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية ص (423)، النجوم الزاهرة (2/ 28)، شذرات الذهب (1/ 240).

ص: 358

‌ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومئة

فيها بَنَى المنصورُ قصرَهُ المسمَّى بالخُلْد في بغداد، تفاؤلًا بالتَّخْليدِ في الدنيا، فعندَ كمالِهِ مات، وخَرِبَ القصرُ من بعدِه؛ وكان المستحثَّ في عمارته أبانُ بن صدقة، والربيعُ مولى المنصور -وهو حاجبُه- وفيها حوَّل المنصورُ الأسواقَ من قُرْبِ دارِ الإمارةِ إلى باب الكَرْخ.

وقد ذكرنا فيما تقدَّم سببَ ذلك

(1)

.

وفيها أمر بتوسعةِ الطُّرقات، وفيها أمَرَ بعمَلِ جسرٍ عند باب الشعير، وفيها استعرَضَ المنصورُ جُنْدَهُ وهم مُلْبسون السلاح، وهو أيضًا لابسٌ سلاحًا عظيمًا؛ وكان ذلك عند دِجْلة.

وفيها عَزَلَ عن السِّنْد هشامَ بن عمرو وولَّى عليها معبد بن الخليل

(2)

.

وفيها غزا الصائفةَ يزيدُ بن أسيد السُّلَمي، فأوْغَلَ في بلادِ الروم، وبعث سِنَانًا مولى البَطَال مقدِّمةً بين يديه، ففتح حصونًا، وسَبَى وغَنِم.

وفيها حَجَّ بالنالسِ إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن عليّ، ونُوَّابُ البلاد همُ المذكورونَ في التي قبلَها.

وفيها تُوفي:

الحسين بن واقد.

والإمام الجليل علَّامةُ الوقت أبو عمرو. عبد الرحمن بن عمرو الأوْزَاعيّ

(3)

فقيهُ أهلِ الشام وإمامُهم، وقد بقي أهلُ دمشق وما حولَها من البلاد على مذهبِهِ نحوًا من مئتين وعشرين سنة.

(1)

انظر ص (336، 337) من هذا الجزء.

(2)

في (ب، ق): "سعيد بن الخليل"، والمثبت من (ح) وتاريخ الطبري (4/ 511)، وما سيأتي في ص (378) من هذا الجزء.

(3)

ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 488)، بحر الدم لأحمد بن حنبل ص (264)، التاريخ الكبير (5/ 326)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 566)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 83)، الجرح والتعديل (1/ 184)، و (5/ 266)، مشاهير علماء الأمصار ص (180)، الثقات لابن حبان (7/ 62)، التعديل والتجريح (2/ 873)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (35/ 147)، صفة الصفوة (4/ 255)، وفيات الأعيان (3/ 127)، تهذيب الكمال (17/ 307)، ميزان الاعتدال (4/ 305)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 429)، سير أعلام النبلاء (7/ 107)، الكاشف (1/ 638)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 365)، طبقات الفقهاء للشيرازي ص (71)، تحفة التحصيل ص (202)، تهذيب التهذيب (6/ 216)، تقريب التهذيب ص (347)، لسان الميزان (7/ 283)، النجوم الزاهرة (2/ 30)، شذرات الذهب (1/ 241).

ص: 359

‌شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله

هو عبدُ الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد، أبو عمرو الأوزاعي، والأوْزَاع بطنٌ من حِمْيَر، وهو من أنفسِهم. قاله محمدُ بن سعد

(1)

. وقال غيرُه: لم يكن من أنفُسهم، وإنما نزلَ في مَحَلَّةِ الأوزاع؛ وهي قريةٌ خارجَ بابِ الفراديس من قُرَى دمشق؛ وهو ابنُ عمِّ يحيى بن عمرو الشيباني.

قال أبو زُرْعة: وأصلُهُ من سبي السِّنْد، فنَزَلَ الأوْزاع، فغلَب عليه النسبةُ إليها.

وقال غيره: ولد ببَعْلَبَك، ونشأ بالبقاع يتيمًا في حِجْرِ أُمِّه، وكانت تنتقلُ بهِ من بلدٍ إلى بلد، وتأدَّب بنفسِه، فلم يكنْ في أبناءِ الملوكِ والخلفاءِ والوزراءِ والتُّجَّارِ وغيرهم أعقلَ منه، ولا أوْرَع ولا أعلم ولا أفصَح ولا أوْقَرَ ولا أحلمَ ولا أكثرَ صَمْتًا منه؛ ما تكلَّم بكلمةٍ إلَّا كان المتعيِّنُ على منْ سَمِعها من جلسائه أنْ يكتبَها عنهُ من حسنِها.

وكان يُعاني الرسائلَ والكتابة، وقد اكتتبَ مرَّةً في بعثٍ إلى اليمامة؛ فسمع الحديث من يحيى بن أبي كثير، وانقطعَ إليه، فأرشدَهُ إلى الرحلة إلى البصرةِ ليسمعَ من الحسنِ وابنِ سيرين، فسارَ إليه فوجد الحسنَ قد تُوفِّيَ من شهرَيْن، ووجد ابنَ سيرين مريضًا، فجعل يتردَّدُ لعيادتِه، فقَوي المرضُ به ومات؛ ولم يسمع منه الأوزاعيُّ شيئًا.

ثم جاء فنزل دمشقَ بمحلَّةِ الأوْزَاع -خارجَ بابِ الفَرَاديس- وسادَ أهلَهَا في زمانِه وسائرَ البلادِ في الفِقْهِ والحديثِ والمغازي وغيرِ ذلك من علومِ الإسلام؛ وقد أدركَ خلقًا من التابعين وغيرهم، وحدَّثَ عنه جماعاتٌ من ساداتِ المسلمين، كمالكِ بن أنس، والثوري والزُّهري -وهو من شيوخِه- وأثنى عليه غيرُ واحدٍ من الأئمة، وأجمع المسلمونَ على عدالتِهِ وإمامتِه.

قال مالك: كان الأوزاعي إمامًا يُقتدى به. وقال سفيانُ بن عُيينة وغيره: كان الأوزاعيُّ إمامَ أهل زمانهِ؛ وقد حجَّ مرةً فدخلَ مكةَ وسفيانُ الثوري آخذٌ بزمامِ جمَلِه، ومالكُ بن أنس يسوقُ به، والثوريُّ يقول: افسحوا للشيخ؛ حتى أجلساه عندَ الكعبة، وجلَسَا بين يديه يأخذانِ عنه. وقد تذاكَرَ مالكٌ والأوزاعي مرَّةً بالمدينةِ من الظهر حتى صلَّيَا العصر، ومن العصرِ حتى صلَّيَا المغرب؛ فغَمَرَهُ الأوزاعيُّ في المغازي، وغمَرَهُ مالكٌ في الفقه، أو في شيء من الفقه.

وتناظَرَ الأوزاعيُّ والثوريُّ في مسجدِ الخليفةِ في مسألةِ رفعِ اليدَيْنِ في الركوعِ والرَّفْعِ منه، فاحتجَّ الأوزاعيُّ على الرفعِ في ذلك بما رواهُ عن الزُّهري عن سالم، عن أبيه، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفعُ يدَيْهِ

(1)

في ترجمته في الطبقات الكبرى (7/ 488).

ص: 360

في الرُّكوع والرفعِ منه؛ واحتجَّ الثوريُّ بحديثِ يزيدَ بنِ أبي زياد، فغضِبَ الأوزاعيُّ وقال: تُعارضُ حديثَ الزهري بحديثِ يزيدَ بن أبي زياد وهو رجلٌ ضعيف؟! فاحمارَّ وجهُ الثوري، فقال الأوزاعي: لعلَّكَ كرهتَ ما قلتُ؟ قال: نعم. قال: فقُمْ بنا حتى نلتعنَ عندَ الرُّكْن أيُّنا على الحق. فسكت الثوريُّ.

وقال هِقْلُ بن زِيَاد: أفَتى الأوزاعيُّ في سبعينَ ألفِ مسألةٍ بحدَّثَنا وأخبرَنا.

وقال أبو زُرْعة: روي عنه ستونَ ألفَ مسألة.

وقال غيرُهما: أفتى في سنةِ ثلاثَ عشرةَ ومئة، وعمرُه إذْ ذاك خمسٌ وعشرون سنة؛ ثم لم يزلْ يُفتي حتى مات، وعَقْلُهُ زاكٍ.

وقال يحيى القطَّان عن مالك: اجتمع عندي الأوزاعيُّ والثوريُّ وأبو حَنيفة، فقلتُ: أيُّهم أرجح؟ قال: الأوزاعي.

وقال محمد بن عَجْلان: لم أرَ أحدًا أنصَحَ للمسلمينَ من الأوزاعي.

وقال غيرُه: ما رُئيَ الأوزاعيُّ ضاحكًا مقهقِهًا قط، ولقد كان يَعِظُ الناس، فلا يَبقَى أحدٌ في مجلسه إلَّا بَكَى بعينهِ وبقلبِه؛ وما رأيناهُ يَبْكي في مجلسِهِ قطّ، وكان إذا خَلا بكَى حتى يُرْحَم.

وقال يحيى بن مَعين: العلماءُ أربعة: الثوريُّ، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.

قال أبو حاتم: كان ثقةً مُتَّبعًا لما سمِع.

قالوا: وكان الأوزاعيُّ لا يَلْحَنُ في كلامِه، وكانت كُتُبُه تَردُ على المنصور فينظرُ فيها ويتأمَّلُها ويتعجَّبُ من فصاحتِها وحلاوةِ عباراتِها؛ وقد قال المنصورُ يومًا لأحْظَى كُتَّابهِ عندَه -وهو سليمانُ بن مجالد-: ينبغي أنْ نجيبَ الأوزاعيَّ على ذلك دائمًا لنستعينَ بكلامِهِ فيما نُكاتبُ به إلى الآفاق إلى منْ لا يعرفُ كلامَ الأوزاعي. فقال: واللَّه يا أميرَ المؤمنين، لا يَقدِرُ أحدٌ من أهلِ الأرضِ على مثلِ كلامِه، ولا على شيءٍ منه.

وقال الوليد بنُ مسلم: كان الأوزاعي إذا صلَّى الصُّبْح جلس يذكرُ اللَّه سبحانه وتعالى حتى تطلُعَ الشمس؛ وكان يَأثِرُ عن السلف ذلك، قال: ثم يقومون فيتذاكرون في اللغةِ والفقهِ والحديث.

وقال الأوزاعي: رأيتُ ربَّ العزَّةِ في المنام فقال: أنت تأمرُ بالمعروف وتنهَى عن المنكر؟ فقال: بفَضْلِكَ أيْ ربّ؛ ثم قلت: يا ربّ، أمِتْني على الإسلام. فقال: وعلى السُّنَّة.

وقال محمد بن سابور: قال لي شيخٌ بجامعِ دمشق: أنا ميتٌ في يومِ كذا وكذا. فلمّا كان في ذلك اليوم رأيتُهُ في صحنِ الجامع يتفلَّى، فقال لي: اذهبْ إلى سريرِ الموتى فأحرِزْهُ لي عندك قبل أن تُسبق إليه. فقلت: ماذا تقول؟ فقال: هو ما أقولُ لك، وإني رأيتُ كأنَّ قائلًا يقول: فلانٌ قَدَري، وفلان

ص: 361

كذا، وعثمانُ بن أبي العاتكة نعمَ الرجل، وأبو عمرو الأوزاعي خيرُ منْ يمشي على وجه الأرض؛ وأنتَ ميِّتٌ في يومِ كذا وكذا. قال محمد بن شُعيب: فما جاء الظهر حتى مات، وصلَّينا عليه بعدَها، وأُخرجت جنازتُه. ذكر ذلك ابنُ عساكر

(1)

.

وكان الأوزاعي رحمه الله كثيرَ العبادة، حسنَ الصلاة، وَرِعًا ناسِكًا، طويلَ الصمت، وكان يقول: منْ أطالَ القيامَ في صلاة الليل هَوَّنَ اللَّه عليه طُولَ القيامِ يوم القيامة. أخذَ ذلك من قولهِ تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 26 - 27].

وقال الوليد بن مسلم: ما رأيتُ أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأوزاعي في العبادة. وقال غيرُه: حجَّ فما نامَ على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نَعَسَ استندَ إلى القَتَب؛ وكان من شدَّة الخشوع كأنه أعمى.

ودخلتِ امرأةٌ على امرأةِ الأوزاعي، فرأتِ الحصيرَ الذي يُصلِّي عليه مبلولًا، فقالت لها: لعلَّ الصبيَّ بال هاهنا. فقالت: هذا أثرُ دموعِ الشيخ من بكائهِ في سجودِه هكذا يصبحُ كلَّ يوم.

وقال الأوزاعي: عليك بآثارِ منْ سلَفَ وإنْ رَفَضَكَ الناس، وإياك وأقوالَ الرجالِ وإنْ زخرفوهُ وحسَّنوه، فإنَّ الأمر ينجلي وأنت منه على طريقٍ مستقيم.

وقال أيضًا: اصبِرْ على السُّنَّة، وقفْ حيثُ يقفُ القوم، وقل ما قالوا، وكُفَّ عمَّا كفُّوا؛ ولْيَسَعْكَ ما وَسِعَهم.

وقال: العلمُ ما جاء عن أصحابِ محمد، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم. وكان يقول: لا يجتمعُ حبُّ عليٍّ وعثمانَ إلَّا في قلبِ مؤمن. وإذا أراد اللَّه بقومٍ شرًا فتح عليهم باب الجدَل، وسدَّ عنهم باب العِلم والعمَل.

قالوا: وكان الأوزاعيُّ من أكرمِ الناسِ وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاعٌ صار إليه في بني أمية، وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربِهم وبني العباس نحو سبعين ألف دينار، فلم يُمسِكْ منها شيئًا، ولا اقتنى شيئًا من عقارٍ ولا غيرِه، ولا ترك يومَ ماتَ سوى سبعةِ دنانيرَ كانتْ جهازه؛ بل كان يُنفق ذلك في سبيل اللَّه وفي الفقراء والمساكين.

ولما دخل عبدُ اللَّه بن علي [عمُّ السفَّاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال اللَّه سبحانه وتعالى دولتهم على يدِهِ]

(2)

دمشقَ فطلبَ الأوزاعي، فتغيَّب عنه ثلاثةَ أيام، ثم حضَرَ بين يديه، قال الأوزاعي: دخلتُ عليه وهو على سرير، وفي يده خَيْزُرَانة، والمسوِّدَةُ عن يمينِهِ وشمالِه، معهم السيوفُ مُصْلَتَة،

(1)

في تاريخه (35/ 194).

(2)

ليس ما بين المعقوفين في (ب، ح)، وهو من (ق).

ص: 362

والعُمد الحديد، فسلمتُ عليه فلم يَرُدّ، ونَكَتَ بتلك الخيْزُرَانةِ التي في يده ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنَعْنا من إزالةِ أيدي أولئك الظلمةِ عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورِباطًا هو؟ قال: فقلت: أيُّها الأمير، سمعتُ يحيى بن سعيد الأنصاريَّ يقول: سمعتُ محمد بن إبراهيم التيميَّ يقول: سمعتُ علقمةَ بن وقَّاصٍ يقول: سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى، فمنْ كانتْ هجرَتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِه، فهجرتُهُ إلى اللَّه ورسولِه، ومنْ كانتْ هجرتُهُ لِدُنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجُها فهجرتُهُ إلى ما هاجَرَ إليه"

(1)

. قال: فنكَتَ بالخَيْزُرانةِ أشدَّ مما كان ينكُت؛ وجعل منْ حَوْلهُ يقبضُونَ أيديَهم على قبضاتِ سُيوفِهم؛ ثم قال: يا أوزاعيّ، ما تقولُ في دماء بني أمية. فقلت: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لمسلم دَمُ امْريءٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاث: النفسُ بالنفس، والثَّيِّبُ الزَّاني، والتاركُ لدينِه المفارقُ للجماعة"

(2)

. فنَكَتَ بها أشدَّ من ذلك، ثم قال: ما تقولُ في أموالِهم؟ فقلت: إنْ كانتْ في أيديهم حرامًا فهي عليك أيضًا؛ وإنْ كانتْ لهم حلًّا فلا تَحِلُّ لك إلا بطريقٍ شرعي. فنَكَتَ أشدَّ ممَّا كان ينكُتُ قبلَ ذلك؛ ثم قال: ألا نُوَلِّيك القضاء؟ فقلت: إنَّ أسلافَكَ لم يكونوا يَشُقُّونَ عليَّ في ذلك، وإني أُحِبُّ أن يتمَّ ما ابتدؤوني به من الإحسان. فقال: كأنَّكَ تحبُّ الانصراف. فقلت: إنَّ ورائي حُرَمًا، وهم محتاجونَ إلى القيامِ عليهنَّ وسترِهنّ، وقلوبُهنَّ مشغولةٌ بسببي. قال: وانتظرتُ رأسي أنْ يسقُطَ بين يدي؛ فأمَرَني بالانصراف، فلما خرجتُ إذا برسولِهِ من ورائي، وإذا معه مئتا دينار، فقال: يقولُ لك الأمير: استنفِقْ هذه. قال: فتصدَّقْتُ بها. وإنما أخذتُها خوفًا.

قال: وكان في تلك الأيام الثلاثة صائمًا، فيقال: إنَّ الأمير لمّا بلغه ذلك عرَضَ عليه الفِطْرَ عندَهُ فأبَى أن يُفطرَ عندَه.

قالوا: ثم رحل الأوزاعيُّ من دمشق، فنزل بيروتَ مُرابطًا بأهله وأولادِه. قال الأوزاعي: وأعجبني في بيروت أنِّي مررتُ بقبورِها، فإذا امرأة سوداءُ في القبور فقلتُ لها: أين العِمَارةُ يا هَنَتَاه

(3)

؟ فقالت: إنْ أردتَ العِمَارَةَ فهي هذه -وأشارت إلى القبور- وإنْ كنتَ تُريدُ الخرابَ فأمامَك -وأشارت إلى البلد- فعزمتُ على الإقامةِ بها.

وقال محمد بن كثير: سمعتُ الأوزاعيَّ يقول: خرجتُ يومًا إلى الصحراء، فإذا رِجْلُ جرادٍ

(4)

،

(1)

أخرجه البخاري (1/ 3)(1)؛ ومسلم (3/ 1515)(1907).

(2)

أخرجه البخاري (6/ 2521)(6484)؛ ومسلم (3/ 1303)(1676)؛ وغيرهما.

(3)

يا هنتاه: قال الخطابي: معناه يا هذه، يقال للمذكر إذا كُني عنه: هَنٌ، وللمؤنث هَنَةٌ. وقد ذكر الحُميدي أنَّ معناه البَلْهاء، فهو نسبةٌ إلى البَلَهِ وقِلَّة المعرفة. غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 502، 503).

(4)

الرِّجْل: الطائفةُ من الشيء، أنثى؛ وخصَّ بعضُهم بهِ القطعةَ العظيمةَ من الجراد والجمع أرجال؛ وهو جمعٌ على غير لفظ الواحد. لسان العرب (رجل).

ص: 363

وإذا شخصٌ راكبٌ على جَرَادة منها وعليه سلاحُ الحديد، وكلَّما قال بيدِهِ هكذا -إلى جهةٍ- مالَ الجرادُ مع يده وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.

وقال الأوزاعي: كان عندنا رجلٌ يخرجُ يومَ الجمعةِ إلى الصيد، ولا ينتظرُ الجمعة، فخُسف ببغلتِه، فلم يبقَ منها إلا أُذُناها.

وخرج الأوزاعيُّ

(1)

يومًا من بابِ مسجدِ بيروت، وهناك كان فيه رجلٌ يبيعُ النَّاطِف

(2)

، وإلى جانبِهِ رجلٌ يبيع البصل وهو يقول له: يا بصل أحلى من العسل؛ أو قال: أحلى من الناطف. فقال الأوزاعي: سبحان اللَّه! [أيظنُّ هذا أنَّ شيئًا من الكذبِ يُباح؟ فكأنَّ هذا]

(3)

ما يَرَى في الكذبِ بأسًا.

وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كُنَّا قبل اليوم نضحكُ ونلعب، أمَّا إذْ صِرْنا أئمَّة يُقتدَى بنا فلا نرى أنْ يسعَنا ذلك، وينبغي أن نتحفَّظ.

وكتب إلى أخٍ له: أمَّا بعد، فقد أُحيط بك من كلِّ جانب، وانه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلة، فاحذرِ اللَّه والقيامَ بين يديه، وأنْ يكون آخرَ العهدِ بك، والسلام.

وقال ابنُ أبي الدنيا

(4)

: حدّثني محمد بن إدريس، سمعتُ أبا صالحٍ كاتبَ اللَّيث يذكُرُ عن الهِقْل بنِ زياد، عن الأوزاعي أنه وعَظَ فقالَ في موعظته: أيها الناس تقوَّوْا بهذه النِّعَم التي أصبحتم فيها على الهرَبِ من نار اللَّه الموقدة، التي تطَّلِعُ على الأفئدة، فإنَّكم في دارٍ الثَّوَاءُ فيها قليل، وأنتم عمَّا قليل عنها راحلون، خلائف بعدَ القرون الماضية، الذين استقبلوا من الدنيا آنَقَها وزهرتَها، فهم كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأمَدَّ أجسامًا، وأعظمَ أحلامًا، وأكثرَ أموالًا وأولادًا؛ فخدَّدوا الجبال، وجابوا الصخرَ بالواد، وتنقَّلوا في البلاد، مؤيَّدينَ ببطشٍ شديد وأجسادٍ كالعماد، فما لَبِثَتِ الأيامُ والليالي أنْ طوَتْ آثارَهم، وأخربتْ منازلَهم وديارَهم، وأنْسَتْ ذكرَهم، فـ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]، كانوا بِلَهْوِ الأمل آمنين، وعن ميقاتِ يومِ موتِهم غافلين، فآبوا إيابَ قومٍ نادمين، ثم إنكم قد علمتمُ الذي نزَلَ بساحتِهم بياتًا من عقوبة اللَّه، فأصبح كثيرٌ منهم في ديارِهم جاثِمين، وأصبح الباقون المتخلِّفون يُبصرون في نعمةِ اللَّه، وينظرون في آثار نِقْمَتِه، وزوالِ نعمتِه عمَّنْ تقدَّمَهم من الهالِكين، ينظرونَ واللَّهِ في مساكنَ خاليةٍ خاوية، وقد كانتْ بالعِزِّ مَحْفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها

(1)

من هنا إلى كلمة الأوزاعي في الخبر التالي ساقط من نسخة (ب).

(2)

الناطف: القُبَّيْط، لأنه يتنطف قبل استضرابه أي يسيل ويقطرُ قبل خثورته، وهو نوعٌ من الحلواء، يسمَّى القُبَّيْطَى إذا أنَّثوه، وإذا ذكَّروه قالوا: قُبَّيْط. لسان العرب (نطف).

(3)

ما بين معقوفين زيادة من (ق).

(4)

في كتابه الشكر ص (14)(30).

ص: 364

مصروفة، والأعين نحوها ناظرة، فأصبحتْ آيةً للذين يخافونَ العذابَ الأليم، وعبرةً لمن يَخْشَى، وأصبحتُم بعدَهم في أجلٍ مَنْقوص، ودنيا منقوصة، في زمانٍ قد وَلَّى عَفْوُه، وذهب رجاؤُه وخَيْرُهُ وصفوُه، فلم يبقَ منه إلَّا جُمَّةُ شَرّ

(1)

، وصُبَابةُ كَدَر، وأهاويلُ عِبَر، وعُقوباتُ غِيَر، وإرسال فتن، وتتابع زلازل، ورذالة خَلَف؛ بهم ظهر الفسادُ في البرِّ والبحر، [يضيِّقونَ الديار، ويُغلونَ الأسعار، بما يرتكبونه من العارِ والشَّنَار]

(2)

؛ فلا تكونوا أشباهًا لِمَنْ خدَعَهُ الأمل، وغَرَّهُ

(3)

طولُ الأجَل، ولعبَتْ به الأماني؛ نسألُ اللَّه أن يجعلَنا وإيَّاكم ممَّنْ إذا دُعي بَدَر، وإذا نُهي انتهى وعَقَل مثواه

(4)

، فمهد لنفسه.

وقد اجتمع الأوزاعيُّ بالمنصور حين دخل الشام، ووعَظَهُ وأحبَّهُ المنصور وعظَّمه، ولما أراد الانصرافَ من بين يديه استأذنه في أنْ لا يلبسَ السواد، فأذِنَ له، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الْحَقْهُ فاسألْهُ لِمَ كَرِهَ لُبْسَ السواد؟ ولا تُعلِمْهُ أنِّي قلتُ لك. فسألَهُ الربيع، فقال: لأني لم أرَ مُحْرِمًا أحرَمَ فيه، ولا ميتًا كُفِّن فيه، ولا عروسًا جُليَتْ فيه، فلهذا أكرهُه.

وقد كان الأوزاعيُّ في الشام معظَّمًا مُكَرَّمًا، أمرُهُ أعزُّ عندَهم من أمرِ السلطان، وقد همَّ به بعضُ الولاةِ مرَّةً، فقال له أصحابُه: دَعهُ عنك، واللَّهِ لو أمرَ أهلَ الشامِ أنْ يقتلوك لقتلوك.

ولما مات جلس على قبرِهِ بعضُ الولاة فقال: رحمك اللَّه، فواللَّه لقد كنتُ أخافُ منك أكثرَ ممَّا أخافُ من الذي ولَّاني - يعني المنصور.

وقال ابنُ أبي العشرين: ما مات الأوزاعيُّ حتى جلسَ وحدَه، وسمع شَتْمهُ بأذنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدّثنا محمد بن عُبيد الطَّنَافسي، قال: كنتُ جالسًا عند الثوري، فجاءه رجلٌ فقال: رأيتُ كأنَّ ريحانةً من المغرب -يعني قُلعَتْ- قال: إنْ صدقَتْ رؤياك فقد مات الأوزاعي. فكتبوا ذلك، فجاء موتُ الأوزاعيِّ في ذلك اليوم.

وقال أبو مُسْهر: بلَغَنا أن سببَ موتِهِ أنَّ امرأته أغلقَتْ عليه بابَ حمَّام فمات فيه، ولم تكنْ عامدةً ذلك، فأمَرَها سعيدُ بن عبدِ العزيز بِعتْقِ رقبة. قال: وما خَلَّفَ ذهبًا ولا فضَّةً ولا عَقَارًا، ولا متاعًا، إلَّا ستةً وثمانين فضَلَتْ من عَطَائِه. وكان قد اكتُتِبَ في ديوانِ السَّاحل.

(1)

في الشكر لابن أبي الدنيا: "حمة" بالحاء المهملة، والمثبت من الأصول. والحُمَة -بالحاء المهملة وتخفيف الميم-: هي الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور ونحو ذلك أو تلدغ بها، وسُمُّ كل شيء يلدغ ويلسع. لسان العرب (حمم، جمم).

(2)

ما بين المعقوفين زيادة من (ق)، ليست في (ب، ح) ولا في كتاب الشكر لابن أبي الدنيا.

(3)

في (ق): "وغَيَّرَهُ"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

كذا في (ق)، وفي كتاب الشكر "ممن وعى نفسه فانتهى وعقل مسراه"، وفي (ح):"ممن دعى بدره"، وفي (ب):"ممن وعى نذره وبلغ انتهى وعقل مثواه".

ص: 365

وقال غيره: كان الذي أغلَقَ عليه بابَ الحمّام صاحبُ الحمَّام، أغلقَهُ وذهبَ لحاجةٍ له، ثم جاء ففتح الحمَّام فوجدَهُ ميتًا قد وضع يدَهُ اليُمنَى تحت خدِّه وهو مستقبِل القبلة. رحمه الله.

قلتُ: لا خلافَ أنه ماتَ ببيروتَ مُرَابطًا، واختلفوا في سنةِ وفاتِه، فروى يعقوبُ بن سفيان عن سلمة، قال: قال أحمد: رأيتُ الأوزاعيَّ وتوفي سنةَ خمسين ومئة. قال العباس بن الوليد البيروتي: تُوفي يومَ الأحد أولَ النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومئة، وهو الذي عليه الجمهور، وهو الصحيح، وهو قولُ أبي مُسهر، وهشام بن عمار، والوليد بن مسلم -في أصحِّ الرواياتِ عنه- ويحيى بن معين، ودُحَيم، وخليفة بن خياط، وأبي عُبيد، وسعيد بن عبد العزيز، وغير واحد. قال العباس بن الوليد: ولم يبلغ سبعين سنة. وقال غيره: جاوز السبعين. والصحيح سبع وستون سنة، لأنَّ ميلادَهُ في سنةِ ثمانٍ وثمانين على الصحيح. وقيل: إنه ولد سنة ثلاثٍ وسبعين. وهذا ضعيف.

وقد رآه بعضُهم في المنام فقال له: دُلَّني على عملٍ يُقربُني إلى اللَّه. فقال: ما رأيتُ في الجنةِ درجةً أعلى من درجةِ العلماء العاملين ثم المحزونين.

‌ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومئة

فيها تكامل بناء قصرِ المنصور المسمَّى بالخُلْد، وسكنَهُ أيامًا يسيرَة ثم مات وتركَه.

وفيها مات طاغيةُ الروم. وفيها وجَّه المنصور ابنَهُ المهديَّ إلى الرقة، وأمرَهُ بعَزْل موسى بن كعب عن الموصل، وأن يُولِّيَ عليها خالد بن بَرْمَك، وكان ذلك بعد نُكْتَةٍ غريبةٍ اتفقتْ ليحيى بن خالد، وذلك أنَّ المنصور كان قد غَضِبَ على خالد بن بَرْمَك، وألزَمَهُ بِحَمْل ثلاثةِ آلاف ألف، فضاق ذَرْعًا بذلك، ولم يبقَ له مالٌ ولا حال، وعجَزَ عن أكثرِ ما طلَبَهُ منه، وقد أجَّلَهُ ثلاثةَ أيام، وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة أيام وإلَّا فدَمُهُ هَدَر. فجعل يُرسِلُ ابنَهُ يحيى إلى أصحابِه من الأمراء يستقرضُ منهم، فكان منهم مَنْ أعطاهُ مئةَ ألف، ومنهم أقلَّ وأكثر. قال يحيى بن خالد: فبينا أنا ذاتَ يومٍ من تلك الأيامِ الثلاثة على جسرِ بغداد وأنا مَهْمُومٌ في تحصيل ما طُلب منَّا مِمَّا لا طاقةَ لنا به إذْ وثَبَ إليَّ زاجرٌ من أولئك الذين يكونون عند الجسر، من الطُّرُقِيَّة، فقال لي: أبشِرْ. فلم ألتفِتْ إليه، فتقدم حتى أخذ بلِجامِ فرسي ثم قال لي: أنت مَهْموم، لَيُفَرِّجَنَّ اللَّه هَمَّك، ولَتَمُرَّنَ غدًا في هذا الموضع واللواءُ بين يديك، فإنْ كان ما قلتُ لكَ حقًّا فلي عليك خمسةُ آلاف. فقلت: نعم، ولو قال خمسون ألفًا لقلتُ نعم، لِبُعْدِ ذلك عندي، وذهبت لشأني، وقد بقي علينا من الحمل ثلاثُ مئةِ ألف، فوَرَدَ الخَبَرُ إلى المنصور بانتقاضِ المَوصِل، وانتشارِ الأكرادِ فيها، فاستشار المنصورُ الأمراءَ مَنْ يصلحُ للمَوْصل؟ فأشار بعضُهم بخالد بن بَرْمَك، فقال له المنصور: أوَ يَصْلُحُ لذلك بعد ما فعَلْنا به؟ فقال: نعم، وأنا الضَّامِنُ أنه يصلُحُ لها. فأمر بإحضارِه،

ص: 366

فولاهُ إياها، ووضَعَ عنه بقيَّةَ ما كان عليه، وعقَدَ له اللِّوَاء، ووَلَّى ابنَهُ يحيى أذْرَبِيجان، وخرج الناسُ في خدمتِهما. قال يحيى: فمرَرْنا بالجِسْر، فثار لي ذلك الزاجِرُ فطالَبَني بما وعدتُه بِه، فأمَرْتُ له به، فقَبَضَ خمسةَ آلاف.

وفي هذه السنة خرج المنصور إلى الحج، فساق الهَدْيَ معه، فلما جاوز الكوفةَ بمرَاحِل أخذَهُ وجَعُهُ الذي ماتَ به، وكان عنده سوءُ مِزَاج، فاشتدَّ عليه من شدَّةِ الحَرِّ وركوبِهِ في الهواجِر، وأخَذَهُ إسهال، وأفرَطَ به، فقَوِيَ مرضهُ، ودخل مكةَ فتُوفِّي بها ليلةَ السبت، لِسِتٍّ مَضَيْنَ من ذي الحِجَّة، وصُلِّيَ عليه، ودُفن بكَدَاء عندَ ثَنِيَّةِ بابِ الْمَعْلاةِ التي بأعلى مكة، وكان عُمُرهُ يومئذٍ ثلاثًا -وقيل أربعًا وقيل خمسًا- وستين، وقيل: إنه بلغ ثمانيًا وستين، واللَّه أعلم.

وقد كتَمَ الربيعُ الحاجبُ موتَهُ حتى أخذَ البيعة للمَهْدِيِّ من القُوَّاد ورؤوس بني هاشم، ثم دُفن. وكان الذي صلَّى عليه إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن علي، وهو الذي أقام للناسِ الحجَّ في هذه السنة.

‌وهذه ترجمة المنصور

(1)

هو عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو جعفر المنصور، وكان أكبرَ من أخيه أبي العباس السفَّاح، وأمُّه أمُّ ولد، اسمها سلامة.

وروى عن جدِّه عن ابن عباس، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتختَّم في يمينه. أورده ابن عساكر

(2)

من طريق محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن أبيه المنصور به.

بُويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحِجَّة سنةَ ستٍّ وثلاثين ومئة، وعمره يومئذٍ إحدى وأربعون سنة، لأنه وُلد سنةَ خمسٍ وتسعين على المشهور في صفر منها بالحُمَيْمَة من بلادِ البَلْقَاء، وكانت خلافُتهُ ثنتَيْن وعشرين سنة إلَّا أيامًا، وكان أسمر اللَّون، موفَّرَ اللِّمَّة، خفيفَ اللِّحْيَة، رَحْبَ الجَبْهَة، أقْنَى الأنف، بَيِّنَ القَنَا، أعْيَن، كأنَّ عينَيْهِ لسانانِ ناطقان، يخالطه أُبَّهَةُ الملك

(3)

، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرفُ الشرف في مواضِعِه

(4)

، والعِتْق في صورته، والليث في مشيته. هكذا وصفه بعضُ مَنْ رآه

(5)

.

(1)

ترجمته في طبقات المحدثين بأصبهان (1/ 435)، تاريخ بغداد (1/ 62)، تاريخ ابن عساكر (32/ 298)، تهذيب الأسماء للنووي (2/ 490)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 342)، نزهة الألباب لابن حجر (2/ 202، 292).

(2)

تاريخ ابن عساكر (32/ 299).

(3)

في تاريخ ابن عساكر "أبهة الملوك".

(4)

في تاريخ ابن عساكر "تواضعه".

(5)

تاريخ ابن عساكر (32/ 301).

ص: 367

وقد صحَّ عن ابن عباس أنه قال: منَّا السفَّاح والمنصور. وفي رواية: حتى نسلمَها إلى عيسى ابن مريم. وقد رُوي مرفوعًا ولا يَصِحّ، ولا وَقْفُهُ أيضًا. وذكر الخطيبُ أنَّ أُمَّهُ سلامهَ قالتْ: رأيتُ حين حملتُ به كأنه خرجَ مني أسَد، فزَأرَ واقفًا على يدَيْه، فما بقي أسدٌ حتى جاء فسجَدَ له. وقد رأى المنصورُ في صغره منامًا غريبًا، كان يقول: ينبغي أنْ يُكتَبَ في ألواحِ الذهب، ويُعلَّق في أعناقِ الصبيان، فقال: رأيتُ كأنِّي في المسجدِ الحرام، وإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الكعبة والناسُ مجتمعون حولَها، فخرج من عند منادٍ أين عبدُ اللَّه؟ فقام أخي السفَّاحُ يتخطَّى الرجالَ حتى جاء بابَ الكعبة، فأخذ بيده، فأدخلَهُ إيَّاها، فما لبِثَ أنْ خرجَ ومعه لواء أسود، ثم نودي أين عبد اللَّه؟ فقمت أنا وعمي عبد اللَّه بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبةِ فدخلتُها، فإذا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبلال، فعقَدَ لي لواءً وأوْصَاني بأُمَّتِه وعَمَّمَني عِمَامة كُورُها ثلاثةٌ وعشرون كُورًا، وقال:"خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة"

(1)

.

وقد اتَّفقَ سجنُ المنصور في أيام بني أمية، فاجتمع به نوبَخْتُ المنجِّم، وتوسَّمَ فيه الرِّيَاسة فقال له: مِمَّنْ تكون؟ فقال: من بني العباس. فلمَّا عرف منه نسَبَه وكنيتَه قال: أنتَ الخليفةُ الذي تلي الأرض. فقال له: وَيْحَك! ماذا تقول؟ فقال: هو ما أقولُ لك، فضَعْ لي خطَّك في هذه الرُّقْعةِ أنْ تُعطيَني شيئًا إذا وَليت. فكتب له، فلمّا ولي المنصور أعطاه، وأسلم نوبختُ على يديه، وكان قبلَ ذلك مَجُوسيًّا، ثم كان من أخصِّ أصحابِ المنصور. وقد حجَّ المنصورُ بالناس سنةَ أربعين ومئة، وأحرَمَ من الحِيرَة. وفي سنةِ أربعٍ وأربعين، وفي سنة سبعٍ وأربعين، وفي سنةِ ثنتَيْنِ وخمسين، ثم في هذه السنةِ التي ماتَ فيها. وبَنَى بغدادَ والرُّصَافة، والرَّافِقَة، وقصرَهُ الخُلْد.

قال الربيعُ يونس الحاجب: سمعتُ المنصور يقول: الخلفاءُ أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. والملوكُ أربعة: معاوية، وعبدُ الملك بن مروان، وهشامُ بن عبد الملك، وأنا

(2)

.

وقال مالك: قال لي المنصور: مَنْ أفضَلُ الناسِ بعدَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: أبو بكر، وعمر. فقال: أصبت. وذلك رأيُ أميرِ المؤمنين.

وعن إسماعيل الفِهْري قال: سمعتُ المنصور على مِنبر عرَفَة يوم عَرَفةَ يقول: أيها الناس، إنَّما أنا سلطانُ اللَّه في أرضِه، أسوسُكم بتوفيقِهِ ورُشْدِه، وخازنُهُ على مالِه، أقسِمُه بإرادته وأُعطيه

(3)

بإذنه، وقد

(1)

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1/ 64، 65)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (32/ 305، 306).

(2)

تاريخ ابن عساكر (32/ 309).

(3)

في الأصل: وأعطيتُه، وفي بعض النسخ: وأُعطيه بإذنه.

ص: 368

جعلني اللَّه عليه قُفْلًا، فإنْ شاء أن يفتحَني لأعطياتِكُمْ وقَسْمِ أرزاقِكم فتَحَني، وإذا شاء أن يقفِلَني قفلني فارغبوا إلى اللَّه أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وَهبَكم فيه من فضلِه ما أعلمكم به في كتابهِ إذ يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، أنْ يُوفِّقَني للصواب، ويُسَدِّدَني للرَّشاد، ويُلْهِمَني الرأفةَ بكم، والإحسان إليكم، ويفتحَني لأُعطياتِكم، وقسم أرزاقكم بالعَدْلِ عليكم، فإنه سميعٌ مُجِيب

(1)

.

وقد خطب يومًا فاعترضَهُ رجلٌ وهو يُثني على اللَّهِ عز وجل فقال: يا أمير المؤمنين، اذكُرْ مَنْ أنتَ ذاكرهُ، واتَّقِ اللَّه فيما تأتيهِ وتذَره. فسكتَ المنصورُ حتى انتهى كلامُ الرجل، فقال: أعوذُ باللَّه أنْ أكونَ مِمَّنْ قال اللَّه عز وجل فيه {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] أو أنْ أكونَ جبَّارًا عَصِيًّا، أيها الناس، إنَّ الموعظةَ علينا نزلَتْ، ومن عندِنا نبتَتْ. ثم قال للرجل: ما أظنُّكَ في مقالتكَ هذه تريدُ وجهَ اللَّه، وإنما أردتَ أنْ يُقالَ عنك: وَعَظَ أميرَ المؤمنين. أيُّها الناس، لا يغرَّنَّكم هذا، فتفعلوا كفعلِه. ثم أمَرَ به فاحتفِظَ به وعاد إلى خُطبتِهِ فأكملَها، ثم قال لِمَنْ هو عندَه: اعرِضْ عليه الدنيا، فإنْ قبِلَها فأعلِمْني، وإن رَدَّها فأعلِمني. فما زال الرجلُ الذي عنده حتى أخذَ المالَ ومالَ إلى الدنيا، فولَّاهُ الحِسْبَةَ والمظالم، وأدخلَهُ على الخليفة في بِزَّةٍ حسنَة، وثيابٍ وشارةٍ وهيئةٍ دُنيويَّة، فقال له الخليفة: ويحك! لو كنتَ مُحِقًّا مُريدًا وجهَ اللَّهِ بما قلتَ على رؤوس الناس لَمَا قَبِلْتَ شيئًا مِمّا أرى، ولكنْ أردتَ أنْ يُقالَ عنك: إنَّكَ وعظتَ أميرَ المؤمنين، وخرجتَ عليه. ثم أمَرَ بِهِ فضُرِبَت عُنقُه.

وقد قال المنصور لابنه الْمَهْدي: إنَّ الخليفةَ لا يُصِلحُه إلَّا التقوى، والسلطانُ لا يُصِلحهُ إلَّا الطاعة، والرعيَّةُ لأنَّلِحُها إلَّا العَدْل، وأولى الناسِ بالعَفْو أقدَرُهم على العُقوبة، وأنقَصُ الناسِ عقلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ دونَه. وقال أيضًا: يا بُني، استدِمِ النعمةَ بالشُّكر، والقُدرةَ بالعَفْو، والطاعةَ بالتأليف، والنصرَ بالتواضُعِ والرحمةِ للناس، ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا، ونصيبَكَ من رحمةِ اللَّه.

وحضَرَ عندَهُ مباركُ بن فَضَالةَ يومًا وقد أمَرَ برجل أنْ يُضرَبَ عُنقُه، وأحضرَ النِّطْعُ والسيف، فقال له مبارك: سمعتُ الحسين يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ القيامةِ نادَى منادٍ: لِيَقُمْ مَنْ كان أجرُهُ على اللَّه. فلا يقوم إلَّا مَنْ عَفَا". فأمَرَ بالعَفْوِ عن ذلك الرجل. ثم أخَذَ يُعَدِّدُ على جُلسائه عظيمَ جرائمِ ذلك الرجل، وما صنَعَه.

وقال الأصمعي: أُتي المنصورُ برجل ليعاقِبَه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقامُ عَدْل، والعَفْوُ فَضْل، ونُعِيذُ أميرَ المؤمنين باللَّه أنْ يَرْضَى لنفسِهِ بأوْكَسِ النَّصِيبَيْن، وأدْنَى القِسْمَيْن، دون أرفعِ الدرجتَيْن. قال: فعَفَا عنه.

(1)

تاريخ ابن عساكر (32/ 310، 311).

ص: 369

وقال الأصمعي: قال المنصورُ لرجلٍ من أهلِ الشام: احْمَدِ اللَّهَ يا أعرابي الذي دفع عنكم الطاعونَ بولايتِنا. فقال: إنَّ اللَّه لا يَجْمَعُ علينا حَشَفًا وسُوءَ كَيْل

(1)

؛ وِلايتَكم والطاعون.

والحكاياتُ في ذكرِ حِلْمِهِ وعفوِهِ كثيرةٌ جدًا. ودخل بعضُ الزُّهَّاد إلى المنصور فقال: إنَّ اللَّهَ أعطاكَ الدنيا بأسرِها، فاشترِ نفسَكَ ببعضِها، واذكُرْ ليلة تبيتُ في القبر لم تَبِتْ قبلَها، ليلةً تَمْخَضُ عن يومٍ لا ليلةَ بعدَه. قال: فأفحَمَ المنصورَ قولُه، وأمَرَ له بمال، فقال: لو احتجتُ إلى مالك لما وعظتُك.

ودخل عمرو بن عُبيد القدَرِيُّ على المنصور، فأكرَمَهُ وعظَّمَهُ وقرَّبَه، وسأله عن أهلِهِ وعِيَالِه، ثم قال له: عِظْنِي. فقرأ عليه سورةَ الفَجْر {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. فبكى المنصورُ بُكاء شديدًا، حتى كأنَّهُ لم يسمَعْ بِهذه الآياتِ من قبل، ثم قال له: زِدْنِي. فقال: إن اللَّه قد أعطاكَ الدنيا بأسرِها فاشترِ نفسَكَ ببعضِها. وإنَّ هذا الأمرَ كان لِمَنْ قبلَكَ ثم صار إليك، ثم هو صائرٌ لِمَنْ بعدَك، واذكُرْ ليلةً تُسْفِرُ عن يومِ القيامة. فبكى المنصورُ أشدَّ من بُكائه الأول، حتى اختلفَت أجفانُه

(2)

؛ فقال له سليمان بن مجالد: رِفْقًا بأميرِ المؤمنين. فقال عمرو: وماذا على أميرِ المؤمنين أنْ يبكيَ من خشيةِ اللَّه عز وجل؟! ثم أمر له المنصور بعشرةِ آلاف درهم، فقال: لا حاجةَ لي فيها. فقال المنصور: واللَّه لتأخذَنَها. فقال: واللَّهِ لا أخَذْتُها. فقال له المهدي وهو جالسٌ في سوادِه وسيفِه إلى جانبِ أبيه: أيحلفُ أميرُ المؤمنين وتحِلفُ أنت؟ فالتفت إلى المنصور فقال: ومَنْ هذا؟ فقال: هذا ابني محمد الْمَهْدِي، وليُّ العَهْدِ من بعدي. فقال عمرو إنَّك سَمَّيتَهُ اسمًا لم يستحقَّه بعملِهِ هذا، وألبستَهُ لَبُوسًا ما هو لَبُوسُ الأبرار، ولقد مهدتَ له أمرًا أمتَعُ ما يكونُ به أشغَلُ ما يكونُ عنه. ثم التفتَ إلى المهديِّ فقال: يا ابنَ أخي، إذا حلَفَ أبوكَ وحَلَفَ عَمُّك فلأَنْ يَحْنَثَ أبوكَ أيْسَرُ من أن يَحنث عمُّك، لأنَّ أباك أقدَرُ على الكفَّارَةِ من عمِّك. ثم قال المنصور: يا أبا عثمان هل مِنْ حاجة؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: لا تبعَثْ إليَّ حتى آتِيكَ، ولا تعطِني حتى أسألَك. فقال المنصور: إذًا واللَّهِ لا نلتقي. فقال عمرو: عن حاجتي سألتَني. فودَّعَهُ وانصرف. فلمّا وَلَّى أمَدَّهُ بصَرَهُ وهو يقول:

(1)

قال أبو عبيد: من أمثالهم: أحَشَفًا وسُوءَ كَيْل! قال أبو بكر: يُقال: كِلْتُ الشيءَ أَكِيلُهُ كَيْلًا، وأوفاني كِيلَة حَسَنة. ومن أمثالهم أحشَفًا وسوءَ كِيْلَة! هكذا أتى المثل كِيْلة لا كَيْل. فصل المقال في شرح كتاب الأمثال ص (374). وفي مجمع الأمثال (1/ 207): الكِيلَةُ فِعْلَة من الكَيْل، وهي تدلُّ على الهيئة والحالة، نحو الرُّكْبة والجِلْسة، والحَشَفُ أردَأ التمر، أيْ أتجمعُ حشَفًا وسُوءَ كَيْل؟ يُضرَبُ لِمَنْ يَجْمَعُ بين خصلتَيْنِ مكروهتين. وفي جمهرة الأمثال (1/ 101) ونصبوا حَشَفًا بفعل مضمر يريدون: أتجمع حشفًا؟ وعطفوا الكِيلَةَ عليه.

(2)

كذا في (ق) وفي (ب): "اختلف جنباه"، وفي (ح):"احتلف جفناه"، ولعل الصواب "احتفلت أجفانه"، بالحاء المهملة، أي امتلأت بالدموع.

ص: 370

كلُّكمْ يمشي رُوَيْدْ

كُلُّكُم يَطْلُبُ صَيْدْ

غيرَ عَمْرِو بنِ عُبَيْد

ويقال: إنَّ عمرو بن عبيد أنشد المنصورَ قصيدة في موعظتِهِ إياه وهي قوله:

يا أيهذا الذي قد غَرَّهُ الأمَلُ

ودُونَ ما يأمُلُ التنغيصُ والأجَلُ

ألا تَرَى أنَّما الدنيا وزينتها

كمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلُّوا ثُمَّتَ ارتحلوا

حُتُوفُها رَصَدٌ وعَيشُها نَكَدٌ

وصَفوُهُا كَدَرٌ ومُلْكُها دُوَلُ

تظَلُّ تُفْزِعُ بالرَّوْعاتِ ساكنَها

فما يَسُوغُ له لِينٌ ولا جَدَلُ

كأنَّهُ للمنَايا والرَّدَى غَرَضٌ

تظلُّ فيه بناتُ الدَّهْر تَنْتَضِلُ

(1)

تُدِيرُهُ ما أدارَتْه

(2)

دوائرها

منها المصيبُ ومنها المخطئُ الزَّلِلُ

والنفسُ هاربةٌ والموتُ يطلبُها

وكلُّ عَثْرَةِ رِجلٍ عندَها جَلَلُ

والمرءُ يسعى بما يسعى لوارِثِهِ

والقبرُ وارثُ ما يَسْعَى له الرجل

(3)

وقال ابن دُريد عن الرِّياشي، عن محمد بن سلام، قال: رأتْ جاريةٌ للمنصور ثوبَهُ مرقوعًا، فقالتْ: خليفةٌ وقميصُهُ مَرْقوع! فقال: ويحك! أمَا سمعتِ ما قاله ابنُ هَرْمَة:

قد يُدرِكُ الشرفَ الفتى ورداؤه

خَلَقٌ وبعضُ قميصِهِ مَرْقوعُ

ومن

(4)

شعرِهِ لَمَّا عزَمَ على قتلِ أبي مسلم:

إذا كنتَ ذا رأيٍ فكُنْ ذا عَزِيْمَةٍ

فإنَّ فسادَ الرأيِ أنْ يترَدَّدا

ولا تُمْهِلِ الأعداءَ يومًا لِغَدْرَةٍ

وبادِرْهُمُ أنْ يَمْلِكوا مثلَها غَدا

(5)

(1)

في (ب، ق): تنتقل، وفي (ح): تنتفل، والمثبت من المدهش لابن الجوزي ص (194).

(2)

في (ق): "تديره ما تجور به دوائرها"، وهو خطأ، وفي (ب):"أردته"، وفي (ح):"أرادته"، والمثبت من تاريخ بغداد والمدهش.

(3)

الأبيات بتمامها في تاريخ بغداد (12/ 166)، والمنتظم لابن الجوزي (8/ 58، 59)، وفي المدهش ص (194) ما عدا البيت السادس.

(4)

في نسخة (ق) كرَّر الناسخ الخبر الذي مضى في الصفحة السابقة الذي يبتدئ بقوله: "ودخل بعض الزهاد". وليس هذا التكرار في (ب، ح).

(5)

البيت الأول في جمهرة الأمثال (2/ 50)، وهما في الحلة السيراء (1/ 34)، والمنتظم (8/ 10)، وتاريخ الخلفاء ص (268)، وبعده في المستطرف (1/ 167) منسوبًا إلى علي رضي الله عنه:

وإن كنت ذا عزمٍ فأنفِذْهُ عاجلًا

فإنَّ فسادَ العَزْمِ أن يتقيَّدا.

وروايتهم "بقدرة" بدل "بغدرة".

ص: 371

ولما قتله ورآه طَريحًا بين يديه قال:

قد اكتنفَتْك خَلَّاتٌ ثلاثٌ

جَلَبْنَ عليك مَحْتوم الحِمَام

خِلافُكَ وامتناعُكَ من يَمِيني

وقَوْدُكَ للجماهيرِ العِظَامِ

ومن شعره أيضًا:

المرءُ يأمُلُ أنْ يَعِيـ

ـش وطولُ عُمْرٍ قد يَضُرُّهْ

تَبْلَى بشاشَتُهُ ويَبْـ

ـقى بعدَ حُلْوِ العيشِ مُرُّهْ

وتَخُونُهُ الأيامُ حَتْـ

ـتَى لا يَرَى شيئًا يَسُرُّهْ

كم شامِتٍ بي إنْ هَلَكْـ

ـتُ وقائلٍ للَّهِ دَرُّهُ

(1)

قالوا: وكان المنصور في أولِ النهار يتصدَّى للأمر بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكر، والولايات والعزل، والنظر في مصالح العامَّة، فإذا صلى الظهر دخل منْزِلَهُ واستراح إلى العصر، فإذا صلَّاها جلس لأهلِ بيتِه، ونظرَ في مصالحِهِم الخاصَّة، فإذا صلَّى العِشاء نظر في الكتب والرسائل الواردَةِ من الآفاق، وجلس عندَهُ مَنْ يُسَامِرُهُ إلى ثلثِ الليل. ثم يقومُ إلى أهله، فينامُ في فراشِهِ إلى الثُّلُثِ الآخِر، فيقومُ إلى وضوئه وصلاتِه حتى يتفجر الصباح، ثم يخرجُ فيُصَلِّي بالناس، ثم يدخلُ فيجِلسُ في إيوانِه.

وقد وَلَّى بعضَ العُمَّال على بلد، فبلَغَهُ أنه قد تصدَّى للصَّيد، وأعَدَّ لذلك كِلابًا وبُزَاةً، فكتب إليه: ثَكِلَتْكَ أمُّك وعشيرتُك، وَيْحك! إنا إنما استكفيناكَ واستعمَلْناك على أمورِ المسلمين، ولم نستكفِكَ أمورَ الوحوش في البَراري، فسَلِّمْ ما تَلِي من عَمَلِنا إلى فلان، والْحَقْ بأهلك مَلُومًا مَدْحورًا.

وأُتِي يومًا بخارجيٍّ قد هزَمَ جيوشَ المنصور غيرَ مرَّة، فلمّا وقف بين يدَيْهِ قال له المنصور: وَيْحَك يا بن الفاعلة، مِثلُكَ يَهْزِمُ الجيوش! فقال الخارجي: وَيْلَك! سوأةً لك، بيني وبينك أمسِ السيفُ والقتل واليومَ القَذْفُ والسبّ، وما يؤمنكَ أنْ أرُدَّ عليكَ وقد يئستُ من الحياة فما أستقبلُها أبدًا. قال: فاستَحى منه المنصورُ وأطلقَه، فما رأى له وجهًا إلى الحَوْل.

وقال لابنِهِ لَمَّا ولَّاهُ العَهْدَ: يا بُنَى، ائتدِمِ النعمةَ بالشُّكر، والقُدْرةَ بالعَفْو، والنصرَ بالتواضُع، والتألُّفَ بالطاعة. ولا تنسَ نَصِيبَك من الدنيا، ونصيبَكَ من رحمةِ اللَّه.

وقال أيضًا: يا بُنَيّ، ليس العاقلُ مَنْ يحتالُ للأمرِ الذي وقَعَ فيه حتى يخرُجَ منه، ولكنِ العاقلُ الذي يحتالُ للأمرِ الذي غَشِيَهُ حتى لا يقعَ فيه. وقال المنصور: يا بُني، لا تجلسْ مجلسًا إلَّا وعندَكَ من أهلِ

(1)

الأبيات في تاريخ بغداد (10/ 60).

ص: 372

العِلْم

(1)

مَنْ يُحَدِّثُك، فإنَّ الزُّهْريَّ قال: علمُ الحديثِ ذَكَرٌ لا يُحِبُّه إلا ذُكْرانُ الرجال، ولا يكرَهُهُ إلَّا مؤنَّثوهم. وصدَقَ أخو زُهْرَة.

وقد كان المنصورُ في شيبتِه يطلبُ العلمَ من مظانِّه، والحديثَ والفقه، فنال جانبًا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أميرَ المؤمنين، هل بقي شيءٌ من اللذاتِ لم تنَلْهُ؟ قال: شيءٌ واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدِّث للشيخ: مَنْ ذكرتَ رحمك اللَّه. فاجتمع وزراؤه وكتَّابه وجلسوا حولَهُ وقالوا: لِيُمْلِ علينا أميرُ المؤمنينَ شيئًا من الحديث. فقال: لَسْتُم بِهم، إنما هُمْ الدَّنِسَةُ ثيابُهم، المشقَّقةُ أرجلُهم، الطويلةُ شعورُهم، رُوَّادُ الآفاق، وقُطَّاع المسافات، تارةً بالعِراق، وتارةً بالحِجَاز، وتارةً بالشام، وتارةً باليمن، فهؤلاءِ نَقَلَةُ الحديث.

وقال يومًا لابنه المهدي: كم عندَكَ من دابَّة؟ فقال: لا أدري. فقال: هذا هو التقصير، فأنتَ لأمرِ الخلافةِ أشدُّ تضييعًا، فاتق اللَّه يا بُني.

وقالتْ خالصةُ إحدى حَظِيَّاتِ المهدي: دخلتُ يومًا على المنصور وهو يشتكي ضِرْسَه، ويداهُ على صُدْغَيْه، فقال لي: كم عندكِ من المال يا خالصة؟ فقلت: ألفُ دِرهم. فقال: ضَعِي يدَكِ على رأسي واحلِفِي. فقلتُ: عندي عشرةُ آلافِ دينار. قال: اذهبي فاحمليها إفي. قالت: فذهبتُ حتى دخلتُ على سيِّدي المهدي وهو مع زوجتِه الخَيْزُرَان، فشكَوْتُ ذلك إليه، فوكزَنِي برجلِهِ وقال: وَيْحَك! إنه ليس بِه وَجَع، ولكنِّي سألتُه بالأمس مالًا فتمارض، وإنَّه لا يسَعُكِ إلا ما أمَرَكِ به. فذهبَتْ إليه خالصةُ ومعها عشرةُ آلاف دينار، فاستدعَى بالمهدي، فقال له: تشكو الحاجةَ وهذا كلُّه عند خالصة؟! وقال المنصور لخازِنِه: إذا علمتَ بِمَجِيء المهدي فأتِني بِخُلْقَان الثياب قبلَ أنْ يجيء. فجاء بها فوضعَها بين يديه، ودخل المهدي والمنصور يُقَلِّبُها، فجعلَ المهديُّ يضحك

(2)

، فقال: يا بُني، مَنْ ليس لَهُ خَلَقٌ ليس له جديد، وقد حَضَر الشتاء، فنحتاج نُعِين العيالَ والولد. فقال المهدي: عليَّ كسوةُ أميرِ المؤمنين وعيالهِ. فقال: دونك فافعَلْ.

وذكر ابنُ جرير

(3)

عن الهيثم، أنَّ المنصور أطلَقَ في يومٍ واحد لبعضِ أعمامِه ألفَ ألفِ درهم، وفي هذا اليوم فرَّق في بيته عشرةَ آلاف درهم، ولا يُعلم خليفةٌ فرَّق مثلَ هذا في يوم واحد. وقرأ بعضُ القرَّاء عند المنصور {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]. فقال: واللَّه لولا أنَّ المالَ

(1)

في (ق): "من أهل الحديث"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

في (ح): "فجعل المنصور يضحك"، والمثبت من (ب، ق).

(3)

يعني الطبري في تاريخه (4/ 532).

ص: 373

حِصْنٌ للسُّلطان، ودِعَامَةٌ للِّدين والدُّنيا وعِزِّهما ما بِتُّ ليلةً واحدةً وأنا أخزُنُ

(1)

منه دينارًا ولا درهمًا، لِمَا أجِدُ لِبَذْلِ المالِ من اللذَّة، ولمَا أعلمُ في إعطائه من جزيلِ المثوبة.

وقرأ عنده قارئٌ آخر {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، الآية فقال: ما أحسَنَ ما أدَّبَنا رَبَّنا عز وجل!.

وقال المنصور: سمعتُ عليَّ بنَ عبدِ اللَّه يقول: سادةُ أهلِ الدنيا الأسخياء، وسادةُ أهلِ الآخرةِ الأتقياء.

ولما عزَمَ المنصورُ على الحج هذه السنة -أعني سنة ثمان وخمسين ومئة- دعا ولدَهُ المهديَّ فأوصاهُ في خاصَّةِ نفسِه، وبأهلِ بيتِه، وبسائرِ المسلمين خيرًا، وعلَّمه كيف يفعلُ الأشياء، وتُسَدُّ الثغور، وأوصاه بوصايا يطولُ بَسْطُها. وحَرَّجَ عليه أنْ لا يفتَحَ شيئًا من خزائنِ المسلمينَ حتى يتحقَّق وفاتَه، فإنَّ بِها من الأموالِ ما يكفي المسلمين لو لم يُجْبَ إليهم من الخراجِ درهمٌ عشرَ سنين. وعهد إليه أن يقضيَ ما عليه من الدَّين وهو ثلاثمئة ألف دينار، فإنه لم يرَ قضاءَها من بيتِ المال. فامتثل المهديُّ ذلك كلَّه. وأحرم المنصورُ بِحَجٍّ وعُمرة من الرُّصافة، وساقَ بَدَنَةً وقال: يا بُني إني وُلدت في ذي الحِجَّة، وقد وقع لي أنْ أموتَ في ذي الحِجَّة، وهذا الذي حَدَا بي

(2)

على الحجِّ عامي هذا. وودَّعَهُ وسار. واعتراهُ مرضُ الموتِ في أثناءِ الطريق، فما دخل مكة إلَّا وهو ثَقِيلٌ جدًّا، فلمَّا كان بآخرِ مَنْزلٍ نزلَهُ دون مكة إذا في صدر مَنْزله مكتوب:[بسم اللَّه الرحمن الرحيم]

(3)

أبا جعفرٍ حانَتْ وفاتُك وانقضَتْ

سِنُوكَ وأمرُ اللَّه لا بُدَّ واقعُ

أبا جعفر هل كاهنٌ أو منجِّمٌ

بك اليومَ من كَرْبِ المنيَّةِ مانعُ

فدعا بالحَجَبَة، فأقرأهم ذلك، فلم يرَوْا شيئًا، فعرف أنَّ أجلَهُ قد نُعِيَ إليه.

قالوا: ورأى المنصور في منامه، ويُقال بل هتف به هاتف وهو يقول:

أما وربِّ السُّكُونِ والحَرَكِ

إنَّ المنايا كثيرةُ الشَّرَكِ

عليكِ يا نفسُ إنْ أسأتِ وإنْ

أحسنتِ يا نفسُ كان ذاكَ لكِ

ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا

دارَتْ نجومُ السماءِ في الفَلَكِ

إلَّا بِنَقْلِ السُّلطانِ عن مَلِكٍ

إذا انقَضَى مُلْكُهُ إلى مَلِكِ

(1)

في (ق): "أحرز"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

في (ق): "جرأني"، تصحيف، والمثبت من (ب، ح).

(3)

هذه البسملة انفردت بها نسخة (ق).

ص: 374

حتى يُصِيرَانِهِ إلى مَلِكٍ

ما عِزُّ سلطانِهِ بمُشْتَرِكِ

(1)

ذاك بَدِيعُ السماءِ والأرضِ والْـ

ـمُرسِي الجبالِ المسخِّرُ الفَلَكِ

(2)

فقال المنصور: هذا أوانُ حضورِ أجَلِي وانقضاءِ عُمري. وكان قد رأى قبل ذلك في قصرِهِ الخُلد الذي بناهُ وتأنَّقَ فيه منامًا أفزَعَه، فقال للربيع: ويحكَ يا ربيع! لقد رأيتُ منامًا هالَني، رأيتُ قائلًا وقف في بابِ هذا القصرِ وهو يقول:

كأنِّي بهذا القصر قد بادَ أهلُهُ

وأوحشَ منهُ أهلُهُ ومنازِلُهْ

وصار رئيسُ القصرِ من بعدِ بَهْجةٍ

إلى جدَثٍ تُبْنَى عليه جَنَادِلُهُ

(3)

فما أقام في الخُلد إلا أقلَّ من سنةٍ حتى مرض في طريقِ الحجّ؛ ودخل مكة مُدْنفًا ثَقيلًا، وكانتْ وفاتُه ليلةَ السبت، لست -وقيل لسبع- مضَيْنَ من ذي الحجَّة، وكان آخرَ ما تكلَّمَ به أنْ قال: اللهمَّ بارك لي في لقائِك. وقيل: إنه قال: يا ربّ، إنْ كنتُ عصَيْتُكَ في أمور كثيرة، فقد أطعتُكَ في أحبِّ الأشياءِ إليك؛ شهادة أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّه مُخْلصًا. ثم مات. وكان نقشُ خاتِمِه: اللَّه ثقة عبدِ اللَّه، وبه يؤمن. وكان عمرُهُ يومَ وفاته ثلاثًا وستين سنةً على المشهور، منها ثنتانِ وعشرون سنةً خليفةً، ودُفن بباب الْمَعْلاة رحمه الله.

قال ابنُ جَرير

(4)

: ومما رُثِيَ به قولُ سَلْم الخاسِر الشاعر:

عجَبًا للذي نَعَى الناعيانِ

كيف فاهَتْ بِمَوْتِهِ الشفتانِ

مَلِكٌ إنْ عَدَا على الدهرِ يومًا

أصبح الدهرُ ساقطًا للجِرَانِ

ليت كَفًّا حَثَتْ عليهِ تُرابًا

لم تَعُدْ في يمينِها بِبَنَانِ

حين دانَتْ له البلادُ على العَسْـ

ـفِ وأغْضَى من خَوْفِهِ الثَّقَلانِ

أين رَبُّ الزوراءَ قد قلَّدَتْهُ الـ

ـمُلْكَ عشرين حِجَّةً واثنتانِ

إنَّما المرءُ كالزنادِ إذا ما

أخذَتْهُ قوادِحُ النيرانِ

ليس يَثْني هَواهُ زَجْرٌ ولا يَقْـ

ـدحُ في حَبْلِهِ ذوو الأذهانِ

قَلَّدَتْهُ أعِنَّةُ الملكِ حتى

قادَ أعداءَهُ بغيرِ عِنَانِ

يكْسرُ الطَّرْفُ دُونهُ وترى الأيْـ

ـدي من خَوْفِهِ على الأذقانِ

(1)

كذا في (ق) وتاريخ الطبري والكامل في التاريخ، ورواية (ب، ح): "لا ينقضي ملكُهُ إلى مَلِكِ".

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 543)، والكامل في التاريخ (5/ 215).

(3)

البيتان في المنتظم (8/ 220).

(4)

في تاريخه تاريخ الطبري (4/ 539، 540).

ص: 375

ضمَّ أطرافَ مُلْكِهِ ثم أضْحَى

خَلْفَ أقْصَاهُمُ ودون الدَّاني

هاشميُّ التَّشْميرِ لا يَحْملُ الثَّقْـ

ـلَ على غاربِ الشَّرُودِ الهدَانِ

ذو أناةٍ يَنْسى لها الخائفُ الخَوْ

فَ وعَزْمٍ يَلْوي بكُلِّ جَنانِ

ذهبَتْ دونه النفوسُ حِذَارًا

غيرَ أنَّ الأرواحَ في الأبدان

(1)

وقد دُفن عند باب الْمَعْلاةِ بمكة، ولا يُعْرَفُ قَبْرُه، لأنه أعمى قبرَه، فإنَّ الرَّبيعَ الحاجِبَ حَفرَ مئةَ قبرٍ ودفنه في غيرِها لئلا يُعرف.

‌ذكرُ أولادِ المنصور

محمد الْمَهْدي، وهو وليُّ عَهْدِه، وجعفر الأكبر، مات في حياته، وأمُّهما أرْوَى بنتُ منصور، وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمُّهم فاطمةُ بنتُ محمد، من ولَدِ طَلْحَة بنِ عُبيدِ اللَّه. وجعفر الأصغر من أُمِّ ولدٍ كُرْدِيَّة. وصالحٌ المسكين من أُمِّ ولَدٍ رُوميَّة، ويُقال لها: قالى الفراشة. والقاسم من أُمِّ ولَدٍ [أيضًا، والعَاليةُ] من امرأةٍ من بني أُميَّة.

‌ذكرُ خِلافةِ المَهْديِّ بنِ المنصور

لمَّا ماتَ أبوه لِسِتٍّ أو لِسَبْعٍ مَضَيْنَ من ذي الحجَّة من سنةِ ثمانٍ وخمسين ومئة؛ أُخذتِ البيعةُ للمَهْدي من رؤوسِ بني هاشم، والقُوَّاد الذين هُمْ مع المنصور في الحجِّ قبلَ دَفْنِه؛ وبعَثَ الربيعُ الحاجبَ بالبَيْعَةِ وبالبُرُدِ والقَضيب

(2)

إلى الْمَهْدي وهو ببغداد؛ فدخل عليه البريدُ بذلك يومَ الثلاثاء النصف من ذي الحجَّة، فسلّم عليه بالخلافة، وأعطاه الكُتبَ بالبيعة، وبايَعَهُ أهلُ بغداد. ونفَذَتْ بيعتُهُ إلى سائرِ الآفاق.

وذكر ابنُ جرير

(3)

أنَّ المنصور قبلَ موتِهِ بيوم تَحَامَلَ وتَسَاند، واستدعَى بالأمراء، فجدَّدَ البيعةَ لابنِهِ المهدي، فتسارعوا إلى ذلك، وتبادروا إليه.

وحجَّ بالناس في هذه السنةِ إبراهيمُ بنُ يَحْيى بنِ محمد بنِ علي بن عبدِ اللَّه بنِ عباس؛ عن وصيَّةِ عمِّهِ

(1)

الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (4/ 540).

(2)

في (ق):. . . بالبيعة مع البرد إلى المهدي، والمثبت من (ب، ح). ورواية الطبري تاريخه (4/ 545 - 547) مطولة، وفيها:"وبعثا بعد بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروري؛ وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة، ثم خرجوا من مكة، وسار عبد اللَّه بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور".

(3)

في تاريخه تاريخ الطبري (4/ 546).

ص: 376

المنصور، وهو الذي صلَّى عليه. وقيل: إنَّ الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى وليُّ العهد من بعدِ المهدي، والصحيح الأول، لأنه كان نائبَ مكةَ والطائف، وعلى إمرةِ المدينة عبدُ الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمر بن زهير الضبِّي أخو المسيب بن زهير أمير الشرطة للخليفة، وعلى خراسان حُميد بن قَحْطَبة، وعلى خَرَاجِ البصرةِ وأرضِها عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها وقضائها عبدُ اللَّه بن الحسن العَنْبَري، وعلى أحداثها سعيد بن دَعْلَج.

قال الواقدي

(1)

: وأصابَ النَّاسَ في هذه السنة وباءٌ شديد؛ فتُوفِّي فيه خلقٌ كثير، وجَمٌّ غَفير، منهم:

أفلح بن حُميد.

وحَيوَةُ بن شُريح.

ومعاوية بن صالح بمكة.

وزُفَر بن الهذيل

(2)

بن قيس بن سُليم بن مكمل بن ذُهْل بن ذُؤيب بن جَذِيمة بن عمرو بن حنجور بن جُنْدب بن العَنْبَر بن عمرو بن تميم بن مر بن أُدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعَدِّ بن عدنان

(3)

التميميُّ العَنْبَريُّ الكوفيُّ الفقيهُ الحنفي؛ أقدَمُ أصحابِ أبي حنيفةَ وفاةً وأكثَرُهُم استعمالًا للقِيَاس. وكان عابدًا اشتغل أولًا بعِلْمِ الحديث، ثم غلَبَ عليه الفقهُ والقياس، وُلد سنةَ ستَّ عشرةَ ومئة، وتوفي سنةَ ثمانٍ وخمسين ومئة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا.

‌ثم دخلت سنة تسع وخمسون ومئة

استُهلَّتْ هذه السنةُ وخليفةُ الناس أبو عبدِ اللَّه محمد بن المنصور المهدي؛ فبعث في أولها العباسَ بن محمد إلى بلادِ الرُّوم في جيشٍ كثِيف، وركب معَهم مُشَيِّعًا لهم، فساروا إليها، فافتتحوا مدينةً عظيمةً للرُّوم، وغَنِموا غنائمَ كثيرةً ورجَعوا سالِمينَ لم يُفقَدْ منهم أحد.

وفيها تُوفّي حُميد بن قَحْطبة نائبُ خراسان، فولَّى المهديُّ مكانَهُ أبا عَوْن عبدَ الملك بن يزيد، وولَّى حمزةَ بن مالك سِجِسْتان، وولَّى جبريلَ بنَ يحيى سَمَرْقَنْد.

(1)

انظر تاريخ الطبري (4/ 547).

(2)

ترجمته في تسمية فقهاء الأمصار ص (182) للنسائي، مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ص (170)، طبقات المحدثين بأصبهان (1/ 450)، الفهرست لابن النديم ص (285)، طبقات الفقهاء ص (141)، وفيات الأعيان (2/ 317)، سير أعلام النبلاء (8/ 38)، العبر (1/ 229)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية ص (243)، النجوم الزاهرة (2/ 32)، شذرات الذهب (1/ 243).

(3)

بدل هذا النسب في (ق): قوله: " ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 377

وفيها بنى المهديُّ مسجدَ الرُّصافة وخندقَها. وفيها جهَّز جيشًا كثيفًا إلى بلادِ الهند، فوصلوا إليها في السنة الآتية، وكان من أمرِهم ما سنذكرُه. وفيها تُوفي نائبُ السِّند مَعْبَد بن الخليل فولَّى المهديُّ مكانَهُ رَوْحَ بن حاتم بمشورةِ وزيرِه أبي عبدِ اللَّه. وفيها أطلق المهديُّ مَنْ كان في السُّجون إلَّا منْ كان محبوسًا على دم، أو منْ سَعَى في الأرض فسادًا، أو منْ كان عندَهُ حَقٌّ لأحد. وكان من جُملة من أُخرج من الْمُطْبَق يعقوبُ بن داود مولى بني سُليم، والحسن بن إبراهيم بن عبدِ اللَّه بن حسن، وأمرَ بصيرورةِ حسنٍ هذا إلى نصير الخادم لِيَحْتَرِزَ عليه. وكان الحسنُ قد عَزَمَ على الهرَبِ من السِّجْنِ فبلَ خروجِهِ منه، فلما خرجَ يعقوبُ بن داود ناصَحَ الخليفةَ بما كان عزَمَ عليه؛ فنقله من السجن وأودَعَه عند نصير الخادم ليحتاطَ عليه. وحَظِيَ يعقوبُ بن داود عند المهدي جدًّا حتى صار يدخلُ عليه في الليلِ بلا استئذانٍ؛ وجعله على أمورٍ كثيرة، وأطلق له مئةَ ألفِ درهم؛ وما زال عنده كذلك حتى تمكَّنَ المهديُّ من الحسن بن إبراهيم، فسقطت منْزِلةُ يعقوب عنده. وقد عزل المهديُّ نُوّابًا كثيرة عن البلاد، وولَّى بدلهم.

وفي هذه السنة تزوَّج المهديُّ بابنةِ عمه أمِّ عبدِ اللَّه بنت صالح بن علي، وأعتق جاريتَهُ الخَيْزُرَان، وتزوَّجَها أيضًا، وهي أمُّ الرَّشيد، وفيها وقَعَ حريقٌ عظيم في السُّفُنِ التي في دِجْلَةِ بغداد. ولمّا وَليَ المهديُّ سأل عيسى بنَ موسى -وكان وليَّ العَهْدِ بعدَه- أنْ يَخلَعَ نفسَهُ من الأمر؛ فامتنع على الْمَهْديّ؛ وسألَ المهديَّ أنْ يُقيم بأرضِ الكوفة في ضيعةٍ له، فأذِنَ له وكان قد استقرَّ على إمرةِ الكوفة رَوْحُ بن حاتم، فكتب إلى المهدي: إنَّ عيسى بن موسى لا يأتي الجمعةَ ولا الجماعةَ مع الناس إلا شَهْرين من السنة؛ وإنه إذا جاء يدخلُ بدوابَّه داخلَ بابِ المسجد، فتروثُ دوابُّه حيثُ يُصلي الناس. فكتب إليه المهدي أنْ يعملَ خشبًا على أفواهِ السِّكَكِ حتى لا يَصِلَ الناسُ إلى المسجدِ إلا مُشاةً. فعلم بذلك عيسى بن موسى، فاشترى قبلَ الجمعة دارَ المختارِ بن أبي عُبيد من ورَثَتِه، وكانت ملاصقةً للمسجد، وكان يأتي إليها من يوم الخميس فإذا كان يومُ الجمعة ركب حمارًا إلى بابِ المسجد، فنَزَل إلى هناك، وشهد الصلاة مع الناس، وأقام بالكلية بالكوفةِ بأهلِه، ثم ألَحَّ عليه المهديُّ في أنْ يخلعَ نفسَهُ، وتوعَّدَهُ إنْ لم يفعلْ، ووعَدَه إنْ فعل. فأجابه إلى ذلك، فأعطاه أقطاعًا عظيمة، وأعطاهُ من المال عشرةَ آلافِ ألف، وقيل عشرين ألفَ ألف، وبايع المهديُّ لولدَيْه من بعدِه موسى الهادي، ثم هارون الرشيد كما سيأتي.

وحجَّ بالناس يزيدُ بن منصور خالُ المهدي، وكان نائبًا على اليمن، فولاهُ الموسم، واستقدمه عليه شوقًا إليه. وغالبُ نوَّاب البلاد عزَلَهم المهدي، غيرَ أنَّ إفْريقيَةَ مع يزيدَ بنِ حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضَمْرَة، وعلى خُرَاسان أبو عَوْن، وعلى السِّنْد بِسْطامُ بن عمرو، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى اليمن رجاء بن رَوْح، وعلى اليمامةِ بشر بن المنذر، وعلى الجزيرة الفضلُ بن صالح، وعلى المدينة عُبيد اللَّه بن صفوان الجُمَحي، وعلى مكةَ والطائف إبراهيم بن يحيى، وعلى

ص: 378

أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى وعلى قضائها شريك بن عبد اللَّه النَّخعي وعلى أحداثِ البصرة عمارة بن حمزة، وعلى صلاتِها عبدُ الملك بن أيوب بن ظبيان النَّمَري، وعلى قضائها عُبيد اللَّه بن الحسن العَنْبَري.

‌وفيها تُوفي:

عبدُ العزيز بن أبي رَوَّاد.

وعكرمة بن عمار.

ومالك بن مِغْوَل.

ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، نَظِير مالك بن أنس في الفقه، وربما أنكر على مالك أشياءَ ترَكَ الأخذَ فيها ببعضِ الأحاديث كان يراها مالكٌ من إجماعِ أهلِ المدينة، وغير ذلك من المسائل.

‌ثم دخلت سنة ستين ومئة

فيها خرج رجلٌ بِخُراسان على المهدي مُنكرًا عليه أحوالَهُ وسيرتَه، وما يتعاطاه؛ يُقال له يوسف البرم، والتفَّ عليه خلقٌ كثير، وتفاقَمَ الأمر، وعَظُم الخطبُ به، فتوجَّه إليه يزيدُ بنُ مَزْيَد، فلَقِيَهُ فاقتتلا قتالًا شديدًا حتى تنازلا وتعانقا، فأسر زيدُ بن مزيد يوسُفَ هذا، وأسَرَ جماعةً من أصحابِه، فبعثهم إلى المهدي، فأُدخلوا عليه وقد حُملوا على جمالٍ مُحَوَّلة وجوهُهم إلى ناحيةِ أذنابِ الإبِل، فأمر الخليفةُ هَرْثَمَةَ أنْ يقطعَ يدي يوسُفَ ورجلَيْه ثم يضربَ عُنقَه وأعناقَ منْ معه وصَلَبَهم على جسرِ دِجْلَةَ الأكبر مما يلي عسكر المهدي، وأطفأ اللَّه نائرَتَهم

(1)

وكْفَى شرَّهم.

‌ذكر البيعة لموسى الهادي وهارون الرشيد

ذكرنا أنَّ المهدي ألحَّ على عيسى بن موسى أنْ يخلَعَ نفسَه، وهو مع كلِّ ذلك يمتنعُ وهو مُقيمٌ بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحدَ القوَّادِ الكبار، وهو أبو هريرة محمد بن فرُّوخ في ألفٍ من أصحابهِ لإحضارِهِ إليه، وأمَرَ كلَّ واحدٍ منهم أنْ يحملَ طبلًا، فإذا واجهوا الكوفةَ عند إضاءةِ الفجر ضَرَبَ كلُّ واحدٍ منهم على طبلِه. ففعلوا ذلك، فارتَجَّتِ الكوفة، وخاف عيسى بنُ موسى فلمَّا انتهَوْا إليه دعَوْهُ إلى حضرةِ الخليفة، فأظهرَ أنه يَشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه، بل أخذوه معهم، فدخلوا به على الخليفة في

(1)

"النائرة": العداوة والشحناء والفتنة؛ ونار الحرب ونائرتها: شرُّها وهيجها. لسان العرب (نور). وإطفاء النائرة: عبارة عن تسكين الفتنة وهي فاعلة من النار. المصباح المنير. والمغرب (2/ 332)(نور).

ص: 379

يوم الخميس لثلاثٍ خلَوْنَ من المحرَّم من هذه السنة، فاجتَمَع عليه وجوهُ بني هاشم والقضاةُ والأعيان وسَألوه في ذلك وهو يَمتنع، ثم لم يزلِ الناسُ به بالرغبةِ والرَّهْبَةِ حتى أجابَ يومَ الأربعاء

(1)

لأربعٍ مضَيْنَ من المحرَّم بعد العصر، وبويع لولدَي المهدي موسى وهارون الرشيد صباحةَ يوم الخميس، لثلاثٍ بقينَ من المحرَّم. وجلس المهديُّ في قُبَّةٍ عَظِيمة في إيوان الخِلافة، ودخل الأمراءُ فبايعوه، ثم نَهَضَ فصَعِدَ المنبرَ وجلَسَ ابنُه موسى الهادي تحتَه، وقام عيسى بنُ موسى في أولِ درجة، وخطَبَ المهديُّ فأعلَمَ النَّاسَ بما وقع من خَلْع عيسى بن موسى نفسَه، وأنه قد حلَّلَ النَّاسَ من الأيمانِ التي له في أعناقِهم، وجعل ذلك إلى موسى الهادي، فصدَّقَ عيسى بنُ موسى ذلك، وبايع المهديَّ على ذلك. ثم نَهَض الناسُ فبايعوا الخليفةَ على حسَبِ مراتِبهم وأسنانِهم. وكتَبَ على عيسى بنِ موسى مكتوبًا مؤكَّدًا بالأيمان البالغة، من الطَّلاق والعَتَاق، وأشهد عليه جماعةَ الأمراءِ والوزراء، وأعيانَ بني هاشم وغيرَهم، وأعطاهُ ما ذكَرْنا من الأموال وغيرِها.

وفيها دخلَ عبدُ الملك بن شِهاب المسمعي مدينةَ بارْبَد من الهند في جحفلٍ كبير، فحاصرها ونصبوا عليها المجانيق، ورَمَوْها بالنِّفْط، فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشرٌ كثيرٌ من أهلِها، وفتحوها عَنْوة، وأرادوا الانصراف فلم يُمكنهم ذلك لاعتلاءِ البحر، فأقاموا هنالك، فأصابَهم داءٌ في أفواهِهِم يُقالُ له حُمام قُرٍّ، فمات منهم ألفُ نفس، منهم الربيع بن صُبيح، فلما أمكَنَهم المسيرُ ركبوا في البحر، فهاجت عليهم ريح، فغرق طائفةٌ أيضًا، ووصل بقيتُهم إلى البصرة ومعهم سَبْيٌ كثير، فيهم بنتُ ملكِهم

(2)

.

وفيها حَكَمَ المهديُّ بإلحاق ولدِ أبي بكر الثقفي إلى ولاءِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقَطْعِ نسَبِهم من ثَقِيف، وكتَبَ بذلك كتابًا إلى والي البصرة، وقطَعَ نسبه من زياد، ومن نسَبِ نافع؛ ففي ذلك يقولُ بعضُ الشعراء وهو خالد النجَّار:

إنَّ زيادًا ونافعًا وأبَا

بَكْرَة عِنْدي من أعْجَبِ العَجَبِ

ذا قُرشيٌّ كما يقولُ وذَا

مولًى وهذا بزَعْمِهِ عَرَبي

وقد ذكر ابنُ جرير أنَّ نائبَ البصرةِ لم يُنفِذْ ذلك

(3)

.

وفي هذه السنة حجَّ بالناس المهدي، واستخلف على بغداد ابنَهُ موسى الهادي، واستصحَبَ مَعَهُ ابنه هارونَ الرَّشيد، وخَلْقًا من الأمراء، منهم يعقوبُ بنُ داود على مَنْزِلَته ومكانتِه، وكان الحسنُ بنُ إبراهيم قد هرَبَ من الخادم، فلَحِقَ بأرضِ الحِجَاز، فاستأمَنَ لهُ يعقوب بن داود، فأحسن المهديُّ صِلَتَه،

(1)

في (ق): يوم الجمعة، وهو تصحيف والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (4/ 553).

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 555).

(3)

انظر تاريخ الطبري (4/ 556).

ص: 380

وأجزَلَ جائزتَه. وفرَّقَ الْمَهْديُّ في أهلِ مكةَ مالًا كثيرًا جدًا، كان قد قَدِمَ معه بثلاثينَ ألفَ ألفِ درهم، ومئة ألف ثوب، وجاء من مصرَ ثلاثُمئة ألف دينار، ومن اليمن مئتا ألف دينار، فأعطاها كلَّها في أهلِ مكةَ والمدينة، وشكَتِ الحَجَبةُ إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تَنْهدمَ من كثرةِ ما عليها من الكساوَى، فأمرَ بتجريدِها من الكسوة، فلما انتهَوْا إلى كساوي هشام بن عبدِ الملك وَجَدَها من دِيباج ثخين، فأمر بإزالتها، وبقيَتْ كساوي الخلفاء قبلَهُ وبعدَه، فلمَّا جرَّدَها طلاها بالخَلُوف، وكساها كسوةً حسنةً جدًّا؛ ويُقال إنه استفتى مالكًا في إعادةِ الكعبةِ إلى ما كانتْ عليه من بنايةِ ابنِ الزُّبير، من توسيعها على الوجه الذي كان يَوَدُّهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: دَعْها فإني أخشَى أن يتخذَها الملوكُ مَلْعَبة. فترَكَها على ما هي.

وحمل له محمد بن سليمان نائبُ البصرةِ الثلجَ إلى مكة، وكان أولَ خليفةٍ حُمل له الثلجُ إليها. ولمَّا دخل المدينة النبوية وسَّع المسجدَ النبوي، وكان فيه مقصورة، فأزالَها وأرادَ أنْ يُنْقصَ من المنبر ما كان زادَهُ معاوية بن أبي سفيان، فقال له مالك: إنه يخشى أن ينكسرَ خَشَبهُ العتيقُ إذا زُعزع، فتركه.

وتزوَّج من المدينة رُقيَّةَ بنتَ عمرو العثمانية، وانتخبَ من أهلِها خمسَمئةٍ من أعيانِها ليكونوا حولهُ حرسًا بالعراق وأنصارًا، وأجرى عليهم أرزاقًا غيرَ أُعطياتِهم، وأقطعَهُمْ أقطاعًا معروفةً بهم.

‌وفيها توفي:

الربيع بن صبيح.

وسفيان بن حسن أحد أصحابِ الزُّهري.

وشُعبةُ بنُ الحجًّاج بن الوود العَتَكي الأزدي

(1)

، أبو بِسْطَام الواسطي، ثم انتقل إلى البصرة

(2)

، وأى شعبةُ الحسنَ وابنَ سِيرين وروى عن أُممٍ من التابعين. وحدَّث عنه خلقٌ من مشايخه وأقرانِه وأئمةِ الإسلام. وهو شيخ المحدِّثين الملقَّب فيهم بأميرِ المؤمنين، قاله الثووي.

وقال يحيى بن مَعين: هو إمامُ المتَّقين، وكان في غايةِ الزُّهْدِ والوَرَعِ والتقشُّف والحفظ وحُسنِ الطريقة.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 280)، التاريخ الكبير (4/ 244)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 154)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 456)، مشاهير علماء الأمصار ص (177)، الثقات لابن حبان (6/ 446)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 205)، الجرح والتعديل (1/ 126)، و (4/ 369)، رجال مسلم (1/ 299)، رجال صحيح البخاري (1/ 354)، تاريخ بغداد (9/ 255)، تهذيب الكمال (12/ 479)، الكاشف (1/ 485)، تذكرة الحفاظ (1/ 193)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 170)، تهذيب التهذيب (4/ 297)، تقريب التهذيب ص (266)، تعجيل المنفعة ص (540)، طبقات الحفاظ ص (89).

(2)

يعني واسطي الأصل، بصري الدار، كما جاء في مصادر ترجمته.

ص: 381

وقال الشافعي: لولاه ما عُرف الحديثُ بالعِراق.

وقال الإمامُ أحمد: كان أمةً وحدَهُ في هذا الشأن، ولم يكن في زمانه مثله.

وقال محمد بن سعد: كان ثقةً مأمونًا حُجَّةً، صاحبَ حديث.

وقال وكيع: إني لأرجو أنْ يرفعَ اللَّه لشعبةَ في الجنةِ درجات بِذَبِّهِ عن حديثِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقال صالح بن محمد جَزَرة: كان شعبةُ أولَ من تكلَّم في الرجال، وتَبِعَهُ يحيى القطَّان، ثم أحمد وابنُ مَعين.

ابن المهدي: ما رأيتُ أعقلَ من مالك، وأشدَّ تقشُّفًا من شعبة، ولا أنصحَ للأمَّةِ من ابنِ المبارك، ولا أحفظَ للحديث من الثوري.

وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلتُ على شعبةَ في وقتِ صلاةٍ إلَّا ورأيتُه يُصلِّي؛ وكان أبًا للفقراء، وأمًّا لهم.

وقال النَّضْرُ بن شُميل: ما رأيتُ أرحمَ بِمسكينٍ منه. كان إذا رأى مِسْكينًا لا يزالُ ينظرُ إليه حتى يَغيب عنه.

وقال غيره: ما رأيتُ أعبدَ منه! لقد عَبَدَ اللَّه حتى لَصِقَ جِلْدُهُ بعظمِه.

وقال يحيى القطان: ما رأيتُ أرقَّ للمِسكين منه! كان يدخل المسكينُ في مَنْزِلِه فيعطيه ما أمكنه.

قال محمد بن سعد وغيرُه: مات في أول سنة ستين ومئة في البصرة عن ثمانٍ وسبعين سنة.

‌ثم دخلت سنة إحدى وستين ومئة

فيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم عليه؛ فلم يتمكَّنِ المسلمون من الدخول إليها بسببِ ذلك.

وفيها أمر المهديُّ بحَفْرِ الرَّكايا، وعمَلِ المصانع، وبناءِ القُصور في طريقِ مكة. ووَلَّى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزلْ يعملُ في ذلك إلى سنةِ إحدى وسبعين ومئة مقدارَ عشرِ سنين، حتى صارتْ طريقُ الحجاز من العراق من أرفَقِ الطرقات، وآمَنِها وأطيبها.

وفيها وسَّعَ المهديُّ جامعَ البَصْرة من قِبْلَتِهِ وغَرْبِه. وفيها كتب إلى الآفاق أنْ لا تبقى مقصورةٌ في مسجدِ جماعة، وأن تُقصَّرَ المنابرُ إلى مقدارِ منبرِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. ففعَلَ ذلك في المدائنِ كلِّها. وفيها اتَّضعتْ مَنْزلةُ أبي عُبيد اللَّه وزيرِ المهدي، وظهرَتْ عنده خيانتُه؛ فضمَّ إليه المهديُّ منْ يُشرفُ عليه،

ص: 382

وكان ممَّنْ ضُمَّ إليه إسماعيل بن عُلَيَّة. ثم أبعدَه وأقصاهُ وأخَرَجهُ من مُعَسْكَرِه. وفيها ولي القضاء عافيةُ بن يزيد الأزدي، وكان يحكُمُ هو وابنُ عُلاثة في عسكرِ المهدي بالرُّصافة. وفيها خرجَ رجلٌ يقال له المقنَّع بخُراسان في قريةٍ من قرى مَرْو، كان يقولُ بالتناسخ، واتَّبعهُ على ذلك خلقٌ كثير؛ فجهَّز إليه المهدي عدَّة من أمرائه، وأنفذ إليه جيوشًا كثيرة، منهم معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمرِهِ وأمرِهم ما سنذكُرُه. وحجَّ بالناس فيها موسى الهادي بن المهدي.

‌وفيها تُوفي:

إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي.

وزائدة بن قُدامة.

وسفيان بن سعيد بن مَسْروق الثوري

(1)

: أحد أئمةِ الإسلام وعُبَّادهم، والمقتدَى به، أبو عبد اللَّه الكوفي، روى عن غيرِ واحدٍ من التابعين، وروى عنه خلقٌ من الأئمَّة وغيرهم. قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عُيينة ويحيى بن معين وغيرُ واحد: هو أميرُ المؤمنين في الحديث.

وقال ابنُ المبارك: كتبتُ عن ألفِ شيخٍ ومئة شيخ هو أفضلُهم.

وقال أيوب: ما رأيتُ كوفيًّا أفضِّلُه عليه.

وقال يونس بن عُبيد: ما رأيتُ أفضلَ منه.

وقال عبدُ اللَّه بن داود: ما رأيتُ أفقهَ من الثَّوري.

وقال شعبة: ساد في الناس بالورَعِ والعِلْم.

وقال سفيان بن عُيينة: أصحابُ الحديث ثلاثة

(2)

: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه.

وقال الإمام أحمد: لا يتقدَّمه في قلبي أحد. ثم قال: تدري منِ الإمام؟ الإمام سفيانُ الثوري.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 371)، التاريخ الكبير (4/ 92). التاريخ الصغير (2/ 254)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 388)، الجرح والتعديل (1/ 55)، و (4/ 222)، رجال صحيح مسلم (1/ 329)، التدوين في أخبار قزوين (3/ 48)، تاريخ بغداد (9/ 151)، تهذيب الأسماء (1/ 215)، تهذيب الكمال (11/ 154)، سير أعلام النبلاء (7/ 229)، لسان الميزان (7/ 233)، تهذيب التهذيب (4/ 99)، تقريب التهذيب ص (244)، طبقات الحفاظ للسيوطي ص (95).

(2)

في (ح، ق): "أصحاب المدينة"، والمثبت من (ب) وتاريخ بغداد (3/ 227)، وسير أعلام النبلاء (7/ 240).

ص: 383

وقال عبدُ الرزاق: سمعت الثوريَّ يقول: ما استودعتُ قلبي شيئًا قطُّ فخانني، حتى إني لأمرُّ بالحائك يتغنَّى، فأسدُّ أُذني مخافةَ أنْ أحفظَ ما يقول. وقال: لأن أتركَ عشرةَ آلافِ دينار يُحاسبني اللَّه عليها أحبُّ إليَّ من أنْ أحتاجَ الناس.

قال محمد بن سعد

(1)

: أجمعوا أنه توفي في البصرة سنة إحدى وستين ومئة، وكان عمره يوم مات أربعًا وستين سنة.

ورآه بعضُهم في المنام يطيرُ في الجنة من نخلةٍ إلى نخلة، ومن شجرةٍ إلى شجرة، وهو يقرأ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74]، الآية.

أوقال: إذا ترأس الرجلُ سريعًا أضَرَّ بكثيرٍ من العِلْم

(2)

.

وممن تُوفي فيها:

أبو دُلامَةَ

(3)

زَنْد بن الجَوْن، الشاعر الماجِن، أحدُ الظُّرَفاء، أصلُه من الكوفة، وأقام ببغداد وحَظِيَ عند المنصور لأنه كان يُضحِكُه، ويُنشده الأشعار ويمدَحُه؛ حضر يومًا جنازةَ امرأةِ المنصور وكانتِ ابنةَ عمِّه، يُقال لها حمادة بنت عيسى، وكان المنصور قد حَزِنَ عليها، فلما سوَّوْا عليها التراب، وكان أبو دُلامة حاضرًا. فقال له المنصور: ويحكَ يا أبا دُلامة! ما أعددتَ لهذا اليوم؟ فقال: ابنةَ عمِّ أميرِ المؤمنين. فضحك المنصورُ حتى استلقَى، ثم قال: ويحك فضَحْتَنا.

ودخل يومًا على المهدي يهنِّئُهُ بقدومِهِ من سفرِه وأنشده:

إني حلَفْتُ لئنْ رأيتُكَ سالمًا

بِقُرَى العراقِ وأنتَ ذو وَفْرِ

لَتُصَلِّيَن على النبيِّ محمدٍ

ولَتملأنَّ دراهمًا حِجْرِي

(4)

فقال المهدي: أمَّا الأولى فنعَمْ، نُصلِّي على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأما الثانية فلا. فقال: يا أمير المؤمنين، هما كلمتان، فلا تفرِّقْ بينهما. فأمر أنْ يملأ حجرهُ دراهم، ثم قال له: قم. فقال: إذًا ينخرق منها قميصي. فأُفرغَتْ منه في أكياسِها، ثم قام فحملها وذهب.

(1)

في الطبقات الكبرى (6/ 371).

(2)

أخرجه الدارمي في سننه (1/ 147)(554)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 255)(1670) ولفظه: "من أسرع الرئاسة أضر بكثير من العلم، ومن لم يسرع الرئاسة كتب ثم كتب ثم كتب".

(3)

ترجمته في تاريخ بغداد (8/ 488)، أخبار المصحفين للعسكري (1/ 62)، المنتظم (8/ 251)، وفيات الأعيان (2/ 320)، سير أعلام النبلاء (7/ 374)، العبر (1/ 261)، شذرات الذهب (1/ 249).

(4)

البيتان في ديوانه ص (67). والخبر في وفيات الأعيان (2/ 325)، وسير أعلام النبلاء (7/ 375).

ص: 384

وذكر عنه ابنُ خَلِّكان

(1)

أنه مَرِض ابنٌ له، فداواهُ طبيب، فلمّا عُوفي قال له: ليس عندَنا ما نُعطيك ولكنْ ادَّعِ على فلان اليهودي بمبلغِ ما تستحقه عندَنا من أُجرتك حتى أشهدَ أنا وولَدِي بالمبلغِ المذكور. قال: فذهب الطبيبُ إلى قاضي الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى -وقيل ابن شُبْرُمة- فادَّعى عليه عندَه، فأنكر اليهودي، فشهد له أبو دُلامة وابنُه، فلم يستطعِ القاضي أن يردَّ شهادَتهما، وخاف من طلَبِ التزكية

(2)

، فأعطى الطبيبَ المدَّعي المالَ من عندِه وأطلَقَ اليهودي، وجمع القاضي بين المصالح.

توفي أبو دُلامة في هذه السنة، وقيل: إنه أدركَ خلافةَ الرشيد سنةَ سبعين. فاللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومئة

فيها خرج عبدُ السلام بن هاشم اليشكري بأرضِ قِنَّسْرِين، واتَّبَعَهُ خلقٌ كثير، وقَوِيَتْ شَوْكتهُ، فقاتله جماعةٌ من الأمراء فلم يقدِروا عليه، فجهَّز إليه المهديُّ جيوشًا، وأنفق فيهم أموالًا، فهزَمَهم مرَّات، ثم آلَ الأمرُ به أنْ قُتل بعد ذلك.

وفيها غزا الصائفةَ الحسنُ بن قحطبة في ثمانين ألفًا من المرتزقة، سوى المتطوِّعة، فدمَّرَ الروم، وحرق بلدانًا كثيرة، وخرَّب أماكن، وأسَرَ خلقًا من الذَّرَاريّ. وكذلك غزا يزيدُ بن أسيد السلمي بلادَ الروم من باب قالِيقَلا

(3)

فغَنِم وسَلِم، وسَبَا خلقًا كثيرًا.

وفيها خرجَتْ طائفةٌ بِجُرْجان، فلَبسوا الحمرةَ مع رجلٍ يُقال له عبد القهار، فغزاهُ عمر بن العلاء من طَبَرِسْتان، فقهر عبد القهار وقتلَهُ وأصحابَه.

(1)

في وفيات الأعيان (2/ 325).

(2)

زاد ابن خلكان هنا ما نصّه: فأنشد في الدِّهْليز قبل دخوله بحيثُ يسمع القاضي:

إن الناسُ غطَّوْني تغطَّيْتُ عنهمُ

وإنْ بَحثوا عني ففيهم مَبَاحثُ

وإنْ نَبَثوا بئري نبئتُ بئارَهم

ليعلَمَ قومٌ كيف تلك النَّبَائثُ

ثم حضرا بين يدي القاضي، وأدَّيَا الشهادة، فقال له: كلامُك مسموع، وشهادتُك مقبولة. ثم غرم المبلغ من عندِه وأطلَقَ اليهودي.

(3)

"قالِيقَلا": بأرْمِينيَة العظيمة من نواحي خِلاط، ثم من نواحي منازجرد. قال النحويون: حكم قاليقلا حكم معديكَرِب، إلَّا أن قاليقلا غير منوَّن على كلِّ حال، إلا أن تجعل قالي مضافًا إلى قلا وتجعل قلا اسمَ موضع مذكَّر فتنونه، فتقول: هذا قاليقلا فاعلم. والأكثر ترك التنوين. وتعمل بقاليقلا هذه البسط المسماة بالقالي، اختصروا في النسبة إلى بعض اسمه لثقله؛ وإليها يُنسب الأديبُ العالم أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي. معجم البلدان (4/ 299، 300).

ص: 385

وفيها أجرى المهدي الأرزاق في سائر الأقاليم والآفاق على المجذومين والمحبوسين؛ وهذه مثُوبةٌ عظيمة، ومكْرُمةٌ جَسيمة.

وفيها حجَّ بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور.

‌وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن أدهم

(1)

: أحدُ مشاهيرِ العُبَّاد، وأكابر الزُّهَّاد، كانتْ له همَّةٌ عاليةٌ في ذلك، رحمه الله. فهو إبراهيمُ بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي، ويُقال له العِجْلي؛ أصْلُهُ من بَلْخ، ثم سكن الشام، ودخل دمشق، وروى الحديثَ عن أبيه، والأعمش، ومحمد بن زياد صاحبِ أبي هريرة، وأبي إسحاق السَّبِيعي، وخَلْق. وحدَّث عنه خَلْق، منهم بقِيَّة، والثوري، وأبو إسحاق الفَزَاري، ومحمد بن حِميَر؛ وحكى عنه الأوزاعي.

وروى ابن عساكر

(2)

من طريق عبدِ اللَّه بن عبد الرحمن الجزري، عن الثوري، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: دخلتُ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي جالسًا فقلت: يا رسولَ اللَّه، إنَّكَ تُصَلّي جالسًا، فما أصابك؟ قال:"الجوعُ يا أبا هريرة"؟ قال: فبكَيْت، فقال:"لا تبكْ، فإنَّ شدَّةَ يومِ القيامةِ لا تُصيبُ الجائعَ إذا احتَسَبَ في دارِ الدُّنيا"

(3)

.

ومن طريق بقيَّة، عن إبراهيم بن أدهم: حدّثني أبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غَزِيَّة، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الفتنة تجيءُ فتنسِفُ العبادَ نسفًا، وينجو العالِم منها بعِلْمِه"

(4)

.

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 273)، الجرح والتعديل (2/ 87)، طبقات الصوفية ص (27)، حلية الأولياء (7/ 367، و 8/ 3)، الرسالة القشيرية (1/ 54)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (6/ 277)، صفة الصفوة (4/ 152)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (1/ 212)، الأنساب (2/ 284)، مختصر تاريخ ابن عساكر (4/ 17)، تهذيب الكمال (2/ 27)، سير أعلام النبلاء (7/ 387)، مرآة الجنان (1/ 349)، الوافي بالوفيات (5/ 318)، فوات الوفيات (1/ 13)، طبقات الأولياء ص (5)، تقريب التهذيب ص (87)، تهذيب التهذيب (1/ 102)، طبقات الشعراني (1/ 69)، شذرات الذهب (1/ 255)، الأعلام (1/ 31).

(2)

في تاريخ مدينة دمشق (6/ 278).

(3)

وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 109) و (8/ 42) وقال: غريب من حديث الثوري، لم نكتبه إلا من حديث ابن عيسى عن الجزري.

(4)

أخرجه ابن عساكر (6/ 279)؛ وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الحلية (8/ 41) وقال: غريب من حديث أبي إسحاق الهمداني وإبراهيم بن أدهم، لم نكتبه إلا من حديث عطية عن أبيه بقية. وأخرجه القضاعي في مسنده الشهاب (2/ 139)(1056)؛ والقزويني في التدوين في أخبار قزوين (2/ 172).

ص: 386

قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقةٌ مأمون، أحدُ الزّهاد.

وذكر أبو نُعيم

(1)

أنه كان ابنُ ملِكٍ من مُلوك خُراسان، وكان قد حُبِّبَ إليه الصَّيد، قال: فخرجتُ مرَّةً، فأثَرْتُ ثعلبًا أو أرنبًا، فهتَفَ بي هاتف من قَرَبُوسِ سَرْجي: ما لهذا خُلقت، ولا بهذا أُمرت. فنَزل عن فرسه، قال: فوقفتُ وقلت: انتهيت انتهيت، جاءني نذيرٌ من ربِّ العالمين، فرجعتُ إلى أهلي، فخلَّيتُ عن فرَسي وجئتُ إلى بعضِ رعاةِ أبي، فأخذتُ منه جُبَّةً وكِسَاءً، ثم ألقيتُ ثيابي إليه، ثم أقبلتُ إلى العراق، فعملتُ بها أيامًا، فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألتُ بعضَ المشايخِ عن الحلال، فأرشدَني إلى بلادِ الشام، فأتيتُ طَرَسُوس، فعملتُ بها أيامًا أنطرُ البساتين، وأحصدُ الحصاد. وكان يقول: ما تهنَّيتُ بالعيش إلَّا في بلادِ الشام، أفِرُّ بديني من شاهِقٍ إلى شاهِق، ومن جبلٍ إلى جبل، فمنْ يَرَاني يقول: هو مُوَسْوس.

ثم دخل البادية، ودخل مكة، وصَحِبَ الثوريّ، والفُضيل بن عِيَاض، ودخل الشام، وماتَ بها. وكان لا يأكلُ إلَّا من عمَلِ يدَيْه، مثل الحصاد وعمل الفاعل، وحفظ البساتين، وغيرِ ذلك. وما رُوي عنه أنه وجد رجلًا في البادية فعلَّمه اسم اللَّه الأعظم، فكان يدعو به حتى رأى الخَضِر، فقال له: إنما علَّمكَ أخي داودُ اسمَ اللَّه الأعظم. ذكره القُشيري وابنُ عساكر عنه بإسنادٍ لا يَصِحّ. وفيه أنه قال له: إنَّ إلياس علَّمك اسمَ اللَّه الأعظم. وقال إبراهيم: أطِبْ مطعَمَك ولا عليك أنْ لا تقومَ الليل، ولا تصوم النهار.

وذكر أبو نعيم عنه، أنه كان أكثر دعائه: اللهمَّ انقلني من ذُلِّ معصيتِك إلى عِزِّ طاعتِك. وقيل له: إنَّ اللحمَ غلا. فقال: أرْخِصوه. أيْ: لا تشتروه، فإنه يَرْخُص. وقال بعضُهم: هتف به الهاتف من فوقه: يا إبراهيم، ما هذا العَبَث؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، اتَّقِ اللَّه، وعليك بالزَّادِ ليومِ القيامة. فنَزَل عن دابَّته، ورَفَض الدنيا، وأخَذَ في عملِ الآخرة.

وروى ابن عساكر

(2)

بإسنادٍ فيه نظر من ابتداءَ أمرِه قال: بينما أنا يومًا في مَنْظرَةٍ ببَلْخ

(3)

، وإذا شيخٌ حسَنُ الهيئة، حسَنُ اللِّحْية، قد استظلَّ بظِلِّها، فأخذَ بِمَجَامعِ قلبي، فأمرتُ غلامًا فدعاه فدخل، فعرضتُ عليه الطعام، فأبَى، فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من وراء النهر. قلت: أين تُريد؟ قال: الحج. قلت: في هذا الوقت؟ وقد كان أولَ يومٍ من ذي الحِجَّة أو ثانيه. فقال: يفعلُ اللَّه ما يشاء.

(1)

في حلية الأولياء (7/ 368). وفي (ب، ح): "وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء. . . ".

(2)

في تاريخ مدينة دمشق (6/ 285).

(3)

المنظرة: الْمَرْقَبَة. لسان العرب (نظر).

ص: 387

فقلت: الصحبة. قال: إنْ أحببتَ ذلك فموعِدُك الليل. فلما كان الليل جاءني فقال: قُمْ بسمِ اللَّه. فأخذتُ ثيابَ سَفَري، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا ونحن نمر على البلدان ونقول: هذه فلانة، هذه فلانة، فإذا كان الصباحُ فارَقَني ويقول: مَوْعِدُك الليل. فإذا كان الليل جاءني ففَعَلنا مثلَ ذلك. فانتهينا إلى مدينةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم سِرْنا إلى مكة، فجئناها ليلًا، فقضَيْنا الحجَّ مع الناس ثم رجعنا إلى الشام، فزُرْنا بيتَ المقدِس، وقال: إني عازمٌ على المُقام بالشام. ثم رجعتُ أنا إلى بلدي بَلْخ كسائرِ الضعفاء، حتى رجَعْنا إليها ولم أسألْهُ عن اسمِه، فكان ذلك أولَ أمري.

ورُوي من وجهٍ آخر فيه نظر

(1)

.

[وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نُعيم، عن سفيان الثوري، قال كان إبراهيمُ بن أدهم يُشبه إبراهيمَ الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلًا فاضلًا له سرائر، وما رأيته يُظهرُ تسبيحًا ولا شيئًا، ولا أكلَ مع أحدٍ طعامًا إلَّا كان آخرَ منْ يرفعُ يدَيْه]

(2)

.

وقال عبدُ اللَّه بن المبارك

(3)

: كان إبراهيمُ رجلًا فاضلًا له سرائر ومعاملات بينه وبين اللَّه عز وجل؛ وما رأيتُه يُظهرُ تسبيحًا ولا شيئًا من عمَلِه ولا أكَلَ مع أحدٍ طعامًا إلا كان آخرَ منْ يرفَعُ يدَه.

وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفَعَهمُ اللَّه بطيبِ المطعم: إبراهيم بن أدهم، وسليمان الخَوَّاص، ووُهَيب بن الورد، ويوسف بن أسباط

(4)

.

(1)

انظر تاريخ ابن عساكر (6/ 286 - 288).

(2)

ما بين معقوفين ليس في (ب، ح) وهو زيادة من النسخة المصرية في (ق)، يدل على ذلك ما سيأتي في الخبر التالي.

(3)

كذا في الأصول، وفي تهذيب الكمال (2/ 32) وسير أعلام النبلاء (7/ 390) أنَّ القائل هو سفيان الثوري، كما جاء في الخبر السابق. وقد أتى ابن عساكر على كلا الروايتين في تاريخه (6/ 289) أولهما:"محمد بن إدريس الحنظلي قال: سمعت أبا نعيم يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: إبراهيم بن أدهم كان يشبه إبراهيم خليل الرحمن، ولو كان في أصحاب النبي لكان رجلًا فاضلًا". وثايهما: "سليمان بن أيوب قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: قلتُ لابن المبارك: إبراهيم بن أدهم ممَّن سمع؟ فقال: قد سمع من الناس، ولكن له فضل في نفسه، صاحب سرائر وما رأيته يظهر تسبيحًا ولا شيئًا من الخير، ولا أكل مع قوم طعامًا قط إلا كان آخر من يرفع يديه من الطعام".

(4)

أخرج البيهقي في شعب الإيمان (5/ 57، 58) برقم (5764) بإسناده: عن بشر بن الحارث قال: سمعت المعافى بن عمران يقول: كان عشرة فيمن مض من أهل العلم ينظرون في الحلال النظر الشديد، لا يُدخلون بطونَهم إلا ما يعرفون من الحلال، وإلا استفوا التراب. ثم عدَّ بشر: إبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، وعلي بن فضيل بن عياض، وأبا معاوية الأسود، ويوسف بن أسباط، ووُهَيب بن الورد، وحذيفة شيخ من أهل حرَّان، وداود الطائي.

ص: 388

وروى ابنُ عساكر من طريق معاوية بن حفص، قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثًا واحدًا فأخذَ بهِ، فسادَ أهل زمانِه. قال: حدّثنا منصور عن رِبْعيِّ بن حِرَاش قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، دُلَّني على عمل يُحبَّني اللَّه عليه، ويُحِبَّني الناسُ. قال:"إذا أردتَ أنْ يُحبَّكَ اللَّه فأبغِضِ الدُّنيا؛ وإذا أردتَ أنْ يُحبَّكَ الناس، فما عندَكَ من فُضولِها فانْبِذْهُ إليهم"

(1)

.

وقال ابنُ أبي الدنيا: حدّثنا أبو ربيع عن إدريس قال: جلس إبراهيمُ إلى بعضِ العلماء، فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيمُ ساكت، ثم قال: حدّثنا منصور، ثم سكتَ فلم ينطِقْ بحرفٍ حتى قامَ من ذلك المجلس، فعاتبه بعضُ أصحابِه في ذلك، فقال: إني لأخشَى مضرَّةَ ذلك المجلس في قلبي إلى هذا اليوم.

وقال رِشْدينُ بن سعد: مرَّ إبراهيمُ بن أدهم بالأوزاعيِّ وحَوْلَه حَلْقَة، فقال: لو أنَّ هذه الحَلْقَة على أبي هريرة لَعَجز عنهم. فقام الأوزاعيُّ وترَكَهم.

وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لمَ تركتَ الحديث؟ فقال: إني مشغولٌ عنه بثلاث: بالشكرِ على النِّعم، والاستغفارِ من الذنوب، وبالاستعدادِ للموث. ثم صاح وغُشِيَ عليه، فسمعوا هاتفًا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.

وقال أبو حنيفةَ يومًا لإبراهيمَ بنِ أدهم: قد رُزقت من العبادةِ شيئًا صالحًا، فليكنِ العلمُ من بالِك، فإنَّهُ رأسُ العبادةِ وقِوَامُ الدِّين. فقال له إبراهيم: وأنت فليكنِ العبادةُ والعملُ بالعِلْم من بالِك، وإلَّا هلَكْت.

وقال إبراهيم: ماذا أنعم اللَّه على الفقراء؛ لا يسألُهم يومَ القيامةِ عن زكاةٍ، ولا عن حجٍّ، ولا عن جهادٍ، ولا عن صِلَةِ رَحِم؛ إنما يسألُ ويحاسبُ هؤلاء المساكينَ الأغنياء.

وقال شقيق بن إبراهيم

(2)

: لَقيتُ ابن أدهم بالشام وقد كنتُ رأيتُه بالعراق، وبين يديه ثلاثون شاكِرِيًّا

(3)

، فقلت له: تركتَ مُلكَ خُراسان، وخرجتَ من نعمتِك! فقال: اسكتْ ما تَهَنَّيْتُ بالعَيش إلا هاهنا، أفِرُّ بديني من شاهِقٍ إلى شاهِقٍ، فمن يراني يقول هو مُوَسْوَس، أو حمَّال أو ملَّاح؛ ثم قال:

(1)

وأخرجه بهذا اللفظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 270)؛ وبنحوه أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 42، و 53)؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (288). وإسناده ضعيف فهو مرسل، ربعي بن حراش تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في (ب، ق): "شقيق بن إبراهيم"، والمثبت من (ح) وترجمته ومصادرها في المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (3/ 108).

(3)

"الشاكِرِيّ ": الأجير والمستخدم؛ معرَّب جاكر. القاموس (شكر).

ص: 389

بلَغَني أنه يُؤتى بالفقير يومَ القيامة، فيوقَفُ بين يدي اللَّه فيقول له: يا عبدي، ما لَكَ لم تَحُجّ؟ فيقول: يا رب لم تعطني شيئًا أحجُّ به. فيقول اللَّه: صَدَقَ عبدي، اذهبوا به إلى الجنَّة

(1)

وعن إبراهيم بن أدهم قال: أقمتُ بالشام أربعًا وعشرين سنة، ولم أقُمْ بها لجهادٍ ولا رِبَاط، إنما نزَلْتُها لأشبع من خبزٍ حلال.

وقال: الحُزْنُ حُزنان: حُزْنٌ لكَ وحُزْنٌ عليك؛ فحزُنكَ على الآخرة لك، وحزنُك على الدنيا وزينتها عليك.

وقال: الزُّهْد ثلاثة: واجبٌ، ومُسْتَحبّ، وزُهْدُ سلامة؛ فأمَّا الواجب فالزُّهْد في الحرامِ، والزُّهْد عن الشهواتِ الحلال مستحَبّ، والزُّهْد عن الشُّبُهات سلامة.

وكان هو وأصحابُه يَمنعونَ أنفسَهم الحَمَّام، والماءَ البارد، والحِذاء؛ ولا يجعلون في مِلْحِهم أبْزارًا. وكان إذا جلس على سُفْرَةٍ فيها طعامٌ طَيِّب، رَمَى بطيِّبها إلى أصحابِه، وأكل هو الخُبْزَ والزَّيتون.

وقال: قِلَّةُ الحِرْصِ والطمعِ، تُورثُ الصِّدْقَ والوَرَع؛ وكثرةُ الحِرْصِ والطَّمَع تُورثُ الغَمَّ والجَزَع.

وقال له رجل: هذه جُبَّةٌ أحبُّ أنْ تقبلَها مني. فقال: إنْ كنتَ غَنيًّا قَبِلتُها، وإنْ كنتَ فقيرًا لم أقبَلْها. قال: أنا غنيّ. قال: كم عندَك؟ قال: ألفان. قال: تودُّ أنْ تكونَ أربعةَ آلاف؟ قال: نعم. قال فأنتَ فقير، لا أقبلُها منك.

وقيل له: لو تزوَّجْتَ. فقال: لو أمكَنَني أنْ أُطَلِّقَ نفسي لطلَّقْتُها.

ومكث بمكةَ خمسةَ عشرَ يومًا لا شيءَ له، ولم يكنْ له زادٌ سوى الرَّمْل بالماء، وصلى بوضوءٍ واحدٍ خمسَ عشرةَ صلاةً.

وأكَلَ يومًا على حافَةِ الشَّرِيعةِ كُسَيْراتٍ مبلولةً بالماء وضَعَها بين يديه أبو يوسف الغَسُولي، فأكل منها ثم قامَ فشرب من الشريعة، ثم جاء واستَلْقَى على قفاهُ وقال: يا أبا يوسف، لو علم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه من النَّعيم لجالَدُونا بالسيوف أيامَ الحياةِ على ما نحن فيه من لذيذِ العيش. فقال أبو يوسف: طلَبَ القومُ الراحةَ والنَّعِيم فأخطؤوا الطريقَ المستقيم. فتبسَّمَ إبراهيمُ وقال: من أين لك هذا الكلام؟.

وبينما هو بالْمَصِّيصةِ في جماعة من أصحابِه إذ جاءَهُ راكبٌ فقال: أيُّكُمْ إبراهيمُ بن أدهم؟ فأُرشِدَ إليه فقال: يا سيدي، أنا غلامُك، وإنَّ أباك قد ماتَ وترَكَ مالًا هو عند القاضي، وقد جئتُكَ بِعشرةِ آلافِ درهمٍ لِتُنفقَها عليك إلى بَلْخ، وفرَسٍ وبَغْلة. فسكَتَ إبراهيمُ طويلًا، ثم رفع رأسه فقال: إنْ كنتَ صادقًا فالدَّراهمُ والفرسُ والبغلةُ لك، ولا تُخْبرْ به أحدًا. ويُقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بَلْخ، وأخذ المالَ من

(1)

انظر حلية الأولياء (7/ 369)، وإحياء علوم الدين (2/ 227).

ص: 390

الحاكم وجعَلَهُ كلَّهُ في سبيل اللَّه. وكان معَهُ بعضُ أصحابِه، فمكثوا شهرَيْن لم يَحصُلْ لهم شيءٌ يأكلونه، فقال له إبراهيم: ادخُلْ إلى هذه الغَيْضة -وكان ذلك في يومٍ شاتٍ- قال: فدخلتُ، فوجدتُ شجرة عليها خَوْخٌ كثير، فملأتُ منه جِرَابي، ثم خرجْتُ. فقال: ما معَك؟ قلت: خَوْخ. فقال: يا ضعيفَ اليقين، لو صبَرْتَ لوجدتَ رُطَبًا جَنيًّا كما رُزقَتْ مَرْيَمُ بنتُ عِمران.

وشكا إليه بعضُ أصحابهِ الجُوع، فصلَّى رَكعتَيْن، فإذا حولَهُ دنانيرُ كثيرة، فقال لصاحبه: خُذْ منها دينارًا. فأخذَهُ واشترى لهم به طعامًا.

وذكروا أنه كان يعملُ بالفاعل، ثم يذهب فيشتري البيضَ والزُّبْدَة، وتارةً الشِّوَاءَ والجُوذابات

(1)

، والخَبِيص

(2)

، فيُطْعِمه أصحابَهُ وهو صائم، فإذا أفطَرَ يأكلُ من رَديءِ الطعام ويَحْرِم نفسَهُ المطعمَ الطِّيب لِيَبَرَّ بهِ النَّاسَ تأليفًا لهم وتَحَبُّبًا وتوَدُّدًا إليهم.

وأضاف الأوزاعيُّ إبراهيمَ بنَ أدْهَمَ، فقَصَّرَ إبراهيمُ في الأكل، فقال: ما لكَ قصَّرْت؟ فقال: لأنك قَصَّرْتَ في الطعام؛ ثم عَمِلَ إبراهيمُ طعامًا كثيرًا ودَعَا الأوزاعيَّ، فقال الأوزاعي: أما تخافُ أنْ يكونَ سرَفًا؟ فقال: لا، إنَّما السَّرَفُ ما كان في معصيةِ اللَّه، فأمَّا ما أنفَقَهُ الرجلُ على إخوانهِ فهو من الدِّين.

وذكروا أنه حصَدَ مرَّةً بعشرينَ دينارًا، فجلَسَ مرَّةً عند حَجَّام هو وصاحبٌ له لِيَحْلِقَ رؤوسهم ويَحْجِمَهُمْ، فكأنَّه تَبَرَّمَ بهم واشتغَلَ عنهم بغيرِهم، فتأذَّى صاحبُه من ذلك، ثم أقبل عليهمُ الحجَّام فقال: ماذا تريدون؟ قال إبراهيم: أريدُ أن تَحْلِقَ رأسي وتَحْجِمني. ففعل ذلك، فأعطاه إبراهيمُ العِشْرين دينارًا، وقال: أردتُ أنْ لا تَحْقِرَ بعدَها فقيرًا أَبدًا.

وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيمُ أصحابهُ بصَوْمٍ ولا صلاة، ولكنْ بالصدقةِ والسَّخَاء.

وكان إبراهيمُ يقول: فِرُّوا من الناس كفِرَارِكُم من الأسَدِ الضاري، ولا تَخَلَّفوا عن الجُمعةِ والجماعة.

وكان إذا سافر مع أحدٍ من أصحابه يُحدَّثُهُ إبراهيم، وكان إذا حَضَرَ في مجلس فكأنما على رؤوسِهم الطَّير هَيْبةً وإجلالًا.

ورُبَّما تسامرَ هو وسفيانُ الثَّوري في الليلةِ الشاتِيَةِ إلى الصباح، وكان الثوريُّ يتحرَّزُ معهُ في الكلام.

ورأى رجلًا قيل له: هذا قاتِلُ خالِك. فذَهَبَ إليه فسلَّمَ عليه، وأهدَى له وقال: بلَغَني أنَّ الرجلَ لا يَبْلُغُ درجةَ اليقين حتى يأمَنَهُ عدوُّه.

(1)

في (ق): "والجوذبان"، وفي (حِ):"والجذابات"، والمثبت من (ب) والجُوذابات: جمع، مفرده جُوذاب: وهو طعامٌ يُصنعُ بسُكَّرٍ وأرُزٍّ ولَحْم. لسان العرب.

(2)

"الخَبيص": الطعام المعمول من التمر والسمن. القاموس (خبص).

ص: 391

وقال له رجل: طوبَى لك! أفنيتَ عُمرَك في العبادة، وتركتَ الدنيا والزوجات! فقال: ألَكَ عِيَال؟ قال: نعم. فقال: لَرَوْعةُ الرجلِ بِعِيَالِه -يعني في بعض الأحيان- من الفاقَةِ أفضلُ من عبادةِ كذا وكذا سنة.

ورآهُ الأوزاعيُّ ببيروت وعلى عُنقه حُزْمةُ حطَب، فقال: يا أبا إسحاق، إنَّ إخوانَكَ يَكْفُونَك هذا. فقال له: اسكُتْ يا أبا عمرو، فقد بلَغَني أنه إذا وُقف الرجلُ موقفَ مَذَلَّةٍ في طَلَبِ الحلال وجَبَتْ له الجنَّة.

وخرج ابنُ أدهمَ من بيتِ المقدس، فمرَّ بطريق، فأخذَتْهُ المَسْلَحةُ في الطريق، فقالوا: أنتَ عبد؟ قال: نعم. قالوا: آبق؟ قال: نعم. فسَجَنوه، فبلَغَ أهلَ بيتِ المقدس خبَرُه، فجاؤوا بِرُمَّتِهمْ إلى نائبِ طَبَريَّة فقالوا: علامَ سجنتَ إبراهيم بن أدهم؟ قال: ما سَجَنْتُهُ. قالوا: بلَى، هو في سِجْنِك. فاستحضره، فقال: عَلامَ سُجنتَ؟ فقال: سَلِ الْمَسْلَحَة. قالوا: أنتَ عَبْد؟ قلت: نعم وأنا عبدُ اللَّه. قالوا: آبق؟ قلتُ: نعم، وأنا عبدٌ آبقٌ من ذنوبي. فخَلَّى سَبِيلَه.

وذكروا أنَّهُ مَرَّ مع رُفْقَةٍ، فإذا الأسَدُ على الطريق، فتقدَّمَ إليه إبراهيمُ بن أدهم، فقال له: يا قَسْوَرَة، إنْ كنتَ أُمِرْتَ فينا بشيءٍ فامضِ لِمَا أُمِرْتَ به، وإلَّا فَعَوْدُكَ على بَدْئك. قالوا: فولَّى السَّبُعُ ذاهبًا يَضْربُ بذَنَبه؛ ثم أقبلَ علينا إبراهيمُ فقال: قولوا اللهمَّ راعِنا بِعَيْنكَ التي لا تَنَام، واكْنُفْنا بكَنَفِكَ الذي لا يُرام، وارْحَمْنَا بقُدْرَتِكَ علينا، ولا نَهْلِكُ وأنتَ رجاؤنا، يا اللَّه، يا اللَّه، يا اللَّه. قال خلفُ بنُ تَميم: فما زلتُ أقولُها منذُ سمعتُها، فما عَرضَ لي لِصٌّ ولا غيرُه.

وقد رُوي لهذا شواهدُ من وجوهٍ أُخَر. ورُوي أنه كان يصلِّي ذاتَ ليلة، فجاءه أُسْدٌ ثلاثة، فتقدَّم إليه أحدُهم، فشَمَّ ثيابَهُ ثم ذهبَ فرَبَضَ قريبًا منه، وجاء الثاني ففعَلَ مثلَ ذلك، وجاء الثالثُ ففعل مثلَ ذلك، واستمرَّ إبراهيمُ في صلاتِه، فلمَّا كان وقتُ السَّحَر قال لهم: إنْ كنتُم أُمِرْتُمْ بشيء فهَلُمُّوا، وإلَّا فانصرِفوا. فانصرَفوا.

وصَعِدَ مرَّةً جبلًا بمكَّة ومعه جماعة، فقال لهم لو أنَّ وليًّا من أولياءِ اللَّه قالَ لِجَبَل: زُلْ لَزالَ. فتحرَّك الجبلُ تحتَهُ، فوَكَزهُ بِرجْلِه وقال: اسْكُنْ، فإنَّما ضرَبْتُكَ مثلًا لأصحابي. وكان الجبلُ أبا قُبَيس.

وركب مرَّة سفينةً، فأخذهُمُ الموجُ من كلِّ مكان، فلَفَّ إبراهيمُ رأسَهُ بكِسَالهِ واضْطَجَع، وعَجَّ أصحابُ السفينةِ بالضَّجيجِ والدُّعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا تَرَى ما نحنُ فيه من الشِّدَّة؟! فقال: ليس هذه شِدَّة، وإنما الشِّدَّةُ الحاجةُ إلى الناس. ثم قال: اللهمَّ أرَيْتَنَا قُدْرَتَك، فأرِنَا عَفْوك. فصار البحرُ كأنه قدَحُ زَيْت. وكان قد طالبه صاحبُ السفينةِ بأُجْرَةِ حَمْلِهِ دينارَيْن، وألَحَّ عليه، فقال له: اذهَبْ معي حتى أعطيَكَ دينارَيْك. فأتى إلى جزيرةٍ في البحر، فتوضَّأ إبراهيمُ وصلَّى ركعتَيْن، ودَعَا، وإذا ما حَوْلهُ قد مُلئ دنانير، فقال له: خُذْ حَقَّك ولا تَزِدْ، ولا تذكُرْ هذا لأحد.

ص: 392

وقال حُذيفةُ الْمَرْعشيّ: أوَيْتُ أنا وإبراهيمُ إلى مسجدِ خرابٍ بالكوفة، وكان قد مَضَى علينا أيامًا لم نأكُلْ فيها شيئًا، فقال لي: كأنَّك جائع. قلت: نعم. فأخذ رُقْعة فكتب فيها: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أنت المقصودُ إليه بكلِّ حال، المشار إليه بكلِّ مَعْنى:

أنا حامدٌ أنا ذاكرٌ أنا شاكرٌ

أنا جائعٌ أنا حاسرٌ أنا عاري

هي ستَّةٌ وأنا الضَّمينُ بنصفِها

فكُنِ الضَّمينَ لنصفِها يا باري

مَدْحي لغيرِك وَهْجُ نارٍ خُضتُها

فأجِرْ عُبَيدَكَ من دخولِ النارِ

ثم قال: اخرُجْ بهذهِ الرُّقْعَة ولا تُعَلَّقْ قلَبكَ بغيرِ اللَّه سبحانه وتعالى، وادْفَعْ هذه الرقعةَ لأوَّلِ رجل تلقاه.

فخرجتُ فإذا رجلٌ على بغلة، فدفعتُها إليه، فلما قرأها بكى، ودفع إليَّ ستٍّ مئة دينارٍ وانصرَفَ؛ فسألتُ رجلًا: منْ هذا الذي على البغلة؟ فقالوا: هو رجلٌ نصرانيّ. فجئتُ إبراهيمَ، فأخبرتُهُ فقال: الآن يجيء فيُسْلِم. فما كان غيرَ قريب حتى جاء، فأكبَّ على رأسِ إبراهيمَ وأسلم

(1)

.

وكان إبراهيمُ يقول: دارُنا أمامَنا، وحياتُنا بعدَ وفاتِنا، فإمَّا إلى الجنة وإما إلى النار، مَثِّلْ لبَصَرِكَ حضورَ ملَكِ الموتِ وأعوانِهِ لقبضِ رُوحِك، وانظرْ كيف تكونُ حينئذٍ، ومَثِّلْ له هَوْلَ الْمَضْجَع، ومساءلةَ مُنْكرٍ ونَكير، وانظُرْ كيف تكون؟ ومَثِّلْ له القيامةَ وأهوالَها وأفزاعَها، والعَرْضَ والحساب، وانظُرْ كيف تكون؟ ثم صرَخَ صرخةً خَرَّ مَغْشيًّا عليه.

ونظر إلى رجلٍ من أصحابه يَضْحَك، فقال له: لا تطمَعْ فيما لا يكونُ ولا تَنْسَى ما يكون، فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق؟ فقال: لا تطمَعْ في البقاءَ والموتُ يَطْلُبُك، فكيف يَضْحكُ منْ يَموتُ ولا يَدْري أين يُذهَبُ به، إلى جنَّةٍ أمْ إلى نار؟ ولا تنسَ ما يكون، الموتُ يأتيك صباحًا أو مساءً. ثم قال أوَّهْ، أوَّه!. ثم خرَّ مَغْشيًا عليه.

وكان يقول: ما لنا نَشْكُو فقرنا إلى مِثْلِنا، ولا نسألُ كَشْفَهُ من ربِّنا؟! ثم يقول: ثَكِلَتْ عبدًا أُمُّهُ أحبَّ الدنيا ونَسِيَ ما في خزائنِ مولاه.

وقال: إذا كنتَ بالليل نائمًا، وبالنهارِ هائمًا، وفي المعاصي دائمًا، فكيف تُرْضي منْ هوَ بأمورك قائمًا؟.

ورآه بعضُ أصحابِهِ، وهو بمسجدِ بَيْرُوت، وهو يَبْكي ويَضْربُ بيدَيْه على رأسه؛ فقال: ما يُبْكيك؟ فقال: ذكرتُ يومًا تتَقَلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار.

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 38)، وابن عساكر (انظر المختصر 4/ 30)، وابن الأثير في المختار من مناقب الأخيار (1/ 236).

ص: 393

وقال: إنَّك كلَّما أمعنتَ النظرَ في مرآةِ التَّوبة بانَ لك قُبْحُ شَيْنِ المعْصِيَة.

وكتب إلى الثَّوْريّ: منْ عرَف ما يطلُب هانَ عليه ما يَبْذُل؛ ومنْ أطلَقَ بصرَهُ طالَ أسَفُه، ومن أطلَقَ أمَلَه ساء عمَلُه، ومن أطلق لسانَه قتَلَ نفسَه.

وسأله بعضُ الولاة

(1)

: من أين مَعِيشتُك؟ فأنشأ يقول:

نُرَقِّعُ دنيانا بتَمْزيقِ ديننا

فلا دِينُنا يَبْقَى ولا مَا نُرَقِّعُ

وكان كثيرًا ما يتمَثَّلُ بهذه الأبيات:

لِمَا تُوعِدُ الدُّنيا به من شُرورِها

يكونُ بكاءُ الطفلِ ساعةَ يوضَعُ

وإلَّا فما يبكيهِ منها وإنَّها

لأرْوَحُ ممَّا كان فيه وأوْسَعُ

إذا أبصرَ الدُّنيا استهلَّ كأنما

يرى ما سَيَلْقى من أذاها ويَسْمعُ

(2)

وكان يتمثَّل أيضًا:

رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوبَ

ويُورِثُها الذُّلَّ إدْمَانُها

وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ

وخيرٌ لنفسِكَ عِصْيَانُها

وما أفسدَ الدينَ إلا الملوكُ

وأحْبَارُ سَوْءٍ ورُهْبانُها

وباعوا النفوسَ فلم يَرْبَحوا

ولم تَغْلُ بالبيعِ أثْمَانُها

لقد رَتَعَ القومُ في جيفةٍ

يبينُ لِذِي اللُّبِّ إنتانُها

(3)

وقال: إنما الورعُ بتَسْويةِ كُلِّ الخلقِ في قلبِك، والاشتغال عن عُيوبِهم بذنبِك، وعليك باللَّفْظِ الجميل من قلبٍ ذَليل، لِرَبٍّ جَليل؛ فكرْ في ذنبِك وتُبْ إلى ربِّك، يَنْبُتِ الورَعُ في قلبِك؛ واقْطَعِ الطمعَ إلَّا من ربِّك.

وقال: ليس من أعلامِ الحُبِّ أنْ تُحبَّ ما يُبْغضُهُ حَبيبُك؛ ذمَّ مولانا الدُّنيا فمَدَحْناها، وأبغَضَها

(1)

هو أبو جعفر المنصور كما في حلية الأولياء (8/ 10). وينسب البيت لعبد اللَّه بن المبارك، وهو في ديوانه ص (86) وبعده:

ففي كلِّ يوم يَبْتَديك بنعمةٍ

منه وأنت لشُّكْرِ ذاك مُضَيِّعُ

(2)

الأبيات لابن الرومي وهي في ديوانه بألفاظ مقاربة ص (392)، وله أيضًا بقافية الدال ص (373):

لمَا تُؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يُولدُ

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأفْسَحُ ممَّا كان فيه وأرْغَدُ

إذا أبصرَ الدنيا اسْتَهلَّ كأنه

بما سوف يلقى من أذاها يُهدَّدُ

(3)

الأبيات لعبد اللَّه بن المبارك وهي في ديوانه ص (66).

ص: 394

فأحبَبْناها، وزَهَّدَنا فيها فآثَرْنا ورَغِبْنا في طَلبِها؛ ووعَدَكم خرابَ الدُّنيا فحصَّنْتُموها، ونَهاكم عن طلَبِها فطلبتُموها، وأنذرَكُمُ الكُنُوز فكنَزْتُموها، دَعَتْكُمْ إلى هذه الغَرَّارةِ دواعيها فأجبتُمْ مُسْرِعينَ مُناديِها، خَدَعتْكُمْ بغُرورها ومَنَّتْكُمْ فانقَدْتُمْ خاضعين لأمانيها؛ تتمرَّغُونَ في زَهَراتِها وزَخارِفها وتتَنَعَّمون في لذَّاتها، وتتقلبَّون في شهَواتها، وتتلوَّثونَ بتَبِعَاتِها، تَنْبشُونَ بمَخالِبِ الحِرْصِ عن خزائنِها، وتحفِرونَ بمعَاوِلِ الطمَعِ في معادنِها.

وشكى إليه رجلٌ كثرةَ عِيَالِهِ فقال: ابعَثْ إليَّ منهم منْ لا رِزْقُهُ على اللَّه. فسكتَ الرجل. وقال: ومررتُ في بعضِ جبال، فإذا حجرٌ مكتوب عليهِ بالعربية:

كُلُّ حي وإنْ بَقِي

فمِنَ العَيْشِ يَسْتَقِي

فاعمَلِ اليومَ واجتهدْ

واحْذَرِ الموتَ يا شَقي

قال: فبينما أنا واقفٌ أقرأُ وأبْكي، وإذا برجل أشعَرَ أغْبَر، عليه مِدْرَعةٌ من شَعر، فسَلَّمَ وقال: ممَّ تبكي؟ فقلت: من هذا. فأخَذَ بيدي ومَضَى غيرَ بعيد، فإذا بصخرةٍ عظيمةٍ مثلِ الْمحْراب، فقال: اقرَأْ وابْكِ ولا تقصِّرْ. وقام هو يُصلِّي، فإذا في أعلاهُ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبي:

لا تَبْغِيَنْ جاهًا وجاهُكَ ساقِطٌ

عندَ المليكِ وكُنْ لجاهِكَ مُصْلحا

وفي الجانب الآخر نقشٌ بَيِّنٌ عرَبي:

منْ لم يَثِقْ بالقضاءِ والقَدَرِ

لاقَى هُمومًا كثيرةَ الضَّرَرِ

وفي الجانب الأيْسَرِ نَقْشٌ بَيِّنٌ عربي:

ما أزْيَنَ التُّقَى، وما أقبح الخنا، وكلٌّ مأخوذٌ بما جَنا، وعند اللَّه الجزا.

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراعٍ أو أكثر:

إنَّما الفَوْزُ والغِنَى

في تُقَى اللَّهِ والعَمَلْ

قال: فلمَّا فرَغْتُ من القراءة التفَتُّ، فإذا ليس الرجلُ هناك، فما أدري، أنصرفَ أمْ حُجِب عني؟.

وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقَلُها على الأبدان، ومنْ وَفَى العمل وُفِّي له الأجر؛ ومنْ لم يعمَلْ رَحَلَ من الدنيا إلى الآخرةِ بلا قليلٍ ولا كثير.

وقال: كُلُّ سلطانٍ لا يكونُ عادلًا فهو واللصُّ بمَنْزلةٍ واحدة؛ وكلُّ عالِمٍ لا يكونُ وَرِعًا فهو والذئبُ بمَنْزلةٍ واحدة؛ وكلُّ منْ خدَم سوى اللَّه فهو والكلبُ بمَنْزلةٍ واحدة.

وقال: ما ينبغي لمَنْ ذَلَّ للَّهِ في طاعتِه، أنْ يَذِلَّ لغيرِ اللَّه في مَجَاعَتِه؛ فكيف بمنْ هو يتقلَّبُ في نِعَمِ اللَّه وكِفَايته.

ص: 395

وقال: أعرَبْنا في كلامِنا فلم نَلْحنْ، ولَحَنَّا في أعمالنا فلم نُعْرِبْ.

وقال: كُنَّا إذا رأينا الشابَّ يتكلَّمُ في المجلس أيسْنا من خيرِه.

وقال: جانبوا الناس، ولا تنقطعوا عن جُمعةٍ ولا جَماعة.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين

(1)

بن محمد بن رامين

(2)

الإستراباذي، قال: أنبأ عبدُ اللَّه بن محمد الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن محمود بن خَرَّزاد الأهوازي، حدّثني علي بن محمد القصري، حدّثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعتُ سَريًا السَّقَطيَّ يقول: سمعتُ بشرَ بن الحارث الحافي يقول: قال إبراهيمُ بن أدهم: وقفتُ على راهبٍ، فأشرف عليُّ فقلت له: عِظْني. فأنشأ يقول:

خُذْ عن الناس جانبا

كي يظنُّوك راهبا

إنَّ دَهْرًا أظلَّني

قد أراني العجائبا

قَلِّبِ الناس كيف شِئْـ

ـتَ تَجِدْهُمُ عَقَارِبا

قال بشر: فقلت لإبراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعِظْنِي أنت. فأنشأ يقول:

تَوَحَّشْ من الإخوانِ لا تَبْغِ مُؤنسًا

ولا تتخِذْ خِلًّا ولا تَبْغِ صاحبا

وكُنْ سامِرِيَّ الفعلِ من نسلِ آدمٍ

وكُنْ أوحَدِيًّا ما قَدَرْتَ مُجانِبا

فقد فسد الإخوانُ والحُبُّ والإخَا

فلستَ ترى إلَّا مَذُوقًا

(3)

وكاذِبا

فقلتُ ولولا أنْ يُقالَ مُدَهْدَة

(4)

وتُنْكر حالاتي لقد صِرْتُ راهبا

قال سَرِيّ: فقلتُ لِبشر: هذه موعظةُ إبراهيمَ لك، فعِظْني أنت. فقال: عليك بالخُمول، ولُزومِ بيتِك. فقلت: بلَغَني عن الحسن أنه قال: لولا الليلُ وملاقاةُ الإخوان ما بالَيْتُ متى مِتّ.

فأنشأ بشرٌ يقول:

(1)

في الأصول وتاريخ ابن عساكر: "أبو محمد الحسن بن الحسن"، والمثبت من تاريخ بغداد (7/ 300) في ترجمته، ومواضع كثيرة منه، ومن مؤلفات الخطيب البغدادي، إذ هو شيخ أبي بكر الخطيب.

(2)

في (ق): "زامين" بالزاي، والمثبت من (ح) والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة.

(3)

كذا في الأصول، والوجه أن يقول:"مِذَاقًا"، جاء في لسان العرب (مذق): الْمُمَاذقةُ في الوُدّ: ضدُّ المُخالصَة. ومَذَق الوُدَّ لم يُخلِصْهُ. ورجل مَذَّاق: كذُوب. ورجلٌ مَذِق، ومَذَّاق ومُماذِق: بَيِّنُ الْمِذَاق. مَلُول. وفي الصحاحِ غيرُ مُخْلص، وهو الْمِذاق.

(4)

"دَهْدَهَ الشيءَ فَتَدَهْدهَ": حَدَرهُ من عُلوٍ إلى سُفْل تَدَحْرُجًا. ودَهْدَهَهُ: قَلَبَ بعضَهُ على بعض، فهو مُدَهْدَه. لسان العرب (دهده).

ص: 396

يا مَنْ يُسرُّ برؤيةِ الإخوانِ

مهْلًا أمِنْتَ مَكايِدَ الشيطانِ

خَلَتِ القلوبُ من الْمَعادِ وذِكْرِهِ

وتشاغلوا بالحِرْصِ والخُسْرانِ

صارَتْ مجالسُ منْ تَرَى وحديثُهم

في هَتْكِ مَسْتُورٍ ومَوْتِ جَنَانِ

(1)

قال الحلبي: فقلتُ لِسَريّ: هذه موعظةُ بشر، فعِظْني أنت. فقال: عليك بالإخْمال. فقلت: أحبُّ ذاك. فأنشأ يقول:

يا منْ يَرُومُ بزَعْمِهِ إخْمالًا

إنْ كان حقًّا فاستعِدَّ خِصالا

تَرْكَ المجالِسِ والتذاكُرِ يا أخي

واجعَلْ خروجَكَ للصلاةِ خَيَالا

بل كُنْ بها حَيًّا كأنَّكَ مَيِّتٌ

لا يَرْتَجي منه القريبُ وِصَالا

قال محمد بن محمد القَصْري: قلتُ للحلبي: هذه موعظةُ سَريٍّ لك، فعِظْني أنت. قال: يا أخي أحَبُّ الأعمالِ إلى اللَّه ما صَعِدَ إليه من قلبِ زاهدٍ في الدُّنيا؛ فازْهَدْ في الدنيا يُحبَّكَ اللَّه ثم أنشأ يقول:

أنتَ في دارِ شَتاتٍ

فتأهَّبْ لِشَتاتِكْ

واجعلِ الدُّنيا كيومٍ

صمْتَهُ عن شَهَواتِكْ

واجعلِ الفِطْرَ إذا

ما صُمْتَهُ يومَ وفاتِكْ

قال ابنُ خُرَّزاد: فقلت لعلي: هذه موعظةُ الحلبيِّ لك، فعِظْني أنت. فقال لي: احفَظْ وقتَك، واسخُ بنفسِك للَّهِ عز وجل، وانْزِعْ قيمةَ الأشياءَ من قلبِك، يَصْفُ لك بذلك سِرُّك، وَيذْكُو به ذِكْرُك. ثم أنشدَ يقول:

حياتُكَ أنفاسٌ تُعدُّ فكلَّما

مضَى نَفَسٌ منها انْتَقَصْتَ بهِ جُزْءا

فتصبحُ في نَقْصٍ وتُمْسي بمِثْلهِ

ومالَكَ مَعْقولٌ تُحسُّ بك رُزْءا

يُميتُكَ ما يُحْييكَ في كلِّ ساعةٍ

ويَحدُوكَ حادٍ ما يَزيدُ بكَ الْهُزءا

قال أبو محمد: قلتُ لأحمد: هذه موعظةُ على لك، فعِظْني. فقال: يا أخي، عليك بلُزومِ الطاعة، وإيَّاك أنْ تُفارقَ بابَ القناعة، وأصْلِحْ مَثْواك، ولا تُؤْثِرْ هَوَاك، ولا تَبعْ آخرَتَكَ بدُنياك؛ واشتغِلْ بما يَعْنيكَ بِتَرْكِ ما لا يَعْنيك. ثم أنشد:

نَدِمْتُ على ما كانَ منِّي نَدَامةً

ومنْ يَتَّبِعْ ما تشتهي النفسُ يَنْدَمِ

فخافوا لكيما تأمنوا بعدَ موتِكُمْ

ستَلْقَوْنَ رَبًّا عادِلًا ليس يَظْلِمُ

(2)

فليس لِمَغْرورٍ بدُنْياهُ زاجِرٌ

سيَنْدمُ إنْ زَلَّتْ بهِ النَّعْلُ فاعْلَمِ

(1)

في (ب، ح): "وخلق قران"، بدل "وموت جنان"، والمثبت من (ق).

(2)

كذا في الأصول، بإقواءٍ في القافية، ولعلّ الصواب:"لم يُظَلَّم"، أي لم ينسب إلى الظُّلْم أبدًا.

ص: 397

قال أبو محمد بن رامين: فقلتُ لأبي محمد: هذه موعظةُ أحمد لك، فعِظْني أنت. فقال: اعلَمْ رَحِمكَ اللَّه أنَّ اللَّه عز وجل يُنْزلُ العَبيد حيثُ نَزَلَتْ قلوبُهم بهُمومها، فانظُرْ أين يَنْزِلُ قلبُك؟ واعلَمْ أنَّ اللَّه سبحانه يَقْرُبُ من القلوب على حَسَبِ ما قُرِّبَ إليها

(1)

؛ فانظُرْ منِ القريبُ من قلبِك. وأنشدني:

قلوبُ رجالٍ في الحجابِ نُزولُ

وأرواحُهم فيما هناك حُلولُ

تَروحُ نَعيمُ الأنسِ في عزِّ قُرْبِهِ

بإفرادِ تَوْحيدِ المَلِيكِ تَجُولُ

لهم بِفَناءَ القُرْبِ من مَحْضِ بِرِّهِ

عوائدُ بَذْلٍ خَطبُهُنَّ جَليلُ

قال الخطيب: فقلتُ لابنِ رَامين

(2)

هذه موعظةُ الحميدي لك، فعِظْني أنت. فقال: اتَّقِ اللَّه وثِقْ به، ولا تتَّهِمْه، فإنَّ اختبارَهُ لك خيرٌ من اختبارِكَ لنفسِك. وأنشدني:

اتَّخِذِ

(3)

اللَّه صاحبا

ودَعِ النَّاسَ جانبا

جَرَّبِ النَّاسَ كيف شِئْـ

ـتَ تَجِدْهُمُ عَقَاربا

قال أبو الفرج غَيْثُ الصُّوري: فقلتُ للخطيب: هذه موعظةُ ابن رامين لك، فعِظْني أنت. فقال: احذَرْ نفسَك التي هي أعْدَى أعدائِكَ أنْ تُتَابِعَها على هَوَاها، فذاك أعْضَلُ دائك، واستَشْرِفِ الخوفَ من اللَّه تعالى بخِلافها، وكَرِّرْ على قلبك ذكرَ نُعوتِها وأوصافِها فإنَّها الأمَّارةُ بالسُّوءِ والفحشاء، والْمُوردَةُ منْ أطاعَها موارد العَطَبِ والبَلاء، واعْمِدْ في جميعِ أمورِك إلى تَحرِّي الصِّدْق، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقد ضَمِنَ اللَّه لمنْ خالَفَ هواهُ أنْ يجعلَ له جنَّةَ الخُلدِ قَرَارَهُ ومأواه. ثم أنشد لنفسه:

إنْ كنتَ تَبْغي الرَّشَادَ مَحْضًا

في أمْرِ دُنْيَاكَ والْمَعَادِ

فخالفِ النفسَ في هواها

إنَّ الهوى جامعُ الفَسَادِ

(4)

قال ابن عساكر

(5)

: المحفوظ أنَّ إبراهيم بن أدهم تُوفَي سنة ثنتين وستين ومئة. وقال غيره: إحدى وستين. وقيل: سنة ثلاث. والصحيحُ ما قاله ابنُ عساكر، واللَّه أعلم. وذكروا أنه تُوفِّي في جزيرةٍ من جزائرِ الرُّوم، وهو مُرَابط، وأنه ذهَبَ إلى الخَلاء ليلةَ مات نحوًا من عشرين مرَّة وفي كلِّ مرَّةٍ يُجدِّدُ

(1)

أقحمت عبارة في هذا الموضع في (ق)، ليست في (ب، ح)، ولا في بغية الطلب.

(2)

في (ق): "زامين"، انظر الحاشية على هذا الاسم في صدر الخبر.

(3)

كذا في الأصول، والصواب:"تَخِذِ"، ليستقيم وزن البيت.

(4)

ساقه بطوله ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (6/ 345 - 348)، وابن العديم بن أبي جرادة في بغية الطلب (2/ 1080 - 1083) بإسنادهما عن الخطيب البغدادي.

(5)

في تاريخ مدينة دمشق (6/ 6 - 349).

ص: 398

الوُضوء بعدَها. وكان به البَطْن، فلما كانتْ غشيةُ الموت قال: أوْتروا لي قَوْسي. فأوْتَروه، فقَبَضَ عليه، فماتَ وهو قابضٌ عليهِ يُريدُ الرَّمْيَ به إلى العدو، رحمه الله وأكرَمَ مَثْواه.

وقد قال أبو سعيد بنُ الأعرابي: حدّثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: سمعتُ السَّريَّ بن حيان

(1)

يقول -وكان سفيانُ معجبًا به-:

أجاعتهمُ الدُّنيا فجاعوا

(2)

ولم يزلْ

كذلك ذو التقوى عن العيش مُلجَما

أخو طيئٍ داودُ منهم ومِسْعرٌ

ومنهم وُهيبٌ والعريبُ ابنُ أدْهَما

وفي ابنِ سعيدٍ قدوةُ البرِّ والنُّهَى

وفي الوارثِ الفاروقِ صِدْقًا مُقَدَّما

وحَسْبُكَ منهم بالفُضَيل مع ابنهِ

ويوسفَ إنْ لم يألُ أنْ يَتَسلَّما

أولئك أصحابي وأهلُ مودَّتي

فصلَّى عليهم ذو الجلالِ وسَلَّما

فما ضرَّ ذا التقوى تَضَاؤلُ نِسْبةٍ

(3)

وما زال ذو التقوى أعَزَّ وأكْرَما

وما زالتِ التقوى تُريكَ على الفَتَى

إذا مَحَّضَ التقوى من العِزِّ مَبْسَما

(4)

وروى البخاري في كتاب الأدب

(5)

عن إبراهيمَ بن أدهم. وأخرج الترمذيّ في جامعه حديثًا مُعلَّقًا في المسح على الخُفَّيْن

(6)

.

وأما: داود الطائي

(7)

: فهو داودُ بنُ نُصيْر الطائي، أبو سليمان الكوفي الفقيه الزاهد، أخَذَ الفقه عن

(1)

كذا في (ب، ح) وحلية الأولياء، وسقط الاسم من (ق)، وفي تاريخ ابن عساكر:"سمعت السري بن جمكان"، ولم أقف على ترجمة له.

(2)

في (ق): "فخافوا"، والمثبت من (ب، ح).

(3)

في (ب): "يصال بسبه"، وفي (ح):"يضاد سبه"، وفي تاريخ ابن عساكر:"نصال أسنة"، والمثبت من حلية الأولياء.

(4)

في (ب، ق) وتاريخ ابن عساكر: "ميسما"، والمثبت من (ح) وحلية الأولياء والخبر والشعر فيه (6/ 375)، وفي تاريخ ابن عساكر (6/ 349).

(5)

كتاب الأدب المفرد للبخاري ص (428) برقم (1253)، يروي البخاري فيه خبرًا عن محمد بن عبد العزيز العمري، بإسناده إلى إبراهيم بن أدهم، فذكر قصة زيارته إلى يحيى بن حسان البكري.

(6)

جامع الترمذيّ برقم (94) في الطهارة: باب في المسح على الخفين معلقًا، ورواه مسندًا الترمذيّ برقم (671) و (612) وهو حديث صحيح.

(7)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 367)، التاريخ الكبير (3/ 240)، المعارف ص (515)، مشاهير علماء الأمصار ص (168)، حلية الأولياء (7/ 335)، تاريخ بغداد (8/ 347)، الرسالة القشيرية (1/ 81). الأنساب (8/ 306)، مناقب الأبرار لابن خميس ص (48/ ب)، المختصر لابن خميس ص (45/ أ)، صفة الصفوة (3/ 131)، الكامل لابن الأثير (6/ 50)، وفيات الأعيان (2/ 259)، تهذيب الكمال (8/ 455)، =

ص: 399

أبي حَنيفة. قال سفيانُ بن عُيَيْنة: ثم تَرَك داودُ طلَبَ الفقه، وأقبلَ على العِبَادَةِ، ودَفَن كُتبَه.

قال عبدُ اللَّه بن المبارك: وهل الأمر إلَّا ما كان عليه داودُ الطائي؟.

قال ابنُ مَعين: كان ثقةً، وفد على المهدي ببغداد، ثم عاد إلى الكوفة.

ذكرَهُ الخطيب البغدادي وقال: مات في سنة ستين ومئة؛ وقيل: سنة خمسٍ وستين ومئة

(1)

.

قلتُ: وقد ذكرَ شيخُنا الذهبي في تاريخه أنَّهُ تُوفي في هذه السنة - أعني سنةَ ثنتين وستين ومئة. فاللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومئة

فيها حُصر المقنَّع الزِّنْديق الذي كان قد نَبَغَ بخُرَاسان، وقال بالتناسُخ، واتَّبَعهُ على جَهَالَتِهِ وضلالتِهِ خَلْقٌ من الطَّغَام، وسُفَهاءَ الأنام، والسِّفْلَةِ من العَوَام؛ فلما كان في هذا العام، لَجَأ إلى قلعةِ كَشّ

(2)

، فحاصَرَهُ سعيدٌ الحَرَشِيّ

(3)

فألَحَّ عليه في الحصار، فلمَّا أحسنَ بالغَلَبة تَحَسَّى سُقًا، وسمَّ نساءَهُ فماتوا جميعًا؛ عليهم لعائنُ اللَّه. ودخل الجيشُ الإسلامي قلعتَه، فاحتزُّوا رأسَه، وبَعثُوهُ إلى المهدي؛ وكان المهديُّ بحلب.

قال ابنُ خَلِّكَان

(4)

: كان اسمُ المقنَّع عَطاء، وقيل: حَكيم، والأول أشهر. وكان أولًا قَصَّارًا [من أهل مَرْو، وكان يعرفُ شيئًا من السِّحْر والنِّيرَجَاتْ

(5)

]، ثم ادَّعى الرُّبوبيَّةَ مع أنه كان أعوَرَ قبيحَ المنظر،

= سير أعلام النبلاء (7/ 422)، الوافي (13/ 495)، طبقات ابن الملقن ص (200)، تهذيب التهذيب (3/ 203)، طبقات الشعراني (1/ 76)، شذرات الذهب (1/ 256).

(1)

في (ح، ق): سنة ست وخمسين ومئة، والمثبت من (ب) وتاريخ بغداد للخطيب (8/ 354).

(2)

كَشّ -بالفتح ثم التشديد-: قرية على ثلاثةِ فراسخَ من جُرْجانَ على جَبَل. وتقال "قلعة كس" بالسين، وتُسمَّى أيضًا "قلعة سَنَاما" كما سيأتي. معجم البلدان (4/ 462، و 3/ 191). وقال ابنُ خَلِّكان في وفيات الأعيان (3/ 264): ولم أر أحدًا ذكر هذه القلعة وأين هي حتى أذكرها، ثم رأيت في كتاب الشهاب ياقوت الحموي الذي وضعه في معرفة المواضع المشتركة، فقال في باب "سَنَام" بفتح السين: إنها أربعة مواضع، والموضع الرابع منها سنام، قلعة عمرها المقنَّع الخارجي بما وراء النهر. اهـ. وفيان الأعيان ج: 3 ص: (265). واللَّه أعلم والظاهر أنها هذه القلعة ثم وجدت في أخبار خراسان أنها هي وأنها من رستاق كش واللَّه أعلم.

(3)

في (ح، ق): الحريثي، وهو تصحيف، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري (4/ 566).

(4)

في ترجمته في وفيات الأعيان (3/ 263)، وما سيأتي بين معقوفين منه.

(5)

"النِّيرجات، واحدُها نِيرَج": أُخذ تُشْبهُ السِّحْرَ وليستْ بحقيقته، ولا كالسِّحْر، إنما هو تشيهٌ وتَلْبيس. لسان العرب (نرج).

ص: 400

وكان يتَّخِذُ له وجها من ذَهَبَ، وتابَعهُ على جَهالَتِهِ خلقٌ كثير، وكان يُري النَّاسَ قمَرًا من مسيرةِ شهريْن، ثم يَغِيب؛ فعَظُمَ اعتقادُهم له، ومنعُوهُ بالسِّلاح؛ وكان يَزْعُم -لعنهُ اللَّه وتعالى عمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا- أنَّ اللَّه ظهَرَ في صور آدَم، ولهذا سجدَتْ له الملائكة، ثم في نُوح، ثم في الأنبياء واحدًا واحدًا، ثم تحوَّلَ إلى أبي مسلمٍ الخُراساني، ثم تحوَّلَ إليه.

ولما حاصرَهُ المسلمون في قلعتِهِ -كان جدَّدَها بناحيةِ كَشّ، ممَّا وراء النَّهْر، ويُقالُ لَها سَنام- تحَسَّى هو ونساؤه سُمًّا فماتوا، واستحوذ المسلمون على حَوَاصله وأموالِه.

وفيها جهَّز المهديُّ البُعوثَ من خُرَاسان وغيرِها من البلاد لغزوِ الرُّوم. وأمَّرَ على الجميع ولَدَهُ هارونَ الرَّشيد، وخرج من بغدادَ مُشَيعًا له، فسار معهُ مَرَاحل، واستخلف على بغدادَ ولدَهُ موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحُسين بن قَحْطبة، والربيع الحاجبُ، وخالدُ بن بَرْمك -وهو مثلُ الوزيرِ للرَّشيد وليِّ العهد- ويحيى بن خالد وهو كاتبُه، وإليه النففات. وما زال المهديُّ مع ولد مشيِّعًا له حتى بلغ دروبَ الرُّوم عند جيحَان

(1)

، وارتادَ هناكَ المدينة المسمَّاة بالْمَهْديَّة في بلادِ الرُّوم، ثم رجع إلى الشام، وزار بيتَ المقدس، فسار الرشيدُ إلى بلادِ الروم في جحافلَ عظيمة، وفتح اللَّه عليهم فتوحاتٍ كثيرةً، وغَنموا أموالًا جزيلةً جدًّا، وكان لِخالدِ بنِ بَرْمَكَ في ذلك أثَر جميلٌ لم يكنْ لغيرِه؛ وبعثوا بالبشارةِ مع سُليمان بنِ بَرْمَك إلى المهدي، فأكرَمهُ المهديُّ وأجزلَ عطاءَه.

وفيها عزَلَ المهديُّ عمَّه عبدَ الصمد بن علي عن الجزيرة، وولَّى عليها زُفَرَ بن عاصم الهلالي، ثم عزله وولَّى عبدَ اللَّه بن صالح بن علي.

وفيها ولَّى المهديُّ ولدَهُ هارونَ الرشيد بلادَ المغرب، وأذْرَبيجان، وإرْمينيَة، وجعل على رسائلِه يحيى بن خالد بن بَرْمَك؛ وولَّى وعزلَ جماعةً من النوَّاب. وحجَّ بالناس فيها المهدي عليُّ بنُ المهدي.

‌وفيها تُوفِّي:

إبراهيمُ بن طَهْمان.

وحَريزُ بن عثمان الحمصي الرَّحبي.

وموسى بن علي اللَّخْميُّ المصريّ.

(1)

في (ق): ". . . بلغ الرشيد إلى بلاد الروم"، وفي (ح):"حتى بلغ دروب المدينة. . . "، وفي (ب):"حتى بلغ دروب الروم عند صحار". وأثبتنا ما في (ب) بعد تصحيح التصحيف في "صحار"، من الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 244). وجيحان -بالفتح ثم السكون والحاء مهملة وألف ونون-: نَهْرٌ بالْصَّيصَة بالثغر الشامي، ومَخْرَجُه من بلاد الروم، ويمرُّ حتى يصبَّ بمدينة تُعرف بكفربيا بإزاء المصيصة. معجم البلدان (2/ 196).

ص: 401

وشُعيب بن أبي حمزة.

وعيسى بن علي بن عبد اللَّه بن عباس عمُّ السفَّاح، وإليه يُنسب قصرُ عيسى ونهرُ عيسى ببغداد. قال يحيى بن مَعين: كان له مذهبٌ جميل، وكان معتزلًا للسُّلطان، توفي في هذه السنة عن ثمانٍ وسبعين سنة.

وهمَّام بن يحيى.

ويحيى بن أيوب المصري.

وعُبيدة بنت أبي كلاب العابدة، بكَتْ من خشيةِ اللَّه أربعين سنة حتى عَميَتْ. وكانت تقول: أشتهي الموت، فإني أخشى أن أجْنيَ على نفسي جنايةً تكونُ سببَ هلاكي يومَ القيامة.

‌ثم دخلت سنة أربع وستين ومئة

فيها غزا عبدُ الكبير بن عبدِ الحميد بن زَيْد بن الخطَّاب بلادَ الرُّوم؛ فأقبل إليه ميخائيل البِطْريق في نحوِ تسعين ألفًا، فيهم طازاذ الأرمني البِطْريق، ففشِلَ عنه عبدُ الكبير، ومنَعَ المسلمين من القتال، وانصرف راجعًا. فأراد المهديُّ ضَرْبَ عُنقِه، فكُلِّمَ فيه، فحَبَسهُ في الْمُطْبِق.

وفي يوم الأربعاء في أواخر ذي القَعْدَة أسَّسَ المهديُّ قصرًا من لَبِن بِعِيسَاباذ

(1)

، ثم عزَمَ على الذهابِ إلى الحجّ، فأصابَهُ حُمَّى، فرجع من أثناءَ الطريق، فعَطِشَ الناسُ في الرَّجْعَة، حتى كاد بعضُهم يَهْلِك، فغضب المهديُّ على يقطين صاحبِ المصانع، وبعث من حيثُ رَجَعَ المهلَّبُ بن صالح بن أبي جعفر لِيَحُجَّ بالناس؛ فحج بهم عامَئِذٍ.

‌وفيها توفي:

شيبان بن عبد الرحمن النَّحْوي.

وعبدُ العزيز بن أبي سَلَمة الماجشُون.

ومُبارك بن فَضَالة صاحبُ الحسن البصري.

(1)

عِيسَابَاذ: "باذ" في هذا الاسم مما تستعمله الفرس، ومعنى "باذ" العِمَارة، فكأنَّ معناهُ عمارة عيسى، ويُسمُّونَ العامر أباذان، هذه مَحَلَّةٌ كانت بشرقيِّ بغداد منسوبةً إلى عيسى بن المهدي، وأمهِ وأمِّ الرشيد، والهادي الخيزران هو أخوهما له، وبها ماتَ موسى بنُ المهدي بن الهادي، وبنى بها المهديُّ قصرَهُ الذي سمَّاه قصر السلام، فبلغتِ النفقةُ عليه خمسين ألف ألف درهم. معجم البلدان (4/ 172، 173).

ص: 402

‌ثم دخلت سنة خمس وستين ومئة

فيها جهَّزَ المهديُّ ولدَهُ الرشيد لغزوِ الصائفة، وأنفَذَ معه من الجيوش خمسةً وتسعين ألفًا، وسبعَ مئة وثلاثة وتسعين رجلًا؛ وكان معه من النفقة مئةُ ألف دينار، وأربعةٌ وتسعون ألفَ دينار، وأربعُمئةٍ وخمسون دينارًا؛ ومن الفضَّة إحدى وعشرون ألفَ ألفٍ، وأربعُمئة ألفٍ، وأربعةَ عشرَ ألفًا وثمان مئةِ درهم. قاله ابنُ جرير

(1)

. فبلغ بجنودِهِ خليجَ البحر الذي على القُسْطَنْطينيَّة، وصاحبُ الروم يومئذٍ أُغسطةُ امرأةُ ألْيون، ومعها ابنُها في حجْرِها من الملك الذي تُوفي عنها؛ فطلبتِ الصُّلحَ من الرشيد على أن تدفعَ له سبعينَ ألفَ دينارٍ في كلِّ سنة، فقَبِل ذلك منها، وذلك بعدما قَتَلَ من الرُّوم في الوقائع أربعةً وخمسينَ ألفًا، وأسَرَ من الذَّرَاري خمسةَ آلاف رأس وستَمئةٍ وأربعينَ رأسًا، وقتل من الأسرى ألفَيْ قتيلٍ صَبْرًا، وغَنِمَ من الدَّوَابِّ بأدواتها عشرين ألفَ فرس، وذبَحَ من البقر والغَنَمِ مئةَ ألفِ رأس، وبيع البِرْذَوْن بدِرهم، والبغلُ بأقلَّ من عشرةِ دراهم، والدِّرْعُ بأقلَّ من درهم، وعشرون سيفًا بدرهم، فقال في ذلك مروانُ بنُ أبي حَفْصَة:

أطُفتَ بِقُسْطَنْطينةِ

(2)

الرُّومِ مُسْنِدًا

إليها القَنَا حتى اكتسى الذُّلَّ سُورُها

وما رُمْتَها حتى أتَتْكَ ملوكُها

بجِزْيَتها والحربُ تَغْلي قدورُها

وحجَّ بالناس في هذه السنة صالحُ بن أبي جعفر المنصور.

‌وفيها تُوفِّي:

سليمانُ بن المغيرة.

وعبدُ اللَّه بن العلاء بن زَبْر

(3)

.

وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان

(4)

.

ووهب بن خالد.

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 572).

(2)

في (ق): "بقسطنطينية"، ولا يستقيم بها الوزن، والمثبت من (ب، ح) وديوان مروان بن أبي حفصة ص (66).

(3)

في (ق): "دبر"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (5/ 162)، وتقريب التهذيب ص (317).

(4)

في (ق): "عبد الرحمن بن نائب بن ثوبان"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وترجمته في مشاهير علماء الأمصار ص (181)، وتاريخ بغداد (10/ 222)، وتقريب التهذيب ص (337).

ص: 403

‌ثم دخلت سنة ست وستين ومئة

في المحرَّم منها قَدِم الرشيدُ من بلادِ الرُّوم، فدخل بغدادَ في أُبَّهةٍ عظيمة، ومعه الرُّوم يَحْمِلونَ الجِزْيَةَ من الذهب وغيرِه. وفيها أخذَ المهديُّ البيعةَ لولدِهِ هارونَ من بعدِ موسى الهادي، ولُقِّبَ بالرَّشيد.

وفيها سَخِطَ المهديُّ على يعقوبَ بنِ داود، وكان قد حَظِيَ عندَهُ حتى استوزَرَه، وارتفعَتْ منْزلتُه في الوزارة، حتى فوَّض إليه جميعَ أمرِ الخلافة؛ وفي ذلك يقول بشَّارُ بنُ بُرْد:

بني أميةَ هُبُّوا طالَ نومُكُم

(1)

إنَّ الخليفةَ يعقوبُ بنُ داودِ

ضاعَتْ خلافتُكمْ يا قومُ فاطَّلبوا

خليفةَ اللَّه بين الزِّقِّ والعُودِ

(2)

فلم تزل السُّعاةُ والوشاةُ بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلَّما سعَوْا به إليه دخل إليه فأصلح أمرَه معَه، حتى وقَعَ من أمرِهِ ما سأذكرُه، وهو أنه دخل ذاتَ يومٍ على المهدي في مجلسٍ عظيم، قد فُرش بأنواعِ الفُرش، وألوانِ الحرير، وحول ذلك المكان أشجارٌ

(3)

مُزهرة بأنواعِ الأزاهير، فقال: يا يعقوب، كيف رأيتَ مجلسَنا هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ أحسنَ منه! فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية، لِيَتَمَّ بها سرورُك، ولي إليك حاجةٌ أحبُّ أنْ تقضِيَها. قلت: وما هي يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: حتى تقولَ نعَمْ. فقلتُ: نعمْ، وعلى السمعِ والطاعة. فقال: آللَّه؟ فقلت: آللَّه. قال: وحياة رأسي؟ قلت: وحياةِ رأسك. فقال: ضَعْ يدَكَ على رأسي وقُلْ ذلك. ففعلت، فقال: إنَّ هاهنا رجلًا من العلويِّين أحبُّ أنْ يكْفينيهِ -والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حسن بن حسن بن عليِّ بن أبي طالب- فقلت: نعم. فقال: وعَجل عليّ، ثم أمرَ بتحويل ما في ذلك المجلس إلى مَنزلي، وأمرَ لي بمئةِ ألفِ درهم، وتلك الجارية، فما فرحتُ بشيءٍ فرَحي بها؛ فلمَّا صارتْ بمَنزلي حجبتُها في جانبِ الدار في خِدْر، فأمَرْتُ بذلك العَلويّ، فجيء به فجلسَ إليَّ فتكلَّم، فما رأيتُ أعقلَ منه ولا أفهَم! ثم قال لي: يا يعقوب، تَلْقَى اللَّه بدَمي وأنا رجلٌ من ولَدِ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقلتُ: لا واللَّه، ولكنِ اذهَبْ حيثُ شئتَ وأين شئت. فقال: إنِّي أختارُ بلادَ كذا وكذا. فقلتُ: اذهبْ كيف شئت، ولا يظهرَنَّ عليك المهديُّ فتَهْلِكَ وأهلِك. فخرج من عندي وجهَّزْتُ معه رجلَيْنِ يسفِّرانِهِ

(1)

كذا في الأصول، وتاريخ الطبري (4/ 575)، وفي ديوان بشار "يا أيها الناس قد ضاعت خلافتكم"، وهو أشبه بالصواب.

(2)

البيتان في ديوان بشار ص (395).

(3)

في (ق): أصحان، والمثبت من (ب، ح).

ص: 404

ويُوصلانِهِ بعضَ البلاد، ولم أشعُرْ بأنَّ الجاريةَ قد أحاطَتْ علمًا بما جرَى، وأنَّها كالجاسوسِ عليّ فبَعَثَتْ بخادِمِها إلى المهديِّ فأعلَمتْهُ بما جَرَى، وتقول له: هذا الذي آثرته بي قد فعل كذا وكذا. فغَضِبَ المهديّ، فبعث إلى تلك الطريق، فردُّوا ذلك العلويّ، فحبَسَهُ عندَهُ في بيتٍ من دارِ الخِلافة، وأرسل إليَّ من اليوم الثاني، فذهبتُ إليه، ولم أشعُرْ منْ أمْرِ العلويِّ بشيء، فلمَّا دخلتُ عليه قال: ما فعلَ العلويّ؟ قلتُ: مات. قال: آللَّه؟ قلت: آللَّه. قال: فضَعْ يدَكَ على رأسي واحْلِفْ بحياتِه. ففعلتُ، فقال: يا غلام، أخرِجْ ما في هذا البيت. فخرَجَ العلويّ، فأُسقِطَ في يدي، فقال المهدي: دمُكَ حلال. ثم أمَرَ به فأُلقيَ في بئر في الْمُطْبِق. قال يعقوب: فكنتُ في مكانٍ لا أسمعُ فيه ولا أُبصِر، فذهب بصَرِي وطال شَعْري حتى صرتُ مثلَ البهائم، ثم مَضَتْ عليَّ مُددٌ متطاولة، فبينما أنا ذاتَ يوم إذْ دُعيت، فخرجتُ من البئر، فقيل لي: سلِّمْ على أميرِ المؤمنين، فسلَّمْتُ وأنا أظنُه المهدي، فلما ذكرتُ المهدي قال: رحم اللَّه المهدي. فقلت: الهادي؟ فقال: رحم اللَّه الهادي. فقلت: الرشيد؟ قال: نعم. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، قد رأيتَ ما حَلَّ بي من الضَّعْف والعِلَّة، فإنْ رأيتَ أنْ تُطلِقَني. فقال: أين تُريد؟ قلت: مكة. فقال: اذهَبْ راشدًا. فسار إلى مكة، فما لَبِثَ بها إلَّا قليلًا حتى ماتَ رحمه اللَّه تعالى.

وقد كان يعقوبُ هذا يَعِظُ المهديَّ في تعاطيهِ شُربَ النَّبيذِ بين يديه، وكثرَةِ سماعِ الغِنَاء، فكان يَلومُهُ على ذلك ويقول: ما على هذا استوزَرْتَني، ولا على هذا صَحِبتُك، أبَعْدَ الصلواتِ الخمس في المسجدِ الحرام يُشربُ الخمر؟! ويُغَنَّى بين يديك؟! فيقول له المهدي: فقد سمع عبدُ اللَّه بن جعفر. فقال له يعقوب: إنَّ ذلك لم يكنْ من حَسَناتِه، ولو كان هذا قُرْبَةً لكان كلَّما داوم عليه العبدُ أفضل. وفي ذلك يقولُ بعضُ الشعراء حَثًا للمَهْديِّ على ذلك:

فدَعْ عنكَ يعقوبَ بنَ داودَ جانبًا

وأقبلْ على صهباءَ طَيِّبةِ النَّشْرِ

وفيها ذهب المهديُّ إلى قصرِه المسمَّى بقصر السلام بِعيساباذ

(1)

-بُني له بالآجُرِّ بعد القصرِ الأول الذي بناه بالقَبِن- فسكنَهُ، وضرَبَ هناك الدراهمَ والدنانير، وفيها أمرَ المهديُّ بإقامةِ البريد بين مكة والمدينة واليمن، ولم يفعل أحَدٌ هذا قبلَ هذه السنة. وفيها خرج موسى الهادي إلى جُرْجان. وفيها ولَّى القضاءَ أبا يوسُفَ صاحبَ أبي حَنيفَة. وفيها حجَّ بالناس إبراهيمُ بن يحيى بن محمد، عاملُ المدينة، ولم يكنْ في هذه السنةِ صائفةٌ للهُدْنةِ التي كانتْ بينَ الرَّشيد وبين الرُّوم.

‌فيها توفي:

صدَقَةُ بن عبد اللَّه السَّمِين.

(1)

انظر ما تقدم ص (402) ح (1).

ص: 405

وأبو الأشهب العُطَارِديّ.

وأبو بكر النَّهْشَلي.

وعُفير بن مَعْدَان.

‌ثم دخلت سنة سبع وستين ومئة

فيها وجَّه المهديُّ ابنَهُ موسى الهادي إلى جُرْجان في جيشٍ كَثيف لم يُرَ مثلُه، وجعل على رسائِلِه أبان بن صدَقة، وفيها تُوفي عيسى بن موسى الذي كان وليَّ العَهْد من بعدِ المهدي، مات بالكوفة، فأشهدَ نائبُها روحُ بن حاتم على وفاته القاضيَ وجماعةً من الأعيان، ثم دُفن. وكان قد امتنع من الصلاةِ عليه، فكتب إليه المهديُّ يُعنِّفُهُ أشدَّ التَّعْنيف، وأمَرَ بِمُحاسَبَتِهِ على عمَلِه. وفيها عزل المهديُّ أبا عُبيد اللَّه معاويةَ بنَ عبيد اللَّه عن ديوانِ الرسائل وولَّاهُ الربيعَ بنَ يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيدَ بن واقد؛ وكان أبو عبيد اللَّه يدخلُ على مرتبتِه. وفيها وقع وباءٌ شديد، وسُعالٌ كثيرٌ ببغدادَ والبصرة، وأظلمتِ الدنيا حتى كانتْ كالليل، حتى تعالَى النهار، وكان ذلك لِلَيَالٍ بَقينَ من ذي الحجَّة من هذه السنة. وفيها تتبَّع المهديُّ جماعةً مَن الزنادقة في سائر الآفاق، فاستحضرَهم وقتلهم صَبْرًا بين يديه

(1)

، وكان المتولي أمْرَ الزنادقة عمرُ الكَلْوَاذي. وفيها أمرَ المهديُّ بزيادةٍ كثيرةٍ في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دورٌ كثيرة، وولَّى ذلك لِيَقْطين بن موسى الموكَّلِ بأمرِ الحرمَيْن، فلم يزل في عمارةِ ذلك حتى مات المهدي -كما سيأتي- ولم يكنْ للناسِ صائفةٌ للهُدْنة. وحجَّ بالناس في هذه السنة نائبُ المدينة إبراهيمُ بن محمد، وتوفي بعد فراغِهِ من الحجِّ بأيام، وولَّى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد اللَّه بن عباس.

‌وممَّنْ تُوفي فيها من الأعيان:

بَشَّارُ بنُ بُرْد أبو مُعَاذ الشاعر

(2)

: مولى عُقَيل، وُلد أعمَى، وقال الشعرَ وهو دون عشرِ سنين، وله التشبيهاتُ التي لم يهتدِ إليها البُصَراء؛ وقد أثنى عليه الأصمعيّ، والجاحظ، وأبو تمام، وأبو عُبيدة وقال: له ثلاثةَ عشرَ ألفَ بيتٍ من الشعر، فلمَّا بلغَ المهديَّ أنه هَجَاه، وشهد عليه قومٌ أنَّه زِنْديق، أمَرَ به

(1)

كلُّ ذي رُوح يُصْبَرُ حيًّا ثم يُرْمى حتى يُقتل. فقد قُتل صبرًا. لسان العرب (صبر).

(2)

ترجمته في الأغاني (3/ 127)، الإكمال لابن ماكولا (7/ 184)، الفهرست ص (227)، تاريخ بغداد (7/ 112)، المنتظم (8/ 289)، الكامل في التاريخ (5/ 254)، وفيات الأعيان (1/ 271)، سير أعلام النبلاء (7/ 24)، لسان الميزان (2/ 15)، النجوم الزاهرة (2/ 53)، شذرات الذهب (1/ 264).

ص: 406

فضُرب حتى مات، عن بضعٍ وسبعين سنةً. وقد ذكره ابنُ خلِّكَانَ في الوفيات فقال

(1)

: بشارُ بنُ بُرْد بن يَرْجُوخ العُقَيلي مولاهم،، قد نَسَبهُ صاحبُ الأغاني

(2)

فأطالَ نَسَبه، وهو بصريٌّ قَدِمَ بغداد، أصلُهُ من طَخَارِسْتَان

(3)

؛ وكان ضخمًا عظيمَ الخَلْق، وشِعرُه في أوَّلِ طبقاتِ المولَّدين؛ ومن شعرِهِ البيتُ المشهور:

هل تعلمينَ وراءَ الحُبِّ مَنْزِلةً

تُدْني إليكِ فإنَّ الحُبِّ أقصاني

(4)

وقوله:

أنا واللَّهِ أشتهي سِحْرَ عَيْنَيْـ

ـكِ وأخْشَى مصارعَ العُشَّاقْ

(5)

وله:

يا قومُ أُذْني لبعضِ الحَيِّ عاشقةٌ

والأذنُ تعشَقُ قبل العينِ أحيانا

قالوا لِمَنْ لا تَرَى تَهْذي فقلتُ لهم

الأذنُ كالعينِ تؤتي القلبَ ما كانا

(6)

وله:

إذا بَلَغَ الرأيُ التشاوُرَ فاستَعِنْ

بحَزْمِ نَصيحٍ أو نَصِيحةِ حازِمِ

ولا تَجْعلِ الشُّورَى عليكَ غَضَاضةً

فَريشُ الخَوَافي قُوَّةٌ للقَوَادِمِ

وما خيرُ كَفٍّ أمَسَكَ الغُلُّ أختَها

وما خيرُ سيفٍ لم يُؤيَّدْ بقائِم

(7)

كان بشارٌ يَمدحُ المهدي، حتى وَشَى إليه الوزيرُ أنَّهُ هجاهُ وقَذَفَهُ، ونسَبَه إلى شيءٍ من الزَّنْدَقة، وأنَّهُ يقولُ بتَفْضيلِ النارِ على التُّراب، وعَذَرَ إبليسَ في السُّجودِ لآدَم، وأنَّه أنشد:

(1)

وفيات الأعيان (1/ 271).

(2)

الأغاني (3/ 127).

(3)

طَخَارسْتان -بالفتح وبعد الألف راء ثم سين ثم تاء مثناة من فوق- ويُقال طَجرستان: هي ولايةٌ واسعةٌ كبيرةٌ، تشتملُ على عِدَّةِ بلاد، وهي من نواحي خُراسان، وهي طخارستان العليا والسفلى، فالعليا شرقي بَلْخ، وغربي نهر جِيحُون، وبينها وبين بَلْخ ثمانيةٌ وعشرون فرسخًا؛ وأمَّا السُّفلى فهي أيضًا غربي جيحون، إلَّا أنَّها أبعدُ من بلَخْ، وأضربُ في الشرق من العليا. ومن مُدُنها خلم وسمنجان وبغلان وسكلكند ووروراليز. قال الإصطخري: وأكبرُ مدينةٍ بطخارستان طالقان. معجم البلدان (4/ 23).

(4)

البيت من مقطَّعةٍ في ديوان بشار ص (618).

(5)

البيت من مقطَّعةٍ في ديوان بشار ص (565).

(6)

البيتان في ديوان بشار ص (612) مع بيت ثالث.

(7)

الأبيات في ديوان بشار ص (592).

ص: 407

الأرضُ مُظلمةٌ والنارُ مُشرقةٌ

والنارُ معبودةٌ مُذْ كانتِ النارُ

(1)

فأمَرَ المهديُّ بضَرْبِه، فضُرب حتى مات. ويُقال: إنَّه غَرق، ثم نُقل إلى البصرة في هذ السنة.

‌فيها تُوفي:

الحسن بن صالح بن حَيّ.

وحمَّاد بن سَلَمة.

والربيعُ بن مسلم.

وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم.

وعُتبة الغلام؛ وهو: عُتْبة بن أبَان بن صَمَعَة

(2)

: أحدُ العُبَّادِ المشهورين، البَكَّائين المذكورين؛ كان يأكُلُ من عَمِلَ يَدِهِ في الخُوص، ويصومُ الدَّهر، ويُفطِرُ على الخُبزِ والمِلح.

والقاسم الحذَّاء.

وأبو هلال محمد بن سليم.

ومحمد بن طلحة.

وأبو حمزة السُّكَّري

(3)

محمد بن ميمون.

‌ثم دخلت سنة ثمان وستين ومئة

فيها في رَمَضان منها نَقضتِ الرُّوم ما بينهم وبين المسلمينَ من الصُّلحِ الذي عقدَهُ هارون الرَّشيد عن أمرِ أبيهِ المهدي، ولم يستمرُّوا على الصلحِ إلَّا اثنيْنِ وثلاثين شهرًا، فبعَثَ نائبُ الجزيرةِ خيلًا إلى الرُّوم، فقتَلوا وأسرُوا وغَنِموا وسَلِموا.

وفيها اتَّخَذَ المهديُّ دواوينَ الأزمَّة، ولم يكنْ بنو أُميَّةَ يعرفون ذلك

(4)

.

(1)

البيت في ديوان بشار ص (539).

(2)

ترجمته في حلية الأولياء (6/ 226)، صفة الصفوة (3/ 370)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (3/ 548)، سير أعلام النبلاء (7/ 62)، طبقات الشعراني (1/ 47).

(3)

في بعض النسخ: "اليشكري" مصحف، وهو من رجال التهذيب (بشار).

(4)

أول من عمل ديوان الزمام عمر بن بزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جُمعت له الدواوين تفكَّر فإذا هو لا يضبطُها إلَّا بزِمامٍ يكون له على كلِّ ديوان؛ فاتَّخذَ دواوين الأزمَّة، وولَّى كل ديواني رجلًا، فكان واليه على زِمَامِ ديوانِ الخَرَاج إسماعّيل بن صبيح. ولم يكنْ لبني أمية دواوين أزِمَّة. تاريخ الطبري (4/ 582).

ص: 408

وفيها حجَّ بالناس عليُّ بن محمد المهدي الذي يُقال له ابنُ رَيْطَة.

‌وفيها توفي:

الحسن بن زيد بن علي بن أبي طالب

(1)

، ولَّاهُ المنصورُ المدينةَ خمسَ سنين، ثم غَضِبَ عليه، فضرَبَهُ وحبَسَه، وأخذَ جميعَ مالِه

(2)

.

وخارجةُ بن مُصْعَب.

وعُبيدُ اللَّه بن الحسن بن الحُصَيْن بن أبي الحُرّ العَنْبَري

(3)

: قاضي البصرة بعد سَوَّار. سمع خالدًا الحذَّاء، وداود بن أبي هِنْد وسعيدًا الجُرَيْري، وروى عنه ابنُ مهدي، وكان ثقةً فقيهًا، له اختيارات تُعزَى إليه، غريبةٌ في الأصول والفروع، وقد سُئل عن مسألةٍ فأخطأ في الجواب، فقال له قائل: الحُكمُ فيها كذا وكذا، فاطرَقَ ساعةً ثم قال: إذًا أرجع وأنا صاغِر، لأنْ أكونَ ذَنبًا في الحق، أحَبُّ إليَّ منْ أكون رأسًا في الباطل.

توفي في ذي القَعْدَة من هذه السنة، وقيل بعدَ ذلك بعشرِ سنين، فاللَّه أعلم.

غَوْثُ بن سليمان بن زياد بن ربيعة

(4)

أبو يحيى الحَضْرَمي

(5)

: قاضي مصر، كان من خِيَارِ الحُكَّام؛ وَليَ الديارَ المصريَّةَ ثلاثَ مرَّات، في أيامِ المنصور، والمهدي.

وفُليح بن سليمان

(6)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (القسم المتمم) ص (386). وتصحَّف في (ق) إلى "الحسن بن يزيد بن حسن".

(2)

جاء في نسخة (ق) زيادة محصورة بين معقوفين، وكذا في (ب)، وهذه الزيادة ليست في (ح)، ولا تصحّ لأن ترجمة حماد عجرد تقدمت في ص (357) في وفيات سنة (155) من نسخة (ق) من هذا الجزء، وهذه الزيادة هي:[وحَمَّاد عَجْرَد كان ظريفًا ماجنًا شاعرًا، وكان ممَّنْ يُعاشر الوليدَ بن يزيد، ويُهاجي بشارَ بنَ بُرْد، وقَدِمَ على المهدي، ونزلَ الكوفة، واتُّهم بالزندقة. قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: ثلاثةٌ حمَّادون بالكوفة يُرْمَوْنَ بالزندقة: حماد الراوية، وحماد عَجْرَد، وحماد بن الزِّبْرِقان النَّحْوي؛ وكانوا يتشاعرون ويتماجنون].

(3)

في الأول: "عبد اللَّه بن الحسن بن الحصين بن أبي الحسن البصري"، وقد صُحِّف في اسمه اسم أجداده في الأصول وكثير من المصادر، وما أثبتُّه من ترجمته في: طبقات ابن سعد (7/ 285)، والجرح والتعديل (5/ 312)، ومشاهير علماء الأمصار ص (159)، والثقات لابن حبان (7/ 152)، وتاريخ بغداد (10/ 306)، والإكمال لابن ماكولا (1/ 28)، ورجال مسلم (2/ 10)، ولسان الميزان لابن حجر (7/ 296)، وتقريب التهذيب ص (370).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 517)، التاريخ الكبير للبخاري (7/ 111)، الجرح والتعديل (7/ 57)، مشاهير علماء الأمصار ص (191)، الثقات لابن حبان (7/ 30).

(5)

في (ق): "الجرمي"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته.

(6)

الاسم معطوف على عُبيد اللَّه بن الحسن بن الحصين، المتقدِّم.

ص: 409

وقيسُ بن الربيع في قول.

ومحمد بن عبد اللَّه بن علاثة بن علقمة بن مالك

(1)

: أبو اليَسَر العُقَيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمَهْدي، هو وعافية بن يزيد. وكان يُقال لابنِ عُلاثةَ قاضي الجنّ، لأنه كانَتْ بئرٌ يُصابُ من أخذَ منها شيئًا، فقال: أيُّها الجِنّ، إنَّا حَكَمْنا أنَّ لكمُ الليل، ولنا النهار، فكان من أخذَ منها شيئًا في النهار لم يُصِبْهُ شيء. قال ابنُ مَعين: كان ثقةً. وقال البخاري: في حفظِهِ شيء.

‌ثم دخلت سنة تسع وستين ومئة

فيها في المحرَّم منها توفي المهديُّ بنُ المنصور بمكانٍ يُقال له ماسَبَذَان

(2)

بالحُمَّى، وقيل مسمومًا، وقيل: عَضَّهُ فرسٌ فمات. هذه ترجمتُه، هو:

‌محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس

(3)

أبو عبد اللَّه المهدي، أميرُ المؤمنين، وإنما لُقِّب بالمهدي رجاءَ أنْ يكونَ الموعودَ به في الأحاديث، فلم يكنْ به، وإن اشتركا في الاسم، فقد افترقا في الفِعل، ذاك يأتي آخرَ الزمان، عند فسادِ الدنيا، فيملأ الأرضَ عدلًا كما مُلئت جَوْرًا وظُلْمًا؛ وقد قيل: إنَّ في أيامِهِ يَنْزِلُ عيسى ابنُ مريم بدمشق، وسيأتي ذِكرُ ذلك في أحاديث الفِتَنِ والملاحم، وذكرُ المهدي ونزول عيسى ابن مريم إنْ شاء اللَّه وبه الثِّقة. وقد جاء في حديثٍ من طريق عثمان بن عفَّان، أنَّ المهديَّ من بني العباس، وجاء موقوفًا على ابنِ عباس، وكعب الأحبار -ولا يَصِحّ- وبتقديرِ صِحَّةِ ذلك لا يَلْزمُ أنْ يكونَ على التعيين، وقد ورد في حديثٍ آخر، أنَّ المهديَّ من ولدِ فاطمة

(4)

، فهو يعارض هذا، واللَّه أعلم.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 483)، التاريخ الكبير (1/ 132)، التاريخ الصغير (2/ 187)، الجرح والتعديل (7/ 302)، الضعفاء للعقيلي (4/ 92)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (6/ 222) الضعفاء لأبي نعيم الأصبهاني ص (142)، تاريخ بغداد (5/ 388)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي، الكاشف (2/ 189)، لسان الميزان (7/ 364).

(2)

ماسَبَذَان: بفتح السين والباء الموحدة والذال معجمة وآخره نون، وأصلُهُ ماه سَبَذان، مضافٌ إلى اسم القَمَر، ماه، ومن هذه المدينة إلى الروذ بالراء عدة فراسخ، وبها قبر المهدي، وليس له أثر إلا بناء قد تعفَّتْ رسومُه، ولم يبق منه إلا الآثار. معجم البلدان ج:(5) ص: (41).

(3)

ترجمته في تاريخ خليفة ص (436، 440)، تاريخ بغداد (5/ 391)، التدوين في أخبار قزوين (1/ 431)، التحفة اللطيفة (2/ 501)، تاريخ الخلفاء ص (271).

(4)

رواه ابن ماجه في سنة رقم (4086) من حديث أم سلمة، وأبو داود (4284)، والحاكم (4/ 557) وإسناده =

ص: 410

وأمُّ المهديِّ بن المنصور أمُّ موسى بنت منصور بن عبدِ اللَّه الحِمْيَري.

وروى عن أبيه، عن جدِّهِ، عن أبيه عبدِ اللَّه بن عباس، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم جَهَرَ ببسمِ اللَّه الرحمن الرحيم. رواهُ عنه يحيى بن حمزة البَتَلْهيّ

(1)

، قاضي دمشق، وذكر أنَّهُ صلَّى خلفَ المهدي حين قدم دمشق فجَهَر في السورتَيْنِ بالبسملة، وأسند ذلك عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورواه غيرُ واحدٍ عن يحيى بن حمزة؛ ورواهُ المهدي عن المباركِ بنِ فضالَة؛ ورواه عنه أيضًا جعفر بنُ سليمانَ الضُّبَعيّ، ومحمد بن عبد اللَّه الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن المهدي

(2)

.

وكان مَوْلد المهدي في سنةِ ستٍّ أو سبعٍ وعشرين ومئة، أو في سنةِ إحدى وعشرين ومئة؛ وَلِيَ الخلافةَ بعدَ موتِ أبيه في ذي الحجَّة سنة ثمانٍ وخمسين ومئة، وعمره إذْ ذاك ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً، ولد بالحميمهّ من أرض البلقاء، وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسعٍ وستين ومئة عن ثلاثٍ أو ثمانٍ وأربعين سنة؛ وكانتْ خلافتُهُ عشرَ سنين وشهرًا وبعضَ الشهر؛ وكان أسمرَ طويلًا، جعدَ الشعر، على إحدى عينَيْهِ نُكتةٌ بيضاء، قيل: على عينه اليمنى، وقيل: اليسرى.

قال الربيع الحاجب: رأيتُ المهديَّ يُصلِّي في ليلةٍ مُقمرة، في بَهْوٍ لَه، عليه ثيابٌ حسنة، فما أدري هو أحسنُ أمِ القمر أمْ بَهْوُهُ أم ثيابُه؟ فقرأ:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، الآية؛ ثم أمَرَني فأحضَرتُ رجلًا من أقاربِهِ كان مسجونًا، فأطلَقَه.

ولما جاء خبَرُ موتِ أبيه بمكةَ -كما تقدَّم- كَتَمَ الأمرَ يومَيْن، ثم نُودي في الناسِ يومَ الخميس: الصلاة جامعة. فقام فيها خَطيبًا، فأعلَمَهُمْ بموتِ أبيه وقال: إنَّ أميرَ المؤمنين دُعيَ فأجاب، فعندَ اللَّه أحتسبُ أميرَ المؤمنين، وأستعينُه على خلافةِ المسلمين، ثم بايَعهُ الناسُ بالخلافةِ يومئذ؛ وقد عزاهُ أبو دُلامة، وهنَّأهُ في قصيدةٍ له، يقولُ فيها:

عينايَ واحدةٌ تُرَى مسرورةً

بأميرِها جَذْلَى وأخرى تَذْرِفُ

تبكي وتضحَكُ تارةً ويَسُوؤها

ما أنكرتْ ويَسُرُّها ما تَعْرِفُ

= ضعيف، لضعف زياد بن بيان في إسناده. وقد ساق العقيلي في ضعفاثه، وقال البخاري: في إسناده نظر، وقال ابن عدي في الكامل بعد أن أورد حديثه هذا: "والبخاري إنما أنكر من حديثه هذا الحديث، وهو معروف به. وقال الذهبي في الميزان: لم يصح حديثه وانظر بلا بد تعليقي على هذا الحديث في سنن ابن ماجه بتحقيقي (بشار).

(1)

في (ق): "النهشلي"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وترجمت في سير أعلام النبلاء (8/ 354)، ومصادر ترجمته، وهو نسبة إلى بيت لِهْيا، قريةٍ مشهورةٍ في غوطةِ دمشق. انظر معجم البلدان (1/ 522).

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 303) في باب وجوب قراءة بسم اللَّه الرحمن الرحيم والجهر بها، والصيداوي في معجم الشيوخ ص (172، 173)؛ وذكره ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 235).

ص: 411

فيسوؤها موتُ الخليفةِ مُحْرِمًا

ويَسُرُّها أنْ قام هذا الأرْأفُ

ما إنْ رأيت كما رأيتُ ولا أرَى

شَعَرًا أُرَجّلُهُ وآخرَ يُنْتَفُ

هَلَكَ الخليفةُ يالَ أُمَّةِ أحمدٍ

وأتاكُمُ من بعدِهِ منْ يَخْلُفُ

أهدَى لِهذا اللَّهُ فَضْلَ خلافةٍ

ولذاكَ جَنَّاتِ النَّعيمِ تُزَخْرَفُ

(1)

وقد قال المهديُّ يومًا في خطبة:

أيُّها الناس، أسِرُّوا مثلَما تُعْلِنون من طاعَتِنا تَهْنِكُمُ العافية، وتَحْمَدوا العاقبة؛ واخفِضوا جناحَ الطاعةِ لمنْ ينشُرُ مَعْدِلَتَهُ فيكم، ويَطْوِي ثوبَ الإصْرِ عنكم، وأهالَ عليكم السلامةَ ولينَ المعيشةِ من حيثُ أراهُ اللَّه، مقدِّمًا ذلك على فعلِ من تقدِّمَه؛ واللَّه لأفْنِيَنَّ عُمري من عقوبتِكم، ولأحملَنَّ نفسي على الإحسانِ إليكم. قال: فأشرَقَتْ وجوهُ الناسِ من حُسنِ كلامِه؛ ثم استخرج حوَاصلَ أبيه من الذهبِ والفِضَّةِ التي كانتْ لا تُحدُّ ولا تُوصفُ كثرةً؛ ففرَّقَها في الناس، ولم يُعطِ أهلَهُ وموالِيَهُ منها شيئًا، بل أجْرَى لهم أرزاقًا بحَسَبِ كفايتِهم من بيتِ المال، لكلِّ واحدٍ خمس مئةٍ في الشهر، غير الأُعطيات. وقد كان أبوهُ حريصًا على توفيرِ بيتِ المال، وإنما كان يُنفقُ في السنة ألفَيْ درهم، من مال السَّرَاة. وأمر المهديُّ ببناء مسجدِ الرُّصافة، وعُمل خندقٌ وسُورٌ حولَها. وبَنى مُدُنًا ذكرْناها فيما تقدَّم.

وذُكر له عن شريك بن عبد اللَّه القاضي أنه لا يرى الصلاةَ خلفَه، فاحضره فتكلَّم معه، ثم قال له المهدي في جملةِ كلامه: يا ابنَ الزانية! فقال له شريك: مَهْ، مَهْ يا أميرَ المؤمنين، فلقد كانتْ صوَّامةً قوَّامة. فقال له: يا زِنْديق، لأقتلنَّك. فضحك شريك فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ للزنادقةِ علاماتٍ يُعرفون بها، شربهم القهوات، واتخاذهم القينات. فأطرَقَ المهدي، وخرج شريك من بين يديه.

وذكروا أنه هاجتْ ريحٌ شديدة في زمن المهدي، فدخل المهديُّ بيتًا في دارِهِ، فألزَقَ خدَّهُ بالتراب وقال: اللهمَّ إنْ كنتُ أنا المطلوب بهذه العقوبةِ دون الناس فها أنا ذا بين يديك؛ اللهمَّ لا تُشْمتْ بي الأعداء من أهل الأديان. فلم يزل كذلك حتى انجلَتْ.

ودخل عليه رجلٌ يومًا ومعه نَعْل، فقال: هذه نعلُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أهديتُها لك. فقال: هاتها. فناوله إيَّاها فقبَّلَها ووضعها على عينَيْه، وأمر له بعشرةِ آلاف درهم؛ فلما انصرف الرجل قال المهدي: واللَّه إني لأعلمُ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لم ير هذه النعل، فضلًا عن أن يلبسَها، ولكنْ لو ردَدْتُه لذهب يقولُ للناس أهديتُ إليه نعلَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فردَّها عليّ. فتصدِّقه الناس، لأنَّ العامَّةَ تميلُ إلى أمثالِها، ومن شأنِهم نصرُ الضعيفِ على القَوي إنْ كان ظالمًا، فاشترينا لسانَهُ بعشرةِ آلاف درهم، ورأينا هذا أرجحَ وأصلح.

(1)

الأبيات في ديوان أبي دلامة ص (82). وبعدها بيت واحد:

فابْكُوا لِمَصْرَعِ خَيْرِكُمْ ووَلِيكُمْ

وَاسْتَشْرِفُوا لِمَقَامِ ذا وتَشَرَّفُوا

ص: 412

واشتهر عنه أنه كان يحبُّ اللَّعِبَ بالحمَام، والسِّبَاق بينها، فدخل عليه جماعةٌ من المحدِّثين فيهم غياث بن إبراهيم، فحدَّثه بحديثِ أبي هريرة "لا سَبْقَ إلَّا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافِر" وزادَ الحديث: أو جَنَاح. فأمر له بعشرةِ آلاف، ولما خرج قال: واللَّه إني أعلمُ أنَّ غِياثًا كذَبَ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم أمرَ بالحمَام فذَبَحه، ولم يذكُرْ غِياثًا بعدَها.

وقال الواقدي: دخلتُ على المهديِّ يومًا، فحدَّثته بأحاديث، فكتبها عني، ثم قام فدخل بيوتَ نسائه، ثم خرج وهو ممتلئٌ غيظًا، فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟! فقال: دخلتُ على الخَيْزران، فقامَتْ ومزَّقَتْ ثَوْبي، وقالت: ما رأيتُ منك خيرًا، وإني واللَّه يا واقدي إنما اشتريتُها من نَخَّاس، وقد نالَتْ عندي ما نالت، وقد بايعتُ لولدَيْها بإمرَةِ المؤمنينَ من بعدي. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّهنَّ يغلِبْنَ الكرام، ويغلِبُهُنَّ اللئام"

(1)

. وقال: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي"

(2)

. وقد خُلقَتِ المرأةُ من ضِلَعٍ أعْوَج، إنْ قَوَّمْتَهُ كسَرْتَه. وحدَّثتُه في هذا الباب بكلامٍ حضَرَني، فامرَ لي بألفَىْ دينار، فلمَّا وافَيْتُ المنْزِل إذا رسولُ الخيزران قد لَحِقني بألفَيْ دينارٍ إلَّا عشرةَ دنانير، وإذا معه أثوابٌ أُخَر؛ وبعثَتْ تشكرُني وتُثني عليَّ معروفًا.

وذُكر أن المهديَّ كان قد أهدَرَ دمَ رجلٍ من أهلِ الكوفة، وجعل لمن جاء به مئةَ ألف، فدخل الرجلُ بغدادَ متنكِّرًا، فلقيه رجل، فأخذ بمَجَامِعِ ثوبِهِ، ونادى: هذا طَلِبةُ أميرِ المؤمنين. وجعل الرجلُ يريد أن يُفلِتَ منه فلا يَقدِر، فبينما هما يتجاذبان، وقد اجتمع الناس عليهما إذْ مَرَّ أميرٌ في مَوْكِبه، وهو مَعْنُ بن زائدة، فقال الرجل: يا أبا الوليد، خائفٌ مستجير! فقال معن: وَيْلَك! ما لَكَ ولَه؟ فقال: هذا طَلِبةُ أمير المؤمنين، جعل لِمَنْ جاء به مئةَ ألف. قال معن: أما علمتَ أنِّي قد أجَرْتُه؛ أرسِلْهُ من يدِك. ثم أمر بعضَ غلمانِهِ فترجَّل، وأركبَهُ وذهَبَ به إلى مَنْزِله؛ وانطلق ذلك الرجلُ إلى بابِ الخليفة، وأنْهَى إليهمُ الخبر، فبلَغَ المهديَّ، فأرسل إلى معن، فدخل عليه، فسلَّمَ ولم يردَّ عليه السلام وقال: يا معن، أبَلَغَ من أمرِك أنْ تُجيرَ عليّ؟ قال: نعم. قال: ونَعَمْ أيضًا؟! نَعَمْ، قد قتلتُ في دولتِكم أربعةَ آلاف مُصَلٍّ، فلا يُجارُ لي رجلٌ واحد؟ فاطرَقَ المهديُّ ثم رفع رأسَهُ إليه وقال: وقد أجَرْنا من أجَرْتَ يا مَعْن. فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ الرجلَ ضعيف، فأمر له بثلاثينَ ألفًا، فقال: إنَّ جريمتَهُ عظيمة، وإنَّ جوائزَ الخلفاء

(1)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (14/ 430)، بهذا السياق. وذكره ابن حجر في شرح حديث أم زرع في فتح الباري (9/ 265)، منسوبًا إلى معاوية.

(2)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 205) عن عبد اللَّه بن شداد؛ وابن حبان في صحيحه (9/ 484)(4177) عن عائشة، و (9/ 491)(4186) عن ابن عباس؛ والترمذي (5/ 709)(3895) باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وابن ماجه (1/ 636)(1977) باب حسن معاشرة النساء؛ وأبو نعيم في الحلية (7/ 138)، والخطيب في تاريخه (14/ 430) بهذا السياق، و (7/ 13) عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح كما قال الترمذي.

ص: 413

على قَدْرِ جرائمِ الرَّعِيَّة. فأمر له بمئةِ ألف، فحملَتْ بين يدَيْ معنٍ إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خُذِ المال وادْعُ لأميرِ المؤمنين، وأصْلِحْ نِيَّتَكَ في المستقبل.

وقَدِمَ المهديُّ مرَّةً البصرة، فخرج ليُصلِّيَ بالناس، فجاء أعرابيٌّ فقال: يا أمير المؤمنين، مُرْ هؤلاءِ فلينتظروني حتى أتوضأ -يعني المؤذِّنين- فأمرَهُمْ بانتظارِه، ووقف المهديُّ في المِحراب لم يُكَبِّرْ حتى قيل له: هذا الأعرابيُّ قد جاء فكبَّرَ. فتعجَّبَ الناسُ من سمَاحة أخلاقِه.

وقَدِم أعرابيٌّ ومعه كتابٌ مَخْتوم، فجعل يقول: هذا كتابُ أميرِ المؤمنين إلى ابنِ الرجل الذي يُقال له الربيع الحاجب. فأخذ الكتابَ وجاء به إلى الخليفة، وأوقف الأعرابيَّ وفتح الكتاب، فإذا هو قطعةُ أديم، فيها كتابةٌ ضعيفة، والأعرابيُّ يزعُمُ أنَّ هذا خط الخليفة؛ فتبسَّم المهديُّ وقال: صدَقَ الأعرابي، هذا خطِّي إني خرجتُ يومًا إلى الصَّيد، فضِعْتُ عن الجيش، وأقبل الليل، فتعوَّذْتُ بتعويذِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرُفع لي نارٌ من بعيد، فقصدتُها، فإذا هو الشيخُ وامرأتُه في خِبَاء يوقِدان نارًا، فسلَّمْتُ عليهما، فردَّا السلام، وفرش لي كساء، وسقاني من لَبنٍ مَشُوبٍ بماءٍ، فما شربتُ شيئًا إلَّا وهو أطيبُ منه، ونمتُ نومةً على تلك العباءة، ما أذكرُ أني نِمْتُ أحْلَى منها. فقام إلى شُوَيْهةٍ فذبحها، فسمعتُ امرأتَهُ تقول له: عمَدْتَ إلى مَكْسَبِكَ ومعيشةِ أولادِك فذبحتَها! أهلكتَ نفسَك وعيالَك. فما التفتَ إليها. واستيقظْتُ فاشتَوَيْتُ من لَحمِ تلك الشُّويهةِ وقلت له: أعندَكَ شيءٌ أكتُبُ لك فيه كتابًا؟ فأتاني بهذه القطعة، فكتبتُ له بعودٍ من ذلك الرَّمَاد خمسَمئةِ ألف، وإنما أردتُ خمسين ألفًا، واللَّه لأنفِذَنَّها له كلَّها، ولو لم يكنْ في بيتِ المالِ سواها. فأمَرَ له بخمسمئةِ ألف. فقَبضَها الأعرابيُّ واستمرَّ مقيمًا في ذلك الموضعِ في طريقِ الحاجِّ من ناحيةِ الأنبار، فجعَلَ يَقْري الضَّيفَ ومنْ مَرَّ به من الناس، فعُرف منْزِلُهُ بِمَنْزِلِ مُضيفِ أميرِ المؤمنين المهدي.

وعن سوَّارٍ صاحبِ رَحْبَةِ سوَّار قال: انصرفتُ يومًا من عندِ المهدي، فجئتُ منْزلي، فوُضع لي الغداء، فلم تُقبلْ نفسي عليه، فدخلتُ خلوتي لأنامَ في القائلة، فلم يأخُذْني نوم، فاستدعَيْتُ بعضَ حَظَايايَ لأتَلَهَّى بها، فلم تنبَسِطْ نفسي إليها، فنهضتُ فخرجتُ من المنْزِل، وركبتُ بغلتي، فما جاوَزْتُ الدارَ إلَّا قليلًا حتى لقيَني رجلٌ ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه؟ فقال: من مُلكِكَ الجديد. فاستصحبتُه معي، وسرتُ في أزِقَّةِ بغداد لأتشاغلَ عمَّا أنا فيه من الضجَر، فحانَتْ صلاةُ العصر عند مسجدٍ في بعض الحارات، فنزلْتُ لأصلِّي فيه، فلما قُضيتِ الصلاة إذا برجل أعمى، قد أخذَ بثيابي فقال: إنَّ لي إليك حاجة. فقلت: ما حاجتُك؟ فقال: إني رجلٌ ضرير، ولكني لما شممْتُ رائحةَ طيبك ظننتُ أنكَ من أهلِ النِّعمةِ والثَّرْوة، فأحببتُ أن أُفْضِي إليك بحاجتي. فقلت: وما هي؟ فقال: إنَّ هذا القصرَ الذي تجاه المسجد كان لأبي، فسافر منه إلى خُراسان، فباعَهُ وأخذَني معه وأنا صغير، فافترَقْنا هناك، وأصابني أنا الضررُ فرَجَعْنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئتُ إلى صاحبِ هذا القصر

ص: 414

أطلبُ منه شيئًا أتبَلَّغُ به، لعلِّي أجتمعُ بسَوَّار، فإنه كان صاحبًا لأبي، فلعله أن يكونَ عنده سَعةٌ يجودُ منها عليّ. فقلت: ومن أبوك؟ فذكر رجلًا كان أصحبَ الناس إليّ، فقلت: إنِّي أنا سوَّار صاحبُ أبيك، وقد منعني اللَّه في يومك هذا النومَ والقرارَ والأكلَ والراحة، حتى أخرجني من منْزلي لأجتمعَ بك، وأجلَسَني بين يديك. وأمرتُ وكيلي فدفع له الألفَي الدرهم التي معه، وقلت له: إذا كان الغَدُ فَأْتِ منْزلي في مكانِ كذا وكذا. وركبتُ فجئتُ دارَ الخلافةِ وقلت: ما أتحفَ المهديَّ الليلةَ في السَّمَرِ بأغربَ من هذا. فلما قصصتُ عليه القصَّة تعجَّب من ذلك جدًّا، وأمر لذلك الأعمى بألفَيْ دينارٍ وقال لي: هل لجك دَيْن؛ قلت: نعم. قال: كم؟ قلت: خمسون ألفَ دينار. فسكت، وحادثني ساعةً، ثم قمتُ من بين يديه، فوصلت المنْزل، إذا الحمَّالون قد سبقُوني بخمسينَ ألفَ دينار، وألفَيْ دينار للأعمى، فانتظرتُ الأعمى أن يجيءَ في ذلك اليوم، فتأخَّر، فلمَّا أمسى عدتُ إلى المهدي، فقال: قد فكَّرتُ في أمرك فوجدتُكَ إذا قضيتَ دَيْنَك لم يبقَ معك شيء، وقد أمرتُ لك بخمسين ألفَ دينارٍ أخرى. فلمَّا كان اليومُ الثالث جاءني الأعمى، فقلت: قد رزقني اللَّه بسببك خيرًا كثيرًا، ودفعتُ له الألفَيْ دينارٍ التي من عند الخليفة، وزدتُهُ من عندي أيضًا.

ووقفتِ امرأةُ المهدي فقالت: يا عُصبةَ رسولِ اللَّه، اقضِ حاجتي. فقال المهدي: ما سمعتُها من أحدٍ غيرِها، اقضوا حاجتَها، وأعطُوها عشرةَ آلاف درهم.

ودخل ابنُ الخياط على المهدي فامتدحَه، فأمر له بخمسينَ ألفَ درهم، ففرَّقها ابنُ الخيَّاط وأنشأ يقول:

أخذتُ بكفي كفَّه أبتغي الغِنَى

ولم أدرِ أنَّ الجودَ من كَفِّهِ يُعْدِي

فلا أنا منه ما أفادَ ذوو الغنى

أفَدْتُ وأعداني فبدَّدْتُ ما عندي

قال: فبلغ ذلك المهدي، فأعطاه بدَلَ كلِّ درهمٍ دينارًا.

وبالجملة فإنَّ للمهدي مآثرَ ومحاسنَ كثيرة، وقد كانت وفاتُهُ بِمَاسَبَذان

(1)

، كان قد خرجَ إليها ليبعثَ إلى ابنِهِ الهادي، ليحضُرَ إليه من جُرْجان، حتى يخلَعَهُ من ولايةِ العَهْد، ويجعلَهُ بعدَ هارونَ الرشيد، فامتنعَ الهادي من ذلك، فركب المهديُّ إليه قاصدًا إحضارَه، فلما كان بماسَبَذَان مات بها، وكان قد رأى في النوم وهو بقصرِهِ ببغداد، وأظنُّهُ المسمَّى بقصر السلامة، كأنَّ شيخًا وقف ببابِ القصر، ويُقال إنه سمع هاتفًا يقول:

كانِّي بهذا القصرِ قد بادَ أهلُهُ

وأوحشَ منه رَبْعُهُ ومنازِلُهْ

وصار عَميدُ القومِ منْ بعد بَهْجةٍ

ومُلكٍ إلى قبرٍ عليه جنادِلُهْ

(1)

انظر التعريف بماسبذان في حاشية (2) في الصفحة (410) من هذا الجزء.

ص: 415

ولم يبقَ إلَّا ذكرُهُ وحديثُهُ

تنادي عليه مُعْولاتٍ حلائلُهْ

فما عاش بعدَها إلَّا عشرًا حتى مات. رحمه الله وسامحه وأدخله الجنة، برحمته آمين.

ويُروى أنه لما قال له الهاتف:

كأنِّي بهذا القصرِ قد بادَ أهلُهُ

وقد درسَتْ أعلامُهُ ومنازلُهْ

فأجابه المهدي:

كذاكَ أمورُ الناسِ يَبْلَى جَديدُها

وكلُّ فتًى يومًا ستبلَى فعائلُهْ

فقال الهاتف:

تزوَّدْ من الدنيا فإنك مَيِّتٌ

وإنك مسؤولٌ فما أنتَ قائلُهْ؟

فأجابه المهدي:

أقولُ بأنَّ اللَّه حَقٌّ شهِدْتُهُ

وذلك قولٌ ليس تُحصَى فضائلُهْ

فقال الهاتف:

تزوَّدْ من الدنيا فإنك راحلٌ

وقد أزِفَ الأمرُ الذي بك نازلُهْ

فأجابه المهدي:

متى ذاك خَبِّرْني هُديتَ فإنني

سأفعلُ ما قد قلتَ لي وأعاجِلُهْ

فقال الهاتف:

تلَبَّثْ ثلاثًا بعد عشرينَ ليلةً

إلى مُنْتَهى شهرٍ وما أنتَ كاملُهْ

قالوا: فلم يعِشْ بعدَها إلا تسعًا وعشرينَ يومًا حتى مات. رحمه اللَّه تعالى.

وقد ذكر ابنُ جرير

(1)

اختلافًا في سبَبِ موتِه؛ فقيل إنه ساق خلفَ ظبْيٍ والكلابُ بين يديه، فدخل الظبيُ إلى خَرِبَةٍ، فدخلتِ الكلابُ وراءَهُ، وجاء الفرس، فحمل بمشواره، فدخل الخَرِبة، فكُسر ظهرُه، وكانت وفاتُه بسببِ ذلك.

وقيل: إنَّ بعض حظاياهُ بعثَتْ إلى أخرى لبنًا مسمومًا، فمرَّ الرسولُ بالمهدي، فأكل منه فمات. وقيل: بل بعثَتْ إليها بصينيَّةٍ فيها الكُمَّثْرَى، وفي أعلاها واحدةٌ كبيرةٌ مسمومة، وكان المهديُّ يُعجبُه الكُمَّثْرَى، فمرَّتْ به الجاريةُ ومعها تلك الصينية، فرآها فاستدعاها، فأخذ التي في أعلاها، فأكلها

(1)

هو الطبري في تاريخه (4/ 583).

ص: 416

فماتَ من ساعتِه. فجعلتِ الحظيَّة تندبُهُ وتقول: واأميرَ المؤمنيناه! أردتُ أنْ يكونَ لي وحدي قتلتُه بيدي. وكانت وفاتُه في المحرَّم من هذه السنة، أعني سنةَ تسعٍ وستين ومئة. وله من العمر ثلاثٌ وأربعون سنة على المشهور. وكانت خلافتُهُ عشرَ سنين وشهرًا وكسورًا. ورثاهُ الشعراء بمراثيَ كثيرة، قد ذكرَها ابنُ جرير وابنُ عساكر.

‌وفيها توفي من الأعيان:

عُبيد اللَّه بن زياد.

ونافع بن عمر الجمحي.

ونافع بن أبي نعيم القاري.

‌خلافة موسى الهادي بن المهدي

تُوفي أبوه في المحرَّم من أول سنةِ تسعٍ وستين ومئة، وكان وليَّ العهد من بعدِ أبيه، وكان أبوه قد عزم قبلَ موته على تقديمِ أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد، فلم يتفِقْ ذلك حتى مات المهدي بماسَبَذَان؛ وكان الهادي إذْ ذاك بجُرْجان، فهمَّ بعضُ رجال الدولةِ منهم الربيع الحاجب وطائفةٌ من القُوَّاد على تقديمِ الرشيد عليه، والمبايعةِ له، وكان الرشيدُ حاضرًا ببغداد، وعزموا على النفقة على الجُند لذلك، تنفيذًا لِما رآه المهديُّ من ذلك، فأسرع الهادي السيرَ من جُرْجان إلى بغداد، حين بلغَهُ الخبر، فساق منها إليها في عشرين يومًا، فدخل بغداد، وقام في الناس خطيبًا، وأخذ البيعةَ منهم فبايعوه، وتغيَّبَ الربيعُ الحاجب، فتطلَّبه الهادي حتى حضَرَ بين يديه، فعفا عنه، وأحسن إليه، وأقرَّهُ على وظيفته الحُجوبيَّة، وزادَهُ الوِزَارة وولاياتٍ أُخَر، وشرع الهادي في تطلُّبِ الزنادقةِ من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى في ذلك بأبيه.

وقد كان موسى الهادي من أفْكَهِ الناس مع أصحاب في الخلوة، فإذا جلس في مقامِ الخِلافة كانوا لا يستطيعونَ النظرَ إليه، لما يعلوهُ من المهابةِ والرِّيَاسة. وكان شابًّا حسنًا وقورًا مَهيبًا.

وفيها -أعني سنةَ تسعٍ وستين ومئة- خرج بالمدينة الحسينُ بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يومًا وقد لبس البياض، وجلس في المسجد النبويّ، وجاء الناسُ إلى الصلاة، فلما رأوه ولَّوْا راجعين، والتفَّ عليه جماعةٌ فبايعوه على الكتابِ والسنَّة والرِّضَا من أهلِ البيت؛ وكان سببُ خروجه أنَّ متولِّيَها خرج منها إلى بغداد لِيُهَنّئَ الخليفه بالولاية، ويُعزِّيَهُ في أبيه؛ ثم جرتْ أمورٌ اقتضَت خروجَه؛ والتفَّ عليه جماعةٌ من أهلِ البيت وغيرهم، وجعلوا مأواهمُ المسجد النبوي، منعوا النَّاسَ من الصلاةِ فيه، ولم يُجِبْهُ أهلُ المدينةِ إلى ما أرادَه، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكِهِ

ص: 417

المسجد؛ حتى ذُكِرَ أنَّهم كانوا يقذرون في جنياتِ المسجد، وقد اقتتلوا مع المسوِّدَة مرَّات، فقُتل من هؤلاء وهؤلاء. ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحجّ، فبعث إليه الهادي جيشًا، فقاتلوه بعدَ فراغِ الناسِ من الموْسِم، فقتلوه وفتلوا طائفةً من أصحابه، وهرَب بقيتُهم وتفرَّقوا شَذَرَ مَذَر. فكان مُدَّةُ خروجِه إلى أن قُتل تسعةَ أشهرٍ وثمانيةَ عشرَ يومًا. وقد كان كريمًا في أجودِ الناس، دخل يومًا على المهدي، فأطلق له أربعينَ ألفَ دينار، ففرَّقها في أهلِهِ وأصدقائِهِ من أهلِ بغدادَ والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما كان فَرْوة، وليس تحتها قميص.

وفيها حجَّ بالناسِ سليمان بن أبي جعفر، عمُّ الخليفة، وغزا الصائفةَ من طريقِ دَرْبِ الرَّاهب معتوق بن يحيى، في جَحْفَلٍ كثيف، وقد أقبلتِ الرُّوم مع بِطْرِيقِهَا، فبلغوا الحدَث.

‌وفيها تُوفي:

الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، قُتل في أيامِ التشريق. كما تقدم.

والربيع بن يونس الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبَهُ ووزيرَه، وقد وَزَرَ للمهدي والهادي، وكان بعضهم يطعنُ في نسبه، وقد أورد الخطيبُ في ترجمتِهِ حديثًا من طريقه، ولكنه مُنكر؛ وفي صحتِه عنه نَظَر. وقد وَليَ الحُجُوبيَّةَ بعدَهُ ولدُهُ الفضلُ بن الربيع، ولَّاه إياها الهادي.

‌ثم دخلت سنة سبعين ومئة من الهجرة النبوية

وفيها عزَمَ الهادي على خَلْعِ أخيه هارونَ الرشيدِ من الخلافةِ وولايةِ العَهْد لابنِهِ جعفر بن الهادي، فانقادَ هارونُ لذلك، ولم يظهرْ عليه منازعة، بل أجاب، واستدعى الهادي جماعةً من الأمراء فأجابوهُ إلى ذلك، وأبَتْ أمُّهما الخَيْزُران، وكانت تميلُ إلى ابنِها هارون أكثرَ من موسى، وكان الهادي قد منعَها من التصرُّف في شيءٍ من المملكةِ لذلك بعدَما كانتْ قد استحوذَتْ عليه في أول ولايتِهِ؛ وانقلبتِ الدولُ إلى بابِها والأُمراء إلى جانبها؛ فحلف الهادي لئن عاد أميرٌ إلى بابها ليضربَنَ عُنقه ولا يقبَلُ منه شفاعة. فامتنعتْ من الكلام في ذلك، وحلفَتْ لا تكلِّمُه أبدًا، وانتقلَتْ عنه إلى مَنْزلٍ آخر، وألحَّ هو على أخيه هارون في الخَلْع، وبعث إلى يحيى بن خالد بن بَرْمَك، وكان من أكابرِ الأمراء الذين هم في صفّ الرشيد، فقال له: ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتوليةِ ابني جعفر؟ فقال له يحيى بن خالد: إنِّي أخشى أن تَهُونَ الأيمانُ على الناس، ولكنَّ المصلحةَ تقتضي أنْ تجعلَ جعفرًا وليَّ العهد من بعدِ هارون، وأيضًا فإنِّي أخشَى أنْ لا يُجيب أكثرُ الناسِ إلى البيعةِ لجعفر لأنه دون البلوغ، فيتفاقَمُ الأمرُ ويختلفُ الناس، فأطرَقَ مليًّا، وكان ذلك ليلًا، ثم أمر بسَجْنِه، ثم أطلقَه، وجاء يومًا إليه أخوهُ هارون الرشيد، فجلس عن يمينه بعيدًا، فجعل الهادي ينظرُ إليه مليًّا ثم قال: يا هارون، تطمعُ أنْ تكونَ وليًّا للعَهْد حقًّا؟ فقال:

ص: 418

إي واللَّه، ولئن كان ذلك لأصِلَنَّ منْ قطَعْت، ولأنصِفَنَّ منْ ظلمت، ولأزوِّجَنَّ بَنيكَ من بناتي. فقال: ذاك الظنُّ بك. فقام إليه هارون يُقبِّلُ يده، فحلَفَ الهادي ليجلسنَّ معه على السرير، فجلس معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأنْ يدخُلَ الخزائنَ فيأخذ منها ما أراد؛ وإذا جاء الخراجُ دَفَعَ إليه نصفَه، ففُعل ذلك كلُّه، ورضي الهادي عن الرشيد.

ثم سافر الهادي إلى حديثةِ الموصل بعد الصُّلح، ثم عاد منها، فمات بعِيساباذ

(1)

ليلةَ الجمعة للنصف من ربيع الأول؛ وقيل آخر سنةِ سبعين ومئة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافتُه ستةَ أشهر وثلاثة وعشرينَ يومًا، وكان طويلًا جميلًا أبيض، بشفته العليا تقلُّص.

وقد تُوفِّي في هذه الليلة خليفة، وهو الهادي، ووُلِّيَ خليفةٌ وهو الرشيد، ووُلد خليفةٌ وهو المأمون بنُ الرشيد، وقد قالتِ الخيزُرَانُ أمُّهما في أولِ الليل: إنه بلغني أنْ يولَدَ خليفة، ويموتَ خليفة، ويُولَّى خليفة. يقال إنَّها سمعت ذلك من الآوزاعي قبلَ ذلك بمدَّة؛ وقد سرَّها ذلك جدًّا. ويقال: إنها سمَّتْ ولدَها الهادي خوفًا منها على ابنِها الرشيد، ولأنه كان قد أبعَدها وأقصاها، وقرَّبَ حَظيَّتَه خالصةَ وأدناها، فاللَّه أعلم.

‌وهذا ذكرُ شيءٍ من ترجمةِ الهادي

(2)

هو موسى بن محمد المهدي بن عبد اللَّه المنصور بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس أبو محمد الهادي، وَليَ الخلافةَ في مُحَرَّم سنة تسعٍ وستين ومئة، ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنةَ سبعين ومئة، وله من العمر ثلاثٌ -وقيل أربعٌ، وقيل ستٌّ- وعشرون سنة، والصحيح الأول، ويقال إنه لم يَلِ الخلافةَ أحدٌ قبلَهُ في سنِّه، وكان حسنًا جميلًا أبيض، وكان طويلًا، وكان قويَّ البأس، يَثِبُ على الدابَّةِ وعليه دِرْعان، وكان أبوه يُسمِّيه ريحانتي.

وذكر عيسى بن دأب قال: كنتُ يومًا عند الهادي إذْ جيء بطَسْتٍ فيه رأسُ جاريتين قد ذُبحا وقُطعا، لم أرَ أحسنَ صورًا منهما، ولا مثلَ شعورهما، وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضَّدة ولا رأيت مثل طيبِ ريحِهما، فقال لنا الخليفة: أتدرونَ ما شأنُ هاتَيْن؟ قلت: لا، فقال: إنه ذُكر أنه تركبُ إحداهما الأخرى يفعلانِ الفاحشة، فأمرتُ الخادمَ فرصدَهما، ثم جاءني فقال: إنهما مجتمعتان فجئتُ فوجدتُهما

(1)

"عيساباذ": محلة كانت بشرقي بغداد، ومعنى باذ العمارة فكأن معناه عمارة عيسى ويُسمُّون العامر أباذان، وهي منسوبة إلى عيسى بن المهدي وأمه وأم الرشيد والهادي الخيزران هو أخوهما. معجم البلدان (4/ 172).

(2)

ترجمته في تاريخ خليفة بن خياط ص (445)، تاريخ الطبري (4/ 604)، تاريخ بغداد للخطيب (13/ 21)، تاريخ اليعقوبي (2/ 404)، المنتظم (8/ 305)، العبر (1/ 257)، سير أعلام النبلاء (7/ 441)، شذرات الذهب (1/ 271).

ص: 419

في لحافٍ واحد، وهما على الفاحشة، فأمرتُ بجزِّ رقابِهما. ثم أمر برفع رؤوسِهما من بين يديه، ورجعَ إلى حديثِه الأول كأنه لم يصنَعْ شيئًا. وكان شهمًا خبيرًا بالْمُلك، كريمًا. ومن كلامه: ما أُصلحَ الملكُ بمثل تعجيلِ العُقوبة للجاني، والعفو عن الزلَّات، ليقلَّ الطمعُ عن الملك.

وغضِبَ يومًا من رجل، فاستَرْضَى عنه، فرَضِي، فشرَعَ الرجلُ يعتذِر، فقال الهادي: إنَّ الرِّضا كفاكَ مؤنة الاعتذار.

وعرى رجلًا في ولدِه فقال له: أسرَّك وهو عدوٌّ وفتنة، وأحزَنَكَ وهو صلاةٌ ورحمة؟.

وروى الزبير بن بكَّار أنَّ مروان بن أبي حَفْصَة أنشدَ الهادي قصيدةً له منها قوله:

تشابَهَ يوما بأسُه ونوالُه

فما أحدٌ يَدْري لأيُّهما الفضلُ

فقال له الهادي: أيُّما أحبُّ إليك؟ ثلاثون ألفًا معجَّلة؟ أو مئةُ ألفٍ تدورُ في الدواوين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أوَ أحسنُ من ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ثلاثون ألفًا معجَّلة، ومئةُ ألفٍ تدورُ بالدواوين. فقال: أو أحسنُ من ذلك؟ نعجِّل الجميع لك. فأمَرَ له بمئةِ ألفٍ وثلاثين ألفًا معجَّلة.

قال الخطيب البغدادي

(1)

: حدّثني الأزهري حدّثنا سهل بن أحمد الديباجي حدّثنا الصولي حدَّثنا [ابنُ] الغلابي، حدّثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدّثني المطلب بن عُكاشة الْمُزني، قال: قدمنا على أبي محمد الهادي شهودًا على رجلٍ منَّا أنه شتَمَ قريشًا وتخطَّى إلى ذكرِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا مجلسًا أحضَرَ فيه فقهاءَ أهلِ زمانِه، ومنْ كان بالحضرةِ على بابه، وأُحضر الرجلُ، وأحضرنا فشَهِدنا عليه بما سمعنا منه، فتغيَّرَ وجهُ الهادي، ثم نكس رأسه، ثم رفعه، ثم قال: إني سمعتُ أبي المهدي يحدِّثُ عن أبيه المنصور عن أبيه محمد، عن أبيه عليٍّ بن عبدِ اللَّه بن عباس قال: منْ أهانَ قريشًا أهانَهُ اللَّه. وأنتَ يا عدوَّ اللَّه، لم ترضَ بأنْ أردتَ ذلك من قريش، حتى تخطيتَ إلى ذكرِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم! اضرِبوا عنُقَه. فما بَرِحْنَا حتى قُتل.

تُوفِّي الهادي في ربيع الأول من هذه السنة، وصلَّى عليه أخوهُ هارون، ودُفن في قصرٍ بناهُ وسمَّاه الأبيض بعيساباذ من الجانب الشرقيِّ من بغداد. وكان له من الوَلَد تسعة، سبعةٌ ذُكور وابنتان، فالذكور: جعفر، وعباس، وعبدُ اللَّه، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الأعمى، الذي ولد بعد وفاته، فسُمِّيَ باسمِ أبيه. والبنتان هما: أمُّ عيسى التي تزوَّجها المأمون، وأمُّ العباس تُلقَّب تَوْبَة.

(1)

في تاريخ بغداد (13/ 22، 23)، وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 420

‌خلافة هارون الرشيد بن المهدي

بويع له بالخلافة ليلةَ مات أخوه، وذلك ليلةَ الجمعة، للنصف الأول من ربيع الأول، سنة سبعين ومئة، وكان عمرُ الرَّشيد يومئذٍ ثنتين وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن بَرْمك، فأخرجه من السِّجن، وقد كان الهادي عزَمَ تلك الليلةَ على قتلِه، وقتلِ هارونَ الرشيد؛ وكان الرشيدُ ابنهُ من الرَّضاعة، فولَّاهُ حينئذٍ الوزارة، وولَّى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابةَ الإنشاء، وكان هو الذي قام خطيبًا بين يديه حتى أُخذتِ البيعةُ له على المنبر بعيساباذ. ويُقال إنه لمَّا مات الهادي في الليل جاء يحيى بنُ خالد بن بَرْمَك إلى الرشيد، فوجده نائمًا، فقال: قُمْ يا أميرَ المؤمنين. فقال له الرشيد: كم تُرَوِّعُني، ولو سمعَكَ هذا الرجكُ بهذا الكلام! لكان ذلك أكبَرَ ذنوبي عندَه. فقال: قد ماتَ الرجل. فجلس هارونُ فقال: أشرْ عليَّ في الولايات. فجعل يذكرُ الأقاليمَ لرجالٍ يُسمِّيهم، فيولِّيهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذْ جاء آخرُ فقال: أبشرْ يا أميرَ المؤمنين، فقد وُلد لك الساعةَ غلام. فقال: هو عبدُ اللَّه، وهو المأمون. ثم أصبح فصلَّى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلَفَ لا يُصلِّي الظهرَ إلَّا ببغداد. فلما فرغ من الجنازة أمرَ بضَرْبِ عُنق أبي عصمةَ القائد؛ لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيدَ على جِسْر، فقال أبو عصمة: اصبرْ وقِفْ حتى يجوزَ وَليُّ العهد. فقال الرشيد: السمعُ والطاعةُ للأمير. فجاز جعفر وأبو عصمة، ووقف الرشيدُ مكسورًا ذليلًا. فلمَّا وُلِّي أمرَ بضرب عُنق أبي عصمة. ثم سار إلى بغداد، فلما انتهى إلى جسرِ بغداد استدعى بالغوَّاصين فقال: إني سقطَ مني ههنا خاتمٌ كان والدي المهدي قد اشتراهُ لي بمئةِ ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبُه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا، فغاص الغوَّاصون وراءه فوجدوه، فسُرَّ به الرشيد سرورًا كثيرًا. ولما ولَّى الرشيد يحيى بن خالدٍ الوزارةَ قال له: قد وضعتُ إليك أمرَ الرعيَّة، وخلَعْتُ ذلك من عُنقي وجعلتُهُ في عُنقك، فوَلِّ منْ رأيتَ واعزِلْ منْ رأيت. ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي:

ألم تر أنَّ الشمسَ كانتْ سقيمةً

فلمَّا وَلي هارونُ أشرَقَ نورُها

بيُمْنِ أمين اللَّه هارونَ ذي النَّدَى

فهارونُ واليها ويحيى وزيرُها

ثم إنَّ هارونَ أمر يحيى بن خالد أنْ لا يقطعَ أمرًا إلَّا بمشاورة والدتِه الخَيْزُرَان، فكانتْ هي المشاوَرَةَ في الأمورِ كلِّها، فتُبْرمُ وتحُلّ، وتُمضي وتَحكم.

وفيها أمَرَ الرشيدُ بسهمِ ذوي القُرْبَى أن يُقسم بين بني هاشمٍ على السَّوَاء. وفيها تتبَّع الرشيدُ خلقًا من الزنادقة، فقتل منهم طائفةً كثيرة. وفيها خرج عليه بعضُ أهلِ البيت. وفيها وُلد الأمينُ محمدٌ بن الرشيد ابن زُبيدة، وذلك يوم الجمعة لستٍّ خلَتْ من شوال من هذه السنة. وفيها كَمَلَ بناءُ مدينةِ طَرَسُوس على يدَيْ فرجٍ الخادمِ التركي، ونزلها الناس. وفيها حجَّ بالناس أميرُ المؤمنين الرشيد، وأعطى

ص: 421

أهلَ الحرمَيْن أموالًا كثيرة، ويُقال إنه غَزَا في هذه السنةِ أيضًا؛ وفي ذلك يقولُ داود بن رَزين الشاعر:

بهارونَ لاح النورُ في كلِّ بلدةٍ

وقام به في عَدْلِ سيرتِهِ النَّهْجُ

إمامٌ بذاتِ اللَّه أصبح شغلُهُ

وأكثرُ ما يُعْنى به الغَزْوُ والحجُّ

تَضيقُ عيونُ الناسِ عن نورِ وجهِهِ

إذا ما بدا للناس منظَرُهُ البَلْجُ

(1)

وإنَّ أمينَ اللَّه هارونَ ذا النَّدَى

يُنيلُ الذي يرجوهُ أضعافَ ما يَرْجو

وغزا الصائفة فيها سليمانُ بن عبد اللَّه البكائي.

‌ذكر من توفي فيها من الأعيان:

الخليلُ بنُ أحمد بن عمرو بن تميم

(2)

أبو عبد الرحمن الفَرَاهيدي: ويقال الفَرْهودي الأزْدي اليحْمدي، شيخُ النحاة، وعنه أخذَ سِيبَوَيْه، والنَّضْرُ بن شُمَيل، وغيرُ واحدٍ من أكابرِهم، وهو الذي اخترع علم العَرُوض، قسمَهُ إلى خمسِ دوائر، وفرَّعَهُ إلى خمسةَ عشرَ بحرًا؛ وزاد الأخفشُ فيه بحرًا آخرَ وهو الخَبَب. وقد قال بعضُ الشعراء:

قد كان شعرُ الورَى صحيحًا

من قبلِ أنْ يُخلَقَ الخليلُ

وقد كان له معرفةٌ بعلْمِ النغَم، وله فيه تصنيفٌ أيضًا؛ وله كتابُ العين في اللُّغة، ابتدأه وأكمَلَهُ النَّضْرُ بن شُمَيل وأضرابُهُ من أصحابِ الخليل، كمُؤرِّج السَّدُوسِيّ، ونصر بن علي الجَهْضمي، فلم يناسبوا ما وضَعَهُ الخليل، وقد وضع ابنُ دَرَسْتُويه كتابًا وصَفَ فيه ما وفع لهم من الخلل فأفاد. وقد كان الخليلُ رجلًا صالحًا عاقلًا وقورًا كاملًا، وكان متقلِّلًا من الدنيا جدًّا، صبورًا على خشونةِ العَيش وضِيقه، وكان يقول: لا يجاوزُ همِّي ما وراءَ بابي، وكان ظريفًا حسنَ الخُلق. وذكر أنه اشتغل رجلٌ عليه في العَرُوض، وكان بعيدَ الذِّهْنِ فيه؛ قال: فقلتُ له يومًا: كيف تُقَطِّعُ هذا البيت:

إذا لم تستطعْ شيئًا فدَعْهُ

وجاوِزْهُ إلى ما تستطيعُ

فشرَعَ معي في تقطيعِه على قَدْرِ معرفتِه، ثم إنه نَهَضَ من عندي فلم يَعُدْ إليّ، وكأنَّهُ فَهِمَ ما أشرتُ إليه.

ويُقال: إنه لم يُسمَّ أحدٌ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأحمدَ سوى أبيه. ورَوَى عن أحمد بن أبي خيثمة -واللَّه أعلم- وُلِدَ الخليل سنةَ مئة من الهجرة. ومات بالبصرة سنةَ سبعين ومئة على المشهور، وقيل سنة ستين.

(1)

"رجلٌ بَلْجٌ": طَلْقُ الوجه. القاموس (بلج).

(2)

ترجمته في المقتنى في سرد الكنى (1/ 369)، الثقات لابن حبان (8/ 229)، الفهرست ص (63)، مشتبه أسماء المحدثين ص (108)، الكامل في التاريخ (5/ 237)، وفيات الأعيان (2/ 244)، تهذيب الكمال (8/ 326)، العبر (1/ 268)، سير أعلام النبلاء (7/ 429)، النجوم الزاهرة (2/ 46)، تقريب التهذيب (195)، تهذيب التهذيب (3/ 141)، شذرات الذهب (1/ 275).

ص: 422

وزعم ابنُ الجَوْزي في كتابه "شذور العقود" أنه توفي سنة ثلاثين ومئة. وهذا غريبٌ جدًّا والمشهور الأول. واللَّه أعلم.

‌وفيها توفي:

الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم المصري المؤدِّب؛ راوية الشافعي، وآخِرُ منْ رَوَى عنه؛ وكان رجلًا صالحًا، تفرَّس فيه الشافعي، وفي البُوَيْطي والْمُزَني وابنِ عبدِ الحكم العِلْم، فوافَقَ ذلك ما وقَعَ في نفس الأمر. رحمه الله. ومن شعر الربيع هذا:

صبرًا جميلًا ما أسرعَ الفَرَجا

مَنْ صدَّقَ اللَّهَ في الأمورِ نَجَا

مَن خَشيَ اللَّه لم ينَلْهُ أذًى

ومَنْ رجَا اللَّه كان حيثُ رَجَا

فأمَّا الربيع بن سليمان بن داود الجِيزي فإنه روى عن الشافعي أيضًا، وقد مات في سنةِ ستٍّ وخمسين ومئتين. واللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومئة

فيها أضاف الرشيدُ الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة. وفيها قتل الرشيدُ أبا هريرة محمد بن فرُّوخ نائبَ الجزيرة صبرًا في قصر الخُلد بين يديه. وفيها خرج الفضلُ بن سعيد الحَرُوْريّ فقُتل. وفيها قدم رَوْحُ بنُ حاتم نائبُ إفريقيَة. وفيها خرجَتْ أم أمير المؤمنين الخَيْزُران إلى مكة، فأقامَتْ بها إلى أنْ شَهِدَتِ الحجّ. وكان الذي حجَّ بالناس فيها عبدُ الصمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس عمُّ الخلفاء. رحمه الله وأكرمه وتقبَّل منه.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومئة

فيها وضع الرشيدُ عن أهلِ العراق العُشْرَ الذي كان يؤخذ منهم بعدَ النصف. وفيها خرج الرشيدُ من بغداد يَرْتادُ له مَوْضعًا يسكنه غيرَ بغداد، فتشوَّش فرجع. وفيها حج بالناس يعقوبُ بن أبي جعفر المنصور عمُّ الرشيد. وفيها غَزَا الصائفةَ إسحاقُ بن سليمان بن علي.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة

فيها توفي بالبصرة محمد بن سليمان، فأمر الرشيدُ بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء، فوجدوا من ذلك شيئًا كثيرًا جدًّا، فقبضوه من الذهب والفضة والأمتعةِ التي يُستعان بها على الحرب،

ص: 423

وعلى مصالح المسلمين من العُدَد والبرك وغير ذلك؛ وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، وأمُّه أمُّ حسمن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالاتِ قريشٍ وشُجعانهم. جمع له المنصورُ بين البصرةِ والكوفة، وزوَّجه المهديُّ ابنتهُ العبَّاسة. وكان له من الأموال شيءٌ كثير؛ كان دخلُهُ في كلِّ يومٍ مئةَ ألف، وكان له خاتمٌ من ياقوت أحمر، لم يُرَ مثلُه.

وروى الحديث عن أبيه عن جدِّه الأكبر وهو ابنُ عباس، وهو حديث مرفوع في مَسْحِ رأسِ اليتيم إلى مقدَّم رأسِه، ومَسْح رأسِ منْ له أبٌ إلى مؤخَّرِ رأسِه

(1)

. وقد وَفَد على الرشد فهنَّأه بالخِلافة، فأكرمه وعظَمَه، وزاده في عمَلِهِ شيئًا كثيرًا. ولما أراد الخروجَ خرَجَ معه الرشيدُ يُشيِّعُهُ إلى كَلْوَاذى

(2)

. توفي في جُمادَى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل الرشد منِ اصطفى من ماله الصامت، فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف خارجًا عن الأملاك.

وقد ذكر ابنُ جرير أن وفاته ووفاة الخَيْزُران في يومٍ واحد

(3)

.

وقد وقفَتْ جاريةٌ من جواريه على قبرِه فأنشأت تقول:

أمسى الترابُ لِمَنْ هَويتُ مَبِيتا

القَ الترابَ فقلْ له حُيِّيتا

إئا نُحبُّكَ يا ترابُ وما بنا

إلَّا كرامةُ منْ عليه حُثِيتا

وفيها توفيت الخيزُران جاريةُ المهدي، وأمُّ أميرِ المؤمنين الهادي والرشد، اشتراها المهديُّ وحَظِيَتْ عدَهُ جدًّا ثم أعتَقَها وتزوَّجَها، ولدَتْ له خليفتَيْن: موسى الهادي، والرشد، ولم يتفق هذا لغيرِها من النساء إلَّا لولَّادة بنت العباس العبسية، زوجةِ عبدِ الملك بن مروان، وهي أمُّ الوليد وسليمان، وكذلك لشاه فونْد بنت فَيْروز بن يَزْدَجِرْد، ولدَتْ لِمولاها الوليد بن عبد الملك: مروانَ وإبراهيم، وكلاهما وَلي الخلافة. وقد رُوي من طريق الخيزُرَان عن مولاها المهدي، عن أبيه، عن جدِّه، عن ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنِ اتقى اللَّه وقاهُ كل شيء"

(4)

. ولما عُرضَتِ الخيزُران

(1)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 292) في ترجمة صالح الناجي، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 291) في ترجمة محمد بن سليمان، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (6/ 176) في ترجمته أيضًا وقال: هذا موضوع وتابعه ابن حجر في لسان الميزان (5/ 188) في ترجمته أيضًا.

(2)

"كلواذى": آخره ألف تكتب ياء مقصورة، وهو طَسُّوج تُرب مدينة السلام بغداد، وناحيةُ الجانب الشرقي من بغداد من جانبها، وناحية الجانب الغربي من نهر بوق، وهي الآن خراب، أثرها باق بينها وبين بغداد فرسخٌ واحد للمنحدر، وقد ذكرها الشعراء ولهج كثيرًا بذكرها الخلعاء، يقال: إنها سُمِّيت بكلواذى بن طهمورث الملك. ويقال: إن الكلواذ تابوت توراة موسى عليه السلام. انظر معجم البلدان (4/ 477، 478).

(3)

انظر تاريخ الطبري (4/ 623).

(4)

رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (14/ 435 - 431) قال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام: لا يثبت.

ص: 424

على المهدي ليشتريَها أعجبَتْه إلَّا دقةً في ساقَيْها، فقال لها: يا جارية إنكِ لعلى غايةِ الْمُنَى والجمال لولا حُمُوشَةٌ في ساقَيْكِ

(1)

. فقالت: يا أميرَ المؤمنين إنك أحوَجُ ما تكونُ إليهما لا تراهما. فاستحسَنَ جوابَها واشتراها، وحَظِيَتْ عندَهُ جدًّا. وقد حَجَّتِ الخَيْزُران مرَّة في حياةِ المهدي، فكتب إليها وهي بمكَّة يستوحشُ لها ويتشوَّقُ إليها بهذا الشِّعْر:

نحن في غايةِ السرورِ ولكنْ

ليس إلَّا بكُمْ يتمُّ السرورُ

عَيْبُ ما نحن فيه يا أهلَ وُدِّي

أنَّكم غُيَّبٌ ونحنُ حُضُورُ

فأجدُّوا في السَّيرِ بل إنْ قَدَرْتُمْ

أنْ تطيروا مع الرياحِ فَطيروا

فأجابَتْهُ أو أمرَتْ منْ أجابَهُ:

قد أتانا الذي وصفتَ من الشَّوْ

قِ فَكِدْنا وما فعلنا نطيرُ

(2)

ليت أنَّ الرياحَ كُنَّ يؤدِّيْـ

ــنَ إليكمْ ما قَدْ يُكِنُّ

(3)

الضميرُ

لم أزَلْ صبَّةً فإنْ كنتَ بعدي

في سرورٍ فدامَ ذاك السرورُ

وذكر أنه أهدَى إليها محمد بن سليمان نائبُ البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتَتْ فيه مئة وَصِيفة، مع كلِّ وَصيفة

(4)

جامٌ من فِضَّة مملوءٌ مسكًا. فكتبَتْ إليه: إنْ كان ما بعثتَهُ ثمنًا عن ظَنِّنا فيك فظننا فيك أكثرُ مما بعثت، وقد بَخَسْتَنا في الثمن؛ وإنْ كنتَ تُريد به زيادةَ المودَّة فقد اتَهمتَني في المودَّة. وردَّتْ ذلك عليه. وقد اشترتِ الدارَ المشهورةَ بها بمكة، المعروفة بدار الخَيْزُران، فزادَتْها في المسجدِ الحرام. وكان مَغَلُّ ضياعِها في كل سنةٍ ألفَ ألفٍ وستين ألفًا. واتَفَقَ موتُها ببغدادَ ليلةَ الجمعة لثلاثٍ بقينَ من جُمادَى الآخرة من هذه الستة. وخرج ابنُها الرَّشيد في جنازتِها وهو حاملٌ سريرَبها يخبّ في الطِّين فلما انهى إلى الْمَقْبُرَة أُتيَ بماءٍ، فغسل رجلَيْه، ولبس خُفًّا وصلَّى عليها، ونزلَ لحْدَها، فلما خرج من القبر أُتيَ بسريرٍ فجلس عليه، واستدعى بالفَضْلِ بنِ الرَّبيع، فولَّاهُ الخاتم والنفقات. وأنشد الرشيدُ قولَ ابنِ نُوَيْرة حين دفَنَ أمَّهُ الخيزُران:

وكنَّا كندمانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَة

من الدهرِ حتى قيل لنْ يتصدَّعا

فلما تفرَّقْنا كأني ومالكًا

لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا

(5)

(1)

في (ق): "لولا دقة ساقيك وخموشهما". وهو تصحيف. والمثبت من (ب، ح)، والحموشة: الدِّقَّةُ.

(2)

في (ق): "فكدنا وما قدرنا نطير". والمثبت من (ب، ح).

(3)

في (ب، ح): "يجنُّ الضمير".

(4)

في (ب، ح): "مئة وصيف مع كل وصيف". والمثبت من (ق).

(5)

الشعر لمتمّم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا كما في الأغاني (15/ 288، و 298، 299).

ص: 425

وفيها تُوفيتْ:

غادر

(1)

: جاريةٌ كانت لموسى الهادي، كان يُحبُّها حبًّا شديدًا جدًّا، وكانت تُحسنُ الغناء جدًّا، فبينما هي يومًا تُغنيه إذْ أخذَتْهُ فكرةٌ غيَّبَتْهُ عنها، وتغيَّرَ لونُه، فسأله بعضُ الحاضرين: ما هذا يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: أخذَتْني فكرةٌ أني أموت، وأخي هارونُ يتولَى الخلافةَ بعدي، ويتزوَّج جاريتي هذه. ففدَاهُ الحاضرون ودَعَوْا له بطول العُمر. ثم استدعى أخاه هارون، فأخبَرَهُ بما وقع، فعَوَّذَهُ الرشيدُ من ذلك، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلَّظة من الطلاق والعَتَاق والحَجِّ ماشيًا حافيًا أنْ لا يتزوَّجَها، فحلف له واستحلف الجاريةَ كذلك، فحلفَتْ له؛ فلم يكنْ إلَّا أقلَّ من شهرَيْن حتى مات. ثم خطبَها الرشيد، فقالت: كيف بالأيمان التي حلفناها أنا وأنت؟! فقال: إني أكَفِّرُ عنِّي وعنك. فتزوَّجَها وحَظِيَتْ عندَهُ جدًّا، حتى كانتْ تنامُ في حَجْرِهِ فلا يتحرَّكُ خشيةَ أنْ يُزْعجها؛ فبينما هي ذات ليلة نائمة ببغداد، إذِ انتبهَتْ مَذْعُورةً تبكي، فقال لها: ما شأنُك؟ فقالت يا أميرَ المؤمنين؟ رأيتُ الهادي في منامي هذا وهو يقول:

أخْلَفْتِ عَهْدي بعدما

جاوَرْتُ سُكَّانَ المقابرْ

ونَسيتِنِي وحَنثْتِ في

أيمانِكِ الكَذِبِ الفَوَاجِرْ

ونَكَحْتِ غادرةً أخي

صَدَق الذي سمَّاكِ غادرْ

أمسَيْتُ في أهلِ البِلَى

وعُدِدْتُ في الموتى الغَوَابِرْ

لا يَهْنكِ الإلْفُ الجَدِيـ

ـدُ ولا تَدُرْ عنكِ الدوائرْ

ولَحِقْتِ بي قبلَ الصَّبَا

حِ وصِرْتِ حيثُ غدوْتُ صائرْ

فقال الرشيد: إنما هذا أضغاثُ أحلام. فقالتْ كلَّا واللَّهِ يا أميرَ المؤمنين، فكأنما كُتِبَتْ هذه الأبيات في قلبي. ثم ما زالَتْ تَرْتَعدُ وتضطربُ حتى ماتتْ قبلَ الصباح.

وفيها ماتَتْ:

هَيْلانَة

(2)

: جاريةُ الرشيد وهو الذي سمَّاها هَيْلانة لكثرةِ قولها: هي لانه. قال الأصمعي: وكان لها مُحبًّا، وكانت قبله لخالدِ بن يحيى بن بَرْمَك، فدَخَلَ الرشيدُ يومًا مَنْزلَهُ قبلَ الخلافة، فاعترضَتْهُ في طريقِهِ وقالتْ: أما لنا منك نصيب؟ فقال: وكيف السبيلُ إلى ذلك؟ فقالت: استَوْهبني من هذا الشيخ.

(1)

ترجمتها في المنتظم (8/ 349).

(2)

ينظر في ترجمتها تاريخ بغداد (1/ 96) وما بعدها، والمنتظم لابن الجوزي (8/ 352)، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص (295).

ص: 426

فاستوهَبَها من يحيى بن خالد، فوَهَبها له، وحَظيتْ عندَه؛ ومكثتْ عنده ثلاث سنين، ثم تُوفيت. فحَزِنَ عليها حُزنًا شديدًا، ورثاها، وكان من قوله فيها:

قد قلتُ لمَّا ضَمَّنوكِ الثَّرَى

وجالتِ الحَسْرَةُ في صَدري

اذْهَبْ فلاقِ اللَّه لا سَرَّني

بَعْدَكِ شيءٌ آخرَ الدَّهْرِ

(1)

وقال العباس بنُ الأحنف في موتِها:

يا من تباشرتِ القبورُ بمَوتها

قَصَدَ الزمانُ مساءتي فرَمَاكِ

أبغي الأنيسَ فما أرى لي مؤنسًا

إلَّا التردُّدَ حيثُ كنتُ أراكِ

مَلِكٌ بكاكِ فطالَ بعدَكِ حُزْنُهُ

لو يستطيعُ بِمُلْكِهِ لَفَدَاكِ

يَحْمي الفؤادَ عن النساءَ حَفِيظةً

كي لا يَحِلَّ حِمَى الفؤادِ سواكِ

(2)

قال: فأمر له الرشيدُ بأربعين ألفًا، لكلِّ بيتٍ عشرةُ آلاف. فاللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومئة من الهجرة النبوية

فيها وقعَتْ عصبيَّةٌ بالشام وتَخبيطٌ من أهلِها. وفيها استقضى الرشيدُ يوسُفَ بنَ أبي يوسف وأبوهُ حيّ. وفيها غزا الصائفة عبدُ الملك بن صالح، فدخل بلادَ الروم. وفيها حجَّ بالناس الرشيدُ، فلما اقترب من مكة بلَغَهُ أنَّ فيها وباءً فلم يدخلْ مكة حتى كان وقتُ الوقوف؛ فوقف، ثم جاء الْمُزْدَلِفَةَ ثم مِنَى، ثم دخل مكة، فطافَ وسَعَى، ثم ارْتَحَلَ ولم يَنْزِلْ بها.

‌ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومئة

فيها أخذ الرشيدُ بولايةِ العهدِ من بعد لوَلَدِهِ محمد بن زُبَيْدَة، وسَمَّاهُ الأمين، وعمرُهُ إذْ ذاكَ خمسُ سنين؛ فقال في ذلك سَلْمٌ الخاسر:

قد وفَّقَ اللَّه الخليفةَ إذْ بَنَى

بيتَ الخلافةِ للهِجَانِ الأزْهَرِ

فهو الخليفةُ عن أبيه وجَدِّهِ

شَهِدَا عليه بمَنْظَرٍ وبمَخْبَرِ

قد بايعَ الثقلانِ في مَهْدِ الهُدَى

لمحمدِ بنِ زُبَيْدَةَ ابنةِ جَعْفرِ

(3)

(1)

البيتان في تاريخ بغداد (1/ 98)، والمنتظم (8/ 352).

(2)

الأبيات في تاريخ بغداد (1/ 98) والمنتظم (8/ 352، 353). وقد سقط من (ق) البيتان الثالث والرابع، وهما في (ح).

(3)

الأبيات في تاريخ الخلفاء ص (291) وفيه: "قد بايع الثقلان مهديَّ الهدى".

ص: 427

وقد كان الرشيدُ يتوسَّمُ النجابةَ والرَّجَاحة في عبدِ اللَّه المأمون ويقول: واللَّه فيه حَزْمُ المنصور، ونُسك المَهْديّ، وعِزَّةُ نفسِ الهادي، ولو شئتُ أنْ أقولَ الرابعةَ مني لقلت، وإنِّي لأقَدِّمُ محمدَ بن زُبيدة، وإني لأعلمُ أنه مُتَّبعٌ هواه، ولكنْ لا أستطيعُ غيرَ ذلك ثم أنشأ يقول:

لقد بانَ وَجْهُ الرأي لي غيرَ أنني

غُلبتُ على الأمرِ الذي كان أحزَمَا

وكيف يُرَدُّ الدَّرُّ في الضَّرْعِ بعدَمَا

تَوَزَّعَ حتى صار نَهْبًا مُقَسَّمَا

أخافُ التِواءَ الأمرِ بعدَ إسْتِوائِهِ

وأنْ يُنْقَض الأمرُ الذي كان أُبْرِمَا

(1)

وغزا الصائفةَ عبدُ الملك بن صالح في قول الواقدي

(2)

؛ وحج بالناس الرشيد. وفيها سار يحيى بن عبد اللَّه بن حسن إلى الدَّيْلَم، وتحرَّك هناك.

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

شَعْوانةُ العابدةُ الزاهدة

(3)

: كانت أمَةً سوداء، كثيرة العبادة، رُوي عنها كلماتٌ حسان، وقد سألها الفُضَيْلُ بن عياض الدعاءَ فقالت: أمَا بينَكَ وبينَهُ ما إنْ دعَوْتَهُ استجابَ لك؟! فشهق الفُضيل، ووقَعَ مَغْشيًا عليه.

وفيها تُوفي:

اللَّيْثُ بن سعد بن عبد الرحمن الفَهميّ، مولاهم

(4)

: قال ابنُ خَلِّكان

(5)

: كان مولى قيس بن

(1)

الأبيات في المنتظم (9/ 10).

(2)

انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 288).

(3)

انظر خبرها في حلية الأولياء (8/ 113)، وتاريخ بغداد (9/ 112). وترجمتها في صفة الصفوة (4/ 53)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (5/ 264)، روض الرياحين (257) الحكاية (189)، و (516) الحكاية (475)، طبقات الشعراني (1/ 67)، الكواكب الدرية (1/ 327)، الدر المنثور (256).

(4)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 517)، طبقات خليفة (296)، تاريخ خليفة (449)، التاريخ الكبير (7/ 246)، التاريخ الصغير (2/ 191)، المعارف (505)، الكنى والأسماء للدولابي (145)، الجرح والتعديل (7/ 179)، مشاهير علماء الأمصار الترجمة (1536)، الحلية (7/ 318)، تاريخ بغداد (3/ 13)، طبقات الفقهاء (78)، صفة الصفوة (9/ 304)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 239)، جامع الأصول له (15/ 148)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 73)، وفيات الأعيان (4/ 127)، طبقات علماء الحديث الترجمة (194)، مختصر تاريخ دمشق (21/ 246)، الأنساب (9/ 353)، ميزان الاعتدال (3/ 423)، العبر (1/ 266)، سير أعلام النبلاء (8/ 136)، تذكرة الحفاظ (1/ 224)، تهذيب التهذيب (8/ 459)، تقريب التهذيب (464)، النجوم الزاهرة (2/ 82)، الطبقات الصغرى للمناوي (520)، شذرات الذهب (2/ 339)، جامع كرامات الأولياء (2/ 238).

(5)

في وفيات الأعيان (4/ 127).

ص: 428

رفاعة، وهو مولى عبدِ الرحمن بن مسافر الفَهْمي. كان الليثُ إمامَ الدَّيار المصرية بلا مُدَافَعَة، وولد بِقَرْقَشْندَة من بلادِ مصر

(1)

، سنةَ أربعٍ وتسعين. وكانت وفاتُه في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية. وقال ابنُ خلِّكان: أصلُهُ من قَلْقَلَشَنْدَة

(2)

، وضَبَطَهُ بقافين الثانية متحرِّكة. وحُكي عن بعضهم أنه كان جيِّدَ الذِّهْن

(3)

، وأنه وَلِي القضاءَ بمصر، [فلم يحمَدوا ذهنهُ بعدَ ذلك]

(4)

.

ولد سنةَ أربعٍ وعشرين ومئة، وذلك غريبٌ جدًّا. وذكروا أنه كان يدخلُه من مُلْكِه في كلِّ سنةٍ خمسةُ آلاف دينار. وقال آخرون: كان يدخُلُه من الغَلَّة في كلِّ سنة ثمانون ألفَ دينار، وما وجبَتْ عليه زكاة. وكان إمامًا في الفقه والحديث والعربية.

قال الشافعي: كان الليثُ أفقهَ من مالك، إلَّا أنه ضيَّعهُ أصحابُه

(5)

. وبعث إليه مالك يستهديه شيئًا من العصفر لأجلِ جهاز ابنتِه، فبعث إليه بثلاثين حِملًا، فاستعمل منه مالكٌ حاجتَه، وباع منه بخمس مئة دينار، وبقيَتْ عنده منه بقيَّة. وحجَّ مرةً فأهدى له مالكٌ طبقًا فيه رُطَب، فردَّ الطبقَ وفيه ألفُ دينار. وكان يهبُ للرجلِ من أصحابِهِ من العلماء الألف دينار وما يُقاربُ ذلك، وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبَخُهُ في مركب. ومناقبه كثيرةٌ جدًّا، وقد ذكرناه في التكميل. وحكى ابنُ خَلِّكان أنه سمع قائلًا يقولُ يوم مات الليث:

ذهب اللَّيثُ فلا لَيْثَ لكم

ومَضَى العلمُ غريبًا وقُبِرْ

فالتفتوا فلم يرَوْا أحدًا.

وفيها تُوفي:

المنذر بن عبد اللَّه بن المنذر

(6)

القُرَشي، عَرَض عليه المهدي أنْ يليَ القضاء، ويعطيَهُ من بيت المال مئة ألف درهم؛ فقال: إني عاهدتُ اللَّه أنْ لا أليَ شيئًا، وأعيذُ أميرَ المؤمنين باللَّه أنْ أخيسَ بعَهْدي. فقال له المهدي: آللَّهِ؛ قال: آللَّهِ. قال: انطلقْ، فقد أعفَيْتُك.

(1)

معجم البلدان (4/ 327).

(2)

في (ح، ق): "قلقشندة"، وكذا في وفيات الأعيان، والمثبت من (ب).

(3)

في (ب): "حنفي المذهب"، وفي (ح)"جيد المذهب"، والمثبت من (ق).

(4)

ما بين المعقوفين ليس في (ب، ح)، وهو من (ق).

(5)

طبقات المحدثين بأصبهان (1/ 406)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 382).

(6)

ترجمته في الثقات لابن حبان البستي (9/ 176)، تاريخ بغداد (13/ 244)، تهذيب الكمال (28/ 503)، تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (317)، تقريب التهذيب (546).

ص: 429

‌ثم دخلت سنة ست وسبعين ومئة

فيها كان ظهورُ يحيى بن عبد اللَّه بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الدَّيْلَم، واتَّبَعهُ خلقٌ كثير، وجَمٌّ غَفير، وقَويتْ شوكتُه، وارتَحَلَ إليه الناسُ من الكُوَرِ والأمصار، فانزعجَ لذلك الرشيد، وقَلِقَ من أمرِه؛ فنَدَب إليه الفضلَ بن يحيى بن خالد بن بَرْمك في خمسين ألفًا، وولَّاهُ كُوَرَ الجبلِ والرَّيِّ وجُرْجَانَ وطَبَرِسْتانَ وقُومس، وغيرِ ذلك، فسار الفضلُ بن يحيى إلى تلك الناحية في أبَّهةٍ عظيمة، وكُتُب الرشيدِ تَلْحَقُه مع البُرُدِ في كلِّ مَنْزلة، وأنواعُ التُّحَفِ والبِرّ. وكاتَبَ الرشيدُ صاحبَ الدَّيْلم، ووعَدَهُ بألفِ ألفِ درهم إنْ هو سَهَّلَ خروجَ يحيى إليهم. وكتب الفضلُ إلى يحيى بن عبد اللَّه يَعِدُه ويُمَنِّيه، ويؤمِّلُه ويُرَجيه، وأنه إنْ خرجَ إليه أنْ يُقيم له العُذْرَ عند الرشيد؛ فامتنَعَ يحيى أن يخرجَ إليهم حتى يكتُبَ له الرشيدُ كتابَ أمانٍ بيدِه فكتبَ الفضلُ إلى الرشيد بذلك، ففَرِحَ الرشيد، ووقَعَ منه موقعًا عظيمًا. وكتب الإمانَ بيدِه، وأشهَدَ عليه القضاةَ والفقهاء، ومشيخةَ بني هاشم، منهم عبدُ الصمد بنُ علي. وبعث الأمانَ وأرسل معه جوائزَ وتُحَفًا كثيرةً جدًّا، فلما وصلَتْ إلى الفضل، بعثَها بكمالِها إلى يحيى بن عبد اللَّه، فسارَ بهِ الفضلُ، فدخل بهِ بغداد، وتلقَّاهُ الرشيدُ وأكرَمَهُ، وأجزَلَ له في العطاء، وخدَمَهُ آلُ برمكَ خدمة عظيمة، بحيث إنَّ يحيى بنَ خالد كان يقول: خدمتُه بنفسي وولدي، وعَظُمَ الفضلُ عندَ الرشيدِ جدًّا بهذه الفَعْلة، حيث سعى بالصُّلح بين العباسيِّين والفاطميِّين؛ ففي ذلك يقولُ مروان بنُ أبي حَفْصَة بن يحيى، ويشكرُهُ على صَنيعهِ هذا:

ظَفِرْتَ فلا شَلَّتْ يَدٌ بَرْمَكيَّةٌ

رَتَقْتَ بها الفَتْقَ الذي بين هاشِمِ

على حينِ أعْيَا الرَّاتِقينَ التئامُهُ

فكَفُّوا وقالوا ليس بالمتلائِمِ

فاصبحتَ قد فازَتْ يداكَ بخطَّةٍ

من المجدِ باقٍ ذكرُها في المواسِمِ

وما زالَ قِدْحُ المُلكِ يَخْرُجُ فائزًا

لكُمْ كلَّما ضُمَّتْ قِدَاحُ الْمُسَاهِم

(1)

قالوا: ثم إنَّ الرشيدَ تنكَرَ ليحيى بن عبد اللَّه بن حسن، وتغَيَّرَ عليه، ويُقال إنه سَجَنَه، ثم استحضرَه، وعندَهُ جماعاتٌ من الهاشميِّين وأحضرَ الأمانَ الذي بعثَ به إليه، فسأل الرشيدُ محمدَ بن الحسن عن الأمان، أصحيحٌ هو؟ قال: نعم. فتغيظَ الرشيدُ عليه؛ وقال أبو البَخْتَرِيّ: ليس هذا الأمانُ بشيء، فاحكُمْ فيه بما شئت. ومزَّقَ الأمانَ وبصق فيه أبو البختريّ، وأقبل الرشيدُ على يحيى بن عبد اللَّه فقال: هيهِ، هيه! وهو يتبسَّمُ تبسُّمَ الْمُغضَب وقال: إنَّ الناس يزعمون أنَّا سَممناك. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، إنَّ لنا قرابةً ورَحمًا وحقًّا، فعلامَ تعذِّبُني وتَحبسُني؟ فرَقَّ له الرشيد، فاعترض بكَّارُ بن

(1)

الأبيات في المنتظم لابن الجوزي (9/ 17).

ص: 430

مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير فقال: يا أميرَ المؤمنين، لا يغرَّنَّك هذا الكلام من هذا، فإنه عاصٍ شاقّ، وإنما هذا منه مكْرٌ وخُبْث؛ وقد أفسَدَ علينا مدينتَنا وأظهر فيها العِصْيان. فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكُمُ اللَّه، وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا. ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين، إنما الناسُ نحنُ وأنتم. واللَّه يا أمير المؤمنين، لقد جاءني هذا حين قُتل أخي محمد بن عبد اللَّه فقال: لعَنَ اللَّه قاتلَه، وأنشدني فيه نحوًا من عشرين بيتًا وقال لي: إنْ تحرَّكْتَ إلى هذا الأمر فأنا أولُ من يُبايعُك، وما يمنعُكَ أنْ تلحقَ بالبصرة وأيدينا معك. قال: فتغيَّرَ وجهُ الرشيد ووجهُ الزُّبيريّ، وأنكَرَ وشرَعَ يَحْلِفُ الأيمانَ المغلَّظَة إنه لكاذبٌ في ذلك. وتحَيَّرَ الرشيدُ ثم قال ليحيى: أتحفظُ شيئًا من المرثيَّة؟ قال: نعم، وأنشده منها جانبًا فازدادَ الزُّبير في الإنكار، فقال له يحيى بنُ عبدِ اللَّه: فقلْ إنْ كنتُ كاذبًا فقد برئتُ من حَوْلِ اللَّه وقُوَّتِه، ووَكَلَني اللَّه إلى حولي وقُوَّتي. فامتنعَ من الْحَلِفِ بذلك. فعزَمَ عليه الرشيد، فحلف بذلك، فما كان إلَّا أنْ خرجَ من عند الرشيد، فرَمَاهُ اللَّه بالفالِج، فمات من ساعته. ويُقال إنَّ امرأته غمَّتْ وجهَهُ بِمَخدَّة، فقتلَه اللَّه.

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد اللَّه، وأطلق له مئة ألف دينار. ويُقال: إنما حبَسَه بعضَ يوم، وقيل ثلاثة أيام، وكان جملةُ ما وصله من المال من الرشيد أربعمئة ألف دينار من بيتِ المال، وعاش بعد ذلك كلُّه شهرًا واحدًا، ثم مات رحمه الله.

وفيها وقعَتْ فتنةٌ عظيمةٌ بالشام بين النِّزَاريَّة -وهم قَيْس- واليمانيَّة -وهم يَمَن-وهذا كان أولَ يومِ بُدوِّ أمرِ العشيرتينِ بحَوْران، وهم قيسٌ ويَمَن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهليَّة في هذا الآن؛ وقُتل منهم في هذه السنة بشرٌ كثير. وكان على نيابةِ الشام كُلِّها من جهةِ الرشيد ابنُ عمِّهِ موسى بن عيسى، وقيل عبد الصمد بن علي، فاللَّه أعلم. وكان على نيابةِ دمشق بخصوصها سِنْديُّ بن سهل أحدُ موالي جعفر المنصور. وقد هَدَمَ سورَ دمشق حين ثارَتِ الفتنةُ خوفًا من أنْ يتغلَّب عليها أبو الهيذام المِرِّي رأسُ القيسيَّة. وقد كان سنديٌّ هذا دميمَ الخلق. قال الجاحظ: وكان لا يُحلِّفُ المكاري ولا الملَّاح ولا الحائك ويقول: القولُ قولُهم؛ ويستخيرُ اللَّه في الحمَّال ومعلِّم الكُتَّاب. وقد تُوفِّي سنةَ أربعِ ومئتين.

فلما تفاقم الأمرُ بعَثَ الرشيدُ من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعةٌ من القُوَّاد ورؤوس الكُتَّاب، فاصلحوا بين الناس، وهدأتِ الفتنة، واستقام أمرُ الشام

(1)

، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى دار السلام، فردَّ الرشيدُ أمرَهم إلى يحيى بن خالد، فعَفَا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

قد هاجَتِ الشامُ هيجًا

يُشيبُ راسَ وليدِهْ

(1)

في (ق): "أمر الرعية"، وفي (ح):"أمر الرشيد"، والمثبت من (ب).

ص: 431

فصَبَّ موسى عليها

بخَيْلِهِ وجُنودِهْ

فدانتِ الشَّامُ لمَّا

أتى نَسيجُ وَحيدِهْ

هذا الجَوَادُ الذي بَذْ

ذَ كُلَّ جُودٍ بجُودِهْ

أعْدَاهُ جودُ أبيهِ

يَحْيَى وجُودُ جُدُودِهْ

فجاد موسى بن يحيى

بطارفٍ وتَليدِهْ

ونالَ موسى ذُرَا الْمَجْـ

ـدِ وهو حَشْوُ مُهُودِهْ

خَصَصْتُهُ بِمَديحي

مَنْثُورِهِ وقَصِدِهْ

من البرامِكِ عُودًا

لَهُ فأكْرِمْ بِعُودِهْ

حَوَوْا على الشِّعْرِ طُرًّا

خَفيفِهِ ومَدِيدِهْ

وفيها عَزَلَ الرشيدُ الغِطْريفَ بنَ عطاء عن خراسان وولَّاها حمزةَ بنَ مالك بن الهيثم الخزاعي الملقَّب بالعروس. وفيها ولى الرشيدُ جعفرَ بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك نيابةَ مصر، فاستنابَ عليها جعفر عمرَ بن مِهْرَان، وكان شَنيعَ الخُلُق زَريَّ الشكل بين الكتَبَة، أحوَل، وكان سببُ ولايته إيَّاها أنَّ نائبَها موسى بن عيسى كان قد عزَمَ على خَلْع الرشيد، فقال الرشيد: واللَّهِ لأعزِلَنَّه، ولأوَلِّينَّ عليها أحسنَ الناس. فاستدعى عمرَ بن مهران هذا، فولَّاهُ عليها عن نائبِهِ جعفر بن يحيى البَرْمكي؛ فسار إليها عمر بن مهران على بغل، وغلامه أبو دُرَّة على بغلٍ آخر، فدخلها كذلك، فانتهى إلى مجلسِ نائبها موسى بنِ عيسى، فجلس في أُخرَيَاتِ الناس، فلمّا انفضَّ الناسُ أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرِفُ منْ هو فقال: ألَكَ حاجةٌ يا شَيخ؟ قال: نعَمْ أصلَحَ اللَّه الأمير. ثم دفَعَ الكُتُبَ إليه، فلمَّا قرأها قال: أنت عمرُ بن مِهْران؟ قال: نعم. قال: لعَنَ اللَّه فِرْعون حين قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]. ثم سلَّم إليه العمل، وارتحل منها، وأقبل عمر بن مِهْرَان على عمَلِه، وكان لا يقبلُ شيئًا من الهدايا إلَّا ما كان ذهبًا أو فضة أو قماشًا، ثم يكتبُ على كلِّ هديَّةٍ اسمَ مُهْديها، ثم يطلبُ الخراجَ ويُلحُّ في طلَبِهِ عليهم، فشرَعَ بعضُهم في مُماطَلَتِه، فأقسم لا يَمْطُلُهُ أحدٌ فيقبض منه شيئًا؛ وإنما يَبْعَثُهُ إلى بغداد، ويَزنُ خراجَهُ بها، ويأتي بورقة القبض، ففعل ذلك ببعض الناس، فتأدَّبَ بقيَّتُهم، ثم جَباهُمُ القسط الثاني، فلما كان الثالث عَجَزَ كثيرٌ منهم عن الأداء، فجعَلَ يستحضرُ ما كانوا أدَّوْهُ إليه من الهدايا، فإنْ كان نقدًا أدَّاهُ عنهم، وإنْ كان بزًّا باعَهُ وأدَّاهُ عنهم، وقال لهم: إنِّي إنَّما ادخَرْتُ هذا لكم إلى وقتِ حاجتِكم. ثم أكمل استخراجَ جميعِ الخراج بديارِ مصر، ولم يفعلْ ذلك أحدٌ قبلَه. ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرَط الرشيدُ أنه إذا مهد البلاد، وجَبَى الخراج، فذاك إذنُهُ في الانصراف. ولم يكنْ معه بالديارِ المصريةِ جيشٌ ولا غيرُه، سوى مولاهُ أبو دُرَّةَ وحاجبُه، وهو منفذٌ أمورَه.

وفيها غزا الصائفة عبدُ الرحمن بن عبد الملك، ففتح حصنًا. وفيها حجَّتْ زُبيدة زوجةُ الرشيد ومعها أخوها، وكان أميرَ الحج سليمانُ بن أبي جعفر المنصور، عمُّ الرشيد.

ص: 432

وفيها تُوفي:

إبراهيم بن صالح

(1)

بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، كان أميرًا على مصر، توفي في شعبان. حكى عنه عبد اللَّه بن وهب.

وإبراهيم بن هَرْمَة

(2)

: كان شاعرًا، وهو إبراهيمُ بن عليِّ بن سلَمة بن عامر بن هَرْمَة، أبو إسحاق الفِهْريُّ المدني. شاعرٌ مُفْلِق. وَفَد على المنصور في وَفْدٍ من أهل المدينةِ حين استوفَدَهُمْ عليه، فجلسوا إلى سِترٍ دونَ المنصور، يرى النَّاسَ من ورائه ولا يرَوْنَه، وأبو الخصيب الحاجب واقفٌ يقول: يا أمير المؤمنين، هذا فلانٌ الخطيب؛ فيأمرُه فيخطب، ويقول: هذا فلانٌ الشاعر؛ فيأمره فيُنْشد، حتى كان من آخرِهم ابنُ هَرْمَةَ هذا، فسمعتُه يقول: لا مرحبًا ولا أهلًا، ولا أنعَمَ اللَّه بكَ عينًا!.

قال: فقلتُ: هلَكْتُ، ثم استنشدني فأنشدتُه قصيدتي التي أقولُ فيها:

سَرَى ثوْبَهُ عنكَ الصِّبَا المتخايلُ

وقَرَّبَ للبَيْنِ الخليطُ الْمُزَايلُ

(3)

حتى انتهيتُ إلى قولي:

فأمَّا الذي أمَّنْتَهُ يأمنُ الرَّدَى

وأمَّا الذي حاولتَ بالثُّكْلِ ثاكِلُ

قال: فأمر برَفْعِ الحجاب، فإذا وجههُ كأنه فَلْقَةُ قمَر فاستنشدني بقيَّةَ القصيدة، وأمَرَ لي بالقُرْب بين يديه، والجلوسِ إليه، ثم قال: ويحك يا إبراهيم! لولا ذنوبٌ بلغَتْني عنك، لفضَّلْتُكَ على أصحابك. فقلت: يا أمير المؤمنين، كلُّ ذنبٍ بلغَكَ عني لم تعفُ عنه فأنا مُقرٌّ به. قال: فتناول الْمِخْصَرة، فضربني بها ضربتَيْن، وأمر لي بعشرةِ آلافٍ وخِلْعَة، وعَفَا عني، وألحقَني بنُظَرائي. وكان من جملةِ ما نقَمَ المنصورُ عليه قولُه:

ومهما أُلامُ على حُبِّهِمْ

فإنِّي أُحِبُّ بني فاطمَهْ

بني بنتِ منْ جاء بالمحكماتِ

وبالدِّينِ والسُّنَّةِ القائمَهْ

فلستُ أبالي بحُبِّي لهمْ

سواهم من النَّعَمِ السَّائمة

(4)

(1)

ترجمته في المنتظم لابن الجوزي (9/ 21)، سير أعلام النبلاء (8/ 274).

(2)

ترجمته في الأغاني (4/ 361)، تاريخ بغداد (6/ 127)، الإكمال لابن ماكولا (7/ 314)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 21)، سير أعلام النبلاء (6/ 207)، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (1/ 80).

(3)

البيت من شواهد اللسان (سري): وفيه: سَرَوتُ الثوبَ وغيرَهُ عنِّي سَرْوًا سَرَيْتُه سَرَّيْتُه إذا ألقَيْتَهُ عنك ونَضَوْتَه. وساق البيت. والخبر والشعر في تاريخ بغداد (6/ 128)، والمنتظم (9/ 21).

(4)

الأبيات في المنتظم لابن الجوزي (9/ 23).

ص: 433

قال الأخفش: قال لنا ثعلب: قال الأصمعي: خُتم الشعراء بابن هَرْمَة

(1)

.

ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرَج ابنُ الجوزي

(2)

.

وفيها توفي:

الجرَّاح بن مليح والد وكيع بن الجراح.

وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن جميل أبو عبد اللَّه المدَني، وَلي قضاءَ بغداد سبعَ عشرةَ سنة لعسكرِ المهدي. وثَّقه ابنُ معين وغيرُه.

وفيها توفي:

صالح بن بشير المُرِّيّ

(3)

: أحدُ العُبَّاد الزُّهَّاد، كان كثيرَ البكاء، وكان يَعِظُ فيحضُر مجلسَهُ سفيانُ الثَّوْريُّ وغيرُهُ من العلماء؛ ويقولُ سفيان: هذا نذيرُ قوم. وقد استدعاهُ المهديُّ لِيَحْضُرَ عندَه، فجاء إليه راكبًا طى حمار، فدَنَا من بساطِ الخليفةِ وهو راكب، فأمر الخليفةُ ابنَيْهِ وليَّي العهد من بعدِه موسى الهادي وهارون الرشيد أنْ يقوما إليه ليُنْزلاهُ عن دابَّته، فابتدَرَاهُ فأنزلاه. فأقبل صالحٌ على نفسه فقال: لقد خبتُ وخَسِرْت إنْ أنا داهنتُ ولم أصدَعْ بالحقِّ في هذا اليوم وفي هذا المقام. ثم جلس إلى المهدي، فوعَظَه موعظةً بليغةً حتى أبكاه. ثم قال له: اعلمْ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خصَمَ من خالَفَهُ في أمَّتِه، ومن كان محمدٌ خصمهُ كان اللَّه خصمَه؛ فاعدَّ لمخاصمةِ اللَّه ومُخاصمةِ رسوله حُجَجًا تضمنُ لك النجاة، وإلَّا فاستسلمْ للهَلَكة، واعلَمْ أنَّ أبطأ الصَّرْعَى نهضة صريعُ هَوى بدْعَته؛ واعلم أن اللَّه قاهر فوقَ عبادِه، وأنَّ أثبتَ الناسِ قدَمًا آخذُهُمْ بكتابِ اللَّه وسُنَّةِ رسوله. وكلام طويل. فبكى المهدي، وأمر بكتابةِ ذلك الكلام في دواوينه.

(1)

بعد هذه الكلمة في (ب، ح) ما نصّه: "وهو آخر الحج"، وفي الأغاني (4/ 367): كان الأصمعيُّ يقول: ختم الشعراء بابن هرمة، والحكم الخضري، وابن ميادة، وطفيل الكناني، ومكين العذري.

(2)

انظر مصادر ترجمته في مطلع ترجمته في الصفحة السابقة.

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 281)، تاريخ خليفة (448)، طبقات خليفة (223)، التاريخ الكبير (4/ 273)، الضعفاء للعقيلي (2/ 199)، الجرح والتعديل (4/ 395)، الكامل في الضعفاء (4/ 60)، حلية الأولياء (6/ 165)، تاريخ بغداد (9/ 305)، صفة الصفوة (3/ 350)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (3/ 134)، وفيات الأعان (2/ 492)، تهذيب الكمال (13/ 16)، سير أعلام النبلاء (8/ 42)، ميزان الاعتدال (2/ 289)، المغني في الضعفاء (1/ 302)، العبر (1/ 262)، تهذيب التهذيب (4/ 382)، الوافي بالوفيات (16/ ت 276)، طبقات الشعراني (1/ 46)، شذرات الذهب (1/ 281).

ص: 434

وفيها تُوفي:

عبدُ الملك بن محمد بن أبي بكر عمرو بن محمد بن عمرو بن حَزْم؛ قَدِم قاضيًا بالعِراق.

وفَرَج بن فضالة التنوخي الحمصي

(1)

: كان على بيتِ المال ببغداد في خلافةِ الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولدُه سنة ثمانٍ وثمانين، فمات وله ثمانٌ وثمانون سنة، ومن مناقبه أنَّ المنصورَ دخل يومًا إلى قصرِ الذهب، فقام الناسُ إلَّا فرجَ بن فضالة، فقال له وقد غَضِب عليه لمَ لم تقمْ؟ قال: خفتُ أنْ يسألَني اللَّه عن ذلك ويسألَك: لِمَ رضيتَ بذلك، وقد كَرِهَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم القيامَ للناس. قال: فبكى المنصورُ وقرَّبَهُ وقَضَى حوائجَه.

والمسيَّب بن زهير بن عمرو

(2)

: أبو سَلَمة الضَّبِّي، كان واليَ الشُّرطة ببغداد في أيامِ المنصور والمهدي والرشيد، ووَلي خراسان مرة للمهدي. عاش ستًّا وتسعين سنة.

والوضَّاح بن عبدِ اللَّه

(3)

: أبو عوانة اليَشْكُري

(4)

، مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية، توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.

‌ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومئة

فيها عزل الرشيدُ جعفر بن يحيى البرمكيَّ عن مصر، وولَّى عليها إسحاق بن سليمان، وعزَل حمزة بن مالك عن خُراسان وولَّى عليها الفضلَ بن يحيى البرمكي، مضافًا إلى ما كان بيدِه من الأعمال بالريَّ وسِجِسْتان، وغير ذلك. وذكر الواقديُّ أنه أصاب النَّاسَ ريحٌ شديدةٌ وظُلْمةٌ في أواخر المحرَّم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها. وفيها حجَّ بالناس أمير المؤمنين هارون الرشيد.

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (7/ 134)، التاريخ الصغير له (2/ 205)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 685)، الضعفاء والمتروكين للنسائي (87)، الضعفاء للعقيلي (3/ 463)، الجرح والتعديل (7/ 85)، المجروحين لابن حبان (2/ 206)، الكامل لابن عدي (6/ 28)، تاريخ بغداد (12/ 393)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 4)، تهذيب الكمال (23/ 156)، الكاشف (2/ 120)، ميزان الاعتدال (5/ 415)، تحفة التحصيل (257)، الكشف الحثيث (208)، لسان الميزان (7/ 334)، تهذيب التهذيب (8/ 234)، تعجيل المنفعة (333).

(2)

ترجمته في تاريخ بغداد (13/ 137).

(3)

ترجمته في تهذيب الكمال (30/ 441)، تاريخ جرجان (481)، تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (336)، تهذيب التهذيب (11/ 103)، طبقات الحفاظ (106).

(4)

في (ح، ق): "السري"، تصحيف، والمثبت من (ب) ومصادر ترجمته.

ص: 435

وفيها توفي:

شَريك بن عبد اللَّه

(1)

: القاضي الكوفي النَّخَعي، سمع أبا إسحاقٍ السَّبيعي، وغيرَ واحد. وكان مَشْكورًا في حُكْمه، وتنفيذِ الأحكام. وكان لا يجلسُ للحُكْم حتى يتغدَّى، ثم يُخرجُ ورقةً من قِمَطْرِه

(2)

، فينظرُ فيها، ثم يأمرُ بتقديم الخُصوم إليه، فحرَصَ بعضُ أصحابِهِ على قراءةِ ما في تلك الورقة، فإذا فيها: شَريكُ بن عبدِ اللَّه اذكُرِ الصِّراطَ وحِدَّتَه، يا شريكُ بنَ عبدِ اللَّه، اذكُرِ الموقفَ بين يدي اللَّه عز وجل.

كانت وفاتُهُ يوم السبت مستهل ذي القَعْدَة منها.

وفيها تُوفي:

عبدُ الواحد بن زيد.

ومحمد بن مسلم.

وموسى بن أعْيَن.

‌ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومئة

فيها وثبَت طائفةٌ من الحَوفية، من قيسٍ وقُضاعة على عامِلِ مصر إسحاقَ بنِ سليمان، فقاتلوه، وجرَتْ فتنةٌ عظيمة، فبعثَ الرشيدُ هَرْثَمةَ بن أعيَن، نائبَ فِلَسْطين، في خَلْقٍ من الأمراء، مددًا لإسحاق، فقاتلوهم حتى أذْعَنوا بالطاعة، وأدَّوْا ما عليهم من الخراجِ والوظائفِ؛ واستمرَّ هَرْثَمهُ نائبًا على مصر نحوًا من شهر، عِوضًا عن إسحاقَ بنِ سليمان؛ ثم عزَلَهُ الرشيدُ عنها، وولَى عليها عبدَ الملك بن صالح.

وفيها وثبَتْ طائفةٌ من أهل إفريقيَةَ، فقتلوا الفضلَ بن رَوْح بن حاتم، وأخرجوا منْ كان بها من آلِ المُهلَّب، فبعث إليهم الرشيدُ هَرثَمة، فرجعوا إلى الطاعةِ على يديه.

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (4/ 237)، معرفة الثقات (1/ 453)، ذكر أسماء التابعين للدارقطني (2/ 113)، الضعفاء للعقيلي (2/ 193)، الجرح والتعديل (4/ 365)، مشاهير علماء الأمصار (170)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (4/ 6)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 39)، تهذيب الكمال (12/ 462)، الكنى في سرد الكنى (1/ 356)، تذكرة الحفاظ (1/ 232)، سير أعلام النبلاء (8/ 200)، ميزان الاعتدال (3/ 372)، التبيين لأسماء المدلسين للطرابلسي (111)، تحفة التحصيل (147)، طبقات المدلسين لابن حجر (33)، الكواكب النيرات (47).

(2)

في (ق): "من خفه". والقِمَطْر، ما يُصان به الكتب.

ص: 436

وفيها فوَّضَ الرشيدُ أمورَ الخلافةِ كلَّها إلى يحيى بنِ خالد بن بَرْمك. وفيها خرج الوليدُ بن طريف بالجزيرة، وحكم بها، وقتل خَلْقًا من أهلِها، ثم مَضَى منها إلى إرْمِينيَة، فكان من أمرِهِ ما سنذكُرُه. وفيها سار الفضلُ بن يحيى إلى خراسان، فأحسَنَ السيرةَ فيها، وبَنَى فيها الرُّبُط والمساجد، وغزا ما وراءَ النهر، واتَّخَذ بها جندًا من العَجَم، سَمَّاهُم العبَّاسيَّة، وجعل ولاءَهُمْ لَه، وكانوا نحوًا من خمسِمئةِ ألف، وبعثَ منهم نحوًا من عشرينَ ألفًا إلى بغداد، فكانوا يُعرفون بها بالكَرْنَبيَّة؛ وفي ذلك يقولُ مروانُ بن أبي حَفْصَة:

ما الفضلُ إلَّا شهابٌ لا أفُولَ لَهُ

عند الحروبِ إذا ما تأفُلُ الشُّهُبُ

حامٍ على مُلكِ قومٍ غرّ سهمهمُ

من الوراثةِ في أيديهمُ سَبَبُ

أمسَتْ يدٌ لبني ساقي الحَجيجِ بها

كتائبٌ مالَها في غيرِهمْ أرَبُ

كتائبٌ لبني العباسِ قد عَرَفتْ

ما ألَّفَ الفضلُ منها العُجْمُ والعرَبُ

أثبتَّ خمسَ مِئينٍ في عدادِهمُ

من الألوفِ التي أحْصَتْ لَها الكُتُبُ

يُقارعون عن القومِ الذينَ همُ

أولَى بأحمدَ في الفُرْقانِ إنْ نُسِبُوا

إنَّ الجوادَ بن يحيى الفضل لا وَرِقٌ

يبقَى على جودِ كفَّيْهِ ولا ذَهَبُ

ما مرَّ يومٌ له مُذْ شدَّ مِئزَرَهُ

إلَّا تموَّلَ أقوامٌ بما يَهبُ

كم غايةٍ في النَّدَى والبأسِ أحْرَزَها

للطالبينَ مداها دونَها تعَبُ

يُعْطِي اللُّهَى حين لا يُعطي الجوادُ ولا

يَنْبُو إذا سُلَّتِ الهنديَّةُ القُضُبُ

ولا الرِّضَا والرِّضا للَّهِ غايَتُهُ

إلى سوى الحقِّ يدعُوهُ ولا الغَضَبُ

قد فاض عرفُكَ حتى ما يُعادِلُهُ

غَيثٌ مُغيثٌ ولا بحرٌ لَهُ جَدَبُ

وكان قد أنشده قبلَ خروجه إلى خراسان:

ألم تَرَ أنَّ الجودَ من يدِ آدمٍ

تحدَّرَ حتى صار في راحةِ الفَضْلِ

إذا ما أبو العباسِ سَحَّتْ سماؤه

فيا لَكَ منْ هَطْلٍ ويا لَكَ من وَبْلِ

وقال فيه أيضًا:

إذا أُمُّ طفل راعها جوعُ طِفْلِها

دعَتْهُ بإسمِ الفضلِ فاعتصَمَ الطفلُ

ليحيى بك الإسلامُ إنَّكَ عِزُّهُ

وإنَّك من قومٍ صغيرُهُمُ كَهْلُ

قال: فأمرَ له بمئةِ ألف درهم. ذكره ابنُ جرير. وقال سَلْمٌ الخاسر فيهم أيضًا:

وكيف تخافُ من بؤسٍ بدارٍ

يُجاورُها البرامكةُ البحورُ

ص: 437

وقومٌ منهمُ الفضلُ بنُ يحيى

نَفِيرٌ ما يؤازِرُه

(1)

نَفِيرُ

له يومان يومُ ندى وبأسٍ

كأنَّ الدَّهْرَ بينهما أسيرُ

إذا ما البَرْمَكيُّ غدَا ابنَ عَشْرٍ

فهمَّتُهُ أميرٌ أو وزيرُ

وقد اتَّفق للفضلِ بن يحيى في هذه السفرةِ إلى خراسان أشياء غريبة، وفتح بلادًا كثيرة منها كابُل وما وراء النهر، وقَهَرَ ملكَ التُّرك، وكان ممتنعًا، وأطلق أموالًا جزيلةً جدًّا، ثم قفل راجعًا إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيدُ ووجوهُ الناس إليه، وقَدِمَ عليه الشعراءُ والخطباء، وأكابرُ الناس، فجعل يُطلق الألفَ ألفٍ، والخمسَمئةِ ألفٍ ونحوها، وأنفذ في ذلك من الأموال شيئًا كثيرًا لا يُمكنُ حصرُهُ إلَّا بتعَبٍ وكُلْفة، وقد دخل عليه بعضُ الشعراء والبِدَرُ موضوعةٌ بين يديه، وهي تُفرَّقُ على الناس، فقال:

كفى اللَّه بالفضلِ بن يحيى بن خالدٍ

وجودِ يديهِ بُخلَ كلِّ بَخيلِ

فأمَرَ له بمالٍ جَزيل.

وغزا الصائفةَ في هذه السنة معاويةُ بن زُفر بن عاصم؛ وغزا الشاتيةَ سليمانُ بن راشد. وحجَّ بالناس فيها محمدُ بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، نائبُ مكة.

‌وفيها توفي:

جعفر بن سليمان.

وعنتر بن القاسم.

وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم القاضي ببغداد، وصلَّى عليه الرشيد، ودُفن بها؛ وقد قيل: إنه مات في التي قبلها. فاللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومئة

فيها كان قدومُ الفضل بن يحيى من خراسان، وقد استخلف عليها عمرَ بن جميل، فولَّى الرشيدُ عليها منصورَ بن يزيد بن منصور الحميري. وفيها عزل الرشيدُ خالدَ بن بَرْمك عن الحُجوبة، وردَّها إلى الفضل ابن الربيع. وفيها خرج بخراسان حمزةُ بن أترك السِّجْستاني، وكان من أمرِهِ ما سيأتي طرَفٌ منه. وفيها رجع الوليدُ بن طريف الشاري إلى الجزيرة، واشتدَّتْ شوكتُه، وكَثُرَ أتباعُه، فبعث إليه الرشيدُ يزيدَ بن مَزْيد الشيباني، فراوَغَهُ

(2)

حتى قتلَه، وتفرَّق أصحابُه؛ فقالت الفارعةُ في أخيها الوليد بن طريف ترثيه:

(1)

في (ق): "يوازنه"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

في (ح): "فوادعه"، والمثبت من (ب، ق).

ص: 438

أيا شجر الخابورِ مالكَ مُورقًا

كأنك لم تجزَعْ على ابنِ طريفِ

فتًى لا يحبُّ الزادَ إلَّا من التُّقى

ولا المالَ إلَّا من قَنًا وسيوفِ

وفيها خرج الرشيدُ. معتمرًا من بغداد شكرًا للَّهِ عز وجل، فلما قضَى عُمرتَه أقام بالمدينةِ حتى حجَّ بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى مِنَى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهدَ والمشاعرَ كلَّها ماشيًا؛ ثم انصرف إلى بغدادَ على طريقِ البصرة.

‌وفيها توفي:

إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة

(1)

أبو هاشم الحميري، الملقَّب بالسَّيِّد، كان من الشعراء المشهورين والمبرِّزين في هذه الصناعة، المفوَّهين، ولكنه كان رافضيًّا خبيثًا، وشيعيًّا غَثيثًا

(2)

، وكان ممَّنْ يشربُ الخمرَ ويقولُ بالرَّجْعَة، أي: بالدَّور؛ قال يومًا لرجل: أقرِضْني دينارًا ولك عندي مئةُ دينارٍ إذا رجَعْنا إلى الدنيا. فقال له الرجل: إني أخشى أن تعودَ كلبًا أو خِنْزيرًا فيذهبُ ديناري.

وكان قبَّحَهُ اللَّه يَسُبُّ الصحابةَ في شعرِه؛ قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدَّمتُ عليهِ أحدًا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيْهما رضي الله عنهما

(3)

. وقد أورد ابنُ الجَوْزي شيئًا من شعرِه في ذلك

(4)

، كرهتُ أنْ أذكرَهُ لبشاعتِه وشناعته. وقد اسودَّ وجهُهُ عند الموت، وأصابه كَرْبٌ شديدٌ جدًّا؛ ولما مات لم يدفِنوه لِسَبِّهِ الصحابةَ رضي الله عنهم.

‌وفيها توفي:

حمَّادُ بن زيد

(5)

: أحَدُ أئمةِ الحديث.

وخالدُ بن عبد اللَّه، أحدُ الصلحاء؛ وكان من ساداتِ المسلمين، اشترى نفسه من اللَّه أربعَ مرات.

(1)

ترجمته في الأغاني (7/ 248)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 39)، وفيات الأعيان (6/ 343)، سير أعلام النبلاء (8/ 44)، لسان الميزان (1/ 43)، (7/ 116).

(2)

"الغَثُّ والغَثيثُ": الرديءُ من كلِّ شيء؛ ورجلٌ غَثٌّ وغُثٌّ: رديء. وقد غثثتَ في خُلقك وحالك غثاثةً وغُثوثة، وذلك إذا ساء خُلقه وحالُه. لسان العرب (غثث).

(3)

كذا في الأصول، ولعل الصواب أن تقدم هذه العبارة على قول الأصمعي.

(4)

انظر المنتظم (9/ 39).

(5)

ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (3/ 25)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 54)، تسمية فقهاء الأمصار (129)، معرفة الثقات (1/ 319)، الثقات لابن حبان (6/ 217)، الجرح والتعديل (3/ 137)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 405)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 77)، تذكرة الحفاظ (1/ 228)، سير أعلام النبلاء (7/ 456).

ص: 439

ومالك بن أنس الإمام.

والهِقْل بن زياد، صاحب الأوزاعي؛ وأبو الأحْوَص؛ وكلهم قد ذكرناهم في "التكميل" بما فيه مَقْنعٌ وكفاية، ممَّا يُغْني عن ذكرهم هنا؛ ولكنَّ:

الإمام مالك

(1)

: هو أشهَرُهم، وهو أحد الأئمة الأربعة، أصحابِ المذاهبِ المتَّبَعة، فهو مالكُ بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خُثَيل

(2)

بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصْبَح الحِمْيَرِي، أبو عبدِ اللَّه المدَني، إمامُ دارِ الهجرةِ في زمانِه.

روى مالكٌ عن غيرِ واحدٍ من التابعين، وحدَّثَ عنه خَلْقٌ من الأئمة، منهم السفيانان، وشُعْبَة، وابنُ المبارك، والأوزاعي، وابنُ مَهْدِي، وابنُ جُرَيْج، واللَّيث، والشافعي، والزُّهْري شيخُه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

قال البخاري: أصحُّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر

(3)

.

وقال سفيان بن عُيينة: ما كان أشدَّ انتقادِهِ للرجال

(4)

.

وقال يحيى بنُ مَعين: كلُّ منْ روى عنهُ مالك فهو ثقةٌ إلَّا أبا أمية

(5)

.

وقال غيرُ واحد: هو أثبَتُ أصحابِ نافعٍ والزُّهري

(6)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (القسم المتمم)(433)، تاريخ خليفة (451)، طبقات خليفة (275)، التاريخ الكبير (7/ 310)، التاريخ الصغير (2/ 199، 200، 201)، المعارف لابن قتيبة (498)، الجرح والتعديل (8/ 204)، الثقات لابن حبان (7/ 459)، مشاهير علماء الأمصار ترجمة (1110)، حلية الأولياء (6/ 316)، طبقات الشيرازي (67)، ترتيب المدارك (1/ 102)، طبقات ابن عبد الهادي ترجمة (183) صفة الصفوة (2/ 177)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (4/ 263)، جامع الأصول (15/ 225) له، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 75)، وفيات الأعيان (4/ 135)، تهذيب الكمال (27/ 91)، سير أعلام النبلاء (8/ 43)، تذكرة الحفاظ (1/ 207)، العبر (1/ 272)، مرآة الجنان (1/ 373)، تهذيب التهذيب (10/ 5)، غاية النهاية (2/ 35)، النجوم الزاهرة (2/ 96)، طبقات الشعراني (1/ 52)، الكواكب الدرية (1/ 420)، شذرات الذهب (2/ 12).

(2)

في (ق) زيادة، وتصحيف وتحريف لبعض الأسماء، والمثبت من (ب، ح) وكتب الضبط.

(3)

ذكره النووي في تهذيب الأسماء (2/ 424)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 97).

(4)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 73).

(5)

ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (10/ 6). وفيه إلا عبد الكريم. وهو أبو أمية عبد الكريم بن أبي المخارق المعلم البصري. كما في الكنى والأسماء (1/ 82) لمسلم، والتاريخ الكبير (6/ 89) للبخاري.

(6)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 99) عن النسائي، وبنحوه في تاريخ بغداد (10/ 405).

ص: 440

وقال الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم. وقال: من أراد الحديث فهو عيالٌ على مالك

(1)

.

ومناقبُه كثيرةٌ جدًّا، وثناءُ الأئمة عليه أكثَرُ من أن يُحصَر في هذا المكان.

قال أبو مُصعَب: سمعتُ مالكًا يقول: ما أفتَيْتُ حتى شهد لي سبعونَ أنِّي أهلٌ لذلك

(2)

.

وكان إذا أراد أنْ يُحدِّثَ تنظَّفَ وتطيَّب، وسرَّح لِحيته، ولبس أحسنَ ثيابه. وكان يلبسُ حسنًا. وكان نقشُ خاتِمِه حسبي اللَّه ونعمَ الوكيل. وكان إذا دخل مَنْزِله قال: ما شاء اللَّه لا قوَّةَ إلا باللَّه. وكان مَنْزلُهُ مبسوطًا بأنواعِ المفارش. ومن وقتِ خروجِ محمد بن عبدِ اللَّه بن حسن لَزِمَ مالكٌ بيتَه، فلم يكنْ يأتي أحدًا، لا لِعَزاء ولا لهناء، حتى قيل: ولا يخرجُ لِجُمعة ولا لِجماعة، ويقول: ما كلُّ ما يُعلم يُقال، وليس كل أحدٍ يقدِرُ على الاعتذار. ولمّا احتُضر قال: أشهدُ شهادةَ أنْ لا إله إلا اللَّه، وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّه. ثم جعل يقول:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. ثم قُبض في ليلةِ أربعَ عشرة من صفر، وقيل: من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمسٌ وثمانونَ سنة.

قال الواقدي: بلغ تسعين سنة

(3)

، ودُفن بالبَقِيع.

وقد رَوَى الترمذيُّ

(4)

عن سفيان بن عُيَيْنة، عن ابنِ جُريج، عن أبي الزُّبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، روايةً "يوشك أنْ يضربَ الناسُ أكبادَ الإبل يطلُبون العِلْم، فلا يجدون أحدًا أعلمَ من عالِم المدينة"

(5)

. ثم قال: هذا حديث حَسن، وهو حديثُ ابنِ عُيينة، وقد رُوي عن ابنِ عُيينة أنه قال:[في هذا سُئل منْ عالِمُ المدينة؟ فقال]: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبدُ الرزاق، وابن عُيينة روايةً أنه عبدُ العزيز بن عبدِ اللَّه العُمَري [من وَلدِ عمر بن الخطاب].

وقد تَرجَمَهُ ابنُ خَلِّكان في الوَفَيات فأطنَبَ وأتَى بفوائدَ جَمَّة

(6)

.

‌ثم دخلت سنة ثمانين ومئة

فيها هاجَتِ الفتنةُ بالشام بين النِّزَاريَّة واليمَنِيَّة، فانزَعَج الرشيدُ لذلك، فندب جعفر البَرْمَكيَّ إلى الشام، في جماعةٍ من الأمراءِ والجنود، فدخل الشام، فانقادَ الناسُ له، ولم يدَعْ جعفرٌ بالشام فرسًا ولا

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 14، و 8/ 205).

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 316)، وذكره ابن الجوزي فى صفة الصفوة (2/ 177).

(3)

في (ق): "سبعين سنة"، والمثبت من (ب، ح).

(4)

في السنن (5/ 47)(2680) كتاب العلم: باب ما جاء في عالم المدينة، وإسناده ضعيف. وما يأتي بين معقوفين مستدرك منه.

(5)

وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 299) عن أبي هريرة مرفوعًا، وإسناده ضعيف.

(6)

انظر الصفحة الماضية في مصادر ترجمته.

ص: 441

سيفًا ولا رمحًا إلا استلبَهُ من الناس، وأطفأ اللَّه به نارَ تلك الفتنة. وفي ذلك يقول بعضُ الشعراء

(1)

:

لقد أُوقِدَت بالشامِ نيرانٌ فِتْنةٍ

فهذا أوانُ الشام تُخْمَدُ نارُها

إذا جاشَ مَوْجُ البحرِ من آلِ بَرْمَكٍ

عليها خَبَتْ شُهبانُها وشَرارُهَا

رماها أميرُ المؤمنين بجعفرٍ

وفيه تَلاقَى صَدْعُها وانكسارُها

رماها بميمون النَّقِيبَةِ ماجدٍ

تَرَاضَى به قحطانُها ونِزازُها

ثم كرَّ جعفرٌ راجعًا إلى بغداد بعدَما استخلف على الشام عيسى العَكِّيّ. ولما قَدِمَ على الرشيد أكرمَهُ وقرَّبه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرةَ وحشتِه له في الشام ويَحمدُ اللَّه الذي من عليه برجوعه إلى أمير المؤمنينَ ورؤيته وجهَه.

وفيها ولَّى الرشيدُ جعفرًا خراسانَ وسِجِسْتان، فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قَحْطَبة، ثم عزلَ جعفرًا عن خُراسان بعدَ عشرينَ ليلةً.

وفيها هَدَم الرشيدُ سُورَ الْمَوْصِل بسببِ كثرةِ الخوارج، وجعل الرشيدُ جعفرًا على الحرس، ونزل الرشيدُ الرَّقَةَ واستوطنها، واستنابَ على بغدادَ ابنَهُ الأمينَ محمدًا، وولَّاهُ العراقَيْن، وعزل هَرْثَمَةَ عن إفْرِيقِيَة، واستدعاهُ إلى بغداد، فاستنابَهُ جعفرٌ على الحرس.

وفيها كانتْ بمصرَ زَلْزلةٌ شديدة، سقط منها رأسُ منارةِ الإسكندريَّة.

وفيها خرج بالجزيرة خُرَاشةُ الشيباني، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العُقَيلي.

وفيها ظهرت طائفةٌ بِجُرْجان يقالُ لها المُحَمِّرة، لَبسوا الحُمْرة، واتبعوا رجلًا يُقالُ له عمر بن محد العمركي، وكان يُنسب إلى الزَّنْدَقة، فبعث الرشيدُ يأمرُ بقتلِه، فقتل؛ وأطفأ اللَّه نارَهم في ذلك الوقت.

وفيها غزا الصائفة زُفَرُ بنُ عاصم، وحجَّ بالناس موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدِ اللَّه بن عباس.

‌وفيها كانت وفاةُ جماعةٍ من الأعيان:

إسماعيل بن جعفر بن أبي كثِير الأنصاري

(2)

: قارئُ أهلِ المدينة، ومؤدِّبُ علي بن المهدي

(1)

وهو منصور النمري، والأبيات من قصيدة في ديوانه (23) بيتًا سيذكر المؤلف منها (9) أبيات في ص (469).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (1/ 349)، الجرح والتعديل (2/ 162)، مشاهير علماء الأمصار (141)، الثقات لابن حبان (6/ 44)، رجال صحيح البخاري (1/ 66)، رجال مسلم (1/ 58)، تاريخ بغداد (6/ 218)، تهذيب الكمال (3/ 56)، سير أعلام النبلاء (8/ 228)، المقتنى في سرد الكُنى للذهبي (1/ 58)، تهذيب التهذيب (1/ 251)، تقريب التهذيب (106)، طبقات الحفاظ (112).

ص: 442

ببغداد. وقد مات علي بن المهدي في هذه السنة أيضًا، وقد ولي إمارةَ الحج غيرَ مرَّة، وكان أسنَّ من الرشيد بشهور.

حسَّان بن سِنَان

(1)

بن أبي أوفى بن عَوْف التَّنُوخي الأنباري: وُلد سنةَ ستين، ورأى أنسَ بن مالك، ودَعَا له، فجاء منْ نسلِهِ قُضاة ووزراء وصُلحاء، وأدرك الدولَتيْن الأمويَّة والعبَّاسيَّة، وكان نصرانيًّا، فأسلمَ وحَسُنَ إسلامُه؛ وكان يكتُب بالعربية والفارسية والسُّرْيانيَّة، وكان يُعَرِّبُ الكتبَ بين يدَيْ رَبيعةَ لَمَّا ولَّاه السَّفاحُ الأنبار.

‌وفيها تُوفِّي:

عبدُ الوارث بن سعيد التَّنُّوري

(2)

: أحدُ الثقات.

وعافية بن يزيد

(3)

بن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو وابن علاثة، وكانا يحكمانِ بجامعِ الرُّصَافة. وكان عافيةُ عابدًا زاهدًا وَرعًا. دخل يومًا على المهدي في وقتِ الظَّهِيرة فقال: يا أميرَ المؤمنين، أعفِني. فقال له المهدي: ولِمَ أعفيك؟ هل اعترَضَ عليك أحدٌ من الأمراء؟ فقال له: لا، ولكنْ كان بينَ اثنينِ خُصومةٌ عندي، فعَمَد أحدُهما إلى رُطَبِ السُّكَّر، وكأنَّه سمع أنِّي أُحبُّه، فأهدَى إليَّ منه طبقًا لا يصلُحُ إلَّا لأميرِ المؤمنين، فردَدْتُهُ عليه، فلما أصبحنا وجلَسْنا إلى الحُكومة لم يستويا عِنْدِي في قلبي، ولا نَظَري، بل مالَ قلبي إلى المُهْدي منهما هذا، مع أني لم أقْبَلْ منه ما أهداه، فكيف لو قَبِلْتُ منه؟ فأعفِني عفا اللَّه عنك. فأعفاه.

وقال الأصمعي: كنتُ عند الرشيد يومًا، وعنده عافيةُ وقد أحضرَه؛ لأنَّ قومًا استعدَوْا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيدُ يُوقِفُه على ما قيل عنه، وهو يُجيب عمّا يسألُه؛ وطال المجلِس، فعَطَس الخليفةُ

(1)

في (ق): "حسان بن أبي سنان" وهو تحريف، والمثبت من (ب، ح)، ومصادر ترجمته في تاريخ بغداد (8/ 258)، وفيات الأعيان (2/ 194)، المنتظم (9/ 49)، طبقات الحنفية (1/ 185). أما حسان بن أبي سنان فذاك من تابعي البصرةِ وعُبّادِها، وترجمته في التاريخ الكبير (3/ 35)، الجرح والتعديل (3/ 236)، تهذيب الكمال (6/ 26)، تقريب التهذيب (158)، الكاشف (1/ 320)، الإصابة (2/ 210).

(2)

في (ق): البيروتي، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته وهي: التاريخ الكبير (6/ 118)، التاريخ الصغير (2/ 221)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 590)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 107)، الجرح والتعديل (6/ 75)، مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (1/ 407)، الثقات (7/ 140)، مشاهير علماء الأمصار (160)، تهذيب الكمال (18/ 478)، المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 382)، تذكرة الحفاظ (1/ 257)، طبقات المحدثين (67)، توضيح المشتبه (2/ 73).

(3)

ترجمته في تاريخ بغداد (12/ 307)، الفهرست (438)، تهذيب الكمال (14/ 5)، ميزان الاعتدال (4/ 15)، لسان الميزان (7/ 254)، تهذيب التهذيب (5/ 53).

ص: 443

فشَمَّتَهُ الناس ولم يُشَمِّتْهُ عافية، فقال له الرشيد: لِمَ لم تشمِّتْني مع الناس؟ فقال: لأنّك لم تحمَدِ اللَّه. واحتجَّ بالحديثِ في ذلك، فقال له الرشيد: ارجِعْ لعَملك، فواللَّه ما كنتَ لِتفعَل ما قيلَ عنك وأنتَ لم تسامِحْني في عَطْسَةٍ لم أحمدِ اللَّه فيها. ثم ردَّهُ ردًّا جميلًا إلى ولايته.

‌فيها توفي:

سِيبَوَيْه

(1)

: إمامُ النُّحَاة، واسمه عمرو بن عثمان بن قَنْبَر، أبو بشر، المعروف بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، وقيل: آل مولى الربيع بن زياد. وإنما سُمِّي لأنَّ أمَّه كانتْ تُرَقِّصُهُ وتقولُ له ذلك، ومعنى سيبويه: رائحةُ التفَّاح. وقد كان في ابتداءَ أمرِهِ يصحَبُ أهلَ الحديثِ والفقهاء، وكان يستملي على حَمّاد بن سَلَمة، فَلحَنَ يومًا، فرَدَّ عليه قولَه، فأنِفَ من ذلك، فلَزِمَ الخليلَ بنَ أحمد، فبَرَع في النحو، ودخل بغدادَ وناظر الكِسَائي. وكان سيبويه شابًّا حسنًا جميلًا نظيفًا، وقد تعلَّق من كلِّ علمٍ بسبَب، وضرَبَ مع كلِّ أهلِ أدَبٍ بسَهْم، مع حداثةِ سِنه؛ وقد صَنَفَ في النحو كتابًا لا يُلْحَقُ شأوُه، وشرَحَهُ أئمةُ النحاةِ بعدَهُ فانغمروا في لُجَجِ بَحْرِه، واستخرجوا من دُرَره، ولم يبلغوا إلى قعره. وقد زعَمَ ثعلبٌ أنه لم ينفردْ بتصنيفِه، بل ساعده جماعةٌ في تصنيفهِ نحوًا من أربعينَ نفسًا، هو أحدُهم؛ وهو أُصولُ الخليل، فادَّعاهُ سيبويه إلى نفسِه. وقد استبعد ذلك السّيرا في في كتابِ "طبقاتِ النحاة". قال: وقد أخذ سيبويهِ اللغاتِ عن أبي الخطَّاب، والأخْفَش وغيرِهما، وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العَرُوبة، والعَرُوبة يومُ الجمعة، وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ. فذكر ذلك ليونس فقال: أصابَ للَّهِ درُّه.

وقد ارتحلَ إلى خُراسان ليحظَى عند طلحة بن طاهر، فإنه كان يُحبُّ النَحْوَ فمرض هناك مرضه الذي تُوفي فيه، فتَمثَّلَ عندَ الموت:

يؤمِّلُ دنيا لِتبْقَى لَهُ

فمات المؤمِّلُ قبلَ الأمَلْ

حَثيثًا يُرَوِّي أُصولَ الفسيلِ

فعاشَ الفَسيلُ ومات الرَّجُلْ

(2)

ويُقال إنه لمَّا احتُضر وضع رأسَهُ في حِجْرِ أخيه، فدمعت عينُ أخيه، فاستفاق، فرآه يبكي، فقال:

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (12/ 195)، الإكمال لابن ماكولا (4/ 419، 420)، الفهرست (76)، المنتظم (9/ 53)، وفيات الأعيان (3/ 463)، سير أعلام النبلاء (8/ 351)، البلغة (163)، نزهة الألباب في الألقاب (382)، طبقات الحنفية (373).

(2)

كذا البيان في (ب، ح) وحلية الأولياء (2/ 383)، والمنتظم (9/ 55)، وصفة الصفوة (4/ 55، 56)، وجاء في رواية الحلية بسند أبي نعيم إلى عبيد اللَّه قال: مرَّ مالك بن دينار على رجلٍ يَغرِسُ فسيلًا، فغَبَرَ عنه يسيرًا، ثم مرَّ بالفَسيل وقد أطعمَ، فسأل عن الذي غرَسَه، فقالوا: مات. ثم أنشأ يقول. . فذكر البيتين. ورواية صدر الثاني منهما: "يُربي فسيلًا ويعنى به".

ص: 444

وكنَّا جميعًا فَرَّقَ الدَّهْرُ بيننا

إلى الأمَدِ الأقصَى فمنْ يأمنُ الدَّهْرا

قال الخطيب البغدادي

(1)

: يُقال إنه توفي وعمرُهُ ثنتانِ وثلاثونَ سنةً.

‌وفيها تُوفِّيتْ:

عُفَيْرةُ العابدة

(2)

: كانتْ طويلةَ الحُزن، كثيرةَ البُكاء، قَدِمَ قريبٌ لها من سفر، فجعلَتْ تبكي، فقيل لها: ليس هذا وقت بكاء. فقال: لقد ذكَّرَني قُدومُ هذا الفتى يومَ القُدومِ على اللَّه، فمَسْرورٌ ومَثْبُور.

‌وفيها مات:

مسلم بنُ خالد الزَّنْجي

(3)

: شيخ الشافعي، كان من أهلِ مكة، ولقد تكلَّموا فيه لسوءَ حفظِه.

‌ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومئة

فيها غزا الرشيدُ بلادَ الرُّوم، فافتتح حِصنًا يُقال له الصَّفْصاف، فقال في ذلك مروانُ بنُ أبي حَفْصَة:

إنَّ أميرَ المؤمنينَ الْمُنْصِفَا

قد تركَ الصَّفْصَافَ قاعًا صَفْصَفا

وفيها غزا عبدُ الملك بن صالح بلادَ الرُّوم أنْقَرَة، وافتتح مَطْمُورَة

(4)

.

وفيها تغلَّبَتِ الْمُحَمِّرَة على جُرْجَان.

وفيهما أمَرَ الرشيدُ أنْ يُكتبَ في صدورِ الرسائل الصلاةُ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الثناءَ على اللَّه عز وجل.

وفيها حجَّ بالناسِ الرشيد، وتعجَّل بالنَّفْر. وسأله يحيى بنُ خالد أنْ يُعْفِيَه من الولاية، فأعفاه. وأقام يحيى بمكة.

(1)

في تاريخ بغداد (12/ 198).

(2)

ترجمته في صفة الصفوة (4/ 33)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير الجزري (5/ 273)، طبقات الشعراني (1/ 67)، الكواكب الدرية (1/ 392). ولها ذكر في حلية الأولياء (6/ 218، و 221).

(3)

ترجمته في التاريخ الكبير (7/ 260)، التاريخ الصغير (2/ 263)، تسمية فقهاء الأمصار للنسائي (127)، الجرح والتعديل (8/ 183)، مشاهير علماء الأمصار (149)، الثقات (7/ 448)، في المقتنى في سرد الكنى للذهبي (1/ 211)، تذكرة الحفاظ (1/ 255)، سير أعلام النبلاء (8/ 176)، طبقات الحفاظ (115).

(4)

"مَطْمُورة": بلد في ثغور بلاد الرُّوم بناحية طَرَسُوس. ذكرها ياقوت في معجم البلدان (5/ 151).

ص: 445

‌وفيها توفي:

الحسنُ بن قَحْطَبَة

(1)

: أحَدُ أكابر الأمراء العباسيَّة.

وحمزة بن مالك، وَليَ إمْرَةَ خراسان في أيام الرشيد.

وخلف بن خليفة، شيخُ الحسن بن عرَفَة، عن مئةِ سنة.

وعبد اللَّه بن المبارك

(2)

أبو عبد الرحمن المَرْوزيّ، كان أبوهُ تركيًّا، مَوْلًى لرجل من التجّار، من بني حَنْظَلَة من أهلِ هَمَذان، وكان ابنُ المبارك إذا قَدِمَهَا أحسنَ إلى ولَدِ مولاهم. وكانتْ أمُّه خُوَارِزْميَّة. وُلد لثمان عشرةَ ومئة.

وسمع إسماعيلَ بن أبي خالد. والأعمش، وهشام بن عروة، وحُميد الطويل، وغيرَهم من أئمَّةِ التابعين. وحدَّث عنه خلائقُ من الناس، وكان موصوفًا بالحفظ، والفقه، والعربية، والزُّهْد، والكرم والشجاعة، والشعر. له التصانيفُ الحِسَان، والشعرُ الحسَن، المتضمِّنُ حِكَمًا جَمَّة. وكان كثيرَ الغزوِ والحجّ، وكان له رأسُ مالٍ نحو أربعمئة ألف، يدور يتَّجرُ به في البلدان فحيثُ اجتمع بعالمٍ أحسَنَ إليه. وكان يَرْبو كَسْبُه في كلِّ سنةٍ على مئةِ ألف، يُنفقُها كلَّها في أهلِ العبادةِ والزهدِ والعِلْم. وربما أنفقَ من رأسِ مالِه.

قال سفيانُ بن عُيينة: نظَرْتُ في أمرِهِ وأمرِ الصحابة، فما رأيتُهم يَفْضُلون عليه إلَّا في صُحْبَتِهم رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجهِ الأرض مثلُه، وما أعلمُ خَصْلَةً من الخَير إلَّا وقد جعلَها اللَّه في ابن المبارك؛ ولقد حدثني أصحابي أنَّهم صحبُوهُ من مصرَ إلى مكة، فكان يُطعِمُهم الخَبيصَ وهو الدهرَ صائم. وقدِمَ مرَّةً الرَّقَة وبها هارونُ الرشيد، فلما دخلها احتفَلَ الناسُ به، وازدحم الناسُ حَولهُ، فأشرفَت أمُّ ولَدٍ طرشيد من قصرٍ هناك، فقالت: ما للناس؟ فقيل لها: قَدِمَ رجلٌ من علماءَ خُراسان،

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (7/ 403)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 58).

(2)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 372)، طبقات خليفة (323)، المعارف (511)، التاريخ الكبير (5/ 212)، الجرح والتعديل (5/ 179)، الثقات لابن حبان (7/ 7) المدارك (1/ 300)، أنساب السمعاني (4/ 251) تاريخ مدينة دمشق (83/ 301)، صفة الصفوة (4/ 134)، جامع الأصول لابن الأثير (14/ 286)، المختار من مناقب الأخيار له (3/ 472)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 285)، وفيات الأعيان (3/ 32)، مختصر تاريخ دمشق (14/ 13)، تهذيب الكمال (16/ 5)، سير أعلام النبلاء (8/ 336)، تذكرة الحفاظ (1/ 274)، العبر (1/ 280)، الوافي بالوفيات (17/ ت 359)، مرآة الجنان (1/ 378)، غاية النهاية (1/ 446)، تهذيب التهذيب (5/ 382)، النجوم الزاهرة (2/ 103)، طبقات الشعراني (1/ 59)، الكواكب الدرية (1/ 131)، شذرات الذهب (1/ 295).

ص: 446

يقال له عبد اللَّه بن المبارك، فانجفَلَ الناسُ إليه. فقالت المرأة: هذا هو المُلك، لا مُلْكُ هارونَ الرشيد الذي يجمعُ النَّاسَ عليه بالسَّوْطِ والعصا، والرَّغْبة والرَّهْبة.

وخرج مرَّةً إلى الحجّ، فاجتاز ببعضِ البلاد، فمات طائرٌ معهم، فأمَرَ بإلقائِهِ على مَزْبلةٍ هناك، وسارَ أصحابُه أمامَه، وتخلَّفَ هو وراءهم، فلما مرَّ بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خرجَتْ من دارٍ قريبةٍ منها، فأخذَتْ ذلك الطائرَ الميت، ثم لفَّتْه، ثم أسرَعَتْ به إلى الدَّار، فجاء فسألَها عن أمرِها، وأخْذِها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيءٌ إلَّا هذا الإزار، وليس لنا قُوتٌ إلَّا ما يُلْقى على هذه المزبلة، وقد حلَّتْ لنا الميتةُ منذُ أيَّام، وكان أبونا له مالٌ، فظُلمَ وأُخذ مالُه وقُتل. فأمَرَ ابنُ المبارَكِ بِرَدِّ الأحمال، وقال لِوَكيلِه: كم معك من النفَقَة؟ قال: ألفُ دينار. فقال: عُدَّ منها عشرينَ دينارًا تَكْفينا إلى مَرْو، وأعْطِها الباقي، فهذا أفضلُ من حَجِّنا في هذا العام. ثم رجع. وكان إذا عزم على الحج يقولُ لأصحابه: منْ عزَمَ منكم في هذا العام على الحجِّ فَلْيأتني بنفقتِهِ حتى أكونَ أنا أُنفقُ عليه. فكان يأخذُ منهم نفقاتِهم، ويكتُبُ على كلِّ صُرَّةٍ اسمَ صاحبِها، ويجمَعها في صندوق، ثم يخرجُ بهم في أوسَعِ ما يكونُ من النفقاتِ والرُّكوب، وحُسن الخُلق والتيسير عليهم؛ فإذا قضَوْا حجَّتَهم فيقول لهم: هل أوصاكم أهلوكُم بِهَديَّة؟ فيشتري لكلِّ واحدٍ منهم ما وصَّاه أهلُه من الهدايا المكيَّة واليمنيَّة وغيرها، فإذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية، فإذا رجعوا إلى بلادِهم بعث من أثناءَ الطريقِ إلى بيوتهم، فأُصلحت وبُيِّضَتْ أبوابُها، ورُمِّمَ شعثُها، فإذا وصلوا إلى البلد عَمِلَ وليمةً بعدَ قدومِهم، ودعاهم فأكلوا، وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق، ففتحَهُ وأخرجَ منه تلك الصُّرَر، ثم يُقسمُ عليهم أنْ يأخذَ كلُّ واحدٍ نفقتَه التي عليها اسمُه، فيأخذونها وينصرفونَ إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناءِ الجميل. وكانت سُفْرَتُهُ تُحملُ على بعيرٍ وحدَها، وفيها من أنواعِ المأكول من اللَّحمِ والدجاج والحَلْوى وغيرِ ذلك؛ ثم يُطعِمُ النَّاسَ وهو الدهرَ صائمٌ فيِ الحَرِّ الشديد. وسألَهُ مرَّةً سائلٌ فأعطاه درهمًا، فقال له بعضُ أصحابه: إنَّ هؤلاء يأكلون الشِّوَاءَ والفالوذجَ، وقد كان يكفيهِ قطعة. فقال: واللَّه ما ظنَنْتُ أنه يأكلُ إلا البَقْلَ والخبز، فأمَّا إذا كان يأكلُ الفالوذَجَ والشواء فإنَّهُ لا يكفيهِ دِرْهم. ثم أمَرَ بعضَ غلمانِهِ فقال: رُدَّهُ وادفَعْ إليهِ عشرةَ دراهم. وفضائله ومناقبه ومآثرةُ كثيرةٌ جدًّا.

قال أبو عمر بنُ عبدِ البَرّ: أجمع العلماءُ على قَبُولِهِ، وجلالتِه وإمامَتِه وعَدْلِه. توفي عبد اللَّه بن المبارك بِهِيت

(1)

في هذه السنة، في رمضانِها، عن ثلاثٍ وستِّين سنة.

(1)

"هيت": بكسر أوله وبالتاء المعجمة باثنتين من فوقها؛ مدينةٌ مذكورةٌ في تحديد العراق، وهي على شاطئ الفرات عامرة معروفة إلى اليوم وقبر ابن المبارك ظاهر فيها يزار.

ص: 447

ومُفَضَّل بن فَضَالَة

(1)

: وَليَ قضاءَ مصر مرتَيْن، وكان دَيِّنًا ثقةً، فسألَ اللَّه أنْ يُذهِبَ عنه الأمَل، فأذهبَهُ، فكان بعدَ ذلك لا يُهنئُهُ العيش، ولا شيءٌ من الدنيا؛ فسأل اللَّه أنْ يردَّهُ عليه فرَدَّه، فرَجَعَ إلى حالِه.

ويعقوب التائب: العابدُ الكوفي. قال علي بن الموفق عن منصور بن عمَّار: خرجتُ ذاتَ ليلةٍ وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا عليَّ ليل، فجلستُ إلى بابٍ صغير، وإذا شابٌّ يبكي وهو يقول: وعِزَّتِكَ وجلالِك، ما أردتُ بِمَعصيتِكَ مخالفتَك، ولكنْ سَوَّلَتْ لي نفسي، وغلبَتْني شِقْوَتي، وغرَّني سِتْرُك المُرْخَى علي فالآن من عذابك مَنْ يستنقذُني؟ وبحبل منْ أتَّصِلُ إنْ أنْت قطعتَ حبلَكَ عني؟ واسَوْأتاهُ على ما مضَى من أيامي في معصيةِ ربي، يا وَيْلي! كم أتوبُ؟! وكم أعود؟! قد حان لي أنْ أستحيَ من ربِّي عز وجل. قال منصور: فقلتُ أعوذُ باللَّه من الشيطان الرجيم، بسم اللَّه الرحمن الرحيم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال: فسمعتُ صوتًا واضطرابًا شديدًا، فذهبتُ لِحاجتي، فلما رجعتُ مررتُ بذلك الباب، فإذا جنازةٌ موضوعة، فسألتُ عنه، فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومئة

فيها أخذ الرشيدُ لولدِهِ عبدِ اللَّه المأمون ولايةَ العَهْدِ من بعدِ أخيه محمد الأمين بن زُبيدة، وذلك بالرَّقَّة، بعد مَرْجِعِهِ من الحجّ، وضمَّ ابنَهُ المأمونَ إلى جعفر بن يحيى البَرْمكي، وبعثَهُ إلى بغداد، ومعه جماعة من أهلِ الرَّشيد، خدمةً له، وولَّاهُ خراسانَ وما يتَّصلُ بها، وسماه المأمون.

وفيها رجع يحيى بنُ خالد البرمكي من مُجاورَتِهِ بمكةَ إلى بغداد.

وفيها غزا الصائفةَ عبدُ الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ مدينةَ أصحاب الكهف.

وفيها سَمَلتِ الرومُ عَيْني ملكِهم قُسْطَنْطين بن أليون، وملَّكوا عليهم أمَّه رينى، وتُلقَّبُ أعطشة

(2)

. وحجَّ بالناس موسى بن عيسى بن العباس.

(1)

التاريخ الكبير (7/ 405)، التاريخ الصغير (2/ 227)، الجرح والتعديل (8/ 317)، الثقات لابن حبان (7/ 496)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (6/ 409)، من تكلم فيه للذهبي (180)، ميزان الاعتدال (6/ 501).

(2)

في (ق) وتاريخ الطيري: "أغسطة"، والمثبت من (ب، ح) والكامل لابن الأثير.

ص: 448

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

إسماعيل بن عياش الحمصي

(1)

: أحد المشاهير من أئمة الشاميِّين، وفيه كلام.

ومروان بن أبي حَفْصَة

(2)

: الشاعر المشهور المشكور، كان يمدحُ الخلفاءَ والبرامكةَ ومعنَ بن زائدة

(3)

وكان يحصلُ له من الأموال شيءٌ كثيرٌ جدًّا، وكان مع ذلك من أبْخَلِ الناس، لا يكادُ يأكلُ اللحمَ من بُخلِه، ولا يُشعلُ في بيتهِ سراجًا، ولا يلبسُ من الثياب إلا الكِرْباس

(4)

والفَرْوَ الغليظ. وكان رفيقَهُ سَلْمٌ الخاسِر، إذا ركب إلى دارِ الخلافة يأتي على بِرْذَوْن، وعليه حُلَّةٌ تُساوي ألفَ دينار، والطيبُ ينفحُ من ثيابه، ويأتي هو في شَرِّحِيبَة

(5)

وأسوئِها.

وخرج يومًا إلى المهدي، فقالتِ امرأةٌ من أهلِه: إنْ أطلق لك الخليفةُ شيئًا فاجعلْ لي منه شيئًا. فقال إنْ أعطاني مئةَ ألفِ درهم فلكِ درهم. فأعطاهُ ستين ألفًا، فأعطاها أربعةَ دَوَانيق.

تُوفي يغداد في هذه السنة ودُفن في مقبرة نصرِ بن مالك.

والقاضي أبو يوسُف

(6)

: واسمه يعقوبُ بن إبراهيم بن حَبيب بن سَعْد بن حَبْتَة

(7)

-وهي أمُّه- وأبوه بُجَير بن معاوية، وسعدٌ هذا صحابي، استُصغر يومَ أُحد. وأبو يوسف كان أكبرَ أصْحابِ أبي حنيفة، رحمه الله.

روى الحديث عن الأعمش، وهشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرِهم، وعنه محمدُ بن الحسن، وأحمدُ بن حنبل، ويحيى بن مَعين،

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 369)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 637)، كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي (16)، الجرح والتعديل (2/ 191)، الكامل في الضعفاء لابن عدي (1/ 291)، كتاب الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/ 118)، تهذيب الكمال (3/ 163)، ميزان الاعتدال (1/ 400)، تذكرة الحفاظ (1/ 253)، سير أعلام النبلاء (8/ 312)، طبقات المدلسين لابن حجر (37)، طبقات الحفاظ (114).

(2)

ترجمته في سير أعلام النبلاء (8/ 479).

(3)

أثبتت نسخة (ق) اسم معن بن زإئدة في سطير على حدة بما يوحي أنه رأس ترجمة له، وهو خطأ، بل هو معطوفْ على البرامكة، أي أن مروان الشاعر مدح معن بن زائدة أيضًا.

(4)

"الكرباس": القطن. لسان العرب (كربس).

(5)

في (ق): حالة، والمثبت من (ب، ح)، وهما بمعنى.

(6)

ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 330)، التاريخ الكبير (8/ 397)، تسمية فقهاء الأمصار (128)، تاريخ جرجان (487)، الفهرست (286)، تاريخ بغداد (14/ 242)، سير أعلام النبلاء (8/ 535)، لسان الميزان (6/ 300)، طبقات الحفاظ (127).

(7)

في (ق) تصحيف وتحريف ونقص، فأثبتنا ما جاء في (ب، ح) موافقًا لمصادر الترجمة.

ص: 449

قال علي بن الجعد: سمعتُه يقول: تُوفي أبي وأنا صغير، فأسلمَتْني أُمِّي إلى قصَّار، فكنتُ أمرُّ على حَلْقَةِ أبي حنيفةَ فأجلسُ فيها، فكانتْ أُمِّي تتبَعُني فتأخذُ بيدي من الحَلْقَة وتذهبُ بي إلى القصَّار؛ ثم كنتُ أخالفُها في ذلك، وأذهبُ إلى أبي حنيفة، فلما طالَ ذلك عليها قالتْ لأبي حنيفة: إنَّ هذا صبيٌّ يتيم، ليس له شيءٌ إلَّا ما اطعِمُهُ من مِغْزَلي، وإنك قد أفسدتَهُ عليّ. فقال لها: اسكُتي يا رَعْناء، ها هو ذا يتعلَّمُ العِلْم، وسيأكلُ الفالوذَجَ بِدُهْنِ الفُسْتُق، في صحونِ الفَيْروزَج. فقالتْ له: إنَّكَ شيخٌ قد خَرِفت. قال أبو يوسف: فلمَّا وُلِّيتُ القضاء -وكان أولُ من ولَّاه القضاءَ الهادي، وهو أولُ منْ لُقِّب قاضي القضاة، وكان يُقال له قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يَسْتَنيبُ في سائرِ الأقاليمِ التي يحكم فيها الخليفة، قال أبو يوسف-: فبينا أنا ذاتَ يومٍ عندَ الرشيد إذْ أُتي بفالوذَجٍ في صحنِ فيروزَج، فقال لي: كُلْ من هذا، فإنَّه لا يُصنعُ لنا في كلِّ وقت. وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الفالوذَج. قال: فتبسَّمت، فقال: ما لَكَ تتبسَّم؟ فقلت: لا شيء، أبقى اللَّه أميرَ المؤمنين. فقال: لَتُخْبرَنِّي. فقصصتُ عليه القصَّة. فقال: إنَّ العلمَ ينفعُ ويَرْفَعُ في الدنيا والآخرة. ثم قال: رَحِمَ اللَّه أبا حنيفة، فلقد كان ينظرُ بعينِ عقله ما لا ينظر بعينِ رأسِه. وكان أبو حنيفة يقولُ عن أبي يوسف: إنه أعلمُ أصحابِه.

وقال الْمُزَني: كان أبو يوسف أتبعَهُمْ للحديث. وقال ابنُ الْمَديني: كان صدوقًا. وقال ابنُ معين: كان ثقةً. وقال أبو زرعة: كان سليمًا من التَّجَهُّم.

وقال بشار الخفَّاف: سمعتُ أبا يوسف يقول: منْ قال: القرآنُ مخلوق، فحرامٌ كلامُه، وفَرْضٌ مُبَايَنتُه، ولا يجوزُ السلامُ ولا رَدُّه عليه.

ومن كلامِه الذي ينبغي كتابتُهُ بماءِ الذهب قولُه: مَنْ طلَب المالَ بالكيمياء أفلس، ومن تتبَّعَ غرائبَ الحديث كذَب، ومن طلب العلمَ بالكلام تَزَنْدَق.

ولما تناظر هو ومالكٌ بالمدينة بحضرةِ الرشيد في مسألةِ الصاع وزكاة الخضراوات احتجَّ مالكٌ بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولةِ عن آبائهم وأسلافِهم، وبأنَّهُ لم تكنِ الخضراوات يُخرجُ فيها شيءٌ في زمن الخلفاء الراشدين. فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيتُ لَرَجعَ كما رجعتُ. وهذا إنصافٌ منه.

وقد كان يحضُرُ في مجلسِ حُكمِه العلماءُ على طَبقاتِهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابًّا، وكان يحضُرُ مجلسَهُ في أثناء الناس، فيتناظرونَ ويتباحثون، وهو مع ذلك يَحكُمُ ويُصنِّفُ أيضًا. وقال وُلِّيتُ فذا الحُكم، وأرجو اللَّه أنْ لا يسألني عن جَوْرٍ ولا مَيْل إلى أحد، إلَّا يومًا واحدًا جاءني رجل، فذكر أنَّ له بستانًا، وأنه في يدِ أميرِ المؤمنين، فدخلتُ إلى أميرِ المؤمنين فأعلمتُه، فقال: البستانُ لي، اشتراهُ لي

ص: 450

المهدي. فقلت: إنْ رأى أميرُ المؤمنين أنْ يُحضِرَهُ لأسمعَ دعواه. فأحضرَه، فادَّعى بالبستان، فقلت: ما تقولُ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: هو بستاني. فقلتُ للرجل: قد سمعتَ ما أجاب. فقال الرجل: يَحلف. فقلتُ: أتحلفُ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: لا. فقلتُ: سأعرضُ عليك اليمينَ ثلاثًا، فإنْ حلفتَ وإلَّا حكمتُ عليك يا أميرَ المؤمنين؛ فعرضتُها عليه ثلاثًا، فامتنع، فحكمتُ بالبستانِ للمُدَّعي. قال: فكنتُ في أثناء الخُصومةِ أوَدُّ أنْ ينفصل. ولم يُمكني أنْ أُجلسَ الرجلَ مع الخليفة. وبعث القاضي أبو يُوسف في تسليم البستانِ إلى الرجل.

وروَى المُعافَى بنُ زكريَّا الجَريري، عن محمد بن أبي الأزْهَر، عن حماد بن أبي إسحاق الْمَوْصلي، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: بينا أنا ذاتَ ليلةٍ قد نمتُ في الفراش، إذا رسولُ الخليفةِ يطرُقُ الباب، فخرجتُ مُنْزعجًا، فقال: أميرُ المؤمنين يدعوك. فذهبتُ، فإذا هو جالسٌ ومعهُ عيسى بنُ جعفر، فقال لي الرشيد: إنَّ هذا قد طلَبتُ منه جاريةً يَهَبُنِيها، فلم يفعلْ، أو يبيعُنيها، فلم يفعل وإنِّي أُشهدك إنْ لم يُجبني إلى ذلك قتلتُه. فقلتُ لعيسى: لمَ لم تفعلْ؟ فقال: إني حالفٌ بالطلاقِ والعَتَاق، وصدَقَةِ مالي كلِّه أنْ لا أبيعَها، ولا أهبَها. فقال لي الرشيد: فهل له من مُخلِّص؟ فقلت: نعم. يَبيعُكَ نصفَها، ويَهبُكَ نصفَها. فوهَبَه النِّصفَ وباعَهُ النصفَ بمئةِ ألف دينار. فقبل منه ذلك، وأُحضرتِ الجارية، فلما رآها الرشيدُ قال: هل لي من سبيل عليها الليلة؟ قلت: إنَّها مملوكة، ولا بدَّ من استبرائها، إلَّا أنْ تُعتِقَها وتتزوَّجَها، فإنَّ الحرَّةَ لا تُستبرَأ. قال: فأعتَقَها وتزوَّجها منه بعشرينَ ألفَ دينار، وأمَرَ لي بمئتي ألفِ درهم، وعشرين تختًا من ثياب

(1)

، وأرسلتُ إلى الجاريةِ بعشرةِ آلافِ دينار.

قال يحيى بن مَعين: كنتُ عند أبي يوسف، فجاءتهُ هديَّةٌ من ثيابٍ دَبِيقِيّ

(2)

، وطيبٍ وتماثيل نِدٍّ، وغيرِ ذلك، فذاكَرَني رجلٌ في إسنادِ حديث "منْ أُهديَتْ له هديَّةٌ وعندَهُ قومٌ جُلوس فهمْ شركاؤه"

(3)

. فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الأقِطِ والتَّمْرِ والزَّبيب، ولم تكنِ الهدايا في ذلك الوقت ما ترَوْن؛ يا غلام، ارفَعْ هذا إلى الخزائن. ولم يُعطهمْ منها شيئًا

(4)

.

وقال بشر بن غياث الْمَرِّيسي: سمعتُ أبا يوسف يقول: صحبتُ أبا حنيفةَ سبعَ عشرةَ سنة، ثم انصبَّتْ عليَّ الدنيا سبعَ عشرةَ سنة، وما أظنُّ أجَلي إلَّا قَدِ اقترب. فما مكثَ بعدَ ذلك إلَّا شهورًا حتى

(1)

"التخت": وعاءٌ تصان فيه الثياب. فارسي، وقد تكلمت به العرب لسان العرب (تخت).

(2)

في (ق): "ديبقي" وهو تصحيف، والدَّبيقيُّ: من دقَّ ثياب مصر معروفة، تنسب إلى دَبيق. لسان العرب (دبق).

(3)

أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 67)(1031)، وذكره العجلوني في كشف الخفا (2/ 302) وقال: لا يصح في هذا الباب شيء، وابن حجر في لسان الميزان (4/ 14).

(4)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (14/ 252).

ص: 451

مات. وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة، عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء ستَّ عشرةَ سنة، وُلِّي القضاءَ من بعدِهِ ولَدُهُ يوسف؛ وقد كان نائبَهُ على الجانبِ الشرقيِّ من بغداد؛ ومن زعمَ من الرواة أنَّ الشافعيَّ اجتمع بأبي يوسف كما يقولُهُ عبدُ اللَّه بن محمد البَلَوي الكذَّاب في الرِّحْلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك؛ إنما وَرَدَ الشافعيُّ بغدادَ في أولِ قدمةٍ قَدِمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعيُّ بمحمد بن الحسن الشيباني، فأحَسَن إليه وأقبل عليه، ولم يكنْ بينهما شَنَآن كما يذكُرُهُ بعضُ منْ لا خِبْرَةَ له في هذا الشأن. واللَّه أعلم.

وفيها توفي:

يعقوب بن داود بن طَهْمان

(1)

أبو عبد اللَّه مولى عبد اللَّه بن حازم السُّلَمي، استوزَرَهُ المهدي، وحَظيَ عندَه جدًّا وسلَّم إليه أزِمَّةَ الأمور، ثم لما أمر بقتلِ ذلك العلويِّ كما تقدَّم

(2)

، فأطَلَقه، ونَمَّتْ عليه تلك الجارية، وتحقَّقَ أنه لم يفعلْ سجَنهُ المهديُّ في بئر، وبُنيتْ عليه قُبَّة، ونبتَ شعرُه حتى صار مثلَ شعورِ الأنعام، وعمِي. ويُقال: بل عَشَا بصَرُهُ، ومكَث نحوًا من خمسةَ عشرَ سنةً في ذلك البئر، لا يَرَى ضَوْءًا، ولا يسمعُ صوتًا إلَّا في أوقاتِ الصلوات، يُعلمونَهُ بذلك، ويُدلَّى إليه في كل يومٍ رغيفٌ وكُوزُ ماءٍ؛ فمكث كذلك حتى انقضَتْ أيامُ المهدي وأيامُ الهادي وصدرٌ من أيام الرشيد؛ قال يعقوب: فأتاني آتٍ في منامي فقال:

عسى الكربُ الذي أمسَيْتَ فيه

يكونُ وراءَهُ فرَجٌ قَريبُ

فيأمنُ خائفٌ ويُفَكُّ عانٍ

ويأتي أهلَهُ النائي الغريبُ

فلما أصبحتُ نُوديتُ، فظننْتُ أني أُعلَمُ بوقتِ الصلاة، ودُلِّيَ إليَّ حبلٌ وقيل لي: ارْبِطْ هذا الحبلَ في وَسَطِك. فأخرجوني، فلما نظرْتُ إلى الضياءَ لم أُبِصرْ شئًا، وأُوقفتُ بين يدي الخليفة، فقيل لي: سلِّمْ على أميرِ المؤمنين. فظنَنْتُهُ المهدي، فسلَّمْتُ عليهِ باسمه، فقال: لستُ به. فقلت: الهادي. فقال: لستُ به. فقلت: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنينَ الرشيد. فقال نعم. ثم قال: واللَّه إنه لم يشفعْ فيكَ عندي أحدٌ ولكنِّي البارحةَ حُمِلتْ جاريةٌ لي صغيرةٌ على عُنقي، فذكرتُ حَمْلَكَ إيَّايَ على عُنقك؛ فرَحِمْتُ ما أنتَ فيه من الضيق، فأخرَجْتُك. ثم أنعم عليه وأحسَنَ إليه، فغارَ منه يحيى بن خالد بن بَرْمك، وخشِيَ أنْ يُعيدهُ إلى مَنْزِلَتِهِ التي كان عليها أيامَ المهدي، وفهمَ ذلك يعقوبُ فاستأذن الرشيدَ في

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (14/ 262)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 80)، الكامل لابن الأثير (5/ 316)، وفيات الأعيان (7/ 19)، سير أعلام النبلاء (8/ 346).

(2)

انظر ما تقدم ص (404).

ص: 452

الذهابِ إلى مكَّة؛ فأذن له، فكان بها حتى ماتَ في هذه السنةِ رحمه الله. وقال: يَخْشى يحيى أنْ أرجِعَ إلى الولايات، لا واللَّه ما كنتُ لأفعلَ أبدًا؛ ولو رُدِدتُ إلى مكاني.

‌وفيها تُوفِّي:

يزيدُ بن زُرَيع

(1)

أبو معاوية: شيخُ الإمام أحمدَ بنِ حنبل في الحديث. كان ثقةً، عالمًا، عابدًا، وَرِعًا. تُوفي أبوه وكان واليَ البصرة، وترك من المالِ خمسَ مئةِ درهم، فلم يأخذْ منها يزيدُ درهمًا واحدًا. وكان يعملُ الخُوصَ بيدِه، ويَقْتاتُ منه هو وعيالُه. تُوفي بالبصرة في هذه السنة، وقيل قبل ذلك، فاللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومئة

فيها خرجتِ الخَزَرُ على الناس من جهةِ إرْمِينيَة، فعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وسبَوْا من المسلمين وأهلِ الذِّمَّة نحوًا من مئة ألف؛ وقتلوا بشَرًا كثيرًا، وانهزَمَ نائبُ إرْمِينيَةَ سعيدُ بن مسلم، فأرسل الخليفةُ هارون الرشيدُ إليهم خازِمَ بن خُزَيْمة، ويزيدَ بن مَزْيَد، في جيوشٍ كثيرةٍ كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد. وحجَّ بالناسِ العباسُ بن موسى الهادي.

‌وفيها توفي من الأعيان:

عليُّ بن الفُضيل بن عياض في حياةِ أبيه؛ كان كثيرَ العبادةِ والوَرَع، والخوفِ والخَشْيَة.

ومحمد بن صُبيح

(2)

أبو العباس: مولى بني عِجْل المذكِّر، ويعرف بابن السَّمَّاك. روى عن إسماعيلَ بنِ أبي خالد، والأعمش، والثوري، وهشام بن عروة، وغيرِهم. ودخل يومًا على الرشيد فقال: إنَّ لك بين يدَيِ اللَّه موقفًا، فانظُرْ أين مُنْصَرَفُكَ؟ إلى الجنةِ أمِ النَّارِ؟ فبكى الرشيدُ حتى كاد يموتُ.

وموسى بن جعفر

(3)

بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، ويُقال

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (8/ 335)، التاريخ الصغير (2/ 230)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 759)، الجرح والتعديل (9/ 263)، مولد العلماء ووفياتهم (412)، طبقات المحدثين (71)، تقريب التهذيب (601)، نزهة الألباب في الألقاب، طبقات الحفاظ (116).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 106)، الجرح والتعديل (7/ 290)، الثقات لابن حبان (9/ 32)، حلية الأولياء (8/ 203)، تاريخ بغداد (5/ 368)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 343)، سير أعلام النبلاء (8/ 328)، ميزان الاعتدال (6/ 190)، لسان الميزان (5/ 204).

(3)

ترجمته في الجرح والتعديل (8/ 139)، الضعفاء للعقيلي (4/ 156)، تاريخ بغداد (13/ 27)، صفة الصفوة =

ص: 453

له الكاظم. وُلد سنة ثمانٍ أو تسعٍ وعشرين ومئة؛ وكان كثيرَ العبادةِ والمروءة، إذا بلغَهُ عن أحدٍ أنه يؤذيه أرسل إليه بالذَّهَبِ والتُّحَف. وُلد له من الذكورِ والإناث أربعونَ نَسَمة. وأهدَى له مرة عبدٌ عصِيدَةً، فاشتراهُ واشترى المزرعةَ التي هو فيها بألفِ دينار، وأعتَقَهُ وَوَهب المزرعةَ له. وقد استدعاهُ المهديُّ إلى بغداد، فحَبَسه، فلما كان في بعضِ الليالي، رأى المهديُّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ وهو يقولُ له: يا محمد، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، فاستيقظ مذعورًا، وأمَرَ بهِ فأُخرج من السجنِ ليلًا، فأجلَسَهُ معه وعانَقَه، وأقبل عليه، وأخذ عليه العَهْدَ أنْ لا يَخرُجَ عليه، ولا على أحدٍ من أولادِه. فقال: واللَّه ما هذا من شأني، ولا حدَّثْتُ فيه نفسي. فقال: صدقت. وأمَرَ له بثلاثةِ آلافِ دينار، وأمَرَ به فرُدَّ إلى المدينة، فما أصبح الصباحُ إلَّا وهو على الطريق، فلم يزَلْ بالمدينةِ حتى كانتْ خلافةُ الرشيد، فحجَّ، فلما دخَلَ لِيُسلِّمَ على قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه موسى بن جعفر الكاظِم، فقال الرشيدُ: السلامُ عليكَ يا رسولَ اللَّه، يا بنَ عمّ. فقال موسى: السلامُ عليك يا أبتِ. فقال الرشيد: هذا هو الفخرُ يا أبا الحسن! ثم لم يزَلْ في نفسِه حتى استدعاهُ في سنةِ تسعٍ وستين، وسجَنَهُ فأطالَ سجنَه؛ فكتب إليه موسى رسالةً يقولُ فيها: أمَّا بعد، يا أمير المؤمنين، إنه لم ينقَضِ عنِّي يومٌ من البلاء إلَّا انقضَى عنك يومٌ من الرَّخاء، حتى يُفضي بنا ذلك إلى يومٍ يَخْسَرُ فيهِ الْمُبْطلون.

توفي لخمسٍ بقينَ من رجب من هذه السنةِ ببغداد، وقبرُه هناك مشهور.

‌وفيها توفي:

هُشيم بن بَشير أبي خازم

(1)

بن القاسم بن دينار، أبو معاوية السُّلَمي الواسطي، كان أبوهُ طَبَّاخًا للحجَّاج بن يوسف الثقفي ثم كان بعدَ ذلك يَبيعُ الصِّحْناةَ والكوامِخ

(2)

. وكان يَمْنعُ ابنَهُ منْ طلَبِ العلم

= (2/ 184)، تهذيب الكمال (29/ 43)، ميز ان الاعدال (6/ 538)، تهذيب التهذيب (10/ 302)، تقريب التهذيب (550).

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (8/ 242)، التاريخ الصغير (2/ 232)، الكنى والأسماء لمسلم (2/ 759)، الجرح والتعديل (9/ 115)، معرفة الثقات (2/ 334)، مشاهير علماء الأمصار (177)، ميزان الاعتدال (7/ 90)، المقتنى في سرد الكنى (86)، تذكرة الحفاظ (248)، طبقات المحدثين (70)، تهذيب التهذيب (11/ 53)، تقريب التهذيب (574)، لسان الميزان (7/ 419)، طبقات الحفاظ (111).

(2)

"الصِّحْناةُ" -بالكسر-: إدامٌ يُتَّخذُ من السمك، يُمدّ ويقصر، والصَّحناةُ أخصُّ منه. وقال ابن سيده: الصِّحْنا والصِّحْناةُ الصِّيرُ. وحُكي عن أبي زيد: الصِّحْناة فارسية، وتسمِّيها العربُ الصِّيرَ، قال: وسأل رجل الحسن عن الصحناة فقال: وهل يأكل المسلمون الصِّحْناة؟ قال: ولم يعرفها الحسن لأنها فارسية، ولو سأله عن الممير لأجابه. وأورد ابنُ الأثير هذا الفصل وقال فيه الصِّحْناةُ هي التي يقال لها الصِّيَرُ، قال، وكلا اللفظين غير عربي. والكوامخ: جمع الكامخ: وهو نوع من الأدْم معرّب. لسان العرب (كمخ، صحن).

ص: 454

لِيُسَاعِدَهُ على شُغْلِه

(1)

، فأبى إلَّا أنْ يسمعَ الحديث، فاتفق أنَّ هُشيمًا مَرِض، فجاءه أبو شيبةَ فاضي واسط عائدًا له، ومعه خَلْقٌ من الناس، فلما رآه بَشِير فرح بذلك وقال: يا بُني أبَلَغَ من أمرِك أنْ جاء القاضي إلى مَنْزلي؟! لا أمنَعُكَ بعدَ هذا اليومِ من طلبِ الحديث. كان هُشيم من ساداتِ العلماء، وحدَّث عنه مالك، وشعبة، والثَّوْري، وأحمد بن حنبل، وخلقٌ غيرُ هؤلاء. وكان من الصلحاء العُبَّاد؛ ومكَثَ يُصلِّي الصُّبحَ بوضوءِ العِشاء قبلَ أنْ يَموتَ بعشرِ سنين.

ويحيى بن زكريا

(2)

بن أبي زائدة، قاضي المدائن، كان من الأئمةِ الثقات.

ويونس بن حَبيب

(3)

: أحد النحاةِ النجباء. أخَذَ النحوَ عن أبي عمرو بن العلاء وغيرِه، وأخذ عنه الكِسَائي والفَرَّاء. وقد كانتْ له حَلْقةٌ بالبصرةِ ينتابُها أهلُ العلمِ والأدب، والفصحاء من الحاضرين والغرباء. تُوفي في هذه السنة عن ثمانٍ وسبعين سنة.

‌ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومئة

فيها رجَعَ الرشيدُ من الرقَّةِ إلى بغداد، فأخذ الناسُ بأداءِ بقايا الخراج الذي عليهم، وولَّى رجلًا يضربُ النَّاسَ على ذلك ويَحْبسُهم، وولَّى على أطرافِ البلاد، وعزَلَ وولى وقطَعَ ووَصَل.

وخرج بالجزيرةِ أبو عمرو الشاري، فبعث إليه الرشيدُ من قِبَلِه شَهْرَزُور. وحجَّ بالناس فيها إبراهيمُ بن محمد العباسي.

‌وفيها تُوفي:

أحمد ابن أمير المؤمنين الرَّشِيد

(4)

: كان زاهدًا عابدًا قد تنسَّك، وكان لا يأكلُ إلَّا من عمَلِ يدِه في الطِّين. كان يعملُ فاعلًا فيه، وليس يَمْلِكُ إلَّا مَرًّا وزِنْبِيلًا

(5)

؛ أي: مِجْرَفَة وقُفَّة. وكان يعملُ في كلِّ

(1)

في (ب، ح): "ليساعده على صناعته".

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (8/ 273)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 361)، معرفة الثقات (2/ 352)، ذكر أسماء التابعين فمن بعدهم (403)، المقتنى في سرد الكنى (269)، تذكرة الحفاظ (1/ 267)، سير أعلام النبلاء (8/ 337)، طبقات المحدثين (70)، طبقات الحفاظ (120).

(3)

ترجمته في التاريخ الكبير (8/ 413)، الكنى والأسماء (1/ 525)، الجرح والتعديل (9/ 237)، الثقات لابن حبان (9/ 290)، الفهرست (62)، المقتنى في سرد الكنى (370).

(4)

ترجمته في المنتظم لابن الجوزي (9/ 93)، وفيات الأعيان (1/ 168).

(5)

في (ح، ق): "مروًا وزنبيلًا" وهو تصحيف والمثبت من (ب)، والمرُّ: المِسْحاة. والزِّنْبيل: الجِراب، وقيل: الوِعاء يُحْمل فيه، فإذا جَمَعوا قالوا زَنَابيل. وقيل: الزِّنْبيل خطأ، وإنما هو رَّبيل وجمعه زُبُل وزُبْلان. لسان العرب (مرر، زبل).

ص: 455

جمعةٍ بدِرْهمٍ ودانِق، يتَقَوَّتُ بهما من الجمعةِ إلى الجمعة، وكان لا يعملُ إلَّا في يومِ السبت فقط

(1)

؛ ثم يُقبلُ على العبادةِ بقيَّةَ أيامِ الجُمعة، وكان من زُبيدةَ في قولِ بعضِهم، والصحيحُ أنَّهُ من امرأةٍ كان الرشيدُ قد أحبَّها فتزوَّجها، فحملَتْ منه بهذا الغلام؛ ثم إنَّ الرشيدَ أرسلها إلى البصرة، وأعطاها خاتمًا من ياقوتٍ أحمر، وأشياءَ نفيسة، وأمرَهَا إذا أفضَتْ إليه الخلافةُ أنْ تأتيه؛ فلما صارَتِ الخلافةُ إليه لم تأتِهِ، ولا ولَدُها، بل اختفيا. وبلَغَهُ أنَّهما ماتا، ولم يكنِ الأمرُ كذلك، وفحَصَ عنهما فلم يطلِعْ لهما على خبر، فكان هذا الشَّابُّ يعملُ بيدِهِ ويأكلُ من كَدَّها، ثم رجَعَ إلى بغداد، وكان يعملُ في الطين ويأكلُ مدَّةً زمانية. هذا وهو ابنُ أميرِ المؤمنين، ولا يذكرُ للناسِ منْ هو، إلى أن اتَّفَقَ مرَضُهُ في دارِ منْ كان يستعملُه في الطِّين، فمرَّضَهُ عندَه، فلمَّا احتُضر، أخرج الخاتمَ وقال لصاحبِ المنزل: اذهَبْ بهذا إلى الرشيد، وقل له: صاحبُ هذا الخاتم يقولُ لك: إيَّاكَ أنْ تموتَ في سكرتِكَ هذهِ فتندَمَ حيثُ لا ينفَعُ نادمًا نَدَمُه، واحذَرِ انصرافَكَ منْ بين يدي اللَّه إلى الدارَيْن، وأنْ يكونَ آخرَ العَهْدِ بك، فإنَّ ما أنتَ فيه لو دامَ لغيرِك لم يَصِلْ إليك، وسيصيرُ إلى غيرِك، وقد بَلَغكَ أخبارُ مَنْ مَضَى.

قال: فلمَّا ماتَ دَفَنْتُه، وطلبتُ الحضورَ عندَ الخليفة، فلمَّا أُوقفتُ بين يديه قال: ما حاجتُك؟ قلت: هذا الخاتم دفعَهُ إليَّ رجل، وأمَرني أنْ أدْفعَهُ إليك، وأوصاني بكلامٍ أقوله لك. فلمَّا نظَرَ إليه عرَفَهُ فقال: وَيْحك! وأين صاحبُ هذا الخاتم؟ قال: فقلت: مات يا أميرَ المؤمنين، وهو يقولُ لك: احذَرْ أن تموتَ في سَكْرَتِكَ هذهِ فتندَم. وذكرتُ له أنه يعملُ بالفاعل في كلِّ جمعةٍ يومًا بدرهمٍ وأربعِ دوانيق، أو بدرهمٍ ودانق، يتقوَّتُ به سائرَ الجمعة، ثم يُقبلُ على العبادة. قال: فلما سمع هذا الكلام قامَ فضرَبَ بنفسِهِ الأرض، وجعل يتمرَّغُ ويتقلَّبُ ظهرًا لِبَطني ويقول: واللَّه لقد نصَحْتَني يا بُني. ثم بكى، ثم رفع رأسَهُ إلى الرجل وقال: أتعرِفُ قبرَه؟ قلت: نعم، أنا دفنتُه. قال: إذا كان العشيُّ فأْتني، قال: فأتيتُهُ فذهَبَ إلى قبرِه، فلم يزَلْ يبكي عندَهُ حتى أصبح. ثم أمر لذلك الرجل بعشرةِ آلافِ درهم، وكتب له ولعيالِهِ رزقًا.

‌وفيها مات:

عبد اللَّه بن مُصْعَب

(2)

بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير بن العوام القُرَشيُّ الأسديّ، والدُ بكَّار، ألزمه

(1)

رواية (ب، ح): "كانت أجرتُهُ في كل يوم يعملُ فيه من الجمعةِ إلى الجمعة درهما ودانِقًا".

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (5/ 211)، الجرح والتعديل (5/ 178)، الثقات لابن حبان (7/ 56)، تاريخ بغداد (10/ 173)، ميزان الاعتدال (4/ 201)، المغني في الضعفاء (358)، الإكمال للحسيني (655)، لسان الميزان (3/ 361)، تعجيل المنفعة (235)، نزهة الألباب في الألقاب (2/ 10).

ص: 456

الرشيدُ بولايةِ المدينة، فقَبِلها بشروطِ عَدْلٍ اشترَطَها، فأجابه إلى ذلك؛ ثم أضاف إليه نيابةَ اليمن، فكان من أعدَلِ الولاة. وكان عمرُهُ يوم تولى نحوًا من سبعين سنة.

عبد اللَّه بن عبد العزيز العمري

(1)

: أدرك أبا طُوَالة، وروى عن أبيه، وإبراهيم بن سعد. وكان عابدًا زاهدًا؛ وعَظَ الرشيدَ يومًا فأطنَبَ وأطيَب. قال له وهو واقفٌ على الصفَا: أتنظُرُكم حولَها -يعني الكعبة- من الناس؟ فقال: كثير. فقال: كل منهم يُسألُ يومَ القيامة عن خاصَّةِ نفسِه، وأنتَ تسألُ عنهم كلِّهم. فبكى الرشيدُ بكاءً كثيرًا. وجعلوا يأتونَهُ بِمنديلٍ بعدَ منديل، ينشفُ به دموعَه. ثم قال له: يا هارون، إنَّ الرجل لَيُسْرِفُ في مالِهِ فيستَحقُّ الحَجْرَ عليه، فكيف بمَنْ يُسْرِفُ في أموالِ المسلمين كلِّهم؟ ثم تركه وانصرَف، والرشيدُ يبكي. وله معَهُ مواففُ محمودةٌ غير هذه. تُوفي عن ستٍّ وستين سنة.

ومحمد بن يوسف بن مَعْدَان

(2)

أبو عبد اللَّه الأصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعِبَادَةِ والزَّهادَة، كان عبدُ اللَّه بن المبارك يُسَمِّيهِ عَروسَ الزُّهَّاد. وقال يحيى بنُ سعيد القَطَّان: ما رأيتُ أفضلَ منه، كان كأنَّهُ قد عايَن. وقال ابنُ مهدي: ما رأيتُ مثلَه. وكان لا يشتري خُبزهُ من خبَّازٍ واحد، ولا بَقْلهُ من بقالٍ واحد، كان لا يشتري إلَّا ممَّنْ لا يعرِفه، يقول: أخشَى أنْ يُحابوني فأكونُ ممَّن يعيشُ بدينِهِ. وكان لا يضعُ جَنبَهُ للنوم صيفًا ولا شتاءً. ومات ولم يجاوِزِ الأربعين سنة. رحمه الله.

‌ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومئة

فيها قَتل أهلُ طَبَرِسْتان مُتوَلِّيهم مِهْرَويْه الرازي؛ فوَلَّى الرشيدُ عليهم مكانَهُ عبدَ اللَّه بنَ سعيد الحَرَشيّ.

وفيها قَتَل عبدُ الرحمن الأنباري أبانَ بن قَحْطبة الخارجي بمَرْجِ القَلَعَة

(3)

.

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (5/ 140)، التاريخ الصغير (2/ 235)، مشاهير علماء الأمصار (1/ 129)، الثقات (7/ 19)، مولد العلماء ووفياتهم (416)، صفة الصفوة (2/ 181)، تهذيب الكمال (15/ 241)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 370)، ميزان الاعتدال (4/ 141).

(2)

ترجمته في الجرح والتعديل (8/ 121)، الثقات لابن حبان (9/ 74)، حلية الأولياء (8/ 225)، (10/ 389)، طبقات المحدثين بأصبهان (2/ 21، و 3/ 439)، صفة الصفوة (4/ 81)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 482)، سير أعلام النبلاء (9/ 125)، الوافي بالوفيات (5/ 244)، طبقات الأولياء (404)، النجوم الزاهرة (2/ 117)، طبقات الشعراني (1/ 61)، الكواكب الدرية (1/ 163).

(3)

في (ق): "مرج العلقة"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومعجم البلدان (4/ 389 و 5/ 101)، وفيه: القَلَعة بالتحريك مَرْجُ القَلَعة، قال العمواني: موضعٌ بالبادية، وإليه تُنسب السيوف. وقيل: هي القرية التي دون حُلْوانَ العراق. بينه وبين حُلْوان مَنْزل، وهو من حُلوان إلى جهةِ هَمَذان.

ص: 457

وفيها عاثَ حمزةُ الشاري ببلادِ باذَغِيس

(1)

من خُراسان. فنهض عيسى بنُ علي بن عيسى إلى عشرةِ آلافٍ من جيشٍ حمزةَ فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابُل وزابُلِسْتان

(2)

.

وفيها خرج أبو الخَصيب، فتغلَّبَ على أبيوَرْدَ، وطُوس، ونَيْسابور؛ وحاصر مَرْو؛ وقَوي أمرُه.

‌وفيها توفي

يزيد بن مَزْيَد بِبَرْذَعَة

(3)

فولَّى الرشيدُ مكانهُ ابنهُ أسدَ بن يزيد. واستأذن الوزير يحيى بنُ خالد الرشيدَ في أن يعتمرَ في رمضان، فأذنَ له؛ ثم رابَطَ بجُنده إلى وقتِ الحجّ. وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد اللَّه بن علي بن عبد اللَّه بن عباس.

وفيها توفي:

عبدُ الصَّمَد بنُ علي

(4)

بنِ عبد اللَّه بنِ عباس بن عبد المطَّلبِ الهاشمي، عَمُّ السفاحِ والمنصور. وُلد سنة أربع ومئة؛ وكان ضخمَ الخَلْق جدًّا، ولم يُبَدِّلْ أسنانَه، وكانتْ أصولُها صفيحةً واحدة. قال يومًا للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذا المجلسُ اجتمع فيه عمُّ أميرِ المؤمنين، وعمُّ عَمَّه وعَمُّ عَمّ عمَّه؛ وذلك أنَّ سليمانَ بنِ أبي جعفر عمُّ الرشيد، والعباسَ بنَ محمد بن علي عمُّ سليمان، وعبدَ الصمدِ بنَ علي عَمُّ السفاح. وتلخيصُ ذلك أنَّ عبدَ الصمد عَمُّ عمِّ عمِّ الرشيد، لأنه عمُّ جدِّه.

روى عبدُ الصمد عن أبيه، عن جدِّه عبدِ اللَّه بن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ البِرَّ والصِّلَةَ لَيُطيلانِ الأعمار، ويُعْمِرَانِ الدِّيار، ويُثْريانِ الأموال. ولو كان القومُ فُجَّارًا"

(5)

.

(1)

"باذَغيس" -بفتح الذال وكسر الغين المعجمة وياء ساكنة وسين مهملة-: ناحيةٌ تشتملُ على قرى من أعمالِ هَرَاة ومَرْو الرُّوذ، يكثر فيها شجر الفستق. وقيل: إنها كانت دارُ مملكة الهياطلة. وقيل أصلها بالفارسية باذخير، معناه قيام الريح أو هبوب الريح لكثرة الرياح بها. معجم البلدان (1/ 318).

(2)

"زابُلِسْتان" -بعد الألف باء موحدة مضمومة، ولام مكسورة وسين مهملة ساكنة وتاء مثناة من فوق وآخره نون-: كورةٌ واسعةٌ قائمةٌ برأسها جنوبن بَلْخ وطُخَارستان وهي زابُل، والعجَم يزيدون السين وما بعدها في أسماء البلدان شبيها بالنسبة، وهي منسوبة إلى زابُل جد رُستم بن دستان؛ وهي البلادُ التي قصَبتُها غُزْنة البلد المعروف العظيم. معجم البلدان (3/ 125).

(3)

"برذعة" -وقد رواه أبو سعد بالدال المهملة، والعين مهملة عند الجميع-: بلد في أقصى أذْرَبيجَان. وقال هلال بن المحسن: برذعة قصبة أذربيجان. وذكر ابنُ الفقيه أن برذعة هي مدينة أران وهي آخرُ حدودِ أذْرَبيجان. وهي نزهةٌ خِصْبةٌ كثيرةُ الزرع والثمار جدًّا، وليس ما بين العراق وخراسان بعد الرّي وأصبهان مدينةٌ أكبرَ ولا أخصبَ ولا أحسنَ موضعًا من مرافق برذعة معجم البلدان (1/ 379).

(4)

ترجمته في مولد العلماء ووفياتهم (419)، تاريخ بغداد (11/ 37)، وفيات الأعيان (3/ 195)، سير أعلام النبلاء (9/ 129)، العبر (1/ 290)، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (2/ 178).

(5)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 386)؛ وذكره العجلوني في كشف الخفا (1/ 334) برقم (890) بلفظ: =

ص: 458

وبه أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ البرَّ والصلةَ لَيُخَفِّفانِ الحسابَ يومَ القيامة". ثم تلا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21]

(1)

. وغير ذلك من الأحاديث.

ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس المعروف بالإمام، كان على إمارةِ الحاج، وإقامةِ سِقَايتِهِ في خلافةِ المنصور عِدَّةَ سنين. تُوفي ببغداد فصلَّى عليه الأمينُ في شوال من هذه السنة ودُفن بالعباسيَّة.

‌وفيها توفي من مشايخِ الحديث:

تمام بن إسماعيل.

وعمرو بن عبيد.

والمطلب بن زياد.

والمُعافى بن عمران في قول.

ويوسُف بن الماجِشُون.

وأبو إسحاق الفَزَاري

(2)

، إمامُ أهلِ الشامِ بعدَ الأوزاعي في المغازي والعلم والعبادة.

ورابعَة العَدَويَّة

(3)

: وهي رابعةُ بنتُ إسماعيل، مولاةُ آلِ عَتيك، العَدَويَّةُ البصريَّةُ، العابدةُ

= "البر وحسن الجوار، عمارة الديار، وزيادة الأعمار" وقال: رواه ابنُ عبدِ البرّ عن أبي سعيد الخدري موقوفًا؛ وقيل مرفوعًا. قال في المقاصد نقلًا عن ابنِ عبدِ البر: وفيه نظر. وتبعه الذهبي ثم شيخُنا. وقال النجم: وعند الديلمي عن ابن عباس "البر والصلة يطيلان الأعمار، ويعمران الديار، ويثريان الأموال، ويُخفِّفَانِ سُوءَ الحساب". أقول: وهو ضعيف بهذا اللفظ، وقد رواه أحمد في المسند (6/ 159) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الخلق، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار" وهو حديث صحيح ورواه الباغندي في جزء له.

(1)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 386)، وذكره العجلوني في كشف الخفا، وانظر الحاشية السابقة.

(2)

سيذكر المؤلف وفاته في سنة (188)، انظر ص (200) من نسخة (ق)؛ وترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 488)، طبقات خليفة (317)، التاريخ الكبير (1/ 321)، التاريخ الصغير (2/ 217)، المعرفة والتاريخ (1/ 177)، حلية الأولياء (8/ 253)، معجم الأدباء (1/ 209)، المختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (1/ 269)، الكامل لابن الأثير (6/ 174)، مختصر تاريخ ابن عساكر (4/ 113)، تهذيب الكمال (2/ 167)، سير أعلام النبلاء (8/ 473)(أو 539)(ترجمة رقم 142)، وطبقات علماء الحديث (1/ 399)، الوافي (6/ 104)، طبقات الحفاظ (117)، شذرات الذهب (1/ 307).

(3)

ترجمتها في صفة الصفوة (4/ 27)، المختار من مناقب الأخيار (5/ 253)، وفيات الأعيان (2/ 285)، سير =

ص: 459

المشهورة؛ ذكرَهَا أبو نُعيم في "الحلية"؛ والقشيري في "الرسالة"

(1)

؛ وابنُ الجَوْزي في "صِفَة الصَّفْوَة"؛ والشيخ شهاب الدِّين السَّهْرَوَردي في "المعارف". وأثنى عليها أكثرُ الناس، وتكلَّم فيها أبو داود السِّجْستاني، واتَّهمَها بالزَّندَقة، فلعلَّه بلغه عنها أمر. وأنشَدَ لها السَّهْرَوَرْديُّ في "المعارف":

إني جعلتُكَ في الفؤادِ مُحدِّثي

وأبَحْتُ جِسْميَ منْ أرادَ جُلوسي

فالجسمُ منِّي للجَليسِ موَّانِسٌ

وحَبيبُ قلبي في الفؤادِ أنيسي

(2)

وقد ذكروا لها أحوالًا وأعمالًا صالحة، وصيامَ نهارٍ وقيامَ ليلٍ. ورُئيتْ لها مناماتٌ صالحة، فاللَّه أعلم.

تُوفيتْ بالقُدْس الشريف، وقبرُها شرقيَّهُ بالطُّور. واللَّه أعلم.

‌ثم دخلت سنة ست وثمانين ومئة

فيها خرجَ عليُّ بنُ عيسى بن ماهان من مَرْو لِحَرْبِ أبي الخَصيب إلى نَسَا؛ فقاتَلَهُ بها، وسَبَى نساءَهُ وذَرَاريَّهُ. واسقامَتْ خُراسان. وحجَّ بالناسِ فيها الرشيد، ومعه ابناهُ محمدٌ الأمين، وعبد اللَّه المأمون، فبلَغَ جملةُ ما أعطى لأهلِ الحرَمَيْن ألفَ ألفِ دينار، وخمسين ألفَ دينار، وذلك أنه كان يُعطي الناس، فيذهبونَ إلى الأمين فيُعطيهم، فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم. وكان إلى الأمين ولايةُ الشامِ والعراق، وإلى المأمون هَمَذان إلى بلاد المشرق، ثم تابع الرشيدُ لولِدِه القاسم من بعدِ ولدَيْه، ولقَّبهُ المؤتَمن، وولَّاهُ الجزيرةَ والثُّغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أنَّ ابنه القاسم هذا كان في حِجْر عبدِ الملك بن صالح، ولما بايَعَ الرشيدُ لولدَيْه الأمين والمأمون كتَبَ إليه:

يا أيها الملكُ الذي

لو كان نجمًا كان سَعْدا

اعقِدْ لقاسِم بيعةً

واقدَحْ له في المُلك زَنْدا

فاللَّهُ فرْدٌ واحدٌ

فاجْعلْ وُلاةَ العَهْدِ فَرْدًا

(3)

= أعلام النبلاء (8/ 215)(241)، العبر (1/ 278)، مرآة الجنان (1/ 281)، الوافي بالوفيات (14/ 51)، طبقات الأولياء (408)، النجوم الزاهرة (1/ 330)، طبقات الشعراني (1/ 65)، الكواكب الدرية (1/ 285)، شذرات الذهب (1/ 193).

(1)

لم أجد لها ترجمة مفردة في الرسالة القشيرية بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف؛ ولكن لها ذكر في مواضع متفرِّقة عنها، انظر فهارس الرسالة القشيرية.

(2)

البيتان في صفة الصفوة (4/ 351، 302)، وجامع العلوم والحكم (449).

(3)

الأبيات في المنتظم لابن الجوزي (9/ 111).

ص: 460

ففعل الرشيدُ ذلك، وقد حَمَدهُ قومٌ على ذلك وذَمَّهُ آخرون. ولم ينتظِمْ للقاسم هذا أمر، بلِ اختطفَتْهُ المَنُونُ والأقدارُ عن بلوغِ الأملِ والأوطار. ولما قَضَى الرشيدُ حجَّه أحضر منْ معه من الأمراءِ والوزراء، وأحضر وليَّ العهد محمدًا الأمين، وعبدَ اللَّه المأمون، وكتب بمضمونِ ذلك صحيفةً، وكتب فيها الأمراءُ والوزراءُ خُطوطَهم بالشهادةِ على ذلك؛ وأرادَ الرشيدُ أن يُعلِّقَها في الكعبة فسقطَتْ، فقيل: هذا أمرٌ سريعٌ انتقاضُه. وكذا وقَعَ كما سيأتي.

وقال إبراهيمُ المَوْصلي في عَقدِ هذه البَيْعةِ في الكعبة:

خيرُ الأمورِ مَغبَّةً

وأحقُّ أمْرٍ بالتَّمامْ

أمرٌ قَضَى أحكامَهُ الرْ

رَحمنُ في البلدِ الحَرَامْ

وقد أطالَ القولَ في هذا المقام أبو جعفر بن جرير، وتبعه ابنُ الجوزي في "المنتظم"

(1)

.

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

أصبغُ بن عبدِ العزيز بن مروان بن الحكم أبو زَيَّان

(2)

في رمضان منها.

وحسان بن إبراهيم قاضي كَرْمان عن مئةِ سنة.

وسَلْم الخاسِر الشاعر

(3)

: وهو سَلْم بن عمرو بن حمَّاد بن عطاء، وإنَّما قيل له الخاسر لأنَّه باع مُصحفًا واشترى به ديوانَ شعرٍ لامرئ القيس

(4)

، وقيل: لأنه أنفق مئتي ألفٍ في صناعةِ الأدب. وقد كان شاعرًا منطيقًا، له قدرةٌ على الإنشاء على حرفٍ واحد، كما قال في موسى الهادي:

موسى المَطَرْ، غَيْثٌ بَكَرْ، ثم انْهَمَرْ، كمِ اعتَبَرْ، ثم فَتَرْ، وكم قَدَرْ، ثم غَفَرْ، عدْلُ السِّيَرْ، باقي الأثَرْ، خَيْرُ البَشَرْ، فَرْعُ مُضَرْ، بَدْرٌ بَدَرْ، لِمَنْ نَظَرْ، هو الوَزَرْ

(5)

، لِمَنْ حَضَرْ، والمُفْتَخَرْ، لِمنْ غَبَرْ.

وذكر الخطيبُ أنه كان على طريقةٍ غيرِ مَرْضيَّةٍ من المُجونِ والفِسْق، وأنه كان من تلاميذِ بشَّارِ بنِ بُرْد، وأنَّ نظمَهُ أحسنُ من نظمِ بشار. فمِمَّا غلَبَ فيه بشارًا قولُه:

(1)

انظر تاريخ الطبري (5/ 710)، والمنتظم (9/ 112).

(2)

صُحِّفت كنيته في الأصول، والمثبت من ترجمته في الإكمال لابن ماكولا (4/ 116).

(3)

ترجمته في الأغاني (19/ 276). تاريخ بغداد (9/ 136)، المنتظم (9/ 120)، وفيات الأعيان (2/ 350)، سير أعلام النبلاء (8/ 193).

(4)

وقيل: لأنه ورث من أبيه مصحفًا فباعه واشترى بثمنه طُنبورًا. انظر الأغاني (19/ 276)، والمنتظم (9/ 120).

(5)

"الوَزَر": الملجأ. لسان العرب (وزر).

ص: 461

منْ راقَبَ النَّاسَ لم يظفَرْ بحَاجَتِهِ

وفاز بالطَّيِّباتِ الفاتِكُ اللَّهِجُ

(1)

فقال سَلْم:

منْ راقَبَ النَّاسَ ماتَ غَمًّا

وفاز باللَّذَّةِ الجسورُ

فغَضِبَ بشارٌ وقال: أخذَ مَعانيَّ فكساها ألفاظًا أخفَّ من ألفاظي.

وقد حَصَلَ له من الخلفاءِ والبرامكة نحو من أربعين ألفَ دينار؛ وقيل: أكثر من ذلك؛ ولما مات ترَكَ ستةً وثلاثين ألفَ دينار وديعة عند أبي الشِّمْر الغسَّاني؛ فغنَّى إبراهيمُ المَوْصِليُّ يومًا الرَّشيد، فأطرَبَه، فقال له: سلْ. فقال: يا أميرَ المؤمنين، أسألُكَ شيئًا ليس فيه من مالِكَ شيء، ولا أرْزَؤكَ شيئًا سواه. قال: وما هو؟ فذكر له وديعةَ سَلْم الخاسِر، وأنَّهُ لم يترُكْ وارثًا. فأمر له بِها. ويقال: إنها كانت خمسين ألفَ دينار.

والعباس بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عمُّ أبي الرشيد، كان من ساداتِ قُريش، ولي إمارةَ الجزيرة في أيامِ الرشيد، وقد أطلَقَ له الرشيدُ في يومٍ خمسةَ آلافِ ألفِ درهم، وإليه تُنسب العبَّاسية، وبها دُفن وعُمرُه خمسٌ وستون سنة. وصلَّى عليه الأمين.

ويَقْطِينُ بنُ مُوسى

(2)

: كان أحدَ الدُّعاة إلى دولةِ بني العباس، وكان داهيةً ذا رأي وقدِ احتالَ مرَّةً حيلةً عظيمة، لما حبس مروانُ الحمار إبراهيمَ بن محمد بِحَرَّان، فتحيَّرَتِ الشيعةُ العباسية فيمَنْ يولُّون؟ ومَنْ يكونُ وليَّ الأمرِ من بعدِه إنْ قُتل؟. فذهب يقطينُ هذا إلى مروان، فوقف بين يديه في صورةِ تاجرٍ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بعتُ إبراهيم بن محمد بضاعةً ولم أقبِضْ ثمنَها منه، حتى أخَذَتْهُ رُسُلُك، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يجمعَ بيني وبينه لأطالبَهُ بمالي فعَل. قال: نعم. فأرسل به إليه مع غلام، فلما رآه قال: يا عدوَّ اللَّه، إلى مَنْ أوْصَيْتَ بعدَك آخُذُ مالي منه؟ فقال له: إلى ابنِ الحارثيَّة. يعني أخاه عبدَ اللَّه السفَّاح. فرجَعَ يقطينُ إلى الدعاة إلى بني العباس، فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفَّاح، فكان من أمرِهِ ما ذكَرْناه.

‌ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومئة

فيها كان مَهْلِكُ البَرامكة على يدَي الرشيد، قتَلَ جعفرَ بن يحيى بن خالد البَرْمَكي، ودَمَّرَ ديارَهم، واندرستْ آثارُهم، وذهب صغارُهم وكبارُهم. وقد اختُلف في سبَبِ ذلك على أقوال، ذكرها ابنُ جرير

(1)

البيت في ديوان بشار ص (235).

(2)

ترجمته في المنتظم لابن الجوزي (9/ 125)، النجوم الزاهرة (2/ 120).

ص: 462

وغيرُه من علماء التاريخ، فمِمَّا قيل: إنَّ الرشيد كان قد سلَّم يحيى بن عبد اللَّه بن حسن إلى جعفر البَرْمَكي لِيسجُنَهُ عندَه، فما زال يحيى يترفَّق له حتى أطلقَهُ جعفر، فنَمَّ الفضلُ بنُ الربيع في ذلك على جعفر إلى الرشيد، فقال له الرشيد: وَيْلَك! لا تدخُلْ بيني وبين جعفر، فلعلَّهُ أطلَقَهُ عن أمْرِي وأنا لا أشعُر. ثم سأل الرشيدُ جعفرًا عن ذلك، فصدَّقه، فتغيَّظَ عليه، وحلَفَ لَيَقتُلَنَه. وكرهَ البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعدَما كانوا أحظَى الناس عندَه وأحبَّهم إليه. وكانتْ أمُّ جعفر والفضل أمَّ الرشيد من الرَّضاعة، وقد جعلهم الرشيدُ من الرفعةِ في الدنيا وكثرةِ المال بسببِ ذلك شيئًا كثيرًا، لم يحصُلْ لِمَنْ قبلَهم من الوزراء، ولا لِمَنْ بعدَهم من الأكابر والرؤساء، بحيثُ إنَّ جعفرًا بَنَى دارًا غَرِمَ عليها عشرين ألفَ ألفِ درهم، وكان ذلك من جُملةِ ما نَقِمَهُ عليه الرشيد.

ويقال: إنما قتلهم الرشيدُ لأنه كان لا يَمُرُّ ببلدٍ، ولا إقليمٍ، ولا مزرعةٍ، ولا بستانٍ إلَّا قيل: هذا لِجعفر. ويُقال: إنَّ البرامكةَ كانوا يُريدون إبطالَ خلافةِ الرشيد، وإظهارَ الزَّنْدَقة. وقيل: إنما قتلهم بسببِ العبَّاسَة. ومن العلماء من أنكَرَ ذلك، وإنْ كان ابنُ جرير قد ذكرَه.

وذكر ابنُ الجوزي أنَّ الرشيد سُئل عن سببِ قتلِهِ البرامكَة فقال: لو أعلمُ أنَّ قميصي يعلَمُ ذلك لأحرقتُه. وقد كان جعفرٌ يدخلُ على الرشيد بغيرِ إذْن، حتى كان يدخُلُ عليه وهو في الفِراش مع حظاياه، وهذهِ وجاهةٌ عظيمة، ومَنْزِلةٌ عالية، وكان عندَهُ من أحظَى العُشَراء على الشراب المسكر -فإنَّ الرشيد كان يستعملُ في أواخرِ أيامِ خلافتِه المسكرَ وكأنَّه المختَلَفُ فيه- وكان أحبَّ أهلِهِ إليه العبَّاسةُ بنتُ المهدي، وكان يُحضِرُها معه، وجعفرٌ البرمكيُّ حاضرٌ أيضًا معَه، فزوَّجَهُ بِها لِيحلَّ النظر إليها، واشترطَ عليه أنْ لا يطأها، وكان الرشيدُ ربما قامَ وتركهما وهما ثَمِلانِ من الشراب، فربما واقَعَها جعفرٌ فحَبِلَتْ منه، فولدَتْ ولدًا وبعثَتْهُ مع بعضِ جواريها إلى مكة، وكان يُرَبَّى بِها.

وذكر ابنُ خَلِّكان في الوفيات أنَّ الرشيد لَمَّا زوَّجَ أختَهُ العبَّاسة من جعفر أحبَّها حُبًّا شديدًا، فراوَدَتْهُ عن نفسِه فامتَنع أشدَّ الامتناع خوفًا من الرشيد، فاحتالَتْ عليه، وكانت أمُّهُ تُهدي له في كلِّ ليلةِ جمعةٍ جارية حسناءَ بِكْرًا، فقالت: أدخِلِيني عليهِ بصفةِ جارية. فهابَتْ ذلك، فتهدَّدَتْها حتى فعلتْ ذلك، فلما دخلَتْ عليه لم يتَحَقَّقْ وجهَها، فواقَعَها، فقالتْ له: كيف رأيتَ خديعةَ بناتِ الملوك؟ وحملَتْ من تلك الليلة، فدخل على أُمِّه فقال: بعتيني واللَّهِ برخيص. ثم إنَّ والدَهُ يحيى بن خالد جعل يُضَيِّقُ على عيالِ الرشيد في النَّفَقَة، حتى شكَتْ زُبَيدةُ ذلك إلى الرشيد مرَّاتٍ، ثم أفشَتْ له سِرَّ العبَّاسة، فاستشاطَ غيظًا، ولما أخبرَتْهُ أنَّ الولدَ قد أرسلَتْ به إلى مكة، حجَّ عامَ ذلك حتى تحقَّقَ الأمر.

ويقال: إنَّ بعضَ الجواري نَمَّتْ عليها إلى الرشيد، وأخبرَتْهُ بما وقع، وأنَّ الولدَ بمكة، وعندَهُ جوارٍ وأموالٌ وحُلِيٌّ كثيرة، فلم يصدِّقْ حتى حجَّ في السنةِ الخالية، ثم كشَفَ الأمرَ عن الحال، فإذا هو كما ذُكر.

ص: 463

وقد حجَّ في هذه السنة التي حجَّ فيها الرشيدُ يحيى بنُ خالدٍ الوزير وقد استشعرَ الغضب من الرشيدِ عليه، فجعل يدعو عندَ الكعبة: اللهمَّ إنْ كان يُرضيِكَ عني سلبُ جميعِ مالي وولدي وأهلي فافعَلْ ذلك، وأبقِ عليَّ منهم الفضل. ثم خرج. فلما كان عند بابِ المسجد رجَعَ فقال: اللهمَّ والفضلُ معَهم، فإنِّي راضٍ برِضاك عني، ولا تستَثْنِ منهم أحدًا.

فلما قفَلَ الرشيدُ من الحجِّ صار إلى الحِيرة، ثم ركب في السُّفن إلى الغَمْرِ من أرضِ الأنبار، فلما كانتْ ليلةُ السبت، سَلْخَ المحرَّم من هذه السنة أرسل مسرورًا الخادمَ ومعه جَمَّاد بن سالم أبو عصمة في جماعةِ من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلًا، فدخل عليه مسرورٌ الخادم وعندَهُ بَخْتَيْشُوع المتطَبِّب وأبو زَكَّار

(1)

الأعمى المُغَنِّي الكَلْوَذاني، وهو في أمرِه وسرورِه وأبو زكَّار يُغنِّيه:

فلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتًى سيأتي

عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغَادِي

(2)

فقال الخادمُ له: يا أبا الفضل هذا الموتُ قد طرَقَك، أجِبْ أميرَ المؤمنين. فقام إليه يُقَبِّلُ قدمَيْه، ويدخُلُ عليه أنْ يُمكنَهُ فيدخلَ إلى أهلِهِ فيُوصِيَ إليهم ويُودِّعَهم، فقال: أمَّا الدخولُ فلا سبيلَ إليه، ولكنْ أوْصِ. فأوْصَى وأعتَقَ جميع مماليكِه أو جماعةً منهم، وجاءت رُسلُ الرشيدِ تستحِثُّه، فأُخرج إخراجًا عَنيفًا، فجعلوا يقودونه حتى أتَوْا به المَنْزِل الذي فيه الرشيد، فحبسَهُ وقيَّدَه بقيدِ حِمار، وأعلموا الرشيدَ بِما كان يفعل، فأمَرَ بضَرْبِ عُنقِه، فجاء السَّيَّافُ إلى جعفر فقال: إنَّ أميرَ المؤمنين قد أمرَني أنْ آتِيَهُ برأسِك. فقال: يا أبا هاشم، لعل أميرَ المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتَبَك فيّ. فعاوَدَهُ فرجَعَ إلى الرشيد، فقال: إنه يقولُ لعلَّك مشغول. فقال: يا ماصَّ بَظَرِ أمِّه، ائتني برأسِه. فكرَّرَ عليه جعفرٌ المقالةَ، فقال الرشيدُ في الثالثة: برئتُ من المهديِّ إنْ لم تأتِني برأسِه لأبعثَنَّ مَنْ يأتيني برأسِكَ ورأسِه. فرجع إلى جعفر، فحزَّ رأسَه وأتى به إلى الرشيد، فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيدُ من ليلتِه البُرُدَ بالاحتياطِ على البرامكةِ جميعِهم ببغدادَ وغيرِها، ومن كان منهم بسبيل. فأُخذوا كلُّهم عن آخرِهم، فلم يفْلتْ منهم أحد، وحُبس يحيى بنُ خالد في مَنْزلِه، وحُبس الفضلُ بن يحيى في مَنْزِلٍ آخر، وأُخذ جميعُ ما يَمْلِكونَهُ من الدنيا، وبعث الرشيدُ برأسِ جعفرٍ وجُثتِه، فُنصب الرأسُ عند الجِسْرِ الأعلى، وشُقَّتِ الجُثَّةُ باثنتَيْن، فنُصب نصفُها الواحدُ عند الجسرِ الأسفل، والأخر عند الجسرِ الآخر، ثم أُحرقَتْ بعدَ ذلك، ونُودِيَ في بغداد: أنْ لا أمانَ للبرامكة، ولا لِمَنْ آواهم، إلَّا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه مُستَثنًى منهم، لِنُصْحِهِ للخليفة. وأُتِي الرشيد بأنس بن أبي شيخ، كان يُتَّهَمُ بالزَّنْدَقة، وكان مُصاحبًا لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج

(1)

صحفت اللفظة في الأصول، والمثبت من تاريخ الطبري (4/ 661)، والإكمال لابن ماكولا (4/ 187).

(2)

الخبر والبيت في الأغاني (7/ 246) في ترجمة أبي زكار الأعمى.

ص: 464

الرشيدُ من تحتِ فراشِهِ سيفًا وأمر بضربِ عُنقِه به، وجعل يتمثَّلُ ببيتٍ قيل في قتل أنسٍ قبلَ ذلك:

تلمَّظَ السيفُ من شوقٍ إلى أنس

فالسيفُ يلحَظُ والأقدارُ تنتظِرُ

فضُربَتْ عُنقُ أنس، فسبَقَ السيفُ الدَّمَ، فقال الرشيد: رحمَ اللَّه عبدَ اللَّه بن مُصعَب. فقال الناس: إنَّ السيفَ كان للزُّبير بنِ العوَّام. ثم شُحنت السجونُ بالبرامكة، واستُلبَتْ أموالُهم كلُّها، وزالتْ عنهمُ النِّعمة. وقد كان الرشيدُ في اليوم الذي قتل جعفرًا في آخرِه هو وإيَّاهُ راكبَيْنِ في الصَّيد في أوَّله، وقد خلا به دون ولاةِ العُهود، وطيَّبَهُ في ذلك بالغالية بيدِه، فلما كان وقتُ المغرب ودَّعَهُ الرشيدُ وضَمَّهُ إليه وقاله: لولا أنَّ الليلةَ ليلةُ خلوتي بالنساء ما فارقتُك، فاذهبْ إلى مَنْزِلك، واشرَبْ واطرَبْ وطِبْ عيشًا، حتى تكونَ على مثلِ حالي، فأكون أنا وأنتَ في اللذَّةِ سواءً. فقال: واللَّه يا أميرَ المؤمنين، لا أشتهي ذلك إلَّا معَك. فقال: لا، انصرِفْ إلى مَنْزلك. فانصرَفَ عنه جعفر. قما هو إلَّا أنْ ذهب من الليلِ بعضُه حتى أوقعَ به من البأسِ والنَّكالِ ما تقدَّم ذكرُه، وكان ذلك ليلةَ السبت، آخرَ ليلةٍ من المحرَّم، وقيل: إنَّها أولُ ليلةٍ من صَفَر في هذه السنة، كان عمرُ جعفرٍ إذْ ذاك سبعًا وثلاثين سنة. ولما جاء الخَبرُ إلى أبيه يحيى بنِ خالد بقتلِه: قال: قتَلَ اللَّه ابنَه. ولما قيل له: قد خَرِب دارُك. قال: خرَّب اللَّه دورَه. ويقال: إنَّ يحيى لما نظر إلى دُوره وقد هُتكتْ ستورُها، واستُبِيحتْ قصورُها، وانتُهب ما فيها قال: هكذا تقومُ الساعة. وقد كتَبَ إليه بعضُ أصحابه يُعزِّيِه فيما جرى له، فكتب إليه جوابَ التعزية: أنا بقضاء اللَّه راضٍ وباختيارِهِ عالِم، ولا يؤاخِذُ اللَّه العبادَ إلَّا بذنوبهم، وما اللَّه بظلَّامٍ للعبيد، وما يغفِرُ اللَّه أكثَرُ، وللَّه الحمد. وقد أكثر الشعراءُ من المراثي في البرامكة، فمن ذلك قولُه الرَّقَاشي، وقيل: إنَّها لأبي نُوَاس:

الآن استرَحْنا واستراحَتْ رِكَابُنَا

وأمسَكَ مَنْ يُجْدي ومَنْ كان يَجْتَدي

فقلْ للمَطايَا قد أمِنْتِ من السُّرَى

وطَيَّ الفيافي فَدْفَدًا بعدَ فَدْفَدِ

وقلْ للمنايا قد ظَفِرْتِ بجعفرٍ

ولن تَظْفَري من بعد بِمُسَوَّدِ

وقلْ للعطايا بعد فضل تعَطَّلي

وقلْ للرزايا كلَّ يومٍ تَجَدَّدي

ودونكِ سيفًا برمكيًا مُهَنَّدًا

أُصيبَ بسيفٍ هاشميٍّ مُهنَدِ

(1)

وقال الرَّقَاشيُّ وقد نظرَ إلى جعفرٍ وهو على جذْعه:

أمَا واللَّهِ لولا خوفُ واشٍ

وعينٌ للخليفةِ لا تنامُ

لَطُفْنا حولَ جِذْعِكَ واستلَمْنا

كما للناسِ بالحجَرِ استلامُ

فما أبصرتُ قبلكَ يا بن يَحيى

حُسامًا فَلَّهُ السيفُ الحسامُ

(1)

الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (4/ 664)، والكامل لابن الأثير (5/ 330)، ووفيات الأعيان (1/ 346).

ص: 465

على اللذَّات والدنيا جميعًا

ودولةِ آلِ بَرْمَكٍ السلام

(1)

قال: فاستدعاهُ الرشيدُ فقال له: كم كان يُعطِيكَ جعفرٌ كلَّ عام؟ قال: ألفَ دينار، فأمر له بألفَيْ دينار.

وقال الزُّبير بن بكار عن عَمِّه مصعب الزُّبيري قال: لما قتل الرشيدُ جعفرًا وقفتِ امرأةٌ على حمارٍ فارِهٍ فقالتْ بلسانٍ فصيح: واللَّه يا جعفر، لئن صرتَ اليوم آيةً لقد كنتَ في المكارم غاية. ثم أنشأتْ تقول:

ولما رأيتُ السيفَ خالَطَ جعفرًا

ونادَى منادٍ للخليفةِ في يحيى

بكَيْتُ على الدنيا وأيقنتُ أنَّما

قُصَارَى الفتى يومًا مُفارقةُ الدنيا

وما هي إلَّا دولةٌ بعدَ دولةٍ

تُخَوِّلُ ذا نُعْمَى وتُعْقِبُ ذا بَلْوَى

إذا أنزلَتْ هذا منازلَ رفعةِ

من المُلكِ حَطَّتْ ذا إلى الغايةِ القُصْوَى

قال: ثم حرَّكَتْ حمارَها فذهبَتْ. فكأنها كانتْ ريحًا لا أثَرَ لها، ولا يُعرف أين ذهبَتْ.

وذكر ابنُ الجوزي

(2)

، أنَّ جعفرًا كان له جاريةٌ يُقالُ لها فَتِينَة، مُغَنِّية، لم يكنْ لَها في الدُّنيا نظير، كان مُشتراها عليه بِمَنْ معها من الجواري مئة ألف دينار، فطلبَها منه الرشيدُ فامتنَعَ من ذلك، فلما قتَلَهُ الرشيدُ اصطَفَى تلك الجارية، فأحضَرَها ليلةً في مجلسِ شرابه، وعنده جماعةٌ من جُلسائهِ وسُمَّارِه، فأمَرَ مَنْ معَها أنْ يُغَنِّين. فاندفعَتْ كل واحدةٍ تُغَنِّي حتى انتهَتِ النَّوْبَةُ إلى فَتِينَة، فأمرَهَا بالغِناء فأسبلَتْ دمعَها وقالتْ: أمَّا بعدَ السادَةِ فلا. فغَضِبَ الرشيدُ غضبًا شديدًا، وأمرَ بعضَ الحاضرين أنْ يأخذَها إليه، فقد وهَبَها له. ثم لَمَّا أراد الانصرافَ قال له فيما بينه وبينه: لا تطَأْها. ففَهِمَ أنه يُريد بذلك كسرَها. فلما كان بعد ذلك، أحضرَها وأظهرَ أنه قد رَضِي عنها، وأمرَها بالغناء فامتنعَتْ وأرسلَتْ دمعَها وقالت: أمَّا بعد السادةِ فلا. فغَضِبَ الرشيدُ أشدَّ من غَضَبِهِ في المرَّةِ الأولى وقال: النِّطْعَ والسيف. وجاء السيَّاف، فوقف على رأسها، فقال له الرشيد: إذا أمرتُكَ ثلاثًا وعَقدتُ أصابعي ثلاثًا فاضرِبْ. ثم قال: غَنِّي. فبكَتْ وقالتْ: أمَّا بعدَ السادِة فلا. فعقَدَ أصبعَهُ الخِنْصَر، ثم أمرَها الثانيةَ فامتنعَتْ، فعقَدَ اثنتَيْن، فارتعَدَ الحاضرونَ وأشفقوا غايةَ الإشفاق، وأقبلوا عليها يسألونَها أنْ تغنِّيَ لئلا تقتلَ نفسَها، وأنْ تُجيبَ أميرَ المؤمنينَ إلى ما يُريد، ثم أمرها الثالثة، فاندفعَتْ تُغَنِّي كارهةً:

لَمَّا رأيتُ الدِّيار قد دَرَّسَتْ

أيقنتُ أنَّ النعيمَ لم يَعُدِ

قال: فوثب إليها الرشيد، وأخذ العُودَ من يدِها، وأقبل يضرب به وجهَها ورأسَها، حتى تكسَّر، وأقبلتِ الدماء، وتطايرتِ الجواري من حولِها، وحُملت من بين يديه، فماتَتْ بعدَ ثلاث.

(1)

الأبيات في تاريخ بغداد (7/ 158)، والمنتظم لابن الجوزي (9/ 126)، ووفيات الأعيان (1/ 340).

(2)

في المنتظم (9/ 130).

ص: 466

ورُوي أنَّ الرشيد كان يقول: لعَنَ اللَّه مَنْ أغراني بالبرامكة، فما وجدتُ بعدَهم لذَّةً ولا راحةً ولا رجاءً، وَدِدْتُ واللَّهِ أني شطَرْتُ نصفَ عُمري، ومُلكي، وأنِّي تركتُهم على حالِهم.

وحكى ابنُ خَلِّكان، أنَّ جعفرًا اشترى جاريةً من رجلٍ بأربعين ألفَ دينار، فالتفَتتْ إلى بائعها وقالتْ: اذكُرِ العهدَ الذي بيني وبينَك. لا تأكُلْ من ثَمَني شيئًا. فبَكَى سيِّدُها وقال: اشهدوا أنها حُرَّة وأنِّي قد تزوَّجْتُها. فقال جعفر: اشهدوا أنَّ الثمنَ له أيضًا.

وكتب إلى نائبٍ له: أمَّا بعد، فقد كَثُرَ شاكوك، وقلَّ شاكروك، فإمَّا أنْ تَعدِل، وإمَّا تَعْتَزِل.

ومن أحسَنِ ما وقَعَ منه من التلطُّف في إزالةِ هَمِّ الرشيد، وقد دخل عليه مُنَجِّمٌ يهوديّ، فأخبَرَهُ أنه سيموتُ في هذه السنة، فحمَلَ الرشيدُ هَمًّا عظيمًا، فدخل عليه جعفر فسأله؛ ما الخبر؟ فأخبرَهُ بقولِ اليهودي، فاستدعَى جعفرٌ اليهوديَّ فقال له: كم بقيَ لكَ من العُمر؟ فذكر مدَّةً طويلة، فقال: يا أميرَ المؤمنين اقتُلْهُ حتى تعلمَ كَذِبَهُ فيما أخبَرَ عن عُمره. فأمر الرشيدُ باليهوديِّ فقُتل، وسُرِّيَ عن الرشيدِ الذي كان فيه.

وبعد مقَتلِ البرامكة قتل الرشيدُ إبراهيمَ بن عثمان بن نَهِيك، وذلك أنَّهُ حَزِنَ على البرامكة، ولا سيما جعفر، كان يُكثر البكاءَ عليهم، ثم خرج من حَيِّزِ البكاء إلى حَيِّزِ الانتصار لهم، والأخذِ بثأرهم. وكان إذا شرب في مَنْزله يقولُ لِجاريته: ائتني بسيفي. فيَسُلُّهُ ثم يقول: واللَّهِ لأقتلَنَّ قاتِلَه، فأكثَرَ أن يقولَ ذلك، فخَشِيَ ابنُه عثمانُ أنْ يطَّلِعَ الخليفةُ على ذلك فيُهلِكَهم عن آخرِهم، ورأى أنَّ أباهُ لا يَنْزِعُ عن هذا، فذهب إلى الفَضْلِ بن الربيع فاعلمَه، فأخبرَ الفضلُ الخليفة، فاستدعى به، فاستخبرَهُ فأخبرَه، فقال: مَنْ يشهَدُ معَكَ عليه؟ فقال: فلانٌ الخادم. فجاء به فشَهِد، فقال الرشيد: لا يَحِلُّ قتلُ أميرٍ كبير، بِمُجَرَّدِ قولِ غلامٍ وخَصِيّ، لعلَّهما قد تواطأا على ذلك، فأحضَرَهُ الرشيدُ معه على الشراب، ثم خلا به فقال: ويحكَ يا إبراهيم، إنَّ عندي سِرًّا أُحِبُّ أنْ أُطلِعَكَ عليهِ أقلَقَني في الليلِ والنهار. قال: وما هو؟ قال: إنِّي نَدِمْتُ على قتلِ البرامكة، ووَدِدْتُ أني خرجتُ من نصفِ مُلْكي ونصفِ عُمري ولم أكنْ فعلتُ بِهم ما فعلت، فإني لم أجدْ بعدَهم لذَّةً ولا راحة. فقال: رحمةُ اللَّه على أبي الفضل -يعني جعفرًا- وبكى وقال: واللَّه يا سيدي لقد أخطأتَ في قتلِه. فقال له: قُمْ لعنَكَ اللَّه. ثم حبسه ثم قتَلَهُ بعد ثلاثةِ أيام. وسَلِمَ أهلُهُ وولَدُه.

وفي هذه السنةِ غَضِبَ الرشيدُ على عبدِ الملك بن صالح بسببِ أنَّهُ بلَغَهُ أنه يُريدُ الخلافة. واشتدَّ غضَبُه بسَبَبِه على البرامكةِ الذين هم في الحُبوس، ثم سجَنَه، فلم يزل في السجنِ حتى مات الرشيد، فأخرَجَهُ الأمين، وعقَدَ له على نيابةِ الشام.

وفيها ثارَتْ العصَبِيةُ بالشام بين المُضَرِيَّةِ والنِّزاريَّة، فبعث إليهمُ الرشيدُ محمدَ بن منصور بن زياد، فأصلح بينهم.

ص: 467

وفيها كانت زلزلةٌ عظيمة بالمِصِّيصَة، فانهدَمَ بعضُ سورِها، ونَضَبَ ماؤها ساعةً من الليل.

وفيها بعث الرشيدُ ولدَهُ القاسِمَ على الصائفة، وجعَلَهُ قُرْبانًا ووسيلةً بين يديه، وولَّاهُ العَوَاصم. فسار إلى بلادِ الرُّوم فحاصرَهَم حتى افتَدَوْا بِخَلْقٍ من الأسَارَى، يُطِلقُونَهم، ويَرْجِعُ عنهم. ففعَلَ ذلك.

وفيها نقَضَتِ الرُّوم الصُّلحَ الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقَدَهُ الرشيدُ بينه وبِنَ رينى

(1)

مَلِكَةِ الروم، الملقبة أغسطه. وذلك أنَّ الرُّومَ عَزَلوها عنهم، ومَلَّكُوا عليهمُ النَّقْفُور، وكان شجاعًا، يقال: إنه من سُلالةِ آلِ جَفْنَة، فخلعوا رينى وسَمَلوا عينيْهَا، فكتب نَقْفُور إلى الرشيد:

من نَقْفُور ملكِ الرُّوم إلى هارونَ ملِكِ العرب، أمَّا بعد، فإنَّ الملكةَ التي كانتْ قبلي أقامَتْكَ مقامَ الرُّخّ

(2)

، وأقامَتْ نفسَها مقامَ البَيْدَق، فحملَتْ إليك من أموالِها ما كنتَ حقيقًا بحَمْلِ أمثالِهِ إليها، وذلك من ضَعْفِ النساءِ وحُمقِهِنَّ. فإذا قرأتَ كتابي هذا فارْدُدْ إليَّ ما حملَتْهُ إليكَ من الأموال، وافتدِ نفسَك به، وإلَّا فالسيفُ بيننا وبينَك.

فلما قرأ هارونُ الرشيدُ كتابَه أخَذَهُ الغضَبُ الشديد، حتى لم يتمكَّنْ أحدٌ أنْ ينظُرَ إليه، ولا يستطيعُ مخاطبتَه، وأشفَقَ عليه جلساؤه خوفًا منه، ثم استدعى بدواةٍ وكتب على ظهرِ الكتاب:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من هارونَ أميرِ المؤمنين إلى نقفور كلبِ الرّوم. قد قرأتُ كتابَك يا ابنَ الكافرة، والجوابُ ما تراهُ دونَ ما تسمَعُه. والسلام.

ثم شخَصَ من فَوْرِه، وسار حتى نزَلَ ببابِ هِرَقْلَة ففتحها

(3)

، واصطفَى ابنةَ مَلِكِها، وغَنِمَ من

(1)

تصحفت في (ق) إلى: "رنى"، وما أثبتناه من (ب، ح) والطبري وغيره.

(2)

"الرُّخّ": من أداة الشطرنج، وهو أكبر مَنْزلةً من البيدق، وهو معرّب من كلام العجم. انظر لسان العرب (رخخِ).

(3)

"هِرَقلة" -بالكسر ثم الفتح-: مدينة ببلادِ الروم، سُميت بهرْقلة بنتِ الرُّوم بن اليفز بن سام بن نوح عليه السلام. وكان الرشيدُ غزاها بنفسه، ثم افتتحها عَنْوةً بعدَ حصارٍ وحَرْبٍ شديد، ورمى بالنارِ والنِّفْط، حتى غلب أهلها. فلذلك قال المكي الشاعر:

هَوَتْ هِرَقْلةُ لَمَّا أنْ رأتْ عَجَبا

جوَّ السما تَرْتَمي بالنِّفْطِ والنارِ

كأَنَّ نيراننَا في جنب قلعتِهم

مُصَبَّغات على أرسانِ قصَّارِ

ثم قَدِم الرقَّة في شهرِ رمضان، فلما عيَّد جلسَ للشعراء فدخلوا عليه وفيهم أشجع السُّلَمي، فبدر فأنشد:

لا زلتَ تنشُرُ أعيادًا وتطويها

تمضي لها بك أيامٌ وتُمضيها

ولا تقضَّتْ بك الدنيا ولا بَرِحَتْ

يَطْوي بك الدهرُ أيامًا وتطْويها

لِيَهْنِكَ الفتحُ والأيامُ مُقبلةٌ

إليك بالنصرِ معقودًا نواصيها

أمْسَتْ هِرَقْلةُ تهْوي من جوانبِها

وناصرُ اللَّه والإسلامِ يرميها

مَلَكْتَها وقتلتَ الناكثين بها

بنصرِ منْ يَمْلِكُ الدنيا وما فيها =

ص: 468

الأموال شيئًا كثيرًا، وخرَّبَ وأحرَق. فطلبَ نقفور منه الموادَعَةَ على خراجٍ يؤدِّيِه إليه في كلِّ سنة. فأجابَهُ الرشيدُ إلى ذلك، فلما رجَعَ من غَزْوَتِه وصار بالرَّقَّة، نقَضَ الكافِرُ العَهْدَ وخانَ المِيثاق، وكان البَرْدُ قد اشتدَّ جدًّا، فلم يقدِرْ أحَدٌ أنْ يَجِيءَ فيُخبِرَ الرشيدَ بذلك لِخَوْفهم على أنفسِهم من البَرْد، حتى يَخرُجَ فصلُ الشتاء.

وحجَّ بالناس فيها عبدُ اللَّه بن عباس بن محمد بن علي.

‌ذكرُ من تُوفِّي فيها من الأعيان:

جعفر بن يحيى بن خالد بن بَرمك

(1)

أبو الفضل البَرْمَكي، الوزيرُ ابنُ الوزير؛ ولَّاهُ الرشيدُ الشامَ وغيرَها من البلاد؛ وذكر ابنُ عساكر

(2)

، أنَّ الرشيد بعثهُ إلى دمشق لمَّا ثارَتِ الفتنةُ العِشْرَيْن

(3)

بحوران بين قيسٍ ويَمَن، وكان ذلك أولَ نارٍ ظهرَتْ بين قيسٍ ويَمنٍ في بلاد الإسلام، كان خامدًا من زَمَنِ الجاهليَّة، فأثاروهُ في هذا الأوان، فلما قَدِم جعفرٌ بجيشه خَمَدتِ الشُّرور، وظهر السرور، وقيلتْ في ذلك أشعارٌ حِسَان؛ قد ذكر ذلك ابنُ عساكر في ترجمةِ جعفر من تاريخ

(4)

، منها:

لقد أُوقِدَتْ في الشام نيرانُ فتنةٍ

فهذا أوانُ الشامِ تُخْمَدُ نارها

إذا جاشَ مَوْجُ البحرِ من آلِ برمَكٍ

عليها خَبَتْ شُهْبَانُها وشَرَارُها

رماها أميرُ المومنينَ بجعفرٍ

وفيه تلاقَى صَدْعُها وانْجبارُها

رماها بميمون النقيبةِ ماجدٍ

تَرَاضَى بهِ قحطانُها ونِزَارُها

= ما رُوعي الدينُ والدنيا على قدَمٍ

بمثلِ هارونَ راعيهِ وراعيها

فأمر له بعشرةِ آلاف دينار، وقال: لا يُنشدني أحدٌ بعدَه بشيء. فقال أشجع: واللَّه لأمرُهُ ألَّا يُنشده أحدٌ من بعدي أحبُّ إليَّ من صِلَتِه. وكان في السبي الذي سُبي مِن هِرَقلة ابنةُ بطْريقها، وكانتْ ذاتَ حسنٍ وجمال، فنُودي عليها في المغانم، فزاد عليها صاحبُ الرشيد، فصادفتْ منه مَحَلًّا عَظيمًا، فنقلها معه إلى الرقة، وبنى لها حِصْنًا بين الرافقة وبالِس على الفرات، وسمَّاهُ هِرَقْلة، يَحكي بذلك هرقلةَ التي ببلاد الروم. وبقي الحصنُ عامرًا مدَّةً حتى خَرِب، وآثاره إلى وقتنا ذا باقية؛ وفيه آثارُ عمارةٍ وأبنيةٍ عجيبة، وهو قُرْب صفِّين من الجانب الغربي. معجم البلدان (5/ 398، 399).

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (7/ 152)، المنتظم (9/ 140)، وفيات الأعيان (1/ 328)، مختصر تاريخ ابن عساكر (6/ 98)، سير أعلام النبلاء (9/ 59)، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (1/ 243).

(2)

انظر مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (6/ 98)، وترجمته ليست فيما طبع من تاريخ ابن عساكر، وهي من ضمن الأجزاء المفقودة منه.

(3)

في (ح): العشران. وعليه.

(4)

انظر الحاشية قبل السابقة.

ص: 469

هو الملِكُ المأمولُ للبِرِّ والتُّقَى

وصَوْلاتُهُ لا يُستطاع خِطَارُها

وزيرُ أميرِ المؤمنينَ وسيفُهُ

ومُدْيَتُهُ

(1)

والحربُ تَدْمى شِفَارُها

ومنْ تُطْوَ أسرارُ الخليفةِ دونَهُ

فعندَكَ مأواها وأنتَ قرارُها

إذا ما ابنُ يحيى جعفرٌ قُصِدَتْ لَهُ

ملِمَّاتُ خَطْبٍ لم تَرُعْهُ كِبَارُها

لقد نشأتْ بالشامِ منكَ غمامةٌ

يؤمَّلُ جَدْواها ويُخْشى دَمارُها

وهي قصيدةٌ طويلة، اقتصرنا منها على هذا القَدْر

(2)

.

وكانتْ له فصاحة وبلاغةٌ وذكاءٌ وكرمٌ زائد؛ كان أبوهُ قد ضمَّهُ إلى القاضي أبي يُوسُف، فتفَقَّهَ عليه، وصار له اختصاصٌ بالرَّشيد. وقد وقَعَ ليلةَ بحضرَةِ الرشيد زيادةً على ألفِ توقيع، ولم يَخرجْ في شيءٍ منها عن مُوجبِ الفقه.

وقد روى الحديثَ عن أبيه، عن عبد الحميدِ الكاتب، عن عبد الملكِ بنِ مروان، كاتبِ عثمان، عن زيد بن ثابت، كاتبِ الوحي قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كتبتَ بسم اللَّه الرحمن الرحيم فبَيِّنِ السينَ فيه". رواه الخطيب وابنُ عساكر من طريق أبي القاسم الكَعْبي المتكلِّم، واسمه عبدُ اللَّه بنُ أحمد البَلْخي؛ وقد كان كاتبًا لمحمد بن زيد، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن طاهر بن الحسين بن [مُصْعَب بن] رزيق

(3)

، عن الفَضْلِ بن سهل ذي الرِّياستَيْن، عن جعفر بن يحيى، به

(4)

.

وقال عمرو بن بحر الجاحظ: قال جعفرٌ للرشيد: يا أميرَ المؤمنين، قال لي أبي يحيى: إذا أقبلَتِ الدنيا عليك فأعْطِ، فإنها لا تَفنى، وإذا أدبرَتْ فأعطِ، فإنَّها لا تبقى. وأنشدَني أبي:

لا تبخلَنَّ لدُنيا وهي مُقبلةٌ

فليس يَنْقصها التبذيرُ والسَّرَفُ

فإن تولَّت فأحرى أنْ تجودَ بها

فالحمدُ منها إذا ما أدبرَتْ خَلَفُ

(5)

قال الخطيب

(6)

: ولقد كان جعفرٌ من عُلُوِّ القَدْر، ونَفَاذِ الأمْر، وعِظَمِ المَحلّ، وجلالةِ المَنْزِلة عندَ الرشيد على حالةٍ انفَرَد بها، ولم يشارِكْهُ فيها أحد. وكانَ سَمْحَ الأخلاق، طَلْقَ الوَجْه، ظاهرَ البِشْر.

(1)

المدية: السكين والشفرة، ورواية الديوان:"وصعدته".

(2)

وقد سبق للمؤلف أن ذكر منها أربعة أبيات في ص 442 وذكرتُ ثمة أن القصيدة لمنصور النمري وهي في ديوانه.

(3)

تصحف في الأصول إلى "زريق"، والمثبت من الإكمال لابن ماكولا (4/ 51) في ترجمته.

(4)

أخرجه بهذا الاسناد الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 340)، وما بين معقوفين منه. وذكر الحديث أيضًا الديلمي في الفردوس (1/ 278) برقم (1087)، والمناوي في فيض القدير (1/ 433)، وإسناده ضعيف، وهو إلى الوضع أقرب كما بينه الدكتور بشار في تعليقه على طبعته من تاريخ الخطيب (14/ 299).

(5)

الخبر والبيتان في مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (6/ 98).

(6)

في تاريخ بغداد (7/ 152).

ص: 470

أمَّا جودُهُ وسخاؤه، وبَذلُهُ وعطاؤه، فأشهرُ منْ أنْ يُذكَر. وكان أيضًا من ذوي الفصاحة، والمذكورينَ [باللَّسَنِ] والبلاغة.

وروى ابنُ عساكر

(1)

عن مُهَذَّب حاجب العباس بن محمد، صاحبِ قَطيعةِ العبَّاس والعباسة، أنه أصابَتْهُ فاقةٌ وضائقة، وكان عليه ديون، فألحَّ عليه المطالبون وعندَهُ سَفَطٌ فيه جواهر، شراؤه عليه ألفُ ألف درهم، فأتى به جعفرًا، فعرَضَهُ عليه، وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاحِ المطالبينَ بديونِهم، وأنه لم يبقَ له سوى هذا السَّفَط. فقال: قد اشتريتُهُ منك بالفِ ألف. ثم أقبَضَهُ المالَ وقبَضَ السَّفَط منه، وكان ذلك ليلًا، ثم أمر من ذهب بالمالِ إلى مَنزله، وأجلسَهُ معه في السَّمَرِ تلك الليلة؛ فلما رجَعَ إلى مَنْزله، إذا السفَطُ قد سبقَهُ إلى مَنْزله أيضًا. قال: فلمَّا أصبحتُ غدَوْتُ إلى جعفر لأتشكَّر له، فوجدتُه مع أخيه الفضل على بابِ الرشيدِ يستأذنُ عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرتُ أمرَكَ للفضل، وقد أمرَ لك بألفِ ألف، وما أظنُّها إلَّا قد سبقَتْكَ إلى مَنْزلك، وسأفاوضُ فيك أميرَ المؤمنين. فلما دخل ذكر له أمرَهُ وما لَحِقَهُ من الديون، فأمرَ له بثلاثِمئةِ ألفِ دينار.

وكان جعفرٌ ليلةً في سَمَرِه عند بعضِ أصحابِه، فجاءتِ الخُنْفُساءُ فركبتْ ثيابَ الرجل، فألقاها عنه جعفرٌ وقال: إن النَّاسَ يقولون: من قصدَتْهُ الخُنفساء يُبَشَّرُ بمالٍ يُصيبُه. فأمر له جعفرٌ بألفِ دينار. ثم عادتِ الخُنفساء فرجَعَتْ إلى الرجل، فأمر له بألفِ دينارٍ أخرى.

وحجَّ مرَّةً مع الرشيد، فلما كانوا بالمدينة، قال لرجلٍ من أصحابِه: انظُرْ جاريةً أشتريها، تكونُ فائقةً في الجمالِ والغِنَاءَ والدُّعابَة. ففتَّش الرجلُ، فوَجَدَ جاريةً على النَّعْت؛ فطلب سيدُها فيها مالًا كثيرًا، على أنْ يراها جعفرٌ فذهب جعفر إلى مَنْزِل سيدِها، فلما رآها أُعجب بها، فلما غنَّتْه، أعجبَتْهُ أكثر، فساوَمَهُ صاحبُها فيها، فقال له جعفر: قد أحضَرْنا مالًا، فإنْ أعجَبكَ وإلَّا زِدْناك. فقال لها سيدُها: إنِّي كنتُ في نعمة، وكنتِ عندي في غايةِ السُّرور، وإنه قد انقبَضَ عليَّ حالي، وإني قد أحببتُ أنْ أبيعَكِ لهذا المَلِك، لكي تكوني عندَهُ كما كنتِ عندي. فقالتْ له الجارية: واللَّه يا سيدي لو ملكتُ منكَ كما ملكتَ مني لم أبِعْكَ بالدنيا وما فيها؛ وأين ما كنتَ عاهَدْتَني أنْ لا تبيعَني، ولا تأكُلَ من ثمني؟ فقال سيدها لِجعفرٍ وأصحابِه: أُشهدُكُمْ أنَّها حُرَّةٌ لوجهِ اللَّه، وأنِّي قد تزوَّجْتُها. فلما قال ذلك: نَهضَ جعفرٌ وقام أصحابُه، وأمروا الحمَّالَ أنْ يحملَ المال، فقال جعفر: واللَّهِ لا يتَّبِعُني. وقال للرجل: قد مَلَّكْتُكَ هذا المال، فأنفِقْهُ على أهلِك. وذهبَ وترَكَه.

هذا وقد كان يُبَخَّلُ بالنسبةِ إلى أخيه الفضل، إلَّا أن الفضلَ كان أكثرَ منه مالًا. ورَوَى ابنُ عساكر من

(1)

انظر مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (6/ 100).

ص: 471

طريقِ الدَّارَقُطْنيِّ بسندِه، أنه لما أصيب جعفرٌ وجدوا له في جرَّةٍ ألفَ دينار، زِنَةُ كلِّ دينار مئةُ دينار، مكتوبٌ على صفحةِ الدينار جعفر، والأخرى:

وأصفَر من ضَرْبِ دارِ الملوكِ

يَلُوحُ على وجْهِهِ جعفَرُ

يَزيدُ على مئةٍ واحدًا

متى تُعْطِهِ مُعْسرًا يُوسِرُ

وقال أحمد بن المعَلَّى الراوية: كتبَتْ عنانُ جاريةُ الناطِفيِّ لجعفرٍ تطلُبُ منه أنْ يقولَ لأبيه يحيى أنْ يُشيرَ على الرشيد بشرائها. وكتبَتْ إليه هذه الأبيات من شعرِها في جعفر:

يا لائمي جهلًا ألا تُقْصرُ

منْ ذا على حرِّ الهوَى يَصْبرُ

لا تَلْحَني إذا شربتُ الهوَى

صِرفًا فمَمْزوجُ الهوَى يُسْكِرُ

أحاطَ بي الحبُّ فخَلْفي لَهُ

بَحْرٌ وقُدَّامِي لَهُ أبْحُرُ

تَخفقُ راياتُ الهوَى بالرَّدَى

فَوْقي وحَوْلي للهوى عَسْكرُ

سِيان عندي في الهوَى لائمٌ

أقَلَّ فيهِ والذي يَكْثُرُ

أنتَ المصفَّى من بني بَرْمكٍ

يا جعفرَ الخيراتِ يا جعفرُ

لا يَبْلُغُ الواصفُ في وَصْفِهِ

ما فيكَ من فضل ولا يَعْشُرُ

(1)

مَنْ وَفَّرَ المالَ لأغراضِهِ

فجعفَرٌ أغراضُهُ أوْفَرُ

دِيباجَةُ المُلْكِ على وجهِهِ

وفي يديهِ العارضُ المُمْطرُ

سَحَّتْ علينا منهما دِيْمةٌ

يَنْهلُّ منها الذَّهَبُ الأحمرُ

لو مَسَحتْ كفَّاهُ جُلْمُودةً

نُضِّرَ فيها الورَقُ الأخضرُ

لا يَسْتَتِمُ المجدَ إلَّا فَتًى

يَصْبرُ للبَذْلِ كما يَصْبِرُ

يَهْتزُّ تاجُ المُلْكِ من فَوْقِه

فَخرًا ويُزْهَى تحتَهُ الْمِنْبَرُ

أشبَهَهُ البَدْرُ إذا مَا بَدَا

أوْ غُرَّةٌ في وَجْههِ تَزْهرُ

واللَّه ما أدْري أبَدْرُ الدُّجَى

فِي وَجْههِ أمْ وَجْههُ أنْورُ

يَسْتَمْطرُ الزُّوَّارُ منكَ النَّدَى

وأنتَ بالزُّوارِ تَسْتَبْشرُ

وكتبتْ تحتَ أبياتِها حاجتَها. فرَكِبَ من فَوْرِهِ إلى أبيه، فأدخَلَهُ على الخليفة، فأشارَ عليهِ بشرائها، فقال: لا واللَّه لا أشتريها. وقد قال فيها الشعراءُ فأكثروا، واشتهَرَ أمرُها، وهي التي يقولُ فيها أبو نُواس:

(1)

لا يعشر: أي لا يأتي على ذكرِ العُشرِ من فضلك.

ص: 472

لا يشتريها إلَّا ابنُ زانيةٍ

أو قَلْطَبَانُ

(1)

يكونُ منْ كانا

وعن ثُمامةَ بنِ أشْرَس قال: بتُّ ليلةً مع جعفر بن يحيى بنِ خالد، فانتبه من منامِهِ يَبْكي مَذْعورًا، فقلت: ما شأنُك؟ قال: رأيتُ شيخًا جاء فأخذَ بِعَضَادَتَيْ هذا البابِ وقال:

كأنْ لم يكنْ بين الحَجُونِ إلى الصَّفَا

أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكَةَ سامرُ

قال: فأجبتُهُ:

بَلَى نحنُ كُنَّا أهلَها فأبادَنَا

صروفُ الليالي والجدودُ العواثِرُ

(2)

قال ثُمَامة: فلما كانتِ الليلةُ القابلة، قتلَهُ الرشيد، ونصَبَ رأسَهُ على الجسر. ثم خرج الرشيد، فنظر إليه فتأمَّلَه، ثم أنشأ يقول:

تقاضاكَ دَهْرُكَ ما أسْلَفَا

وكُدِّرَ عيشُكَ بعدَ الصَّفَا

فلا تَعْجَبَنَ فإنَّ الزمانَ

رَهينٌ بتفريقِ ما ألَّفَا

قال: فنظرتُ إلى جعفرٍ وقلت: أمَا لئنْ أصبَحْتَ اليومَ آية، فلقد كنتَ في الكرَمِ والجودِ غاية. قال: فنظَرَ إليَّ كأنَّهُ جَملٌ صَؤول، ثم أنشأ يقول:

ما يَعْجبُ العالَمُ من جعفرٍ

ما عايَنُوهُ فبِنَا كانا

مَنْ جعفرٌ أوْ مَنْ أبوهُ ومَنْ

كانتْ بنو بَرْمكٍ لولانا

ثم حَوَّلَ وَجْهَ فرسِهِ وانصرف.

وقد كان مَقْتلُ جعفرٍ ليلةَ السبت، مُستهلَّ صفَر، من سنةِ سبع وثمانين ومئة. وكان عمرُه سبعًا وثلاثين سنة. ومكَثَ وزيرًا سبعَ عشرةَ سنةً. وقد دَخَلَتْ عُبادةُ أمُّ جعفرٍ على أناسٍ في يومِ أضْحَى تَسْتَمنحُهم جلدَ كبشٍ تدفَأُ به؛ فسألوها عما كانتْ فه من النِّعمة؟ فقالت: لقد أصبحتُ في مثلِ هذا اليوم وإنَّ على رأسي أربعَمئة وصيفة، وأقول: إنَّ ابني جعفرًا عاقٌ لي.

وروى الخطيبُ البغداديُّ بإسناده، أنَّ سفيان بنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا بلَغَهُ قتلُ الرشيد جعفرًا، وما أحلَّ

(1)

القَلْطَبان، أو القَرْطبان: الذي تقولُه العامَّةُ للذي لا غيرةَ له. فهو مُغيَّرٌ عن وجهه؛ قال الأصمعي: الكَلْتَبان مأخوذٌ من الكَلَب، وهو القِيَادة، والتاء والنون زائدتان. قال: وهذه اللفظةُ هي القديمةُ عن العرب وغيَّرَتْها العامَّةُ الأولى فقالت: القَلْطَبان. قال: وجاءتْ عامَّةٌ سُفْلَى فغيَّرتْ على الأولى فقالت: القَرْطَبان - لسان العرب (قرطب).

(2)

قال أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (15/ 10): الشعر فيما ذكر ابن إسحاق صاحب المغازي لِمُضاض بن عمرو الجُرْهُمي. وقال غيرُه: بل هو للحارثِ بن عمرو بن مُضَاض. أخبرنا بذلك الجوهري، عن عمر بن شَبَّة، عن أبى غسان محمد بن يحيى، عن غسان بن عبد الحميد. وقال عبدُ العزيز بن عمران: هو عمرو بن الحارث بن مُضَاض.

ص: 473

بالبرامكة، استقبل القِبْلَةَ وقال: اللهمَّ إنَّ جعفرًا كان قد كفاني مؤنةَ الدنيا، فأكْفِهِ مؤنةَ الآخرة.

‌حكاية غريبة

ذكر ابنُ الجَوْزي في "المنتظَم"

(1)

أنَّ المأمونَ بلغه أنَّ رجلًا يأتي كلَّ يومٍ إلى قبورِ البرامكة، فيبكي عليهم ويَندُبُهم، فبعث منْ جاء به، فدخل عليه وقد يئس من الحياة، فقال له: ويحك! ما يَحمِلُكَ على صنيعِكَ هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين. إنَّهم أسدَوْا إليَّ معروفًا وخيرًا كثيرًا. فقال وما الذي أسدوْهُ إليك؟ فقال: أنا المنذرُ بن المغيرة، من أهل دمشق، كنتُ بدمشقَ في نعمةٍ عظيمةٍ واسعة، فزالَتْ عنِّي حتى أفضَى بيَ الحالُ إلى أنْ بِعتُ داري، ثم لم يبقَ لي شيء؛ فأشار بعضُ أصحابي علي بقَصْدِ البرامكةِ ببغداد؛ فأتيتُ أهلي، وتحمَّلْتُ بعيالي، فأتيتُ بغدادَ ومعي نَيِّفٌ وعشرون امرأةً، فأنزلتُهُنَّ في مسجدٍ مهجور، ثم قصدتُ مسجدًا مأهولًا أُصَلِّي فيه، فدخلتُ مسجدًا فيه جماعةٌ لم أرَ أحسنَ وجوهًا منهم، فجلستُ إليهم، فجعلتُ أُديرُ في نفسي كلامًا أطلبُ به منهم قُوتًا للعِيَالِ الذين معي؛ فيمنَعُني من ذلك السؤالِ الحياءُ؛ فبينا أنا كذلك إذا بخادمٍ قد أقبَل، فدعاهم فقاموا كلُّهم، وقمتُ معهم، فدخلوا دارًا عظيمة، فإذا الوزيرُ يحيى بنُ خالد جالسٌ فيها، فجلسوا حولَه، فعَقَدَ عَقْدَ ابنتِهِ عائشةَ على ابنِ عمٍّ له، ونثروا فِلَقَ المسكِ وبنادِقَ العَنْبَر؛ ثم جاء الخَدمُ إلى كلِّ واحدٍ من الجماعة بصينيَّةٍ من فِضَّة، فيها ألفُ دينار، ومعها فُتاتُ المسك. فأخذَها القومُ ونَهضوا، وبَقيتُ أنا جالسًا، وبين يديَّ الصينيَّةُ التي وضعوها لي، وأنا أهابُ أنْ آخذَها من عظَمَتها في نفسي؛ فقال لي بعضُ الحاضرين: ألا تأخذُها وتذهب؟ فمدَدْتُ يدي فأخذتُها، فأفرغتُ ذهبَها في جَيبي، وأخذتُ الصينيَّةَ تحتَ إبْطي، وقمتُ وأنا خائفٌ أنْ تُؤخذَ منِّي، فجعلتُ أتلَفَّتُ والوزيرُ ينظرُ إليّ، وأنا لا أشعرُ؛ فلما بلغتُ السِّتارة، أمَرَهُمْ فرَدُّوني، فيئستُ من المال، فلما رجعْتُ قال لي: ما شأنُكَ خائف؟ فقصصتُ عليه خَبَري. فبَكى ثم قالَ لأولادِه: خذوا هذا فضمُّوهُ إليكم. فجاءني خادِم، فأخذ مني الصينيَّةَ والذهب، وأقمتُ عندَهم عشرةَ أيامٍ، من ولدٍ إلى ولد، وخاطري كلُّه عندَ عيالي ولا يُمْكنني الانصراف. فلما انقضَتِ العشرةُ الأيام جاءني خادمٌ فقال: ألا تذهبُ إلى عيالِك؟ فقلت: بلى واللَّه. فقام يَمشي أمامي، ولم يعطِني الذهبَ ولا الصّينيَّة، فقلت: يا ليتَ هذا كانَ قبلَ أنْ تؤخذ مني الصينيَّةُ والذهب، يا ليتَ عيالي رأوا ذلك. فسارَ يَمشي أمامي إلى دارٍ لم أَرَ أحسنَ منها! فدخلتُها، فإذا عيالي يتمرَّغون في الذهب، والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدارِ مئةَ ألفِ درهم، وعشرةَ آلاف دينار، وكتابًا فيه تمليكُ الدارِ بما فيها، وكتابًا آخرَ فيه تمليكُ قريتَيْنِ جليلتين. فكنتُ مع البرامكةِ في أطيبِ عيش؛ فلما أُصيبوا أخذ مني عمرو بن مَسْعَدةَ القَرْيَتَيْن، وألزَمَني بخراجهما؛ فَكُلَّما لَحِقَتْني فاقةٌ قصدتُ دورَهم وقبورَهم، فبكَيْتُ عليهم. فأمرَ

(1)

المنتظم (9/ 146).

ص: 474

المأمونُ بِرَدِّ القريتَيْن، فبكى الشيخُ بكاءٍ شديدًا؛ فقال المأمون: ما لَك؟ ألم أستأنِفْ بك جميلًا؟ قال: بلَى. ولكنْ هو من بركةِ البرامكة. فقال له المأمون: امضِ مُصاحَبًا، فإنَّ الوفاءَ مُبارَك، ومراعاةُ حُسنِ العَهْدِ والصُّحْبَةِ من الإيمان.

‌وفيها توفي:

الفُضَيل بن عِيَاض

(1)

أبو علي التَّميمي، أحدُ أئمةِ العُبَّاد الزُّهَّاد، وهو أحد العلماء والأولياء. ولد بخُراسان، بكُورَةِ دِيْنَوَر، وقدم الكوفةَ وهو كبير، فسمع به الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحُصين بن عبد الرحمن، وغيرهم. ثم انتقل إلى مكة، فتعبَّدَ بها. وكان حسَنَ التلاوة، كثيرَ الصلاةِ والصيام؛ وكان سيدًا جليلًا، ثقةً، من أئمة الرواية. رحمه الله ورضي عنه. وله مع الرشيدِ قضَةٌ طويلة، وقد روَيْنا ذلك مُطوَّلًا في كيفيَّةِ دخولِ الرشيد عليه مَنْزِلَه؛ وما قال له الفُضَيل بن عياض؛ وعرَض عليه الرشيدُ المال، فأبَى أنْ يقبلَ منه ذلك. توفي بمكة في المحرَّم من هذه السنة. وذكروا أنه كان شاطرًا يقطعُ الطريق. وكان يتعشَّقُ جاريةً، فبينما هو ذات ليلةٍ يتسوَّرُ عليها جدارًا إذْ سمع قارئًا يقرأ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، فقال: بلَى. وتابَ وأقلَعَ عمَّا كان عليه، ورجَعَ إلى خَربةٍ فباتَ بها، فسمع سُفَّارًا يقولون: انهضوا بنا نسافر. فقال بعضُهم

(2)

: إنَّ فُضَيلًا أمامَكم يقطعُ الطريق. فأمَّنهم واستمرَّ على توبته، حتى كان منه ما كان، من السيادَةِ والزَّهادة؛ ثم صار علَمًا يُقتدى به، ويُهتدَى بكلامهِ وفعالِه.

قال الفُضيل: لو أنَّ الدنيا كلَّها حلالٌ لا أُحاسبُ بها، لكنتُ أتقذَّرُها كما يتقذَّرُ أحدُكم الجيفةَ إذا مَرَّ بها أنْ تُصيبَ ثوبَه

(3)

.

(1)

ترجمته في معرفة الرجال (2/ 213)، طبقات ابن سعد (5/ 500)، تاريخ خليفة (458)، طبقات خليفة (284)، التاريخ الصغير (2/ 219)، التاريخ الكبير (7/ 123)، المعارف (511)، الجرح والتعديل (7/ 73)، مشاهير علماء الأمصار الترجمة (1179)، طبقات الصوفية (6)، حلية الأولياء (8/ 84)، الرسالة القشيرية (1/ 62)، تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 375)، صفة الصفوة (2/ 237)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 193)، جامع الأصول (15/ 37)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 51)، وفيات الأعيان (4/ 47)، تهذيب الكمال (24/ 281)، مختصر تاريخ دمشق (20/ 298)، طبقات علماء الحديث الترجمة (215)، سير أعلام النبلاء (8/ 421)، ميزان الاعتدال (3/ 361)، تذكرة الحفاظ (1/ 245)، العبر (1/ 298)، طبقات الأولياء (266)، العقد الثمين (7/ 13)، تهذيب التهذيب (8/ 294)، تقريب التهذيب (448)، النجوم الزاهرة (3/ 121)، الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 68)، الكواكب الدرية (1/ 395)، شذرات الذهب (2/ 399)، جامع كرامات الأولياء (2/ 235).

(2)

في (ق): ". . . ويقولون: خُذوا حِذْرَكم، إن فضيلًا. . . ". والمثبت من (ب، ح).

(3)

كذا رواية (ق): ورواية (ب، ح): "لو أن الدنيا كلها لي ولا أحاسب عليها لأنفتها وتجنَّبْتُها كما يتجنَّبُ أحدكم =

ص: 475

وقال: العملُ لأجلِ الناسِ شِرْك، وتَرْكُ العملِ لأجلِ الناسِ رياء؛ والإخلاصُ أنْ يُعافيكَ اللَّه منها.

وقال له الرشيدُ يومًا: ما أزْهَدَك! فقال: أنتَ أزهدُ مني، لأني أنا زَهِدْتُ في الدنيا التي هي أقل من جناحِ بعوضة، وأنتَ زهدْتَ في الآخرةِ الباقيَةِ؛ فأنا زاهدٌ في الفانِي، وأنتَ زاهدٌ في الباقي؛ ومنْ زَهدَ في دُرَّةٍ، أزهَدُ ممَّنْ زَهِدَ في بَعْرَة.

وقد رُوي مثلُ هذا عن أبي حازمٍ أنه قال ذلك لسليمانَ بنِ عبدِ الملك.

وقال: لو أنَّ لي دعوةً مستجابةً لجعلتُها للإمام؛ لأنَّ بهِ صلاحَ الرَّعيَّة، فإذا صَلَحَ أمِنَتِ العبادُ والبلاد.

وقال: إني لأعصي اللَّه، فأعرفُ ذلك في خُلُقِ حماري وخادمي وامرأتي وفأرِ بيتي.

وقال في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7 والملك: 2]. قال: يعني أخلصَهُ وأصوبَهُ؛ إنَّ العمل يجبُ أنْ يكونَ خالصًا للَّه، وصوابًا على متابعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌وفيها توفي:

بشرُ بن المفضَّل.

وعبدُ السلام بن حرب.

وعبدُ العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْديّ.

وعبدُ العزيز العمِّي.

وعلي بن عيسى الأميرُ ببلادِ الروم مع القاسم بنِ الرشيد في الصائفة.

ومعتمرُ بن سليمان.

وأبو شُعيب البَرَاثيُّ الزاهد

(1)

: وكان أولَ منْ سكنَ بَراثا

(2)

في كوخٍ له يتعبَّدُ فيه، فهَوِيَتْهُ امرأةٌ من

= الجيفة أن تمسَّ ثيابه".

(1)

ترجمته في حلية الأولياء (10/ 323)، تاريخ بغداد (14/ 418)، صفة الصفوة (2/ 388)، معجم البلدان (1/ 363).

(2)

كذا في الأصول، ومعجم البلدان، بألف، والوجه "بَرَاثى" بألف على شكل الياء، لأنها حرف رابع في الاسم، وبالثاء المثلثة والقصر؛ وهي محلَّةٌ كانت في طرَفِ بغداد، فى قبلةِ الكَرْخ، وجنوب بابِ مُحَوِّل. وكان لها جامع مفرَد تصلِّي فيه الشيعة، وقد خَرِب عن آخره، وكذلك المحلَّة، لم يبق لها أثر. وكانت براثا قبلَ بناءِ بغداد قرية يزعمون أن عليًّا مر بها لما خرج لقتال الحرورية بالنهروان وصلى في موضع من الجامع المذكور، وذكر أنه دخل =

ص: 476

بنات الرؤساء، فانخلعَتْ ممَّا كانتْ فيه من الدنيا والسعادةِ والحِشْمة، وتزوَّجَتْهُ وأقامتْ معهُ في كُوخِه تتعبَّد حتى ماتا. يُقال: إنَّ اسمَها جوهرة.

‌ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومئة

فيها غزا إبراهيمُ بن جبريل

(1)

الصائفة، فدخل بلادَ الرُّوم من دَرْبِ الصَّفْصَاف، فخرج النَّقْفُورُ للقائه، فجُرح النقفورُ ثلاث جِرَاحات، وانهزم، وقُتل من أصحابِهِ أكثر من أربعينَ ألفًا. وغَنِموا أكثرَ من أربعةِ آلاف دابَّة.

وفيها رابط القاسمُ بن الرشيد بمَرْجِ دابق. وفيها حجَّ بالناسِ الرشيد، وكانتْ آخرَ حجَّاتِه. وقد قال أبو بكر بن عيَّاش حين رأى الرشيدَ منصرفًا من الحج، وقدِ اجتازَ بالكوفة: لا يحجُّ الرشيدُ بعدَها، ولا يحجُّ بعدَهُ خليفةٌ أبدًا. وقد رأى الرشيد بُهلول المولَّه فوعظَهُ موعظةً حسنة. فرَوَيْنا من طريقِ الفَضْل بن الربيع الحاجب، قال: حجَجْتُ مع الرشيد، فمرَرْنا بالكوفة، فإذا بُهلول المجنون يَهْذي، فقلت: اسكُتْ فقد أقبلَ أميرُ المؤمنين. فسكَت، فلما حاذاهُ الهَوْدجُ قال: يا أميرَ المؤمنين، حدَّثني أيمنُ بن نابِل

(2)

، حدّثنا قُدَامةُ بن عبد اللَّه العامري، قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمنًى على جمل، وتحتَهُ رَحْلٌ رَثّ، ولم يكنْ ثمَّ طَرْدٌ ولا ضَرْبٌ، ولا إليكَ إليكَ. قال الفضل بن الربيع: فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّهُ بُهلول. فقال: قد عرفتُه، قُلْ يا بُهلول. فقال:

فهبْ أنْ قدْ مَلَكتَ الأرضَ طُرًّا

ودانَ لك العبادُ فكانَ ماذا

أليس غدًا مَصيرُكَ جَوْفَ قَبْرٍ

ويَحْثُو التُّرْبَ هذا ثُمَّ هذا

قال: أجدتَ يا بُهلول، أفغيره؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، منْ رزَقَهُ اللَّه مالًا وجمالًا فعَفَّ في جمالِه، وواسَى في مالِه، كُتب في ديوانِ اللَّه من الأبرار. قال: فظنَّ أنهُ يُريدُ شيئًا، فقال: إنَّا أمَرْنا بقضاءَ دَيْنِك. فقال: لا تفعلْ يا أميرَ المؤمنين، لا يُقضَى ديْنٌ بدَيْن، ارْدُدِ الحقَّ إلى أهلِهِ، واقضِ دَيْنَ نفسِك من نفسِك. قال: إنَّا أمرْنا أنْ يُجرَى عليك رزقٌ تقتاتُ به. قال: لا تَفْعلْ يا أميرَ المؤمنين، فإنه سبحانه لا يُعطيك وينساني؛ وها أنا قد عشتُ عمرًا لم تُجْرِ عليَّ زرقًا، انصرِفْ، لا حاجةَ لي في جِرَايتِك. قال: هذه ألفُ دينارٍ خُذْها. فقال: اردُدْها على أصحابِها فهو خيرٌ لك؛ وما أصنعُ أنا بها؟!

= حمامًا كان في هذه القرية. معجم البلدان (1/ 362، 363).

(1)

في (ق): "إبراهيم بن إسرائيل"، وهو تصحيف والمثبت من (ب، ح) وكتب التاريخ.

(2)

تصحف الاسم في الأصول، والمثبت من الإكمال لابن ماكولا (7/ 250)، وتقريب التهذيب (117)، وفيهما "نابل" بنون وموحّدة.

ص: 477

انصرِفْ عنِّي، فقد آذَيْتني. قال: فانصرفَ عنه الرشيدُ وقد تصاغرَتْ عندَهُ الدنيا

(1)

.

‌وممن تُوفِّي فيها من الأعيان:

أبو إسحاق الفَزَاري

(2)

إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمامُ أهلِ الشام في المغازي وغيرِ ذلك. أخذ عن الثوري، والأوزاعي، وغيرهما. تُوفي في هذه السنة، وقيل قبلَها

(3)

.

وإبراهيم الموصلي

(4)

النَّديم وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن، أبو إسحاق، أحدُ الشعراءَ والمغنّين والنُّدماء للرشيد وغيره؛ أصلُهُ من الفُرْس، ووُلد بالكوفة، وصحب شبابَها، وأخذ عنهمُ الغناء، فأجاد في عِلْمِهِ. ثم سافر إلى المَوْصِل، ثم عاد إلى الكوفة، فقالوا له: الموصلي. ثم اتصل بالخلفاء، أولُهم المهدي، وحَظِيَ عند الرشيد. وكان من جُملةِ سُفَارِهِ ونُدَمائهِ ومُغنِّيه. وقد أثرَى وكَثُرَ مالُه جدًّا، حتى قيل: إنه ترك أربعة وعشرينَ ألفَ الف درهم. وكانتْ له طُرفٌ وحكاياتٌ غَريبة. وكان مولدُه سنةَ خمسَ عشرةَ ومئة في الكوفة، ونشأ في كفالةِ بني تميم، فتعلَّم منهم، ونُسب إليهم. وكان فاضلًا بارعًا في صناعةِ الغناء. وكان مُزَوَّجًا بأختِ المنصور الملقَّب بِزَلْزَل

(5)

الذي كان يضرب معه، فإذا غنَّى هذا وضربَ هذا اهتزَّ المجلس.

تُوفي في هذه السنةِ على الصحيح. وحكى ابنُ خَلِّكان في الوفيات

(6)

، أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يومٍ واحد، من سنةِ ثلاثَ عشرةَ ومئتين، وصحح الأول.

ومن قولِهِ في شعرِهِ عند احتضارِه قولُه:

مَلَّ واللَّه طَبيبي

منْ مُقاساةِ الذي بي

سوف أُنْعَى عن قريبٍ

لِعَدُوٍّ وحَبيبِ

‌وفيها مات:

جَرير بنُ عبدِ الحميد.

(1)

الخبر والشعر في صفة الصفوة (2/ 517، 518)، والمختار من مناقب الأخيار لابن الأثير (1/ 508)، وهو بتحقيقي، وتعجيل المنفعة (56) لابن حجر.

(2)

ذكر المؤلف وفاته في سنة (185)، انظر ص 459 من هذا الجزء، ومصادر ترجمته ذُكرتْ ثَمّ.

(3)

انظر الحاشية السابقة.

(4)

ترجمته في الأغاني (5/ 169)، تاريخ بغداد (6/ 175)، الفهرست (201)، المؤتلف والمختلف لابن القيسراني (136، و 201)، المنتظم (9/ 156)، الكامل لابن الأثير (5/ 490)، وفيات الأعيان (1/ 42)، سير أعلام النبلاء (9/ 79)، شذرات الذهب (1/ 318، 319).

(5)

انظر نزهة الألباب في الألقاب (344).

(6)

وفيات الأعيان (1/ 43).

ص: 478

ورِشْدِينُ بنُ سعد.

وعَبْدةُ بن سليمان.

وعُقبةُ بن خالد.

وعمر بن أيوب العابد، أحدُ مشايخِ أحمدَ بنِ حنبل.

وعيسى بنُ يونس في قول.

‌ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومئة

فيها رَجَعَ الرشيدُ من الحج، وسار إلى الرَّيّ، فولَّى وعزل.

وفيها ردَّ عليٍّ بن عيسى إلى ولايةِ خُراسان. وجاءه نُوَّابُ تلكَ البلاد بالهدايا والتُّحف من سائرِ الأشكالِ والألوان. ثم عاد إلى بغداد، فأَدرَكهُ عيدُ الأضحى بقصر اللصوص

(1)

، فضحَّى عندَه، ودخل إلى بغداد لثلاثٍ بَقينَ من ذي الحجَّة؛ فلما اجتاز بالجسر أمرَ بجثَّةِ جعفر بن يحيى البرمكي فحُرِّقَتْ ودُفنتْ، وكانت مصلوبةً من حينِ قُتل إلى هذا اليوم.

ثم ارتحل الرشيدُ من بغدادَ إلى الرقَّة ليسكنَها، وهو متأسِّفٌ على بغدادَ وطيبها، وإنما مرادُهُ بمُقَامِهِ بالرقَّةِ رَدْعُ المفسدين بها. وقد قال العباسُ بن الأحنف في خروجِهم من بغدادَ مع الرشيد:

ما أنَخْنَا حتى ارْتَحَلْنا فما نَفْـ

ــرِقُ بين المُنَاخِ والارتحالِ

ساءَلونا عن حالِنا إذْ قَدِمنا

فقَرَنَّا وداعَهم بالسُّؤالِ

(2)

وفيها فادَى الرشيدُ الأسارى من المسلمين الذين كانوا ببلادِ الرُّوم، حتى يُقال إنه لم يترُكْ بها أسيرًا من المسلمين، فقال فيه بعضُ الشعراء:

وفُكَّتْ بك الأسرى التي شُيِّدَتْ لَها

مَحَابسُ ما فيها حَميمٌ يَزورُها

(1)

قال صاحبُ الفتوح: لما فُتحت نَهَاوَنْد سار جيشٌ من جيوش المسلمين إلى هَمَدَّان، فنَزلوا كنكور، فسُرقت دوابُّ من دوابِّ المسلمين، فسُمي يومئذٍ قصرَ اللصوص، وبقي اسمه إلى الآن؛ وهو في الأصل موضع قصر كنكور، وهو قصر شيرين. وقال مسعر بن المهلهل: قصر اللصوص بناؤه عجيبٌ جدًّا، وذلك أنه على دكّةٍ من حَجَر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعًا، فيه إيوانات وجواسيق وخزائن تتحيَّرُ في بنائه وحسنِ نُقوشِه الأبصار، وكان هذا القصر معقِلَ أبرويز ومسكنَهُ ومتنزَّهَه، لكثرة صيده وعذوبة مائه وحسن مروجه وصحاريه. وحول هذا القصر مدينةٌ كبيرةٌ لها جامع. معجم البلدان (4/ 363، 364).

(2)

الخبر والشعر في تاريخ الطبري (4/ 675)، والكامل لابن الأثير (5/ 339).

ص: 479

على حين أعيا المسلمينَ فكاكُها

وقالوا سجونُ المشركينَ قبورُها

(1)

وفيها رابطَ القاسمُ بنُ الرشيد بمَرْجِ دابِق يُحاصِر الرُّوم.

وفيها حجَّ بالناس العباسُ بن موسى بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس.

‌ذكرُ من تُوفي فيها من الأعيان:

علي بن حمزة بن عبد اللَّه بن فَيْروز

(2)

أبو الحسن الأسدِي مولاهم، الكوفي، المعروف بالكِسائي، لإحرامهِ في كِسَاء؛ وقيل: لاشتغالِهِ على حمزةَ الزيَّات في كِسَاء. كان نَحْوِيًّا لُغَويًا، أحدَ أئمةِ القُرَّاء. أصله من الكوفة، ثم استوطنَ بغداد، فأدَّبَ الرشيد وولدَهُ الأمين. وقد قرأ على حَمْزةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ قراءتَه؛ وكان يُقرئ بها، ثم اختارَ لنفسِهِ قراءةً، وكان يقرأ بها.

وقد روَى عن أبي بكرٍ بن عيَّاش، وسفيان بن عُيينةَ وغيرِهما. وعنه يحيى بنُ زياد الفرَّاء، وأبو عُبيد.

قال الشافعي: منْ أرادَ النحوَ فهو عيالٌ على الكِسَائي. أخذَ الكسائيُّ عن الخليل صناعةَ النَّحْو، فسألَهُ يومًا عن منْ أخذتَ هذا العلم؟ قال: منْ بَوَادي الحِجاز. فرحَلَ الكِسَائي إلى هناك؛ فكتبَ عن العرب شيئًا كثيرًا، ثم عاد إلى الخليل، فإذا هو قد مات، وتصدَّرَ في موضِعِه يونس؛ فجرَتْ بينهما مناظراتٌ أقَرَّ له فيها يونُسُ بالفَضْل وأجلسه في موضعه.

قال الكِسَائي: صليت يومًا بالرشيد، فأعجَبَتْني قراءتي، فغَلِطتُ غلطة ما غَلِطَها صبيّ، أردتُ أنْ أقول {لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ} فقلت: لعلَّهم يرجعين، فما تَجاسَرَ الرشيدُ أنْ يردَّها، فلما سلَّمْتُ قال: أيُّ لغةٍ هذه؟ فقلتُ: إنَّ الجوادَ قد يَعْثُر. فقال: أمَّا هذا فنعَمْ.

وقال بعضُهم: لَقِيتُ الكِسَائيّ، فإذا هو مهموم، فقلت: ما لَك؟ فقال: إنَّ يحيى بنَ خالدٍ قد وجَّهَ إليَّ لِيسألَني عن أشياء، فأخشى من الخطأ. فقلت: قُلْ ما شئت، فأنتَ الكِسَائي. فقال: قطعَهُ اللَّه -يعني لسانَه- إنْ قلتُ ما لم أعلمْ.

وقال الكسائيُّ يومًا: قلتُ لنجَّار: بكم هذانِ البابان؟ فقال: بسَلْحَتان يا مَصْفَعان

(3)

.

(1)

الخبر والبيتين في تاريخ الطبري (4/ 675).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (6/ 268)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 218)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 427)، تاريخ بغداد (11/ 403)، الفهرست (97)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 168)، وفيات الأعيان (3/ 295)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 179)، سير أعلام النبلاء (9/ 131)، تهذيب التهذيب (7/ 275)، نزهة الألباب في الألقاب (2/ 307).

(3)

في (ق): "بسالجيان"، في (ح) والمنتظم (9/ 173):"بسلحتان"، يقال: سلح الطائر سلحًا؛ كالتغوط =

ص: 480

تُوفي الكِسَائيُّ في هذه السنةِ على المشهور، عن سبعين سنة. وكان في صُحْبةِ الرشيدِ ببلادِ الرَّيّ، فمات بنواحيها، هو ومحمد بن الحسن في يومٍ واحد. وكان الرشيدُ يقول: دفنتُ الفقهَ والعربيةَ بالرَّي.

قال ابن خَلِّكان

(1)

: وقيل: إنَّ الكِسَائي توفي بطُوسَ سنةَ ثنتين [أو ثلاث] وثمانين ومئة. واللَّه أعلم.

وقد رأى بعضُهم الكِسَائي في المنام ووجهُه كالبَدْر، فقال: ما فعل بكَ ربُّك؟ فقال: غفَرَ لي بالقرآن. فقلت: ما فعل حمزة؟ قال: ذاك في عِلِّيِّين، ما نراهُ إلا كما نَرَى الكوكب.

‌وفيها توفي:

محمد بن الحسن بن فَرْقَد

(2)

أبو عبد اللَّه الشيباني مولاهم، صاحبُ أبي حنيفة، أصلُهُ من قريةٍ من قُرى دمشق، قدم أبوه العراق، فولد بواسط سنةَ ثنتَيْن ومئة، ونشأ بالكوفة. فسمع من أبي حنيفة، ومِسْعَر، والثوري، وعمر بن ذر، ومالك بن مِغْوَل. وكتب عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وأبي يوسف. وسكن بغداد، وحدَّث بها. وكتب عنه الشافعي حين قَدِمها في سنةِ أربعٍ وثمانين ومئة، وولَّاه الرشيدُ قضاءَ الرقَّة، ثم عزله. وخرج مع الرشيد إلى الرَّي فماتَ بها.

وكان يقولُ لأهله: لا تسألوني حاجةً من حاجاتِ الدنيا فتشغَلُوا قلبي، وخذوا ما شئتُم من رَحْلي، فإنه أقل لِهَمِّي، وأفرغُ لقلبي.

وقال الشافعي: ما رأيتُ حبرًا سمينًا مثلَه! ولا رأيتُ أخفَّ روحًا منه، ولا أفصحَ منه؛ كنتُ إذا سمعتُه يقرأُ القرآنَ كأنَّما يَنْزِلُ القرآنُ بلغتِه.

وقال أيضًا: ما رأيتُ أعقلَ منه! كانَ يملأ العَيْنَ والقلب.

قال الطَّحَاويّ: كان الشافعيُّ قد طلبَ من محمدِ بنِ الحسن كتاب السِّيَر، فلم يُجِبْهُ إلى الإعارة. فكتب إليه:

= من الإنسان والمَصْفَعان: الذي يُصْفعُ على قَفَاه. وفي جواب النجار ضرب من السخرية بشيخ العربية، الذي لم يقم لسانه بقواعد النحو، إذ الوجه أن يقول:"بكم هذين البابين؟ ".

(1)

في وفيات الأعيان (3/ 296)، وما يأتي بين معقوفين منه.

(2)

في (ق): محمد بن الحسن بن زفر، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته، وهي في: الضعفاء للعقيلي (4/ 52)، الكامل لابن عدي (6/ 174)، المجروحين (2/ 275)، تاريخ بغداد (2/ 172)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 50)، ميزان الاعتدال (6/ 107)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 358)، سير أعلام النبلاء (9/ 134)، المغني في الضعفاء (2/ 567)، رواة الآثار لابن حجر (162)، التدوين في أخبار قزوين (1/ 251).

ص: 481

قُلْ للذي لم تَرَ عَيْـ

ــنَا منْ رآهُ مثلَهُ

حتى كأنَّ منْ رآ

هُ قد رأى منْ قبلَهُ

العلمُ يَنْهَى أهلَهُ

أنْ يَمْنَعُوهُ أهْلَهُ

لعلَّهُ يَبْذُلُهُ

لأهلِهِ لَعَلَّهُ

(1)

قال: فوجَّهَ به إليهِ في الحالِ هديَّةً لا عارِيَّة.

وقال إبراهيمُ الحربي: قيل لأحمد بن حنبل: هذه المسائل الدِّقَاق، منْ أين هي لك؟ قال: من كُتب محمدِ بنِ الحسن رحمه الله. وقد تقدَّمَ أنه ماتَ هو والكِسَائي في يومٍ واحدٍ من هذه السنة. فقال الرشيد: دفنتُ اليومَ اللغةَ والفِقْه جميعًا. وكان عمرهُ ثمانيةً وخمسين سنة.

‌ثم دخلت سنة تسعين ومئة من الهجرة

فيها خلَعَ رافعُ بنُ لَيْث بنِ نصر بن سَيَّار نائبُ سَمَرْقَنْدَ الطاعة، ودَعَا إلى نفسه، وتابعَهُ أهلُ بلدِهِ وطائفةٌ كثيرة من تلك الناحية؛ واستفحل أمرُه، فسار إليه نائبُ خُرَاسانَ عليُّ بن عيسى، فهزمَهُ رافع، وتفاقَمَ الإمرُ به.

وفيها سار الرشيدُ لِغَزْوِ بلادِ الرُّوم لعشرٍ بَقينَ من رجب، وقد لبس على رأسِهِ قَلَنْسُوةً، فقال فيه أبو المعلّى الكلابي:

فمَنْ يطلُبْ لقاءَكَ أو يُرِدْهُ

فبالحرَمَيْنِ أو أقصَى الثُّغورِ

ففي أرضِ العدوِّ على طِمِرٍّ

وفي أرض التَّرَفُّهِ

(2)

فَوْقَ كُورِ

وما حازَ الثغورَ سواكَ خَلْقٌ

من المتخلِّفينَ على الأمورِ

(3)

فسارَ حتى وصل إلى الطُّوَانَة

(4)

، فعسكر بها وبعث إليه نَقْفُور إليه بالطاعة، وحَمَلَ الخراجَ والجِزْيَة، حتى عن رأسِ وَلَدِه ورأسِه، وأهلِ مملكتِه، في كلِّ سنةٍ خمسةَ عشرَ ألفَ دينار. وبعثَ يَطْلبُ من الرشيدِ جارية قد أسروها، وكانتِ ابنةَ ملكِ هِرَقْلَة، وكان قد خطبَهَا على ولَدِه. فبعث بها الرشيدُ مع

(1)

رواية (ق) في البيت الأول: "لم تر عيناي مثله"، والمثبت من (ب، ح) وبنحوه الأبيات في ديوان الشافعي ص (121)، وفيه زيادة بيت قبل الأخير وهو:

لأنَّ ما يُجنُّهُ

فاقَ الكمالَ كُلَّهُ

(2)

هذه رواية (ق)، وفي (ب، ح): "الثنية".

(3)

ليس هذا البيت في (ب، ح).

(4)

"طُوَانة" -بضَمِّ أوله، وبعد الألف نون-: بلدٌ بِثُغور المَصِّيصَة. معجم البلدان (4/ 45).

ص: 482

هدايا وتُحَفٍ وطيبٍ بعَثَ يطلُبُهُ من الرشيد. واشترَطَ عليه الرشيدُ أنْ يَحْمِلَ كلَّ سنةٍ ثلاثَ مئةِ ألف دينار، وأنْ لا يَعْمُرَ هِرَقْلَة.

ثم انصرف الرشيدُ راجعًا، واستناب على الغَزْو عُقْبَةَ بن جعفر.

ونقَضَ أهلُ قُبْرُصَ العَهْد، فغزاهُمْ مَعْيوفُ بن يحيى، فسَبَى أهلَها، وقتل منهم خلقًا كثيرًا. وخرج رجلٌ من عَبْدِ القَيْس، فبعث إليه الرشيدُ منْ قَتَله.

وحجَّ بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.

‌ممن توفِّي فيها من الأعيان والمشاهير:

أسد بن عمرو بن عامر

(1)

أبو المنذر البَجَليُّ الكوفيّ، صاحبُ أبي حَنيفة، حكم ببغداد وبِوَاسِط، فلما أَنْكَرَ بصَره عزَلَ نفسَهُ عن القضاء.

قال أحمدُ بن حنبل

(2)

: كان صدوقًا. ووثقه ابنُ معين، وتكلَّم فيه علي بن المَديني، والبخاري.

وسَعْدُون المجنون

(3)

: صامَ ستين سنة، فخفَّ دِمَاغُه، فسمَّاهُ الناسُ مجنونًا، وقف يومًا على حَلْقَةِ ذي النُّون المِصري، فسمع كلامَهُ فصرَخ، ثم أنشأ يقول:

ولاخيرَ في شَكْوَى إلى غيرِ مُشْتَكى

ولا بُدَّ من شكوى إذا لم يكنْ صَبْرُ

وقال الأصمعي: مرَرْتُ به وهو جالسٌ عند رأسِ شيخٍ سكران، يذبُّ عنه، فقلتُ له: ما لي أراك عندَ رأسِ هذا الشيخ؟ فقال: إنه مجنون. فقلت: أنتَ مجنونٌ أوْ هو؟ قال: لا، بل هو، لأني صلَّيتُ الظهر والعصرَ في جماعة، وهو لم يصلِّ جماعةً ولا فُرَادى. وهو مع هذا قد شرِبَ الخمر، وأنا لم أشرَبْها. قلتُ: فهل قلتَ في هذا شيئًا؟ قال: نَعمْ. ثم أنشأ يقول:

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 331)، بحر الدم للإمام أحمد (73)، الكنى للبخاري (2/ 49)، الكنى والأسماء لمسلم (2/ 773)، الضعفاء والمتروكين للنسائي (19)، تسمية من لم يرو عنه غير رجل واحد للنسائي (124)، الضعفاء للعقيلي (1/ 23)، الجرح والتعديل (2/ 337)، المجروحين لابن حبان (1/ 180)، الكامل لابن عدي (1/ 398)، تاريخ جرجان (553)، تاريخ بغداد (7/ 16)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/ 106)، الكشف الحثيث لسبط بن العجمي (67)، المغني في الضعفاء (76)، المنتقى في سرد الكنى (2/ 98)، ميزان الاعتدال (1/ 363)، الإكمال للحسيني (23)، لسان الميزان (1/ 383)، تعجيل المنفعة (30).

(2)

في كتاب بحر الدم (73).

(3)

ترجمته في عقلاء المجانين (54)، إحياء علوم الدين (1/ 316)، صفة الصفوة (2/ 512)، المختار من مناقب الأخيار (78)، الوافي بالوفيات (15/ ت 266)، فوات الوفيات (2/ 48)، روض الرياحين الحكاية (21 و 22 و 24 و 25)، طبقات الشعراني (1/ 68)، الطبقات الصغرى للمناوي (323).

ص: 483

تركتُ النبيذَ لأهلِ النبيذِ

وأصبحتُ أشربُ ماءً قَرَاحا

لأنَّ النبيذَ يُذلُّ العزيزَ

ويَكْسُو السوادَ الوجوهَ الصِّبَاحا

فإنْ كان ذا جائزًا للشبابِ

فما العُذْرُ منه إذا الشَّيبُ لاحا

قال الأصمعي: فقلتُ له: صدقتَ. أنتَ العاقلُ وهو المجنون.

وعُبيدة بنُ حُميد بن صُهيب

(1)

أبو عبد الرحمن التَّيْمي

(2)

، الكوفي، مؤدِّبُ الأمين. روى عن الأعمش وغيرِه. وعنه أحمدُ بن حنبل، وكان يُثْني عليه.

‌وفيها توفي:

يحيى بن خالد بن بَرْمَك

(3)

أبو علي الوزير، والدُ جعفرٍ البَرْمكي، ضمَّ إليه المهديُّ ولَدَهُ الرشيدَ فربَّاهُ، وأرضعَتْهُ امرأتُهُ مع الفضلِ بنِ يحيى، فلمَّا وُلَي الرشيد، عرف له حقَه، وكان يقول: قال أبي، قال أبي. وفوَّضَ إليه أمورَ الخلافةِ وأزِفَتَها، ولم يزَلْ كذلك حتى نُكِبَتِ البرامكة، فقتل جعفرًا

(4)

، وخَلَّدَ أباه يحيى في الحبسِ حتى ماتَ في هذه السنة. وكان كريمًا فَصِيحًا ذا رأيٍ سديد، يظهَرُ من أمورِهِ خيرٌ وصلاح.

قال يومًا لولَدِهِ: خُذوا من كلِّ شيء طَرَفًا، فإنَّ منْ جَهِل شيئًا عاداه. وقال لأولاده: اكتبوا أحسنَ ما تسمعون، واحفظوا أحسنَ ما تكتبون، وتحدَّثوا بأحسنِ ما تحفظون. وكان يقولُ لهم: إذا أقبلتِ الدنيا فأنفِقوا منها، فإنَّها لا تبقَى، وإذا أدْبَرَتْ فانِفقوا منها فإنَّها لا تبقَى

(5)

.

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 329)، بحر الدم للإمام أحمد (288)، التاريخ الكبير للبخاري (6/ 86)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 526)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 123)، الطبقات للنسائي (132)، مشاهير علماء الأمصار لابن حبان البستي (171)، الثقات له (7/ 162)، الجرح والتعديل (6/ 92)، رجال صحيح البخاري للكلاباذي (2/ 505)، تسمية من أخرج له البخاري ومسلم للحاكم (192)، التعديل والتجريح للباجي (2/ 933)، تاريخ بغداد (11/ 120)، تهذيب الكمال (19/ 257)، ميزان الاعتدال (5/ 33)، تذكرة الحفاظ (1/ 311)، سير أعلام النبلاء (8/ 508)، الكاشف (1/ 694)، لسان الميزان (7/ 300)، تقرب التهذيب (379)، طبقات الحفاظ (135).

(2)

في (ق): "التميمي"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته.

(3)

ترجمته في تاريخ بغداد (14/ 128)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 188)، وفيات الأعيان (6/ 219)، سير أعلام النبلاء (9/ 89)، العبر (1/ 306)، النجوم الزاهرة (2/ 133).

(4)

في (ح، ق): "جعفر"، والمثبت من (ب)، والضمير في قتل عائد على الرشيد.

(5)

تقدم هذا القول في ترجمة ابنه جعفر ص (470).

ص: 484

وكان إذا سأله سائلٌ في الطريق وهو راكب أقلُّ

(1)

ما يأمُرُ له بمئتي درهم. فقال رجلٌ يومًا:

يا سَميَّ الحَصُورِ يحيى أُتيحَتْ

لكَ من فضلِ رَبِّنا جَنَّتانِ

كل منْ مَرَّ في الطريقِ عليكُمْ

فلَهُ منْ نَوَالِكُمْ مِئتانِ

مِئتا دِرْهمٍ لِمِثْلي قليلٌ

هي منكمْ للفارسِ العَجْلانِ

فقال: صدَقْت. وأمرَ أنْ يُسبَق به إلى الدار، فلما رجَعَ سأل عنه، فإذا هو قد تزوَّج، وهو يريدُ أن يدخلَ على أهلِه، فأعطاهُ صداقها أربعةَ آلاف، وعن دار أربعةَ آلاف، وعن الأمتعةِ أربعةَ آلاف، وعن الدخول أربعة آلاف، وأربعة آلاف يستظهر بها.

وجاءَهُ رجلٌ يومًا فسأله شيئًا، فقال: وَيْحَك لقد جئتَني في وقتٍ لا أملِكُ فيه مالًا؛ ولكنْ بعث إليَّ صاحبٌ لي يطلُبُ مني أنْ يُهدي إليَّ ما أحب، وقد بلغني أنكَ تُريد أن تبيعَ جارية لك، وأنَّك فد أُعطيتَ فيها ثلاثةَ آلاف دينار، وإني ساطلُبها، فلا تَبِعْها منه بأقلَّ من ثلاثينَ ألفَ دينار. فجاؤوني فبلغوا معي بالمساومةِ إلى عشرين ألفَ دينار، فلما سمعتُها ضَعُفَ قلبي عن رَدِّها، وأجَبْتُ إلى بيعها، فأخَذَها، وأخذتُ العشرين ألفَ دينار، فأهداها إلى يحيى. فلما اجتمعتُ بيحيى قال: بكم بعتَها؟ قلتُ: بعشرين ألفَ دينار. قال: إنك لَخَسيس، خُذْ جاريتَك إليك. وقد بعث إليَّ صاحبُ فارس، يطلبُ مني أنْ أستهديَهُ شيئًا، وإني ساطلُبها منه، فلا تَبِعْها بأقلَّ من خمسينَ ألفَ دينار. فجاؤوني فوصلوا في ثمنِها إلى ثلاثين ألفَ دينار، فبعتُها منهم. فلمّا جئتُه لامني أيضًا وردَّها عليّ، فقلتُ: أُشهدُك أنَّها حُرَّة، وأني قد تزوَّجْتُها؛ وقلت: جاريةٌ قد أفادَتْني خمسين ألف دينار، لا أفرِّطُ فيها بعدَ اليوم

(2)

.

وذكر الخطيب، أنَّ الرشيد طلَبَ من منصورِ بنِ زياد عشرة آلاف ألف درهم، ولم يكنْ عندَهُ منها سوى ألفِ ألفِ درهم، فضاق ذَرْعًا، وقد توعَّده بالقتلِ وخرابِ الديار إنْ لم يحمِلْها في يومِه ذلك؛ فدخل على يحيى بنِ خالد، وذكرَ أمرَه، فاطلقَ له خمسةَ آلافِ ألف، واستطلق له من ابنِهِ الفضل ألفَيْ ألف، وقال لابنه: يا بُني، بلغَني أنك تُريدُ أن تشتريَ بها ضَيْعةً، وهذه ضيعةٌ تَغُلُّ الشكرَ وتبقى مدَى الدَّهر. وأخذ له من ابنِهِ جعفر ألفَ ألف، ومن جاريته دنانير عِقْدًا مُشتراه مئةُ ألف دينار، وعشرون ألف دينار، وقال للمترسّم عليه: قد حسبناهُ عليك بألفَيْ ألف. فلما عُرضتِ الأموالُ على الرشيد رَدَّ العِقْد، وكان قد وهبَهُ لجاريةِ يحيى، فلم يعدْ فيه بعدَ إذْ وَهَبه لها. وقال له بعضُ بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبتِ، بعدَ الأمرِ والنَّهْي والنِّعْمة صِرْنا إلى هذا الحال؟! فقال: يا بُني، دعوةُ مظلومٍ سرَتْ بلَيلٍ ونحن عنها غافلون، ولم يغفلِ اللَّه عنها. ثم أنشأ يقول:

رُبَّ قومٍ قد غدَوْا في نعمةٍ

زمنًا والدَّهْرُ ريَّانٌ غَدَقْ

(1)

كذا في الأصول، والوجه (فأقلّ).

(2)

انظر الحكاية بأوضح مما هنا في تاريخ بغداد (14/ 131).

ص: 485

سكَتَ الدهرُ زمانًا عنهمُ

ثم أبكاهُمْ دمًا حين نَطَقْ

(1)

وقد كان يحيى بن خالد هذا يُجري على سفيانَ بن عُيينة كل شهرِ ألفَ درهم، وكان سفيانُ يدعو له في سجودِهِ يقول: اللهمَّ إنه قد كفاني المؤنة، وفرَّغني للعبادة، فاكفِهِ أمرَ آخرتِه. فلما مات يحيى رآه بعضُ أصحابِه في المنام فقال له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفَرَ لي بدُعاءِ سفيان.

وقد كانتْ وفاةُ يحيى بنِ خالد رحمه الله في الحبس في الرَّافِقَة، لثلاثٍ خلَوْنَ من المحرَّم من هذه السنة، عن سبعين سنة، وصلَّى عليه ابنُه الفَضْل، ودُفن على شطَّ الفُرَات؛ وقد وُجد في جَيبه رُقْعةٌ مكتوبٌ فيها بخَطِّه: قد تقدَّمَ الخَصْم والمدَّعَى عليه بالأثر، والحاكمُ الحكَمُ العَدْلُ الذي لا يَجُور، ولا يحتاجُ إلى بَيِّنة. فحُملتْ إلى الرشيد، فلما قرَأها بكَى يومَه ذلك، وبقي أيامًا يتبيَّنُ الأسى في وَجْهِه. وقد قال بعضُ الشعراء في يحيى بن خالد:

سألتُ النَّدى: هل أنتَ حُرٌّ؟ فقال: لا

ولكنَني عبدٌ ليَحيى بنِ خالدِ

فقلتُ: شِراءً؟ قال: لا بلْ وِرَاثةً

توارَثَ رِقِّي والدٌ بعدَ والِدِ

‌ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومئة

فيها خرج رجلٌ بسوادِ العراق يُقال له ثَرْوان بن سيف، وجعل يتنقَّلُ فيها من بلدٍ إلى بلد، فوجَّه إليه الرشيدُ طَوْق بن مالك فهزمَه، وجرح ثروانَ وقتلَ عامَّة أصحابِه، وكتب بالفتحِ إلى الرشيد.

وفيها خرج بالشام أبو النِّداء، فوجَّه إليه الرشيدُ يحيى بنَ معاذ، واستنابه على الشام.

وفيها وقع الثلجُ ببغداد. وفيها غزا بلادَ الروم يزيدُ بن مخلد الهُبَيْري في عشرةِ آلاف، فأخذتْ عليه الرومُ المضيق، فقتلوه في خمسين من أصحابه، على مرحلتين من طَرَسُوس، وانهزم الباقون. وولَّى الرشيدُ غزوَ الصائفة لِهَرْثَمةَ بنِ أعْين، وضمَّ إليه ثلاثين ألفًا فيهم مسرورٌ الخادم، وإليه النفقات.

وخرج الرشيد إلى الحَدَث

(2)

ليكونَ قريبًا منهم. وأمر الرشيدُ بِهَدْمِ الكنائسِ والدُّيُور، وألزَمَ أهلَ الذِّمَّة بتمييزِ لباسِهم وهيئاتِهم في بغدادَ وغيرِها من البلاد.

(1)

تاريخ بغداد (14/ 131).

(2)

الحَدث -بالتحريك وآخره ثاء مثلثة-: قلعةٌ حصينة بين مَلَطْيَة وسُمَيْساط ومَرْعش، من الثُّغور، ويقال لها الحمراء، لأنَّ تُرْبَتها جميعًا حمراء، وقلعتُها على جبل يُقال له الأحَيدب. وفي كتاب أحمد بن يحيى بن جابر: كان حصن الحدث مما فتح في أيام عمر رضي الله عنه، فتحه حَبيب بن مَسْلَمة الفِهْري من قبل عِياض بن غَنْم، وكان معاوية يتعاهدُه بعد ذلك؛ وكانت بنو أمية يُسمُّون دَرْبَ الحدث دَرْبَ السلامة للطِّيَرَة، لأنَّ المسلمين أُصيبوا به، وكان ذلك الحدث الذي سُمِّيَ به الحَدَث فيما يقول بعضُهم. وقال آخرون لقي المسلمين على دَرْبِ الحدَثِ =

ص: 486

وفيها عزل الرشيدُ عليَّ بن موسى عن إمرة خُراسان، وولَّاها هَرْثَمةَ بن أعْيَن.

وفيها فتح الرشيدُ هِرَقْلةَ في شوال، وخَرَّبَها، وسَبَى أهلَها، وبثَّ الجيوشَ والسَّرايا بأرضِ الرُّوم إلى عينِ زُرْبَة، والكنيسة السوداء، وكان دَخْلُ

(1)

هِرَقْلةَ في كلِّ يومٍ مئةَ ألف، وخمسةً وثلاثين ألفَ مُرْتَزق. ووُلِّيَ حُميد بن مَعْيُوف سواحلَ الشام إلى مصر؛ ودخل جزيرةَ قُبْرُص، فسَبَى أهلَها، وحمَلهم حتى باعَهُم بالرافِقَة؛ فبلغ ثَمَنُ الأسْقُفِّ ألفَيْ دينار، باعهم أبو البَخْتَري القاضي.

وفيها أسلم الفضل بن سَهْل على يدَي المأمون. وحجَّ بالناس فيها الفضلُ بن عباس بن محمد بن علي العباسي، وكان واليَ مكة. ولم يكن للناس بعدَ هذه السنة صائفة إلى سنة خمسَ عشرةَ ومئتين.

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

سَلَمةُ بن الفضل الأبرش.

وعبدُ الرحمن بن القاسم

(2)

: الفقيه الراوي عن مالك، الذي هو العمدةُ في مذهب مالك فيما يرويه عن الإمام مالك. وكان من كبار الصالحين.

وعيسى بن يونس بن أبي إسحاق

(3)

: قدم على الرشيد، فأمر له بمالٍ جَزيل نحوًا من خمسين ألفًا، فلم يقبَلْه.

والفضل بن موسى السِّيناني.

ومحمد بن سلمة.

ومَخْلَد بن الحسين المِصِّيصِي

(4)

: أحدُ الزهَّاد الثقات. قال: لم أتكلَّمْ بكلمةٍ أحتاجُ إلى الاعتذارِ منها منذُ خمسين سنة.

= غلامٌ حَدَث، فقاتلهم في أصحابه قتالًا استظهر فيه؛ فسُمِّي الحدثُ بذلك الحدث. انظر معجم البلدان (2/ 227).

(1)

في (ح): "خرج"، والمثبت من (ب، ق).

(2)

ترجمته في تسمية فقهاء الأمصار للنسائي (127)، الجرح والتعديل (5/ 279)، الثقات لابن حبان (8/ 374)، الفهرست (281)، التعديل والتجريح للباجي (2/ 876)، تهذيب الكمال (17/ 344)، تذكرة الحفاظ (1/ 356)، سير أعلام النبلاء (8/ 60)، الكاشف (1/ 640)، الوفيات للقسنطي (150)، تقريب التهذيب (348)، تهذيب التهذيب (6/ 227)، طبقات الحفاظ (152).

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 488)، التاريخ الكبير (6/ 406)، الجرح والتعديل (6/ 291)، الثقات لابن حبان (7/ 238)، رجال مسلم لابن منجويه (2/ 114)، تاريخ بغداد (11/ 152)، صفة الصفوة (4/ 189)، تهذيب الكمال (23/ 62)، تذكرة الحفاظ (1/ 279)، سير أعلام النبلاء (8/ 489)، تهذيب التهذيب (8/ 212)، تقريب التهذيب (441).

(4)

في (ق): "محمد بن الحسين المصيصي"، وهو تصحيف والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمته في طبقات =

ص: 487

وفيها توفي معمَر الرقِّي.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومئة

فيها دخل هَرْثَمةُ بن أعْيَن إلى خراسان نائبًا عليها، وقبض على علي بن عيسى، فأخذ أموالَهُ وحواصِلَه، وأركبه على بعير، وَجْهُه لِذَنَبه، ونادَى عليه ببلادِ خراسان، وكتب إلى الرشيدِ بذلك. فشكره على ذلك، ثم أرسله إلى الرشيد بعدَ ذلك، فحُبس بدارِهِ ببغداد.

وفيها ولَّى الرشيدُ ثابتَ بنَ نصرِ بن مالك نيابةَ الثغور، فدخلَ بلادَ الروم، وفتح مطمور

(1)

.

وفيها كان الصُّلح بين المسلمين والرُّوم على يد ثابت بن نصر.

وفيها خرجتِ الخُرَّمِيَّةُ بالجبل وبلادِ أذْرِبيجَان؛ فوخه الرشيدُ إليهم عبدَ اللَّه بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرةِ آلافِ فارس؛ فقتل منهم خلقًا، وأسر وسَبَى ذَرَاريَّهُمْ، وقَدِم بهم بغدادَ، فأمَرَ له الرشيد بقتلِ الرجالِ منهم، وبالذُّرِّيَّةِ فبيعوا فيها، وكان قد غزاهم قبلَ ذلك خُزيمةُ بن خازِم.

وفي ربيع الأول منها قدم الرشيدُ من الرقة إلى بغداد في السُّفُن، ومْد استخلف على الرَّقَّةِ ابنَهُ القاسم، وبين يديه خُزيمة بن خازم، ومن نِيَّةِ الرشيد الذهابُ إلى خراسان لغَزْوِ رافع بن ليث الذي كان قد خلَعَ الطاعةَ واستحوذَ على بلادٍ كثيرةٍ من بلادِ سَمَرْقَنْدَ وغيرِها. ثم خرج الرشيدُ في شعبانَ قاصدًا خراسان، واستخلف على بغدادَ ابنَه محمدًا الأمين، وسأل المأمونُ من أبيه أنْ يخرجَ معه خوفًا من غَدْرِ أخيه الأمين، فأذِنَ له، فسار معه وقد شكا الرشيدُ في أثناءَ الطريق إلى بعضِ أمرائه جفاء بَنِيهِ الثلاثة الذين جعلهم ولاة للعَهْدِ من بعدِه؛ وأراهُ داء في جسَدِه وقال: إنَّ لِكُل واحدٍ من الأمين والمأمون والقاسم عندي عَيْنًا عليّ، وهم يَعُدُّونَ أنفاسي، ويتمنَّوْنَ انقضاءَ أيَّامي، وذلك شَرٌّ لهم لو كانوا يعلمون. فدعا له ذلك الأمير؛ ثم أمر له الرشيدُ بالإنصرافِ إلى عمَلِهِ وودَّعَه، وكان آخِرَ العَهْدِ به.

وفيها تحرَّك ثَرْوانُ الحَرُوريّ وقتل عاملَ السلطان بِطَفِّ البصرة

(2)

.

= ابن سعد (7/ 489)، طبقات خليفة (318)، التاريخ الكبير (7/ 437)، التاريخ الصغير (2/ 254)، الجرح والتعديل (8/ 347)، الثقات لابن حبان (9/ 185)، حلية الأولياء (8/ 266)، تالي تلخيص المثشابه للخطيب البغدادي (2/ 572)، صفة الصفوة (4/ 266)، المختار من مناقب الأخيار (4/ 490)، تهذيب الكمال (27/ 332)، سير أعلام النبلاء (9/ 236)، العبر (1/ 308)، تهذيب التهذيب (10/ 72)، الكواكب الدرية (1/ 444)، شذرات الذهب (1/ 329).

(1)

"مطمورة" بلدٌ في ثغور بلاد الروم بناحيةِ طَرَسُوس. معجم البلدان (5/ 151).

(2)

"الطَّفُّ": ما أشْرَفَ من أرض العرب على ريف العراق، مشتق من ذلك، وطفُّ الفرات: شطُّه، سمي بذلك =

ص: 488

وفيها قتل الرشيدُ الهَيْصَمَ اليماني. ومات عيسى بنُ جعفر وهو يريدُ اللَّحَاقَ بالرشيد، فمات في الطريق.

وفيها حجَّ بالناس العباسُ بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.

‌وفيها توفي:

إسماعيلُ بن جامع

(1)

بن إسماعيل بن عبد اللَّه بن المطلب بن أبي وَدَاعة أبو القاسم، أحدُ المشاهيرِ بالغناء. كان مِمَّنْ يُضرب به المثَل. وقد كان أولًا يَحفَظُ القرآن، ثم صار إلى صناعةِ الغناء، وترك القرآن. وذكر عنه أبو الفرج بن علي بن الحسين صاحب الأغاني حكاياتٍ غريبة

(2)

، من ذلك أنه قال: كنتُ يومًا مشرفًا من غُرْفةٍ بحرَّان

(3)

، إذ أقبلَتْ جاريةٌ سوداء، معها قِرْبةٌ تستقي الماء، فجلسَتْ ووضَعَتْ قِربتَها واندفعتْ تُغنِّي:

إلى اللَّه أشكو بُخْلَها وسماحتي

لها عَسَلٌ منِّي وتَبْذُلُ عَلْقَما

فرُدِّي مُصَابَ القلبِ أنتِ قتلتِهِ

ولا تترُكِيهِ هائمَ القلبِ مُغْرَما

قال: فسمعتُ ما لا صَبْرَ لي عنه، ورجَوْتُ أنْ تُعيدَه؛ فقامَتْ وانصرفَتْ، فنَزَلْتُ وانطلقتُ وراءها، وسألتُها أن تعيدَه، فقالت: إنَّ عليَّ خراجًا كلَّ يومٍ درهمَيْن، فأعطيتُها درهمين، فأعادَتْهُ، فحَفِظْتُهُ وسلكته يومي ذلك، فلما أصبحتُ أنسيتُه، فأقبلتِ السوداءُ فسألتُها أنْ تعيدَه، فلم تفعَلْ إلَّا بدرهمين، ثم قالت: كأنكَ تستكثرُ أربعةَ دراهم! كأنِّي بكَ وقد أخذتَ عليه أربعةَ آلافِ دينار. قال ابنُ جامع: فغنَّيتُهُ ليلةً للرشيد، فأعطاني ألفَ دينار، ثم استعادَنِيهِ ثلاثَ مرَّاتٍ أخرى، وأعطاني ثلاثةَ آلافِ دينار؛ فتبسَّمتُ، فقال: ممَّ تبسَّمتَ؟ فذكرتُ له القصة، فضَحِك وألقى إليَّ كيسًا آخرَ فيه ألفُ دينارٍ، وقال: لا أكذبُ السوداء.

وحكى عنه أيضًا قال

(4)

: أصبحتُ يومًا بالمدينةِ وليس معي إلا ثلاثةُ دراهم، فإذا جاريةٌ على رقبتِها جرَّةٌ تُريدُ الرَّكِيّ، وهي تسعَى وتترنَّمُ بصوتٍ شَجِيّ:

شكَوْنا إلى أحبابنا طولَ ليلِنا

فقالوا لنا ما أقصَرَ الليلَ عندَنا

وذاكَ لأنَّ النَّومَ يَغْشَى عيونَهم

سريعًا ولا يَغْشَى لنا النَّومُ أعْيُنَا

= لدُنُوِّه. وقيل غير ذلك، انظر لسان العرب (طفف).

(1)

ترجمته في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (6/ 304)، الإكمال لابن ماكولا (4/ 302)، تهذيب مستمر الأوهام له (259)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 198)، النجوم الزاهرة (2/ 139).

(2)

الأغاني (6/ 304)، وما بعدها، والحكاية الآتية في (6/ 350).

(3)

كذا في الأصول، وفي الأغاني:"في غرفة لي باليمن".

(4)

يعني صاحب الأغاني في كتابه الأغاني (6/ 326).

ص: 489

إذا ما دنا الليلُ المُضِرُّ بذي الهوَى

جَزِعْنا وهم يَستبشرون إذا دَنَا

فلو أنَّهم كانوا يُلاقُونَ مثلَ ما

نُلاقي لكانوا في المضاجِعِ مِثْلَنا

قال: فاستعدتُهُ منها وأعطيتُها الدراهمَ الثلاثة، فقالت: لتأخُذَنَّ بدَلَها ألفَ دينار، وألفَ دينار، وألفَ دينار. فأعطاني الرشيدُ ثلاثَة آلافِ دينارٍ في ليلةٍ على ذلك الصوت.

‌وفيها توفي:

بكر بن النَّطَّاح أبو وائل الحَنَفِي

(1)

: الشاعر المشهور، نزل بغداد في زمنِ الرشيد، وكان يخالطُ أبا العتاهية.

قال أبو هَفَّان

(2)

: أشعَرُ أهلِ العَدْل من المحدَثين أربعة: أوَّلُهم بكر بن النَّطَّاح.

وقال المبرِّد: سمعتُ الحسنَ بن رجاء يقول: اجتمع جماعةٌ من الشعراء ومعهم بكرُ بن النطَّاح يتناشدون؛ فلما فرَغوا من طُوَالِهم أنشد بكر بن النَّطاح لنفسه:

ما ضرَّها لو كتبَتْ بالرِّضا

فجفَّ جَفْنُ العينِ أو أُغمضا

شفاعةٌ مردودةٌ عندَها

في عاشقٍ يَوَدُّ لو قد قَضَى

يا نفسُ صبرًا واعلمي أنَّ ما

نأمَلُ منها مثلَما قد مَضَى

لم تمرضِ الأجفانُ من قاتلٍ

بلحظهِ إلَّا لأنْ أمْرَضَا

قال: فابتدروهُ يُقبِّلون رأسَه

(3)

.

ولما مات رثاهُ أبو العتاهية فقال:

ماتَ ابنُ نطَّاحٍ أبو وائلٍ

بَكْرٌ وأمسى الشعرُ قد بانا

(4)

‌وفيها تُوفي:

بُهلول المجنون، كان يأتي إلى مقابرِ الكوفة، وكان يتكلَّمُ بكلماتٍ حسَنة. وقد وعَظ الرشيد وغيرَهُ كما تقدَّم

(5)

.

(1)

ترجمته في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (19/ 113)، الفهرست (232)، تاريخ بغداد (7/ 91)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 201).

(2)

في (ق): أبو عفان، تصحيف والمثبت من (ب، ح) ومصادر ترجمة أبي هفان.

(3)

الخبر والشعر في تاريخ بغداد (7/ 91).

(4)

كذا في الأصول، والبيت في ديوان أبي العتاهية ص (105)، وروايته:"قد ماتا"، وهو بيت مفرد مذكورٌ مع القوافي التي رَويُّها على حرف التاء.

(5)

انظر ص (477) من هذا الجزء.

ص: 490

وعبدُ اللَّه بن إدريس الأوْدِي الكوفي

(1)

: سمع الأعمش، وابن جُريج، وشعبة، ومالكًا، وخلقًا سواهم. وروى عنه جماعاتٌ من الأئمة. وقد استدعاهُ الرشيد ليولِّيهُ القضاء، فقال: لا أصلح. وامتنع أشدَّ الامتناع، وكان قد سأل قبلَهُ وكيعًا فامتنع أيضًا، فطلب حفصَ بن غياث فقَبِل، وأطلق لكلِّ واحدٍ خمسةَ آلافٍ عِوَضًا عن كُلفتِه التي تكلَّفها في السفر فلم يقبَلْ وكيعٌ ولا ابنُ إدريس، وقبل ذلك حفص؛ فحلف ابنُ إدريس لا يكلِّمُه أبدًا.

وحجَّ الرشيدُ في بعض السنين، فاجتاز بالكوفةِ ومعه القاضي أبو يوسف، والأمين، والمأمون، فأمر الرشيد أنْ يجتمعَ شيوخُ الحديث ليُسمِعوا ولدَيْه. فاجتمعوا إلا ابنَ إدريس هذا، وعيسى بنَ يونس، فركب الأمينُ والمأمونُ بعد فراغِهما من سماعِهما على مَنِ اجتمع من المشايخِ إلى ابنِ إدريس، فاسمعَهما مئةَ حديث، فقال له المأمون: يا عم، إنْ أردتَ أعدتُها من حِفْظي، فأذِنَ له، فأعادَها من حفظِه كما سَمِعَها، فتعجَّبَ لحفظِه. ثم أمر له المأمون بمال، فلم يقبَلْ منه شيئًا. ثم سارا إلى عيسى بنِ يونس، فسمعا عليه، ثم أمر له المأمونُ بعشرةِ آلاف، فلم يقبَلْها، فظن أنه استقلَّها، فأضعفَها فقال: واللَّه لو ملأتَ لي المسجدَ مالكٌ إلى سقفِه ما قَبِلْتُ منه شيئًا على حديثِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. ولما احتُضر ابنُ إدريس بكَتِ ابنتُه، فقال: علامَ تبكي؟ فقد ختمتُ في هذا البيت أربعةَ آلافِ ختمة.

صَعْصَعةُ بن سلام

(2)

ويقال ابن عبد اللَّه، أبو عبد اللَّه الدمشقي، ثم تحوَّل إلى الأندلس، فاستوطنها في زمنِ عبد الرحمن بن معاوية

(3)

، وابنِهِ هاشم. وهو أولُ من أدخل علمَ الحديث ومذهبَ الأوزاعي إلى بلاد الأندلس

(4)

. ووَلِيَ الصلاةَ بِقُرْطُبَة. وفي أيامه غُرست الأشجارُ بالمسجدِ الجامعِ هناك، كما يراهُ الأوزاعي والشاميُّون، ويَكْرَهُهُ مالكٌ وأصحابُه. وقد روى عن مالك، والأوزاعي، وسعيدِ بن عبد العزيز. وروى عنه جماعةٌ منهم عبدُ الملك بن حَبِيب الفقيه، وذكرَهُ في كتاب "الفقهاء" وذكره ابنُ يونس في تاريخِه تاريخِ مصر، والحُميدي في تاريخ الأندلس. وحرَّرَ وفاتَه في هذه السنة. وحكَى عن شيخِهِ ابنِ حَزْم أنَّ صعصعةَ هذا أولُ من أدخلَ مذهبَ الأوزاعي إلى الأندلس. وقال ابن يونس: أول من أدخل علمَ الحديث إليها. وذكر أنه تُوفي قريبًا من سنةِ ثمانين ومئة. والذي حرَّرَهُ الحُميدي في هذه السنة أثبت.

(1)

ترجمته في بحر الدم للإمام أحمد (231)، التاريخ الكبير (5/ 49)، الكنى والأسماء لمسلم (2/ 737)، معرفة الثقات للعجلي (2/ 21)، الجرح والتعديل (5/ 8)، الثقات لابن حبان (7/ 59)، مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (1/ 431)، تقريب التهذيب (295)، طبقات الحفاظ (124).

(2)

ترجمته في تاريخ ابن الفرضي (1/ 610) وتاريخ الإسلام للذهبي (4/ 656)(بتحقيق الدكتور بشار عواد).

(3)

في (ح، ق): زمن عبد الملك بن معاوية، وهو تصحيف والمثبت من (ب).

(4)

قال الذهبي في تاريخ الإسلام معقبًا على أنه أول من أدخل الحديث بالأندلس: "بل كان قبله معاوية بن صالح في طبقة شيوخه".

ص: 491

علي بن ظَبْيَان

(1)

أبو الحسن العَبْسي، قاضي الشرقيَّة من بغداد، ولَّاهُ الرشيدُ ذلك، كان ثقةً عالمًا، من أصحابِ أبي حنيفة، ثم ولَّاهُ الرشيد قضاءَ القُضاة، وكان الرشيدُ يخرجُ معه إذا خرج من عندِه. مات بقَرْمِيسينَ في هذه السنة

(2)

.

العباس بن الأحنف

(3)

بن الأسود بن طلحة، الشاعرُ المشهور، كان من عرَبِ خُراسان، ونشأ ببغداد، وكان لطيفًا ظَريفًا مقبولًا، حسَنَ الشعر.

قال أبو العباس: قال عبدُ اللَّه بن المعتز: لو قيل لي: منْ أحسنُ الناسِ شعرًا تعرفُه؟ لقلت: العباس.

قد سَحَّبَ الناسُ أذيالَ الظُّنونِ بنا

وفرَّقَ الناسُ فينا قولَهم فِرَقَا

فكاذبٌ قد رَمَى بالظنِّ غيرَكم

وصادقٌ ليس يَدْري أنَّهُ صَدَقا

(4)

وقد طلَبَهُ الرشيدُ ذاتَ ليلةٍ في أثناءِ الليل، فانزعج لذلك، وخاف نساؤه؛ فلما وقف بين يدَي الرشيد قال له: ويحك، إنه قد عنَّ لي بيتٌ في جاريةٍ لي فاحببتُ أن تشفَعَهُ بمثلِه. فقال: يا أمير المؤمنين، ما خفتُ أعظمَ من هذه الليلة. فقال: ولِمَ؟ فذكر له دخولَ الحرسِ عليه في الليل، ثم جلس حتى سكَنَ رُوعُه، ثم قال: ما قلتَ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال:

حنانٌ قد رأيناها

فلم نَرَ مثلها بَشَرا

فقال العباس:

يَزيدُكَ وَجْهُها حُسْنًا

إذا ما زِدْتَهُ نَظَرا

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 402)، الضعفاء والمتروكين للنسائي (77)، الضعفاء للعقيلي (3/ 234)، كتاب المجروحين لابن حبان البستي (2/ 105)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 431)، الكامل لابن عدي (5/ 187)، تاريخ بغداد (11/ 443)، كتاب الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 195)، تهذيب الكمال (20/ 496)، ميزان الاعتدال (5/ 163)، الكاشف (2/ 42)، لسان الميزان (7/ 311)، تهذيب التهذيب (7/ 300)، تقريب التهذيب (402).

(2)

في (ق): "قوميسين"، والمثبت من (ب، ح)، وقَرْمِيسين -بالفتح ثم السكون وكسر الميم وياء مثناة من تحت وسين مهملة مكسورة وياء اخرى ساكنة ونون وهو تعريب كرمان شاهان-: بلدٌ معروف، بينه وبين هَمَذان ثلاثون فرسخًا، قُرْبَ الدِّينور. وهي بين هَمَذان وحُلْوان على جادَّة الحاج. معجم البلدان (4/ 330).

(3)

ترجمته في الأغاني (8/ 366)، تاريخ بغداد (12/ 127)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 206)، الكامل لابن الأثير (5/ 337)، وفيات الأعيان (3/ 20)، العبر (1/ 312)، سير أعلام النبلاء (9/ 98)، شذرات الذهب (1/ 334).

(4)

البيتان في ديوان العباس ص (224)، والأغاني (8/ 383)، والمدهش لابن الجوزي (400).

ص: 492

فقال الرشيد: زِدْ. فقال:

إذا ما الليل مالَ علَيْـ

ــكَ بالإظْلامِ واعْتَكَرا

ودَجَّ فلم تَرَى فَجْرًا

فأبْرِزْها تَرَى قَمَرًا

(1)

فقال: إنَّا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرةِ آلافِ درهم.

ومن شعرِهِ الذي أقرَّ له فيه بشارُ بنُ بُرْد، وأثبته في سِلْك الشعراء بسببِه قولُه:

أبكي الذين أذاقوني مَوَدَّتَهُمْ

حتى إذا أيقظوني للهوَى رَقَدوا

واستنهضوني فلمَّا قمتُ مُنتصبًا

بِثقْلِ ما حَمَّلوني منهمُ قَعَدوا

(2)

وله أيضًا:

وحدَّثتَنِي يا سعدُ عنها فِزِدْتَني

جنونًا فزِدْني من حديثِكَ يا سَعْدُ

هواها هوى لم يعرِفِ القلبُ غيرَهُ

فليس له قَبْلٌ وليس لَهُ بَعْدُ

(3)

قال الأصمعي: دخلتُ على العباسِ بنِ الأحنف بالبصرةِ وهو طَريحٌ على فراشِه، يَجُودُ بنفسِهِ وهو يقول:

يا بعيدَ الدارِ عن وطنِهْ

مُفردًا يبكي على شَجَنِهْ

كلَّما جدَّ النحيبُ بهِ

زادَتِ الأسقامُ في بَدَنِهْ

ثم أُغمي عليه، ثم انتبه بصوتِ طائرٍ على شجرةٍ فقال:

ولقد زاد الفؤادَ شجًا

هاتفٌ يبكي على فَنَنِهْ

شاقَهُ ما شاقَني فبَكَى

كُلُّنا يبكي على سَكَنِه

(4)

قال: ثم أُغمي عليه أخرى، فحرَّكْتُهُ فإذا هو قد مات.

قال الصولي: كانتْ وفاتُه في هذه السنة. وقال القاضي ابن خلِّكان إنه تُوفي بعدَها، وقيل قبلَها، في سنةِ ثمانٍ وثمانين ومئة. فاللَّه أعلم. وقال عمر بن شبَّة: سنة ثمان وثمانين. وزعم بعضُ المؤرِّخين أنه بَقي بعدَ الرشيد.

(1)

الأبيات في ديوان الأحنف ص (152)، وقوله:"ترى" برفع المجزوم في شطري البيت الأخير، من ضرورات الشعر. ولفظ الديوان "يكن" في الشطرين.

(2)

البيتان في ديوان العباس ص (104)، وهما في ديوان بشار بن برد أيضًا ص (434).

(3)

البيتان في ديوان العباس ص (120).

(4)

الأبيات بألفاظٍ مقاربة في ديوان العباس ص (311).

ص: 493

عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أخو زُبيدة كان نائبًا على البصرة في أيام الرَّشيد، فمات في أثناء هذه السنة.

‌وفيها توفي:

الفَضْلُ بن يحيى

(1)

بن خالد بن بَرْمَك، أخو جعفر وإخوته، كان هو والرشيد يتراضَعان، أرضعَتِ الخَيْزُرانُ فضلًا، وأرضعَتْ أمُّ الفضلِ -وهي زُبيدةُ بنتُ منين بن بويه

(2)

- هارونَ الرشيد، وكانت زُبيدة هذه من مولَّدات المدينه

(3)

. وقد قال في ذلك بعضُ الشعراء

(4)

:

كفَى لك فضلًا أنَّ أفضلَ حُرَّةٍ

غذَتْكَ بِثَدْيٍ والخليفةَ واحدِ

لقد زِنْتَ يحيى في المشاهدِ كلها

كما زانَ يحيى خالدًا في المشاهدِ

قالوا: وكان الفضلُ أكرمَ من أخيه جعفر، ولكنْ كان فيه كِبْرٌ شديد، وكان عبوسًا؛ وكان جعفر أحسنَ بشرًا منه، وأطلَقَ وجهًا، وأقلَّ عطاءً؛ وكان الناسُ إليه أمْيَل، ولكن خَصْلَةَ الكرَمِ تُغَطي جميعَ القبائح، فهي تسترُ تلك الخَصْلَة التي كانتْ في الفضل. وقد وهبَ الفضلُ لطبَّاخِهِ مئةَ ألفِ درهم، فعابَهُ أبوهُ على ذلك، فقال: يا أبتِ إنَّ هذا كان يَصْحَبُني في العُسْرِ واليُسر، والعيشِ الخَشِن، واستمرَّ معي في هذا الحالِ فأحسَنَ صُحبتي، وقد قال بعضُ الشعراء

(5)

:

إنَّ الكرامَ إذا ما أيْسَروا ذكروا

منْ كانَ يَعْتادُهُمْ في المَنْزِلِ الخَشِنِ

ووَهَبَ يومًا لبعضِ الأدباءِ عشرةَ آلافِ دينار، فبكى الرجل، فقال له: ممَّ تبكي؟ أستَقْلَلْتَها؟ قال: لا واللَّه ولكنِّي أبكي أنَّ الأرض تأكُلُ مثلَكَ أو تُواري مثلَك.

وقال عليُّ بن الجَهْم عن أبيه: أصبحتُ يومًا لا أملكُ شيئًا، حتى ولا علَفَ الدابَّة، فقصدتُ الفضلَ بن يحيى، فإذا هو قد أقبلَ من دارِ الخلافةِ في موكبٍ من الناس، فلما رآني رحَّبَ بي وقال:

(1)

ترجمته في تاريخ الطبري (5/ 13)، تاريخ بغداد (12/ 334)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 208)، الكامل لابن الأثير (5/ 352)، وفيات الأعيان (4/ 27)، مر أعلام النبلاء (9/ 91)، العبر (1/ 359)، النجوم الزاهرة (2/ 140).

(2)

كذا في (ب، ح)، وفي (ق):"زينب بنت بن بريه". وفي تاريخ بغداد (12/ 334): "زبيدة بنت سنين بربرية مولدة بالمدينة". وفي المنتظم (9/ 208): "زبيدة بنت منين بربرية فارضعته وأرضعت زبيدة أمه الرشيد". وفي النجوم الزاهرة (2/ 140): "زبيدة بنت منير بن زيد من مولدات المدينة". ولم أجد نصًّا يضبط اسم أبيها.

(3)

في (ح، ق): من مولدات "بتبين البرية" وهو تصحيف، والمثبت من (ب) ومصادر الترجمة.

(4)

هو مروان بن أبي حفصة، والبيتان في ديوانه ص (50).

(5)

هو دِعْبِل بن علي الخُزاعي، والبيت في ديوانه ص (175).

ص: 494

هَلُمَّ. فسرتُ معه، فلما كان ببعضِ الطريق سمع غلامًا يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جاريةٍ له يُحبُّها. فانزعج لذلك، وشكا إليَّ ما لَقِيَ من ذلك؛ فقلت: أصابك ما أصابَ أخا بني عامرٍ حيثُ يقول

(1)

:

وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخَيفِ منْ منًى

فهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ ولا يَدْري

دَعا باسمِ ليلى غيرَها وكأنَّما

أطارَ بليلى طائرًا كانَ في صدري

فقال اكتبْ لي هذَيْنِ البيتين. قال: فذهبتُ إلى بقَّالٍ فرَهَنْتُ عنهُ خاتمي على ثَمَنِ ورَقَة، وكتبتُهما له، فأخذهما وقال: انطلِقْ راشدًا. فرجعتُ إلى مَنْزلي، فقال لي غُلامي: هاتِ خاتمكَ حتى نَرْهنهُ على طعامٍ لنا وعَلَفِ للدابَّة. فقلت: إني رَهَنْتُه. فما أمسَيْنا حتى أرسلَ إليَّ الفضلُ بثلاثين ألفًا من الذهب، وعشرةِ آلافٍ من الوَرِق، أجراهُ عليَّ كلَّ شهر، وأسلَفَني شهرًا.

ودخل على الفضل يومًا بعض الأكابر، فأكرمَهُ الفضلُ وأجلسَهُ معه على السرير؛ فشكا إليه الرجلُ دَيْنًا عليه، وسأله أنْ يُكَلِّمَ في ذلك أميرَ المؤمنين. فقال: نعَمْ، وكم دَيْنُك؟ قال: ثلاثُ مئةِ ألف درهم. فخرج من عندِه وهو مَهْمومٌ لضعفِ رَدِّهِ عليه؛ ثم مال إلى بعضِ إخوانه، فاستراحَ عندَه، ثم رجع إلى مَنْزِله، فإذا المالُ قد سبَقَهُ إلى دارِه. وما أحسنَ ما قال فيه بعضُ الشعراء:

لك الفضلُ يا فَضْلُ بنَ يحيى بنِ خالدٍ

وما كُلُّ منْ يُدْعى بفضلٍ لَهُ فَضْلُ

رأى اللَّهُ فَضْلًا منكَ في الناسِ واسِعًا

فسمَّاكَ فَضْلًا فالتقى الإِسمُ والفِعْلُ

وقد كان الفضلُ أكبرَ رتبةَ عندَ الرشيد من جعفر، وكان جعفرٌ أحْظَى عند الرشيد منه وأخَصّ. وقد ولَّى الفضلَ أعمالًا كبارًا، منها نيَابَةُ خراسانَ وغيرِها، ولما قتَل الرشيدُ البرامكةَ وحَبَسهم، جلَدَ الفضلَ هذا مئةَ سَوْط، وخَلَّدَهُ في الحبس حتى ماتَ في هذه السنة، قبلَ الرشيد بشهورٍ خمسة في الرقَّة. وصلَّى عليه بالقصرِ الذي ماتَ فيه أصحابُه. ثم أُخرجت جنازَتُه، فصلَّى عليها الناس، ودُفن هناك، وله خمسٌ وأربعون سنة. وكان سببَ موتِهِ ثِقَلٌ أصابَهُ في لسانِه، اشتدَّ بهِ يومَ الخميس ويومَ الجُمعة. وتُوفي قبلَ أذانِ الغداةِ من يوم السبت. قال ابنُ جرير

(2)

: وذلك في المحرَّم من سنةِ ثلاثِ وتسعين ومئة. وقال ابنُ الجوزي

(3)

: في سنةِ ثنتَيْنِ وتسعين. فاللَّه أعلم.

وقد أطال ابنُ خلِّكان ترجمتة

(4)

، وذكر طَرَفًا صالحًا من محاسنِه ومكارمِه، من ذلك أنه ورَدَ بَلْخَ

(1)

هو الشاعر قيس لبنى، والبيتان في ديوانه ص (97).

(2)

يعني الطبري في تاريخه (5/ 13).

(3)

في المنتظم (9/ 209).

(4)

بلغت ترجمته في وفيات الأعيان من (4/ 27) إلى (4/ 36).

ص: 495

حين كان نائبًا على خراسان، وكان بها بيتُ النار التي كانتْ تعبدُها المجوس، وقد كان جدُّه بَرْمَك من خُدَّامِها، فهَدَمَ بعضَه ولم يتمكَنْ من هَدْمِهِ كُلَّه، لِقُوَّة إحكامه. وبَنَى مكانَهُ مسجدًا للَّه تعالى، وذكر أنه كان يتمثل في السِّجْنِ بهذه الأبيات ويبكي:

إلى اللَّه فيما نالنا نَرْفَعُ الشَّكْوَى

ففي يَدِهِ كَشْفُ المضَرَّةِ والبَلْوَى

خرَجْنا من الدُّنيا ونحنُ مِنَ أهْلِها

فلا نحنُ في الأمواتِ فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السَّجَّانُ يومًا لحاجةٍ

عَجِبنا وقُلْنا جاءَ هذا من الدُّنيا

ومحمد بن أمية الشاعر الكاتب

(1)

: وهو من بيتٍ كلُّهم شعراء أُدَباء، وقد اختلَطَ أشعارُ بعضِهم في بعض. وله شعرٌ رائق، ومَديحٌ فائق.

ومنصور بن الزِّبْرِقان

(2)

بن سَلَمة، أبو الفَضْل النُّمَيري الشاعر، امتدَحَ الرشيد؛ وأصلُهُ من الجزيرة، وأقام ببغداد، ويُقال لِجَدِّهِ مُطْعِمُ الكبْشَ الرَّخَمَ، وذلك أنه أضافَ قومًا، فجعلت الرَّخَمُ تَحُومُ حولَهم، فأمرَ بكبشٍ يُذبَحُ للرَّخَم، حتى لا يتأذَّى بها ضيفانُه، ففُعل له ذلك، فقال الشاعر فيه:

أبوكَ زعيمُ بني قاسِطٍ

وخالُكَ ذو الكَبْشِ يَقْري الرَّخَمْ

وله أشعارٌ حسَنة، وكان يَرْويْ عن كُلْثومِ بن عمرو، وكان شيخَهُ الذي أخذ عنه الغِنَاء.

يوسف بن القاضي أبي يوسف

(3)

: سمع الحديثَ من السَّرِيِّ بن يحيى، ويونس بن أبي إسحاق. ونظر في الرَّأْي، وتفقَّه ووُلي قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياةِ أبيه أبي يوسف. وصلَّى بالناسِ الجُمعةَ بجامعِ المنصور عن أمرِ الرشيد. تُوفي في رجب من هذه السنة، وهو قاضٍ ببغداد.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومئة

قال ابنُ جرير

(4)

: في المحرَّم منها تُوفي الفضلُ بن يحيى. وقد أرَّخ ابنُ الجوزي وفاتَهُ في سنة ثنتين وتسعين كما تقدَّم

(5)

. وما قاله ابنُ جرير أقرب.

قال: وفيها تُوفي سعيدٌ الجَوْهَري.

(1)

ترجمته في الأغاني (12/ 171)، تاريخ بغداد (2/ 86)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 210).

(2)

ترجمته في الأغاني (13/ 157)، تاريخ بغداد (13/ 65)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 211).

(3)

ترجمته في تاريخ بغداد (14/ 296).

(4)

أي الطبري في تاريخه (5/ 13).

(5)

في الصفحة السابقة، موضع الحاشية (3).

ص: 496

قال: وقيها وافى الرشيدُ جُرْجَان، وانتهتْ إليه خزائنُ عليِّ بن عيسى، تُحملُ على ألفٍ وخمسِ مئةِ بعير؛ وذلك في صَفَر منها. ثم تحول منها إلى طُوس وهو عَلِيل، فلم يزَلْ بها حتى كانتْ وفاتُه فيها.

وفيها تَوَاقَعَ هَرْثَمةُ نائبُ العراق هو ورافِع بن اللَّيث، فكسَرَه هَرْثَمةُ وافتَتح بُخارى، وأسَرَ أخاه بشير بن اللَّيث، فبعثَهُ إلى الرشيد وهو بطُوس، قد ثَمُّل عن السَّيْر، فلما وقف بين يديْه شَرَعَ يترقَّقُ له، فلم يقبَلْ منه، بل قال: واللَّه لو لم يبقَ من عُمري إلَّا أنْ أُحَركَ شَفَتيَّ بقَتْلِك لَقتلتُك. ثم دعا بقصَّاب، فجزَّأه بين يديه أربعةَ عشرَ عُضوًا. ثم رفع الرشيدُ يدَيْهِ إلى السماء يَدْعو اللَّه أنْ يُمكَنَهُ من أخيهِ كما مكَّنَهُ من أخيه بشير.

‌وفاةُ الرَّشِيد

كان قد رأى وهو بالرَّقَّة

(1)

رؤيا أفزَعَتْه، وغَمَّهُ ذلك، فدخل عليه جبريلُ بنُ بَخْتَيْشُوع فقال: ما لَكَ يا أميرَ المؤمنين. فقال: رأيتُ كفًّا فيها تُربة حمراء، خرجَتْ من تحتِ سَريري هذا، وقائلًا يقول: هذه تُربةُ هارون. فهَوَّنَ عليه جبريلُ أمرَها وقال: هذه من أضغاثِ الأحلام، من حديثِ النفس، فتناسَهَا يا أميرَ المؤمنين. فلما سارَ يُريدُ خراسان، ومرَّ بِطُوس، واعتقَلَتْهُ العِلَّة بها، ذكَرَ رؤياهُ، فهالَهُ ذلك وانزعَجَ جدًّا؛ فدخلَ الناسُ عليه، فقال لِجبريل: ويحك! أما تذكرُ ما قَصَصْتُهُ عليكَ من الرؤيا؟ فقال: بلَى يا أمير المؤمنين، فكان ماذا؟ فدَعَا مسرورًا الخادمَ وقال: ائتِني بشيءٍ من تُربةِ هذه الأرض في يدِك. فجاءه بتربةٍ حمراءَ في يدِه، فلمَّا رآها قال: واللَّهِ هذه الكفُّ التي رأيتُ والتربةُ التي كانتْ فيها. قال جبريل: فواللَّه ما أتَتْ عليهِ ثلاثٌ حتى تُوفِّي؛ وقد أمَرَ بحَفْرِ قبرِهِ قبلَ موتِهِ في الدارِ التي كان فيها؛ وهي دارُ حُميد بن أبي غانم الطائي، فجعل ينظُرُ إلى قبرِهِ وهو يقول: يا ابنَ آدَم، تصيرُ إلى هذا. ثم أمَرَ أن يقرؤوا القرآنَ في قبره؛ فقرؤوهُ حتى ختموه، وهو في مِحَفَّةٍ على شَفِيرِ القبر؛ ولما حضرَتْهُ الوفاةُ احْتَبَى بِمُلاءَةٍ وجلَسَ يُقاسي سكراتِ الموت، فقال له بعضُ منْ حضَره: لو اضطجَعْتَ كان أهونَ عليك. فضَحِكَ ضحكًا صحيحًا ثم قال: أمَا سمعتَ قولَ الشاعر:

وإنيَ من قومٍ كرامٍ يَزِيدُهُمْ

شِمَاسًا وصَبْرًا شِدَّةُ الحَدَثانِ

وكانتْ وفاتُهُ ليلةَ السبت، وقيل: ليلةَ الأحد مستهل جُمادَى الآخرة، سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، عن خمسٍ -وقيل: سبع- وأربعينَ سنةً؛ وكان مُلْكُه ثلاثًا وعشرين سنةً. وهذه ترجمتُه، هو:

(1)

في (ق): "بالكوفة"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (5/ 14)، وروي الخبر فيه مطولًا.

ص: 497

‌هارونُ الرَّشِيد

(1)

أمير المؤمنين ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبدِ اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب، القرشيُّ الهاشميّ، أبو محمد، ويقال: أبو جعفر. وأمُّهُ الخَيْزُران أمُّ وَلَد. كان مَوْلدُه في شوال سنةَ ستّ، وقيل: سبع. وقيل: ثمانٍ وأربعين ومئة. وقيل: إنه وُلد سنةَ خمسين ومئة، وبُويع له بالخِلافة بعدَ موتِ أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنةَ سبعين ومئة، بعهدِ من أبيه المَهْدي.

روى الحديثَ عن أبيهِ وجدِّه، وحدث عن المبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اتَّقُوا النارَ ولو بشِقِّ تَمْرَة"

(2)

. أوْرَدَهُ وهو على المِنْبَر وهو يخطُبُ الناس. وقد حدث عنه ابنُه، وسيلمانُ الهاشمي والدُ إسحاق، ونُباتة بن عمرو.

وكان الرشيدُ أبيضَ طويلًا جميلًا، وقد غزا الصائفةَ في حياةِ أبيهِ المهدي مِرارًا، وعقَدَ الهُدْنَةَ بين المسلمينَ والروم بعدَ محاصرته القُسْطَنْطِينيَّة؛ وقد لقي المسلمون من ذلك جهدًا جَهيدًا، وخوفًا شديدًا، وكان الصلحُ مع امرأةِ ليون، وهي الملقبة بأعطشة

(3)

على حمل كثيرٍ تبذلُه للمسلمينَ في كل عام، ففرح المسلمون بذلك، وكان هذا الذي حدا أباه على البيعةِ له بعد أخيه في سنة ستٍّ وستين ومئة. ثم لما أفضَتْ إليه الخلافةُ في سنةِ سبعين ومئة كان من أحسَنِ الناسِ سيرةً وأكثرِهمْ غزوًا وحجًّا؛ ولهذا قال فيه أبو السعلي:

فمنْ يطلُبْ لقاءَك او يُرِدْهُ

فبالحرمَيْنِ أو أقَصَى الثُّغُورِ

ففي أرضِ العدو على طِمِرٍّ

وفي أرضِ البَنِيَّة

(4)

فوقَ كُورِ

وما حاز الثغورَ سواكَ خَلْقٌ

من المُتَخلِّفينَ على الأمورِ

وكان يتصدَّقُ من صُلْبِ مالِهِ في كلِّ يومِ بألفِ درهم. وإذا حجَّ أحَجَّ معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يَحُجَّ أحَجَّ ثلاثَ مئةٍ بالنفَقَةِ السابغة، والكسْوة التامَّة، كان يُحبُّ التشبُّه بجَدِّهِ أبي جعفر

(1)

ترجمته في تاريخ خليفة بن خياط (460)، تاريخ الطبري (4/ 617)، تاريخ بغداد (14/ 33)، و (5/ 14)، مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 5)، سير أعلام النبلاء (9/ 286)، مآثر الإنافة للقلقشندي (1/ 192)، شذرات الذهب (1/ 334)، تاريخ الخلفاء (283).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رقم (3644) وهو عند البخاري رقم (1417) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم.

(3)

في (ق): بأغسطه، والمثبت من (ب، ح)، وانظر ما مضى ص (178) من نسخة (ق).

(4)

في (ق): "التَرَفُّهِ"، وفي (ح):"الثنية"، والمثبت من (ب).

ص: 498

المنصور، إلَّا في العطاء، فإنه كان سريعَ العطاءِ جَزِيلَه. وكان يُحبُّ الفقهاءَ والشعراء، ويُعطيهم، ولا يَضيعُ لدَيْهِ برٌّ ومعروف. وكان نقشُ خاتمِهِ لا إله إلا اللَّه. وكان يُصلِّي في كلِّ يومٍ مئةَ ركعةٍ تطوُّعًا إلى أنْ فارق الدنيا، إلَّا أنْ تَعْرِضَ له عِلَّة.

وكان ابنُ أبي مريم هو الذي يُضحكُه. وكان عنده فضيلةٌ بأخبارِ الحجازِ وغيرِها. وكان الرشيد قد أنزلَهُ في قَصْره، وخلَطَهُ بأهله؛ نَبَّههُ الرشيدُ يومًا إلى صلاة الصُّبح، فقام فتوضَّأ ثم أدرك الرشيدَ وهو يقرأ:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، فقال ابنُ أبي مريم: لا أدري واللَّه. فضَحِك الرشيدُ وقطع الصلاة؛ ثم أقبل عليه وقال: ويحك! اجتَنِبِ الصلاةَ والقرآن، وقُلْ فيما عدا ذلك. ودخل يومًا العباسُ بن محمد على الرشيد ومعه بَرْنِيَّةٌ

(1)

من فِضة فيها غاليةٌ من أحسَنِ الطيب؛ فجعل يمدَحُها ويزيدُ في شكرها، وسأل من الرشيد أنْ يقبلَها منه، فقبِلَها، فاستوهبها منه ابنُ أبي مريم، فوهَبَها له؛ فقال له العباس: ويحك! جئتُ بشيءٍ منعتُه نفسي وأهلي وآثرتُ به أمير المؤمنين سيدي فأخذتَه؟ فحلَفَ ابنُ أبي مريمَ لَيُطَيِّبَن به استه؛ ثم أخذ منه شيئًا فطلَى به استَه ودهَنَ جوارِحَهُ كلَّها والرشيدُ لا يتمالكُ نفسَهُ من الضحك. ثم قال لخادِمٍ قائمٍ عندَهم يُقال له خاقان: اطلب لي غلامي. فقال الرشيدُ: ادْعُ له غلامَه. فقال له: خُذْ هذهِ الغاليةَ واذهبْ بها إلى ستِّكَ

(2)

فَمُرْها فَلْتُطَيِّبْ منها استَها حتى أرجعَ إليها فأنيكها. فذهب الضَّحِكُ بالرشيدِ كلَّ مذهب. ثم أقبل ابنُ أبي مريم على العباس بن محمد فقال له: جئتَ بهذه الغالية تمدَحُها عندَ أميرِ المؤمنين الذي ما تُمطرُ السماءُ شيئًا ولا تُنبت الأرضُ شيئًا إلَّا وهو تحت تصرُّفِه وفىِ يدِه! وأعجَبُ من هذا أنْ لو قيل لِمَلَكِ الموت: مهما أمَرَك به هذا فأنفِذْه. وأنتَ تمدَحُ هذه الغاليةَ عندَهُ كأنه بقَّالٌ أو خبَّازٌ أو طبَّاخٌ أو تَمَّار! فكادَ الرشيدُ يَهْلِكُ من شدَّةِ الضَّحِك. ثم أمَرَ لابنِ أبي مريمَ بمئةِ ألفِ درهم.

وقد شرب الرشيدُ يومًا دواءً، فسأله ابنُ أبي مريمَ أن يَلِيَ الحِجَابةَ في هذا اليوم ومهما حَصَلَ له كان بينه وبين أمير المؤمنين. فولَّاه الحِجَابة، فجاءتِ الرسُلُ بالهدايا من كلِّ جانبٍ؛ من عندِ زُبيدَةَ والبرامكةِ وكبارِ الأمراء؛ وكان حاصلُهُ في هذا اليوم ستين ألفَ دينار، فسأله الرشيدُ في اليوم الثاني عمَّا تحصَّل، فأخبره بذلك، فقال له: فأين نَصِيبي؟ فقال ابنُ أبي مريم: قد صالَحْتُكَ عليه بعشرةِ آلافِ تُفَّاحة.

وقد استدعَى إليه أبا معاوية الضرير محمدَ بن خازم ليسمعَ منه الحديث؛ قال أبو معاوية: ما ذكرتُ عندَهُ حديثًا إلا قال: صلَّى اللَّه وسلَّم على سيِّدي محمد. وإذا سمع حديثًا فيه موعظةٌ بكى حتى يبلَّ

(1)

البَرْنِيَّة: إناءٌ من خزَف. القاموس المحيط (برن). وفي كتاب العين (8/ 270): شبه فخَّارةٍ ضَخْمةٍ خضراء، من القوارير الثخانِ الواسعةِ الأفواه.

(2)

في (خ): بنتك.

ص: 499

الثَّرَى؛ وأكلتُ عنده يومًا ثم قمتُ لأغسلَ يدي، فصبَّ الماء عليَّ وأنا لا أراه. ثم قال: يا أبا معاوية، أتدري منْ يصبُّ عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصبُّ عليك أميرُ المؤمنين. قال أبو معاوية: فدعَوْتُ له، فقال: إنما أردتُ تعظيمَ العِلْم. وحدَّثه أبو معاويةَ يومًا عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرةَ بحديثِ احتجاجِ آدَمَ وموسى، فقال عمُّ الرشيد: أين التقَيَا يا أبا معاوية؟ فغَضِب الرشيدُ من ذلك غضبًا شديدًا وقال: أتعترضُ على الحديث؟ عليَّ بالنِّطْعِ والسيف. فأُحضر ذلك، فقام الناسُ إليه يشفعونَ فيه، فقال الرشيد: هذه زَنْدَقة. ثم أمَرَ بسَجْنِه، وأقسم أنْ لا يَخرُجَ حتى يُخبرني من ألقى إليه هذا. فأقسم عمُّه بالأيمانِ المغلَّظةِ ما قال هذا له أحد، وإنما كانتْ هذه الكلمة بادرةً منِّي، وأنا أستغفرُ اللَّه وأتوبُ إليه منها. فأطلقه.

وقال بعضُهم: دخلتُ على الرشيد وبين يديه رجلٌ مَضروبُ العُنق، والسيَّافُ يمسَحُ سيفَهُ في قَفَا الرجل المقتول؛ فقال الرشيد: قتلتُهُ لأنه قال القرآنُ مخلوق. فقتلَه على ذلك قُربةً إلى اللَّه عز وجل.

وقال بعضُ أهلِ العلم: يا أميرَ المؤمنين، انظُرْ هؤلاء الذين يُحبُّون أبا بكرٍ وعمر ويقدِّمونَهما، فأكرِمْهُم بعزِّ سُلطانك. فقال الرشيد: أو لستُ كذلك؟ أنا واللَّه كذلك. أُحبُّهما وأُحبُّ مَنْ يُحبُّهما، وأُعاقبُ مَنْ يُبغِضُهما.

وقال له ابنُ السمَّاك: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ اللَّه لم يجعلْ أحدًا من هؤلاءَ فوقَك، فينبغي

(1)

أن لا يكونَ فيهم أحدٌ أطوَعَ إلى اللَّه منك. فقال: لئن كنتَ أقصرتَ في الكلام لقد أبلَغْتَ في الموعظة.

وقال له الفُضيل بن عِياض -أو غيره-: إن اللَّه لم يجعَلْ أحدًا من هؤلاء فوقَك في الدُّنيا، فاجهِدْ نفسَك أنْ لا يكونَ أحدٌ منهم فوقَك في الآخرة؛ فاكدَحْ لنفسِك، وأعمِلْها في طاعةِ ربِّك.

ودخل عليه ابنُ السمَّاك يومًا فاستسقى الرشيدُ، فأُتي بِقُلَّةٍ فيها ماءٌ مُبَرَّد، فقال لابنِ السمَّاك: عِظْني. فقال: يا أمير المؤمنين، بِكَم كنتَ مشتريًا هذه الشَّرْبَةَ لو مُنعتَها؟ فقال: بنِصْفِ مُلْكي. فقال: اشرَبْ هنيئًا. فلما شرب قال: أرأيتَ لو مُنعتَ خُروجَها من بدَنِك، بكَمْ كنتَ تشتري ذلك؟ قال: بنصف مُلْكي الآخَر. فقال: إنَّ مُلْكًا قيمةُ نصفِهِ شَرْبةُ ماء، وقيمةُ نصفِهِ الآخَرِ بَوْلة، لخَليقٌ أنْ لا يُتَنافس فيه. فبكى هارون.

وقال ابنُ قُتيبة: حدَّثنا الرَّيَاشي، سمعتُ الأصمعيَّ يقول: دخلتُ على الرشيد وهو يُقَلِّمُ أظفارَهُ يومَ الجمعة، فقلتُ له في ذلك، فقال: أخْذُ الأظفارِ يومَ الخميسِ من السُّنَّة، وبلَغَني أن أخْذَها يوم الجمعةِ يَنْفي الفقر. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أوَ تَخْشَى الفقر؟ فقال: يا أصمعى، وهل أحدٌ أخْشَى للفقرِ منِّي؟.

(1)

في (ق): "فاجتهدْ"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 500

وروى ابنُ عساكر

(1)

، عن إبراهيم المهدي قال: كنتُ يومًا عند الرَّشيد، فدعا طبَّاخَهُ فقال: أعندَك في الطعام لَحمُ جَزُور؟ قال: نعم، ألوانٌ منه. فقال: أحضِرْهُ مع الطعام. فلما وُضع بين يديه أخَذَ لقمةً منه فوضَعَها في فيه، فضَحِك جعفرٌ البرمكي، فترك الرشيدُ مضْغَ اللُّقمةِ وأقبل عليه فقال: ممَّ تضحك؟ قال: لا شيء يا أميرَ المؤمنين، ذكرتُ كلامًا بيني وبين جاريتي البارحة. فقال له: بِحَقِّي عليكَ لَمَّا أخبرتني به. قال: حتى تأكُلَ هذه اللُّقمة. فألقاها من فيه وقال: واللَّه لتخبرَنِّي. فقال: يا أمير المؤمنين، بكم تقولُ إنَّ هذا الطعام من لحم الجزور يقومُ عليك؟ قال: بأربعةِ دراهم. قال: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، بل بأربعِ مئةِ ألفِ درهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: إنك طلبتَ من طبَّاخِك لحمَ جزورٍ قبلَ هذا اليوم بمدَّةٍ طويلة، فلم يوجدْ عندَه، فقلت: لا يخلوَنَّ المطبخُ من لحمِ جزور. فنحنُ نَنْحَرُ كلَّ يومٍ جَزورًا لأجلِ مطبخ أميرِ المؤمنين، لأنَّا لا نشتري من السوق لحمَ جزور، فصُرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا أَربعُ مئة ألف درهم، ولم يطلُبْ أميرُ المؤمنين لحمَ جَزورٍ إلَّا هذا اليوم. قال جعفر: فضحكتُ، لأنَّ أميرَ المؤمنين إنما نالَهُ من ذلك هذه اللُّقمة، فهي على أمير المؤمنين بأربع مئة ألف.

قال: فبكى هارونُ الرشيد بكاءٍ شديدًا، وأمَرَ برَفْعِ السِّمَاطِ من بين يديه، وأقبل على نفسِهِ يُوبِّخُها ويقول: هلكت واللَّه يا هارون، ولم يزَلْ يبكي حتى آذنَهُ المؤذِّنون بصلاةِ الظُهر، فخرج فصلَّى بالناسِ ثم رجَعَ يبكي حتى آذنَهُ المؤذِّنون بصلاةِ العصر. وقد أمرَ بألفَيْ ألفٍ تُصرف إلى فقراءَ الحرمَيْن، في كل حَرَمٍ ألفُ ألف صدَقة؛ وأمر بألفَيْ ألفٍ يُتصدَّق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألفِ ألفٍ يُتصدَّق بها على فقراء الكوفةِ والبصرة. ثم خرج إلى صلاةِ العصر، ثم رجع يبكي حتى صلَّى المغرب، ثم رجع، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنُكَ يا أميرَ المؤمنين باكيًا في هذا اليوم؟ فذكر أمرَهُ وما صرَفَ من المال الجزيلِ لأجلِ شهوتِه، وإنما نالَهُ منها لقمة. فقال أبو يوسف لجعفر: هل كان ما تَذْبحونَهُ من الجزور يَفْسُدُ أو يأكلُهُ الناس؟ قال: بل يأكلُهُ الناس. فقال: أبشِرْ يا أميرَ المؤمنين بثوابِ اللَّه فيما صرَفْتَهُ من المالِ الذي أكلَهُ المسلمون في الأيامِ الماضية، وبمَا يسَّرَهُ اللَّه عليك من الصدقة، وبما رزقك اللَّه من خشيتِه وخَوْفِه في هذا اليوم، وقد قال تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. فأمَرَ له الرشيد بأربعِ مئةِ ألف. ثم استدعَى بطعام، فأكل منه فكان غَدَاؤه في هذا اليوم عشاءً.

وقال عمرو بنُ بحر الجاحظ: اجتمع للرَّشيدِ من الجِدِّ والهَزْلِ ما لم يجتمعْ لغيرِه من بعدِه؛ كان أبو يوسف قاضيَه، والبرامكةُ وزراءَه، وحاجبُه الفضلُ بن الربيع، أنْبَهُ الناسِ وأشدُهم تعاظُمًا؛ ونَديمه عمُّه

(1)

ليست ترجمة هارون الرشيد فيما طغ من تاريخ ابن عساكر، ويبدو أنها في الأجزاء المفقودة منه، وهذا الخبر، أورده ابن منظور في مختصره لتاريخ ابن عساكر (27/ 13 - 15).

ص: 501

العباس بن محمد صاحب العباسيَّة، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ومُغنِّيه إبراهيم الموصلي واحد عَصْرِهِ في صناعِته، ومُضْحِكه ابن أبي مريم، وزامره بَرْصُوما، وزوجته أم جعفر -يعني زُبيدة- وكانتْ أرغبَ الناس في كلِّ خير، وأسرعَهُمْ إلى كلِّ بِرٍّ ومعروف، أدخلتِ الماءَ الحرَم بعد امتناعِه من ذلك. إلى أشياء من المعروف أجراها اللَّه على يدِها

(1)

.

وروى الخطيبُ البغدادي

(2)

، أنَّ الرشيد كان يقول: إنَّا من قومٍ عَظمُتْ رَزِيَّتُهم، وحَسُنتْ بَقِيَّتُهم

(3)

، وَرِثْنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبقيت فينا خلافةُ اللَّه.

وبينما الرشيدُ يطوفُ يومًا بالبيت إذْ عَرضَ له رجلٌ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إني أريدُ أنْ أُكلِّمكَ بكلامٍ فيه غِلْظة. فقال: لا، ولا نعْمَةَ عَيْن

(4)

، قد بعث اللَّه منْ هو خير منكَ إلى منْ هو شرٌّ منِّي، فأمرَهُ أن يقولَ له:{قَوْلًا لَّيِنًا} [طه: 44].

وعن شُعيب بن حَرْب قال: رأيتُ الرشيدَ في طريق مكة، فقلتُ في نفسي: قد وجَبَ عليك الأمرُ بالمعروف والنَّهْي عن المنكر، فخوَّفَتْني فقالت: إنه الآن يضربُ عُنقَك. فقلت: لابدَّ من ذلك. فنادَيْتُهُ فقلت: يا هارون، قد أتعبتَ الأمَّة والبهائم. فقال: خذوه. فأُدخلتُ عليه وفي يَدِهِ لُتٌّ من حديد

(5)

يلعبُ به، وهو جالسٌ على كُرسيّ، فقال: ممَّنِ الرجل؟ فقلت: رجلٌ من المسلمين. فقال: ثَكِلَتْكَ أمُّك؟ ممَّنْ أنت؟ فقلت: من الأنبار. فقال: ما حمَلك على أنْ دعوتَني باسمي؟ قال: فخطر ببالي شيءٌ لم يخطُرْ قبلَ ذلك. فقلت: أنا أدعو اللَّهَ باسمه يا اللَّه، أفلا أدعوكَ باسمك؟ وهذا اللَّه سبحانه قد دعا أحبَّ خلقِهِ إليه باسمه محمد

(6)

، وكنَّى أبغضَ خَلْقِهِ إليه فقال:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} . فقال الرشيد: أخرجُوه، أخرِجُوه.

وقال له ابن السَّماكِ يومًا: إنك تموتُ وحدَك، وتدخُلُ القبرَ وحدَك، وتُبعثُ منه وحدَك، فاحذَرِ

(1)

الخبر في تاريخ بغداد (14/ 11).

(2)

في تاريخ بغداد (14/ 8).

(3)

في (ق): "بعثتهم"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ بغداد.

(4)

ولا نعمة عين: أي لا أفعل ذلك كرامةً لك، وإنعامًا بعينك. قال سيبويه: نصبوا كل ذلك على إضمار الفعل المتروك إظهاره. انظر لسان العرب (نعم).

(5)

في مختصر تاريخ ابن عساكر: وبيده عمود يلعب به. واللُّت -بضم اللام-: نوعٌ من آلةِ السلاح، معروفٌ في زمانِنا؛ وهو لفظٌ مولَّد، ليس من كلام العرب، ولم أره في شيءٍ مما صُنِّف في المعرَّب. وأخبرني الشيخ أبو الحسين علي بن أحمد بن عبد الواحد أنه قرأه على المصنف بالضَّمّ، فينبغي أن يُقرأ مضمومًا كما يقولُه الناس. اهـ. المطلع على أبواب المقنع لمحمد بن أبي الفتح البعلي المتوفّى (709 هـ) ص (357).

(6)

في (ق) قبل ذكر محمد: "بأسمائهم: يا آدَمُ، يا نُوحُ، يا هُودُ، يا صالحُ، يا إبراهيمُ يا موسى، يا عيسى"، والمثبت من (ب، ح) ومختصر تاريخ ابن عساكر (27/ 19).

ص: 502

المقامَ بين يدي الجبَّار

(1)

، والوقوفَ بين الجنةِ والنار، حين يُؤخَذُ بالكَظَم

(2)

، وتَزِلُّ القدَم، ويَقَعُ النَّدَم؛ فلا توبةٌ تُقبل، ولا عَثْرَةٌ تُقال، ولا يُقبل فداءٌ بمال. فجعل الرشيدُ يبكي حتى عَلا صوتُه. فقال يحيى بن خالد له: يا بنَ السمَّاك، لقد شقَقْتَ على أميرِ المؤمنين الليلة. فقام فخرج من عندِه وهو يبكي.

وقال له الفُضيل بن عِياض -في كلامٍ كثير ليلةَ وعظِه بمكة-: يا صَبيحَ الوَجْه، إنك مسؤول عن هؤلاء كلِّهم؛ وقد قال تعالى:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأْسْبَابُ} [البقرة: 166]. قال: حدَّثنا ليث، عن مجاهد، قال: الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا. فبكى حتى جعل يَشْهَق. وقال الفُضَيل: استدعاني الرشيدُ يومًا وقد زخرَفَ منازلَه، وأكثرَ الطعامَ والشرابَ واللذاتِ فيها، ثم استدعَى أبا العتاهيةِ فقال له: صِفْ لنا ما نحنُ فيهِ من العيشِ والنَّعيم. فقال:

عِشْ ما بَدَا لك سالِمًا

في ظلِّ شاهقةِ القُصُورِ

تَسْعَى عليك بما اشتهَيْـ

ــتَ لَدَى الرواحِ إلى البُكُورِ

فإذا النفوسُ تقَعْقَعَتْ

عن ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ

فهناكَ تعلَمُ مُوقنًا

ما كنتَ إلَّا في غُرورِ

(3)

قال: فبكى الرشيدُ بكاءً كثيرًا شديدًا. فقال له الفضلُ بن يحيى: دعاكَ أميرُ المؤمنين لِتَسُرَّهُ فأحزَنْتَهُ! فقال له الرشيد: دَعْهُ، فإنَّهُ رآنا في عَمَى. فكره أن يزيدَنا عَمى. ومن وجهٍ آخر، أنَّ الرشيد قال لأبي العتاهية: عِظْني بأبياتٍ من الشعرِ وأوجِزْ. فقال:

لا تأمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسِ

ولو تَمنَّعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ

واعلَمْ بأنَّ سهامَ الموتِ صائبةٌ

لكلِّ مُدَّرعٍ منها ومُتَّرِسِ

تَرْجو النجاةَ ولم تَسْلُكَ مسالِكَها

إنَّ السفينةَ لا تَجْري على اليَبَسِ

(4)

قال: فخرَّ الرشيدُ مَغْشيًّا عليه. وقد حَبَسَ الرشيدُ مرَّة أبا العَتاهية، وأرصَدَ عليه منْ يأتيهِ بما يقول: فكتبَ مرَّةً على جدارِ الحبس:

(1)

في (ق): "بين يدي اللَّه عز وجل"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

الكَظَم: مَخْرِج النفَس. يقال: كَظَمني فلان وأخذ بكَظمي. وأخذ بكَظَمه أي بحَلْقِه؛ ويقال: أخذت بكَظَمه: أي بمَخْرَج نَفسه، والجمع كِظام. وفي الحديث: لعلَّ اللَّه يصلح أمر هذه الأمة ولا يؤخذ بأكْظامها؛ هي جمع كَظَم، بالتحريك، وهو مخرج النفَس من الحلق. لسان العرب (كظم).

(3)

الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص (163).

(4)

الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص (230).

ص: 503

أما واللَّهِ إنَّ الظُّلمَ شُومُ

وما زال المُسيءُ هو الظَّلُومُ

إلى دَيَّانِ يومِ الدِّينِ نَمْضي

وعندَ اللَّه تَجتمعُ الخُصومُ

(1)

قال: فاستَدعاهُ واستجعله في حِلّ، ووهبَهُ ألفَ دينارٍ وأطلقَه.

وقال الحسين بن الفهم

(2)

: حدَّثنا محمد بن عباد، عن سفيان بن عُيينة قال: دخلتُ على الرشيد فقال: ما خبَرُك؟ فقلت:

بعينِ اللَّه ما تُخْفي البيوتُ

فقد طال التَّحمُّل والسكوتُ

فقال: يا فلان، مئة ألفٍ لابنِ عُيينة تُغْنيه وتُغْني عَقِبَه، ولا تضُرُّ الرشيدَ شيئًا

(3)

.

وقال الأصمعي: كنتُ مع الرشيدِ في الحج، فمرَرْنا بوادٍ، فإذا على شفيرِهِ امرأةٌ صَبيَّةٌ حسناء، بين يدَيْها قصعة، وهي تأكلُ منها وهي تقول:

طَحْطَحَتْنا طَحَاطِحُ الأعوامِ

ورَمَتْنا حوادثُ الأيَّامِ

فأتيناكُمُ نَمُدُّ أكُفًّا

نائلات لِزادِكُمْ والطَّعَامِ

فاطلُبوا الأجْرَ والمثوبَةَ فينا

أيُّها الزائرونَ بيتَ الحرامِ

مَنْ رآني فقد رآني ورَحْلي

فارْحَمُوا غُرْبَتي وذُلَّ مَقَامِي

قال الأصمعي: فذهبتُ إلى الرشيد، فأخبرتُهُ بأمرِها، فجاء بنفسِهِ حتى وقف عليها، فسمعَها، فرَحِمَها وبكى، وأمَرَ مسرورًا الخادمَ أنْ يَملأ قصعتهَا ذهبًا، فملأها حتى جعلَتْ تَفِيضُ يَمينًا وشِمالًا

(4)

.

وسمع مرَّة الرشيدُ أعرابيًا يَحْدو إبلَهُ في طريق الحج:

أيها المُجمِعُ هَمًّا لا تُهَمّ

إنك إنْ تُقْضى لكَ الحُمَّى تُحَمْ

كيف توَقِّيكَ وقد جَفَّ القلَمْ

حُطتِ الصِّحَّةُ منكَ والسَّقَم

(5)

(1)

الأبيات والخبر في ديوان أبي العتاهية ص (398). وتنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، وهي في ديوانه ص (113).

(2)

في (ق): "الحسن بن أبي الفهم"، وهو تصحيف والمثبت من (ب، ح)؛ ولم أقف على ترجمة له، ولكن له ذكر وهو راوي كتاب "الطبقات الكبير" لابن سعد، وفي المطبوع منه زيادات على ابن سعد طبعت مع النص. وهو أبو علي الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الفهم. انظر طبقات ابن سعد (3/ 542، 7/ 357)، وتهذيب الكمال (2/ 129، و 3/ 15، 159، و 8/ 301، و 17/ 180، و 31/ 212).

(3)

مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 23).

(4)

انظر مختصر ابن عساكر لابن منظور (27/ 23، 24).

(5)

الخبر والبيتان في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 24)، وقد روى ابنُ قتيبة البيتين في تأويل مختلف =

ص: 504

فقال الرشيدُ لبعض خدَمِه: ما معَك؟ قال: أربعُ مئة دينار. فقال: ادفَعْها إلى هذا الأعرابي. فلما قبضَها ضرَبَ رفيقُهُ بيدِهِ على كتفه وقال متمثلًا:

وكنتَ جليسَ قعقاعِ بن عمروٍ

ولا يَشْقَى بقعقاعٍ جليسُ

فأمر الرشيدُ بعضَ الخدم أن يُعْطَى المتمثِّلُ ما معه من الذهب، فإذا معه مئتا دينار.

قال أبو عُبيد: إن أصلَ هذا المثل، أنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيان أُهديَتْ له هديَّة، جاماتٌ من ذهَب، ففرَّقَها على جُلسائه، وإلى جانبِهِ قعقاعُ بن عمرو، وإلى جانبِ القعقاعِ أعرابيٌّ لم يَفْضُلْ له منها شيء، فأطرق الأعرابيُّ حياءً. فدفَعَ إليه القعقاعُ الجامَ الذي حصلَ له، فنهض الأعرابيُّ وهو يقول:

وكنتَ جليسَ قعقاعِ بن عمروٍ

ولا يَشْقَى بقعقاعٍ جليسُ

وخرج الرشيدُ يومًا من عندِ زُبيدةَ ابنةِ عمِّه وهو يضحك، فقيل له: مِمَّ تضحكُ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: دخلتُ اليومَ إلى هذه المرأة -يعني زوجتَه زُبيدة- فأكلتُ عندَها ونِمت، فما استيقظتُ إلَّا على صوْتِ ذهبٍ يُصَبّ، فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: هذه ثلاثُ مئةِ ألفِ دينار قدِمَتْ من مِصر. فقالتْ زُبيدة: هَبْها لي يا ابنَ عَمّ. فقلت: هي لكِ. ثم ما خرَجْتُ حتى عَرْبَدَتْ عليَّ وقالت: أيّ خيرٍ رأيتُه منك؟!.

وقال الرشيدُ مرَّةً للمُفَضَّل الضَّبِّيّ: ما أحسَنُ ما قيل في الذئب؟ ولك هذا الخاتم، وشراؤه ألفٌ وست مئِة دينار. فأنشد قولَ الشاعر

(1)

:

ينامُ بإحدَى مُقلتَيْهِ ويَتَّقِي

بأخرى الرَّزَايا فهو يقظانُ هاجِعٌ

(2)

فقال: ما قلتَ هذا إلا لتَسْلُبَنا الخاتم. ثم ألْقاهُ إليه، فبعثَتْ زُبيدة فاشترَتْهُ منه بألفٍ وست مئةِ دينار، وبعثَتْ به إلى الرشيد وقالت: إني رأيتُكَ مُعجَبًا به، فرَدَّهُ إلى المفضل والدنانير، وقال: ما كنَّا لِنَهَبَ شيئًا ونرجعَ فيه.

وقال الرشيدُ يومًا للعباسِ بن الأحنف: أيُّ بيتٍ قالتِ العَربُ أرقّ؟ فقال: قولُ جميل في بُثَينة:

ألا ليتَني أعمَى أصَمُّ تقودُني

بثينَةُ لا يَخْفَى عليَّ كلامُها

فقال له الرشيد: أرَقُّ منه قولُكَ في مثلِ هذا:

= الحديث ص (28)، ونسبها إلى بعض الرجاز، ولفظه:

يا أيها المضمر همًا لا تهمْ

إنك إنْ تُقْدَرْ لك الحمَّى تُحَمْ

ولو علوت شاهقًا من العلَمْ

كيف تَوَليكَ وقد جَفَ القلَمْ

(1)

هو الشاعر المخضرم حُميد بن ثور الهلالي والبيت في ديوانه ص (56).

(2)

في (ق): "يقظان نائم"، ورواية الديوان:"بأخرى الأعادي". والمثبت من (ب، ح).

ص: 505

طاف الهوَى في عبادِ اللَّه كلِّهم

حتى إذا مرَّ بي من بينهم وَقَفا

فقال له العباس: فقولك يا أميرَ المؤمنين أرَقُّ من هذا كُلِّه:

أما يَكْفيكِ أنّكِ تَمْلِكيني

وأنَّ النَّاسَ كلَّهُمُ عَبِيدي

وأنك لو قطعتِ يَدِي ورِجْلي

لقلتُ من الهوى أحسنتِ زِيدي

قال: فضحك الرشيد وأعجبه ذلك.

ومن شعر الرشيد في ثلاثِ حظِيَّاتٍ كُنَّ عندَهُ من الخواصّ قولُه:

مَلَكَ الثلاثُ الناشئاتُ عِنَاني

وحَلَلْنَ من قلبي بكلِّ مَكَانِ

مالي تطاوِعُني البريَّةُ كلُّها

وأُطيعُهنَّ وهُنَّ في عِصْيَاني

ما ذاك إلَّا أنَّ سلطانَ الهوَى

وبِهِ قَوِينَ أعَزُّ مِنْ سُلْطاني

وما أورد له صاحبُ "العِقْد" في كتابه

(1)

:

تُبْدِي الصدودَ وتُخْفي الحبَّ عاشقةٌ

فالنفسُ راضيةٌ والطَّرْفُ غَضْبَانُ

وذكر ابنُ جرير وغيرُه أنه كان في دارِ الرشيد من الجواري والحظايا وخدَمِهِنَّ وخدَم زوجتِه وأخَوَاتِه أربعةُ آلافِ جارية، وأنَّهنَّ حضَرْنَ يومًا بين يديه، فغنَّتْهُ المطرِباتُ منهنّ، فطَرِبَ جدًّا، وأمَرَ بمالٍ فنُثِر عليهن. وكان مبلَغُ ما حصل لكلِّ واحدةٍ منهن ثلاثةَ آلافِ درهم في ذلك اليوم. رواه ابن عساكر أيضًا

(2)

.

ورَوَى

(3)

أنه اشترى جاريةً من المدينة فأُعجب بِها جدًّا، فأمَرَ بإحضار مواليها ومَنْ يَلُوذُ بها ليقضي حوائجَهم. فقَدِموا عليه بثمانينَ نفسًا، فأمر الحاجبَ -وهو الفضل بن الربيع- أن يتلقَّاهم ويكتبَ حوائجَهم. فكان فيهم رجلٌ، قد أقام بالمدينة لأنه كان يَهْوَى تلك الجارية، فبعثَتْ إليه، فأتى به، فقال له الفضل: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن يُجلِسَني أميرُ المؤمنين مع فلانة، فأشربَ ثلاثةَ أرطالٍ من خمرٍ. وتُغَنِّيني ثلاثةَ أصوات. فقال: أمجنونٌ أنت؟! فقال: لا، ولكن اعْرِضْ حاجتي هذه على أميرِ المؤمنين. فذكر للرشيد ذلك، فأمر بإحضارِه، وأنْ تَجلِسَ معه الجاريةُ بحيثُ ينظرُ إليهما ولا يَرَيَانِه. فجلسَتْ على كُرسي، والخُدَّامُ بين يدَيْها، وأُجلس على كُرسي، فشَرِبَ رِطْلًا وقال لها: غَنِّي:

خليليَّ عُوجَا بارك اللَّه فيكما

وإنْ لم تكُنْ هندٌ بأرضِكُما قَصْدا

(1)

هو ابن عبد رَبِّه في كتابه العقد، وبعضهم يُطلق عليه اسم "العقد الفريد" انظر كشف الظنون (2/ 1149).

(2)

انظر مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 32، 33).

(3)

ابن عساكر، انظر مختصر تاريخه لابن منظور (27/ 34، 35).

ص: 506

وقُولا لها ليس الضَّلالُ أجازَنا

ولكنَّنا جُزْنا لنلقاكُمُ عَمْدا

غدًا يكثُرُ الباكُونَ

(1)

منَّا ومنكُمُ

وتَزْدادُ داري من ديارِكُمُ بُعْدا

(2)

قال: فغنَّتْهُ. ثم استعجَلَهُ الخدَم، فشَرِبَ رِطْلًا آخر، وقال: غَنَي جُعلتُ فداك:

تكلَّمَ منَّا في الوجوهِ عيوننا

فنحنُ سكوتٌ والهَوىَ يتكلَّمُ

ونَغْضَبُ أحيانًا ونَرْضَى بطَرْفِنا

وذلك فيما بيننا ليس يُعْلَمُ

(3)

قال: فغنَّتْهُ، ثم شرب رطلًا ثالثًا وقال: غنِّي جعلَني اللَّه فداك:

أحسَن ما كنَا تفرُّقُنا

وخاننا الدَّهْرُ وما خُنَّا

فليتَ ذا الدهرَ لنا مرَّةً

عادَ لنا يومًا كما كُنَّا

قال: ثم قام الشابُّ إلى درجةٍ هناك، ثم ألقَى نفسَهُ من أعلاها على أمِّ رأسِهِ فمات. فقال الرشيد: عَجِلَ الفتى، واللَّه لو لم يَعْجَلْ لوهَبْتُها له

(4)

.

وفضائل الرشيد ومكارِمهُ كثيرةٌ جدًّا، فقد ذكر الأئمةُ من ذلك شيئًا كثيرًا، فذكَرْنا منه أُنموذجًا صالحًا. وقد كان الفُضيل بن عياض يقول: ليس موتُ أحدٍ أعزَّ علينا من موتِ الرشيد، لِمَا أتخوَّفُ بعدَهُ من الحوادث، وإني لأدعو اللَّهَ أن يزيدَ في عمرِهِ من عُمري. قالوا: فلما مات الرشيدُ وظهرَت الفِتَنُ والحوادثُ والاختلافات، وظهر القولُ بِخَلْقِ القرآن، فعرَفْنا ما كان تخوَّفَهُ الفُضيلُ من ذلك. وقد تقدَّمَتْ رؤياه لذلك الكفّ، وتلك التربةِ الحمراء، وقائلٍ يقول: هذه تربةُ أميرِ المؤمنين. فكان موتُهُ بِطُوس.

وقد روَى ابنُ عساكر

(5)

أنَّ الرشيدَ رأى في مَنَامِهِ قائلًا يقول:

كأنِّي بِهذا القصرِ قد بادَ أهلُه

. . . . . . . . . . . . .

الشعر إلى آخرهِ. وقد تقدَّم أنَّ ذلك إنما رآه أخوه موسى الهادي، وأبوه محمد المهدي، فاللَّه أعلم

(6)

.

(1)

في (ق): "البادون"، وفي (ح):"الباقون"، والمثبت من (ب) ومختصر تاريخ ابن عساكر.

(2)

البيتان الأول والثاني في ديوان الحماسة (2/ 122، 123)، وهما منسوبان فيه لِوَرد الجَعدي، ولفظه:"أجارنا. . جرنا" بالراء المهملة.

(3)

البيتان للعباس بن الأحنف، وهما في ديوانه ص (273).

(4)

الخبر في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 34 - 36).

(5)

انظر مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 36، 37).

(6)

انظر ما تقدم ص (375 و 415) من هذا الجزء. والخبر في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (27/ 36، 37).

ص: 507

وقدَّمْنا أنه أمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ في حياتهِ، وأنْ تُقرأ فيه ختمةٌ تامَّة

(1)

. وحُمل حتى نظر إليه. فجعل يقول: إلى هنا تَصِيرُ يا بنَ آدم! ويبكي، وأمر أن يُوَسَّعَ عندَ صَدْرِه، وأنْ يُمَدَّ من عندِ رِجْلَيْه، ثم جعل يقول:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]، ويبكي

(2)

.

وقيل: إنه لما احتُضر قال: اللهمَّ انفَعْنا بالإحسان، واغفِرْ لنا الإساءة، يا مَنْ لا يَموتُ، ارْحَمْ من يموت. وكان مرَضُهُ بالدَّم، وقيل: بالسل. وجبريل الطبيبُ يكتُمُ ما بهِ من العِلَّة، فأمر الرشيدُ رجلًا أنْ يأخُذَ ماءه في قارورة. ويذهبَ به إلى جبريل، فيريَهُ إيَّاه، ولا يذكرَ له بَوْلَ مَنْ هو، فإنْ سألَهُ قال: هو بولُ مريضٍ عندَنا، فلمّا رآه جبريلُ قال لرجلٍ عندَه: هذا مثلُ ماءِ ذلك الرَّجُل. ففَهِمَ صاحبُ القارورةِ مَنْ عَنَى به، فقال له: باللَّه عليكَ أخبِرْني عن حالِ صاحبِ هذا الماء، فإنَّ لي عليه مالكٌ، فإنْ كان به رجاء، وإلَّا أخذتُ مالي منه. فقال: اذَهبْ فتخلَّصْ منه، فإنَّهُ لا يعيشُ إلا أيامًا. فلما جاء وأخبرَ الرشيدَ بعث إلى جبريل. فتغَّيبَ حتى مات الرشيد. وقد قال الرشيدُ وهو في هذه الحال:

إنِّي بِطُوسٍ مُقِيمُ

مالي بِطُوسٍ حَمِيم

أرجو إلهي لِمَا بي

فإنه بي رَحِيم

لقد أتى بِيَ طُوسًا

قضاؤه المحتومُ

وليس إلَّا رِضَائي

والصَّبْرُ والتَّسْلِيمُ

مات بطُوسَ يومَ السبت، لثلاثٍ من جُمادَى الآخرة، سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة. وقيل: إنه توفي في جُمادَى الأولى، وقيل: في ربيعٍ الأوَّل، ولَهُ من العمرِ خمسٌ -وقيل سبعٌ، وقيل ثمانٌ- وأربعونَ سنةً، ومُدَّةُ خلافتِه ثلاثٌ وعشرون سنة، وشهرٌ وثمانيةَ عشرَ يومًا. وقيل: ثلاثة أشهر. وصلَّى عليه ابنُهُ صالِح، ودُفن بقريةٍ من قُرى طُوس، يُقالُ لها سَنَاباد

(3)

.

وقال بعضُهم: قرأتُ على خيامِ الرشيد بسَناباذَ والناسُ منصَرِفون من طُوس، من بعد مَوْتِه:

منازلُ العَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ

والمَنْزِلُ الأعظمُ مَهْجُورُ

خليفةُ اللَّهِ بدارِ البِلَى

تسْفِي على أجداثِهِ المُورُ

(4)

أقبلتِ العِيرُ تُبَاهي بِهِ

وانصرفَتْ تَنْدُبُهُ العِيرُ

(5)

(1)

انظر ما تقدَّم ص (497) من هذا الجزء.

(2)

الخبر في مختصر تاريخ ابن عساكر (27/ 38).

(3)

سَناباذ -بالفتح-: قريةٌ بِطُوس، فيها قبرُ الإمام علي بن موسى الرضا، وقبر أمير المؤمنين الرشيد، بينها وبين مدينة طوس نحو ميل. معجم البلدان (3/ 259).

(4)

المور: الغُبار بالريح، لسان العرب (مور).

(5)

الأبيات في مختصر تاريخ ابن عساكر (27/ 38).

ص: 508

وقد رثاه أبو الشِّيص فقال:

غرَبَتْ في الشرقِ شمسٌ

فلها العَيْنانِ تَدْمَعْ

ما رأينا قَطُ شمسًا

غرَبَتْ من حيثُ تَطْلُعْ

(1)

وقد رثاهُ الشعراء بقصائد.

قال ابنُ الجوزي في المنتظم

(2)

: قد ترَكَ الرشيدُ من الميراث ما لم يُخَلِّفْهُ أحدٌ من الخلفاء، وخلَّفَ من الجواهرِ والأثاثِ والأمتعةِ سوى الضياعِ والدُّور ما قيمتُه مئةُ ألف ألف دينار، وخمسة وثلاثون ألفَ ألفِ دينار.

قال ابنُ جرير

(3)

: وكان في بيتِ المال تسعُمئةِ ألف ألف ونَيِّف.

‌ذكر زوجاته وبنيه وبناته

تزوَّج أمَّ جعفر زُبيدةَ بنت عمِّه جعفر بن أبي جعفر المنصور، تزوَّجها في سنةِ خمسٍ وستين ومئة في حياةِ أبيه المهدي، فولدَتْ له محمدًا الأمين. وماتَتْ زُبيدة في سنةِ ستَّ عشرةَ ومئتين كما سيأتي.

وتزوَّجَ أمَةَ العزيز، أُمَّ وَلَد، كانتْ لأخيه موسى الهادي، فولَدَتْ له عليَّ بنَ الرشيد.

وتزوَّجَ أمَّ محمد بنتَ صالح المسكين، والعبَّاسة بنت عمِّه سليمان بن أبي جعفر، فزُفَّتا إليه في ليلةٍ واحدة، سنةَ سبعٍ وثمانين ومئة بالرَّقَّة.

وتزوَّجَ عزيزةَ بنتَ الغِطْرِيف، وهي بنتُ خالِه أخي أُمِّهِ الخَيْزُرَان.

وتزوَّجَ ابنةَ عبدِ اللَّه بن محمد بن عبدِ اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان العثمانية، ويُقال لها الجُرَشِية لأنها وُلدَتْ بِجُرَش باليمن.

وتُوفِّي عن أربع: زُبيدة، وعبَّاسة، وابنة صالح، والعثمانية هذه. وأمَّا الحظايا من الجوار [ي] فكثيرٌ جدًّا، حتى قال بعضُهم: إنه كان في دارِهِ أربعة آلاف جاريةٍ سرارِيّ حسان.

وأما أولادُه الذكور فمحمد الأمين ابن زُبيدة، وعبدُ اللَّه المأمون من جاريةٍ اسمُها مراجل، ومحمد أبو إسحاق المعتصِم من أُمِّ وَلَدٍ يُقالُ لها ماردة، والقاسمُ المؤتمن من جاريةٍ يُقال لها قصف، وعليّ أُمُّه أمَةُ العزيز، وصالح من جاريةٍ اسمُها رئم، ومحمد أبو يعقوب، ومحمد أبو عيسى، ومحمد أبو العباس، ومحمد أبو علي، كلُّ هؤلاءِ من أُمهات أولاد.

(1)

البيتان في المنتظم لابن الجوزي (9/ 232).

(2)

المنتظم (9/ 232).

(3)

يعني الطبري في تاريخ (5/ 26).

ص: 509

وكان من الإناث سُكينة من قصف، وأمُّ حبيب من ماردة، وأرْوَى، وأمُّ الحسين، وأم محمد وهي حَمْدونة، وفاطمة وأمُّها غصص، وأم سَلَمة، وخَدِيجة، وأمُّ القاسم رَمْلَة. وأم علي، وأُمُّ الغالِيَة، ورَيْطَة، كلُّهنَّ من أمهاتِ أولاد.

‌خلافة محمد الأمين

لما تُوفي الرشيد بِطُوس في جُمادَى الآخرة من هذه السنة - أعني سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، كتب صالِحُ بن الرشيد إلى أخيه وفي العَهْد من بعدِ أبيه محمدٍ الأمين بن زُبيدة وهو ببغداد، يُعلِمُه بوفاةِ أبيه، ويُعَزِّيه فيه، فوصل الكتابُ صحبةَ رجاءٍ الخادم، ومعه الخاتمُ والقَضِيبُ والبُرْدَة يوم الخميس الرابع عشر من جُمادَى الآخرة. فركب الأمينُ من قصرهِ الخُلْد إلى قصر أبي جعفر المنصور -وهو قصرُ الذهَب- على شَطِّ بغداد، فصلَّى بالناس، ثم صَعِدَ المنبر، فخطَبَهم وعزَّاهم في الرشيد، وبسَطَ آمالَ الناس، ووعَدَهم الخير، فبايَعَه الخواصُّ من قومه، ووجوهُ بني هاشم، والأمراء، وأمرَ بصَرْفِ أُعطياتِ الجُند عن سنتَيْن، ثم نزَل. وأمَرَ عمَّهُ سُليمان بن جعفر أنْ يأخذَ له البيعةَ من بقيةِ الناس، فلما انتظم أمرُ الأمين، واستقام حالُه، حسَدَهُ أخوه المأمون، ووقَعَ الخُلْفُ بينهما على ما سنذكرهُ إنْ شاء اللَّه تعالى.

‌اختلاف الأمين والمأمون

كان السببُ في ذلك أنَّ الرشيد لمَّا وصل إلى أولِ بلادِ خُراسان وَهَبَ جميعَ ما فيها من الحواصِلِ والدوابِّ والسلاح لولدِهِ المأمون، وجدَّدَ له البيعة، وكان الأمين قد بعثَ بكرَ بنَ المعتمر بكتبٍ في خُفيَةٍ ليوصِلَها إلى الأمراء إذا مات الرشيد، فلما تُوفي الرشيد نفذتِ الكتبُ إلى الأمراء وإلى صالح بن الرشيد، وفيها كتابٌ إلى المأمون، يأمرهُ بالسمع والطاعة، فأخذ صالِحٌ البيعةَ من الناسِ إلى الأمين، وارتحل الفضلُ بن الربيع بالجيشِ إلى بغداد، وقد بقي في نفوسِهم تحرُّجٌ من البيعةِ التي أُخذَتْ للمأمون، وكتب إليهمُ المأمونُ يدعوهمْ إلى بيعَتِه فلم يُجيبوه، فوقعتِ الوَحْشَةُ بين الأخوَيْن، ولكنْ تحوَّل عامَّةُ الجيش إلى الأمين، فعند ذلك كتب المأمونُ إلى أخيه الأمين بالسَّمْع والطاعةِ والتعظيم، وبعَثَ إليه من هدايا خُراسان وتُحَفِها من الدوابِّ والمِسك، وغيرِ ذلك، وهو نائبُهُ عليها. وقد أمرَ الأمينُ في صبيحةِ يوم السبت بعدَ أخذِ البيعةِ يومَ الجمعة ببناء ميدانَيْن للصَّيد، فقال في ذلك بعضُ الشعراء:

بَنَى أمينُ اللَّه مَيْدانا

وصَيَّرَ الساحةَ بُسْتانا

وكانتِ الغزلانُ فيه بانا

يهدى إليه فيه غِزْلانا

(1)

(1)

الخبر والشعر في تاريخ الطبري (5/ 31)، والكامل لابن الأثير (5/ 361، 362).

ص: 510

وفي شعبان من هذه السنة قَدِمَتْ زُبَيدَةُ من الرَّقَة بالخزائن، وما كان عندَها من التُّحَفِ والقماش من الرشيد، فتلقَّاها ولَدُها الأمينُ إلى الأنبار، ومعه وجوهُ الناس، وأقرَّ الأمينُ أخاهُ المأمونَ على ما تحتَ يدِهِ من بلادِ خُراسانَ والرَّيّ وغيرِ ذلك، وأقرَّ أخاه القاسمَ على الجزيرةِ والثُّغور، وأقرَّ عمَّالَ أبيه على البلادِ إلَّا القليلَ منهم.

وفيها مات نقْفُور ملكُ الرُّوم قتَلَهُ البُرْجان

(1)

، وكان ملكُه تسعَ سنين، وأقام بعدَهُ ولدُه استبراق شهرَيْن فمات، فملَكهُم ميخائيلُ زوجُ أختِ نقْفور، لعنهم اللَّه.

وفيها تواقع هَرْثَمةُ بن أعْيَن نائبُ خراسان ورافع بن اللَّيث، فاستجاشَ رافعٌ بالتُّرك

(2)

ثم هربوا، وبَقِيَ رافعٌ وحدَه، فضَعُفَ أمرُه.

وحَجَّ بالناسِ في هذه السنة نائبُ الحجاز داودُ بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

‌وفيها توفي من الأعيان:

إسماعيلُ بن عُلَيَّة

(3)

: وهو من أئمةِ العلماء، والمحدِّثين الرُّفَعاء. روى عنه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وقد وُلِّيَ المظالِمَ ببغداد، وكان ناظرَ الصدقاتِ بالبصرة، وكان ثقة نبيلًا جليلًا كبيرًا. وكان قليلَ التَّبَسُّم. وكان يَتَّجِرُ في البَزّ، ويُنفق على عيالِهِ منه، ويحجُّ منه، وَيبَرُّ أصحابَهُ منه، مثل السفيانَيْن وغيرِهما. وقد ولَّاهُ الرشيدُ القضاء، فلما بلغ ابنَ المبارك أنه تولَّى القضاء كتب إليهِ يَلُومُه نظمًا ونثرًا، فاستعفى ابنُ عُلَيَّةَ من القضاء، فأعفاه، وكانتْ وفاتُه في ذي القَعْدَةِ من هذه السنة، ودُفن في مقابِرِ عبدِ اللَّه بن مالك.

(1)

"بُرْجان": جيلٌ من الناس، بلادُهم قريبة من قُسْطَنْطِينيَّة، وبلاد الصَّقَالبَة قريبةٌ منهم. المغرب (برج)(1/ 65).

(2)

كذا في الأصول، بتعدية استجاش بالباء، وجاء في لسان العرب (جيش):"اسْتَجاشَه": أي طلب منه جيشًا. وفي حديث عامر بنُ فُهَيرة: فاستجاش عليهم عامرُ بن الطُّفيل أي طَلب لهم الجيشَ وجمَعَه عليهم. اهـ.

(3)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 325)، التاريخ الكبير (1/ 342)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 143)، تسمية فقهاء الأمصار ص (130)، الجرح والتعديل (2/ 153)، مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (1/ 262، و 435)، مشاهير علماء الأمصار (161)، الثقات لابن حبان (6/ 44)، ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم (1/ 49)، الفهرست (317)، تاريخ بغداد (6/ 229)، التعديل والتجريح للباجي (1/ 361)، رجال مسلم لابن منجويه (1/ 54)، تهذيب الكمال (3/ 23)، تذكرة الحفاظ (1/ 322)، سير أعلام النبلاء (9/ 107)، تهذيب التهذيب (1/ 241)، تقريب التهذيب (105)، طبقات الحفاظ ص (139).

ص: 511

‌وفيها مات:

محمد بن جعفر

(1)

الملقَّب بِغُنْدَر: روى عن شعبة، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وعن خلقٍ كثير. وعنه جماعةٌ، منهم أحمد بن حنبل. وكان ثقةً جليلًا حافظًا مُتقِنًا، وقد ذُكر عنه حكاياتٌ تدلُّ على تغفيله في أمورِ الدنيا. كانت وفاتُه بالبصرة في هذه السنة، وقيل في التي قبلَها، وقيل في التي بعدَها. وقد لُقِّب بهذا اللقب جماعةٌ من المتقدِّمين والمتأخِّرين.

وفيها توفي هارون أمير المؤمنين، وقد تقدَّمت ترجمته قريبًا.

وأبو بكر بن عياش

(2)

: أحد الأئمة، سمع أبا إسحاق السَّبِيعي، والأعمش، وهشام بن عروة

(3)

، وجماعة. وحدث عنه خلق، منهم أحمد بن حنبل. وقال يزيد بن هارون: كان خَيِّرًا فاضلًا، لم يضَعْ جَنْبَهُ إلى الأرض أربعين سنة. قالوا: ومكث ستين سنةً يَختِمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ خَتْمَةً كاملة. وصام ثمانين رمضانًا، وتُوفي وله ستٌّ وتسعون سنة. ولما احتُضر بكى عليه ابنُه، فقال: يا بُني علامَ تبكي؟! واللَّه ما أتَى أبوك فاحشةً قط.

‌ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومئة

فيها خلَعَ أهلُ حمصَ نائبَهم، فعزَلَهُ عنهم الأمين، وولَّى عليهم عبدَ اللَّه بن سعيد الحَرَشي، فقتل طائفةً من وجوهِ أهلِها، وحرَّق نواحِيهَا، فسألوه الأمانَ فأمَّنَهم، ثم هاجوا فضرب أعناقَ كثيرٍ منهم أيضًا.

(1)

ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 57)، الكنى والأسماء لمسلم (1/ 492)، مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (2/ 671)، الجرح والتعديل (7/ 221)، الثقات لابن حبان (9/ 50)، تهذيب الكمال (25/ 5)، تذكرة الحفاظ (3/ 960)، سير أعلام النبلاء (9/ 98)، تهذيب التهذيب (9/ 84)، تقريب التهذيب (472)، طبقات الحفاظ (385).

(2)

قيل اسمه شعبة، وقيل سالم، وقيل غير ذلك، والصحيح اسمه كنيته، وترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 386)، طبقات خليفة (170)، التاريخ الكبير (9/ 14)، التاريخ الصغير (2/ 248)، الثقات لابن حبان (7/ 668)، حلية الأولياء (8/ 303)، تاريخ بغداد (14/ 371)، صفة الصفوة (3/ 164)، تهذيب الكمال (33/ 129)، طبقات علماء الحديث (1/ 387)، سير أعلام النبلاء (8/ 495)، المقتنى في سرد الكنى (1/ 117)، تذكرة الحفاظ (1/ 265)، معرفة القراء الكبار (1/ 134)، ميزان الاعتدال (4/ 499)، العبر (1/ 311)، تهذيب التهذيب (12/ 34)، الكواكب الدرية (1/ 82)، شذرات الذهب (1/ 334).

(3)

في (ق): وهشام وهمام بن عروة، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح)، وفي تهذيب الكمال (33/ 130)، ذكر المزي من جملة من روى عنهم: هشام بن حسان، وهشام بن عروة.

ص: 512

وفيها عزل الأمينُ أخاه القاسمَ عن الجزيرةِ والثُّغور وولَّى على ذلك خُزيمة بن خازم، وأمَّرَ أخاه بالمقام عندَهُ ببغداد.

وفيها أمرَ الأمينُ بالدعاءِ لولده موسى على المنابر في سائرِ الأمصار، وبالإمْرَةِ من بعدِه، وسَمَّاهُ الناطِقَ بالحقّ. ثم يُدعَى من بعدِهِ لأخيه المأمون، ثم لأخيه القاسم. وكان من نِيَّةِ الأمين الوفاءُ لأخوَيْهِ بِما شرَطَ لهما، فلم يزَلْ بهِ الفضلُ بن الربيع حتى غيَّرَ نيَّتَه في أخوَيْه، وحسَّنَ له خَلْعَ المأمونِ والقاسم، وصغَّرَ عندَهُ شأنَ المأمون. وإنما حمَلَهُ على ذلك خوفُهُ من المأمون إنْ أفضَتْ إليه الخلافةُ أن يخلَعَهُ من الحجابة

(1)

، فوافقه الأمينُ على ذلك، وأمر بالدُّعاءَ لولدِهِ موسى، وبولايةِ العَهْدِ من بعدِه. وذلك في ربيع الأول من هذه السنة؛ فلما بلَغَ المأمونَ قَطَعَ البريدَ عنه، وتَرَكَ ضَرْبَ اسمِهِ على السِّكَّة والطراز، وتنكَّر للأمين، وبعث رافعَ بن اللَّيث إلى المأمون يسألُ منه الأمان، فأمَّنه فسار إليه بمَنْ معه، فأكرمه المأمونُ وعظَّمَه، وجاء هَرْثَمةُ على إثْرِه، فتلقَّاه المأمونُ ووجوهُ الناس، وولَّاهُ الحرَس. فلما بلَغَ الأمينَ أن الجنودَ التفَّتْ على أخيه المأمون ساءه ذلك وأنكرَه؛ وكتب إلى المأمون كتابًا، وأرسل إليه رُسُلًا ثلاثةً من أكابرِ الأمراء، سألَهُ أن يُجيبَهُ إلى تقديمِ ولَدِهِ عليه، وأنه قد سَمَّاهُ الناطِقَ بالحق. فأظهر المأمونُ الامتناع، فشرَعَ الأمراءُ في مُطَايَبَتِه ومُلايَنَتِه، وأن يُجيبَهُم إلى ذلك، فأبَى كلَّ الإباء، فقال له العباسُ بن موسى بن عيسى: فقد خلَعَ أبي نفسَه فماذا كان؟ فقال المأمون: إنَّ أباكَ كان امرأً مكرهًا. ثم لم يزل المأمونُ يَعِدُ العبَّاسَ ويُمنِّيه حتى بايَعَهُ بالخلافة. ثم لما رجع إلى بغداد كان يُراسِلُه بما كان من أمرِ الأمينِ ويُناصِحُه؛ ولما رجع الرسُلُ إلى الأمين أخبروه بما كان من قولِ أخيه، فعند ذلك صَمَّمَ الفضلُ بن الربيع على الأمين في خَلْعِ المأمون، فخلَعهُ وأمرَ بالدعاءِ لولده في سائرِ البلاد. وأقاموا منْ يتكلَّمُ في المأمون، ويذكرُ مساويه، وبعثوا إلى مكة فأخذوا الكتابَ الذي كتبه الرشيد، وأودَعَهُ في الكعبة، فمزَّقَهُ الأمين، وأكَّدَ البيعةَ إلى ولدِهِ الناطقِ بالحق على ما ولّاهُ من الأعمال.

وجرَتْ بين الأمينِ والمأمونِ مكاتباتٌ ورُسُلٌ يطولُ بَسْطُها؛ وقد استقصاها ابنُ جرير في تاريخِه

(2)

، ثم آلَ بهما الأمرُ إلى أنِ احتفظ كلٌّ منهما على بلادِه وحِصْنِها، وهيأ الجيوشَ والجنود، وتألَّفَ الرعايا.

وفيها عدَتِ الرُّومُ على مَلِكِهم ميخائيل

(3)

، فراموا خلعَه وقتلَه، فترَكَ الملكَ وترَهَّب، وولَّوْا عليهم أليون.

(1)

في (ب، ح): "إنْ أفضَتْ إليه الخلافةُ يومًا من الدهر، فسعى في خلعِهِ وزوالِ الخلاقةِ عنه"، والمثبت من (ق).

(2)

انظر تاريخ الطبري (5/ 35) وما بعدها.

(3)

في (ق): "وفيها غدرت الروم بملكهم. . ". والمثبت من (ب، ح).

ص: 513

وحجَّ بالناسِ فيها نائبُ الحجاز داودُ بن عيسى، وقيل: علي بن الرشيد.

‌وفيها توفي من الأعيان:

سَلْم بن سالم أبو بَحْر البَلْخِيّ

(1)

: قدم بغداد وحدَّث بها عن إبراهيم بن طَهْمَان، والثَّوري. وعنه الحسنُ بن عَرَفة. وكان عابدًا زاهدًا مكَثَ أربعين سنة لم يُفرَشْ له فِراش، وصامها كلَّها إلَّا يومي العيد. ولم يرفَعْ رأسَهُ إلى السماء. وكان داعيةَ الإرجاء، ضعيفَ الحديث، إلَّا أنه كان رأسًا في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكان قد قدم بغداد فأنكر على الرشيدِ وشنَّع عليه، فحبَسَه وقيَّدَه باثني عشرَ قيدًا؛ فلم يزَلْ أبو معاوية يشفعُ فيه حتى جعلوه في أربعةِ قيود. ثم كان يدعو اللَّه أن يردَّهُ إلى أهلِه؛ فلما تُوفي الرشيد أطلقَتْهُ زُبيدة، فرجع.

وكانوا بمكة فد جاؤوا حُجَّاجًا، فمرض بمكة، واشتهى يومًا بَرَدًا، فسقط في ذلك الوَقْتِ بَرَدٌ جمن اشتهاه، فأكل منه. مات في ذي الحجة من هذه السنة.

وعبدُ الوهاب بن عبد المجيد الثقفي

(2)

: كانتْ غَلَّتُهُ في السنةِ قريبًا من خمسين ألفًا، يُنفِقها كلَّها على أهل الحديث. توفي عن أربعٍ وثمانين.

وأبو النصر الجهني المصاب

(3)

: كان مقيمًا بالمدينة النَّبويَّة بالصُّفَّةِ من المسجدِ في الحائطِ الشماليِّ منه وكان طويلَ السكوت، فإذا سئل أجاب بجوابٍ حسَن، يتكلم بكلماتٍ مفيدة تُؤثر عنه وتكتب، وكان يخرجُ يومَ الجمعة قبلَ الصلاة، فيقفُ على مجامِع الناسِ فيقول:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، و {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]. ثم ينتقلُ إلى جماعةٍ أخرى، ثم إلى أخرى،

(1)

في (ح، ق): سالم بن سالم، وهو تصحيف، والمثبت من (ب) ومصادر ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 374)، أحوال الرجال للجوزجاني (208)، الجرح والتعديل (4/ 266)، الضعفاء للعُقيلي (2/ 165)، تاريخ بغداد (9/ 140)، الكامل لابن عدي (3/ 326)، كتاب الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 96)، سير أعلام النبلاء (9/ 321)، ميزان الاعتدال (3/ 263)، لسان الميزان (3/ 63).

(2)

ترجمته في كتاب بحر الدم للإمام أحمد (283)، التاريخ الكبير (6/ 97)، الجرح والتعديل (6/ 71)، الضعفاء للعقيلي (3/ 75)، مشاهير علماء الأمصار (160)، الثقات لابن حبان (7/ 132)، تاريخ بغداد (11/ 18)، التعديل والتجريح (2/ 919)، رجال مسلم (2/ 5)، تهذيب الكمال (18/ 503)، ميزان الاعتدال (4/ 434)، المقتنى في سرد الكنى (2/ 51)، كتاب المختلطين (78)، تقريب التهذيب (368)، طبقات الحفاظ (139).

(3)

ترجمته في صفة الصفوة (2/ 199).

ص: 514

حتى يدخلَ المسجد، فيُصَلِّي فيه الجمعة ثم لا يَخْرُجُ منه حتى يُصَلِّي العشاءَ الآخرة.

وقد وعَظَ مرَّةً هارونَ الرشيد بكلامٍ حسن، فقال: اعلَمْ أنَّ اللَّه سائلُكَ عن أُمَّةِ نبيِّه، فأعِدَّ لذلك جوابًا، وقد قال عمرُ بن الخطَّاب: لو ماتتْ سخلةٌ بالعراق ضَيَاعًا لَخَشيت أنْ يسألَني اللَّه عنها. فقال الرشيد: إني لستُ كعمر، وإنَّ دَهْري ليس كَدَهْرِه. فقال: ما هذا بِمُغْنٍ عنك شيئًا. فأمر له بثلاثِ مئةِ دينار. فقال: أنا رجلٌ من أهلِ الصُّفَّة، فمُرْ بها فَلْتُقْسم عليهم، وأنا واحدٌ منهم.

‌ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومئة

فيها في صَفَر منها أمَرَ الأمينُ النَّاسَ أنْ لا يتعاملوا بالدراهمِ والدنانيرِ التي عليها اسمُ المأمون. ونَهَى أنْ يُدعَى له على المنابر، وأنْ يُدعَى له ولولَدِهِ من بعدِه.

وفيها تَسَمَّى المأمونُ بإمامِ الهدى؛ وفي ربيع الآخر فيها عَقَدَ الأمينُ لعليِّ بن عيسى بن ماهان الإمارةَ على الجبَل وهمَذان وأصْبَهان وقُمّ، وتلكَ البلاد، وأمَرَهُ بِحَرْبِ المأمون، وجهَّزَ معهُ جيشًا كثيرًا؛ وأنفَقَ فيهم نفقاتٍ عظيمة؛ وأعطاهُ مئتي ألف دينار، ولولده خمسين ألفَ دينار، وألفَيْ سيف مُحلّى، وستة آلاف ثوبٍ للخِلَع. فخرج عليُّ بن موسى بن ماهان من بغداد في أربعين ألفَ مقاتلٍ فارس؛ ومعه قَيْدٌ من فِضَّة ليأتي فيه بالمأمون.

وخرج الأمينُ معه مشيِّعًا، فسار حتى وصلَ الرَّيّ، فتلقَّاهُ الأميرُ طاهرٌ في أربعةِ آلاف، فجرَتْ بينهم أمورٌ آلَ الحالُ فيها أنِ اقتَتَلوا؛ فقُتل عليُّ بن عيسى؛ وانهزم أصحابُه، وحُمل رأسُه وجُثَّتُهُ إلى الأمير طاهِر. فكتب بذلك إلى وزيرِ المأمون ذي الرِّيَاستَيْن وكان الذي قَتَل عليَّ بن عيسى رجلٌ يُقال له طاهر الصغير. فسُمِّي ذا التيمِينَيْن، لأنه أخذ السيفَ بيدَيْه الثِّنْتَيْن، فذبح به عليَّ بن عيسى بن ماهان، ففَرِحَ بذلك المأمونُ وذووه، وانتهى الخَبرُ إلى الأمين وهو يَصيدُ السمَكَ من بركة القصر؛ فقال: وَيْحَك! دَعْني من هذا، فإنَّ كَوْثرًا قد صاد سمكَتَيْن ولم أصِدْ بعدُ شيئًا. وأرْجَفَ الناسُ ببغداد، وخافوا غائلةَ هذا الأمر. ونَدِمَ محمدٌ الأمين على ما كان منه من نَكْثِ العَهْد، وخَلْعِ المأمون، وما وقع من الأمر الفَظيع. وكان رجوعُ الخبَرِ إليه في شوال من هذه السنة.

ثم جهَّزَ عبدَ الرحمن بن جَبَلة الأبْنَاويَّ في عشرين ألفًا من المقاتِلَة إلى هَمَذانَ ليقاتلوا طاهرَ بن الحسين بن مُصعب ومنْ مَعَهُ من الخراسانيَّة؛ فلما اقتربوا منهم تواجهوا فتقاتلوا قتالًا شديدًا، حتى كثرتِ القتلى بينهم، ثم انهزم أصحابُ عبد الرحمن بنِ جَبَلة، فلجؤوا إلى هَمَذان، فحاصرَهم بها طاهرٌ حتى اضطرَّهم إلى أنْ دَعَوْا إلى الصُّلح، فصالحهم وأمَّنَهم، ووَفَى لهم؛ وانصرف عبدُ الرحمن بن جبلة على أن يكونَ راجعًا إلى بغداد، ثم غدَروا بأصحابِ طاهر، وحملوا عليهم وهم غافلون، فقَتَلوا منهم خلقًا،

ص: 515

وصبَرَ لهم أصحابُ طاهر، ثم نهضوا إليهم وحملوا عليهم فهزموهم. وقُتل أميرُهم عبد الرحمن بن جَبَلة، وفرَّ أصحابُهُ خائبين.

فلما رجعوا إلى بغداد اضطربتِ الأمور، وكثرتِ الأراجيف، وكان ذلك في ذي الحجَّة من هذه السنة، وطرَدَ طاهرٌ عُمَّالَ الأمين عن قَزْوينَ وتلك النواحي، وقَوِيَ أمرُ المأمون جدًّا بتلك البلاد. وفي ذي الحجَّة من هذه السنة ظهر أمرُ السُّفْيَانيِّ بالشام، واسمه علي بن عبد اللَّه بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فعزَلَ نائبَ الشامِ عنها، ودَعَا إلى نفسِه؛ فبعث إليه الأمينُ جيشًا فلم يقدموا عليه، بل أقاموا بالرَّقَّة. ثم كان من أمرِه ما سنذكرُه.

وحجَّ بالناسِ فيها نائبُ الحجاز داودُ بن عيسى.

‌وفيها كانتْ وفاةُ جماعةٍ من الأعيان، منهم:

إسحاق بن يوسف الأزرق

(1)

: أحد أئمة الحديث. روى عنه أحمد وغيره. ومنهم:

بَكَّار بن عبد اللَّه

(2)

بن مصعب بن ثابت بن عبدِ اللَّه بن الزُّبير. كان نائبَ المدينةِ للرشيد ثنتَيْ عشرةَ سنةً وشهرًا؛ وقد أطلق الرشيدُ على يدَيْهِ لأهلِها ألفَ ألفِ دينار ومئتي ألفِ دينار. وكان شريفًا جوادًا معظَّمًا.

‌وفيها توفي:

أبو نُوَاسر الشاعر

(3)

: واسمهُ الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد اللَّه بن الجرَّاح بن هِنب بن ددة بن غَنْم بن سُليم بن حَكَم بن سعد العشيرة بن مالك بن عمرو بن الغَوْث بن طَيِّئ بن أُدَد بن شبيب بن [عمر بن] سبيع بن الحارث بن زيد بن عدي بن عوف بن زيد بن هميسع بن عمرو بن يَشْحُب بن عَرِيب بن زيد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان بن عابِر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن

(1)

ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 315)، التاريخ الكبير (1/ 406)، الكنى والأسماء لمسلم (2/ 742)، الجرح والتعديل (2/ 228)، الثقات لابن حبان (6/ 52)، رجال صحيح البخاري للكلاباذي (1/ 79)، رجال مسلم لابن منجويه (1/ 54)، تاريخ بغداد (6/ 319)، تهذيب الكمال (2/ 496)، سير أعلام النبلاء (9/ 171)، تهذيب التهذيب (1/ 225)، تقريب التهذيب (104)، طبقات الحفاظ (138).

(2)

ترجمته في الجرح والتعديل (3/ 585)، الثقات لابن حبان (6/ 107).

(3)

ترجمته في الأغاني (20/ 71)، تاريخ بغداد (7/ 436)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (13/ 407)، المنتظم لابن الجوزي (10/ 16)، الكامل لابن الأثير (5/ 379)، وفيات الأعيان (2/ 95)، بغية الطلب في تاريخ حلب (10/ 4645)، سير أعلام النبلاء (9/ 279)، ميزان الاعتدال (7/ 436)، العبر (1/ 321)، لسان الميزان (2/ 285، و 7/ 115)، النجوم الزاهرة (2/ 156)، شذرات الذهب (1/ 345).

ص: 516

نوح. كذا نسَبَهُ عبدُ اللَّه بن [أبي] سعد الورَّاق

(1)

، نسَبَه إلى ولاءِ الجرَّاح بن عبد اللَّه الحَكَمي. ويقال له أبو نُوَاس البَصْري، كان أبوهُ من أهل دمشق، من جُندِ مروانَ بنِ محمد، ثم صار إلى الأهواز، وتزوَّج امرأةً يُقال لها جلبان، فولَدَتْ له أبا نُوَاس وابنًا آخر يُقال له أبو مُعاذ.

ثم صار أبو نواس إلى البصرة، فتأدَّبَ بها على أبي زيد وأبي عُبيدة. وقرأ كتابَ سِيبَوَيْه، ولزم خَلَفًا الأحمر؛ وصحب يونُسَ بن حَبيب الجَرْميَّ النَّحْوي.

وقد قال القاضي ابنُ خَلِّكان

(2)

: صحب أبا أسامة والبةَ بن الحُبَاب الكوفي.

ورَوَى الحديث عن أزهرَ بنِ سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، ويحيى القطَّان. وعنه محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي. وحدث عنه جماعةٌ منهم الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغُنْدَر، ومشاهيرُ العلماء.

ومن مشاهيرِ حديثِهِ ما رواه محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي، [عن الحسن بن هانئ]، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يموتنَ أحدُكم إلَّا وهو يُحسنُ الظنَّ باللَّه، فإنَّ حُسْنَ الظَّنِّ باللَّه ثَمَنُ الجنَّة"

(3)

.

وقال محمد بن إبراهيم: دخلنا عليه وهو في الموت، فقال له صالح بن علي الهاشمي: يا أبا علي، أنت اليومَ في آخرِ يوم من أيام الدنيا، وأولِ يومٍ من أيامِ الآخرة، وبينك وبين اللَّه هَنَاتٌ

(4)

، فتُبْ إلى اللَّه من عَمِلك. فقال: إيَّاي تُخَوِّفَ باللَّه؟! أسنِدُوني. قال: فأسندناه. فقال: حدثني حماد بن سَلَمة، عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ نبيٍّ شفاعةٌ، وإني اختبأتُ شفاعتي لأهلِ الكبائرِ من أمتي يومَ القيامة"

(5)

. ثم قال: أفلا تراني منهم؟.

(1)

ترجمة الوراق هذا في تاريخ بغداد (10/ 25). وما بين معقوفين منه، ومن نسب أبي نواس في تاريخ بغداد (7/ 436). وقد سقط هذا النسب من (ق)، وهو مثبت في (ب، ح).

(2)

في وفيات الأعيان (2/ 95، 96).

(3)

إسناده ضعيف جدًا، فإن راويه عن محمد بن إبراهيم بن كثير هو إسماعيل بن علي الصيرفي، وهو غير ثقة، وأبو نواس غير أهل لرواية الحديث. وهذا الحديث نقله المؤلف من تاريخ دمشق لابن عساكر الذي نقله من معجم ابن جميع الصيداوي 301 حيث رواه من طريق ثابت عن أنس، وما أظنه إلا واهمًا، فهذا الحديث ساقه الخطيب بالإسناد نفسه في ترجمة محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي من تاريخ (2/ 283 بتحقيقنا) ولكنه ذكره من حديث حماد، عن يزيد الرقاشي عن أنس، وهو الصواب، ويزيد ضعيف!

على أن الشطر الأول من متن الحديث صحيح من حديث جابر بن عبد اللَّه، فهو عند مسلم (8/ 165)(2877) وغيره، وينظر تمام تخريجه في تعليقنا على ابن ماجه (4167) وتاريخ الخطيب (2/ 283 - 284)(بشار).

(4)

"هنات": خِصالُ شرّ، مفردها هَنَة. النهاية في غريب الحديث (هنو).

(5)

إسناده ضعيف من هذا الوجه، ورواية يزيد الرقاشي عن أنس لهذا الحديث غريبة غير محفوظة، والمحفوظ رواية =

ص: 517

وقال أبو نُوَاس: ما قلتُ الشعر حتى رَوَيتُ عن ستين امرأةً، منهنَّ خنساء، وليلى، فما ظنُّكَ بالرجال؟.

وقال يعقوب بن السِّكِّيت: إذا رويتَ الشعرَ عن امرئ القيس والأعشى من أهلِ الجاهلية، ومن الإسلاميِّين جريرٍ والفرزدق، ومن المُحدَثين عن أبي نُواس فحسبُك.

وقد أثنى عليه غيرُ واحد، منهم الأصمعيّ، والجاحظ، والنَّظَّام.

قال أبو عمرو الشيباني: لولا أنَّ أبا نواس أفسَدَ شعرَهُ بما وَضَعَ فيه من الأقذار لاحتَجَجْنا به. يعني شعرَه الذي قاله في الخمريَّات والمُرْدَان -وقد كان يَميلُ إليهم- ونحو ذلك مما هو معروفٌ في شعرِه.

واجتمع طائفةٌ من الشعراء عند المأمون، فقيل لهم: أيُّكم القائل:

فلمّا تَحَسَّاها وقَفْنا كأنَّنا

نرَى قمرًا في الأرضِ يبلُغُ كوكبا

(1)

؟

قالوا: أبو نواس. قال: فأيُّكم القائل:

إذا نزلَتْ دون اللَّهَاةِ من الفتى

دعَا هَمّهُ عن قلبِهِ برَحِيلِ

(2)

؟

قالوا: أبو نواس. قال: فأيُّكم القائل:

فتمشَّتْ في مَفَاصِلِهم

كتمَشِّي البُرْءَ في السَّقَمِ

(3)

؟

قالوا: أبو نواس. قال: فهو أشعَرُكم.

وقال سفيانُ بن عُيينةَ لابن مناذِر: ما أشعرَ ظريفَكُمْ أبا نُوَاسٍ في قوله:

يا قمرًا أبصرتُ في مَأتَمٍ

ينْدُبُ شَجْوًا بينَ أترابِ

أبْرَزَهُ المأتَمُ لي كارهًا

برَغْمِ ذي بابٍ وحُجَّاب

يَبْكي فيَذْري الدُّرَّ من عينه

ويَلْطِمُ الوَرْدَ بِعُنَّابِ

= ثابت عن أنس، أخرجه الطيالسي (2026) والترمذي في الجامع (2435)، والبزار كما في كشف الأستار (3496)، وأبو يعلى في مسنده (3284)، وابن خزيمة في التوحيد 270، وابن حبان (6468)، والطبراني في الأوسط (8513)، والحاكم (1/ 69)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وأخرجه أحمد (3/ 213)، وأبو داود (4739)، وابن خزيمة في التوحيد 271، والحاكم (1/ 69) من حديث أشعث المداني عن أنس (بشار).

(1)

لم أجد البيت في ديوان أبي نواس بهذا اللفظ، والذي فيه ص (37):

إذا عبَّ فيها شاربُ القَوْمِ خِلْتهُ

يُقَبّلُ في داجٍ من الليِل، كَوْكَبا

(2)

البيت في ديوان أبي نواس ص (482).

(3)

البيت في ديوان ص (537).

ص: 518

لا زالَ مَوْتًا دَأْبُ أحبابِهِ

ولم تَزَلْ رُؤْيَتُهُ دابي

(1)

قال ابنُ الأعرابي: أشعَرُ الناسِ أبو نُوَاس في قوله:

تغَطَّيْتُ من دَهْري بظِلِّ جناحِهِ

فعيني تَرَى دهري وليس يَرَاني

فلو تسألُ الأيامَ عنِّىَ ما دَرَتْ

وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني

(2)

وقال أبو العتاهية: قلتُ في الزُّهْد عشرينَ ألفَ بيت، وَدِدْتُ أنَّ لي مكانَها الأبياتَ الثلاثةَ التي قالها أبو نُوَاس، وهي هذه، وكانتْ مكتوبةً على قبرِه:

يا نُوَاسِيُّ تَوَقَّرْ

أو تَغَيَّرْ أو تَصَبَّرْ

إنْ يَكُنْ ساءَكَ دَهرٌ

فلَمَا سَرَّكَ أكْثَرْ

يا كثيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّهِ

من ذَنْبِكَ أَكْبَرْ

(3)

ومن شعرِ أبي نُوَاس يَمدَحُ بعضَ الأمراء:

أوجَدَهُ اللَّهُ فما مِثْلُهُ

لطالِبِ ذاكَ ولا ناشِدِ

وليس للَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ

أنْ يَجمعَ العالَمَ في واحِدِ

(4)

وأنشدوا لسفيانَ بنِ عُيينة قولَ أبي نواس:

ما هَوَى إلَّا له سَبَبُ

يبْتَدي منهُ ويَنْشَعِبُ

فتَنَتْ قلبي مُحجَّبَة

وجْهُها بالحُسْنِ مُنْتَقِبُ

حَلِيَتْ والحُسْنُ تأخذُهُ

تنْتَقي منه وتَنْتَخِبُ

فاكتسَتْ منهُ طرائفَهُ

واسترَدَّتْ بعضَ ما تَهَبُ

فَهْيَ لو صَيَّرْتُ فيه لَهَا

عوْدةً لم يَثْنِها أرَبُ

صار جِدًّا ما مَزَحْتُ بِهِ

ربَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ

(5)

فقال ابنُ عُيينة: آمنتُ بالذي خلَقَها.

(1)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (53) بألفاظ مقاربة.

(2)

البيتان في ديوان أبي نواس ص (650).

(3)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (348). وهي في تاريخ ابن عساكر (13/ 459، 460)، وفيه زيادة بيت وهو:

أكثرُ العصيانِ للَّه في أصْـ

ـغَرِ عفوِ اللَّه يَصْغَرْ

(4)

البيتان من قصيدة في ديوان أبي نواس ص (218).

(5)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (51).

ص: 519

وقال ابنُ دُريد: قال أبو حاتم: لو أنَّ العامَّةَ بدَّلَتْ هذَيْنِ البيتين لكتبتُهما بماءَ الذهب

(1)

:

ولو أني استزَدْتُكَ فوقَ ما بي

من البَلْوَى لأعْوَزَكَ المزيدُ

ولو عُرِضَتْ على الموتى حياتي

بعيشٍ مثل عيشي لم يُريدوا

وقد سمع أبو نُواس حديثَ سُهيل، عن أبي صالح

(2)

، عن أبي هُريرة، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"القلوبُ جُنودٌ مُجنَّدة، فما تعارَفَ منها ائتلَفَ، وما تَنَاكَرَ منها اختلف"

(3)

. فنظم ذلك في قصيدةٍ له فقال:

إنَّ القلوبَ لأجنادٌ مُجَنَّدةٌ

للَّه في الأرضِ بالأهواءِ تعترِفُ

فما تناكَرَ منها فهو مختلفٌ

وما تعارَفَ منها فهو مؤتلفُ

(4)

ودخل يومًا أبو نواس مع جماعةٍ من المحدِّثين على عبدِ الواحد بن زياد فقال لهم عبدُ الواحد: لِيَخْتَرْ كل واحدٍ منكم عشرةَ أحاديث أُحدِّثُه بها. فاختار كلُّ واحدٍ عشرةً إلَّا أبا نُواسَ، فقال له: ما لَكَ لا تختارُ كما اختاروا فأنشأ يقول:

ولقد كُنَّا رَوَيْنا

عن سعيدٍ عن قَتَادهْ

عن سعيدِ بنِ المُسَيّـ

ـبِ ثم ابنِ عُبَادَة

(5)

وعن الشعبيِّ والشَّعـ

ـبِيُّ شيخٌ ذو جَلادَهْ

وعن الأخيارِ نَحْكيـ

ـهِ وعَنْ أهْلِ الإفادَهْ

أنَّ مَنْ ماتَ مُحِبًّا

فلَهُ أجْرُ شَهَادَهْ

(6)

(1)

زادت نسختا (ب، ح) ما نصّه: وهما لأبي نواس. ولم أجدهما في ديوانه.

(2)

كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد (4/ 351):"سهيل بن أبي صالح عن أبيه".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 231)(2638)، وابن حبان في صحيحه (14/ 42)(6168)، وأبو داود (4/ 260)(4834)، والخطيب في تاريح بغداد (4/ 351)، ولفظهم جميعًا "الأرواح جنود. . . ".

(4)

البيتان في ديوان أبي نواس ص (422).

(5)

في الأصول: ثم "سعد بن عبادة"، ولا يستقيم به وزن البيت.

(6)

كذا روى الخبر والأبيات الخطيب البغدادي في تاريخه (7/ 438)، ولم نجد الأبيات في ديوان أبي نواس، وهي في ديوان محيي الدين بن عربي ص (391) بألفاظ مقاربة وزيادة، وهي:

حدّث الشيخُ أبونا

عن أبيه عن قتادَهْ

عن عطاءِ بنِ يسارٍ

عن سعيد بن عُبَادَهْ

إنَّ منْ مات محبًّا

فله أجرُ الشهادَهْ

ثم قد جاء بأخرى

مثلَ هذا وزيادَهْ

عن فُضيلِ بنِ عياضٍ

وهو من أهل الزيادَهْ

إنَّ منْ مات خليًّا

كانتِ النار مِهَادَهْ

ص: 520

فقال له عبدُ الواحد: قُمْ عَنِّي يا فاجر، لا حدَّثْتُكَ ولا حدَّثْتُ أحدًا من هؤلاءِ من أجلِك. فبلغ ذلك مالكَ بنَ أنس وإبراهيمَ بن أبي يحيى، فقالا: كان ينبغي أن يُحدِّثَه، لعلَّ اللَّه أن يُصْلِحَه. قلت: وهذا الذي أنشَدَهُ أبو نُواس في شعره قد رواهُ ابنُ عديٍّ في كامِلِه عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا "منْ عَشِقَ فعَفَّ فكتَمَ فماتَ ماتَ شهيدًا"

(1)

.

ومعناه: أنَّ منِ ابتُلي بالعِشْقِ من غيرِ اختيارٍ منه فصَبَرَ، وعَفَّ عن الفاحشة، ولم يُفشِ ذلك، فماتَ بسبب ذلك حَصَل له أجرٌ كثير. فإنْ صَحَّ هذا كان ذلك له نوع شهادة. واللَّه أعلم.

وروى الخطيبُ أيضًا

(2)

، أنَّ شُعبة لَقِيَ أبا نواس فقال له: حدِّثْنا من طُرَفِك. فقال مرتجلًا

(3)

:

حدثنا الخفَّافُ عن وائلٍ

وخالدُ الحذَّاءُ عن جابِرِ

ومِسْعرٌ عن بعضِ أصحابِه

يرفعُهُ الشيخُ إلى عامِرِ

قالوا جميعًا: أيُّما طَفْلَةٍ

(4)

عُلِّقَها ذو خُلُقٍ طاهرِ

فواصلَتْهُ ثم دامَتْ لهُ

على وِصَالِ الحافِظِ الذاكرِ

كانت له الجنة مفتوحةً

يَرْتعُ في مرتَعِها الزاهرِ

وأيُّ مَعْشوقٍ جَفَا عاشقًا

بعدَ وِصَالٍ دائمٍ ناضِرِ

ففي عذابِ اللَّه بُعدًا له

نَعَمْ وسُحقٍ دائمٍ داخِرِ

فقال له شعبة: إنك لجميل الأخلاق، وإني لأرجو لك.

وأنشد أبو نُواس أيضًا:

يا ساحرَ المُقْلَتَيْنِ والجيدِ

وقاتِلي منكَ بالمواعيدِ

تُوعِدُني الوَصْلَ ثم تُخْلِفُني

فلا تَفي منه لي بمَوْعُودي

(5)

(1)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/ 297)، وابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 352)(456)، وعده بعضهم من الموضوعات، وانتصر له آخرون، وانظر نقد المنقول لمحمد بن أبي بكر الزرعي ص (132)(224)، والمنار المنيف ص (140)(321)، وكشف الخفا (2/ 345، 346)، وفيض القدير (6/ 180)، فهو حديث غير صحيح.

(2)

في تاريخ بغداد (7/ 439).

(3)

في (ق): تحولت الأبيات إلى نثر، وربما ضلَّلتْ كتابتها نثرًا جامعي ديوان أبي نواس، فلم يثبتوها فيه.

(4)

"الطَّفْلة": الجارية الرَّخْصةُ الناعمة. لسان العرب (طفل).

(5)

في (ق): "ويلاي من خلفك موعودي"؛ وفي (ب، ح): "فوابلائي من مخلف موعودي"؛ وبكلا الروايتين لا يستقيم وزن البيت من المنسرح، والمثبت من تاريخ جرجان ص (511).

ص: 521

حدَّثني الأزْرَقُ المحدِّثُ عن

شِمْرٍ وعَوْفٍ عن ابنِ مسعودِ

(1)

ما يُخْلِفُ الوَعْدَ غيرُ كافرةٍ

وكافِرٍ في الجحيمِ مَصْفُودِ

فبلغ ذلك إسحاق بن يوسف الأزرق فقال: كذَبَ عدوُّ اللَّه عليَّ وعلى التابعين، وعلى أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وعن سُليم بن منصور بن عمار، قال: رأيتُ أبا نُوَاس في مجلس أبي يبكي بكاءً شديدًا، فقلت: إني لأرجو أنْ لا يُعذِّبَكَ اللَّه بعدَ هذا البكاء. فأنشأ يقول:

لم أبكِ في مجلسِ مَنْصُورِ

شَوْقًا إلى الجنَّةِ والحُورِ

ولا مِنَ القَبْرِ وأهوالِهِ

ولا من النَّفْخَةِ في الصُّورِ

ولا منَ النارِ وأغلالِها

ولا مِنَ الخِذْلانِ والجَوْرِ

لكنْ بُكائي لبُكا شادنٍ

تَقيه نفسي كلَّ مَحْذورِ

(2)

ثم قال: إنما بكيتُ لبكاء هذا الأمردِ الذي إلى جانبِ أبيك. وكان صبيًّا حسنَ الصورة، يسمعُ الوَعْظَ فيبكي خوفًا من اللَّه عز وجل.

قال أبو نواس: دعاني يومًا بعضُ الحاكَةِ وألحَّ عليَّ ليُضِيفني في مَنْزِلِه، ولم يزلْ بي حتى أجبتُه؛ فسار إلى مَنْزله وسرتُ معه، فإذا مَنْزلٌ لا بأسَ به، وقد احتفَلَ الحائكُ في الطعام، وجمع جمعًا من الحُيَّاك، فأكلنا وشربنا، ثم قال: يا شيدي أشتهي أنْ تقولَ في جاريتي شيئًا من الشعر -وكان مُغرَمًا بجاريةٍ له- قال: فقلت: أرنيها حتى أنظمَ على شكلِها وحُسْنِها. فكشف عنها فإذا هي أسْمجُ خَلْقِ اللَّهِ وأوحَشُهم، سوداء، شَمْطاء، ديدانيَّة

(3)

، يسيلُ لُعابُها على صدرها، فقلت لسيدها: ما اسمُها؟ فقال: تسنيم. فأنشأتُ أقول:

أسهَرَ ليلي حُبُّ تَسْنِيمِ

جاريةٍ في الحُسْنِ كالبُومِ

كأنَّما نَكْهَتُها كامخٌ

أو حُزمةٌ من حُزَمِ الثُّومِ

ضرَطَتْ من حُبِّي لها ضَرْطَةً

أفزَعَتْ منها مَلِكَ الرُّومِ

(1)

في تاريخ جرجان: ". . . عن عمرو بن شمر عن ابن مسعود"، وفي (ق):". . . عن شهر وعوف عن ابن مسعود". والمثبت من (ب، ح). ولم نجد هذه الأبيات في ديوان أبي نواس المطبوع.

(2)

البيت الأول والأخير في ديوان أبي نواس ص (301). أما الثاني والثالث فلا وجود لهما فيه، وتفردت (ق) بالبيت الثالث إذ سقط من (ب، ح)، وتاريخ بغداد (7/ 439)، والخبر فيه.

(3)

كذا في (ق)، وفي (ب): دندانية، وهي غير معجمة في (ح)، ولم أقف على معناها، ولا على مصدر يذكر الخبر أو الشعر. ولعلّه نسَبَها إلى الدُّود.

ص: 522

قال: فقام الحائكُ يرقُصُ ويصفِّقُ سائرَ يومِه، ويفرَحُ ويقول: إنه شبَّهها واللَّه بمَلِك الرُّوم. ومن شعرِهِ أيضًا:

أبْرَمني الناسُ يقولونَ تُبْ

بزَعْمِهِمْ كَثَّرْتُ أوْزَارِيَه

(1)

إنْ كنتُ في النارِ وفي جنَّةٍ

ماذا عليكم يا بني الزَّانِيَهْ

وبالجملة، فقد ذكروا له أمورًا كثيرة ومجونًا وأشعارًا مُنكرة؛ وله في الخمريات والقاذورات والتشبيب بالمُرْدانِ والنِّسوان أشياءُ بشعةٌ شَنيعة. فمن الناس منْ يُفَسِّقُه ويَرْميهِ بالفاحشة؛ ومنهم من يرميه بالزَّنْدَقة؛ ومنهم من يقول: كان إنما يخرب على نفسه. والأول أظهر، لمَا في أشعارِهِ. فأمَّا الزندقةُ فبعيدةٌ عنه، ولكنْ كان فيه مُجون وخلاعةٌ كثيرة. وقد عزَوْا إليه في صِغَرِه وكِبَرِه أشياء مُنكرَة، اللَّه أعلمُ بصِحَّتِها. والعامَّةُ تنقلُ عنه أشياء كثيرةً لا حقيقةَ لها. وفي صحنِ جامعِ دمشق قُبَّةٌ يَفُورُ منها الماء، يقولُ الدماشقة: قبة أبي نُواس، وهي مبنيَّةٌ بعدَ موتِهِ بأزيَدَ من مئةٍ وخمسين سنة؛ فما أدْري لأيِّ شيءٍ نُسبَتْ إليه، فاللَّه أعلمُ بِهذا.

وقال محمد بن أبي عمير: سمعتُ أبا نُواسٍ يقول: واللَّه ما فتحتُ سراويلي لِحَرامٍ قَطّ.

وقال له محمدٌ الأمينُ بنُ الرشيد: أنتَ زِنْديق. فقال: يا أمير المؤمنين، لستُ بِزْنديق، وأنا أقول:

أُصلِّي الصلاةَ الخمسَ في حينِ وقتِها

وأشهدُ بالتوحيدِ للَّهِ خاضعا

وأُحسنُ غُسْلي إنْ ركبتُ جَنَابةً

وإنْ جاءني المسكينُ لم أكُ مانعا

وإِنِّي إنْ حانتْ من الكاسِ دعوةٌ

إلى بيعةِ الساقي أجبتُ مسارعا

وأشْرَبُها صِرْفًا على جَنْبِ ماعزٍ

وجَدْيٍ كثيرِ الشَّحْمِ أصبح راضعا

وجُوذابِ حُوَّارَى ولَوْزٍ وسُكَّرٍ

وما زال للخمَّارِ ذلك نافعا

وأجعَلُ تَخْليطَ الروافِضِ كلّهم

لِفَقْحةِ بَخْتَيْشُوعَ في النار طائعا

فقال له الأمين: ويحك! وما الذي ألجأك إلى فَقْحةِ بَخْتَيشُوع؟ فقال: به تَمَّتِ القافية. فأمَرَ له بجائزة. وبَخْتَيشوعُ الذي ذكرَهُ هو طبيبُ الخلفاء.

وقال الجاحظ: لا أعرفُ في كلام الشعراءِ أرَقَّ لا أحسَنَ من قولِ أبي نُواس حيث يقول:

أيَّةُ نار قَدَحَ القادِحُ

وأيُّ جدٍّ بلَغَ المازحُ

(1)

ليس الشعر في ديوان أبيٍ نواس، وفي (ح، ق): "يقولون بزعمهم"، وفي (ب):"تب عمهم". وما أثبتُّه أشبه بالصواب وزنًا ومعنى.

ص: 523

للَّهِ دَرُّ الشَيْب من واعِظٍ

وناصِحٍ لو حَذِرَ

(1)

الناصحُ

يأبَى الفتى إلَّا اتباعَ الهوَى

ومَنْهَجُ الحَقِّ لَهُ واضِحُ

فاسْمُ بعَيْنَيْكَ إلى نِسْوَةٍ

مُهورُهُنَّ العمَلُ الصَّالِحُ

لا يَجْتَلي الحوراءَ في خِدْرِها

إلَّا امرؤٌ ميزانُهُ راجِحُ

مَنِ اتَّقَى اللَّه فذاك الذي

سِيقَ إليه المَتْجرُ الرابحُ

فاغْدُ فما في الدِّين أُغْلوطةٌ

ورُحْ لما أنتَ لَهُ رائحُ

(2)

وقد استنشَدَهُ أبو هَفَّان قصيدَتَهُ التي في أوَّلِها: "لا تنس ليلى ولا تطرب إلى هند"

(3)

. فلما فرَغَ منها سجَد له أبو هَفَّان، فقال له أبو نُوَاس: واللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ مُدَّة. قال: فغَمَّني ذلك، فلما أردتُ الانصراف قال: متى أراك؟ فقلت: ألم تُقسِمْ؟ فقال: الدهرُ أقصرُ من أنْ يكونَ معه هَجْر.

ومن مُستجادِ شعرِه قولُه:

ألا رُبَّ وَجْه في التُّرابِ عَتِيقِ

ويا رُبَّ حُسْنٍ في التُّرابِ رَقيقِ

ويا رُبَّ حَزْمٍ في التُّرابِ ونَجْدَةٍ

ويا رُبَّ رأي في التُّرابِ وَثيقِ

فقُلْ لِقَريبِ الدارِ إنك ظاعِنٌ

إلى سَفَرٍ نائي المَحلِّ سَحِيقِ

أرى كل حَيٍّ هالكًا وابنَ هالكٍ

وذا نَسَبٍ في الهالكينَ عَريقِ

إذا امتَحَنَ الدنيا لَبيبٌ تكشَّفَتْ

له عن عدوٍّ في لباسِ صَدِيقِ

(4)

وقوله:

لا تشرَهَنَّ فإنَّ الذُّلَّ في الشَّرَهِ

والعِزُّ في الحِلْمِ لا في الطَّيْشِ والسَّفَهِ

وقلْ لِمُغْتَبِط في التِّيهِ من حُمُقٍ

لو كنتَ تعلَمُ ما في التِّيهِ لم تَتِهِ

التِّيهُ مَفْسَدةٌ للدِّينِ مَنْقَصَةٌ

للعقلِ مَهْلَكةٌ للعِرْضِ فانتَبِهِ

(5)

وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دُكَّانِ ورَّاق، فكتب على ظهر دفترٍ هذه الأبيات:

أيا عجبًا كيف يُعْصَى الإلـ

ـهُ أمْ كيف يَجْحَدُهُ الجاحِدُ

(1)

في (ق): "خطئ"، وفي الديوان:"سمع"، والمثبت من (ب، ح).

(2)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (175).

(3)

كذا في (ب، ح)، وفي (ق):"لا تنس ليلى ولا تنظر إلى هند". والقصيدة في ديوان أبي نواس، ومطلعها:

لا تَبْكِ ليلى ولا تطرَبْ إلى هندِ

واشرَبْ على الوَرْدِ من حَمْرَاءَ كالوَرْدِ

(4)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (465).

(5)

لم أجد الأبيات في ديوان أبي نواس المطبوع.

ص: 524

وفي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ

تَدُلُّ على أنَّهُ واحِدُ

وللَّهِ في كلِّ تَسْكِينةٍ

وتَحْرِيكةٍ أبدًا له شاهدُ

(1)

ثم جاء أبو نُواس فقرأها، فقال: أحسَنَ قاتَلَهُ اللَّه، واللَّه لوَدِدْتُ أنَّها لي بجميع شيءٍ قلتُه؛ لِمَنْ هذه؟ قيل له: لأبي العثاهية. فأخذ الدفترَ فكتَبَ في جانبِها:

سبحانَ منْ خَلَقَ الخَلْـ

ـقَ مِنْ ضَعيفٍ مَهين

يَسوقُهُ من قَرَارٍ

إلى قرارٍ مَكِينِ

يَحُورُ شيئًا فشيئًا

في الحُجْبِ دون العيونِ

حتى بَدَتْ حَرَكاتٌ

مَخْلوقَةٌ من سُكُونِ

(2)

ومن شعرِهِ المستجاد قولُه:

انقضَتْ شِرَّتي فعِفْتُ الملاهي

إذْ رَمَى الشَّيبُ مَفْرِقي بالدَّوَاهي

ونَهَتْني النُّهَى فمِلْتُ إلى العَدْ

لِ وأشْفَقْتُ من مَقالةِ ناهي

أيها الغافِلُ المُقِرُّ على السَّهْـ

ـــو لا عُذْرَ في المعادِ لِسَاهي

لا بأعمالِنا نُطيقُ خلاصًا

يومَ تَبْدو السماءُ فوقَ الجِبَاهِ

غيرَ أنَّا على الإساءةِ والتَّفْـ

ـريطِ نرجو من حُسْنِ عَفْوِ الإلهِ

(3)

وقوله:

نموتُ ونَبْلَى غيرَ أنَّ ذنوبَنا

إذا نحن مِتنا لا تموتُ ولا تَبْلَى

ألا رُبَّ ذي عينَيْنِ لا تنفعانِهِ

وما تنفَعُ العينانِ مَنْ قلبه أعمَى

(4)

وقوله:

لو أنَّ عينًا أوْهَمَتْها نفسُها

يومَ الحسابِ ممثَّلًا لم تَطْرِفِ

سبحانَ ذي الملَكُوتِ أيَّةُ ليلةٍ

مخضَتْ صبيحتها بيومِ المَوْقِفِ

كتب الفناءَ على البريَّةِ ربُّها

فالناسُ بين مقَدَّمٍ ومُخلَّفِ

(5)

وذُكر أنَّ أبا نُواس لَمَّا أراد الإحرامَ بالحجِّ قال:

(1)

الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص (122)، وهي في ديوان لبيد بن ربيعة ص (231).

(2)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (666).

(3)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (688).

(4)

لم أجد البيتين في ديوان أبي نواس المطبوع، وهي في تاريخ ابن عساكر (13/ 454).

(5)

لم أجد الأبيات في ديوان أبي نواس، والبيتان الأول والثاني في ديوان أبي العتاهية ص (276).

ص: 525

إلهنا ما أعْدَلَكْ

مَليكَ كُلِّ منْ ملَكْ

لَبَّيْكَ قد لَبَّيْتُ لك

لبَّيْكَ إنَّ الحمدَ لكْ

والمُلْكَ لا شَريكَ لَكْ

عبدُكَ قدْ أهَلَّ لَكْ

ما خَابَ عبدٌ سألَكْ

أنتَ لَهُ حيثُ سَلَكْ

لولاك يا ربُّ هَلَكْ

لَبَّيْكَ إنَّ الحمدَ لكْ

وَالمُلْكَ لا شَريكَ لَكْ

واللَّيْلُ لَمَّا أنْ حَلَكْ

والسابحاتُ في الفَلَكْ

على مَجَاري المُنْسَلَكْ

كلُّ نبيٍّ ومَلَكْ

وكُلُّ منْ أهَلَّ لكْ

سَبَّحَ أو صَلَّى فَلَكْ

لبَّيْكَ إنَّ الحمد لكْ

والمُلْكَ لا شَريكَ لَكْ

يا مُخْطئًا ما أغْفَلَكْ

عَصَيْتَ رَبًّا عَدَلَكْ

وأقدرَكْ وأمْهَلَكْ

عَجِّلْ وبادِرْ أمَلَكْ

واختِمْ بخيرٍ عَمَلَكْ

لبَّيْكَ إنَّ الحمدَ لكْ

والمُلْكَ لا شَريكَ لَكْ

(1)

وقال المعافَى بنُ زكريَّا الجَريريّ، حدّثنا محمد بن العباس بن الوليد، سمعتُ أحمد بن يحيى بن ثعلب يقول: دخلتُ على أحمد بنِ حنبل، فرأيتُ رجلًا تَهُمُّه نفسُه، لا يُحبُّ أنْ يُكثر عليه، كأنَّ النيرانَ قد سُعرَتْ بين يديه، فما زلتُ أترفَّقُ به، وتوسَّلتُ إليه أني من موالي شيبان، حتى كلَّمني فقال: في أيِّ شيءٍ نظَرْتَ من العلوم؟ فقلت في اللُّغةِ والشِّعر. قال: رأيتُ بالبصرةِ جماعةً يكتبونَ عن رجلٍ الشعر، قيل لي: هذا أبو نُوَاس فتخلَّلْتُ النَّاسَ ورائي، فلما جلستُ إليه أمْلَى علينا:

إذا ما خلَوْتَ الدهرَ يومًا فلا تَقُلْ

خلَوْتُ ولكنْ في الخلاءِ رقيبُ

ولا تحسبنَّ اللَّه يغفُلُ ساعةً

ولا أنَّ ما يَخْفَى عليه يَغيبُ

لَهَوْنا لَعَمْرُ اللَّهِ حتى تتابَعَتْ

ذُنوبٌ على آثارِهنَّ ذُنوبُ

فيا لَيْتَ أن اللَّه يَغفِرُ ما مَضَى

ويأذنُ في تَوْباتِنا فنَتُوبُ

(2)

(1)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (481)، وقد سقط منها بضعة أبيات، وكذا سقط من بعض الأصول، فأثبتُ ما جاء فيها جميعًا. وهي مع الخبر في تاريخ ابن عساكر (13/ 454، 455).

(2)

الأبيات الثلاثة الأولى في ديوان أبي نواس ص (103)، والأربعة جميعًا في ديوان أبي العتاهية ص (34) وفيها زيادة.

ص: 526

وزاد بعضُهم

(1)

في روايةٍ عن أبي نُواس بعدَ هذه الأبيات:

أقولُ إذا ضاقَتْ عليَّ مذاهبي

وحلَّتْ بقلبي للهُمومِ نُدُوبُ

لِطُولِ جِنَاياتي وعُظْمِ خَطِيئتي

هَلَكْتُ ومالي في المتابِ نَصيبُ

وأغرَقُ في بَحرِ المخافَةِ آيسًا

وتَرْجِعُ نفسي تارةً فتتوبُ

وتذكُرُ عفوًا للكريم عن الورَى

فأحْيَا وأرجو عَفْوَهُ فأُنيبُ

وأخضَعُ في قولي وأرغَبُ سائلًا

عَسَى كاشفُ البَلْوَى عليَّ يتوبُ

قال ابنُ طَرَارا

(2)

الجَرِيري: وقد روَيْتُ هذه الأبيات لِمَنْ قبلَ أبي نُواس، وهي في زُهْدِيَّاتِه؛ وقد استشهَدَ بها النُّحَاة في أماكنَ كثيرة قد ذكَرْناها.

وقال حسنُ بن الدايَة: دخلتُ على أبي نواس وهو في مرَضِ الموت فقلت: عِظْني. فأنشأ يقول:

فكَثِّرْ ما استطعتَ من الخطايا

فإنك لاقيًا رَبًّا غفورا

ستبصِرُ إنْ وردتَ عليه عَفْوًا

وتَلْقَى سيدًا مَلِكًا قديرا

تعضُّ ندامَة كفَّيْكَ مِمَّا

تركتَ مخافةَ النارِ الشُّرورا

(3)

فقلت: ويحك، وبمثلِ هذا الحالِ تَعِظُني بهذه الموعظة!، قال: اسكُتْ. حدّثنا حمادُ بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ادَّخَرْتُ شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ مِنْ أُمَّتي"

(4)

.

وقد تقدَّمَ له بهذا الإسناد عنه: "لا يموتَنَّ أحدُكم إلَّا وهو يُحسنُ الظنَّ باللَّه"

(5)

.

وقال الربيع وغيرُه، عن الشافعيِّ قال: دخَلْنا على أبي نُوَاس في اليوم الذي مات فيه وهو يَجودُ بنفسِهِ، فقلنا: ما أعدَدْتَ لهذا اليوم؟ فأنشأ يقول:

تَعاظَمَني ذَنبي فلمَّا قَرَنْتُهُ

بعَفْوِكَ ربي كان عَفْوكَ أعظَما

وما زلتَ ذا عَفْوٍ عن الذنبٍ لم تزَلْ

تَجودُ وتعفو مِنَّةٌ وتكرُّما

ولولاك لم يَغْوَ بإبليس عابدٌ

وكيف وقد أغْوَى صَفِيَّكَ آدَما

(1)

هو ابن عساكر في تاريخه تاريخ مدينة دمشق (13/ 456، 457).

(2)

في (ق): طراز، وفي (ب، ح) طرار. وكلاهما تصحيف، والمثبت مما مضى في حاشية ص (7) من نسخة (ق). وهو المعافى بن زكريا الذي سبق ذكره آنفًا.

(3)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (307) بألفاظ مقاربة.

(4)

انظر تخريج الحديث في حاشية الصفحة (517) رقم (5).

(5)

تقدم تخريجه في حاشية الصفحة (517) رقم (3).

ص: 527

رواه ابنُ عساكر

(1)

. وروى

(2)

أنهم وجدوا عند رأسِهِ رُقعةً مكتوبًا فيها بخطِّهِ:

يا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنوبي كثرةً

فلقد علمتُ بأنَّ عَفْوَكَ أعظَمُ

أدعوكَ رَبِّ كما أمَرْتَ تضرُّعًا

فإذا ردَدْتَ يدي فمنْ ذا يَرْحمُ

إنْ كان لا يرجوكَ إلَّا مُحْسنٌ

فمَنِ الذي يَرْجو المسيءُ المُجْرِمُ

ما لي إليك وسيلةٌ إلَّا الرجا

وجميلُ عَفْوِكَ ثم أنِّي مُسْلِمُ

(3)

وقال يوسف بن الداية: دخلتُ عليه وهو في السِّيَاق، فقلت: كيف تَجِدُك؟ فأطرَقَ مَلِيًّا، ثم رفع رأسه فقال:

دَبَّ فيَّ الفناءُ سُفْلًا وعُلْوًا

وأُراني أموتُ عُضْوًا فعُضْوَا

ليس تأتي من ساعةٍ بِيَ إلَّا

نَقَصَتْني بمرِّها بِيَ جُزْوَا

ذهبَتْ جِدَّتي بِلَذَّةِ عَيْشي

وتذكَّرْتُ طاعةَ اللَّهِ نِضْوَا

(4)

قد أسأنا كُلَّ الإساءةِ فاللَّـ

ـهُمَّ صَفْحًا عنَا وغَفْرًا وعَفْوَا

(5)

ثم ماتَ من ساعتِه. سامَحَنا اللَّه وإياه آمين.

وقد كان نقشُ خاتمِهِ: لا إله إلا اللَّه مُخلِصًا. فأوصَى أنْ يُجعَلَ في فَمِه إذا غَسَّلوه؛ ففعلوا به ذلك. ولما مات لم يجدوا له من المال سوى ثلاثِمئةِ درهم، وثيابِه وأثاثِه. وفد كانتْ وفاتُه في هذه السنةِ ببغداد، ودُفن في مقابرِ الشُّونِيزيّ، في تلِّ اليهود، وله خمسون سنة، وقيل ستون سنة، وقيل تسع وخمسون سنة. وقد رآه بعضُ أصحابِه في المنامِ فقال له: ما فعلَ اللَّه بك؟ فقال: غفَرَ لي بأبياتٍ قلتُها في النَّرْجِس:

تفكَّرْ في نباتِ الأرضِ وانظُرْ

إلى آثارِ ما صَنَعَ المَليكُ

عيونٌ من لُجَيْنٍ شاخصاتٌ

بأبصارٍ هي الذهَبُ السَّبيكُ

على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شاهداتٌ

بأنَّ اللَّه ليس له شَريكُ

(6)

(1)

تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (13/ 458).

(2)

المصدر السابق (13/ 461).

(3)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (307). وهي أيضًا مع الخبر في تاريخ ابن عساكر كما أشرنا في الحاشية السابقة.

(4)

النِّضْو بالكسر: البَعير المهزولِ وقيل: هو المهزول من جميعِ الدوابِ وهو أكثر، والجمع أنضاءِ وقد يُستعمل في الإنسان. لسان العرب (نضو).

(5)

الخبر والأبيات في تاريخ ابن عساكر (13/ 460، 461). وهي في ديوان أبي نواس ص (691).

(6)

الخبر والأبيات في تاريخ ابن عساكر (13/ 465)، ولم نجدها في ديوان أبي نواس.

ص: 528

وفي روايةٍ عنه أنه قال: غفَرَ لي بأبياتٍ قلتُها وهي تحت وسادتي. فجاؤوا، فوجدوها برُقْعةٍ في خَطِّه:

يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذُنوبي كثرةً

فلقد علمتُ بأنَّ عَفْوَكَ أعظَمُ

الأبيات وقد تقدَّمَت

(1)

.

وفي روايةٍ لابنِ عساكر

(2)

: قال بعضُهم: رأيتُه في المنام في هيئةٍ حسنة، ونعمةٍ عظيمة، فقلت له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفَرَ لي. قلت: بماذا وقد كنتَ مُخَلِّطًا على نفسِك؟ فقال: جاء ذاتَ ليلةٍ رجلٌ صالِحٌ إلى المقابر، فبسط رداءه وصلَّى ركعتين، قرأ فيهما ألفَيْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم أهدى ثوابَ ذلك لأهلِ تلك المقابر، فدخلتُ أنا في جُملتِهم، فغفر اللَّه لي.

وقال ابنُ خَلِّكان

(3)

: أولُ شعير قاله أبو نُواس لما صحب أبا أُسامة والِبَة بنَ الحُبَاب:

حاملُ الهوَى تعِبُ

يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ

إنْ بكَى يحِقُّ لَهُ

ليس ما بِهِ لَعِبُ

تضحكين لاهِيَةً

والْمُحبُّ يَنْتَحبُ

تعجبينَ من سَقَمي

صِحَّتي هي العَجَبُ

(4)

وقال المأمون: ما أحسنَ قولَه:

وما الناسُ إلا هالِكٌ وابنُ هالِكٍ

وذو نَسَبٍ في الهالِكينَ عَريقِ

إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ

له عن عدوٍّ في لباسِ صديقِ

(5)

قال ابن خَلِّكان

(6)

: وما أشدَّ رجاءه بربِّه حيثُ يقول:

تكَثَّرْ ما استطعتَ من الخطايا

فإنك لاقيًا رَبّا غفورا

ستبصرُ إنْ وردتَ عليه عَفْوًا

وتَلْقَى سيِّدًا مَلِكًا كبيرا

تعَضُّ ندامةً كفَّيْكَ مِمَّا

تركتَ مخافةَ النارِ الشُّرورا

(7)

(1)

في الصفحة السابقة.

(2)

تاريخ ابن عساكر (13/ 465).

(3)

في وفيات الأعيان (2/ 95)، وفيه الخبر مطول.

(4)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (51)، وفيه بيت خامس وهو:

كُلّما انْقَضى سببٌ

مِنْكِ عادَ لي سَبَبُ

(5)

البيتان في ديوان أبي نواس ص (465)، بألفاظ مقاربة.

(6)

في وفيات الأعيان (2/ 96)، بنحوه.

(7)

الأبيات في ديوان أبي نواس ص (307) بألفاظ مقاربة، وقد تقدمت في الصفحة السابقة.

ص: 529

‌ثم دخلت سنة ست وتسعين ومئة

فيها تُوفي أبو معاوية الضرير محمد بن خازم، أحد مشايخِ الحديث الثقاتِ الرُّفَعاءَ المشهورين. والوليد بن مسلم الدمشقي تلميذُ الأوزاعي.

وفيها حَبَس محمدٌ الأمينُ أسَد بن يزيد لأجلِ أنه نَقَم على الأمينِ لَعِبَهُ وَتَهاوُنَه في أمرِ الرعيَّة، وارتكابَهُ للصيد وغيرِهِ في هذا الوقت.

وفيها وجَّهَ الأمينُ عمَّهُ أحمد بن مزيد، وعبدَ اللَّه بن حُميد بن قَحْطَبة، في أربعين ألفًا، مع كلِّ واحدٍ منهما عشرون ألفًا إلى حُلْوان لقتالِ طاهرِ بنِ الحُسين أمير الحرب من جهةِ المأمون؛ فلما وصلوا إلى قريبٍ من حُلْوان خندقَ طاهرٌ على جيشِه خندقًا، وجعل يُعملُ الحيلةَ في إيقاعِ الفتنة بين الأميرَيْن، فاختلفا، فرجعَا ولم يقاتلاه، ودخل طاهرٌ إلى حُلْوان؛ وجاءه كتابُ المأمون بتسليمِ ما تحتَ يدِهِ إلى هَرْثمةَ بنِ أعيَن، وأن يتوجَّهَ هو إلى الأهواز؛ ففعل ذلك.

وفيها رفع المأمون وزيرَهُ الفضلَ بن سَهْل وولَّاهُ أعمالًا كبارًا، وسمَّاهُ ذا الرِّيَاسَتَيْن.

وفيها ولَّى الأمينُ نيابةَ الشام لعبدِ الملك بن صالح بن علي، وقد كان أخرجه من سجنِ الرشيد، وأمرَهُ أنْ يبعثَ له رجالًا وجنودًا لقتالِ طاهرٍ وهَرْثمة؛ فلمَّا وصلَ عبدُ الملك بن صالح إلى الرقَّة أقامَ بها، وكتبَ إلى رؤساء الشام، يتألَّفُهم ويدعوهم إلى الطاعة، فقَدِمَ عليه منهم خلقٌ كثير، ثم وقعَتْ حروبٌ كان مَبْدَؤها من أهلِ حمص؛ وتفاقم الأمر، وطال القتالُ بين الناس، ومات عبدُ الملك بن صالح هنالك؛ فرجع الجيشُ إلى بغداد صحبةَ الحسين بن علي بن ماهان، فتلقَّاهُ أهلُ بغدادَ بالإكرام، وذلك في شهر رجب من هذه السنة؛ فلما وصل إليها جاء رسولُ الأمين يطلُبُه، فقال: واللَّهِ ما أنا بمُسامِرٍ ولا مُضحِك، ولا وَليتُ له عملًا، ولا جاء له

(1)

على يدي مال، فلماذا يطلُبني في هذه الليلة؟.

‌سبب خلع الأمين بن زُبيدة وكيف أفضَتِ الخلافةُ إلى أخيه المأمون

لما أصبح الحسين بن علي بن ماهان ولم يذهبْ إلى الأمين لمَّا طلبه، وذلك بعد مَقْدَمهِ بالجيش من الشام قام في الناس خطيبًا وألَّبَهم على الأمين، وذكر لَعِبه وما يتعاطاهُ من اللَّهْو وغير ذلك من المعاصي، وأنه لا تصلُحُ الخلافةُ لمنْ هذا حالُه، وأنه يُريد أنْ يُوقع البأسَ بين الناس، ثم حثَّهم على القيامِ عليه، والنهوض إليه، ونَدَبهم لذلك؛ فالتفَّ عليه خلقٌ كثير، وجمٌّ غفير، وبعث محمدٌ الأمين إليه خيلًا فاقتتلوا مَلِيًّا من النهار، فأمر الحسينُ أصحابَهُ بالترجُّل إلى الأرض، وأنْ يُقاتلوا بالسيفِ والرِّماح، فانهزم

(1)

في (ق): "ولا جبى" وفي تاريخ الطبري (5/ 64): "ولا جرى له"، والمثبت من (ب، ح).

ص: 530

جيشُ الأمين؛ وخلَعَه، وأخذَ البيعةَ لعبدِ اللَّه المأمون، وذلك يوم الأحد الحادي عشرَ من شهرِ رجب من هذه السنة. ولما كان يومُ الثلاثاء نقل الأمين من قصرِهِ إلى قصرِ أبي جعفر وسطَ بغداد، وضيَّق عليه وقيَّده واضطهده، وأمر العباسُ بن عيسى بن موسى أمَّه زُبيدة أن تنتقلَ إلى هناك، فامتنَعَتْ، فضربَها

(1)

بالسَّوْط، وقهرَها على الانتقال، فانتقلت مع أولادِها، فلما أصبح الناسُ يومَ الأربعاء طلبوا من الحسين بن علي أُعطيَاتِهم، واختلفوا عليه، وصار أهلُ بغدادَ فِرْقَتَيْن؛ فِرقةٌ مع الأمين، وفرقةٌ عليه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فغلب حِزْبُ الخليفةِ أولئك، وأسَروا الحسينَ بن عليّ بن عيسى بن ماهان، وقيَّدوه، ودخلوا به على الخليفة، ففكُّوا عنه قيودَه، وأجلسوهُ على سريرِه؛ فعند ذلك أمَرَ الخليفةُ منْ لم يكنْ معه سلاحٌ من العامَّة أنْ يُعْطى سلاحًا من الخزائن، فانتهبَ الناسُ الخزائنَ التي فيها السلاحُ بسببِ ذلك؛ وأمر الأمينُ، فأُتي بالحسين بنِ عليِّ بن عيسى، فلامَهُ على ما صدَرَ منه، فاعتذر إليه بأنَّ عفوَ الخليفةِ حَمله على ذلك. فعَفا عنه وخلَعَ عليه واستوزَرَه وأعطاه الخاتم، وولَّاهُ ما وراءَ بابه، وولَّاهُ الحَرْب، وسَيَّرَهُ إلى حُلوان. فلمّا وصل إلى الجسر هرب في حاشيتِهِ وخدَمِه، فبعث إليه الأمينُ منْ يَرُدُّه. فركبتِ الخيولُ وراءَه، فأدركوه، فقاتلهم وقاتلوه فقتلوه، لمنتصف رجب، وجاؤوا برأسِهِ إلى الأمين، وجدَّد الناسُ البيعةَ للأمين يومَ الجمعة.

ولما قُتل الحسين بن علي بن عيسى هرب الفضلُ بن الربيع الحاجب، واستحوذ طاهر بن الحسين على أكثرِ البلاد للمأمون، واستنابَ بها النُّوَّاب، وخلعَ أكثرُ أهلِ الأقاليم الأمينَ وبايعوا المأمون، ودنا طاهرٌ إلى المدائن، فأخذها مع واسطَ وأعمالِها، واستناب من جهتِهِ على الحجازِ واليمنِ والجزيرةِ والموصل، وغير ذلك، ولم يبقَ مع الأمينِ من البلادِ إلا القليل.

وفي شعبانَ منها عقَدَ الأمينُ أربعَمئةِ لواء، مع كلِّ لواءٍ أمير، وبعثَهُم لقتالِ هَرْثَمة بن أعين، فالتقَوْا في شهر رمضان، فكسَرَهم هَرْثَمة، وأسر مقدَّمَهم عليَّ بن محمد بن عيسى بن نَهيك، وبعث به إلى المأمون. وهرب جماعةٌ من جُند طاهر، فساروا إلى الأمين، فأعطاهم أموالًا كثيرة وأكرمهم، وغلَّفَ لِحاهُمْ بالغالِيَة

(2)

، فسُمُّوا جيشَ الغالية، ثم ندَبَهم الأمين، وأرسل معهم جيشًا كثيفًا لقتالِ طاهر، فهزمهم طاهرٌ وفرَّق شملَهم، وأخذ ما كان معهم، واقترب طاهرٌ من بغداد فحاصرها، وبعث القُصَّاد والجواسيس، يُلْقون الفِتْنة بين الجُند، حتى تفرَّقوا شِيَعًا، ثم وقع

(3)

بين الجيش، وسعَتِ

(4)

(1)

في (ب، ح): "فقنعها بالسوط".

(2)

"الغَالية": نوعٌ من الطِّيب مُركَّب من مِسْك وعَنْبَر وعُود وَدُهْن، وهي مَعْروفة. والتَّغلُّف بها: التّلَطُّخ. النهاية في غريب الحديث (3/ 383).

(3)

كذا في الأصول، ولعل الصواب:"أوقع".

(4)

في (ق): وتشعبت، وفي (ب): وشعث، والمثبت من (ح).

ص: 531

الأصاغرُ على الأكابر، واختلفوا على الأمين في سادس ذي الحِجَّة، فقال بعضُ البغادِدَة:

قُلْ لأمينِ اللَّهِ في نفسِهِ

ما شتَّتَ الجندَ سوى الغالِيَهْ

وطاهرٌ نفسي فدا طاهرٍ

برُسْلِهِ والعدَّة الكافيهْ

أضْحَى زمامُ الملكِ في كفِّهِ

مقاتلًا للفئةِ الباغِيَهْ

يا ناكثًا أسلَمهُ نَكْثُهُ

عيوبُهُ في خُبْثِهِ فاشِيَهْ

قد جاءك اللَّيْثُ بشدَّاتِهِ

مُسْتكلِبًا في أُسُدٍ ضارِيَهْ

فاهْرُبْ ولا مَهْرَبَ من مثلِهِ

إلَّا إلى النارِ أوِ الهاوِيَهْ

فتفرَّق على الأمين شملُه، وحار في أمرِه، وجاء ابنُ الحسين بجيوشِه، فنَزَل على بابِ الأنبارِ يومَ الثلاثاء، لثنتي عشرةَ ليلةً خلتْ من ذي الحجَّة. واشتدَّ الحالُ على أهلِ البلد، وأخافَ الدُّعَّارُ والشُّطَّارُ أهلَ الصلاح، وخَربتِ الديار، وثارتِ الفتنةُ بين الناس، حتى قاتلَ الأخُ أخاهُ للأهواء المختلفة، والابنُ أباه، وجرَتْ شرورٌ عَظيمة، واختلفتِ الأهواء، وكَثُرَ الفسادُ والقتلُ داخلَ البلد.

وحجَّ بالناس فيها العباسُ بن موسى بن عيسى الهاشميّ من قِبَلِ طاهر، ودعا للمأمونِ بالخِلافة بمكَّةَ والمدينة، وهو أولُ مَوْسمٍ دُعي فيه للمأمون.

‌وفيها تُوفي:

بَقِيَّةُ بن الوليد الحِمصي

(1)

: إمامُ أهل حِمصَ وفقيهُها ومُحدِّثُها.

وحَفْصُ بن غِيَاث القاضي

(2)

: عاش فوق التسعين، ولما احتُضر بكَى بعضُ أصحابه فقال له: لا تبكِ، واللَّه ما حللتُ سراويلي على حرامٍ قَطّ، ولا جلس بين يديَّ خصمان فبالَيْتُ على منْ وقع الحُكم عليه منهما، قريبًا كان أو بعيدًا، مَلِكًا أو سُوقَةً.

(1)

ترجمته في تاريخ البخاري (2/ 150)، الجرح والتعديل (2/ 434)، رجال مسلم (1/ 99)، مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (1/ 272، 440، 2/ 444)، تهذيب الكمال (4/ 192)، المقتنى في سرد الكنى (2/ 142)، تذكرة الحفاظ (1/ 289)، سير أعلام النبلاء (8/ 518)، تهذيب التهذيب (1/ 416)، تقريب التهذيب (126)، طبقات الحفاظ (126).

(2)

ترجمته في التاريخ الكبير (2/ 270)، الجرح والتعديل (3/ 185)، معرفة الثقات للعجلي (1/ 310)، مولد العلماء ووفياتهم (1/ 437، 440، و 2/ 625)، مشاهير علماء الأمصار (172)، الثقات لابن حبان (6/ 200)، رجال مسلم (1/ 144)، تهذيب الكمال (7/ 56)، تذكرة الحفاظ (1/ 297)، سير أعلام النبلاء (9/ 22)، تهذيب التهذيب (2/ 358)، تقريب التهذيب (173)، طبقات الحفاظ (130).

ص: 532

وعبد اللَّه بن مَرْزوق

(1)

أبو محمد الزاهد، كان وزيرًا للرشيد فترك ذلك كلَّه، وتزَهَّدَ وأوْصَى عندَ موتِهِ أن يُطرحَ قبلَ مَوْتِهِ على مَزْبلة، لعلَّ اللَّه أن يرحَمَه.

أبو الشِّيص الشاعر

(2)

محمد بن رَزِين بن سليمان

(3)

. كان إنشادُ الشعر

(4)

وإنشاؤه ونظمُه أسهلَ عليه من شُرب الماء. كذا قال ابنُ خَلِّكان وغيرُه

(5)

. وكان هو ومسلم بن الوليد الملقَّب صَريع الغَوَاني، وأبو نُواس، ودِعْبِل، يجتمعونَ ويتناشدون. وقد عَمِيَ أبو الشِّيص في آخرِ عُمرِه. ومن جَيِّد شعرِه قولُه:

وقَفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي

متأخَّرٌ عنه ولا مُتقدَّمُ

أجدُ الملامَةَ في هواكِ لذيذةً

حُبًّا لِذِكرِكِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ

أشبَهْتِ أعدائي فصِرتُ أُحبُّهمْ

إذْ كانَ حظِّي منكِ حَظِّي منهمُ

وأهَنْتني فأهنتُ نفسي صاغرًا

ما مَنْ يَهُونُ عليكِ ممَّن يُكْرَم

(6)

‌ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومئة

استُهلَّتْ هذه السنةُ وقد ألحَّ طاهرُ بن الحسين وهَرْثمةُ بن أعْيَن ومنْ معَهما في حصارِ بغداد، والتضييقِ على الأمين، وهرَبَ القاسمُ بن الرَّشيد، وعمُّه منصورُ بن المهدي إلى المأمون، فأكرَمَهما، وولَّى أخاهُ القاسمَ جُرْجان؛ واشتدَّ حصارُ بغداد، ونُصبَ عليها المَجَانيقُ والعَرَّادات، وضاقَ الأمينُ بهم ذَرْعًا، ولم يبقَ معه ما يُنفق في الجُنْد، فاضطُرَّ إلى ضَرْب آنيةِ الفِضَّة والذَّهَبِ دراهمَ ودنانير؛ وهرَبَ كثيرٌ من جُنده إلى طاهر، وقُتل من أهلِ البلدِ خلقٌ كثير، وأُخذتْ أموالٌ كثيرةٌ من التجّار، وبعث الأمينُ إلى قُصورٍ كثيرة، ودورٍ شهيرةٍ مزخرفة، وأماكنَ ومَحالَّ كثيرة فحرَّقَها بالنار، لمَّا رأى في ذلك من

(1)

ترجمته في الثقات لابن حبان (8/ 345)، صفة الصفوة (2/ 317).

(2)

ترجمته في الأغاني (16/ 432)، تاريخ بغداد (5/ 401)، الفهرست (230)، ديوان الحماسة (2/ 143)، المنتظم لابن الجوزي (10/ 33)، نزهة الألباب في الألقاب (2/ 265)، النجوم الزاهرة (2/ 152).

(3)

وقيل: محمد بن عبد اللَّه بن رَزين، وقيل: رزين بن سليمان، كنيته أبو جعفر. انظر نزهة الألباب في الألقاب (2/ 265).

(4)

في (ق): "كان أستاذ الشعراء، وإنشاء الشعر. . . "، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح).

(5)

لم أجد ترجمة لأبي الشيص في وفيات الأعيان، ولم أجد فيه هذا النص، وهذا القول منسوب لابن المعتز في الأغاني (16/ 432، 433).

(6)

الأبيات في ديوان أبي الشيص ص (101). والأبيات أيضًا في ديوان الحماسة (2/ 143، 144)، ولفظه:"ممن أكرمُ".

ص: 533

المصلحة، فعَلَ كلَّ هذا فِرارًا من الموت، ولتدومَ الخلافةُ له فلم تَدُمْ، وقُتل، وخُرِّبَتْ ديارُه كما سيأتي قريبًا، وفعَلَ طاهرٌ مثلَ ما فَعَلَ الأمين، حتى كادتْ بغدادُ تخربُ بكمالِها؛ فقال بعضُهم في ذلك:

منْ ذا أصابَكِ يا بغدادُ بالعَيْنِ

ألم تكوني زمانًا قُرَّةَ العَيْنِ

ألم يكنْ فيكِ قومٌ كان مسكنُهم

وكان قُرْبُهمُ زَيْنًا من الزَّيْنِ

صاحَ الغُرابُ بهم بالبَيْنِ فافترقوا

ماذا لَقيتُ بهم من لَوْعَةِ البَيْنِ

أستودِعُ اللَّه قومًا ما ذكرْتُهُمُ

إلَّا تحدَّرَ ماءُ العَيْنِ من عَيْني

كانوا ففَرَّقهم دَهْرٌ وصدَّعَهُمْ

والدَّهْرُ يَصْدَعُ ما بين الفَريقيْن

(1)

وقد أكثر الشعراءُ في ذلك، وقد أورد ابنُ جَرير من ذلك طَرَفًا صالحًا، وأورد في ذلك قصيدةً طويلةً جذًا، فيها بَسْطُ ما وَقَعَ، وهي هَوْلٌ من الأهوال، اختصرناها بالكلية

(2)

.

واستحوذ طاهرٌ على ما في الضياع من الغَلَّاتِ والحواصلِ للأمراءِ وغيرِهم، ودعاهم إلى الأمانِ والبيعةِ للمأمون، فاستجاب له جماعة؛ منهم عبدُ اللَّه بن حُميد بن قَحْطَبة ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطوسي، وكاتَبَهُ خلقٌ من الهاشميِّين والأمراء، وصارتْ قلوبُهم معَه، واتفق في بعضِ الأيامِ أنْ ظَفِرَ أصحابُ الأمينِ ببعضِ أصحابِ طاهِر، فقتلوا منهم طائفةً عند قَصْرِ صالح، فلما سمع الأمينُ بذلك بَطِرَ وأشِر، وأقبل على اللَّهْو والشُّرب واللَّعِب، ووكَّل الأمورَ وتدبيرَها إلى محمد بن عيسى بن نَهيك، ثم قَوِيتْ شوكةُ أصحابِ طاهر، وضَعُفَ جانبُ الأمين جدًّا، وانحاز الناسُ إلى جيشِ طاهر، وكان جانبُهُ آمِنًا جدًّا، لا يخافُ أحدٌ فيه من سَرِقةٍ ولا نَهْبٍ، ولا غيرَ ذلك، وقد أخذ طاهرٌ أكثرَ مَحالِّ بغدادَ وأرباضِها ومَنَع الملَّاحينَ أن يحملوا طعامًا إلى منْ خالَفَه لِيُضيِّقَ عليهم، فغلَتِ الأسعارُ جدًّا عند منْ خالفَه، ونَدِم منْ لم يكنْ خرج من بغدادَ قبل ذلك؛ ومُنعت التجارُ من القدومِ إلى بغدادَ بشيءٍ من البضائع أو الدقيق، وصُرفتِ السُّفُن إلى البصرةِ وغيرِها وجرَتْ بين الفريقَيْن حروبٌ كثيرة، فمن ذلك وقعةُ دَرْبِ الحجارة، كانتْ لأصحاب الأمين، قُتل فيها خلقٌ من أصحابِ طاهر، كان الرجلُ من العيَّارين والحَرَافشة من البغادِدة، يأتي عُرْيانا ومعه بارِيَّةٌ مُقَيَّرَةَ

(3)

، وتحت كَتِفه مِخلاةٌ فيه حجارة، فإذا ضربه الفارسُ من بعيدٍ بالسهم اتَّقاه بباريَّتِهِ فلا يؤذيه، وإذا اقترَبَ منه رماهُ بحجرٍ في المِقْلاع أصابه؛ فهزموهم بذلك. ووَقْعةُ الشَّمَّاسيَّة، أُسر فيها هَرْثَمة بن أعْيَن، فشَقَّ ذلك على طاهر، وأمر بعَقْدِ جسرٍ على دِجْلة فوق الشمَّاسيَّة، وعَبَر طاهرٌ بنفسه ومنْ معه إلى الجانبِ الآخر، فقاتلهم بنفسِه أشدَّ القتال،

(1)

الأبيات منسوبة في تاريخ الطبري (5/ 106) إلى عمرو بن عبد الملك الورَّاق، وفيه زيادة، وساق خمسة الأبيات أيضًا كما هنا في (5/ 75).

(2)

انظر تاريخ ابن جرير الطبري (5/ 76) وما بعدها.

(3)

"البارِيَّة": الحصير المنسوج. والمقيَّر: المطلي بالقار. لسان العرب (بور، قير).

ص: 534

حتى أزالَهم عن مواضعهم، واستردَّ منهم هرثمةَ وجماعةً ممن كانوا أسروهم من أصحابه؛ فشقَّ ذلك على محمدٍ الأمين وقال في ذلك:

مُنيتُ بأشجَعِ الثقلَيْنِ قلبًا

إذا ما طال ليس كما يطولُ

له معَ كُلِّ ذي بدَنٍ رقيبٌ

يُشاهدُهُ ويعلمُ ما يقولُ

فليس بمُغْفلٍ أمرًا عِنادًا

إذا ما الأمرُ ضَيَّعهُ الغفولُ

(1)

وضعف أمرُ الأمينِ جدًّا ولم يبقَ عنده مالٌ يُنفقهُ على جُنده، ولا على نفسِه، وتفرَّق أكثرُ أصحابِه عنه، وبقي مضطهَدًا ذليلًا.

ثم انقضَتْ هذه السنةُ بكمالِها والناسُ في بغدادَ في قلاقلَ وزلازل وأهوِيَةٍ مختلفة، وقتالٍ وحريق وسرقات. فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، وساءت بغدادُ فلم يبقَ فيها أحدٌ يردُّ عن أحد، كما هي عادةُ الفتنة.

وحجَّ بالناس فيها العباسُ بن موسى بن عيسى الهاشمي، ودعا للمأمون.

‌وفيها تُوفي من السادةِ الأعيان:

شُعيب بن حَرْب أحدُ الزّهَّاد،

وعبدُ اللَّه بن وَهْب إمامُ أهلِ الديارِ المصرية،

وعبدُ الرحمن بن مُسْهِر، أخو عليِّ بن مُسْهِر،

وعثمان بن سعيد الملقب بوَرْش أحدُ القرَّاء المشهورين الرواةِ عن نافع بن أبي نُعيم.

ووَكيع بن الجرَّاح الرُّؤَاسي أحدُ أعلامِ المحدِّثين. مات عن ستٍّ وستين سنة.

‌ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومئة

فيها خامَرَ خُزيمة بن خازم على محمدٍ الأمين، وأخذ الأمانَ من طاهر، ودخل هَرْثمةُ بن أعْيَن من الجانب الشرقي. وفي يوم الأربعاء لثمانٍ خلَوْنَ من المحرَّم وثَبَ خُزيمةُ بن خازم ومحمدُ بن علي بن عيسى على جسرِ بغداد فقطَعاه ونصَبَا رايتَهما عليه؛ ودعَوْا إلى بيعةِ عبدِ اللَّه المأمون، وخَلْعِ محمدٍ الأمين. ودخل طاهرٌ يومَ الخميس إلى الجانب الشَّرْقي، فباشر القتالَ بنفسِه، ونادَى بالأمانِ لمنْ لزم مَنْزَله. وجرَتْ عند دارِ الرقيقِ والكَرْخ وغيرِهما وقعات؛ وأحاطوا بمدينةِ أبي جعفر والخُلْد، وقصرِ زُبيدة، ونصَبَ المجانيق حولَ السُّور وحذاءَ قصرِ زُبيدة، ورماهُ بالمنجنيق، فخرج الأمينُ بأُمِّهِ وولَدِه إلى

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 87).

ص: 535

مدينةِ أبي جعفر، وتفرَّق عنه عامَّة الناس في الطريق، لا يَلْوي أحدٌ على أحد، حتى دخل قصرَ أبي جعفر، وانتقل من الخُلْد لكثرةِ ما يأتيه فيه من رَمْي المنجنيق، وأمَرَ بتحريقِ ما كان فيه من الأثاث، والبُسطِ والأمتعة، وغيرِ ذلك. ثم حُصر حَصْرًا شديدًا، ومع هذه الشَّدَّة والضِّيق، وإشرافِهِ على الهلاك خرج ذاتَ ليلةٍ في ضوءِ القمر إلى شاطئ دِجْلة، واستدعى بنبيذٍ وجارية، فغنَّتْه، فلم ينطلق لسانُها إلَّا بالفرَاقيَّاتِ وذكرِ الموت، وهو يقول: غيرَ هذا. وتذكر نظيرَه حتى غنَّته آخرَ ما غنَّتْه:

أما ورَبِّ السُّكونِ والحَرَكِ

إنَّ المنايا كثيرةُ الشَّرَكِ

ما اختلفَ الليلُ والنهارُ ولا

دارَتْ نجومُ السماءِ في الفَلَكِ

إلَّا لِنَقْلِ السلطانِ من مَلِكٍ

غاوٍ يُحبُّ الدُّنيا إلى مَلِكِ

(1)

ومُلكُ ذي العرشِ دائم أبدًا

ليس بفانٍ ولا بمُشْتَركِ

(2)

قال فسبَّها وأقامَها من عندِه، فعثَرَتْ في قَدحٍ كان له بِلَّوْر فكسرتْه فتطيَّرَ بذلك. ولما ذهبتِ الجاريةُ سمع صارخًا يقول:{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]. فقال لجليسِه: ويحك ألا تسمع؟ فتسمَّع، فلم يسمع شيئًا، ثم عادَ الصوتُ بذلك، فما كان إلَّا ليلةٌ أو ليلتان، حتى قُتل في رابعِ صفر، يوم الأحد، وقد حصل له من الجهد والضِّيق في حَصْرِه شيئًا كثيرًا، بحيثُ إنه لم يبقَ له طعامٌ يأكلُه، ولا شراب، فجاع ليلةً فما أُتي برغيفٍ ودجاجة إلَّا بعد شدَّة عظيمة، ثم طلب ماءً فلم يوجدْ له. فبات عطشانًا

(3)

، فلما أصبح قُتل قبلَ أن يشرَبَ الماء.

‌كيفيةُ مَقْتَلِه

لما اشتدَّ به الأمر اجتمع عندَهُ مَنْ بَقِيَ من الأمراء والخدَم والجُند، فشاورهم في أمرِه، فقالتْ طائفة: تذهَبُ بمنْ بَقِيَ معك إلى الجزيرةِ أو الشام، فتتقوَّى بالأموال، وتستخدمُ الرجال. وقال بعضُهم: تخرُح إلى طاهر، وتأخذُ منه أمانًا وتُبايعُ لأخيك، فإذا فعلتَ ذلك فإنَّ أخاكَ سيأمُرُ لك بما يكفيكَ ويكفي أهلَكَ من أمرِ الدنيا، وغايةُ مرادِك الدَّعَةُ والرَّاحة، وذلك يحصُل لك تامًّا. وقال بعضُهم: بل هَرْثمة أولى بأنْ يأخذَ لك منه الأمان، فإنَّه مولاكم، وهو أحْنَى عليك. فمالَ إلى ذلك؛ فلما كانتْ ليلةُ الأحد الرابع من صفر بعدَ عشاء الآخِرة واعَدَ هرثمةَ أنْ يخرجَ إليه، ثم لبس ثيابَ الخلافةِ

(1)

في (ق): "قد انقضى ملكه إلى ملك"، وفي تاريخ الطبري (5/ 93):"عان بحب الدنيا إلى ملك". والمثبت من (ب، ح).

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 93)، ورويت ضمن أبيات أخر فيه (4/ 543)، والكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 401)، وبغية الطلب (3/ 1492).

(3)

كذا في الأصول، ويصح صرفه، لأنه يقال في مؤنثه: عطشانة وعطثى. كما في لسان العرب (عطش).

ص: 536

وطَيْلسانًا، واستدعَى بولدَيْه فشمَّهما وضمَّهما إليه وقال: أستودِعُكما اللَّه. ومسح دموعَه بطرَفِ كُمِّه، ثم ركب على فرسٍ سوداء، وبين يديه شمعة، فلما انتهَى إلى هَرْثمة، أكرَمَهُ وعظَّمه، وركبا في حرَّاقةٍ في دِجلة. وبلغ ذلك طاهرًا، فغَضِبَ من ذلك وقال: أنا الذي فعلتُ هذا كلَّه ويذهبُ إلى غيرِي، ويُنسب هذا كلُّهُ إلى هرثمة؟ فلَحِقهما وهما في الحرَّاقة، فأمالهَا أصحابُهُ فغَرِقَ منْ فيها؛ غيرَ أنَّ محمدًا الأمين سبَحَ إلى الجانبِ الآخر، وأسرَهُ بعضُ الجُند، وجاء فأعلَمَ طاهرًا؛ فبعث إليه جُندًا من العجم، فجاؤوا إلى البيت الذي أوى إليه، وعندَهُ بعضُ أصحابِهِ وهو يقول له: ادْنُ منِّي، فإني أجدُ وحشةً شديدة. وجعل يلتفُّ في ثيابه شديدًا، وقلبُهُ يخفقُ خفقانًا عظيمًا كادَ يخرُجُ من صدرِه، فلما دخل عليه أولئك قال: إنَّا للَّه وإنا إليه راجعون. ثم دَنَا منه أحَدُهم فضرَبَهُ بالسيف على مَفْرِقِ رأسِه، فجعل يقول: وَيْحَكم أنا ابنُ عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنا ابنُ هارون، وأنا أخو المأمون، اللَّهَ اللَّهَ في دمي. فلم يلتفتُوا إلى شيءٍ من ذلك، بل تكاثروا عليه وذَبَحوهُ من قفاه، وهو مكبوبٌ على وجهِه، وذهبوا برأسِه إلى طاهر، وتركوا جُثَّتَه، ثم جاؤوا بُكْرَةً إليها، فلقوها في جُلِّ فَرَس، وذهبوا بها، وذلك ليلةَ الأحد، لأربعِ ليالٍ خلَتْ من صفر من هذهِ السنة.

‌شيءٌ من ترجمته

(1)

هو محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب، أبو عبد اللَّه، ويقال أبو موسى الهاشمي العباسي، وأمُّه أمُّ جعفر زُبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور. كان مولدُه بالرُّصافة سنةَ سبعين ومئة.

قال أبو بكر بنُ أبي الدنيا: حدّثنا عباس

(2)

بن هشام عن أبيه قال: ولد محمد الأمين بنُ هارون الرشيد في شوال سنة سبعين ومئة. وأتته الخلافةُ بمدينة السلام بغداد لثلاثَ عشرةَ ليلة بقيتْ من جُمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين، وقيل: ليلةَ الأحد لخمسٍ بَقِينَ من المحرَّم، وقُتل سنةَ ثمانٍ وتسعين ومئة، قتله قريش الدَّنْدَاني، وحمل رأسَهُ إلى طاهرِ بن الحسين، فنصبه على رمح، وتلا هذه الآية:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26]، وكانت ولايتُهُ أربعَ سنين وسبعةَ أشهر وثمانيةَ أيام. وكان طويلًا سمينًا أبيض، أقْنَى الأنف، صغيرَ العينَيْن، عظيمَ الكراديس، بعيدَ ما بينَ المَنْكِبَيْن، وقد رماه بعضُهم بكثرةِ

(1)

ترجمته في تاريخ بغداد (3/ 336)، المنتظم لابن الجوزي (9/ 218)، سير أعلام النبلاء (9/ 334)، تاريخ الخلفاء (297).

(2)

في (ق): عياش بن هشام، وهو تصحيف، وسقط الاسم من (ب) وليس الخبر في (ح)، والتصحيح من تاريخ بغداد (3/ 337). وترجمة أبيه في لسان الميزان (6/ 196)، وهو العباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو شيخ لابن أبي الدنيا.

ص: 537

اللعب والشُّرب، وقِلَّةِ الصلاة. وقد ذكر ابنُ جرير طرفًا من سيرته

(1)

في إكثاره من اقتناء السُّودان والخِصْيَان، وإعطائه الأموالَ والجواهر، وأمْرِهِ بإحضارِ الملاهي والمغنِّين من سائر البلاد، وأنه أمَرَ بعمَلِ خمسِ حرَّاقاتٍ على صورةِ الفيلِ والأسدِ والعُقاب، والحيَّةِ والفرس، وأنفق على ذلك أموالًا جزيلةً جدًّا، وقد امتدَحَهُ أبو نواس بشعرٍ أقبحَ في معناه من صنيعِ الأمين، فإنه قال في أوله:

سخَّرَ اللَّه للأمينِ مطايا

لم تُسَخَّرْ لصاحبِ المحرابِ

فإذا ما رِكابُهُ سِرْنَ بَرًّا

سار في الماء راكبًا ليثَ غابِ

(2)

ثم وصف كلًّا من تلك الحرَّاقات، واعتنى الأمين ببنايات هائلة، للنُّزْهَة وغيرِها، وأنفق في ذلك أموالًا كثيرةً جدًّا، فكثُرَ النَّكيرُ عليه بسببِ ذلك.

وذكر ابنُ جرير

(3)

أنَّه جلس يومًا في مجلس أنفق عليه مالًا جزيلًا في الخُلد، وقد فُرش له بأنواع الحرير، ونُضِّد بآنيةِ الذهبِ والفضة، وأحضر نُدَماءه، وأمر القَهْرَمانةَ أنْ تُهيِّئ له مئةَ جاريةٍ حسناء، وأمرها أن تبعثَهن إليه عشرًا بعد عشرٍ يُغَنِّينَه، فلما جاءتِ العشرُ الأُوَل اندفَعْنَ يُغَنينَ بصوتٍ واحد:

همو قتلوهُ كي يكونوا مكانَهُ

كما غدرَتْ يومًا بكِسْرى مَرَازِبُهْ

فغضب من ذلكَ وتبَرَّم، وضرب رأسَها بالكأس، وأمر بالقَهْرمانة أنْ تُلقَى إلى الأسد فأكلها. ثم استدعى بعشرةٍ فاندفَعْنَ يُغَنِّين:

منْ كان مسرورًا بمقتلِ مالكٍ

فليأتِ نسوتَنا بوَجْهِ نَهارِ

يجدِ النساء حواسرًا يَنْدُبْنَهُ

يَلْطِمْنَ قبلَ تَبَلُّجِ الأسحارِ

فطردَهُنَّ واستدعى بعشرٍ غيرِهنّ، فلما حضَرْنَ اندفَعْنَ يُغَنينَ بصوتٍ واحد:

كُليبٌ لعَمْرِي كان أكثرَ ناصرًا

وأيسَرَ ذنبًا منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ

فطرَدَهنَّ وقام من فورِه، وأمر بتخريبِ ذلك المجلس، وتحريقِ ما فيه.

وذكر

(4)

أنه كان كثيرَ الأدب، فصيحًا يقولُ الشعر، ويُعطي عليه الجوائزَ الكثيرة، وكان شاعرُه أبا نواس، وقد قال فيه أبو نُوَاس مدائحَ حسانًا، وقد وجدَهُ مسجونًا في حبسِ الرشيدِ مع الزنادقة، فأحضرَهُ وأطلقه، وأطلق له مالًا وجعلَهُ من ندمائه. ثم حبسه مرَّةً أخرى في شُرب الخمر، وأطال

(1)

انظر تاريخ الطبري (5/ 110) وما بعدها.

(2)

البيتان في ديوان أبي نواس ص (83).

(3)

في تاريخه تاريخ الطبري (5/ 113، 114).

(4)

يعني الطبري في تاريخه (5/ 114) وما بعدها.

ص: 538

حبسَه، ثم أطلقَهُ وأخذ عليه العهدَ أن لا يشربَ الخمر، ولا يأتي الذُّكور من المُرْدان، فامتثل ذلك، وكان لا يفعلُ شيئًا من ذلك بعدَ ما استتابه الأمين. وقد تأدَّب على الكِسَائي، وقرأ عليه القرآن. وروى الخطيبُ من طريقِه

(1)

حديثًا أورده عنه لَمَّا عُزِّي في غلامٍ له تُوفي بمكة فقال: حدثني أبي عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبدِ اللَّه، عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ ماتَ مُحْرِمًا حُشِرَ مُلَبِّيًا"

(2)

.

وقد قدَّمنا ما وقع بينه وبين أخيه من الاختلاف والفُرقة حتى أفضى ذلك إلى خَلْعِه وعَزْله، ثم إلى التضييق عليه، ثم إلى قتله، وأنه حُصر في آخر أمرِه حتى احتاج إلى مُصانعةِ هَرْثَمة، وأنه أُلقي في حرَّاقة ثم أُلقي منها فسبَح إلى الشطِّ الآخر، فدخل دارَ بعضِ العامَّة، وهو في غايةِ الخوف والدَّهَشِ والجوعِ والعُرْي، فجعل الرجلُ يُلقِّنه الصبرَ والاستغفار، فاشتغل بذلك ساعةً من الليل، ثم جاء الطلَبُ وراءه من جهةِ طاهرِ بن الحسين بن مُصْعب، فدخلوا عليه وكان البابُ ضيقًا، فتدافعوا عليه، وقام إليهم فجعَلَ يُدافعُهم عن نفسِه بِمخدَّةٍ في يدِه، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، وضربوا رأسَه أو خاصرتَهُ بالسيوف، ثم ذبحوه وأخذوا رأسَه وجُثَّته، فأتَوْا بهما طاهرًا، ففَرِح بذلك فرحًا شديدًا، وأمر بنَصْبِ الرأسِ فوقَ رُمْحٍ هناك، حتى أصبح الناسُ فنظروا إليه فوق الرمح عند بابِ الأنبار. وكثر عددُ الناس ينظرون إليه، ثم بعث طاهرٌ برأسِ الأمينِ مع ابنِ عمِّه محمد بن مصعب، وبعث معه بالبُرْدَةِ والقضيبِ والنَّعْل، وكان من خُوصٍ مُبَطَّن، فسلَّمَهُ إلى ذي الرِّيَاستَيْن، فدخل به على المأمون على تُرْس، فلما رآه سجد، وأمر لمن جاء به بألفِ ألفِ درهم. وقد قال ذو الرياستَيْن حين قدم الرأس يُؤلِّب على طاهر: أمرناه بأن يأتيَ به أسيرًا، فأرسل به إلينا عَقِيرًا! فقال المأمون: مضى ما مضى، وكتب طاهرٌ إلى المأمون كتابًا ذكرَ فيه صورةَ ما وقع حتى آلَ الحالُ إلى ما آلَ إليه. ولما قُتل الأمين هدَأتِ الفِتَن، وخمدتِ الشرور، وأمن الناس، وطابتِ النفس، ودخل طاهر بغدادَ يومَ الجمعة، وخطبهم خُطبةً بليغة، ذكر فيها آيات كثيرةً من القرآن، وأنَّ اللَّه يفعَلُ ما يشاء، ويحكُمُ ما يُريد، وأمرهم فيها بالجماعةِ والسمعِ والطاعة، ثم خرج إلى معسكرهِ فأقام به، وأمر بتحويلِ زُبيدةَ من قصرِ أبي جعفر إلى قصر الخُلد، فخرجتْ يومَ الجمعةِ الثاني عشر من ربيعِ الأول من هذه السنة، وبعث بموسى وعبدِ اللَّه ابنَي الأمين إلى عمّهما المأمون بخراسان، وكان ذلك رأيًا سديدًا. وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بعدَ خمسةِ أيام من مقتلِ الأمين، وطلبوا منه أرزاقَهم، فلم يكنْ عندَهُ إذْ ذاك مال، فتحزَّبوا واجتمعوا، ونَهبوا بعضَ متاعِه، ونادَوا: يا موسى، يا منصور، واعتقدوا أنَّ موسى بن الأمين الملقَّب بالناطق هناك، وإذا هو قد سيَّرَهُ إلى عمِّه. وانحاز طاهرٌ بِمَنْ معه من القوَّاد ناحيةً، وعزَمَ على قتالِهم بِمَنْ معه. ثم رجعوا إليه واعتذروا ونَدِموا. فأمر لهم برِزْقِ أربعة

(1)

في تاريخ بغداد (3/ 338).

(2)

وذكره المناوي في فيض القدير (6/ 225)، وعزاه إلى الخطيب، وهو حديث ضعيف.

ص: 539

أشهر بعشرينَ ألفَ دينار، اقترَضَها من بعضِ الناس، فطابتِ الخواطر. ثم إنَّ إبراهيم بن المهدي قد أسِفَ على قَتْل محمدٍ الأمينِ بن زُبيدة، ورثاهُ بأبيات، فبلغ ذلك المأمون، فبعث إليه يُعنِّفُه ويَلُومُه على ذلك. وقد ذكر ابنُ جرير مراثِيَ كثيرةً للناس في الأمين

(1)

، وذكر من أشعارِ الذين هجَوْه طرَفًا، وذكر من شعر طاهر بن الحسين حين قتله قوله:

ملكتَ النَّاسَ قَسْرًا واقتِدارا

وقَتَّلْتَ الجبابرةَ الكِبَارا

ووجَّهْتَ الخلافةَ نحوَ مَرْوٍ

إلى المأمونِ تبتدرُ ابتِدَارا

‌خلافة عبد اللَّه المأمون بن الرشيد هارون

لما قُتل أخوه محمد في رابعِ صفر من سنةِ ثمان وتسعين ومئة، وقيل في المحرم استَوْسَقَتِ البيعةُ شرقًا وغربًا للمأمون عبد اللَّه بن الرشيد، فولَّى الحسنَ بن سهل نيابةَ العِراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وبعثَ نُوَّابَهُ إلى هذه الأقاليم، وكتب إلى طاهرِ بن الحسين وهو ببغداد أنْ ينصرفَ إلى الرَّقَّة لِحَرْب نَصْر بن شَبَث، وولَّاه نيابةَ الجزيرةِ والشام والموصل والمغرب، وكتب إلى هَرْثَمة بنِ أعْيَن بِنيَابِة خُراسان.

وفيها حَجَّ بالناس العباسُ بن موسى بن عيسى الهاشمي.

‌وفيها تُوفي:

سفيان بن عُيينة.

وعبدُ الرحمن بن مهدي.

ويحيى بن سعيد القطَّان.

فهؤلاء الثلاثة سادةُ العلماءِ في الحديثِ والفِقْه وأسماءِ الرجال.

‌ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومئة

فيها قَدِم الحسنُ بن سهل بغدادَ نائبًا عليها من جهةِ المأمون، ووجَّه نُوَّابَهُ إلى بقيةِ أعمالِه. وتوجَّه طاهرٌ إلى نيابَةِ الجزيرةِ والشام وبلاد المغرب. وسار هَرْثَمةُ إلى خراسانَ نائبًا عليها. كان قد خرج في أواخرِ السنة الماضية في ذي الحِجَّة منها الحسن بن الهرش

(2)

يدعو إلى الرِّضَا من آلِ محمد، فجَبَى

(1)

انظر تاريخ الطبري (5/ 105) وما بعدها.

(2)

كذا في (ب، ح)، وفي (ق) وتاريخ الطبري (5/ 121):"الحسن الهرش".

ص: 540

الأموال، وانتهَبَ الأنعام، وعاث في البلادِ فسادًا، فبعث إليه المأمونُ جيشًا فقتلوهُ في المحرَّم من هذهِ السنة.

وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يومَ الخميس لعشرٍ خلَوْنَ من جُمادَى الآخرة، يدعو إلى الرِّضا من آلِ محمد، والعمل بالكتابِ والسُّنَّة، وهو الذي يُقال له ابن طَبَاطَبَا، وكان القائمَ بأمرِه، وتدبيرِ الحرب بين يدَيه أبو السرايا السَّرِيُ بن منصور الشيباني، وقد اتفق أهلُ الكوفة على موافقتِه، واجتمعوا عليه من كلِّ فَجٍّ عميق، ووَفَدَتْ إليه الأعرابُ من نواحي الكوفة، وكان النائبَ عليها من جهةِ الحسن بن سهل سليمانُ بنُ أبي جعفر المنصور، فبعث الحسنُ بن سهل يلومه ويؤنِّبُه على ذلك، وأرسل إليه بعشرةِ آلافِ فارس صُحْبةَ زاهرِ بن زُهير بن المُسَيَّب، فتقاتلوا خارجَ الكوفة، فهزموا زاهرًا واستباحوا جيشَه، ونَهبوا ما كان عليه، وذلك يوم الأربعاء سَلْخَ جُمادَى الآخرة، فلما كان الغَدُ من الوَقْعة تُوفي ابنُ طَبَاطَبَا أميرُ الشيعةِ فجأة، يُقال: إنَّ أبا السرايا سَمَّه وأقامَ مكانَهُ غُلامًا أمْرَد، يُقال له محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وانعزل زاهرٌ بِمَنْ بقي معه من أصحابِه إلى قصرِ ابنِ هُبيرة، وأرسل الحسنُ بن سهل مع عَبْدوس بن محمد أربعةَ آلاف فارس، صورةَ مدَدٍ لِزاهر، فالتقَوْا هُمْ وأبو السرايا فهزَمَهم أبو السرايا، ولم يُفلتْ من أصحابِ عَبدوس أحد. وانتشر الطالبيُّون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهمَ والدنانيرَ في الكوفةِ، ونقَشَ عليه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] الآية، ثم بعث أبو السرايا جيوشَهُ إلى البصرةِ وواسِط والمدائن، فهزموا مَنْ فيها من النُّوَّاب، ودخلوها قَهْرًا، وقَويَتْ شوكتُهم، فأهمَّ ذلك الحسنَ بنَ سهل، وكتب إلى هرثمة يستدعيه لِحَرْبِ أبي السرايا فتمَنَّع، ثم قدم عليه، فخرح إلى أبي السرايا، فهزم أبا السرايا غَيرَ مرَّة، وطرَدَه حتى ردَّهُ إلى الكوفة. ووثب الطالبيُّون على دُور بني العباس بالكوفة فنهبوها، وخربوا ضياعَهم، وفعلوا أفعالًا قبيحة، وبعث أبو السرايا إلى المدائن، فاستجابوا وبعث إلى أهل مكة حُسين بن حسن الأفطس لِيُقيم لهم الموسم، فخافَ أن يدخلَها جَهْرةً، ولما سمع نائبُ مكة وهو داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد اللَّه بن عباس هرب من مكة طالبًا أرضَ العراق. وبقي الناسُ بلا إمام، فسئل مؤذِّنُها أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي أنْ يُصلِّيَ بِهم فأبى، فقيل لقاضيها محمد بن عبد الرحمن المخزومي فامتنعَ وقال: لِمَنْ أدعو وقد هرَبَ نُوَّابُ البلاد؟ فقدَّم الناسُ رجلًا منهم فصلَّى بِهمُ الظهرَ والعصر، وبلغ الخبرُ إلى حسين الأفطس، فدخل مكةَ في عشرةِ أنفُسٍ قبلَ الغروب، فطافَ بالبيت ثم وقف بعرَفَةَ ليلًا، وصلى بالناس الفجرَ بِمُزْدَلِفَة، وأقام بقيَّةَ المناسِك في أيامِ منَى، فدَفَع الناسُ من عرَفَةَ بغيرِ إمام.

‌فيها تُوفي:

إسحاق بن سليمان.

ص: 541

وابنُ نُمر.

وابنُ سابور.

وعمرو العَنْبري.

وأبو مُطيع البَلْخى

(1)

ويونس بن بُكير.

‌ثم دخلت سنة مئتين من الهجرة

في أول يومٍ منها جلس حُسين بن حسن الأفطس على طِنْفِسَةٍ مثلَّثةٍ خلفَ المقام، وأمرَ بتجريدِ الكعبة مِمَّا عليها من كساوَى بني العباس وقال: نُطَهِّرُها من كساويهم. وكساها مُلاءتَيْن صفراوَيْن، عليهما اسمُ أبي السرايا، ثم أخذ ما في كَنْز الكعبةِ من الأموال، وتتبَّع ودائعَ بني العباس فأخذها، حتى إنه أخذَ مالَ ذوي المال، ويزعُم أنه للمسوِّدة، وهرب منه الناسُ إلى الجبالِ وسبَكَ ما على رؤوس الأساطينِ من الذهب، وكان يَنْزِلُ مِقدارٌ يسيرٌ بعد جهد، وقلعوا ما في المسجِد الحرام من الشبابيك وباعوها بالبَخْس، وأساؤوا السِّيرة جدًّا، فلما بلغَهُ مقتل أبي السرايا كتَمَ ذلك، وأمَّرَ رجلًا من الطالبيِّين شيخًا كبيرًا، واستمرَّ على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرَّم منها وذلك لما قهر هرثمةُ أبا السرايا، وهزم جيشَه وأخرجه ومَنْ معَهُ من الطالبيِّين من الكوفة، ودخلها هرثمةُ ومنصور بن المهدي، فأمَّنوا أهلَها ولم يتعرَّضوا لأحد.

وسار أبو السرايا بِمَنْ معه إلى القادسيَّة، ثم سار منها فاعترضهم بعضُ جيوشِ المأمون فهزمهم أيضًا وجُرح أبو السرايا جِراحةً مُنكرة جدًّا، وهربوا يريدون الجزيرة إلى مَنْزل أبي السرايا برأس العَين، فاعترضهم بعضُ الجيوش أيضًا، فأسروهم وأتَوْا بهم الحسَن بن سهل وهو بالنَّهْرَوَان، حين طردَتْهُ الحربيَّة، فأمر بضرْبِ عُنق أبي السرايا، فجَزِع من ذلك جزَعًا شديدًا جدًّا، وطِيف برأسه، وأمر بجسده أن يقطَّع اثنتين، وينصب على جسري بغداد. فكان بين خروجه وقتلِه عشرةُ أشهر. فبعث الحسنُ بن سهل محمدَ بن محمد إلى المأمون مع رأسِ أبي السرايا، وقال بعض الشعراء:

ألم تَرَ ضَرْبَةَ الحسنِ بن سَهْلٍ

بسيفِكَ يا أميرَ المؤمنينا

(1)

في (ح، ق): والد مطيع البلخي، وهو تصحيف، والمثبت من (ب)، وهو الحكم بن عبد اللَّه أبو مطيع البلخي، ترجمته في الجرح والتعديل (3/ 121)، وميزان الاعتدال (2/ 339).

ص: 542

أدارَتْ مَرْو رأسَ أبي السَّرَايا

وأثبتَ عِبْرَةً للعالمينا

(1)

وكان الذي في يدِه البصرةُ من الطالبيّين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له زيد النار لكثرِة ما حرَّق من البيوت التي للمسوِّدة، فأسرَهُ عليُّ بن سعيد، وأمَّنه وبعث به وبِمَنْ معه من القوَّاد إلى اليمن لِقتالِ مَنْ هناك من الطالبيِّين.

وفيها خرج باليمن إبراهيمُ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له الجزار لكثرةِ مَنْ قتَلَ من أهلِ اليمن، وأخذ من أموالِهم، وهو الذي كان بمكةَ وفعَلَ فيها ما فعَلَ كما تقدَّم. فلمَّا بلغَهُ قتلُ أبي السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائبَ اليمنِ خبَرهُ ترك اليمنَ وسار إلى خُراسان. واجتاز بمكة، وأخذ أُمَّه منها، واستحوذ إبراهيمُ هذا على بلادِ اليمن، وجرَتْ حروبٌ كثيرةٌ يطولُ ذكرُها. ورجع محمد بن جعفر العلوي عمَّا كان يزعُمه، وكان قد ادَّعى الخلافةَ بمكة، وقال: كنتُ أظنُّ أن المأمونَ قد مات، وقد تحقَّقتْ حياتُه وأنا أستغفرُ اللَّه وأتوبُ إليه مِمَّا كنتُ ادَّعَيتُ من ذلك، وقد رجعتُ إلى الطاعة، وأنا رجلٌ من المسلمين.

ولما هُزم هرثمةُ راسلَ ابا السرايا، وهو الذي أمرَهُ بالظهور، فاستدعاه المأمونُ إلى مَرْو، فأمر به فضُرب بين يديه، ووُطِئ بطنُه، ثم رُفع إلى الحبس، ثم قُتل بعدَ ذلك بأيام. وانطوَى خبَرُه بالكليَّة. ولما وصل خبَرُ قتلِهِ إلى بغداد عبثَتِ العامَّةُ والحربيَّةُ بالحسن بن سهل نائبِ العراق وقالوا: لا نَرْضَى به ولا بعُمَّالِه ببلادِنا. وأقاموا إسحاقَ بن موسى المهدي نائبًا. واجتمع أهلُ الجانبَيْنِ على ذلك، والتفَّتْ على الحسنِ بن سهل جماعةٌ من الأمراءِ والأجناد، وأرسل مَنْ وافق العامَّةَ على ذلك من الأمراء يحرِّضُهم على القتال، وجرت الحروبُ بينهم ثلاثةَ أيام في شعبانَ من هذهِ السنة، ثم اتفق الحالُ على أن يُعطيَهم شيئًا من أرزاقهم يُنفقونَها في شهرِ رمضان، فما زال يَمطُلُهم إلى ذي القعدة حتى يدرِكَ الزرع، فخرج في ذي القَعْدة زيدُ بن موسى الذي يُقال له زيد النار، وهو أخو أبي السرايا، وقد كان خروجُه هذه المرة بناحيةِ الأنْبَار، فبعث إليه عليُّ بن هشام نائبُ بغداد عن الحسنِ بن سهل، والحسن بالمدائن إذْ ذاك، فأُخِذ وأُتِيَ به إلى عليِّ بن هشام، وأطفأ اللَّه نائِرَتَه

(2)

.

وبعث المأمونُ في هذه السنةِ يطلبُ مَنْ بَقِيَ من العباسيين، وأحصى كم العباسيُّون؟ فبلغوا ثلاثةً وثلاثين ألفًا ما بين ذكورٍ وإناث.

وفيها قتَلَتِ الرومُ مَلِكَهم أليون، وقد ملَكَهم سبعَ سنين، وملَّكوا عليهم ميخائيل نائبَه.

(1)

الخبر والبيتان في تاريخ الطبري (5/ 127)، بألفاظ مقاربة.

(2)

"إطفاء النائرة": القضاء على الحقد والعداوة. لسان العرب (نير).

ص: 543

وفيها قتل المأمونُ يحيى بن عامر بن إسماعِل لأنه قال للمأمون: يا أميرَ الكافرين. فقُتل صبرًا بين يديه.

وفيها حجَّ بالناسِ محمدُ بن المعتصِم بن هارون الرشيد.

‌وفيها تُوفي من الأعيان:

أسباطُ بن محمد.

وأبو ضَمْرَة أنس بن عياض.

وسَلْم

(1)

بن قتيبة.

وعمر بن عبد الواحد.

وابن أبي فديك.

ومُبشِّر بن إسماعيل.

ومحمد بن حمير

(2)

.

ومعاذ بن هشام.

* * *

(1)

في الأصل: مسلمة، والصواب ما أثبتنا.

(2)

فى الأصل: محمد بن جبير، وهو خطأ.

ص: 544