الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البداية والنهاية
تأليف
الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير
[701 هـ - 774 هـ]
حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه
صلاح محمد الخيمي
راجعه
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف
الجزء الثالث عشر
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمئة
(1)
في يوم الجمعة الرابع من محرَّم فيها خُطِبَ بالمَوصل للحاكم العُبيدي عن أمر صاحبها قِرواش بن مُفقَد، أبي مَنيع
(2)
، وقهر رعيته على ذلك. وقد سرد ابن الجَوْزِي
(3)
صيغة الخطبة يومئذ بحروفها، وفي آخرها: صلُّوا على آبائه من الخلفاء، المهديّ، ثمّ ابنه القائم، ثمّ ابنه المنصور، ثُمَّ ابنه المعزّ، ثُمَّ ابنه العزيز، ثُمَّ على ابنه الحاكم صاحب الوقت، وبالغوا في الدّعاء لهم، ولاسيّما للحاكم المذكور. وكذلك ببقيّة أعماله
(4)
من الأنبار والمدائن وغيرهما.
وكان سبب ذلك أنّ الحاكم تردَّدت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قِرواش، يستميله إليه ليُقبل بوجههِ إليه، حتى فعل ما فعل مما ذكرنا [من الخطبة وغيرها] فلمَّا بلغَ الخبر إلى القادر [باللَّه]
(5)
العبَّاسي، كتب يعاتب قِرواش بن مُقلَّد على ما صغ، ونفَّذ بَهاء الدَّولة إلى عميد الجيوش بمئة ألف دينار لمحاربة قِرواش. فلمّا بلغ ذلك قرواشًا رجع عن رأيه وندم على ما كان منه، وأمر بقطع الخطبة للحاكم من بلاده، وأعادها إلى القادر العباسي على عادته.
قال ابن الجوزي
(6)
: ولخمس بقين من رجب، زادت دِجْلة زيادةً كثيرةً، واستمرت الزِّيادة إلى رمضان، وبلغت أحدًا وعشرين ذراعًا وثلثًا. ودخل الماء إلى أكثر دور بغداد.
وفيها: رجع الوزير أبو غالب بن خَلَف إلى بغداد، ولُقِّبَ فَخْر المُلْكِ بِعَميد الجيوش.
(1)
في نسخة برلين (ب): ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمئة، وهذا خطأ واضح في هذه النسخة مستمر حتى سنة تسع وسبعين وأربعمئة حيث يتم التصحيح على أصل النسخة بعد شطب العنوان الخاطئ، أما ما في كل سنة من الأحداث والوفيات؛ فإنه موافق تمامًا لنسخة الأحمدية والمطبوع سوى بعض الفروق التي أشرنا إليها في مواضعها.
(2)
قرواش بن مقلّد بن المسيَّب العقيلي، صاحب الكوفة والموصل والمدائن توفي سنة 442 هـ، ترجمته في وفيات هذه السنة من هذا الجزء.
(3)
المنتظم (7/ 248)، وأكثر اعتماد المصنف رحمه الله في هذا الجزء في الحوادث على المنتظم.
(4)
في ط: تبعته أعمالها.
(5)
ما بين معقوفتين زيادة من ط لإفادة المعنى، وكذلك وضعنا كل زيادة مفيدة في هذا الجزء إِلَّا ما أشرنا إليه في موضعه.
(6)
المنتظم (7/ 250).
وفيها: عصا أبو الفتح، الحسنُ بن جعفر العلويّ، ودعا إلى نفسه، وتلقَّب بالراشد باللَّه
(1)
.
ولم يحجّ في هذه السنة أحد من أهل ركب العراق أيضًا [والخطبة للحاكم]، فإنَّا للَّه وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو مسعود الدمشقيّ
(2)
إبراهيمُ بن محمّد بن عُبَيْد، الحافظ الكبير، مُصنّف كتاب "الأطراف على الصحيحين"
(3)
رحل إلى بلاد شتّى، كبغداد، والبصرة، والكوفة، وواسط، والأهواز، وأصْفهان، وخُراسان، وكان من الحفّاظ الصادقين الأمناء [الضابطين] الفاهمين، ولم يروِ إِلَّا اليسير. روى عنه أبو القَاسم الطَبَرِيّ، وأبو ذَرٍّ الهَرَوِيّ، وحمزة السَّهْميّ وغيرهم.
وكانت وفاته ببَغدادَ في رجب
(4)
. وأوصى إلى الشيخ أبي حَامِدٍ الإسْفَرايينيّ، فصلَّى عليه، ودفن في مقبرة جامع المنصور، قريبًا من السكك، رحمه الله، وقد ترجمه ابنُ عساكر وأثنى عليه
(5)
.
خَلَفُ بن محمّد بن عَلي بن حَمْدُون
(6)
أبو مُحمد
(7)
الوَاسِطيّ، رحل إلى البلاد وسمع الكثير، ثمَّ عاد إلى بغداد، ثمّ رحل إلى الشام ومصر، وكتب الناس بانتخابه فصنّف "أطرافًا على الصحيحين". وكانت له معرفةٌ تامّة، وحِفْظ جيّد، ثُمَّ عاد إلى بغداد، واشتغل بالتجارة، وترك النظر في العلم، حتى توفي في هذه السَّنة
(8)
. وممن روى عنه الأَزْهَرِيّ
(9)
.
(1)
وذلك في مكة إذ كان واليها للحاكم العبيدي.
(2)
تاريخ بغداد (6/ 172)، المنتظم (7/ 252)، الكامل في التاريخ (9/ 226)، سير أعلام النبلاء (17/ 227)، شذرات الذهب (3/ 158).
(3)
كتاب الأطراف هذا: يذكر أحاديث كلِّ صحابي على حدة، كما هو عند أصحاب المسانيد، ولكنه يقتصر على ذكر طرف منه، وهو بمثابة فهرس للأحاديث، تسهِّل على الباحث معرفة مكان وجود الحديث الذي يبحث عنه في الكتب والدواوين.
(4)
ورجح الذهبي وفاته في سنة (400 هـ) المتقدمة (تاريخ الإسلام 8/ 812 - 813)(بشار).
(5)
تهذيب تاريخ دمشق لابن منظور (2/ 290).
(6)
تاريخ بغداد (8/ 334)، المنتظم (7/ 252)، الكامل في التاريخ (9/ 226)، سير أعلام النبلاء (17/ 260).
(7)
في السير: أبو علي.
(8)
هذا صنيع ابن الجوزي في المنتظم، أما الذهبي فلم يظفر له بتاريخ وفاة لذلك ترجمه فيمن توفي بعد الأربعمئة من تاريخ الإسلام (9/ 165)، وصرح في السير بأنه لم يظفر له بتاريخ وفاة (بشار).
(9)
هو أبو القاسم، عبيد اللَّه بن أحمد بن عثمان الأزهري البغدادي، سترد ترجمته مع وفيات سنة 435 هـ من هذا الجزء.
عَمِيْدُ الجيوشِ [الوزير]
(1)
الحُسين
(2)
بنُ أبي جعفر أستاذ هُرْمُز، أبو علي، وزير بَهَاء الدَّوْلةِ. ولد سنة خمسين وثلاثمئة، وكان أبوه من حُجَّاب عَضُدِ الدَّوْلةِ، وولاه بهاءُ الدّولة النظر في وزارته سنة ثنتين وتسعين. والشُّرورُ عامّة كثيرة [منتشرة]، فمهّد البلاد، وأخاف العيّارين، واستقامت على يديه الأمور، وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينيّة فيها فضّة
(3)
مكشوفةٌ من أول بغداد إلى آخرها، [وأن يدخل] في [جميع] أزقَّتها. فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه، وليعرف ذلك المكان، فذهب الغلام فلم يعترضه أحدٌ [فحمد اللَّه وأثنى عليه]. ومنع الروافض مما كانوا يتعاطونه من النياحة في [يوم] عاشوراء، وإقامة العِيد المبتدع [وما يتعاطونه من الفرح] في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، الذي يقال له: عيد غَدِيْرِ خُم
(4)
، وكان عادلًا منصفًا.
أبُو عُبَيْدٍ الهَرَويّ
(5)
، "صاحب الغريبين"
(6)
أحْمَد بنُ مُحمَّد بن محمد بن أبي عبيد العَبْدي اللَّغويّ البارع، كان من علماء النّاس في الأدب واللغة. وكتابه "الغريبين" في معرفة غريب القرآن والحديث، يدلّ على اطّلاعه وتبحّره في هذا الشان، وكان من تلامذة أبي منصور الأزْهَرِيّ
(7)
.
قال ابن خلِّكان
(8)
: وقيل: إنَّه كان يحب البِذْلَة
(9)
: ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب
(1)
المنتظم (7/ 252)، الكامل في التاريخ (9/ 174 - 225)، سير أعلام النبلاء (17/ 230)، النجوم الزاهرة (4/ 228)، شذرات الذهب (3/ 160). وفي ط: وردت هذه الترجمة قبل سابقتها دون زيادة أو نقص يذكر.
(2)
في ط: "الحسن" محرف، وما أثبتناه من مصادر ترجمته (بشار).
(3)
في ط والسير: دراهم.
(4)
غدير خم: واد بين مكة والمدينة، وفيه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جمع من الصحابة:"ألستم تعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ أ. قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: "من كنت مولاه فإن هذا مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه". هذا الحديث رواه أحمد في مسنده (4/ 370) رقم (19302) بسنده إلى فطر عن أبي الطفيل، قال: جمع علي رضي الله عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد اللَّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم. . وذكر الحديث وابن حبان رقم (6931) من حديث علي، وهو حديث صحيح. ورواه أحمد رقم (19279) والترمذي رقم (3713) من حديث زيد بن أرقم وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده (ع).
(5)
وفيات الأعيان (1/ 90)، طبقات السبكي (4/ 84)، سير أعلام النبلاء (17/ 146)، النجوم الزاهرة (4/ 228)، الوافي بالوفيات (8/ 114) شذرات الذهب (3/ 161).
قال ابن خلّكان: والهروي، بفتح الهاء والراء، نسبة إلى هراة، وهي إحدى مدن خراسان الكبار، فتحها الأحنف بن قيس صلحًا من قِبل عبد اللَّه بن عامر.
(6)
كتاب الغريبين: جمع فيه مصنفه رحمه الله بين غريبي القرآن والحديث ورتبه على حروف المعجم، وجمع ما في كتب من تقدَّمه، فجاء جامعًا في الحسن. كشف الظنون (2/ 1206).
(7)
محمد بن أحمد بن الأزهر، عالم لغوي، توفي سنة 370 هـ. وفيات الأعيان (4/ 334).
(8)
وفيات الأعيان (1/ 95).
(9)
أي: ما يُمتهن من الثياب (ع).
في مجالس أهل اللذَّة والطَّرب، سامحه اللَّه تعالى. قال: وكانت وفاته في رجب.
وذكر ابن خلّكان في هذه السنة أو التي قبلها، وفاة أبي الفتح
(1)
البُسْتي الشاعر، وهو:
عليُّ بن محمد بن الحسين بن يوسف بن محمد بن عبد العزيز الكاتب صاحب [الطريقة الأنيقة] والتجنيس [الأنيس، البديع التأسيس، والحذاقة]، والنظم والنثر وقد أسلفنا ذكره
(2)
. ومما أورد له ابن خلِّكان قوله: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. ومن أطاع غضبه، أضاع أدبه. من سعادة جدِّك وقوفك عند حدِّك. المنيَّة تضحك من الأمنيَّة. الرِّشوة رشاء الحاجات. حدّ العفاف، الرضى بالكَفَاف. ومن شعره:
إنْ هَزَّ أقْلامَهُ يَوْمًا ليُعْمِلَهَا
…
أنْسَاكَ كُل كُمِيٍّ هَزَّ ذَابِلهُ
(3)
وإِنْ أمَرَّ على رِقٍّ أنامِلَهُ
(4)
…
أَقَرَّ بالسرِّقِّ كُتّابُ الأنَامِ لَهُ
وله أيضًا، سامحه اللَّه تعالى، وغفر له:
إذا تَحدَّثْتَ في قومٍ لِتُؤنِسَهُمْ
…
بما تُحدِّثُ مِن مَاضٍ ومِنْ آتِ
فَلا تعُد لحديْثٍ إنَّ طَبعَهُمُ
…
مُوَكل بِمُعادَاةِ المُعادَاتِ
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمئة
في المحرم [منها]: أذن فخرُ الملك الوزير للروافض في عمل البدعة الشنعاء، والفضيحة الصَّلعاء
(5)
من الانتحاب، والنَّوح والبكاء، وتعليق المسوح
(6)
، وتغليق الأسواق من الصَّباح إلى المساء، ودوران النساء حاسرات عن وجوهنَّ ورؤوسهنَّ، يلطمن خدودهن كفعل الجاهلية الجهلاء [على الحسين بن علي]. فلا جزاه اللَّه عن السنّة خيرًا، [وسوَّد اللَّه وجهه يوم الجزاء، إنه سميع الدعاء].
وفي ربيع الآخر: أمر القادر باللَّه بعمارة مسجد الكفّ بقطيعة الدّقيق، وأن يُعاد إلى أحسن مما كان، ففُعِل ذلك، وزُخْرِف زَخرفةً عظيمة جدًّا. [فإنا للَّه وإنا إليه راجعون].
(1)
وفيات الأعيان (3/ 376)، تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي (49)، سير أعلام النبلاء (17/ 147).
(2)
مع وفيات سنة 400 هـ.
(3)
في الوفيات: عامله.
(4)
في الوفيات: وإن أقرَّ على رقٍّ أنامله.
(5)
الصلعاء: الداهية الشديدة.
(6)
المسوح: جمع مسح، وهو الكساء من الشعر.
ذكر الطَّعن في نسب الفاطميين، من أئمة بغداد وغيرها من البلاد
وفي ربيع الآخر من هذه السنة، كُتبت ببغداد محاضر تتضمن الطَّعن والقدح في نسب الخلفاء
(1)
وهم ملوك مصر، يزعمون أنَّهم فاطميّون، وليسوا ذلك. ونسبُهم إلى ديصان بن سعيد الخُرَّميّ
(2)
. وكتب في ذلك جماعة من العلماء، والقضاة، والفقهاء، والأشراف والأماثل والمحدّثين والمعدَّلين والصالحين. شهدوا جميعًا أن الناجم بمصر، هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم -حكم اللَّه عليه بالبوار، والدَّمار، والخزي، والنَّكال، والاستئصال- ابن معدّ بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده اللَّه- فإنه لمَّا صار إلى بلاد المغرب تسمّى بعُبيد اللَّه، وتلقب بالمهدي، [وأنّ] من تقدَّم من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يتعلَّقون منه بسبب، وأنّه منزّه عن باطلهم، وأنّ الذي ادّعوه من الانتساب إليه باطل وزور، وأنّهم لا يعلمون أن أحدًا من أهل بيوتات الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج: إنهم أدعياء [كذبة].
وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعًا في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرًا انتشارًا يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهمٌ إلى تصديقهم [فيما ادعوه]. وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفّار، وفسّاق فجّار، ملحدون، زنادقة، معطِّلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنويّة
(3)
والمجوسيَّة
(4)
معتقدون، قد عطّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلُّوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السَّلف، وادَّعَوا الربوبية.
وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمئة، وقد كتب خطّه في المحضر خلق كثير. فمن العلويين: المرتضى
(5)
والرضيّ
(6)
، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيِّب، ومحمد بن محمد بن
(1)
في ط: الفاطميين.
(2)
في ط: عبيد بن سعد الجرمي. وما أثبت موافق لنص الوثيقة في المنتظم (7/ 255) ولم أقف على ترجمة لديصان هذا، إنما نسته إلى الخُرّمية، وهم أصحاب التناسخ والإباحة. توضيح المشتبه (2/ 336).
(3)
الثنوية: هم أصحاب الاثنين الأزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوسية؛ فإنهم قالوا بحدوث الظلام، وذكروا سبب حدوثه. وهؤلاء -أي الثنوية- قالوا بتساويهما في القِدم، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والخير والمكان والأجناس والأبدان والأرواح. الملل والنحل (1/ 244).
(4)
المجوسية: يقال لها: الدين الأكبر، والملة العظمى، وقد أثبتوا أصلين اثنين، مدبِّرين قديمين، يقتسمان الخير والشر، والنفع والضرر، والصلاح والفساد، يسمون أحدهما: النور والآخر الظلمة. الملل والنحل (1/ 230 - 233).
(5)
المرتضى، هو علي بن الحسين بن موسى، الشريف الموسوي، سترد ترجمته مع وفيات سنة 436.
(6)
الرضي، هو محمد: أخو الشريف المرتضى، سترد ترجمته مع وفيات سنة 406.
عمر
(1)
، وابن أبي يعلى.
ومن القضاة: أبو محمد بن الأكفاني
(2)
، وأبو القاسم الحريري
(3)
، وأبو العباس بن الأبيوردي
(4)
.
ومن الفقهاء: أبو حامد الإسفراييني
(5)
، وأبو محمد
(6)
بن الكَشْفَلي
(7)
، وأبو الحسين القدوري
(8)
، وأبو عبد اللَّه الصيري
(9)
، وأبو عبد اللَّه البيضاوي، وأبو عليّ بن حمكان
(10)
. ومن الشهود: أبو القاسم التنوخي
(11)
في خلق كثير، وقرئ بالبصرة، وكتب فيه خلق كثير
(12)
. هذه عبارة الشيخ أبي الفرج بن الجوزي
(13)
.
قلت: ومما يدلّ على أن هؤلاء أدعياء [كذبة]، كما ذكر هؤلاء السادة العلماء، والأئمة الفضلاء، وأنهم لا نسبة لهم إلى عليّ [بن أبي طالب] ولا إلى فاطمة، كما يزعمون. قول عبد اللَّه بن عمر للحسين بن علي حين أراد الدخول إلى العراق، عن كتب عوام أهل الكوفة إليه بالبيعة له، فقال له ابن عمر: لا تذهب إليهم، فإنِّي أخاف عليك أن تُقْتل، وإنَّ جدَّك قد خُيِّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا. وأنت بَضعة منه، وأنت -واللَّه- لا تنالها، ولا أحد من أهل بيتك.
فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجِّه المعقول، من هذا الصحابي الجليل، يقتضي أنَّه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إِلَّا محمَّد بن عبد اللَّه المهديّ، الذي يكون في آخر الزمان، في وقت نزول
(1)
محمد بن محمد بن عمر، أبو الحارث العلوي، توفي سنة 403، ترجمته في المنتظم (7/ 265).
(2)
ابن الأكفاني، عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه، أبو محمد الأسدي، سترد ترجمته مع وفيات سنة 405.
(3)
في المنتظم (7/ 256): أبو القاسم الخرزي.
(4)
تحرف في المنتظم إلى السوري، في الأصل إلى: السيوري. وأبو العباس الأبيوردي هو أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، سترد ترجمته مع وفيات سنة 425.
(5)
أحمد بن محمد بن أحمد، سترد ترجمته مع وفيات سنة 406.
(6)
هكذا كنّاه ابن الجوزي في هذا الموضع من المنتظم (7/ 256) ومنه نقل الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 11) وابن كثير هنا. وستأتي ترجمته في وفيات سنة (414) من هذا الكتاب وسيكنيه هناك "أبا عبد اللَّه" وهو الصواب الذي قاله الخطيب في تاريخه (8/ 678 بتحقيقنا)، وابن الجوزي نفسه في المنتظم (8/ 13)(بشار).
(7)
في ط: "الكسفلي" بالسين المهملة. وهو تصحيف صوابه بالمعجمة، وهو منسوب إلى "كشفل" من قرى آمل طبرستان على ما قرره أبو سعد السمعاني في "الأنساب" وتابعه ابن الأثير في "اللباب"(بشار).
(8)
أحمد بن محمد بن أحمد، سترد ترجمته مع وفيات سنة 428.
(9)
الحسين بن علي بن محمد، سترد ترجمته مع وفيات سنة 436.
(10)
الحسن بن الحسين بن حمكان، سترد ترجمته مع وفيات سنة 405.
(11)
علي بن المحسِّن بن علي، سترد ترجمته مع وفيات سنة 447.
(12)
وقد أعيدت كتابة هذه الوثيقة سنة 444 لتأكيد الطعن في نسب الفاطميين.
(13)
المنتظم (7/ 255).
عيسى ابن مريم من السماء إلى الأرض [رغبة بهم عن الدنيا وأن لا يدنَّسوا بها]- كما سيأتي بيان ذلك مفصّلًا في أحاديث الملاحم، ومعلوم أنّ هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدّة طويلة، فدل ذلك دلالة قوية ظاهرة أنّهم ليسوا من أهل بيت النبوة. كما نصّ عليه سادة القضاة والشهود والفقهاء والكبراء وقد صنّف القاضي الباقلاني كتابًا في الردّ على هؤلاء القوم المنتسبين إلى الفاطميين وسمّاه "كشف الأسرار، وهتك الأستار" نثر فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحدٍ يفهم شيئًا من مطاوي أفعالهم وأقوالهم. وقد كان يقول في عبارته: هؤلاء قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض.
وفي رجب، وشعبان، ورمضان أخرج الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمقابر [والمساجد]، وزار بنفسه المساجد والمشاهد، وغير ذلك، وأخرج خلقًا من المسجونين بالحبوس، وأظهر نسكًا كبيرًا، وعَمر دارًا عظيمة عند سوق الدقيق هائلة.
وفي شوال عصفت ريح شديدة سوداء فقَصفت شيئًا كثيرًا من النخيل، أكثر من عشرة آلاف [نخلة].
وورد كتاب من يمين الدولة أبي القاسم محمود بن سُبُكْتكين صاحب غزنة، أيّده اللَّه تعالى: بأنّه ركب بجيشه إلى دار العدوّ، فاجتاز بهم في مفازة، فأعوزهم فيها الماء، حتى كادوا أن يهلكوا [عن آخرهم] عطشًا، فبعث اللَّه لهم سحابةً، فامطرت عليهم حتى شربوا ورَووا، ثُمَّ توافقوا هم وعدوُّهم، ومع الأعداء نحو من ستمئة فيل، فهزموهم وغنموا منهم شيئًا كثيرًا من الأموال.
وفيها عملت الشيعة [بدعتهم التي كانوا يعملونها] يوم غدير خُمٍّ، وهو [اليوم] الثامن عشر من ذي الحجَّة، البدعة التي ابتدعوها، لا لابتغاء وجه اللَّه. وزيّنت الحوانيت، وتمكّنوا بسبب الوزير، وكثير من الأتراك تمكُّنًا كثيرًا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسن بن الحسين بن علي بن العبَّاس بن إسماعيل بن أبي سهل نُوْبَخْت
(1)
أبو محمد النُّوْبَخْتي، الكاتب. ولد سنة عشرين وثلاثمئة، وروى عن المحاملي وغيره. وعنه البرقاني. وقال: كان شيعيًا معتزليًا، إِلَّا أنه تبيَّن لي أنّه كان صدوقًا.
[ورَوَى عنه] الأزهري وقال: كان رافضيًا رديء المذهب.
وقال العتيقيّ: كان ثقة في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال.
عُثمان بن عيسى
(2)
أبو عمرو البَاقِلاني أحد الزُّهاد الكبار المشهورين، كانت له نخَلات يأكل منهن،
(1)
المنتظم (7/ 258) وتاريخ الإسلام (9/ 42).
(2)
تاريخ مدينة السلام 13/ 207 - 208، والمنتظم (7/ 258)، تاريخ الإسلام (9/ 45).
ويعمل بيده في البواري، ويأكل من ذلك، ووإن في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة، وكان لا يخرج من مسجده إِلَّا من الجمعة إلى الجمعة، يصلّي في الجامع ثُمَّ يعود إلى مسجده وكان مسجده لا يحصل له شيء يشعله فيه، فطلب منه بعض الأمراء أن يقبل منه شيئًا ولو زيتًا يشعله في قناديله، فأبى الشيخ ذلك، ولمّا مات رأى بعضهم بعض الأموات من جيران قبره، فسأله عن جواره، فقال: وأين هو، لما [مات و] وضع في قبره سمعنا قائلًا يقول: إلى الفردوس الأعلى، [إلى الفردوس الأعلى]، أو كما قال. وكانت وفاته في رجب من هذه السنة عن نيف
(1)
وثمانين سنة.
محمد بن جعفر بن محمد بن هارون بن فَروة بن ناجية
(2)
: أبو الحسن النَّحوي، المعروف بابن النَّجار، التميمي الكوفي، قدم بغداد، وروى عن ابن دريد والصولي ونِفْطَويه وغيرهم. وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة عن تسع وتسعين
(3)
سنة.
أبو الطيب
(4)
سهل بن محمد الصُّعْلوكي النَّيْسابوري، قال أبو يعلى الخليلي: توفي في هذه السنة، وقد قدَّمناه في سنة سبع وثمانين وثلاثمئة
(5)
.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمئة
في سادس عشر المحرم قُلِّدَ الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي، نقابة الطالبيين في سائر الممالك، وقُرئَ تقليده في دار الوزير فخر المُلْك بمحضر القضاة والأعيان، وخلع عليه السواد، وهو أول طالبيّ خُلِع عليه السواد.
وفيها: جيء بأمير بني خفاجة أبي فُليتة
(6)
، قبَّحه اللَّه، وجماعة من رؤوس قومه أسارى، وكانوا قد اعترضوا الحجيج في السنة الماضية، وهم راجعون، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج، ووضعوا
(1)
في (ط): ست.
(2)
تاريخ بغداد (2/ 158)، المنتظم (7/ 260)، معرفة القراء الكبار (1/ 295)، سير أعلام النبلاء (17/ 100)، الوافي بالوفيات (2/ 305)، شذرات الذهب (3/ 164).
(3)
في (ط): سبع وسبعين. وما أثبت موافق لما في السير، إذ قال: وعاش مئة عام.
(4)
وفيات الأعيان (2/ 435)، طبقات السبكي (4/ 393)، طبقات الإسنوي (2/ 126)، سير أعلام النبلاء (17/ 207)، شذرات الذهب (3/ 172).
قال ابن خلِّكان: والصعلوكي: بضم الصاد المهملة، وسكون العين المهملة، وضم اللام، وسكون الواو، وفي آخرها كاف، هذه النسبة إلى صعلوك، هكذا ذكره السمعاني وما زاد عليه.
(5)
الصواب أن وفاته كانت في سنة 404 هـ كما تقدم في التعليق على ترجمته في سنة (387)، وفي سنة (404 هـ) ترجمة الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 75)(بشار).
(6)
في (ط): قلنبه. وما أثبت موافق لما في المنتظم (7/ 261)، والعبر (مهم 82).
فيها الحنظل بحيث إنه مات [من الحجاج] من العطش نحو من خمسة عشر ألفًا، وأخذوا بقيتهم فجعلوهم رعاة لمواشيهم في أسوإ حال، وأخذوا جميع ما كان معهم من الأحمال والأجمال. فحين أحضرهم الوزير فخر الملك سجنهم ومنعهم الماء، ثُمَّ صلبهم تِلقاء دجلة، يرون صفاء الماء، ولا يقدرون على شيء منه حتى ماتوا عطشًا جزاءً وِفاقًا، ولقد أحسن فخر الملك في هذا الصنيع، واقتدى بحديث أنسٍ في الرُّعاة الذين كانوا في زمن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والحديث في "الصحيحين"
(1)
ثُمَّ بعث إلى أولئك الذين اعتُقِلوا في [بلاد] بني خفاجة من الحجاج فجيء بهم، وقد تزوجت نساؤهم، وقسّمت أموالهم، فردّوا إلى أهاليهم وأموالهم.
قال ابن الجوزي
(2)
: وفي رمضان انقضّ كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوؤه على ضوء القمر، وتقطّع قطعًا وبقي ساعة طويلة.
قال: وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى
(3)
، فخرجت النوائح والصلب معها جَهْرَةً، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض غلمان [ذلك الرئيس النصراني] بدبوس في رأسه فشجَّه، فثار المسلمون بهم فانهزموا ولجؤوا إلى كنيسة لهم هنالك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصارى، وتتبَّعوا النصارى في البلد، وقصدوا دار الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم، وانتشرت الفتنة ببغداد، ورفع المسلمون المصاحف في الأسواق وعطلت الجمعة في بعض الأيام، واستعانوا بالخليفة، فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع، فعزم الخليفة على الخروج من بغداد، وقويت الفتنة جدًا، ونهبت دور كثير من النصارى، ثُمَّ أحضر ابن أبي إسرائيل، وبذل أموالًا جزيلة، فعفا عنه، وسكنت الفتنة.
وفي ذي القعدة: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سُبُكْتِكين إلى الخليفة، يذكر أنّه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر [ومعه كتاب]، يدعوه إلى طاعته، فبصق فيه، وأمر بتخريقه، وأسمع رسوله أغلظ ما يقال.
وفيها: قُلِّد أبو نصر بن مروان الكردي إمرة آمدَ
(4)
وميّافارقين
(5)
، وديار بكر
(6)
، وخُلع عليه بطوق وسواران، ولُقب نصير الدولة.
(1)
حديث أنس في الرعاة الذين سمَل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعينهم. رواه البخاري (6802) في الحدود، ومسلم (1671) في القسامة.
(2)
المنتظم (7/ 261).
(3)
في المنتظم (7/ 262): أن المتوفاة بنت أبي نوح الأحوازي الطبيب زوجة أبي نصر بن إسرائيل كاتب الناصح، أبي الهيجا.
(4)
آمد: بلد قديم حصين تحيط دجلة بأكثره مستديرة كالهلال. معجم البلدان (1/ 56).
(5)
ميّافارقين: أشهر مدينة بديار بكر. معجم البلدان (5/ 235).
(6)
ديار بكر: هي بلاد كبير واسعة، حدّها ما غرّب من دجلة إلى بلاد الجبل المطل على نصيبين. معجم البلدان (2/ 494).
ولم يتمكن ركب العراق وخراسان في هذه السنة من الحجّ [لفساد الطريق وغيبة فخر الملك في إصلاح الأراضي].
وفي هذه السنة عادت مملكة الأمويين بالأندلس، فتولى فيها سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولُقِّبَ بالمستعين باللَّه، وبايعه الناس بقرطبة
(1)
.
وفيها: مات بهاءُ الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة بن بويه الديلمي [صاحب بغداد وغيرها وقام بالأمر من بعده ولده] سلطان الدولة أبو شجاع
(2)
.
وفيها: مات ملك الترك الأعظم إيلك خان
(3)
فتولى أمرهم من بعده أخوه طغان خان.
وفيها: هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير
(4)
؛ أُدْخل بيتًا باردًا في الشتاء وليس عليه شيء من اللباس، حتى مات كذلك، وولي الأمر من بعده، ولده منوجهر، ولُقِّب فلك المعالي، وخطب لمحمود بن سُبُكْتِكِين، وقد كان شمس المعالي قابوس عالمًا فاضلًا أديبًا شاعرًا، فمن شعره قوله:
قلْ للْذي بصرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنا
…
هلْ عانَدَ الدّهْرَ إلا مَنْ لَهُ خَطَرُ
أمَا تَرَى البَحْر تَطْفُو فَوَقَهُ جِيفٌ
…
وَيَسْتَقِرُّ بِأقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ
فَإنْ تَكُنْ نَشِبَتْ أيْدِي الخُطُوبِ بِنا
…
ومَسَّنَا مِنْ توالي صَرْفها ضَرَرُ
فَفِي السّماءِ نُجومٌ غَيْرُ ذي عَدَدٍ
…
فَلَيْسَ يُكْسَفُ إلا الشّمسُ والقَمَرُ
ومِنْ شِعره المستجاد الحسن قولُه:
خَطَراتُ ذِكْرِكَ تَسْتَبِبن موَدّتي
…
فَأُحِسنُّ فيها في الفُؤَادِ دَبِيْبَا
لا عُضْوَ لي إلا وَفِيْهِ صَبَابَةٌ
…
فَكَأنَّ أعْضَائي خُلِقْنَ قُلوبَا
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد
(5)
بن علي: أبو الحسن البَتّى
(6)
، كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة، ثم كتب له على ديوان
(1)
الكامل في التاريخ (9/ 241 - 242).
(2)
المصدر نفسه (9/ 241).
(3)
المصدر نفسه (9/ 240).
(4)
قابوس بن وشمكير بن زياد بن وردان شاه. الكامل في التاريخ (9/ 238)، وفيات الأعيان (1/ 425).
(5)
تاريخ بغداد (4/ 320)، المنتظم (7/ 263)، معجم الأدباء (3/ 254)، الوافي بالوفيات (7/ 231). وقد ذكر الخطيب ومن تابعه أنه توفي سنة خمس وأربعمئة.
(6)
في (ط): الليثي، خطأ، والصحيح ما أثبت بالباء الموحدة وفي آخرها التاء المنقوطة باثنتين من فوقها، نسبة إلى البت: موضع بنواحي البصرة. الأنساب (2/ 77).
الخبر
(1)
والبريد، وكان يحفظ القرآن [حفظًا] حسنًا، مليح الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف النادرة والمجالسة، [ظريف المعاني، كثير الضحك والمجانة]، خرج في بعض الأيام، والشريفان الرضي والمرتضى، وجماعة من رؤوس الأكابر لتلقِّي بعض الملوك، فخرج عليهم بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحرّاقات ويقولون: يا أزواج القِحَاب. فقال البتّي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين، فقالوا: ومن أين علمت هذا؟ فقال: وإلا من أين علموا أننا أزواج قحاب.
الحسنُ بن حامد بن علي بن مروان
(2)
: أبو عبد اللَّه الورّاق الحنبليّ. كان مدرِّس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنَّفات المشهورة منها:"كتاب الجامع في اختلاف العلماء" في أربعمئة جزء. وله: "أصول الفقه والدين"، وعليه اشتغل القاضي أبو يعلى بن الفراء، وكان معظّمًا في النفوس، مقربًا عند السلطان، ولا يأكل إلا من كسب يده من النسخ، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي، وابن مالك القطيعي وغيرهما، خرج في هذه السنة إلى الحج، فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر هنالك في الحرّ الشديد، فجاءه رجل بقليل من ماء، فقال له ابن حامد: من أين لك هذا؟ فقال: ما هذا وقته، اشرب. فقال: بلى هذا وقته عند لقاء اللَّه تعالى، فلم يشرب ومات من فوره [رحمه الله].
الحسين بن الحسن بن محمد بن حَلِيم
(3)
: أبو عبد اللَّه الحَلِيْمي، صاحب "المنهاج في أصول الديانة"، وكان أحد مشايخ الشافعية، ولد بجرجان، وحُمل إلى بخارى، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره. وولي القضاء ببخارى.
قال ابن خلِّكان
(4)
: انتهت إليه الرياسة إلى ما وراء النهر، وله وجوه حسنة في المذهب، وروى عنه الحاكم أبو عبد اللَّه، رحمه اللَّه تعالى.
فَيْروز
(5)
: أبو نصر، الملقب بهاءُ الدولة بن عضُد الدولة الديْلَميّ، صاحب بغداد والعراق، وهو الذي قبض على الطائع، وولَّى القادر، وكان يُحب المصادرات، فجمع من الأموال ما لم يجمعه أحد
(1)
في (ط): الخراج.
(2)
تاريخ بغداد (7/ 303)، المنتظم (7/ 263)، الكامل في التاريخ (9/ 83)، طبقات الحنابلة (2/ 171)، سير أعلام النبلاء (17/ 203)، الوافي بالوفيات (11/ 415)، النجوم الزاهرة (4/ 232)، شذرات الذهب (3/ 166).
(3)
المنتظم (7/ 264)، وفيات الأعيان (2/ 137)، طبقات السبكي (4/ 333)، طبقات الإسنوي (1/ 404)، سير أعلام النبلاء (17/ 231)، الوافي بالوفيات (12/ 351)، شذرات الذهب (3/ 167).
(4)
وفيات الأعيان (2/ 137 - 138).
(5)
المنتظم (7/ 264)، الكامل في التاريخ (9/ 241).
ممن كان قبله من بني بُوَيْه، وكان بخيلًا جدًا، توفي بأرَّجان
(1)
في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر وعشرين يومًا. وكانت مدة ملكه أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وكان مرضه الصرع، ودفن بمشهد علي إلى جانب أبيه.
قَابوسُ بن وَشْمَكِير
(2)
: كان أهل دولته قد تغيروا عليه، فبايعوا ولده منوجهر فقتَلوا أباه كما ذكرنا في الحوادث، وكان قد نظر في النجوم فرأى أنّ ولده يقتله، فكان يتوهم أنّه ولده دَارَا لما يرى من مخالفته له، ولا يخطر بباله منوجهر لما يرى من طاعته له، فكان هلاكه على يديه، وقد قدمنا شيئًا من شعره الحسن الجيد في الحوادث.
القاضي أبو بكر البَاقلاني
(3)
محمد بن الطيّب، رأس المتكلّمين على مذهب الشيخ
(4)
أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ومن أكثر الناس كلامًا وتصنيفًا في الكلام، يقال: إنّه كان لا ينام كلّ ليلة حتى يكتب عشرين ورقة في مدة طويلة من عمره، فانتشرت عنه تصانيف كثيرة، من جيدها كتاب "التبصرة" و"دقائق الحقائق" و"التمهيد في أصول الفقه" و"شرح الإبانة" وغير ذلك. من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسن تصانيفه، كتابه في الردّ على الباطنية الذي سمّاه "كشف الأسرار وهتك الأستار". وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع، فقيل: شافعيّ، وقيل: مالكيّ. حكى ذلك عنه أبو ذرّ الهَرويّ، وقد قيل: إنه كان يكتب على الفتاوى: كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، وهذا غريب جدًا. وقد كان في غاية الذكاء والفطنة.
ذكر الخطيب البغدادي
(5)
وغيره، أنّ عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل [عليه أحد إلا] من باب قصير؛ ففهم [الباقلاني] أن مراده بذلك أن ينحني [الداخل عليه]
(1)
أرّجان: مدينة كبيرة كثيرة الخير، بها نخيل كثير وزيتون وفواكه، وهي برية سهلية جبلية، بينها وبين شيراز ستون فرسخًا، وبينها وبين سوق الأهواز ستون فرسخًا.
(2)
المنتظم (7/ 264)، الكامل في التاريخ (9/ 238)، وفيات الأعيان (4/ 79).
(3)
تاريخ بغداد (5/ 379)، المنتظم (7/ 265)، وفيات الأعيان (4/ 269)، سير أعلام النبلاء (17/ 190)، الوافي بالوفيات (3/ 177)، النجوم الزاهرة (4/ 234)، شذرات الذهب (3/ 168).
قال ابن خلِّكان: الباقلاني: نسبة إلى الباقلى وبيعه، وفيه لغتان: من شدد اللام قصر الألف، ومن خففها مد الألف فقال: باقلاء، وهذه النسبة شاذة لأجل زيادة النون فيها، وهو نظير قولهم في النسبة إلى صنعاء: صنعاني، وإلى بهراء: بهراني.
(4)
في ط: "على مذهب الشافعي" ولا يصح، لأنَّ الباقلاني كان مالكي المذهب أشعري العقيدة على الصحيح (بشار).
(5)
تاريخ بغداد (5/ 379).
كهيئة الراكع للملك
(1)
؛ فدخل البابَ بظهره وجعل يمشي القهقرى إلى نحو الملك، [فلما وصل إليه] انفتل فسلَّم عليه، فعرف الملك [ذكاءه و] مكانه من العلم والفهم فعظّمه، ويذكر أن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل
(2)
ليستفزّ عقله [بها]؛ فلما سمعها القاضي [الباقلاني] خاف أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك فجعل لا يألوا جُهْدًا أن جرح رجله حتى خرج منها دمٌ كثير، فاشتغل بالألم عن الطرب، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفّة، فعجب الملك من كمال عقله، ثمّ [إن الملك] استكشف عن أمره، فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب، فتحقق [الملك] وُفورَ علمه
(3)
، وعُلوِّ فهمه
(4)
، [فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى]، وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم، وما كان من أمرها فيما رميت به من الإفك، فقال [الباقلاني] مجيبًا له على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما اللَّه تعالى، وكانت هذه
(5)
ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت تلك
(6)
بولد ولم يكن لها زوج، يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم عليهما السلام. [وكلاهما بريئة مما قيل فيها]. فإن تطرّق في الذهن الفاسد احتمال [ريبة] إلى هذه، فهو إلى تلك أسرع، وهما [بحمد اللَّه منزَّهتان] مبرأتان من السماء بوحي اللَّه عز وجل رضي الله عنهما.
وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القَطيعي، وأبي محمد بن ماسي وغيرهما.
وقد قتله الدارقطني يومًا بين عينيه، وقال: هذا يردُّ على أهل الأهواء باطلهم، ودعا له.
وكانت وفاة الباقلَّاني يوم السبت لسبعٍ
(7)
بقين من ذي القعدة ودفن بداره، ثمّ نقل إلى مقبرة باب حرب.
محمد
(8)
بن موسى بن محمد أبو بكر الخُوارزميّ، شيخ الحنفية وفقيههم. وقد أخذ العلم عن أبي بكر أحمد بن علي الرازي، وانتهت إليه رئاسة الحنفية ببغداد، وكان معظّمًا عند الملوك، ومن
(1)
في (ط): للَّه عز وجل.
(2)
الأرغل: آلة موسيقية نفخية، بها منافيخ جلدية، وأنابيب لتنغيم الصوت وهي يونانية.
(3)
في (ط): همته.
(4)
في (ط): عزيمته.
(5)
في (ط): عائشة:
(6)
في (ط): مريم.
(7)
في بعض النسخ: "لتسع" وهو خطأ، وما أثبتناه موافق لما في مصادر ترجمته ومنها تاريخ الخطيب وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 65)(بشار).
(8)
تاريخ بغداد (3/ 247)، المنتظم (7/ 266)، سير أعلام النبلاء (17/ 235)، النجوم الزاهرة (4/ 234)، الوافي بالوفيات (5/ 93)، شذرات الذهب (3/ 170).
تلاميذه الرضيّ، والصَّيْمَري، وقد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره، وكان ثقة ديّنًا [حسن الصلاة] على طريقة السّلف.
يقول [في الاعتقاد]: دِينُنا دين العجائز لسنا من الكلام في شيء.
وكان فصيحًا حسن التدريس، دُعي إلى ولاية القضاء غير مرّة فلم يقبل، كانت وفاته ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمئة، ودفن بداره من درب عبدة.
الحافظ أبو الحسن
(1)
: عليّ بن محمد بن خَلَف المعافري القابِسيّ، مصنف "الملخَّص"
(2)
أصله قَزْويني، وإنما غلب عليه القابسيّ لأن عمّه كان يتعمم قابسية، فقيل لهم ذلك
(3)
.
وقد كان حافظًا بارعًا في علم الحديث، رجلًا صالحًا جليل القدر. ولمّا توفي في ربيع الآخر من هذه السّنة، عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون [القرآن]، ويدعون له. وجاء الشعراء من كلّ أوب يرثون، ويترحّمون، ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره:
لعَمْرُ أبِيْكَ مَا نَسَب العُلا
…
إلى كَرَمِ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيْمُ
وَلَكِنَّ البِلادَ إذَا اقشعرَّتْ
…
وَصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ
ثمّ بكى وأبكى وجعل يقول: أنا الهشيم، أنا الهشيم، رحمه اللَّه تعالى.
الحافظ [ابن الفرضي]
(4)
: أبو الوليد، عبد اللَّه بن محمد بن يوسف بن نصر الأزْديّ الفَرضي، قاضي بَلَنْسِية
(5)
، سمع الكثير، وجمع وحصّل، وصنف التاريخ، وفي "المؤتلف والمختلف" و"مشتبه النسبة" وغير ذلك، وكان علامة زمانه قُتِل. شهيدًا على يدي البربر، فَسُمعَ وهو جريح طريح
(1)
وفيات الأعيان (3/ 320)، سير أعلام النبلاء (17/ 158)، النجوم الزاهرة (4/ 233)، شذرات الذهب (3/ 168).
(2)
في الأصل: التلخيص، وما أثبت من مصادر الترجمة، وقال ابن خلِّكان في كتاب الملخَّص: جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك بن أنس رضي الله عنه في كتاب الموطأ رواية أبي عبد اللَّه، عبد الرحمن بن القاسم المصري، وهو على صغر حجمه جيد في بابه. وقال أبو عمرو الداني: كان شيخنا أبو الحسن القابسي يقرأ الملخِّص بكسر الخاء يجعله فاعلًا، يريد أنه يلخص المتصل من حديث مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى. وفيات الأعيان (3/ 320).
(3)
كلام المصنف هذا يخالف ما ذكره ابن خلِّكان وغيره من أصل المترجم من قابس، وهي مدينة بإفريقية بالقرب من المهدية، وإليها نسبته.
(4)
جذوة المقتبس (254)، وفيات الأعيان (3/ 105)، سير أعلام النبلاء (17/ 177)، نفح الطيب (2/ 129)، شذرات الذهب (3/ 168).
(5)
بلنسية: كورة ومدينة مشهورة بالأندلس، وهي شرقي قرطبة، وهي برية بحرية ذات أشجار وأنهار. معجم البلدان (1/ 490).
يقرأ على نفسه الحديث في الصحيح: "مَا يُكْلَمُ أحَدٌ في سَبِيْلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيْلهِ. إلا جَاءَ يَوْمَ القِيَامةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لونُ الدِّمِ وَالرِّيحُ ريحُ المِسْكِ"
(1)
.
وقد كان سأل اللَّه تعالى عند أستار الكعبة الشهادة فأعطاه اللَّه ذلك. ومن شعره قوله:
أسِيْرُ الخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ
…
عَلَى وَجَلٍ مِمَّا به أنْتَ عَارِفُ
يَخافُ ذُنُوبًا لم يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُها
…
وَيَرْجُوكَ فِيْهَا فَهوَ رَاجٍ وخَائِفُ
ومَنْ ذَا الذي يُرجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى
…
وَمَا لَكَ في فَصْلِ القَضَاءِ مُخَالِفُ
فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِني في صَحِيْفَتي
…
إذا نُشِرَتْ يومَ الحِسَابِ الصّحائِفُ
وَكُنْ مُؤْنِسي في ظُلْمةِ القَبْرِ عِنْدَما
…
يَصُدّ ذوو القُرْبَى وَيجْفُو المُوَالِفُ
لَئِنْ ضَاقَ عنّي عَفْوُكَ الوَاسِعُ الذي
…
أُرَجِّي لإسْرَافِي فإنِّي تَالِفُ
ثم دخلت سنة أربع وأربعمئة
في يوم الخميس غرّة ربيع الأول منها، جلس الخليفة القادر باللَّه في أُبَّهة الخلافة وأُحضر إلى بين يديه سلطان الدولة ابن بهاء الدولة، والحجبة بين يديه، فخلع عليه سبع خلع على العادة [وعمّمه، بعمامة سوداء، و [قلّد] سيفًا وتاجًا مرصّعًا، وسوارًا وطوقًا، ولواءين عقدهما الخليفة بيده، ثمّ أعطاه سيفًا، وقال لخادم: قلّده به فهو شرف له ولعقبه يفتح به شرق الأرض وغربها، وكان ذلك يومًا مشهودًا بمحضر من القضاة والأمراء، والوزراء، والأماثل، والأعيان، والكبراء بدار الخلافة.
وفيها: غزا محمود بن سُبُكْتِكِين بلاد الهند ففتح وقتل، وسبى، وغنم، وسَلِمَ. وكتب إلى الخليفة القادر باللَّه أنْ يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من البلاد، فأجابه إلى ذلك.
وفيها: عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة، فبرز إليهم نائبها أبو الحسن بن مَزْيَد
(2)
فواقعهم، فقتل منهم خلقًا، وأسر محمد بن ثمال
(3)
، وجماعة من رؤوسهم، وانهزم الباقون، فأرسل اللَّه عليهم ريحًا حارّة، فأهلكت منهم خمسمئة إنسان، وحجّ بالناس في هذه السنة، أبو الحسن محمد بن الحسن الأقساسي.
(1)
الحديث، رواه البخاري (4/ 22) ومسلم (103) في الإمارة. وغيرهما من حديث الأعرج عن أبي هريرة.
(2)
في الأصل: يزيد، خطأ، والتصحيح من الكامل في التاريخ (9/ 245).
(3)
في الأصل: يمان، خطأ.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسين بن أحمد بن جعفر بن عبد اللَّه
(1)
: المعروف بابن البغدادي، سمع الحديث، وكان زاهدًا عابدًا كثير المجاهدة لا ينام إلا عن غَلَبةٍ، وكان لا يدخل الحمّام، ولا يغسل ثيابه إلا بالماء وحده، رحمه الله.
الحسين بن عثمان بن علي
(2)
أبو عبد اللَّه، المقرئ الضرير المُجَاهدِي، قرأ على ابن مجاهد القرآن وهو صغير، وكان آخر من بقي من أصحابه، كانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة وقد جاوز المئة، ودفن في مقابر الرزازين
(3)
.
علي بن سعيد الإصْطَخْريّ
(4)
أحد شيوخ المعتزلة، صنف للقادر باللَّه "الردّ على الباطنية" فأجرى عليه جراية سنيّة، وكان يسكن درب رباح. كانت وفاته في شوال وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة خمس وأربعمئة
فيها: منع الحاكم صاحب مصر النِّساء من الخروج من المنازل، أو أن يطَّلعن من الأسطحة أو من الطاقات، ومنع الخفّافين من عمل الأخفاف لهن، ومن الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقًا من النساء على مخالفته في ذلك. وهدم بعض الحمامات عليهنّ، وجهز عجائزَ كثيراتٍ يطفْن في البيوت، يستَعْلِمْن أحوال النساء، مَنْ منهنّ تعشق أو تُعشق، بأسمائهن، وأسماء من يتعرّض لهن [فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها]، وأكثر من الدوران بنفسه في الليل والنهار بالبلد [في طلب ذلك]، وغرّق خلقًا ممن يطلع على فسقهم من الرجال والنساء [والصبيان]، فضاق النطاق على النساء والفسّاق، ولم يتمكن أحد أن يصل إلى أحد إلا نادرًا، حتى إنّ امرأة [كانت عاشقة لرجل عشقًا قويًا، كادت أن تهلك بسببه لمّا حيل بينها وبينه] نادت قاضي القضاة بالديار المصرية وهو مالك بن سعيد الفارقي، وحلّفته بحق الحاكم لما وقف لها، فاستمع كلامها [فرحمها] فوقف لها، فبكت بكاءً شديدًا [مكرًا وحيلة وخداعًا] وقالت [له: أيها القاضي] إنَّ لي أخًا ليس لي غيره وهو في السياق، وأنا أسألك [بحقّ الحاكم عليك] لما أوصلتني إليه لأنظره قبل الموت [وأجرك على اللَّه]، فرقَّ لها القاضي رقّةً
(1)
المنتظم (7/ 267).
(2)
تاريخ بغداد (8/ 84)، المنتظم (7/ 268)، معرفة القراء الكبار (1/ 360).
(3)
في (ط): الزرادين، وفي تاريخ بغداد والمنتظم: دفن في مقابر باب الفراديس. قال بشار: الذي ذكر وفاته في هذه السنة هو أبو علي الأهوازي المقرئ المشهور المتوفى سنة 446 أما الكتاني فقد ذكر وفاته في سنة 400، لذلك ترجمه الذهبي في تاريخه مرتين (8/ 813 و 9/ 73) وينظر تاريخ دمشق 14/ 102 - 103.
(4)
المنتظم (7/ 268)، الكامل في التاريخ (9/ 246).
شديدةً. وأمر رجلين [كانا] معه أن يكونا معها حتى يبلّغاها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها، وأعطت المفتاح جارتها، وذهبت [معهما] حتى صارت إلى منزل [معشوقها] فطرقت [الباب] ودخلت، وقالت لهما: اذهبا راشدينِ [هذا منزله]. فإذا هو منزل رجل تهواه ويهواها [وتحبّه ويحبّها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إليّ] فأخبرته بما احتالت به من الحيلة على القاضي فأعجبه ذلك [من مَكْرها وحيلتها]. وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقًا [وليس في بيته أحد]، فسأل [الجيران] عن أمرها، فذكرت له [جارتها] ما صنعت، فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال له: ما أريد امرأتي إلا منك [الساعة، وإلا عرّفت الحاكم]، فإنها ليس لها أخ بالكليّة، وإنما ذهبت إلى عشيقها، فخاف القاضي من معرّة هذا الأمر فركب إلى الحاكم وبكى لديه، فسأله عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الأمر [مع المرأة]، فأرسل الحاكم مع [ذينك] الرجلين اللذين سارا بها من جهة القاضي من يحضر الرجل والمرأة جميعًا، على أيّ حال كانا عليه. فوجدوهما متعانقين سُكارى، فسألهما الحاكم فأخذا يعتذران بما لا يجدي شيئًا، فأمر بتحريق المرأة في بادية، وضرب الرجل بالسياط ضربًا مبرّحًا [حتى أتلفه] وازداد احتياط الحاكم على النساء [حتى جعلهن في أضيق من جحر ضب، ولا زال هذا دأبه] حتى مات. ذكره ابن الجوزي
(1)
.
وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد موت أبي محمد بن الأكفاني.
وفيها: عمر فخر الملك
(2)
مسجدًا بالشرقيّة، ونصب عليه الشبابيك من الحديد.
وممن توفي فيها من الأعيان:
بَكْرُ بن شَاذَان بن بكر
(3)
: أبو القاسم المقرئ الواعظ، سمع أبا بكر الشافعي وجعفر الخُلْدِيّ
(4)
. وعنه الأزهري والخلال، وكان ثقةً، أمينًا [صالحًا]، عابدًا، زاهدًا، له قيام ليلٍ، وكرمُ أخلاقٍ. مات في هذه السنة، وقد نيّف على الثمانين، ودفن بباب حرب.
بَدْرُ بن حَسْنُويه بن الحسين
(5)
أبو النَّجم الكردي، كان من خيار الملوك بناحية الدِّينور وهمَذان، له سياسةٌ وصدقةٌ كثيرةٌ. كنّاه القادر باللَّه: أبا النجم، ولقّبه ناصر الدولة، وعقد له لواءً وأنفذه إليه،
(1)
المنتظم (7/ 268).
(2)
في (ط): الدولة، وهو تحريف، وستأتي ترجمته في سنة سبع وأربع مئة.
(3)
تاريخ بغداد (7/ 96)، المنتظم (7/ 268)، معرفة القراء الكبار (1/ 371)، النجوم الزاهرة (4/ 237)، شذرات الذهب (3/ 174).
(4)
تحرفت في تاريخ بغداد إلى: الخالدي.
(5)
المنتظم (7/ 271).
وكانت أعماله [وبلاده] في غاية الأمن [والطيبة] بحيث إذا أعيى جملُ أحدٍ من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البريّة، فَتُرَدُّ عليه ولو بعد حين لا ينقص منها شيء. ولمّا عاثت أمراؤه في البلاد فسادًا، عمل لهم ضيافةً حسنةً فقدّمها إليهم ولم يأتهم بخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز، فلمّا طال ذلك سألوا عنه فقال: إذا كنتم تهلكون الحرث [وتظلمون الزرَّاع] فمن أين تؤتون بالخبز؟ ثم قال: لا أسمع بأحد أفسد في الأرض [بعد اليوم] إلا أرقت دمه. واجتاز مرّة في بعض أسفاره برجل قد حزم حطبًا وهو يبكي، فقال له: ما لك [تبكي]؟ فقال: إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوَّت بهما، فأخذهما مني بعض الجند، فقال له: أتعرفه إذا رأيته؟ قال: نعم. فوقف به في مضيق حتى مرّ عليه الجند، فلما اجتاز به ذلك الرجل الذي أخذ منه الرغيفين، قال: هذا هو، فأمر به أن ينزل عن فرسه، وأن يحمل هذه الحزمة عن الحطاب حتى يبلغ بها إلى المدينة، فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل، فلم يقبل منه حتى تأدّب به الجيش كلّهم. وكان يصرف في كلِّ جمعة عشرة آلاف
(1)
درهم على الفقراء والأرامل والأيتام، وفي كل شهر عشرين ألف درهم في تكفين الموتى، ويصرف في كلِّ سنة ألف دينار إلى عشرين نفسًا يحجّون عن والديه، وعن عضد الدولة، لأنه كان السبب في تمليكه، وثلاثة آلاف دينار في كل سنة إلى الحدَّادين والحذَّائين للمنقطعين بين هَمذان ويغداد يصلحون لهم الأحذية ونعال دوابهم، ويصرف في كل سنة مئة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين وعمارة المصانع، وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وإطلاقًا لأهل المنازل، وحفر الآبار وإصلاحها، وما اجتاز في طريقه [وأسفاره] بماءٍ جارٍ إلَّا بنى عنده قرية، وعمر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف عن ألفي مسجد وخان. هذا كلّه خارجًا عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنفقات والصدقات والبرّ والصلات على أصناف الناس من الفقهاء والقضاة، والمؤذّنين، والأشراف، والشهود [والفقراء والمساكين] والأيتام، والضعفاء [والأرامل]. وكان [مع هذا] كثير الصلاة والذكر، وكان له من الدواب المرتبطة في سبيل اللَّه ما ينيف عن عشرين ألفًا، وكانت وفاته في هذه السنة [عن نيِّف وثمانين سنة]، ومدة أمارته اثنتان وثلاثون سنة، ودفن بمشهد علي، وترك من الأموال أربعة عشر ألف بدرة، ونيفًا وأربعين بدرة، -البدرة عشرة آلاف- رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن الحسين بن حَمَكان
(2)
أبو علي الهَمَذاني، أحد الفقهاء الشافعيين ببغداد، عُني أولًا بالحديث، فسمع شيئًا كثيرًا حتى قيل: إنه كتب بالبصرة عن نحو من خمسمئة شيخ، ثمّ اشتغل بالفقه على أبي حامد المروزي، وروى عنه الأزهري، وقال: كان ضعيفًا، ليس بشيء في الحديث.
(1)
في (ط): عشرين ألف.
(2)
المنتظم (7/ 272)، وفيات الأعيان (2/ 75)، طبقات السبكي (3/ 133).
عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن إبراهيم
(1)
أبو محمد الأسديّ، المعروف بابن الأكْفَاني، قاضي قضاة بغداد.
ولد سنة ست عشرة وثلاثمئة.
روى عن القاضي المحاملي، ومحمد بن مَخْلَد، وابن عُقدة وغيرهم، وعنه البَرْقاني والتنوخي. يقال: إنه أنفق [على طلبة العلم] مئة ألف دينار، وكان عفيفًا نزيهًا، صيِّن العرض، وكانت وفاته في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، ولي الحكم فيها أربعين سنة نيابة واستقلالًا. رحمه اللَّه تعالى.
عبد الرحمن بن محمد
(2)
بن محمد بن عبد اللَّه بن إدريس أبو
(3)
سعد الحافظ، الإستراباذي، المعروف بالإدريسي.
رحل في طلب الحديث، وعُني به، وسمع الأصَمّ وغيرَهُ، وسكن سمرقند، وصنّف بها تاريخًا
(4)
، وعرضه على الدارقطني فاستحسنه، وحدّث ببغداد فسمع منه الأزهري، والتنوخي، وكان ثقة حافظًا. رحمه اللَّه تعالى.
أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن أحمد بن نُباته السَّعْدي
(5)
، الشاعر المشهور.
امتدح سيف الدولة بن حمدان وغيره من الأكابر والوزراء، وشِعره الموصوف بالجودة والإحسان، وهو القائل [البيت المطروق المشهور]:
ومَنْ لم يَمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيرهِ
…
تعدَّدت
(6)
الأسبابُ والدّاءُ
(7)
واحد
ومن شعره أيضًا قوله:
وإذا عجزتَ عن العدوِّ فدارِهِ
…
وامزحْ له إنَّ المُزَاحَ وِفاقُ
فالنّار بالماء
(8)
الذي هو ضِدُّها
…
تعطي النِّضاجَ وطَبْعُها الإحراقُ
(1)
تاريخ بغداد (10/ 141)، المنتظم (7/ 373)، سير أعلام النبلاء (17/ 151)، شذرات الذهب (3/ 174).
(2)
المنتظم (7/ 273)، الكامل في التاريخ (9/ 252) وفيه اسمه عبد اللَّه.
(3)
في ط: "بن" خطأ، وما أثبتناه من مصادر ترجمته (بشار).
(4)
صنف تاريخًا لسمرقند، وآخر لإستراباذ.
(5)
تاريخ بغداد (10/ 466)، المنتظم (7/ 274)، وفيات الأعيان (3/ 190)، شذرات الذهب (3/ 175).
(6)
في (ط) والوفيات: تنوعت.
(7)
في (ط): والموت.
(8)
في (ط): كالماء بالنار.
وكانت وفاته في شوال من هذه السنة. رحمه اللَّه تعالى.
عبد الغفار بن عبد الرحمن
(1)
أبو بكر الدِّيْنَوَري الفقيه السُفيانيّ، وهو آخر من كان يفتي على مذهب سفيان الثوري ببغداد في جامع المنصور، وكان إليه النَّظرُ في الجامع، والقيام بأمره، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة، ودفن خلف الجامع. رحمه اللَّه تعالى.
الحاكم [النيسابوري]
(2)
محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن حَمْدُويه بن نعيم بن الحكم، أبو عبد اللَّه، الحاكم، الضَّبِّي، الحافظ، ويعرف بابن البَيِّع
(3)
، من أهل نيسابور.
وكان من أهل العلم والحفظ للحديث، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، وأول سماعه في سنة ثلاثين وثلاثمئة، فسمع الكثير وطوّف في الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار: فمن ذلك "المستدرك على الصحيحين"، و"علوم الحديث"، و"الإكليل" و"تاريخ نيسابور". وقد روى عن [خلق]. ومن مشايخه: الدّارقطني، وابن أبي الفوارس، وغيرهما. وكان من أهل العلم، والحفظ، والأمانة، والديانة، والصيانة، والضبط، والثقة، والتحرّز، والورع. رحمه اللَّه تعالى.
لكن قال الخطيب البغدادي
(4)
: كان ابن البيِّع يميل إلى التشيّع، فحدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرْمَويّ قال: جمع الحاكم أبو عبد اللَّه أحاديث زعم أنَّها صحاح على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما. منها حديث الطير
(5)
، و"من كنت مولاه فعليّ مولاه"
(6)
(1)
المنتظم (7/ 274).
(2)
تاريخ بغداد (5/ 473)، المنتظم (6/ 274)، الكامل في التاريخ (9/ 252)، سير أعلام النبلاء (17/ 162)، الوافي بالوفيات (3/ 320)، النجوم الزاهرة (4/ 238)، شذرات الذهب (3/ 176).
(3)
قال السمعاني في الأنساب (2/ 270): البَيّع: هذه اللفظة لمن يتولى البياعة والتوسط في الخانات بين البائع والمشتري من التجار للأمتعة.
(4)
تاريخ بغداد (5/ 473).
(5)
رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3/ 130 - 132) من حديث أنس، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. أقول: وإسناده ضعيف، ورواه الترمذي رقم (3721) من حديث أنس مختصرًا بلفظ "اللهم اتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء عليٌّ فأكل معه" وقال الترمذي: هذا حديث غريب أي ضعيف، وكل هذه الروايات فيها كلام، وقد ذكر حديث الطير هذا المؤلف ابن كثير رحمه الله بطرقه وشواهده في "البداية والنهاية" المطبوع (11/ 75 - 83) وقال: وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه (ع).
(6)
حديث (من كنت مولاه فعلي مولاه).
رواه أحمد في المسند رقم (18479) من حديث البراء بن عازب، ورواه أيضًا أحمد (4/ 368) رقم (19279) والترمذي رقم (3713) والحاكم (3/ 109 و 110) من حديث زيد بن أرقم، وابن ماجه رقم (121) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقد ورد الحديث أيضًا من حديث علي، وعد اللَّه بن عباس، وأنس بن مالك، وأبي سعيد =
فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله، ولا صوّبوه
(1)
في فعله.
وقال محمد بن طاهر المقدسي: قال الحاكم: حديث الطير لم يخرّج في الصحيح وهو صحيح. قال ابن طاهر: بل هو موضوع لا يروى إلا عن سُقّاط أهل الكوفة من المجاهيل عن أنس، فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل، وإلا فهو معاند كذّاب.
وقال أبو عبد الرحمن السّلمي
(2)
: دخلت على الحاكم وهو مختف من الكراميّة لا يستطيع أن يخرج منهم، فقلت: لو خرجت فأمليت حديثًا في فضائل معاوية لاسترحت مما أنت فيه، فقال: لا يجيء من قلبي، لا يجيء من قلبي. توفي في صفر من هذه السنة عن أربع وثمانين سنة. رحمه اللَّه تعالى.
يوسف بن أحمد بن كجٍّ
(3)
أبو القاسم القاضي، أحد أئمَّة الشافعية، وله وجوه غريبة يحكيها في المذهب، وكانت له نعمة عظيمة جدًا، وولي القضاء بالدِّينور لبدر بن حسنويه، فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر، وثبت عليه جماعة من العَيّارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان هذه السنة. رحمه اللَّه تعالى
(4)
.
ثم دخلت سنة ست وأربعمئة
في يوم الثلاثاء مستهلّ المحرم من هذه السنة وقعت فتنة بين أهل السنَّة والروافض، فسكّن الفتنة الوزير فخر المُلْك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشوراء من تعليق المسوح والنَّوح.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباءٍ شديد بالبصرة أعجز الحفَّارين والناس عن دفن موتاهم، وإنَّه أظلّت [البلد] سحابة في حزيران فأمطرتهم مطرًا شديدًا كثيرًا.
وفي يوم السبت ثالث صفر قُلِّد الشريف المُرْتَضَى أبو القاسم نقابة الطالبيين والمظالم والحج، وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضيّ، وقرئ تقليده بمحضر من الوزير فخر المُلْك والقضاة والأعيان وكان يومًا مشهودًا.
= الخدري، وأبي هريرة، وغيرهم، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
وانظر "مجمع الزوائد"(9/ 103 - 168)(ع).
(1)
في (ط): لاموه.
(2)
في الأصل: أبو عبد اللَّه، وما أثبت من (ب) و (ط) والسير.
(3)
المنتظم (7/ 275)، وفيات الأعيان (7/ 65)، سير أعلام النبلاء (17/ 183)، طبقات السبكي (5/ 359)، شذرات الذهب (3/ 177).
(4)
إلى هنا ينتهي الجزء الحادي عشر من طبعة مكتبة المعارف البيروتية.
وفيها: ورد الخبر عن الحجيج بأنَّه هلك بسبب العطش أربعة عشر ألفًا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا أبوال الجمال من العطش.
وفي هذه السنة غزا محمود بن سُبُكْتِكِين بلاد الهند، فسَلك به الأدِلاء على بلاد غريبة، فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر فخاض بنفسه الماء أيامًا حتى خلصوا، وغرق كثير من جيشه، وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد، ولم يذهب الركب في هذه السنة من العراق لفساد البلاد من الأعراب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
[الشيخ] أبو حامد الإسفرايينيّ
(1)
أحمد بن محمد بن أحمد، إمام الشافعية في زمانه، ومولده في سنة أربع وأربعين وثلاثمئة.
قدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلاثمئة، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المرزبان، ثمّ على أبي القاسم الدارَكي، ولم يزل يترقّى به الحال حتى صارت إليه رياسة الشافعيّة، وعظم [جاهه] عند السلطان والعوام، وكان ثقةً، إمامًا، فقيهًا، جليلًا، نبيلًا، شرح "المزني" في تعليقة حافلة نحوًا من خمسين مجلدًا، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه. روى عن أبي بكر الإسماعيلي وغيره.
قال الخطيب البغدادي
(2)
: ورأيته غير مرّة، وحضرت تدريسه بمسجد عبد اللَّه بن المبارك في قطيعة الربيع، وحدّثنا عنه الأزجي والخلال، وسمعت من يذكر أنّه كان يحضر تدريسه سبعمئة فقيه أو متفقِّه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به.
وقال أبو الحسين القدوري: ما رأيت في الشافعيين أفْقه من أبي حامد.
وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في طبقات الشافعية
(3)
.
وذكر ابن خلِّكان في "الوفيات"
(4)
: أن القدوري كان يقول: هو أفقه من الشافعي وأنظر.
(1)
تاريخ بغداد (4/ 368)، المنتظم (7/ 277)، وفيات الأعيان (1/ 72)، سير أعلام النبلاء (17/ 193)، طبقات السبكي (4/ 61)، النجوم الزاهرة (4/ 239)، شذرات الذهب (3/ 178).
والإسفراييني، بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء وكسر الياء المثناة التحتية: نسبة إلى إسفرايين البلد المشهور المعروف من نواحي نيسابور على منتصف الطريق من جرجان. كذا في الوفيات.
(2)
تاريخ بغداد (4/ 369).
(3)
طبقات الشافعية لابن كثير (30 أ).
(4)
وفيات الأعيان (1/ 73).
قال الشيخ أبو إسحاق
(1)
: وليس هذا بمسلَّم، فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر:
نَزَلُوا بِمكَّةَ في قبائلِ نَوْفَلِ
…
وَنَزَلْتُ بالبيداءِ
(2)
أبعد مَنْزِلِ
قال ابن خلّكان
(3)
، وله من المصنفات:"التعليقة الكبرى"، وله كتاب "البستان" وهو صغير فيه غرائب. قال: وقد اعتذر إليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات، فأنشأ الشيخ [أبو حامد] يقول:
جَفَاءٌ جَرى جَهْرًا لَدَى النَّاسِ وَانْبَسَطْ
…
وَعُذْرٌ أتى سِرًّا فأكَّدَ ما فَرَطْ
وَمَنْ ظَنَّ أنْ يَمْحُو جَلِيَّ جَفَائِهِ
…
خَفِيُّ اعتذارٍ فَهُوَ في أعْظَمِ الغَلَطْ
وكانت وفاته ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال من هذه السنة، ودفن بداره بعدما صلّي عليه بالصحراء، وكان الجمعُ كثيرًا، والبكاء غزيرًا، ثمّ نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمئة.
قال ابن الجوزي: وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرًا. رحمه اللَّه تعالى.
عُبَيد اللَّه بن محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن مِهْران
(4)
أبو أحمد بن أبي مسلم الفرضي المقرئ.
سمع المَحاملي، ويوسف بن يعقوب، وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري، وكان إمامًا ثقة، ورعًا وقورًا، كثير الخير، يقرأ القرآن [كثيرًا]، ثمّ يسمع الحديث، وكان معظّمًا جليلًا. إذا قدم على أبي حامد الإسفراييني نهض إليه حافيًا فتلقّاه إلى باب المسجد [توفي وقد] جاوز الثمانين.
الشريف الرضي
(5)
محمد بن [الطاهر أبو أحمد] الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن العلوي، لقّبه بهاءُ الدولة بالرضيّ ذي الحَسَبَيْن، ولقّب أخاه المرتضى ذي المجدين، وكان نقيب الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان فاضلًا ديّنًا، قرأ القرآن بعد ثلاثين سنة من عمره، وحفظ طرفًا جيدًا من الفقه وفنون العلم، وكان
(1)
طبقات الفقهاء (103).
(2)
في (ب): في البيداء.
(3)
وفيات الأعيان (1/ 73).
(4)
تاريخ بغداد (10/ 380)، المنتظم (7/ 278)، معرفة القراء الكبار (1/ 292)، سير أعلام النبلاء (17/ 212)، شذرات الذهب (3/ 181).
وقد ورد اسمه في الأصلين و (ط): عبد الرحمن، وهذا خطأ تابع به المؤلف رحمه الله ابن الجوزي في المنتظم. وما أثبت من مصادر الترجمة.
(5)
تاريخ بغداد (2/ 246)، المنتظم (7/ 279)، الكامل في التاريخ (9/ 261)، وفيات الأعيان (4/ 414)، سير أعلام النبلاء (17/ 285)، الوافي بالوفيات (2/ 274)، شذرات الذهب (3/ 182).
شاعرًا مطبقًا، سخيًا جوادًا ورعًا، قال بعضهم: كان الشريف الرضي أشعر قريش، فمن شعره المستجاد قوله:
اشْتَرِ العزَّ بما شِئْـ
…
ــتَ فما العِزُّ بغالِ
بالقِصَارِ الصُّفْرِ إن شِئْـ
…
ــتَ وبالسُّمرِ الطِّوالِ
(1)
ليسَ بالمَغْبُونِ عَقْلًا
…
مَنْ شَرَى العزَّ بمالِ
(2)
إنّما يُدّخَرُ الما
…
لُ لحاجاتِ الرِّجالِ
والفتى مَنْ جَعَلَ الأموا
…
لَ أثْمَانَ المَعَالي
ومن شعره رحمه الله:
يا طائِرَ البانِ غِرْيدًا على فَنَنٍ
…
مَا هَاجَ نَوْحكَ لي يا طَائِرَ البانِ
هلْ أنتَ مُبلغُ من هامَ الفؤادُ بهِ
…
إنَّ الطليقَ يُؤدِّي حَاجَة العَاني
جِنَايةً ما جَنَاهَا غيرُ مُقْلَتِه
(3)
…
يومَ الوداعِ فَوا شوقي إلى الجاني
لَوْلا تَذكرُ أيامِ بذِي سَلَمٍ
…
وعِنْدَ رَامةَ أوْطارِي وَأوطَاني
لَمَا قَدَحْتُ بِنَارِ الشَّوْقِ
(4)
في كبدي
…
وَلا بَلَلْتُ بِماءِ الدَّمْعِ أجْفَانِي
وقد نسب إلى الرضي قصيدة ترامى فيها على الحاكم العُبيدي، ويودّ أن لو كان ببلده وفي حوزته، وياليت أن ذلك كان حتى يرى كيف كان منزلته عنده، ولو أنّ الخليفة العباسيّ أجاد السياسة لسيّره إليه ليقضي مراده، ويعلم الناس كيف حاله، ولكن حلم العباسيين غزيز
(5)
، يقول في هذه القصيدة:
ألْبِسُ الذُّلّ في بِلاد الأعادِي
…
وَبمصْرَ الخَلِيْفةُ العَلَويّ
مَنْ أبوهُ أبي ومولاه مَوْلا
…
يَ، إذَا ضَامَنِي البَعيدُ القَصِيّ
إنَّ عِرْقي بِعِرقةِ سيّد النّا
…
سِ جَمِيعًا محمَّد وَعَلِيّ
إنَّ خَوْفِي بِذَلِكَ الرّبْع أمنٌ
…
وأوامي بِذَلِكَ الورْد رِيّ
فلما سمع الخليفة [القادر] بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الشريف الطاهر أبي أحمد
(1)
في (ط):
بالقصار إن شئـ
…
ــت أو بالسمر الطوال
(2)
في (ط):
ليس بالمغبون عقلًا
…
من شرى عزًا بمال
(3)
في (ط): متلفنا.
(4)
في (ط): الوجد.
(5)
ثمة اختلاف بسيط في العبارة بين (أ) و (ب) و (ط)، لكن مؤدّاها واحد.
الموسوي يعاتبه، فأرسل إلى ابنِه الرضيّ، فأنكر أن يكون قال ذلك بالمرَّة، والروافض من شأنهم التقيّة
(1)
. فقال له أبوه: فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتًا تذكر فيها أنّ الحاكم العبيدي دعيّ لا نسب له. فقال: إني أخاف من غائلة ذلك، وأصرّ على ألا يقول ما أمره به أبوه، وتردَّدت الرسل من الخليفة إليهم في ذلك، وهم ينكرون، حتى بعث الشيخ أبا حامد الإسفراييني والقاضي أبا بكر إليه فأحلفاه باللَّه وبالأيمان المؤكّدة أنّه ما قالها. واللَّه أعلم بحقيقة الحال.
وكانت وفاته في خامس المحرم هذه السنة عن سبع وأربعين سنة، وحضر جنازته الوزير والقضاة والأعيان، وصلّى عليه الوزير فخر المُلْك، ودفن بداره بمسجد الأنباري، وولي أخوه الشريف المرتضى ما كان يليه، وزيد على ذلك [أشياء] ومناصب أخرى كما ذكرنا، وقد رثاه أخوه [بمرثاة قوية الوقع، حسنة المطلع]
(2)
. رحمه اللَّه تعالى.
باديس بن منصور بن بُلُكِّين
(3)
بن زِيري بن منادِ الحِمْيري
(4)
، أبو المعزّ -منَاد بن بادِيس- نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها، ولقَّبه الحاكم نصرِ الدَّولة، وكان ذا هيبةِ وسطوةِ وحرمةٍ وافرةٍ، وشجاعةٍ وشهامةٍ وافرةٍ، وكان إذا هزّ رمحًا كسره.
وكانت وفاته بغتة فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة من هذه السنة، ويقال: إن بعض الصالحين دعا عليه تلك اللَّيلة، وقام بالأمر من بعده ولده المعزّ مَناد. واللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمئة
في ربيع الأول منها: احترق مشهد الحسين بن عليّ [بكربلاء] وأروقته، وكان سببه أنّ القومة أشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في اللّيل على التأزير فاحترق، ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان منه ما كان.
وفي هذا الشهر أيضًا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة، واحترق جامع سامراء.
(1)
في (ط): التزوير.
(2)
زيادة من (ب). يقول الشريف المرتضى في رثاء أخيه:
يا للرجال لفجعة جذمَت يدي
…
ووددتها ذهبتْ عليَّ براسي
لا تنكروا من فيض دمعي عَبرةً
…
فالدمع خير مساعدٍ ومؤاسِ
في قصدة طويلة.
(3)
قيده ابن خلكان في وفيات الأعيان (1/ 287) فقال: بضم الباء الموحدة واللام وتشديد الكاف المكسورة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون. وجَوّد الذهبي تقييده كذلك بخطه في تاريخ الإسلام (9/ 104)(بشار).
(4)
وفيات الأعيان (1/ 265)، الكامل في التاريخ (9/ 256). وورد اسم جدّه في (ب) والوفيات: بلتكين.
وفي هذا الشهر ورد الخبر بتشعيث الركن اليمانيّ من المسجد الحرام، وبسقوط جدار بين يدي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه سقطت القبّة الكبيرة على صخرة بيت المقدس، وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.
وفي هذه السنة قُتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونُهبت أموالهم، ولم يُترك منهم إلا من لا يُعرف.
وفيها: كان ابتداء دولة العلويين بالأندلس، وليها عليّ بن حمود بن أبي العيش
(1)
العلوي، فدخل قرطبة في المحرم من هذه السنة، وقتل سليمان بن الحكم الأموي، وقتل أباه أيضًا، وكان شيخًا صالحًا. وبايعه النَّاس، وتلقَّب بالمتوكل على اللَّه. ثمّ قُتِل في الحمّام في ثامن عشر ذي القعدة من هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة. وقام بالأمر من بعده أخوه القاسم بن حمود، وتلقّب بالمأمون، فأقام في الملك ست سنين، ثمّ كان ابن أخيه يحيى، ثمّ إدريس أخو يحيى، ثمّ ملك الأمويون، ثمّ أجانب، حتى ملك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين.
وفي هذه السنة: ملك محمود بن سُبُكْتِكين يمين الدولة بلاد خوارزم، بعد مَلِكها خوارزم شاه [مأمون بن مأمون].
وفيها: استوزر سلطان الدولة ابن شجاع أبا الحسن علي بن الفضل الرّامَهرمُزي عوضًا عن فخر المُلْك، وخلع عليه خِلَعَ الوزارة.
ولم يحجّ أحد هذه السنة من بلاد العراق لفساد البلاد والطرقات، وعبث الأعراب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن يوسف بن دُوست
(2)
أبو عبد اللَّه البزّازُ، أحد حفاظ الحديث، و [أحد] الفقهاء على مذهب مالك، وكان يذاكر بحضرة الدارقطني، ويتكلّم في علم الحديث، فيقال: إنّ الدارقطني تكلّم فيه لذلك السبب، وقد تكلّم فيه غيره، بما لا يقدح فيه كبير شيء.
قال الأزهري: رأيت كتبه كلَّها طريّة، وكان يذكر أن أصوله العتُق غرقت، وقد أملى الحديث من حفظه، والمخلِّص وابن شاهين حيّان موجودان.
وكانت وفاته في رمضان عن أربع وثمانين سنة، رحمه اللَّه تعالى.
الوزير فخر المُلْك
(3)
محمد بن علي بن خَلَف، أبو غالب، الوزير، كان من أهل واسط، وكان أبوه
(1)
كذا في (أ) و (ط) وهو موافق للكامل في التاريخ (9/ 269)، وفي (ب): أبي العباس.
(2)
تاريخ بغداد (5/ 124)، المنتظم (7/ 284)، المغني في الضعفاء (1/ 58)، سير أعلام النبلاء (17/ 322)، النجوم الزاهرة (4/ 241).
(3)
المنتظم (7/ 286)، الكامل (9/ 260)، وفيات الأعيان (5/ 124)، سير أعلام النبلاء (17/ 282)، =
صيرفيًّا، فتقلَّبت به الأحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة بن عضد الدولة، واقتنى أموالًا جزيلة، وبنى دارًا عظيمة تعرف بالفخريّة، وكانت أولًا للخليفة المتّقي للَّه. فأنفق عليها أموالًا كثيرةً ونفقاتٍ غزيرةً، وكان كريمًا جوادًا بذّالًا، كثير الصدقات، كسا في يوم ألف فقير، وكان كثير الصلاة أيضًا، وهو أول من فرّق الحلاوة ليلة النصف من شعبان، وكان فيه ميل إلى التشيّع، وقد قتله سلطان الدولة في هذه السنة بالأهواز، وأخذ من أمواله شيئًا كثيرًا، من ذلك: أزيد من ستمئة ألف دينار، خارجًا عن الأملاك [والجواهر] والأثاث والمتاع، وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهرًا.
وقيل: إنّ سبب هلاكه؛ أنّ رجلًا قتله بعض غلمانه فاستعدت امرأة الرجل عليه إلى الوزير. ورفعت إليه قصصًا، فكل ذلك لا يلتفت إليها، فقالت له ذات يوم:[أيها الوزير]، أرأيت القصص التي رفعتها إليك، ولا تلتفت إليها قد رفعتها إلى اللَّه عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها، فلمّا مُسِكَ الوزير قال: قد واللَّه خرج توقيع المرأة. فكان من أمره ما كان.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمئة
وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين [أهل] السنّة والروافض ببغداد، وقتل [فيها] خلق كثير من الفريقين.
وفيها: ملك أبو المظفر بن أرسلان خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها، وتلقب بشرف الدولة، وذلك بعد وفاة أخيه طَغَان خان، وقد كان طَغَان خان هذا أديبًا فاضلًا يحبّ أهل العلم والدين، وقد غزا الترك مرّة، فقتل منهم مئتي ألف مقاتل، وأسر منهم مئة ألف، وغنم من أواني الذهب والفضة وأواني الصيني شيئًا لم يعهد لأحد مثله، فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقيّة.
وفي جمادى الأولى منها ولي أبو الحسين أحمد بن مهذّب الدولة أبي الحسن علي بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه، فقاتله ابن عمه فغلبه عليها، وضربه حتى قتله، ثمّ لم تطل مدته فيها حتى قُتل، ثم آلت بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد.
وفي هذه السنة: ضعف أمر الدَّيلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط، فقاتلهم أهلها مع الترك أيضًا.
وفيها: ولي نور الدولة، أبو الأعز دُبَيْس بن أبي الحسن علي بن مَزْيَد بعد وفاة أبيه.
= الوافي بالوفيات (4/ 118)، النجوم الزاهرة (4/ 242)، شذرات الذهب (3/ 185).
وفيها: قدم سلطان الدولة بغداد وضرب الطبل أوقات الصلوات، ولم تجر بذلك عادة، وعقد عقده على بنت قرواش على صداق مبلغه خمسون ألف دينار.
وقال أبو الفرج بن الجوزي، في كتابه "المنتظم"
(1)
: أخبرنا سعد اللَّه بن علي البزّاز، أخبرنا أبو بكر الطُّرَيثيثي، أخبرنا هبة اللَّه بن الحسن الطبري قال: وفي سنة ثمان وأربع مئة، استتاب القادر باللَّه أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرَّؤوا من الاعتزال والرفض، والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنَّهم متى خالفوه أحلَّ بهم من النكال والعقوبة ما يتَّعظ به أمثالهم، وامتثل يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سُبُكْتِكين أمر أمير المؤمنين، واستنّ بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة، والرافضة، والإسماعيلية، والقرامطة، والجهميّة، والمشبّهة، وصلبهم، وحبسهم، ونفاهم، وأمر بلعنتهم على المنابر، وإبعاد كلّ طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سُنّة في الإسلام.
ولم يحجّ في هذه السنة أحدٌ من أهل العراق لفساد البلاد، وعبث الأعراب، وضعف الدولة عنهم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحاجب الكبير شباشي
(2)
أبو نصر، مولى شرف الدولة، ولقّبه بهاء الدولة: بالسعيد، وكان كثير الصدقات، والأوقاف على وجوه القربات، فمن ذلك أنه وقف دباها
(3)
على المارستان، وكانت تغلّ شيئًا كثيرًا من الزروع والثمار والخراج، وبنى قنطرة الخندق [والمارستان] والياسريّة
(4)
وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد، وأوصى أن لا يُبنى على قبره، فخالفوه فعقدوا على قبره قبَّة فسقطت، وبعد موته بنحو من سبعين سنة، اجتمع نسوة عند قبره ينحن ويبكين فلما رجعن رأت عجوز منهن [كانت] هي المقدمة في تلك النياحة في المنام، كأن تركيًا خرج إليها من قبره، ومعه دبوس فحمل عليها وزجرها، فإذا هو الحاجب السعيد فانتبهت مذعورة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعمئة
في يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ كتاب في مذاهب أهل السنة بدار الخلافة في الموكب، وفيه: أنَّ من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، حلال الدَّم.
(1)
المنتظم (7/ 287).
(2)
المنتظم (7/ 287)، الكامل في التاريخ (9/ 304).
(3)
قرية من نواحي بغداد. معجم البلدان (2/ 64).
(4)
قرية كبيرة على ضفة نهر عيسى، بينها وبين بغداد ميلان. معجم البلدان (5/ 425).
وفي النصف من جمادى الأولى من هذه السنة فاض ماء البحر المالح ووافى الأبلّة، ودخل البصرة بعد يومين.
وفيها: غزا محمود بن سُبُكْتِكين بلاد الهند أيضًا، وتواقع هو وملك ملوك الهند، فاقتتل الناس قتالًا عظيمًا، ثمّ انجلت عن هزيمة [عظيمة على] الهند، [وأخذ المسلمون يقتلون فيها كيف شاؤوا] وأخذوا منهم أموالًا عظيمةً من الجواهر والذهب والفضّة، ومئتي فيل، واقتصّوا آثار المنهزمين، وهدموا معاقلَ كثيرة جدًّا، ثمَّ عاد إلى غزنة مؤيّدًا منصورًا.
وفيها: استوزر سلطان الدولة ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور.
ولم يحجّ في هذه السنة أحد من أهل العراق لفساد البلاد وعبث الأعراب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
رَجاء بن عيسى بن محمد
(1)
أبو العباس [الأنصناويُّ]، نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها أنْصِنا
(2)
، قدم بغداد فحدّث بها وسمع منه الحفاظ، وكان ثقة، فقيهًا، مالكيًا، عدلًا، مقبولًا عند الحكام، مرضيًا، فَرَضيًّا، ثمّ عاد إلى بلده، وتوفي بها في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين. رحمه اللَّه تعالى.
عبد اللَّه بن محمد بن أبي علان
(3)
أبو أحمد، قاضي الأهواز، كان ذا يسرة كثيرة، وله مصنفات منها كتاب "في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" جمع فيه ألف معجزة، وكان من كبار شيوخ المعتزلة. توفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة.
علي بن نصر بن أبي الحسن
(4)
مهذب الدَّولة، صاحب بلاد البطيحة
(5)
، كانت له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجؤون إليه في الشدائد فيُؤويهم، ويحسن إليهم، ومن أكبر مناقبه في ذلك إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر باللَّه حين استجار به، ونزل عنده بالبطايح فارًّا من الطائع للَّه، فآواه، وأحسن إليه، وكان في خدمته حين ولي إمرة المؤمنين، فكانت له بها عنده اليد البيضاء، وقد ولي البطايح ثنتين وثلاثين سنة
(1)
المنتظم (7/ 290)، الكامل في التاريخ (9/ 311).
(2)
أنْصِنا، بالفتح ثم السكون، وكسر الصاد المهملة والنون مقصور: مدينة أزلية من نواحي الصعيد على شرقي النيل. معجم البلدان (1/ 265)، وقد تحرفت في (أ) و (ب) إلى أنصار. وقد ينسب إليها "أنصناني" كما بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 139)، لكن ما هنا هو المشهور، وهو الذي في تاريخ الخطيب (9/ 402 ط. د. بشار) وغيره.
(3)
المنتظم (7/ 290)، الكامل في التاريخ (9/ 311).
(4)
المنتظم (7/ 290)، الكامل في التاريخ (9/ 302).
(5)
البطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة.
وشهورًا، وتوفي في هذا العام عن ثنتين وسبعين سنة، وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ ذراعه حتى مات، رحمه اللَّه تعالى.
الحافظ عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز
(1)
أبو محمد الأزْدي، المصري، الحافظ، كان عالمًا بالحديث وفنونه، وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة.
قال أبو عبد اللَّه الصوريّ الحافظ: ما رأت عيناي مثله في معناه!.
وقال الدّارقطني: ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له: عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يفخّم أمره، ويرفع ذكره.
وقد صنّف الحافظ عبد الغني هذا كتابًا فيه أوهام الحاكم
(2)
، فلما وقف عليه الحاكم جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره على ذلك، ويرجع إلى ما أصاب فيه من الردّ عليه. رحمهما اللَّه.
ولد الحافظ عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمئة، وتوفي في صفر من هذه السنة. رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن أمير المؤمنين القادر باللَّه
(3)
ويكنى بأبي الفضل، كان أبوه قد جعله ولي عهده من بعده، وضُربت السكَّة باسمه، وخَطب له الخطباء على المنابر، ولُقِّب بالغالب باللَّه، فلم يُقدّر ذلك، وتوفي في هذه السنة عن سبع وعشرين سنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد
(4)
أبو الفتح البزّاز الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من المشايخ، وسمع منه الصّوري ببيت المقدس حين أقام به، وكان ثقة مأمونًا. رحمه اللَّه تعالى ورحمنا أجمعين.
(1)
المنتظم (7/ 291)، الكامل في التاريخ (9/ 311)، وفيات الأعيان (3/ 223)، سير أعلام النبلاء (17/ 268)، النجوم الزاهرة (4/ 244)، شذرات الذهب (3/ 188).
(2)
وذلك في كتابه "المدخل على الصحيح" وسمّاه "كشف الأوهام التي في كتاب المدخل" وقال عبد الغني: لما رددت على أبي عبد اللَّه الحاكم الأوهام التي في المدخل بعث إليّ يشكرني، ويدعو لي، فعلمت أنّه رجل عاقل. السير (17/ 270).
(3)
المنتظم (7/ 292)، الكامل في التاريخ (9/ 311).
(4)
المنتظم (7/ 292).
ثم دخلت سنة عشر وأربعمئة
فيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سُبُكْتِكِين يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية، وفيه: أنَّه دخل مدينة وجد بها زهاء ألف قصر مشيّد وألف بيت للأصنام، [وفيها من الأصنام شيء كثير]، ومبلغ ما في الصنم من الذهب يقارب مئة ألف دينار، وبلغ من الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، وفيهم صنم معظَّم يؤرّخون مدّته لجهلهم بثلاثمئة ألف عام، [وقد سلبنا ذلك كلّه وغيره مما لا يحصى ولا يعدّ، وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئًا كثيرًا] وقد عمّ المجاهدون هذه المدينة بالإحراق، فلم يبق منها إلا الرسوم، وبلغ عدد الهالكين من الهند خمسين ألفًا، وأسلم منهم نحو عشرين ألفًا، وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثةً وخمسين ألفًا، واستعرض من الأفيال ثلاثمئة وستة وخمسين فيلًا، وحُصِّل من الأموال عشرون ألف ألف درهم [ومن الذهب شيء كثير].
وفي ربيع الآخر جلس القادر باللَّه، وقُرئ عهد الملك أبي الفوارس، ولُقِّب قوام الدولة، وخلع عليه بخلع حُمِلت إليه بولاية كرمان
(1)
.
ولم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق لفساد الأعراب في الطرقات.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الأصيفر المنتفقيّ
(2)
الذي كان يخفر الحجّاج.
أحمد بن موسى بن مَرْدويه بن فُوْرَك
(3)
أبو بكر الحافظ الأصبهاني، توفي في رمضان هذه السنة.
هبة اللَّه بن سلامة
(4)
أبو القاسم، الضرير، المقرئ، المفسّر، كان من أعلم الناس، وأحفظهم للتفسير، وكانت له حلقة في جامع المنصور.
روى ابن الجوزيّ بسنده إليه قال: كان لنا شيخ نقرأ عليه، فمات بعض أصحابه فرآه في المنام فقال له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي، قال: فما حالك مع منكر ونكير؟ فقال: لما أجلساني وسألاني
(1)
انظر معجم البلدان (4/ 454).
(2)
المنتظم (7/ 293)، الكامل في التاريخ (9/ 313) وذكر أنه كان يؤذي الحاجّ في طريقهم.
(3)
المنتظم (7/ 294)، تاريخ أصبهان (1/ 168)، الكامل في التاريخ (9/ 313)، سير أعلام النبلاء (17/ 308)، الوافي بالوفيات (8/ 201)، النجوم الزاهرة (4/ 245)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 93)، شذرات الذهب (3/ 190).
(4)
المنتظم (7/ 296)، سير أعلام النبلاء (17/ 311) عرضًا.
ألهمني اللَّه تعالى، أن قلت: بحقّ أبي بكر وعمر
(1)
، دعاني، فقال أحدهما للآخر: وقد أقسم علينا بعظيمين فدعه، فتركاني وذهبا عني، فرضي اللَّه عن أبي بكر وعمر وعن أصحاب رسول اللَّه أجمعين.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمئة
فيها عُدم الحاكم العُبيدي
(2)
صاحب مصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال، فقد الحاكم بن العزيز بن المعزّ صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، وذلك لأنه كان جبَّارًا عنيدًا وشيطانًا مريدًا. ولنذكر شيئًا من صفاته القبيحة وسيرته الملعونة. كان قبّحه اللَّه كثير التلوّن في أفعاله [وأحكامه] وأقواله، جائرًا في كيفيّة بلوغه ما يؤمله من ضميره الملعون، لأنّه كان يوم أنْ يَدَّعي الإلهيّة كما ادَّعاها فرعون في زمان موسى عليه السلام، وكان قد أمر الرعيَّة إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوم الناس على أقدْامهم صفوفًا، إعظامًا لذكره، واحترامًا لاسمه، فكان يفعل هذا في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان [قد أمر] أهل مصر على الخصوص إذا قاموا [عند ذكره] خرّوا سجودًا له، حتى إنّه ليسجد بسجودهم مَنْ في الأسواق من العامة من الرعاع
(3)
وغيرهم [ممن كان لا يصلّي الجمعة، وكانوا يتركون السجود للَّه في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم]، وأمر في وقت أهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كُرْهًا، ثمّ أذن لهم في العودة إلى أديانهم، وخَرَّب كنائسهم ثمّ عمّرها، وخرَّب القمامة ثمّ أعادها، وابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثمّ قتلهم وخرّبها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارًا وفتحها ليلًا، فامتثلوا ذلك دهرًا طويلًا، حتى اجتاز مرّة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه فقال: ألم ننهكم عن هذا؟ فقال: يا سيّدي، لما كان الناس يسهرون [بالليل] كانوا يتعيشون بالنهار، [ولما كانوا يتعيشون بالليل يسهرون بالنهار]، فهذا من جملة السهر، فتبسّم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكلّ هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامّة له، ليترقّى إلى ما هو أهم [وأمرّ وأعظم] من ذلك، لعنه اللَّه.
وفد كان يعمل الحسبة بنفسه، [فكان] يدور في الأسواق على حمارٍ له، وكان لا يركب إلا حمارًا، فمن وجده قد غشّ في معيشته أمر عبدًا أسود معه يقال له: مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى جهارًا، وهذا أمر منكر ملعون لم يُسبق إليه.
(1)
لم يكن من عادة السلف الصالح، الدعاء بحق أحد سوى اللَّه تعالى، وإنما يكون الدعاء بأسماء اللَّه تعالى وصفاته، كما قال اللَّه تعالى في كتابه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (ع).
(2)
المنتظم (7/ 297)، الكامل في التاريخ (9/ 314)، وفيات الأعيان (5/ 292)، سير أعلام النبلاء (15/ 173)، النجوم الزاهرة (4/ 176)، شذرات الذهب (3/ 192).
(3)
قوله: من الرعاع، زيادة من (ب).
وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن، وقطع الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرًا، ومنعهم من طبخ الملوخيّة، وأشياء من الرعونات التي لا تنضبط ولا تنحصر [التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر] وكانت العامة موتورين منه، يبغضونه كثيرًا، ويكتبون له الأوراق التي فيها الشتيمة البليغة له ولأسلافه وحريمه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظًا وحنقًا عليهم، حتى إنّ أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفّيها وإزارها وفي يدها قصّة، فيها من الشتم [واللعن والمخالفة] له شيء كثير، فلما رآها ظنّها امرأة فذهب من ناحيتها، وأخذ القصّة من يدها، فقرأها ورأى ما فيها فأغضبه ذلك، وأمر بقتل تلك المرأة، فلمّا تحققها من ورق، ازداد أيضًا غضبًا على غضبه، ثمّ لمّا وصل إلى القاهرة، أمر العبيد من السودان أنْ يذهبوا إلى مصر فيحرقوها، وينهبوا ما فيها من الأموال [والمتاع] والحريم، فذهبت العبيد فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالًا عظيمًا ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وفي كلِّ يوم يخرج هو بنفسه -قبَّحه اللَّه- فيقف من بعيد ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟ ثمّ اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى اللَّه تعالى، واستغاثوا به، فرقّ لهم الترك والمشارقة، وانحازوا إليهم، فقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدًا، ثمّ ركب الحاكم يفصل بين الفريقين، فكفّ العبيد عنهم، وقد كان يظهر التنصّل من القصّة، وأن العبيد ارتكبوا ذلك من غير علمه، وإذنه، وكان ينفذ لهم السلاح، ويحثّهم على ذلك في الباطن، لعنه اللَّه تعالى، فما انجلى الحال حتى أحرق من مصر نحوًا من ثلثها، ونهب قريبًا من نصفها، وسُبيت حريمُ خلقٍ كثير [وبنات كثيرة]. ففعل بهن الفواحش والمنكرات، حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفًا من العار والفضيحة، واشترى الرجال من سُبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد.
قال ابن الجوزي
(1)
: ثم زاد ظلم الحاكم، وعنّ له أن يدّعي الربوبيّة، فصار قوم من الجهّال إذا رأوه يقولون: يا واحد، يا أحد، يا محيي، يا مميت [قبحهم اللَّه جميعًا].
صفة مقتله لعنه اللَّه
كان قد تعدّى شره إلى الناس حتّى إلى أخته، [وكان] يتَّهمها بالفاحشة، ويُسمعها أغلظ الكلام، فتبرّمت منه، وعملت على قتله، فراسلت فيه أكبر الأمراء [أميرًا] يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله [ودماره] وتواطآ على ذلك، وجهّز من عنده عبدين أسودين من عبيده شهمين، فقالت لهما: إذا كان في الليلة الفلانيّة فكونا بجبل المقطّم. ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم وليس معه إلا ركابي وصبيّ، فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك وتقدّر، فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمّه: إنّ في هذه الليلة عليّ قطعًا عظيمًا، فإن نجوت منه عُمّرت نحوًا من ثمانين
(1)
المنتظم (7/ 298).
سنة، ومع هذا فانقلي حواصلي إليكِ، فإني أخوف ما أخاف عليك من أختي، [وأخوف ما أخاف على نفسي منها]، فنقل حواصله إلى أمّه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمئة ألف دينار وجواهر، فقالت له أمّه: يا مولانا، فإذا كان الأمر كما تقول: فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع، وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثمّ عاد إلى القصر فنام إلى قريب من ثلث الّليل الأخير، فاستيقظ، وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فركب فرسًا، وصحبه صبيّ [وركابي]، وصعِد جبل المقطَّم، فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا جوفه، وحملاه فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والكبار والوزير وقد أطلعته على الجليّة، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي، ولقّب بالظاهر لإعزاز دين اللَّه، وكان بدمشق، فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه سيغيب سبعة أيام ثمّ يجود، فاطمأن الناس بذلك، وجعلت [ترسل] ركابيين يصعدون الجبل ويجيئون ويقولون: تركناه بالموضع الفلاني، ويقول الذين من بعدهم [لأمّه]: تركناه في موضع كذا حتى اطمأن الناس، وقدم ابن أخيها وقد استصحب من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم. فحين وصل ألبسته تاج المعزّ جدّ أبيه، وحلّة عظيمة، وأجلسته على السرير، وبايعه الأمراء والرؤساء، وأطلق لهم الأموال الجزيلة، وخلعت على ابن دواس خلعة سنيّة هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثمّ أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم، وقوفًا في خدمته، ثمّ أمرتهم في بعض الأيام أن يقولوا له: أنت قاتل مولانا، ثمّ يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك، وقتلت كلّ من اطلع على سرّها في قتل أخيها فَعَظُمتْ هيبتها، وقَويت حرمتها، وثَبتت دولتها. وقد كان عمر الحاكم حين قُتل سبعًا وثلاثين سنة، وكانت مدة ملكه من ذلك خمسًا وعشرين سنة [لعنه اللَّه]
(1)
.
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وأربعمئة
فيها: تولى القاضي أبو جعفر [أحمد بن محمد] السمنانيّ الحسبة والمواريث ببغداد، وخُلِعَ عليه بالسواد.
وفيها: قال جماعة من [العلماء و] المسلمين للملك الكبير يمين الدولة محمود بن سُبُبكْتِكين: أنت [أكبر] ملوك الأرض، وفي كلّ سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر والعدوِّ، وهذه طريق الحجّ قد تعطلت من مدة سنين، وفتحك لها أوجب من غيرها، فتقدّم إلى قاضي القضاة بعملة أبي محمد الناصحي أن يكونْ أمير الحجّ في هذه السنة، وبعث معه بثلاثين ألف دينار للأعراب، غير ما جهّز معه من الصدقات
(1)
زيادة من ب.
إلى الحرمين، فسار الناس صحبته فلما كانوا بفَيد
(1)
اعترضهم الأعراب، فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار فامتنعوا، وصمّم كبير الأعراب وهو جماز
(2)
بن عُدَيّ على أخذ الحجيج، وركب فرسه وجال جولة، واستنهض من معه من شياطين العرب، فتقدّم إليه غلام من أهل سمرقند [يقال له: ابن عفان] فرماه بسهم فوصل إلى قلبه، فسقط ميتًا، وانهزمت الأعراب، وسلك الحجيج الطريق، فحجّوا، ورجعوا سالمين آمنين، وللَّه الحمد.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد اللَّه
(3)
بن حفص
(4)
أبو سَعْد المالِيْني الصُّوفي، ومالين قرية من قرى هَراة.
كان من الحفّاظ المكثرين الرّحالين في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب كثيرًا، وكان ثقةً صدوقًا صالحًا، وكانت وفاته بمصر في شوال هذه السنة.
الحسن بن الحسين بن محمد
(5)
بن الحسين [بن رامين] القاضي، أبو محمد الإستراباذي.
نزل بغداد، وحدّث بها عن الإسماعيلي وغيره، وكان من كبار الشافعيّة فاضلًا صالحًا، رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن منصور بن غالب
(6)
الوزير، الملقب ذا السعادتين.
ولد بسيراف سنة ثنتين
(7)
وخمسين وثلاثمئة، وتنقلت به الأحوال حتى وَزَرَ ببغداد، ثمّ قتل وصودر أبوه على ثمانين ألف دينار.
الحسين بن عُمر
(8)
أبو عبد اللَّه الغَزَّال. سمع النّجاد والخُلْدي وابن السمّاك وغيرهم.
قال الخطيب: كتبت عنه، وكان شيخًا ثقة، صالحًا، كثير البكاء عند الذكر. رحمه اللَّه تعالى.
(1)
فيد: منزل بطريق مكة. معجم البلدان (4/ 282).
(2)
كذا في (ط)، وفي (أ) و (ب): حماد. خطأ. وينظر تاريخ الإسلام للذهبي (9/ 179).
(3)
في (ط): "إسماعيل" وهو تحريف ظاهر، وما أثبتناه موافق لما في مصادر ترجمته، ومنها خط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 200)(بشار).
(4)
تاريخ بغداد (4/ 371)، المنتظم (8/ 3)، سير أعلام النبلاء (17/ 301)، الوافي بالوفيات (7/ 330)، طبقات السبكي (4/ 59)، النجوم الزاهرة (4/ 256)، شذرات الذهب (3/ 195).
(5)
المنتظم (8/ 3)، تاريخ بغداد (7/ 300).
(6)
المنتظم (8/ 3)، الكامل في التاريخ (9/ 323).
(7)
في (ب) و (ط): ثلاث. خطأ، وما هنا من (ح) ويعضده ما في مصادر ترجمته.
(8)
في (ط): "عمرو" خطأ، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الخطيب (8/ 82) وتاريخ الإسلام (9/ 203).
محمد بن عمر
(1)
أبو بكر العَنْبَري. كان أديبًا ظريفًا حسن الشعر، فمن ذلك قوله:
إنِّي نَظَرْتُ إلى الزّمَا
…
نِ وَأهْلِهِ نَظَرًا كَفَاني
فَعَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُهُمْ
…
وعرفتُ عِزِّي من هَوَانِي
فَلِذاكَ أطَّرحُ الصَّد
…
يقَ فَلا أراهُ ولا يَراني
فزهدْتُ فيما في يَدَ
…
يْهِ ودونَهُ نيلُ الأماني
فَتَعجَّبُوا لمُغَالبٍ
(2)
…
وَهَبَ الأقَاصِي للأدَاني
وانسل مِن بينِ الزِّحا
…
مِ فَمَا له في الكون
(3)
ثاني
قال ابن الجوزيّ: وكان متصوّفًا، ثم خرج عنهم، وذمّهم بقصائد ذكرتها في "تلبيس إبليس" وكانت وفاته يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق بن عبد اللَّه بن يزيد بن خالد
(4)
أبو الحسن البزّاز، المعروف ابن رِزْقويه.
قال الخطيب: وهو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمئة، وكان يذكر أنَّه درس الفقه على مذهب الشافعي، وكان ثقة، صدوقًا، كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديمًا لتلاوة القرآن، شديدًا على أهل البدع، ومكث دهرًا على الحديث، وكان يقول: لا أحب الدنيا إلا لذكر اللَّه وتلاوة القرآن، وقراءتي عليكم الحديث، وقد بعث بعض الأمراء إلى العلماء بذهب، فقبلوا كلُّهم غيره، فإنَّه لم يقبل منه شيئًا. وكانت وفاته في يوم الإثنين السادس عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخي، رحمه اللَّه تعالى.
أبو عبد الرحمن السُّلَمي
(5)
محمد بن الحسين بن محمد بن موسى النَّيْسابوري.
روى عن الأصَمّ وغيره، وعنه مشايخ البغداديين كالأزهري والعُشَاري وغيرهما، وروى عنه البيهقي وغيره.
(1)
تاريخ بغداد (3/ 36)، المنتظم (8/ 4) الكامل في التاريخ (9/ 111).
(2)
في المنتظم: لمقالة.
(3)
في (ب) و (ط): القلب، وفي تاريخ الخطيب: الخَلْق.
(4)
تاريخ بغداد (1/ 351)، المنتظم (8/ 4)، سير أعلام النبلاء (17/ 258)، الوافي بالوفيات (2/ 60)، النجوم الزاهرة (4/ 256)، شذرات الذهب (3/ 116). ورزق قد تحرفت في (ط) إلى: روق.
(5)
تاريخ بغداد (2/ 248)، المنتظم (8/ 6)، الكامل في التاريخ (9/ 326)، سير أعلام النبلاء (17/ 247)، الوافي بالوفيات (2/ 280)، طبقات السبكي (4/ 143)، النجوم الزاهرة (4/ 256)، شذرات الذهب (3/ 196).
قال ابن الجوزي: كانت له عناية بأخبار الصوفيّة، فصنّف لهم تفسيرًا [على طريقتهم] وسننًا، وتاريخًا، وجمع شيوخًا وتراجم وأبوابًا، وله بنيسابور دار معروفة به، وفيها صوفيّة، وبها قبره. ثم ذكر كلام الناس في تضعيفه في الرواية، فحكى عن الخطيب، عن محمد بن يوسف القطّان: أنَّه لم يكن بثقة، ولم يكن سمع من الأصمّ [شيئًا] كثيرًا، فلمّا مات الحاكم روى عنه أشياء كثيرة، وكان يضع للصوفية الأحاديث.
[قال ابن الجوزي: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها]
(1)
.
أبو علي الحسن بن علي الدقّاق النيسابوري
(2)
، كان يعظ الناس ويتكلّم على الأحوال والمعرفة فمن كلامه: من تواضع لأحد لأجل دنياه، ذهب ثلثا دينه، لأنّه خضع له بلسانه وأركانه، فلو خضع له بقلبه ذهب دينه كلُّه. وقال في قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] اذكروني وأنتم أحياء، أذكركم وأنتم تحت التراب، وقال: البلاء الأكبر أن تريد ولا تُراد، وتدنو فتردّ إلى [الطرد و] الإبعاد. وأنشد عند قوله تعالى:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84].
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرنا
…
وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونةٌ لا نُرِيْدُها
وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ الجنَّةِ بِالمَكَارِهِ"
(3)
إذا كان المخلوق لا يُوصل إليه إلا بتحمّل المشاق، فما ظنّك بالخلاق. رحمه اللَّه تعالى.
صريع الدِّلاء
(4)
[الشاعر] قتيل الغواشي
(5)
ذو الرقاعتين [أبو الحسن]، علي
(6)
بن عبد الواحد
(7)
الفقيه البغدادي، الشاعر الماجن، له قصيدة مقصورة في الهزل، عارض بها قصيدة أبي بكر بن دريد، منها:
وَألْفُ حَمْلٍ مِنْ مَتَاع تَسْتُرُ
…
أنْفَعُ لِلمسْكِينِ مِن لَقْطِ النَّوَى
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم 8/ 7، الكامل (9/ 326)، الشذرات (3/ 180).
(3)
الحديث أخرجه أحمد (3/ 153)، ومسلم (2822) في الجنة وصفة نعيمها.
(4)
وفيات الأعيان (3/ 383)، سير أعلام النبلاء (17/ 324)، الوافي بالوفيات (4/ 61)، شذرات الذهب (3/ 197). ووقع في (ط):"صريع الدلال" وهو تحريف.
(5)
في (ط): "الغواني" ولا يصح، فذلك لقب عرف به مسلم بن الوليد الشاعر، قال الصفدي بعد ذكر صريع الغواني، قتيل الغواشي:"والثاني عندي أحسن لأمرين: لأنه في الغواشي ما في الدلاء من المعنى المراد، ولأن الغواشي أكثر شبهًا في اللفظ بالغواني من الدلاء. لأنهم قابلوا به صريع الغواني وهو مسلم بن الوليد الشاعر الفحل"(بشار).
(6)
سماه الذهبي محمدًا، كما وجدته بخطه في تاريخ الإسلام (9/ 211)، وهو كذلك في السير. (بشار).
(7)
في (ط): عبيد الواحد.
منْ طَبخَ الدِّيكَ وَلا يَذْبَحُه
…
طارَ مِنَ القِدْرِ إلى حيْثُ انْتَهى
منْ أُدْخلَتْ
(1)
في عَيْنِهِ مِسَلَّةٌ
…
فَسَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ كَيْفَ العَمَى
والذَّقْنُ شَعْرٌ في الوُجُوهِ طَالِعٌ
(2)
…
وإنما
(3)
العَقْصَةُ
(4)
مِنْ خَلْفِ القَفَا
(5)
مَنْ أكَلَ الكِرْشَ ولمَّا يَغْسِلُهْ
…
سَالَ على لِحْيَتِهِ شِبْهُ الخَرَا
(6)
إلى أن قال فيها البيت الذي حُسِدَ عليه، وهو قوله:
مَنْ فَاتَهُ العِلْمُ وأخْطاهُ الغِنَى
…
فَذَاكَ والكَلْبُ عَلَى حَدٍّ سَوَا
قدم مصر في سنة ثنتي عشرة وأربعمئة، وامتدح فيها خليفتها الظاهر لإعزاز دين اللَّه ابن الحاكم، واتفقت وفاته بها في رجب هذه السنة، سامحه اللَّه تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمئة
فيها جرت كائنةٌ غريبةٌ، ومصيبةٌ عظيمةٌ [عامة]، وهي أن رجلًا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر فظيع، [وذلك أنّه] لمّا كان يوم الجمعة، وهو يوم النَّفْر الأول، طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود، جاء ليقبّله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى يُعْبَدُ هذا الحجر؟ ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت وجعل يرتعد، فاتّقاه أكثر الحاضرين، وتأخَّروا عنه، وذلك أنَّه كان رجلًا طِوالًا جسيمًا أحمر اللَّون، أشقر الشعر، وعلى باب المسجد جماعة من الفرسان وقوف ليَمنعوه [ممن يريد منعه من هذا الفعل، وممن أراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر عليه الناس فقتلوه وقطَّعوه قطعًا وحرّقوه [بالنار]، وتتبّعوا أصحابه، فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة ركب المصريين، وتعدّى النهب إلى غيرهم أيضًا، وجرت خبطة عظيمة، وفتنة كبيرة جدًا، ثمّ سكن الحال بعد أن تتبّع أولئك النفر الذين تمالؤوا على الإلحاد في أشرف البلاد، غير أنَّه سقط من الحجر ثلاث
(1)
في (ط) والسير: دخلت.
(2)
في السير: نابت.
(3)
في (ط): كذلك.
(4)
في (ب): الصفعة.
(5)
في السير: وإنما الدُّبْرُ الذي تحت الخُصَى.
(6)
سقط هذا البيت من (ط).
فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر
(1)
يضرب إلى صفرة محبَّبًا
(2)
مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبةَ تلك الفلق فعجنوها بالمسك واللَّكِّ، وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمرّ على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمّله
(3)
.
وفي هذه السنة فتح المارستان
(4)
الذي بناه الوزير مؤيَّد المُلْك، أبو علي الحسن الرُّخَجِي وزير شرف الملك بواسط، ورتب له الخُزّان، والأشربة، [والأدوية]، والعقاقير وغير ذلك مما يحتاج إليه، واللَّه تعالى أعلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وممن توفي فيها من الأعيان:
علي بن هلال
(5)
أبو الحسن بن البوَّاب، الكاتب، صاحب الخطِّ المنسوب.
صحب أبا الحسين ابن سَمْعُون الواعظ، وكان يقصّ بجامع المدينة. وقد أثنى على ابن البواب غير واحد في دينه وأمانته، وأمّا خطه وطريقته [فيه] فأشهر من أن يُنبَّه عليها، وخطّه أوْضح تقريبًا من أبي علي بن مُقْلة
(6)
، ولم يكن بعده أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلا القليل.
قال ابن الجوزي: وكانت وفاته يوم السبت ثاني جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد رثاه بعضهم بأبيات منها:
فَلِلْقُلُوبِ الّتي أبْهَجْتَهَا حَزَنُ
(7)
…
وَللْعُيُونِ الّتي أقْرَرْتَها سَهَرُ
فَما لِعَيْشٍ وَقَدْ وَدَّعْتَه أرَجٌ
…
وَما لِلَيْل وَقَدْ فَارَقْتَهُ سَحَرُ
قال ابن خلِّكان: ويقال له: ابن الستري لأن أباه كان ملازمًا لستر الباب، ويقال له: ابن البوّاب، وقد كان أخذ الخطّ عن أبي عبد اللَّه محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزاز، وقد سمع ابن أسد هذا على النجَّاد وغيره، وتوفي سنة عشر وأربعمئة، وأما ابن البوّاب، فإنّه توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين وأربعمئة، وقد رثاه بعضهم فقال:
(1)
في (ب): أضيفر.
(2)
في (ب): متجنبًا.
(3)
ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في أحداث سنة أربع عشرة وأربعمئة.
(4)
المارستان أو البيمارستان: لفظة فارسية تعني: بيت المرضى.
(5)
المنتظم (8/ 10)، وفيات الأعيان (3/ 342)، سير أعلام النبلاء (17/ 315)، النجوم الزاهرة (4/ 257)، شذرات الذهب (3/ 199).
(6)
هو محمد بن علي بن حسن بن مقلة الكاتب، توفي سنة 328 هـ.
(7)
في (ط): حُرُق.
اسْتَشْعَر
(1)
الكُتَّابُ فَقْدَكَ سَالِفًا
…
وَقَضَتْ بِصِحّةِ ذلك الأيَّامُ
فَلِذَاكَ سُوِّدَت الدّويّ كآبةً
…
أسفًا عَلَيْكَ وشُقَّتِ الأقْلامُ
ثمّ ذكر ابن خلِّكان أول من كتب بالعربيّة، فقيل: إسماعيل عليه السلام، وقيل: أول من كتب العربية من قريش حَرْبُ بن أميَّة بن عبدِ شَمْس، أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له: أسلم بن سِدْرة، وسأله عمن اقتبسها فقال من واضعها، رجل يقال له: مرامر بن مُرَة، وهو رجل من أهل الأنبار، فأصل الكتابة في العرب من أهل الأنبار.
قال الهيثم بن عديّ: وقد كانت لحمير كتابة يسمُّونها المُسْنَد، وهي متّصلة غير منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلُّمها، وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفًا وهي: العربيّة، والحميّرية، واليونانيّة، والفارسيّة، والسريانيّة، والعبرانيَّة، والروميَّة، والقبطيّة، والبربريّة، والهنديّة، والأندلسيّة، والصينيّة. وقد اندرس كثير منها. فقلّ من يعرف كثيرًا منها.
علي بن عيسى بن سليمان بن محمد بن أبّان
(2)
أبو الحَسَن
(3)
الفارسيّ، المعروف بالسكريّ الشاعر.
كان يحفظ القرآن، ويعرف القراءات، وصحب القاضي أبا بكر الباقلاني، وأكثر شعره في مديح الضحابة وذمّ الرَّافضة
(4)
. كانت وفاته في شعبان
(5)
من هذه السنة، ودفن بالقرب من قبر معروف الكرخي، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات [التي عملها وهي قوله]:
نَفْسُ يا نَفْسُ كَمْ تمادَينَ في أَلَفي
(6)
…
وَتأْتِينَ
(7)
في الفِعالِ
(8)
المعيّبِ
راقبي اللَّهَ واحْذَري موقِفَ العَرْ
…
ضِ وخَافِيْ يَومَ الحِسابِ العَصِيْبِ
لا تَغرّنَّكِ السَّلامَةُ في العَيْـ
…
ـشِ فإنّ السَّليمَ رَهْنُ الخُطوبِ
كلُّ حَيٍّ فَلِلْمَنُونِ ولا يَدْ
…
فَعُ كأسَ المنونِ كيدُ الأرِيبِ
(9)
واعْلَمِي أنَّ للمنيَّةِ وَقْتًا
…
سوفَ يَأْتِي عجلانَ غيرَ هَيُوبِ
(1)
في (ط): استشعرت.
(2)
تاريخ بغداد (12/ 17)، المنتظم (8/ 10)، الكامل في التاريخ (9/ 329).
(3)
في بعض النسخ: "الحسين"، وما هنا من (ط)، وهو الصواب الموافق لما في مصادر ترجمته ومنها تاريخ الخطيب وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 222)(بشار).
(4)
قال ابن الأثير: وإنما سمي شاعر السنّة لأنّه أكثر مدح الصحابة.
(5)
في (ط): شوال.
(6)
في (ط): تلغي.
(7)
في (ط): تمشين.
(8)
في المنتظم: وبالفعال.
(9)
في (ب) و (ط): الأديب.
إنَّ حُبَّ الصَّدِيْقِ فيْ موقِفِ الـ
…
ـحشْرِ أمَانٌ للخَائِفِ المَطْلُوبِ
محمد بن أحمد بن محمد بن منصور
(1)
أبو جعفر البَيِّع، ويعرف بالعتيقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة، وأقام بطرَسوس مدّة وسمع بها وبغيرها، وحدّث بشيء يسير، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن محمد بن النُّعمان
(2)
أبو عبد اللَّه المعروف بابن المُعلم، شيخ [الإمامية] الرافضة، والمصنف لهم، والحامي عن حوزتهم، سمع، وكانت له وجاهة عند ملوك الأطراف، لميل كثير [من أهل ذلك الزمان] إلى التشيّع، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف، وكان من جملة تلاميذه الشريف [الرضي] والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في رمضان من هذه السنة
(3)
منها:
منْ لفضلٍ أخْرجتُ مِنه حُسَامًا
(4)
…
وَمَعَانٍ فَضَضْتُ عنها خِتاما
من يُثيرُ العُقُولَ مِنْ بَعْدِمَا
…
كُنَّ هُمُودًا ويَفْتَح الأفْهَاما
مَنْ يُعِيرُ الصَّدِيقَ رَأْيًا إذَا مَا
…
سَلَّةَ
(5)
في الخُطُوب [] حُسَامَا
(6)
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمئة
فيها: قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد، فخرج الخليفة في الطيار
(7)
لتلقّيه، وصحبته الأمراء، والقضاة والفقهاء، والوزراء، والرؤساء، فلما واجهه شرف الدولة قبّل الأرض من بين يدي الخليفة مرات، والجيش واقف برمّته، والعامة من الجانبين، والخليفة يبعث الرسل إليه بالسلام عليه، وكان يومًا مشهودًا.
وفيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود [بن سُبكْتِكين] إلى الخليفة يذكر فيه أنَّه دخل بلاد الهند أيضًا، وأنَّه فتح بلادًا، وقتل خلقًا منهم، وأنّه صالحه بعض ملوكهم، وبعث إليه بهدايا سنيّة، وتحف
(1)
تاريخ بغداد (1/ 353)، المنتظم (8/ 11).
(2)
تاريخ بغداد (3/ 231)، المنتظم (8/ 11)، الكامل في التاريخ (9/ 329)، وهو المعروف بالشيخ المفيد.
(3)
هكذا ذكر وفاته في هذه السنة، وذكر الخطيب أنه مات يوم الخميس ثاني شهر رمضان من سنة 413 هـ، وهو الذي بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 227 - 228)، ونقل ترجمته من تاريخ الخطيب ومن تاريخ ابن أبي طي الشيعي المعروف. (بشار).
(4)
في (ط): خبيئًا.
(5)
في (ط): إذا ما سلّ.
(6)
في المنتظم: سلَّ في الخطوب حسامًا.
(7)
الطيّار: نوع من السفن السريعة.
كثيرة، فيها فيول عديدة، منها طائر على هيئة القُمري، إذا وضع عند الخوان وفيه سُمّ دمعت عيناه وجرى منها ماءٌ، ومنها حجر يحكّ ويؤخذ ما يحصل منه فيطلى به الجراحات ذوات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك. وحجّ أهل العراق في هذه السنة، ولكن رجعوا على طريق الشام لاحتياجهم إلى ذلك.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحَسَن بن الفضل بن سهلان
(1)
أبو محمد الرّامَهرمُزي، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين، قُتِلَ في شعبان من هذه السنة.
الحسن بن محمد [بن عبد اللَّه] أبو عبد اللَّه الكَشْفَلي الطبري
(2)
، الفقيه الشافعي.
تفقّه على أبي القاسم الداركي، وكان فهمًا، فاضلًا، صالحًا زاهدًا، وهو الذي درّس بعد الشيخ أبي حامد الإسفراييني في مسجده، مسجد عبد اللَّه بن المبارك في قطيعة الربيع، وكانت الطَّلبة عنده مكرَّمين، اشتكى بعضهم إليه حاجة، وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد عليه من أبيه، فأخذ بيده وذهب إلى بعض التجار بقطيعة الربيع، فاستقرض له منه خمسين دينارًا، فقال [التاجر]: حتى تأكل شيئًا، ومدَّ سماطًا فأكلوا، ثمّ قال: يا جارية هاتي المال، فأحضرت شيئًا من المال، فوزن منه خمسين دينارًا، ودفعها إلى الشيخ، فلمّا قاما إذا بوجه الفقيه قد تغيّر، فقال له الكَشفَلي: ما لك؟ فقال: يا سيدي قد سكن في قلبي حبّ هذه الجارية، فرجع به التاجر فقال: وقد وقعنا في فتنة أخرى، قال: وما هي؟ قال: إنّ الفقيه قد هوي الجارية. فأمر التاجر أن تخرج، فسلّمها إليه وقال: ربّما يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي وقع في قلبه منها، فلمّا كان من قريب قدمت على الفقيه نفقة من أبيه ستمئة دينار فوفّى التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ أبي محمد الكَشْفَلي.
وكانت وفاته في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب، رحمه اللَّه تعالى.
علي بن عبد اللَّه بن الحَسَن بن جَهْضَم
(3)
أبو الحسن الصوفيّ المكّي صاحب "بهجة الأسرار"
(4)
.
وكان شيخ الصوفيّة بمكّة، وبها توفي في هذه السنة.
قال ابن الجوزي:
(1)
في (ب): "الحسين"، وهو تحريف، وما أثبتناه من (ط)، والمنتظم (8/ 13)، وتاريخ الإسلام بخط الذهبي (9/ 233)(بشار).
(2)
المنتظم (8/ 13)، الكامل في التاريخ (9/ 334).
(3)
المنتظم (8/ 14)، سير أعلام النبلاء (17/ 275)، شذرات الذهب (3/ 200).
(4)
كتاب بهجة الأسرار ذكر فيه المؤلف أخبار الصوفية، وقد ذكر أنه أتى بعجائب وقصص لا يشك في بطلانها.
وقد ذكروا أنّه كان كذّابًا، ويقال: إنَّه الذي وضع حديث صلاة الرغائب
(1)
.
القاسم بن جعفر بن عبد الواحد
(2)
أبو عمر الهاشمي البصري، قاضي البصرة.
سمع الكثير، وكان ثقة أمينًا، وهو راوي "سنن" أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، توفي في هذه السنة [وقد جاوز التسعين].
محمد بن أحمد بن الحسن بن يحيى بن عبد الجبّار
(3)
أبو الفرج، القاضي الشافعيّ، ويعرف بابن سُميكة.
وروى عن النجّاد وغيره، وكان ثقة. توفي في ربيع الأول منها، ودفن بمقبرة باب حرب.
محمد بن أحمد أبو جعفر النَّسفيّ
(4)
.
عالم الحنفية في زمانه، وله طريقة في الخلاف والجدل، وكان فقيرًا متزهّدًا، بات ليلة قلقًا لما عنده من الفقر والحاجة، فعرض له فكر في فرع من الفروع كان يشكل عليه، فاتّضح له، فقام يرقص ويقول: أين الملوك وأبناء الملوك، فسألته امرأته عن خبره، فأعلمها بما حصل له، فتعجّبت من عقله. وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة.
هِلال بن محمد بن جعفر بن سَعْدان
(5)
أبو الفتح الحفّار.
سمع إسماعيل الصفّار، والنجّاد، وابن السمّاك، وابن الصواف، وكان ثقة، توفي في صفر من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، رحمه الله وإيّانا بمنّه.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمئة
فيها: ألزم الوزير المغربي جماعة من الأتراك، والمولَّدين، والشريف المرتضى، ونظام الحضرتين
(6)
أبا الحسن الزَّيْنبي، وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، والشهود بالحضور
(1)
صلاة الرغائب، هي صلاة في أول ليلة جمعة من شهر رجب، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" وهي كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وإنما لم يذكرها المتقدمون، لأنها أحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمئة (ع).
(2)
تاريخ بغداد (12/ 451)، المنتظم (8/ 14)، سير أعلام النبلاء (17/ 225)، شذرات الذهب (3/ 201).
(3)
المنتظم (8/ 15).
(4)
المنتظم (8/ 15).
(5)
تاريخ بغداد (14/ 75)، المنتظم (8/ 15)، سير أعلام النبلاء (17/ 293)، شذرات الذهب (3/ 201).
(6)
في (ط): الحضرة.
لتجديد البيعة لشرف الدَّولة، فلما بلغ ذلك الخليفة توهّم أن تكون هذه البيعة لنيّة فاسدة من أجله، فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور إليهم، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدَّولة، ثمّ اصطلحا وتصافيا، وجُدِّدت البيعة لكل منهما من الآخر.
ولم يحجّ في هذه السنة من ركب [العراق ولا] خراسان أحد.
واتفق أن بعض الأمراء من جهة محمود بن سُبُكْتِكين شهد الموسم في هذه السنة، فبعث إليه صاحب مصر بخلعِ عظيمةِ ليحملها إلى محمود بن سُبُكْتِكين، فلما رجع بها إلى أستاذه الملك محمود، أرسل بها إلى بغداد، فحرِّقت على باب النوبي خدمة للخليفة القادر باللَّه العبّاسي، رحمه اللَّه تعالى، وجزاه اللَّه خيرًا عن قصده وسيرته الحسنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمود بن عمر
(1)
بن الحسن بن عُبيد بن عمرو بن خالد
(2)
أبو الفرج المُعَدَّل، المعروف بابن المُسْلِمة.
ولد سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، وسمع أباه، وأحمد بن كامل، والنخاد، والخُطَبي
(3)
، ودَعْلَج بن أحمد، وغيرهم، وكان ثقة، يسكن الجانب الشرقي من بغداد، ويملي في أول كلّ سنة مجلسًا في المحرّم، وكان عاقلًا فاضلًا كثير المعروف، داره مألف لأهل العلم، وكان قد تفقّه بأبي بكر الرازي، وكان يصوم الدَّهر، ويقرأ في كلِّ يوم سبعًا
(4)
، ويعيده بعينه في تهجّده. كانت وفاته في ذي القعدة من هذه السنة. رحمه اللَّه تعالى.
أحمد بن محمد
(5)
بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضَّبِّيُّ أبو الحسن المَحَامليّ، نسبة إلى بيع المحامل [التي يحمل عليها الناس في السفر].
(1)
وقع في بعض النسخ: "أحمد بن محمد بن محمد بن عمر"، ولا يصح، وما أثبتناه من (ط) ويعضده ما في مصادر ترجمته، منها تاريخ الإسلام بخط الذهبي (9/ 250)(بشار).
(2)
تاريخ بغداد (5/ 67)، المنتظم (8/ 16)، الكامل في التاريخ (9/ 341)، سير أعلام النبلاء (17/ 341)، النجوم الزاهرة (4/ 260).
(3)
في (ط): "الجهضمي" محرف، وهو إسماعيل بن علي الخطبي المؤرخ المحدث المعروف (بشار).
(4)
أي: سبع القرآن.
(5)
تاريخ بغداد (4/ 372)، المنتظم (8/ 17)، الكامل في التاريخ (9/ 341)، وفيات الأعيان (1/ 74)، سير أعلام النبلاء (17/ 403)، الوافي بالوفيات (7/ 321)، طبقات السبكي (4/ 48)، النجوم الزاهرة (4/ 262)، شذرات الذهب (3/ 202).
قال ابن خلِّكان: والضَّبّي، بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الباء الموحدة: نسبة إلى قبيلة كبيرة مشهورة.
تفقه على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وبرع في الفقه، حتى كان الشيخ أبو حامد يقول: هو أحفظ للفقه منّي. وله المصنّفات المشهورة منها: "اللباب الأوسط" و"المُقْنع" وله: "الخِلاف" وعلّق على الشيخ أبي حامد تعليقة كبيرة.
قال ابن خلِّكان: ولد سنة ثمان وستين وثلاثمئة، وتوفي يوم الأربعاء، لتسع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة وقد شاب. رحمه اللَّه تعالى.
سلطان الدوله
(1)
بن بهاء الدولة توفي بشِيراز عن ثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر.
عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحسين
(2)
أبو القاسم الخَفّاف، المعروف بابن النَّقيب.
وكان من أئمة السّنة، وحين بلغه موت ابن المعلّم [فقيه الشيعة سجد للَّه شكرًا]، وجلس ابن النقيب للتهنئة وقال: ما أبالي أىِّ وقتٍ متّ بعد أن شاهدت موت ابن المعلِّم، ومكث دهرًا طويلًا يصلّي الفجر بوضوء العشاء.
قال الخطيب البغدادي: وسألته عن مولده فقال: في خمس وثلاثمئة، وأذكر من الخلفاء المقتدر، والقاهر، والراضي، والمتّقي، والمستكفي، والمطيع، والطائِع، والقادر، والغالب باللَّه خُطب له بولاية العهد. وكانت وفاته في سلخ شعبان من هذه السنة عن مئة وعشر سنين، رحمه اللَّه تعالى.
عمر بن عبد اللَّه بن عمر بن تَعْوِيذ
(3)
أبو حفص الدَّلَّال، قال: سمعت الشبليّ ينشد:
وَقَدْ كَانَ شَيْءٌ يُسمَّى السُّرورْ
…
قَدِيْمًا سَمِعْنا بِهِ ما فَعَلْ
خَلِيْلي إنْ دَامَ هَمُّ النُّفُوسْ
…
قَلِيْلًا عَلَى ما نَرَاهُ قَتَلْ
يُؤَمِّلُ
(4)
دُنْيا لتَبْقَى لَهُ
…
فَمَاتَ المُؤَمِّلُ قَبْلَ الأمَلْ
محمد بن الحسن
(5)
أبو الحسن الأقْسَاسي العَلَوي، نائب الشريف المرتضى في إمرة الحجّ، حجّ بالناس في سنين متعدّدة، وله فصاحةٌ وشعرٌ جيّدٌ، وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين.
(1)
المنتظم (7/ 18)، الكامل في التاريخ (9/ 337)، سير أعلام النبلاء (17/ 345)، النجوم الزاهرة (4/ 261). وهذه الترجمة ساقطة من (ط).
(2)
تاريخ بغداد (10/ 382)، المنتظم (8/ 18).
(3)
المنتظم (8/ 18).
(4)
في المنتظم: مؤمل.
(5)
المنتظم (8/ 19).
ثم دخلت سنة ستَّ عشرة وأربعمئة
فيها: قوي أمر العيّارين ببغداد، ونهبوا الدور جهرةً، واستهانوا بأمر السلطان.
وفي ربيع الأول منها: توفي شَرَفُ الدَّولةِ بن بُوَيْه الدَّيْلَمي، صاحب بغداد والعراق وغير ذلك، فكثُرت الشرور ببغداد، ونُهبت الخزائن، واستقرّ الأمر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر، وخُطب له على المنابر، وهو [إذ ذاك] على البصرة، وخلع على شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا وزيره، ولقَّبه علم الدّين، سعد الدَّولة، أمين الملّة، شرف المُلْك، وهو أوّل من لُقِّب بالألقاب الكثيرة، ثمّ طلب من الخليفة أن يبايع لأبي كاليجار، إذ كان وليّ عهد أبيه سلطان الدولة الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم، فتوقّف في الجواب، ثمّ وافقهم على ما أرادوا من ذلك، وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال من هذه السنة.
ثمّ تفاقم أمر العيّارين ببغداد وكبسوا الدور ليلًا ونهارًا، وضربوا أهلها كما يُضرب المصادَرون، ويستغيث أحدهم فلا يُغاث، واشتدّ الحال، وهربت الشُّرَط من بغداد، ولم تُغن الأتراك شيئًا، وعُملت السرايج على أفواه السكك فلم يفد شيئًا
(1)
، وأحرقت دار الشريف المرتضى، فانتقل منها إلى غيرها، وغلت الأسعار ببغداد أيضًا جدًا، ولم يحجّ أحد من أهل [العراق] وخراسان في هذه السنة، واللَّه أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
سَابور بن أرْدَشِير
(2)
وزر لبهاء الدولة أبي نصر بن عَضُدِ الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة أيضًا، وكان كاتبًا سديدًا، عفيفًا عن الأموال، كثير الخير، سليم الباطن، فكان إذا سمع المؤذِّن لا يشغله شيءٌ عن الصلاة، وقد وقف دارًا للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة، وجعل فيها كتبًا كثيرةً جدًا، ووقف
(1)
في المنتظم (8/ 22): وعملت الأبواب، وأوثقت على الدروب ولم يغن ذلك شيئًا.
(2)
المنتظم (8/ 22)، الكامل في التاريخ (9/ 350)، وفيات الأعيان (2/ 354)، سير أعلام النبلاء (17/ 387).
قال ابن خلِّكان: وسابور: بفتح السين المهملة وضم الباء الموحدة وبعد الواو راء، والأصل فيه: شاه بور فعرب لأن الشاه بالعجمي: الملك، وبور: ابن؛ فكأنه قال: ابن الملك، وعادة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف. وأول من سمي بهذا الاسم سابور بن أردشير بن بابك بن ساسان أحد ملوك الفرس.
وأردشير: بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح الدال المهملة، وكسر الشين المعجمة، وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، قاله الدارقطني الحافظ، وقال غيره: معناه دقيق حليب.
عليها غلّةً كثيرةً فبقيت سبعين سنة، ثمَّ أحرقت عند مجيء الملك طُغْرُلْبَك في سنة خمسين وأربعمئة وكانت محلتها بين السورين. وقد كان جيد المباشرة [حسن المعاشرة] إلا أنَّه كان يعزل عماله سريعًا [خوفًا عليهم من الأشر والبطر].
توفي في هذه السنة عن قرب تسعين سنة.
عثمان النيسابوري
(1)
الخَرْكوشي
(2)
الواعظ.
قال ابن الجوزي: صنَّف كتابًا في الوعظ من أبرز الأشياء، وفيه أحاديث كثيرة موضوعة، وكلمات مَرْذُولة، إلا أنَّه كان خيِّرًا صالحًا، وكانت له وَجاهةٌ عند الخلفاء والملوك، وكان الملك محمود بن سُبُكْتكين إذا رآه قام له، وكانت محلّته حِمَى يُحتمى بها من الظَّلَمَةِ، وقد وقع في بلده نيسابور موت، فكان يغسل الموتى مؤتجرًا، فغسّل نحوًا من عشرة آلاف ميت، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن الحسن بن صَالْحَان
(3)
أبو منصور، الوزير لشرف الدولة، ولبهاء الدولة أيضًا.
وكان وزير [صدق] جيّد المباشرة، حسن الصّلاة، محافظًا على أوقاتها، وكان محسنًا للشعراء والعلماء، توفي ببغداد في هذه السنة عن ستّ وسبعين سنة.
الملك شرف الدولة
(4)
أبو علي بن بهاء الدولة أبي نصر بن عَضُدِ الدولة بن بُويه الدَّيلمي، صاحب بغداد وغيرها من البلاد. أصابه مرض حادٌّ فتوفي منه لثمان بقين من ربيع الآخر عن ثلاث وعشرين سنة وثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يومًا.
علي بن محمد التِّهامي
(5)
أبو الحسن الشاعر، له ديوان مشهور، وله مرثاةٌ في ولدٍ له [قد مات] صغيرًا، أولها:
(1)
المنتظم (8/ 23).
(2)
في بعض النسخ: "الخركوي" وهو تحريف، وخركوش محلة بنيسابور، كما في أنساب السمعاني (بشار)، وجاءت نسبته على هذا الوجه في المنتظم.
(3)
المنتظم (8/ 23).
(4)
المنتظم (8/ 24) وفيه اسمه: مشرف الدولة.
(5)
وفيات الأعيان (3/ 378)، سير أعلام النبلاء (17/ 381)، النجوم الزاهرة (4/ 263)، شذرات الذهب (3/ 204).
قال ابن خلِّكان: والتِّهامي: بكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الهاء وبعد الألف ميم، هذه النسبة إلى تهامة، وهي تنطلق على مكة، حرسها اللَّه تعالى، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تهامي لأنه منها، وتنطلق أيضًا على جبال تهامة وبلادها، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن، ولا أعلم هل نسبة هذا الشاعر إلى مكة أم إليها، واللَّه أعلم.
حكمُ المنيَّةِ في البريَّةِ جَارِي
…
ما هذهِ الدُّنيا بدارِ قَرَارِ
إنِّي لأرْحَمُ حَاسِديَّ لحرِّ ما
…
ضمَّتْ صُدُورُهُم مِنَ الأوْغَارِ
نظروا صَنِيعَ اللَّهِ بي فعيونُهم
…
في جَنَّةٍ، وقُلُوبُهم في نَارِ
ومنها في ذمّ الدنيا، وكلّ هذه القصيدة مليح مختار:
طبعتْ
(1)
على كدرٍ وأنتَ تريدُها
(2)
…
صَفْوًا من الأقذار
(3)
والأكْدَارِ
ومكلّف الأيام ضدَّ طباعِها
…
متطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
واذا رجوتَ المستحيلَ فإنَّما
…
تَبني الرجاءَ على شفيرٍ هارِ
ومنها قوله في ولده [بعد موته]:
جاورتُ أعدائي وجاورَ رَبَّهُ
…
شَتَّان بينَ جِوارِهِ وجِوَارِي
وقد ذكر ابن خلِّكان
(4)
: أن بعضهم رآه في النوم بأيَّهةٍ حسنةٍ فقال [له بعض أصحابه]: بِمَ نلت ذلك؟ فقال: بهذا البيت، توفي بحبس خزانة البنود من القاهرة في هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمئة
في العشرين من المحرّم، وقعت فتنة عظيمة بين الأسفهسلاريّة
(5)
وبين العيَّارين، وركبت إليهم الأتراك بالدَّبادب كما يُفعل في الحرب، وأحرقت أبواب كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيَّارون، وأحرق من الكرخ جانب كبير، ونُهب أهله، وتعدَّى النهب إلى غيره أيضًا، وكانت فتنةً هائلةً شنيعةً، ثمّ خمدت في اليوم الثاني، وقُرّر على أهل الكرخ مئة ألف دينار [مصادرة] لإثارتهم الفتن والشرور.
وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبد اللَّه الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعدما كان استتابه عفا ذُكر عنه من الاعتزال.
وفي رمضان انقضَّ كوكب سُمع له دويّ كدويّ الرَّعد، ووقع في سلخ شوال بَرَدٌ لم يُعهد مثله، واستمر ذلك إلى العشرين من ذي الحجّة، وجمد الماء طول هذه المدّة، حتى حافات دجلة والأنهار الكبار، وقاسى الناس شدّة عظيمة، وتأخّر المطر، وزيادة دجلة، وقلّة الزراعة، وامتنع كثير من
(1)
في (ط): جبلت.
(2)
في (ط): ترومها.
(3)
في الوفيات: الأقذاء.
(4)
وفيات الأعيان (3/ 381).
(5)
في المنتظم (8/ 24): الإصفهسلارية.
الناس عن التصرُّف. ولم يحجّ أحد من العراق وخراسان لفساد البلاد والطرقات.
وممن توفي فيها من الأعيان:
قاضي القضاة، ابن أبي الشوارب
(1)
أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن العبّاس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشيُّ الأمويُّ.
قاضي قضاة بغداد بعد ابن الأكفاني بثنتي عشرة سنة، وكان عفيفًا نَزِهًا، وقد سمع الحديث من أبي عمرو الزاهد، وعبد الباقي بن قانع، إلا أنّه لم يحدّث. قاله ابن الجوزي.
وحكى الخطيب البغدادي عن شيخه أبي العلاء الواسطي: إنّ أبا الحسن هذا كان آخر من ولي الحكم ببغداد من سلالة محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وقد ولي الحكم من سلالته أربعة وعشرُون، منهم ثمانية قضاء القضاة ببغداد.
قال أبو العلاء: وما رأينا مثل أبي الحسن هذا جلالةً ونزاهةً، وصيانةً وشرفًا.
وقد ذكر القاضي الماوردي: أنَّه كان له صديقًا وصاحبًا، وأن رجلًا من خيار الناس أوصى له بمئتي دينار، فحملها إليه الماورديّ فأبى أن يقبلها، فجهد عليه كلّ الجهد فلم يفعل، وقال: أسألك اللَّه لا تذكر هذا لأحد ما دمتُ حيًّا، ففعل [الماوردي] فلم يخبر عنه إلا بعد موته [وكان ابن أبي الشوارب فقيرًا إليها وإلى ما هو دونها فلم يقبلها]، وتوفي في شوال من هذه السَّنة.
جعفر بن باي
(2)
أبو مسلم الجيلي، سمع ابن بطّة، ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ثقة ديّنًا فاضلًا، توفي في رمضان من هذه السنة.
عمر بن أحمد بن عَبْدويه
(3)
أبو حازم الهُذَليّ النيسابوري.
سمع ابن نجيد والإسماعيلي وخلقًا، وسمع منه الخطيب وغيره، وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه، توفي يوم عيد الفطر منها.
علي بن أحمد بن [عمر بن] حفص
(4)
أبو الحسن [المقرئ]، المعروف بالحَمَّامي.
(1)
تاريخ بغداد (5/ 47)، المنتظم (8/ 25)، سير أعلام النبلاء (17/ 359)، الوافي بالوفيات (8/ 35)، النجوم الزاهرة (4/ 264)، شذرات الذهب (3/ 206).
(2)
المنتظم (8/ 27)، وقد تحرف اسم أبيه إلى بابي. وتحرف في الأصل و (ط) إلى: أبان. توضيح المشتبه (1/ 299). وكذلك تحرفت نسبته في المنتظم إلى: الختلي، وفي الأصل إلى: الحليّ.
(3)
المنتظم (8/ 27).
(4)
تاريخ بغداد (11/ 329)، المنتظم (8/ 28)، الكامل في التاريخ (9/ 356)، معرفة القراء الكبار (1/ 302)، سير أعلام النبلاء (17/ 402)، شذرات الذهب (3/ 208)، توضيح المشتبه (3/ 297).
سمع النجَّاد، والخُلْدي، وابن السمَّاك، وغيرهم، وكان صدوقًا فاضلًا، حسن الاعتقاد، وتفرّد بأسانيد القِراءات وعلوها. توفي في شعبان من هذه السنة عن تسع وثمانين سنة.
صاعد بن الحسن بن عيسى الرَّبَعي البغدادي اللُّغوي
(1)
.
صاحب كتاب "الفصوص في اللغة" على طريقة القالي في الأمالي، صنّفه للمنصور بن أبي عامر، فأجازه عليه خمسة آلاف دينار، ثمّ قيل له: إنّه كذابٌ متَّهم فيما ينقله، فأمر بإلقاء الكتاب في نهرٍ؛ فقال له في ذلك بعض الشعراء:
قَدْ غَاصَ في البَحْرِ كِتَابُ الفُصُوص
…
وَهَكَذا كُلُّ ثَقيلٍ يَغُوص
فلمّا بلغ صاعدًا هذا البيت قال:
عادَ إلى عنصرِهِ ولهما
…
يخرُجُ من قعرِ البحورِ الفصوص
قلتُ: كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الاسم ليشاكل به "الصحاح" للجوهري، لكنه كان مع فضيلته وبلاغته، وعلمه، متَّهمًا بالكذب يما يرويه وينقله، فلهذا رفض الناس كتابه ولم يشتهر بينهم، وقد كان ظريفًا، ماجنًا، سريع الجواب، سأله رجل أعمى على سبيل التهكُّم بحضرة جماعة فقال له: ما الجرنفل؟ فأطرق ساعة، وعرف أنَّه افتعل هذه اللَّفظة، ثمّ رفع رأسه فقال: هو الذي يأتي نساء العميان لا يتعداهنّ إلى غيرهنّ؛ فاستحيا ذلك الأعمى، وضحك الحاضرون، وقد كانت وفاته في هذه السنة.
القَفَّال المَرْوَزي
(2)
هو أبو بكر عبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه القَفّال.
أحد أئمّة الشافعية الكبار علمًا، وزهدًا، وحفظًا، وتصنيفًا، وورعًا، وإليه تُنْسَبُ الطريقة الخُراسانية، ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني، والقاضي حسين، وأبو علي السِّنْجيّ.
قال ابن خلِّكان: وأخذ عنه إمام الحرمين، وفيما قاله نظر، لأنّ سِنّ إمام الحرمين لا يحتمل ذلك، فإن هذا القفّال توفي في هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بسجستان، وإمامُ الحرمين وُلدَ سنة تسع عشرة وأربعمئة، بعد وفاة القفال بسنتين، ومات سنة ثمان وسبعين كما سيأتي، وإنما قيل له: القفّال لأنَّه كان يعمل الأقفال، ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة، ثمّ أقبل على الاشتغال بعد ذلك، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
وفيات الأعيان (3/ 488)، جذوة المقتبس (223)، نفح الطيب (3/ 75).
(2)
وفيات الأعيان (3/ 46)، سير أعلام النبلاء (17/ 405)، طبقات السبكي (5/ 53)، النجوم الزاهرة (4/ 265)، شذرات الذهب (3/ 207).
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمئة
في ربيع الأوّل وقع بَرَدٌ أهلك شيئًا كثيرًا من الزروع والثمار، وقتل خلقًا كثيرًا من الغَنم والوحوش.
قال ابن الجوزي
(1)
: وقد قيل: إنَّه كان في كلّ بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالًا، وفي بغداد [بلغت] بقدر البيض.
وفي ربيع الآخر سألت الإسفهسلارية والغلمان من الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار لتهاونه بأمرهم [وفساده]، وفساد الأمور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدَّولة الذي كانوا قد عدلوا عنه أوّل مرة، فماطلهم الخليفة في ذلك، وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الأوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الأمر، وألحّ أولئك على الخليفة في جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام.
وفي هذه السنة ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سُبُكْتِكين، أنَّه دخل بلاد الهند أيضًا، وأنَّه كسر الصنم الأعظم الذي لهم، المسمّى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كلِّ فجٍّ عميق، ويُنْفِقُون عنده من الأموال شيئًا كثيرًا جدًا، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالًا، وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمئة يحلقون [رؤوس] حجيجه، وثلاثمئة وخمسون يغنّون ويرقصون على باب الصنم، [كما يُضرب على بابه الطبولُ والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وكان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصَّنم]، وقد كان العبد، يعني الملك محمود بن سُبُكْتكين، يتمنى قلع هذا الصنم، وكان يعوقه عنه طول المفاوز، وكثرة الموانع، ثمّ استخار اللَّه تعالى، وتجشّم بجيشه تلك الأهوال إليه في ثلاثين ألفًا ممن اختارهم سوى المُطَّوِّعة، فسلّم اللَّه تعالى، حتى انتهينا إلى بلد هذا الوثن، [ونزلنا بساحة عباده فإذا هو مكان قدر المدينة العظيمة، فما كان أسرع أن] ملكناه، وقتلنا من أهله خمسين ألفًا، وقلعنا هذا الوثن، وأوقدنا تحته النّار، وللَّه الحمد.
وقد ذكر غير واحد أنَّ الهنود بذلوا أموالًا جزيلة للملك محمود بن سُبُكْتِكين ليترك لهم هذا الصَّنم الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء بقبول تلك الأموال الجزيلة، فقال: حتى أستخير اللَّه تعالى، فلمّا أصبح قال: إني فكرت في هذا الأمر، فرأيت أنّه إذا نوديت يوم القيامة فيقال: أين محمود الذي كسر الصَّنم، أحبُّ إليَّ من أن يقال: أين محمود الذي ترك الصنم [لأجل ما يناله من الدنيا؟] ثمّ عزم فكسره
(1)
المنتظم (8/ 29).
فوجد عليه وفيه من الذهب واللآليء والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه بأضعافٍ مضاعفةٍ، مع ما ادَّخر اللَّه تعالى له من الأجر الجزيل في الآخرة، والثناء الجميل في الأولى، فرحمه اللَّه وأكرم مثواه.
وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد، فتلقاه الخليفة في الطيّار
(1)
، ومعه الأكابر والأعيان، فلمّا واجهه جلال الدولة قبَّل الأرض دفعاتٍ، ثمّ سار إلى دار المُلْك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يُضْرَبَ له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الأمر في زمن عضد الدولة وصمصامها وشرفها وبهائها، فكان الخليفة يُضْرَبُ له في أوقات الصلوات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك، فقيل: لا يحسن مساواة الخليفة، ثمّ صمم على ذلك في الأوقات الخمس.
قال ابن الجوزي
(2)
: وفيها: وقع بَرْد شديد حتى أجمد الخَلَّ، والنبيذ، وأبوال الدواب، والمياه الكبار، وحافات دجلة، ولم يحجّ في هذه السنة أحد من أهل المشرق.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الصمد بن المهتدي باللَّه
(3)
أبو عبد اللَّه الشاهد.
خطب في جامع المنصور من سنة ست وثمانين وثلاثمئة، ولم يكن يخطب إلا بخطبة واحدة في كلِّ جمعة، وإذا سمعها الناس منه ضجّوا بالبكاء، وخشعوا لصوته.
الحسين بن علي بن الحسين
(4)
أبو القاسم المغربي [الوزير].
ولد بمصر في ذي الحجّة سنة سبعين وثلاثمئة، وهرب منها حين قَتَل صاحبُها [الحاكم] أباه وعمَّه [محمدًا]، وقصد مكّة، ثمَّ الشام، ووزر في عدَّة أماكن، وقد وزر لشرف الدولة بعد الرخجي، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الرجل الصالح:
إذا شِئْتَ أنْ تَحيا سعيدًا
(5)
فلا تكنْ
…
عَلَى حَالَةٍ إلا رَضِيْتَ بِدُونِها
فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه: تركت المناصب في عنفوان شبابك، فأنشأ يقول:
(1)
الطيار: نوع من السفن السريعة.
(2)
المنتظم (8/ 31).
(3)
المنتظم (8/ 31).
(4)
المنتظم (8/ 32)، الكامل في التاريخ (9/ 321)، وفيات الأعيان (2/ 172)، سير أعلام النبلاء (17/ 394)، النجوم الزاهرة (4/ 266)، شذرات الذهب (3/ 210).
(5)
في (ط): غنيًا.
كنتُ في سفرةِ البَطَالةِ والجهلِ
…
زمانًا فحانَ منِّي القُدومُ
(1)
تبتُ من كُلِّ مَأْثَمٍ فَعَسَى يُمْـ
…
ـحى بهَذَا الحَدِيْثِ ذَاكَ القَدِيْمُ
بعد خمسٍ وأربعينَ تعدَّتْ
…
ألا إن الإله القَدِيمَ كريمُ
(2)
وقد كانت وفاته بميّافارقين في رمضان هذه السنة عن خمس وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي بحيلة احتالها قبل وفاته، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن الحسين بن إبراهيم
(3)
أبو بكر الورّاق، المعروف بابن الخَفّاف.
روى عن القَطِيعي وغيره، وقد اتّهموه بوضع الأسانيد والأحاديث، قاله الخطيب وغيره.
أبو القاسم اللالِكائي
(4)
هِبة اللَّه بن الحسن بن منصور الرازي، وهو طبريّ الأصل.
أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان يفهم، ويحفظ، وعني بالحديث، فصنَّف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنيّة قبل أن تنتشر أكثر كتبه، وله كتاب في السنّة وشرفها، وذكر طريقة السَّلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجّار عاليًا عنه، وقد كانت وفاته بالدِّينَوَر في رمضان من هذه السنة، ورآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربّك؟ قال: غفر لي. قال: بماذا؟ قال [بشيء قليل من] السنة [أحييته]، رحمه الله.
أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر باللَّه
(5)
توفي ليلة الأحد الثاني من جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرّة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزنًا شديدًا، وقطع الطبل أيامًا.
(1)
في (ط):
كنت في سفر الجهل والبطـ
…
ـالة حينًا فحان مني القدوم
وفي الوفيات:
كنت في سفرة الغواية والجهـ
…
ـل مقيمًا فحان مني القدوم
(2)
في الوفيات:
بعد خمس وأربعين، لقد ما
…
طلتُ، إلا أن الغريم كريم
(3)
تاريخ بغداد (2/ 250)، المنتظم (8/ 33)، الشذرات (3/ 210). وقد ورد اسمه في (ط): محمد بن الحسن.
(4)
تاريخ بغداد (14/ 70)، المنتظم (8/ 34)، الكامل في التاريخ (9/ 364)، سير أعلام النبلاء (17/ 419)، شذرات الذهب (3/ 211).
واللالكائي: نسبة إلى بيع اللوالك التي تلبس في الأرجل، أي: صانع النعال. اللباب (3/ 401).
(5)
المنتظم (8/ 34).
أبو الحُسين
(1)
بن طَبَاطِبَا الشريف
(2)
.
كان شاعرًا مجيدًا، له شعر حسن.
الأستاذ أبو إسحاق الإسْفراييني
(3)
: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مِهران، الشيخ الإمام العلامة ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلِّم الأصولي.
صاحب التصانيف في الأصلين منها: "جامع الحلي"
(4)
في خمسة مجلدات، و"التعليقة النافعة في أصول الفقه" وغير ذلك، وقد سمع الحديث الكثير من أبي بكر الإسماعيلي، ودعلج، وغيرهما.
وأخذ عنه البيهقي، والشيخ أبو الطيّب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، وكانت وفاته يوم عاشوراء من هذه السنة بنيسابور، ثمّ نُقِل إلى بلده فدفن في مشهده، رحمه اللَّه تعالى.
[القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة]
(5)
أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسن القُدُوريّ الفقيه الحنفي، صاحب "المصنف المختصر"
(6)
الذي يُحفظ.
كان إمامًا بارعًا، عالمًا ديِّنًا، مناظرًا، وكان هو الذي يلي مناظرة الشيخ أبي حامد الإسفراييني [من الخليفة]، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم وأنظر من الشافعي، وكانت وفاته يوم الأحد الخامس من رجب هذه السنة عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخُوارزمي الحنفي.
(1)
في بعض النسخ: "الحسن"، وما أثبتناه يعضده ما وجدناه بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 304).
(2)
المنتظم (8/ 34).
(3)
وفيات الأعيان (1/ 28)، سير أعلام النبلاء (17/ 353)، الوافي بالوفيات (6/ 104)، طبقات السبكي (4/ 256)، شذرات الذهب (3/ 309).
(4)
كذا الأصل بالحاء المهملة، وكذلك في الوفيات، وفي السير: الخلي، بالخاء المعجمة.
(5)
تاريخ بغداد (4/ 377)، المنتظم (8/ 91)، وفيات الأعيان (1/ 78)، سير أعلام النبلاء (17/ 574)، الوافي بالوفيات (7/ 320)، الجواهر المضيئة (1/ 347)، النجوم الزاهرة (5/ 24)، شذرات الذهب (3/ 233).
قال ابن خلّكان: ونسبته، القدوري بضم القاف والدال المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة، إلى القدور التي هي جمع قِدْرٍ، ولا أعلم سبب نسبته إليها، بل هكذا ذكره السمعاني في كتاب الأنساب.
قال بشار: وذكر وفاته في هذه السنة غلط بيّن من المؤلف رحمه الله، فقد ذكر الخطيب -وهو ممن كتب عنه- أنه توفي في التاريخ المذكور من سنة ثمان وعشرين وأربعمئة، وبه أخذ الذهبي وغيره، بل سيذكره المؤلف نفسه في حوادث سنة (427 هـ) حيث كان مشارفًا في الانفاق على سنة قنطرة عيسى. ثم ستأتي ترجمته في وفيات سنة 428 هـ.
(6)
المختصر في فروع الحنفية: من الكتب المعتمدة في فقه الحنفية، اشتهر باسم الكتاب، له عدة طبعات، وفي تاريخ التراث العربي لسزكين (2/ 109) ذكر لشروحه وأماكن وجود نسخها الخطية.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمئة
فيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة، ونهبوا دار وزيره، وجرت أمورٌ طويلة، آل الحال فيها إلى أنَّهم اتفقوا عنى إخراجه من البلد، فهيئ له زبزب
(1)
رثّ فخرج وفي يده طَبَرٌ
(2)
نهارًا، فجعلوا لا يلتفتون إليه، ولا يُفكِّرون فيه، فلما عزم على الركوب في ذلك الزبزب الرثّ، رثوا له، ورقّوا عليه [ولهيبته]، فجاؤوا إليه وقبّلوا الأرض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها.
وفي هذه السنة قلَّ الرطب جدًّا بسبب هلاك النخل في هذه السنة الماضية بالبَرَد: فبيع الرطب كلُّ ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع بَرَد شديد أيضًا، فأهلك شيئًا كثيرًا من النخيل أيضًا.
ولم يحجّ أحد من أهل المشرق ولا من الديار المصريّة في هذه السنة، إلا أن قومًا من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مُكْرَان
(3)
فانتهوا إلى جدّة فحجّوا، رضي الله عنهم، ورحمهم بمنِّه وكرمه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
حمزة بن إبراهيم [بن عبد اللَّه] أبو الخطاب المنجّم
(4)
.
حظي عند بهاء الدولة، وعلّمه النجوم، وكان ذا وجاهة عنده، حتى إنّ الوزير والأمراء كانوا [يخافونه] ويكارمونه، ويراسلونه، ويتوسّلون به إليه في أمورهم ثمّ صار أمره [طريدًا بعيدًا] حتى مات يوم مات بالكرخ من سامراء غريبًا فقيرًا مفلوجًا، قد ذهب ماله وجاهه [وعقله]، لا إله إلا اللَّه وحده.
محمد بن محمد بن محمد
(5)
بن إبراهيم بن مَخْلَد أبو الحسن التاجر
(6)
.
سمع الكثير على المشايخ المتقدِّمين وتفرّد بعلوّ الإسناد، وكان ذا مالٍ جزيلٍ، فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة ثمّ عاد إلى بغداد، فاتفق مصادرة أهل محلته. فقسّط عليه ما أفقره، ومات حين مات لم يوجد له كفن [ولم يترك شيئًا، فأرسل له القادر باللَّه ما كُفِّن به].
(1)
الزبزب: ضرب من السفن.
(2)
الطَّبَر: الفأس.
(3)
مكران: ولاية بين كرمان من غربيها وسجستان شماليها، والبحر جنوبيها، والهند في شرقيها. معجم البلدان (5/ 179).
(4)
المنتظم (8/ 36)، الكامل في التاريخ (9/ 363).
(5)
سقط هذا الاسم من (ط).
(6)
المنتظم (8/ 37)، تاريخ بغداد (3/ 231)، الكامل في التاريخ (9/ 370)، سير أعلام النبلاء (17/ 370).
مبارك الأنْماطي
(1)
كان ذا مالٍ جزيلٍ، خلّف يوم توفي ثلاثمئة ألف دينار ولم يترك وارثًا سوى ابنةٍ واحدةٍ ببغداد، وكانت وفاته بمصر.
أبو الفوارس بن بهاء الدولة
(2)
كان ظالمًا ماردًا، إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مئتي مقرعة، بعدما يحلّفه بالطلاق أنّه لا يتأوّه، ولا يخبر بذلك أحدًا، فيقال: إنّ حواشيه سمُّوه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.
أبو محمد بن بابشاذ، وزير كاليجار
(3)
لقَّبَهُ معزّ الدولة، فلك الدولة، سيد الأمّة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثمّ سُلّم [بعد ذلك] إلى جلال الدولة، فاعتقله، ومات في هذه السنة.
أبو عبد اللَّه المتكلِّم
(4)
توفي في هذه السنة، هكذا رأيت ابن الجوزي، ترجمه مختصرًا.
ابن غَلْبُون
(5)
أبو محمد، عبدُ المُحسن بن محمد بن أحمد بن غالب
(6)
، الشّاميُّ ثمّ الصّوريُّ، الشاعر المطبق، له ديوان شعر مليح بليغ كان قد نظم قصيدة بليغة في بعض الرؤساء ثمّ أنشدها لرئيس آخر اسمه: ذو المنقبتين، وزاد فيها بيتًا واحدًا فقال فيها:
ولكَ المناقِبُ كُلُّها
…
فَلِمَ اقتصرْتَ على اثْنَتَينِ
فأجازه جائزة حسنة
(7)
، فقيل له: إنَّها ليست فيك، فقال: إن هذا البيت وحده بقصيدة، وله -رحمه اللَّه تعالى- في بخيلٍ نَزَلَ عنده:
وَأخ مَسَّهُ نُزُولي بِقَرْحٍ
…
مثل ما مسّني من
(8)
الجوع قَرْحُ
(1)
المنتظم (8/ 37).
(2)
المنتظم (8/ 37)، الكامل في التاريخ (8/ 368).
(3)
المنتظم (8/ 37) وفيه اسمه: أبو محمد بابشاذ.
(4)
المنتظم (8/ 38).
(5)
وفيات الأعيان (3/ 232)، سير أعلام النبلاء (17/ 400)، النجوم الزاهرة (4/ 269)، شذرات الذهب (3/ 211).
(6)
وقع في بعض النسخ: "بن غالب بن غلبون"، ولا يصح بهذه الصيغة إذا كتب في الأول عنوان الترجمة لأن غالبًا هو غلبون، ولذلك كتب الإمام الذهبي في حاشية نسخته بعد أن كتب اسم غالب "خ غلبون" أي هو كذلك في نسخة أخرى. والظاهر أن المصنف نقل هذه الترجمة من تاريخ دمشق لابن عساكر (36/ 482 - 485) وأن النسخة التي اعتمدها كتب فيها نسبه:. . . غالب بن غلبون" وفي مثل هذه الحالة لعين وضع فاصلة بين "غالب" و"ابن غلبون" ليعرف أن المراد: المعروف بابن غلبون وينظر تاريخ الإسلام (9/ 308)(بشار).
(7)
في (ب): سنية.
(8)
في (ط): منه.
بِتُّ ضَيْفًا لَهُ كَمَا حَكَمَ الدَّهْـ
…
ـرُ وفي حُكْمِهِ على الحرِّ قُبح
(1)
فابْتَدَانِي يَقُولُ وهُوَ مِن الـ
…
ـسكْرِ بالهَمِّ طافِحٌ لَيْسَ يَصْحُو
لِمْ تَغَرَّبْتَ قُلْتُ قَال رسول اللَّـ
…
ـهِ والقولُ مِنْهُ نُصْحٌ ونُجْحُ
"سافروا تَغْنموا" فقال وقدْ
…
قالَ تَمامُ الحديثِ: "صُوموا تصحّوا"
(2)
ثم دخلت سنة عشرين وأربعمئة
فيها: سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه بَرَدٌ كبار. قال ابن الجوزي
(3)
: حزرت البَرَدة الواحدة منه بمئةٍ وخمسين رطلًا، وغاصت في الأرض نحوًا من ذراع.
وفيها: ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سُبُكْتِكين أنه أحلّ بطائفة من أهل الريّ الباطنية والروافض قتلًا ذريعًا، وصَلْبًا شنيعًا، وأنّه انتهت إليه أموال رئيسهم رستم بن علي الدَّيلمي، فحصّل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حُرّة، قد ولدنَ له ثلاثًا وثلاثين ولدًا من ذكر وأنثى، وكانوا يرون الإباحة [في ذلك].
وفي رجب من هذه السنة انقضت كواكبُ كثيرةٌ شديدةُ الصوت قويةُ الضَّوء.
وفي شعبان كَثُرَت العملات
(4)
، وضعف رجال المعونة عن مقاومة العيّارين، وفي يوم الإثنين الثاني
(5)
والعشرين منه، غار ماء دجلة
(6)
حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الأرحاء، وتعذَّر الطحن.
وفي هذا اليوم جُمِعَ القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقُرئ عليهم كتاب جمعه أمير المؤمنين القادر باللَّه، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل السنّة، والردِّ على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بِشْرٍ المَرِيسي
(7)
وعبد العزيز بن يحيى الكِناني
(8)
من المناظرة، ثمّ خَتَمَ
(1)
في (ط): فتح.
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (8312) من حديث أبي هريرة بلفظ "اغزوا تغنموا" وصوموا تصحوا، وسافروا "تستغنوا" وإسناده ضعيف (ع).
(3)
المنتظم (8/ 38).
(4)
العملات: السطو على المنازل.
(5)
في (ط): الثامن عشر من رجب.
(6)
في المنتظم (8/ 40) وتاريخ الإسلام للذهبي (9/ 188): الفرات.
(7)
بشر المريسي هو ابن غياث بن أبي كريمة العدوي، كان من كبار الفقهاء، أخذ عن القاضي أبي يوسف، وناظر الشافعي، ثم نظر في الكلام فغلب عليه، ودعا إلى القول بخلق القرآن. توفي في سنة 218. ترجمته في تاريخ بغداد (7/ 56)، وفيات الأعيان (1/ 277)، سير أعلام النبلاء (10/ 199).
(8)
عبد العزيز بن يحيى الكناني، تفقه بالشافعي واشتهر بصحبته، وكان من أهل العلم والفضل، وله مصنفات عدة =
القول بالوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة لما سمعوه.
وفي يوم الإثنين غرة ذي القعدة جُمعوا أيضًا كلّهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنّة والردّ على أهل البدعة، ومناظرة بِشْر المريسي والكناني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذ خطوطهم بموافقة ما سمعوا، وعُزِلَ خُطباء الشيعة، ووُلّي خطباءٌ غيرهم من أهل السّنَّة، وجرت فتنة عظيمة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السنيّ بالآجر، حتى كسروا أنفه، وخلعوا كتفه، وانتصر له الخليفة فأهان الشيعة، وأذلَّهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما وقع، وإنَّه ما تعاطاه إلا سفهاؤهم، وسقطهم، ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحجّ، واللَّه أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسن بن أبي العِيس
(1)
أبو علي الزاهد.
أحد العبّاد أصحاب الأحوال، دخل على بعض الوزراء فقبّل يده، فعوتب الوزير في ذلك فقال: كيف لا أقبّل يدًا ما امتدت قطّ إلا إلى اللَّه تعالى.
علي بن عيسى بن الفَرج بن صالح
(2)
أبو الحسن الرَّبَعي.
أخذ العربيّة عن أبي سعيد السِّيرافي، ثمَّ عن أبي علي الفارسي، ولازمه عشرين سنة، حتى كان يقول: قولوا له: لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدًا أنحى منه، وكان يومًا يتمشى على شاطئ دجلة إذ نظر إلى الشريفين: الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جنّي فقال لهما مداعبًا: من أعجب الأشياء أن عثمان معكما، وعلي بعيد منكما يمشي على شاطئ دجلة [فضحكا، وقالا: باسم اللَّه].
وكانت وفاته في المحرّم من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، ودفن بباب الدير، ويقال: إنه لم يشيع جنازته سوى ثلاثة أنفس.
= تظهر فيها آثار الشافعي عند ذكر الخصوص والعموم. توفي سنة 240 هـ. ترجمته في: تاريخ بغداد (10/ 449)، طبقات السبكي (2/ 144)، شذرات الذهب (2/ 95).
(1)
المنتظم (8/ 45)، الكامل في التاريخ (9/ 394) والعيس كذا وردت في (أ) و (ب) وفي (ط): القين، وفي المنتظم والكامل: الهبيش.
(2)
المنتظم (8/ 46)، الكامل في التاريخ (9/ 392)، سير أعلام النبلاء (17/ 392)، الوفيات (3/ 336) وقال في نسبته الرَّبعي: بفتح الراء والباء الموحدة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى ربيعة، ولا أعلم أهو ربيعة بن نزار أم غيره، فقد جاءت هذه النسبة إلى جماعة اسم كل واحد منهم ربيعة، واللَّه أعلم.
أسد الدولة
(1)
أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكِلابيّ.
أول ملوك بني مِرداس بحلب، انتزعها من يد نائب الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجّة سنة سبع عشرة وأربعمئة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر، فاقتتلوا فقُتِل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده نصر.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمئة
فيها: توفي الملك الكبير [المجاهد الغازي فاتح بلاد الهند] محمود بن سُبُكْتِكين، رحمه اللَّه تعالى. لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل المجاهد [الثاغر المرابط، المؤيَّد، المنصور، يمين الدولة، أبو القاسم محمود بن سُبُكْتِكين صاحب بلاد غَزْنة، ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرًا، وكاسرُ أصنامهم وبدودهم وأوثانهم
(2)
كسرًا، وقاهر جنودهم، وسلطانهم الأعظم فسرًا، وقد تمرّض نحوًا من سنتين، لم يضطجع فيها على فراش، ولا توسّد وسادًا، بل كان ينام قاعدًا حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته، وصرامته، وقوّة عزمه، وله من العمر ستون سنة، وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد، فلم يتمّ أمره حتى غافصه
(3)
أخوه مسعود بن محمود فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان إليه مما يليه، وفتحه هو بنفسه من بلاد الكفّار من الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرَّت له الممالك شرقًا وغربًا في تلك النواحي في أواخر هذا العام، وجاءته الرسل من كلّ ناحية، ومن كلّ ملك همام بالتحية والإكرام، [وبالخضوع التام] وستأتي ترجمة محمود في الوفيات.
وفيها: استحوذت السريّة التي كان بعثها الملك محمود إلى بلاد الهند على أكبر مدائنهم، وهي المسمّاة نَرْسَى، دخلوها في نحو من مئة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهارًا كاملًا، [ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآليء واليواقيت] ولم يدر أكثر أهلها بشيء لاتساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر، طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الأموال والتحف [والأثاث] ما لا يحدّ ولا يوصف، حتى قيل: إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل إلى هذه المدينة جيش من جيوش المسلمين، لا قبل هذه السنة ولا بعدها [وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرًا ومالًا، بل قيل: إنه لا توجد مدينة أكثر منها مالًا ورزقًا مع كفر أهلها، وعبادتهم الأصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا
(1)
وفيات الأعيان (2/ 487)، الكامل في التاريخ (9/ 392).
(2)
البدود جمع بُدّ: بيت فيه أصنام وتصاوير.
(3)
غافصه: فاجأه، وأخذه على غرة.
سلام، وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق: من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة]
(1)
.
وفي هذه السنة: عملت الروافض بالكرخ بدعتهم الشنعاء [وحادثتهم الصلعاء]
(2)
في يوم عاشوراء من تعليق المسوح
(3)
، وتغليق الأسواق، والنواح والبكاء في الأزقة والأرجاء، فأقبل أهل السُنة إليهم في الحديد، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقُتِلَ من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن كبيرة [وشرور مستطيرة].
وفي هذه السنة: مرض أمير المؤمنين القادر باللَّه، وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر اللَّه، بمحضر من القضاة والوزراء والكبراء، وخطب له بذلك على المنابر، وضرب اسمه على السكة المتعامل بها.
وفيها: أقبل ملك الروم من قسطنطينية في ثلاثمئة ألف مقاتل، فسار حتى بلغ بلاد حلب وعليها شِبْلُ الدولة نصر بن صالح بن مِرْداس، فنزلوا على [مسيرة] يوم منها، ومن عزم ملك الروم قبّحه اللَّه، أن يستحوذ على بلاد الشام بكمالها، وأن يستردّها إلى ما كانت عليه في أيْديهم قبل الإسلام، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:" [إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و] إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده"
(4)
، وقيصر هو من ملك الشام مع بلاد الروم، فلا سبيل لملك الروم إلى هذا الرَّوْم الذي أراده هذا المذموم، فلما حصل بجيشه قريبًا من حلب كما ذكر، أرسل اللَّه عليهم عطشًا شديدًا، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل بالأمر من بعده، ففهم ذلك ملك الروم، فكرّ من فوره راجعًا [{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}] [الأحزاب: 25] ولمّا كروا راجعين إلى بلادهم اتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلًا ونهارًا، وكان في جملة ما أخذوا أربعمئة بغلٍ محملةٍ مالًا وثيابًا للملك، وهلك أكثر الروم جوعًا وعطشًا ونهبتهم الأعراب من كلِّ جانب.
وفيها: ملك جلال الدولة واسطًا، واستناب ولده عليها، وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة، ففتح البطائح، وسار في الماء إلى البصرة، وعليها نائب لأبي كاليجار، فهزمهم البصريون، فسار إليهم جلال الدين والدولة بنفسه، فدخلها في شعبان هذه السّنة، ودقت البشائر فرحًا ببغداد.
(1)
الخبر في الكامل في التاريخ (9/ 395 - 396).
(2)
الصلعاء: الداهية الشديدة والشنيعة.
(3)
المسوح: جمع مسح، وهو الكساء من الشعر.
(4)
الحديث أخرجه البخاري (3618) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (75/ 2918) في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.
وفيها: جاء سيل عظيم بغزنة، فأهلك شيئًا كثيرًا من الزروع والأشجار.
وفي رمضان منها تصدّق مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين بألف ألف درهم، وأجرى أرزاقًا [كثيرة] للفقهاء والعلماء ببلاده على عادة أبيه من قبله، وفتح بلدانًا كثيرة، واتسعت ممالكه جدًا، وعَظُمَ شأنه، وقَوِيَتْ أركانه، وكَثُرَتْ جُنْدُه، وأعوانه.
وفيها: دخل خلق كثير من الأكراد إلى بغداد، يسرقون خيلَ الأتراك ليلًا، فتحضن الناس، وحصّنوا أنفسهم [فأخذوا] خيولهم حتّى خيل السلطان.
وفيها: سقط جسر بغداد، وهو الذي عند الدبّاس على نهر عيسى.
وفيها: وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف، ورمتهم الأتراك بالنشاب، وجرت خبطة عظيمة، ثمّ اصطلحت الحال بين الفريقين.
وفيها: كثرت العملات ببغداد، وأُخِذَتِ الدور جهرة؛ وكثُر العيّارون، ولصوص الأكراد.
وفيها: تعطّل الحجّ أيضًا، من بلاد العراق وخراسان، لفساد البلاد، ولم يحجّ سوى سرية من أهل العراق ركبوا من جِمَال البادية مع الأعراب مخاطرة، ففازوا بالحجّ، واللَّه أعلم.
ذكر من توفي هذه السنة من الأعيان:
أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد أبو الحسن الواعظ، المعروف بابن الرَّان
(1)
، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة، فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالزيادة
(2)
القبليّة حيث كان يجلس القصّاص، قال ذلك الحافظ ابن عساكر، قال: وصنّفَ كتبًا في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة قال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول: سمعت أبا طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر يقول: سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد اللَّه الرَّاني ينشد أبياتًا:
أنا ما أصنَعُ باللذْ
…
ذاتِ شُغْلِي بِالذنُوبِ
إنَّما العيدُ لمنْ فا
…
زَ بحَظٍّ من حَبِيْبِ
أصْبحَ الناسُ على رَوْ
…
حٍ ورَيْحانٍ وطِيْبِ
ثمَّ أصْبَحتُ على نَوْ
…
حٍ وحُزْنٍ وَنَحِيْبِ
فَرِحُوا حِيْنَ أهَلُّوا
…
شَهْرَهُمْ بَعْدَ المَغِيْبِ
وَهِلالي مُتَوارٍ
…
مِنْ وَرَا حُجْبِ الغُيُوبِ
(1)
في (ط): أكرات. خطأ. والران نسبة إلى مدينة بين مراغة وزنجان.
(2)
في (ط): الرفادة. خطأ.
فَلِهَذَا يَا خَلِيْلِي
…
قُلْتُ لِلَّذَّاتِ غِيْبِي
(1)
وَجَعَلْتُ الهَمَّ والحُزْ
…
نَ من الدنيا نصيبي
يَا حَيَاتي ومَمَاتي
…
وسَقَامي
(2)
وطَبِيبي
جُد لصَبٍّ
(3)
يتلظّى
…
مِنْكَ بالرَّحْبِ الرَّحِيْبِ
ثم أرَّخ وفاته لعشر بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بمسجد القدم.
الحسين بن محمد الخَلِيع الشاعر
(4)
له ديوان شعر حسن مليح [عمّر طويلًا]، ووفاته في هذه السنة عن سنٍّ عالية.
الملك الكبير
(5)
، الشهيد العادل، محمود بن سُبُكْتِكين أبو القاسم الملقّب بيمين الدولة، وأمين الملّة، صاحب بلاد غَزْنة وما والاها، وجيشه يقال لهم: السّامانية، وكان أبوه قد تملّك عليهم، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمئة، فتملك بعده ولده [محمود] هذا، فسار فيهم وفي سائر الرعايا سيرة عادلة، وقام بأعباء الإسلام قيامًا تامًا، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه في العالمين، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه [لعدله وجهاده وما أعطاه اللَّه إيّاه]، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسيّ القادر باللَّه. وكانت رسل الفاطميين من الديار المصريّة تَفِد عليه بالكتب والهدايا والتحف، [لأجل أن يكون من جهتهم] فيخرِّق بهم، ويقطع كتبهم [وهداياهم]، ويحرّق حُلَلَهم، وقد اتفق له في الهند فتوحات [هائلة] لم تتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغَنِم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط كثرة من الذهب واللآليء والسبي، وكسّر من أصنامهم وأبدادهم وأوثانهم شيئًا كثيرًا جدًا [وأخذ من حليِّها] بيّض اللَّه وجهه، وقد ذكرنا ذلك مفضلًا فيما سلف مُفَرَّقًا في السنين [المتقدمة من أيامه]، كان [من جملة] ما كسر من الأصنام بدٌّ عظيم للهنود يقال له: سومنات، بلغ ما تحصّل منه من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الكبير الذي يقال له: جبيال
(6)
وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك خان، وأباد ملك السامانيّة، وقد ملكوا بخراسان مئة سنة
(1)
في (ط):
فلهذا قلت للذا
…
ت غيبي ثم غيبي
(2)
في (ط): شقائي.
(3)
في (ط): لنفس.
(4)
المنتظم (8/ 51).
(5)
المنتظم (8/ 52)، الكامل في التاريخ (9/ 139)، وفيات الأعيان (5/ 175)، طبقات السبكي (5/ 314)، الجواهر المضية (2/ 157)، النجوم الزاهرة (4/ 373)، سير أعلام النبلاء (17/ 483)، شذرات الذهب (3/ 220).
(6)
في (ط): صينال.
بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا، وبنى على جيحون جسرًا [تعجز الملوك والخلفاء عنه] غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك، وكان معه في جيشه أربع مئة خيل تقاتل، وهذه مرتبة هائلة، ومرتبة طائلة، وجرت له فصول، ذكر تفصيلها يطول، وكان [مع هذا] في غاية الديانة والصيانة، [وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئًا ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرًا في مملكته ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها]، وكان يُحب العلماء والمحدثين، ويُكرمهم ويُجالِسهم ويحسن إليهم، [ويحب أهل الخير والدين والصلاح] وكان حنفي المذهب، ثمّ صار شافعيًّا على يدي أبي بكر القفال الصغير، على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان كرّاميًا على اعتقادهم، وكان من [جملة] من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، تناظر هو وأبو بكر بن فُورك بين يدي محمود بن سُبُكْتكين في مسألة العرش، مناظرة طويلة، ذكرها ابن الهيضم في مصنّف له، فمال [السلطان] محمود بن سُبُكْتِكين إلى قول ابن الهيضم [ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمئة، وكان عادلًا جيدًا].
اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه وعلى أهله في كلِّ وقت، فيخرجه من البيت، ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلّما اشتكاه إلى أحد من أولي الأمر، لا يتجاسر على إقامة الحدِّ عليه، يهابون الملك [فلما سمع الملك ذلك غضب غضبًا شديدًا]، وقال له: ويحك! متى جاءك فأتني فأعلمني، ولا تسمعنّ من أحد منعك من الوصول إليّ، ولو كان في الليل، [ثم إن الملك] تقدَّم إلى الحَجَبَةِ، أنّ هذا لا يمنعه أحد متى جاء من ليلٍ أو نهارٍ، [فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله] فذهب باكيًا إلى دار الملك، فقيل له: إن الملك نائم، فقال: وقد تقدّم إليكم بما سمعتم، فنبَّهوا الملك، فخرج معه بنفسه وحده، وجاء منزل ذلك الرجل، فنظر إلى الغلام وهو نائم مع المرأة في فراش الرجل، وعندهما شمعة تقد، فتقدّم الملك فأطفأ الضوء، ثم جثا فاحتز رأس الغلام، وقال للرجل: ويحكَ الحقني بشربة من ماء، فسقاه ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل: سألتك باللَّه لم أطفأت الشمعة؟ فقال: ويحك! إنه ابن أختي كرهت أن أشاهده حالة الذبح، فقال: ولم طلبت الماء سريعًا؟ فقال: إني كنت آليت [على نفسي] منذ أخبرتني أن لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى [أنصرك و] أقوم بحقك، فكنت عطشانًا هذه الأيام [كلَّها]، حتى كان ما رأيت، فدعا له، وانصرف [الملك راجعًا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد] رحمه اللَّه تعالى.
وكان مرضه سوءَ مزاجٍ اعتراه، وانطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراشٍ، ولا يتّكئ على شيء لقوّة بأسه [وسوء مزاجه]، بل يستند إلى مخادٍّ توضع له، ويحضر مجلس ملكه، ويفصل بين الناس على عادته، حتى مات وهو كذلك، في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، عن ثلاث وستين سنة، ملك منها ثلاثًا وثلاثين سنة، وخلف من الأموال شيئًا كثيرًا، من ذلك:
سبعون رطلًا من جوهر [الجوهرة منه لها قيمة عظيمة]، وقام بالأمر من بعده ولده محمّد، ثمّ صار الملك إلى ابنه الآخر مسعود بن محمود، فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مجلّدًا في سيرته، وأيامه، وأحكامه، وفتوحاته، وممالكه، فأفاد.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وأربعمئة
فيها: كانت وفاة القادر باللَّه، وخلافة ابنه القائم باللَّه، على ما سيأتي تفصيله. وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين السنّة والروافض، فقويت عليهم السُّنّة، وقتلوا خلقًا منهم، ونهبوا الكرخ، ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود لأنهم نُسبوا إلى معاونة أهل الكرخ من الروافض، وتعدّى النهب إلى دور كثيرة [وانتشرت الفتنة جدًا ثمّ سكنت بعد ذلك، وفيها كثرت العملات]، وانتشرت المحنة بأمر العيّارين في أرجاء البلد، وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دورًا وأماكن سِرًّا وجهرًا، ليلًا ونهارًا، فلا حول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم.
خلافة القائم باللَّه أبي جعفر عبد اللَّه بن القادر باللَّه
بويع له بالخلافة لمّا توفي أبوه القادر باللَّه، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر باللَّه بن المعتضد ابن الأمير أبي أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور في ليلة الإثنين الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة عن ستّ وثمانين سنة، وعشرة أشهر، وواحد وعشرين يومًا، ولم يعمّر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، من ذلك في الخلافة إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر، وهذا أيضًا شيء لم يسبقه أحد في ذلك، وأمّه أم ولد اسمها تمنِّي مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان رحمه الله حليمًا كريمًا، محبًّا لأهل العلم والدين والصلاح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة السَّلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنّفات كانت تقرأ على الناس، وكان أبيض، حسن الجسم، طويل اللِّحية، عريضها، يخضّبها، وكان يقوم اللَّيل، كثير الصَّدقة، محبًّا للسّنة وأهلها، يُبغض البِدعة والقائمين بها، وكان يُكثر الصَّوم ويبرّ الفقراء من إفطاره، يبعث منه إلى المجاورين [بالحرمين] ولجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زيّ العامَّة، فيزور قبور الصالحين، وقد ذكرنا طرفًا صالحًا من سيرته عند ذكر ولايته، في سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة، وجلسوا في عزائه سبعة أيام، لعظم المصيبة فيه، ولتوطيد البيعة لولده القائم باللَّه أبي جعفر عبد اللَّه بن القادر باللَّه، وأمّه قطر النَّدى، أرمنيّة أدركت خلافته، وكان مولده في يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمئة، وكانت بيعته بحضرة القضاة، والأمراء، والكبراء، والأعيان، فكان أول من بايعه الشريف المرتضى، وأنشده قصيدة هائلة منها:
فإمّا مضى جَبَلٌ وانْقَضى
…
فمنكَ لَنا جَبَلٌ قَدْ رَسَا
وإنّا فُجِعنا ببدرِ التَّمام
…
فَقَدْ بَقِيَتْ منه شَمْس الضُّحَى
لَنا حزَنٌ في مَحَلِّ السُّرورِ
…
فَكَم ضحكٍ في خِلال
(1)
البكا
(2)
فَيَا صارِمًا أغْمَدتْه يَدٌ
…
لنَا بَعدَكَ الصَّارِمُ المنْتَضى
ولَمّا حَضَرْنا لِعَقْدِ البياعِ
…
عَرَفْنا بِهَدْيِكَ طُرُقَ الهُدَى
فقابَلْتَنا بِوقارِ المَشيْبِ
…
كَمَالًا وسِنُّكَ سِنُّ الفَتَى
وطالَبتِ الأتراكُ برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شيء [يعطيهم] لأن أباه لم يترك مالًا، فكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك جلال الدَّولة، مالًا جزيلًا، نحوًا من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا.
ولم يحجّ أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب [فحجّوا].
وممن توفي فيها من الأعيان والكبراء [غير الخليفة]:
الحسن بن جعفر
(3)
أبو علي بن مَاكُوْلا، الوزير لجلال الدولة، وقد تقدّم أنه بُعث إلى البطيحة ففتحها، ورام أخْذَ البصرة فلم يمكنه ذلك، وقاتلوه دونها، فأسروه، فسأل أن يُذْهب به إلى الملك أبي كاليجار فعفا عنه، وأطلقه، فلمّا صار إلى الأهواز، تعامل عليه غلام له وجارية، فقتلاه في ذي الحجة من هذه السنة عن ست وخمسين سنة.
عبد الوهّاب بن علي
(4)
بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك بن طَوْق صاحب الرَّحْبَة، التَّغْلبيّ، البغداديّ، أبو محمد، أحد أئمّة المالكيّة، ومصنّفهم، ومنصفهم، له كتاب "التلقين" يحفظه الطلبة، وله غيره في الفروع والأصول، وقد أقام ببغداد دهرًا، وولي قضاء بادرايا، وباكسايا
(5)
، ثم خرج من بغداد لضيق حاله بها، فلما دخل مصر أكرمه المغاربة، وأعطوه ذهبًا كثيرًا، وتموّل وسعد جدًا، فأنشأ يقول متشوّقًا إلى بغداد ومعالمها:
سَلامٌ على بَغْدادَ في كُلِّ مَوْقِفٍ
…
وَحُقَّ لَها مِنِّي سَلامٌ مضَاعفُ
(1)
في (ط): محل.
(2)
في المنتظم: الرجا.
(3)
في المنتظم: (8/ 61).
(4)
تاريخ بغداد (11/ 31)، المنتظم (8/ 61)، الكامل في التاريخ (9/ 422)، وفيات الأعيان (3/ 219)، سير أعلام النبلاء (17/ 429)، النجوم الزاهرة (4/ 276)، شذرات الذهب (3/ 223).
(5)
بادرايا وباكسايا: بليدتان من أعمال العراق. معجم البلدان (1/ 316 و 327 و 499).
فَواللَّهِ ما فارقْتُها عَنْ قِلًا
(1)
لها
…
وَإنِّي بِشَطَّي جَانِبَيْها لَعَارِفُ
وَلَكنَّهَا ضَاقَت عَليَّ بِأَسْرِهَا
…
وَلَمْ تَكُنِ الأَرْزَاقُ فيها تُساعِفُ
فَكَانَتْ كَخِلٍّ كُنْتُ أهْوَى دُنُوَّهُ
…
وَأَخْلاقُهُ تَنْأى بِهِ وَتُخَالِفُ
قال الخطيب البغدادي
(2)
: سمع القاضي عبد الوهّاب من ابن السّماك وكتب عنه، وكان ثقة، ولم نرَ في المالكية أحدًا أفقه منه.
وقال القاضي ابن خلِّكان
(3)
في الوفيات عنه: عندما وصل إلى الديار المصريّة، حصل له شيء من المال وحسن حاله، مرض من أكلة اشتهاها، فذُكر عنه أنّه كان يتقلّب ويقول: لا إله إلا اللَّه، عندما عشنا متنا، قال: وله أشعار رائقة ظريفة، فمن ذلك قوله:
وَنائِمةٍ قَبَّلْتُها فَتَنَبَّهَتْ
…
وَقَالَتْ تَعَالوا فاطلبُوا اللصَّ بالحَدِّ
فَقُلْتُ لها إنّي لَثَمْتُكِ
(4)
غاصبٌ
…
وَمَا حَكَمُوا في غاصِبٍ بسوى الرّدِّ
خُذِيْها وَفُكِّي
(5)
عن أثيمٍ ظُلامةً
…
وإنْ أنتِ لم تَرضيْ فألفًا من
(6)
العدِّ
فَقَالَتْ قِصَاصٌ يَشْهدُ العقلُ أنَّهُ
…
على كَبِدِ الجَانِي ألذُّ مِنَ الشَّهْدِ
فباتت يميني وهي هِمْمِانُ خصْرِهَا
…
وبَاتَتْ يسَاريْ وهْيَ وَاسِطَةُ العِقْدِ
فقَالَتْ: ألَمْ أخبرْ
(7)
بأنَّكَ زاهدٌ
…
فَقُلْتُ: بَلَى، ما زِلْتُ أزْهَدُ في الزُّهْدِ
ومما إنشده ابن خلِّكان
(8)
للقاضي عبد الوّهاب المالكي رحمه الله:
بَغْدادُ دارٌ لأهْلِ المالِ طَيِّبَةٌ
…
وَللمَفاليسِ دَارُ الضَّنْكِ والضِّيْقِ
ظَلَلْتُ حيرانَ أمشي في أزِقَّتها
…
كأنَّني مُصْحَفٌ في بَيْتِ زِنْدِيْقِ
(9)
(1)
في (ط): ملالة.
(2)
تاريخ بغداد (11/ 31 - 32).
(3)
وفيات الأعيان (3/ 221).
(4)
في (ط) والسير: فديتك.
(5)
في (ط) والسير: كفي.
(6)
في (ط) والسير: والوفيات: على.
(7)
في (ط) تخبر.
(8)
وفيات الأعيان (3/ 221).
(9)
في الوفيات: دار زنديق.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمئة
في سادس المحرم [منها] استسقى أهل بغداد لتأخر الأمطار عن أوانها، فلم يسقوا، وكثر الموت في الناس.
ولما كان يوم عاشوراء عملت [الروافض] البدعة الشنعاء، وكثر النوح والبكاء، وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق والأرجاء.
ثم في صفر أمر الناس بالخروج إلى الاستسقاء لقحوط البلاد، فلم يخرج من أهل بغداد باتساعها [وكثرة أهلها] مئة إنسان في الجوامع كلّها.
وفيها: وقع بين الجيش وبين جلال الدولة، فاتفق الحال على خروجه إلى البصرة، فردّ كثيرًا من جواريه إلى أساتيذهنّ قبله، واستبقى بعضهن، وخرج من بغداد، ليلة الإثنين سادس ربيع الأول من هذه السنة، وكتب الغلمان والإسفهسلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فقد تمهّدت له البلاد، ولم يبق أحد من أهل العناد، ولا الحسّاد، ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها، وتأخّر مجيء أبي كاليجار، وذلك أنّ وزيره العادِل بن صافنة، أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد [فأطاعه في ذلك]، فكثرت العيارون ببغداد، وتفاقم الحال بهم، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الأسوق، وجعل أبو كاليجار يتوهم من الأتراك، ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل، فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة أن يرجع إلى بلده، وشرعوا في الاعتذار إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، ثمّ رجع بعد ثلاث وأربعين ليلة إلى بغداد، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك أبي كاليجار، وممن بعث إليه: القاضي أبو الحسن الماوردي، يسلّم عليه ويستوحش منه، فدخلوا عليه وقد تجمّل تجمّلًا عظيمًا، فسأل أن يلقب بالسلطان المعظّم مالك الأمم [فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لأن السلطان المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الأمم] ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة. فأرسل مع الماوردي بتحفٍ عظيمٍ منها ألف ألف دينار سابورية وغير ذلك، ومن الدراهم آلاف [مؤلّفة]، وتحف وألطاف، واجتمع الجند على طلب أرزاقهم من الخليفة فتعذّر ذلك، فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم يصلّ الجمعة في هذا الوقت، ثمّ خطب له من الجمعة القابلة، وتخبّط البلد جدًا، وكثر العيارون. ثم في ربيع الآخر من هذه السنة حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النيّة وصفائها، وأنه على ما يحب من الصدق، وصلاح النيّة والسرير
(1)
. ثم وقع بينهما بسبب لعب جلال الدولة، وشربه النبيذ وتهتُّكه به، ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد.
(1)
أورد ابن الجوزي نص القسم في المنتظم (8/ 86).
وفي رجب غلت الأسعار جدًا ببغداد، وغيرها من أراضي العراق، ولم يحجّ أحد منها.
وفي هذه السنة: وقع مُوتان عظيم ببلاد الهند وغزنة، وخراسان وجرجان والريّ وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة، أربعون ألف جنازة، وفي نواحي الجبل والموصل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل دار من مصاب به، واستمرّ ذلك في حزيران، وتموز، وآب، وأيلول، وتشرين الأول، والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف، قاله ابن الجوزي في المنتظم
(1)
.
وقد رأى رجل من أهل السنة من أصبهان، في منامه مناديًا [ينادي] بصوت جَهْوَري: يا أهل أصبهان، سكت، نطق، سكت، نطق. فانتبه الرجل مذعورًا، فلم يدر أحد تأويلها، حتى قيل ذلك لرجل لبيب فقال: احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية:
سَكَتَ الدَّهرُ زَمانًا عَنْهُمُ
…
ثُمَّ أبْكَاهُمْ دَمًا حين نطق
فما كان غير قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، حتى قتل أناسًا في الجوامع والصوامع معتكفين، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.
وفي هذه السنة: ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم صندل فقتله، وكان قد استحوذ على مملكته، ولم يبق له معه سوى الاسم، فاستراح منه.
وفيها: مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه بَدْرخان، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
رَوْح بن محمد بن أحمد أبو زُرْعة الرازي
(2)
.
قال الخطيب
(3)
: سمع جماعة وقدم علينا حاجًّا، فكتبت عنه، وكان صدوقًا فهمًا، أديبًا، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان، قال: وبلغني أنّه مات بالكرخ سنة ثلاث وعشرين وأربعمئة.
علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نُعيم بن الحسن البصري المعروف بالنُّعيمي
(4)
الحافظ، الشاعر، المتكلّم، الفقيه الشافعي.
(1)
المنتظم (8/ 68).
(2)
تاريخ بغداد (8/ 410)، المنتظم (8/ 70)، سير أعلام النبلاء (17/ 51)، طبقات السبكي (4/ 479).
(3)
تاريخ بغداد (8/ 410).
(4)
تاريخ بغداد (11/ 331)، المنتظم (8/ 70)، سير أعلام النبلاء (17/ 445)، طبقات السبكي (5/ 237)، النجوم الزاهرة (4/ 277)، شذرات الذهب (3/ 226).
قال البَرْقاني: هو كامل في كلِّ شيء لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة، ومن شعره الحسن قوله:
إذا أظْمَأتْكَ أكُفُّ اللِّئَامِ
…
كَفَتْكَ القَنَاعةُ شِبْعًا وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ في الثَّرَى
…
وهَامةُ هِمَّتِهِ
(1)
في الثُّرَيَّا
أبيًّا لتأمِيل
(2)
ذي ثَرْوَةٍ
(3)
…
تَرَاهُ بما في يَدَيْهِ أبِتَّا
فَإنَّ إرَاقَةَ مَاءِ الحَيَا
…
ةِ دُونَ إرَاقَةِ مَاءِ المُحَيَّا
(4)
محمّد بن الطيّب بن سعد بن موسى أبو بكر الصّبّاع
(5)
.
حدّث عن النّجاد وأبي بكر الشافعي، وكان صدوقًا، وقد حكى الخطيب البغدادي
(6)
: أنّه تزوّج بتسعمئة
(7)
امرأة، وذكر أنّه توفي عن خمس وتسعين سنة، رحمه اللَّه تعالى.
علي بن هلال الكاتب المشهور
(8)
.
ذكر ابن خلِّكان
(9)
: أنّه توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث عشرة كما قدمنا.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمئة
فيها: تفاقم الحال بأمر العيّارين، وتزايد أمرهم، وأخذهم العملات [الكثيرة]، وقوي أمر مقدَّمهم البُرجُمي، وقُتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت النهبات في اللّيل والنهار، واحتفظ الناس بدورهم وحرسوها، حتى دار الخليفة، وسور البلد، وعظم الخطب بهم جدًا. وكان من شأن هذا البرجمي أنّه لا يؤذي امرأة، ولا يأخذ مما عليهن شيئًا، وهذه مروءة في الظلم. فيقال له
(10)
:
"حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض"
(1)
في (ط): همه.
(2)
في السير: لنائل.
(3)
في (ط): أبيًا لنائل ذي نعمة.
(4)
الأبيات في تاريخ بغداد (11/ 332).
(5)
تاريخ بغداد (5/ 383)، المنتظم (8/ 71)، سير أعلام النبلاء (17/ 424)، النجوم الزاهرة (4/ 277).
(6)
تاريخ بغداد (5/ 383).
(7)
في بعض النسخ: بسبعمئة. وما هنا هو الذي في (ط) ومصادر ترجمته، وهو الذي جوده الذهبي بخطه في تاريخ الإسلام (9/ 392)(بشار).
(8)
تقدمت ترجمته.
(9)
وفيات الأعيان (3/ 343).
(10)
في (ط): وهذا كما قيل.
وفيها: أخذ جلال الدولة البصرة، وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها الخطبة لأبيه، وقطعت منها خطبة أبي كاليجار هذه السنة والتي بعدها، ثمّ استُرجعت من يد جلال الدولة، وأخرج منها ولده، ورجعت الخطبة لأبي كاليجار.
وفي هذه السنة: ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة لتأخر أرزاقهم. وأخرجوه من داره، ورسموا عليه في مسجده، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الأتراك معه، وحَلَفوا له على السمع والطاعة، ورجع إلى داره، وكثر العيارون ببغداد، واستطالوا على الناس ليلًا ونهارًا، وإسرارًا وإجهارًا.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق وخراسان لفساد الطرقات.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن الحسين بن أحمد
(1)
أبو الحسين الواعظ، المعروف بابن السمّاك.
ولد سنة ثلاثين وثلاثمئة، وسمع جعفر الخُلْدي وغيره، وكان يعظ بجامع المنصور، وجامع المهديّ، ويتكلّم على طريقة التصوّف، وقد تكلَّم بعض الأئمة فيه، ونُسِبَ إلى الكذب، توفي في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة، ودفن بباب حرب، واللَّه تعالى أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمئة
فيها: غزا السلطان مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين بلاد الهند، وفتح حصونًا كثيرة، فكان من جملتها أنَّه حاصر قلعة حصينة، فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، وأخذت مكنسة فبلّتها، ورشّتها على ناحية جش المسلمين، فمرض السلطان مسعود تلك الليلة مرضًا شديدًا، فارتحل عن تلك القلعة، فلمّا استقلّ ذاهبًا عنها، عوفي عافية كاملة ورجع إلى غزنة سالمًا.
وفيها: تولّى البساسيري حماية الجانب الغربي من بغداد لما تفاقم أمر العيّارين، وكثر شرّهم وفسادهم.
وفيها: ولي سنان بن سيف الدولة عريب بن محمد بن معان بعد وفاة أبيه، فقصد عمّه قرواشًا، فأقرّه وساعده على استقامة أموره.
وفيها: هلك ملك الروم أرمانوس، فملكهم من بعده رجل ليس من بيت ملكهم، وقد كان
(1)
المنتظم (8/ 76)، الكامل في التاريخ (9/ 432)، تاريخ الإسلام (9/ 396).
صيرفيًا في بعض الأحيان، إلا أنه من سلالة الملك قسطنطين، باني المدينة التي لهم.
وفيها: كثرت الزلازل بمصر والشام فهدّمت شيئًا كثيرًا، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرَّملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطعًا، وخرج أهلها منها [هاربين]، فأقاموا ظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال، فعادوا إليها، وسقط حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزّة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية بإزائها بأهلها، وبقرها، وغنمها، وساخت في الأرض، وكذلك قرى كثيرة هنالك، ذكره ابن الجوزي
(1)
.
وكان غلاء شديد ببلاد إفريقية.
وعصفت ريح سوداء بنصيبين فأتلفت شيئًا كثيرًا من الأشجار، حتى من التوت والجوز والعنَّاب، واقتلعت قصرًا مشيدًا بحجارة وآجر وكلس [فألقته وأهله فهلكوا]، ثم سقط مطر معه بَرَد، أمثال الأكفّ والزنود والأصابع، وجَزَرَ البحر من تلك الناحية ثلاثة فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع الماء عليهم، فهلك منهم خلق كثير.
وفيها: كثر الموت بالخوانيق، حتى كان يُغلق الباب على من في الدار كلّهم قد مات. وكان أكثر ذلك ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة تسعون ألفًا.
وفيها: وقعت الفتنة بين السّنة والروافض، حتى بين العيّارين من الفريقين، ومنع ابنا الأصبهاني وهما مقدما عيّاري أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة، فضاق عليهم النطاق، وقُتِل ابن البُرجُمي وأخوه في هذه السنة.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن أحمد
(2)
بن غالب
(3)
الحافظ، أبو بكر، المعروف بالبَرْقاني.
(1)
المنتظم (8/ 77).
(2)
سقطت من بعض النسخ، وهي ثابتة في (ط) ومصادر ترجمته.
(3)
تاريخ بغداد (4/ 373)، المنتظم (8/ 79)، تاريخ دمشق (7/ 168)، مختصر تاريخ دمشق (3/ 225)، سير أعلام النبلاء (17/ 464)، الوافي بالوفيات (7/ 331)، طبقات السبكي (4/ 47)، النجوم الزاهرة (4/ 280)، شذرات الذهب (3/ 228).
قال السمعاني في الأنساب (2/ 156) البرقاني: نسبة إلى قرية من قرى كاث بنواحي خوارزم، خرب أكثرها، وصارت مزرعة، وهي بفتح الباء. وقال ياقوت: وبعضهم يقول بكسرها.
ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمئة، وسمع الكثير، وجمع كتبًا كثيرة جدًا، وكان عالمًا بالقرآن والفقه والحديث، والنحو، وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة.
قال الأزهري: إذا مات البَرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أنفس منه
(1)
.
وقال غيره: ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث.
توفي يوم الخميس مستهلّ رجب، وصلّى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي، ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له الحافظ ابن عساكر من شعره قوله:
أعَلَّلُ نَفْسِي بِكَتْبِ الحَدِيثِ
…
وَأحملُ فيهِ لها الموْعِدا
وَأشْغلُ نَفْسي بتَصْنِيفِهِ
…
وَتَخْرِيجهِ دَائمًا سَرْمَدَا
فَطَوْرًا أُصَنِّفُه في الشُّيوخِ
…
وَطَوْرًا أُصَنِّفُه مُسْنَدا
وَأقْفُو البُخاري فيما نَحَاه
…
وَصَنَفَهُ جَاهِدًا مُجهدَا
وَمُسْلِم إذْ كَانَ زينَ الأنَامِ
…
بِتَصْنِيْفِهِ مُسْلِمًا مُرشِدا
وَمَا لي فِيْهِ سِوَى أنَّني
…
أرَاهُ هَوًى صَادفَ المَقصِدَا
وَأرْجُو الثوابَ بكَتْبِ الصَّلاةِ
…
عَلَى السيِّد المُصْطَفَى أحْمَدا
أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد أبو العباس الأبْيِوَرْدي
(2)
.
أحد أئمة الشافعيّة من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، ويدرس في قطيعة الربيع، وولي الحكم ببغداد نيابة عن ابن الأكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبورًا على الفقر، كاتمًا له، وكان يقول الشعر الجيد، كان كما قال اللَّه عز وجل:{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
توفي رحمه اللَّه تعالى في جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب.
الحسن بن عبيد اللَّه بن يحيى
(3)
الشيخ أبو علي البَنْدَنِيجي.
أحد أئمة الشافعيّة، وتلاميذ أبي حامد الإسفراييني، ولم يكن في أصحابه مثله [تفقه و] درّس وأفتى وحكم ببغداد، وكان ديّنًا ورعًا. توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة أيضًا، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
في (ط) وتاريخ بغداد: أتقن منه.
(2)
المنتظم (8/ 80)، الأنساب (1/ 128)، وذكر أن نسبته إلى أبيورد من بلاد خراسان.
(3)
تاريخ بغداد (7/ 343)، المنتظم (8/ 81)، الكامل في التاريخ (9/ 439).
عبد الوهّاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد
(1)
أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي الواعظ.
سمع من أبيه أثرًا مسلسلًا عن علي "الحنَّان: الذي يُقْبِل على من أعرض عنه، والمنّان: الذي يبدأ بالنَّوال قبل السؤال".
توفي في ربيع الأول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل.
غريب بن محمد بن معن بن سيف الدَّولة
(2)
أبو سِنان، كان قد ضرب السكّة باسمه، وكان ملكًا متمكِّنًا في الدَّولة، وخلَّف خمسمئة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوَّى بعقه قرواش، فاستقامت أموره به، وكانت وفاته بكرخ سامرّاء عن سبعين سنة، رحمه الله وإيّانا بمنِّهِ وكرمِهِ.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمئة
في المحرّم كثر تردد الأعراب في قطع الطريق إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث كانوا يستلبون ما على النِّساء، ومن أسروه أخذوا ما معه، وطالبوه بفداء نفسه، واستفحل أمر العيَّارين ببغداد، وكثرت شرورهم وإفسادهم.
وفي مستهلّ صفر زادت دجلة بحيث ارتفع [الماء] على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدّة ثلاثة أيام [نحو] ألفي دار.
وفي شعبان ورد كتاب من مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين بأنّه قد فتح فتحًا عظيمًا في الهند، وقتل منهم خمسين ألفًا، وأسر تسعين ألفًا، وغنم شيئًا كثيرًا.
ووقع فتنة بين البغاددة والعيّارين، ووقع حريق كثير في أماكن متعددة منها، واتّسع الخرق على الراقع، ولم يحجّ أحد من أهل العراق وخراسان في هذا العام.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن كُلَيب الشاعر
(3)
وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في "المنتظم" بسنده من طريق أبي عبد اللَّه الحُميدي بسنده، أن أحمد بن كليب هذا المُعَثَّر
(4)
، تعشّق شابًا يقال له: أسلم بن أبي الجعد من بني خالد، وكان فيهم وزارة وحجابة، فأنشد فيه أشعارًا تحدّث الناس بها، وهذا
(1)
المنتظم (8/ 81)، الكامل في التاريخ (9/ 439).
(2)
الكامل في التاريخ (9/ 439) واسمه فيه غريب بن محمد بن مقن.
(3)
المنتظم (8/ 83).
(4)
في (ط): "المغتر"، وما هنا أصوب.
[الشاب] كان يطلب العلم في مجالس المشايخ [فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه] استحيا من الناس، وانقطع في داره فلا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كُلَيب به حتى مرض من ذلك مرضًا شديدًا، عاده الناس منه، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ [من العلماء] فسأله عن مرضه فقال: أنتم تعلمون دائي ودوائي، لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة [ونظرته نظرة] واحدة برئت، وإلا فأنا هالك، فرأى ذلك الشيخ من المصلحة أن لو دخل على [أسلم] وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيًا، فلم يزل به حتى [أجابه إلى زيارته] فانطلقا إليه، فلمّا دخلا دربه [ومحلّته] تغيّر الغلام واستحيا من الدخول [عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه وقد ذكرني ونوّه باسمي، هذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم] فحرص به الرجل كلّ الحرص ليدخل عليه فأبى [عليه فقال له: إنّه ميّت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته، فقال: يموت، وأنا لا أدخل مدخلًا يسخط اللَّه عليّ ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعًا إلى دارهم، فدخل الرجل فذكر له ما كان من أمره، وقد كان غلام ابن كُلَيب قد دخل إليه [قبل ذلك] فبشّره بقدوم أسلم عليه، ففرح بذلك جدًا، فلما تحقّق رجوعه [عنه] اختلط كلامه، واضطرب في نفسه، ثمّ قال لذلك الرجل: اسمع يا عبد اللَّه مني، واحفظ عنّي، ثمّ أنشأ يقول:
أسلمُ يا رَاحةَ العَليلِ
…
رِفْقًا على الهائِمِ النَّحِيلِ
وَصْلُكَ أشْهَى إلى فُؤادي
…
مِنْ رحمةِ الخالقِ الجَليلِ
فقال له الرجل: [ويحك] اتقِ اللَّه تعالى! ما هذه العظيمة. فقال: قد كان [ما سمعت]، فخرج الرجل من عنده، فما توسط الدَّرب حتى سمع الصراخ عليه [وسمع صيحة الموت] وقد فارق الدنيا، وهذه مذلَّةٌ شنعاء، وعظيمةٌ صلعاء، وداهية دهياء، ولولا أنّ هؤلاء الأئمة ذكروها لما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لأولي الألباب، وتنبيه لذوي [البصائر و] العقول، أن يسألوا اللَّه رحمته ولطفه بهم، [وأن يستعيذوا باللَّه من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة]، وأن يثبّتهم على الخير والإسلام والسنّة عند الممات، إنّه كريم جواد.
قال الحميدي: وأنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن التميمي لأحمد بن كُليب، وقد أهدى إلى أسلم كتاب "الفصيح" لثعلب وكتب عليه:
هذا كِتابُ الفَصِيحِ
…
بِكلِّ لَفْظٍ مَليحِ
وَهَبْتُه لَكَ طَوْعًا
…
كَما وَهَبْتُك رُوحي
الحسن بن أحمد
(1)
بن إبراهيم بن الحسن بن شَاذَان بن حرب بن مهران أبو علي بن شاذان البَزّاز،
(1)
تاريخ بغداد (7/ 279)، المنتظم (8/ 86)، الكامل في التاريخ (9/ 445)، الجواهر المضية (2/ 38)، =
أحد مشايخ الحديث، سمع الكثير، كان ثقة صدوقًا، جاءه يومًا شاب غريب فقال له: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: اذهب إلى أبي علي بن شاذان، فسل عنه وأقْرِهِ مني السَّلام، ثمّ انصرف الشاب، فبكى الشيخ وقال: ما أعلم لي عملًا أستحقُّ به هذا غير صبري على إسماع الحديث، وصلاتي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كلَّما ذُكِر. توفي بعد شهرين أو ثلاثة [من هذه الرؤيا] في محرَّم هذه السّنة
(1)
عن سبع وثمانين سنة، ودفن بباب الدّير. رحمه اللَّه تعالى.
الحسن
(2)
بن عثمان بن أحمد بن الحسين بن صورة
(3)
أبو عمر الواعظ، المعروف بابن الفلو، سمع الحديث من جماعة، قال ابن الجوزي: وكان يعظ وله بلاغة، وفيه كرم، وكان ثقة، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ومن شعره:
دخلتُ على السلطانِ في دارِ عزِّهِ
…
بِفَقْرٍ، ولم أجْلِب بخيلٍ ولا رَجِلِ
وَقُلتُ انظرُوا ما بينَ فَقْري وَمُلكِكُمْ
…
بمقدارِ ما بَيْنَ الولايةِ والعَزْلِ
توفي في صفر، وقد قارب الثمانين، ودفن في مقبرة باب حرب إلى جانب ابن السّماك، [رحمهما اللَّه].
ثم دخلت سنة سبع وعشرين أربعمئة
في المحرّم تكاملت عمارة قنطرة عيسى التي كانت قد سقطت، وكان الذي يلي مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسن القدوري الحنفي.
وفيه، وفيما بعده تفاقم أمر العيّارين، وكبسوا الدور، وتزايد شرّهم وعملاتهم.
وفيها: توفي صاحب مصر الظاهر لإعزاز دين اللَّه، أبو الحسن علي بن الحاكم بن العزيز بن المعر الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة وأشهر، وكان مدة ولايته ستٍّ عشرة سنة وتسعة أشهر، وكانت سيرته جيّدة، وقام بالأمر من بعده ولده المستنصر، وعمره سبع سنين، واسمه معدّ، وكنيته أبو تميم، وتكفّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل أمير الجيوش، واسمه بدر بن عبد اللَّه الجمالي، وكان الظاهر، المذكور، قد استوزر الصاحب أبا القاسم الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين في
= سير أعلام النبلاء (17/ 415)، النجوم الزاهرة (4/ 280)، شذرات الذهب (3/ 228).
(1)
هكذا قال، والصواب أنه توفي في آخر يوم من سنة خمس وعشرين، ودفن في أول يوم من سنة ستٍّ وعشرين هذه، كما في تاريخ الخطيب وتاريخ الإسلام (9/ 407)(بشار).
(2)
المنتظم (8/ 87).
(3)
في (ط) والمنتظم: سورة.
سنة ثماني عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر ثمّ لولده المستنصر حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في وزارته العقة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد اللَّه القضاعي صاحب كتاب "الشهاب" وكانت علامته عنه: الحمد للَّه شكرًا لنعمته. وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم، لخيانة ظهرت عليه في سنة أربع وأربعمئة، ثمّ استعمله في بعض الأعمال سنة تسع، فلمّا فُقد الحاكم لعنه اللَّه في التاسع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة، ثم تملّك من بعده ولده الظاهر المذكور، تنقّلت بالجرجرائي المذكور الأحوال، حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال:
يا أحمقًا إسمعْ وقلْ
…
وَدَعِ الرقاعةَ والتحامُق
أأقَمْتَ نفسَك في الثِقَا
…
تِ وَهبْك فيما قلْتَ صادقْ
فمنَ الأمانةِ والتُّقى
…
قُطِعتْ يداكَ من المرافِق
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن إبراهيم الثَّعالبي
(1)
ويقال: الثّعْلبيّ أيضًا، وهو لقب وليس بنسبة، النيسابوري المفسّر [المشهور].
له: "التفسير الكبير"، وله كتاب "العرائس"
(2)
في قصص الأنبياء، وغير ذلك، وكان كثير الحديث، واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب الشيء الكثير.
وذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في "تاريخ نيسابور"
(3)
وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل، موثوق به، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمئة.
وقال غيره: توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرّم منها، ورُئيت له منامات صالحة.
قال السمعاني
(4)
: ونيسابور كانت مقصبةً، فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة، و"ني" هو القصب بالفارسية، واللَّه أعلم.
(1)
وفيات الأعيان (1/ 79)، سير أعلام النبلاء (17/ 435)، الوافي بالوفيات (7/ 307)، طبقات السبكي (4/ 58)، النجوم الزاهرة (4/ 283)، شذرات الذهب (3/ 230).
(2)
واسمه: عرائس المجالس في قصص الأنبياء. طبع أكثر من مرة، وفيه كثير من الإسرائيليات والغرائب.
(3)
منتخب السياق، الترجمة رقم 197.
(4)
لم ترد ترجمة الثعلبي في الأنساب، وقد استدرك هذه الترجمة ابن الأثير في اللباب.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمئة
وفيها: خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزَّينبي، وقلّده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين، والصلاة.
وفيها: وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة، وقطعوا خطبته، وخطبة الملك أبي كاليجار، ثمّ أعادوا الخطبة لهما، وصلحت حال جلال الدولة، وحلف الخليفة له، وعزل وزيره ابن ماكولا، واستوزر أبا المعالي بن عبد الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقًا كثيرًا معه، منهم البساسيري، ودبيس بن علي بن مَزيَد، وقرواش بن مقلّد العقيلي، ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهرًا، واصطلح هو وأبو كاليجار على يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوّج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار، واتفقت كلمتهما، وحسن حال الدولة والرعية.
وفيها: وقع مطر ببلاد فم الصلع
(1)
، معه سَمَك وزن السمكة رطل أو رطلان
(2)
.
وفيها: بعث صاحب مصر بمال لينفق على نهر بالكوفة، إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع القائم باللَّه الفقهاء، وسألهم عن هذا المال، فأفتوا بأنّ هذا فيء للمسلمين يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفيها: ثار العيّارون بالبلد، وفتحوا السجن بالجانب الشرقيّ، وأخذوا منه رجالًا، وقتلوا من رجال الشرطة سبعة عشر رجلًا، وانتشرت الفتن والشرور في البلد جدًا.
وفيها: ولي عبد اللَّه بن الحسين بن سلامة إمارة تهامة بعد أبيه.
وفيها: ولي عمان، القاسم بن علي بن الحسين بن مكرم بعد وفاة أبيه أيضًا.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق [وخراسان] في هذه السنة لفساد البلاد واختلاف الكلمة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
القُدُوري الحنفي
(3)
أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو الحسن القُدُوري [البغدادي].
(1)
فم الصلح: اسم نهر كبير بين واسط وجَبُّل، عليه عدّة قرى. معجم البلدان (4/ 276).
(2)
هذا كلام لا يسوى سماعه، فالسماء لا تمطر سمكًا، فلعل النهر فاض بسبب كثرة المطر، فخرج السمك (بشار).
(3)
تاريخ بغداد (4/ 377)، المنتظم (8/ 91)، وفيات الأعيان (1/ 78)، سير أعلام النبلاء (17/ 574)، الوافي بالوفيات (7/ 320)، الجواهر المضية (1/ 247)، النجوم الزاهرة (5/ 24)، شذرات الذهب (3/ 233)، وقد تقدمت ترجمت في وفيات سنة 418.
قال الخطيب
(1)
: سمع الحديث من عبيد اللَّه بن محمد الحَوْشبي، ولم يحدّث إلا بشيء يسير، كتبت عنه، وكان صدوقًا، وكان ممن أنجب في الفقه لذكائه، وانتهت إليه في العراق رئاسة أصحاب أبي حنيفة لذكائه وارتفاع جاهه، وكان برز في القراءات، توفي يوم الأحد الخامس عشر من رجب من هذه السنة عن ست وستين سنة، ودفن بداره في درب خلف، رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن شهاب بن الحسن بن علي بن شهاب
(2)
أبو علي العُكْبَري، الفقيه، الحنبليّ، الشاعر.
ولد سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وسمع من أبي بكر بن مالك وغيره، وكان ثقة أمينًا كما قال البرقاني، وكان يسترزق من الوراقة -وهو النسخ- يقال: إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاثة ليال فيبيعه بمئتي درهم، ولمّا توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار، سوى الأملاك، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقِّهه
(3)
الحنابلة، فلم يصرف ذلك.
لطف اللَّه بن أحمد بن عيسى
(4)
أبو الفضل الهاشميّ.
ولي القضاء والخطابة بدرزيجان
(5)
وكان ذا لسان، وقد أضرّ في آخر عمره، فكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه. وتوفي في صفر منها.
محمد بن أحمد بن علي بن أبي موسى عيسىى
(6)
بن أحمد بن موسى بن محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن معبد بن العباس بن عبد المطلب أبو علي الهاشمي القاضي. أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم.
محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد
(7)
بن موسى
(8)
أبو الحُسين
(9)
الأهْوازي، ويعرف بابن أبي علي الأصْبهاني.
= قال ابن خلِّكان: ونسبته بضم القاف والدال المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة إلى القدور التي هي جمع قدرٍ، ولا أعلم سبب نسبته إليها، بل هكذا ذكره السمعاني في الأنساب (10/ 76).
(1)
تاريخ بغداد (4/ 377).
(2)
تاريخ بغداد (7/ 329)، طبقات الحنابلة (2/ 186)، المنتظم (8/ 92)، الوافي بالوفيات (12/ 55)، سير أعلام النبلاء (17/ 542)، شذرات الذهب (3/ 241).
(3)
كذا في (ط): وفي بعض النسخ: نفقة.
(4)
تاريخ بغداد (14/ 547 ط. د. بشار). المنتظم (8/ 92)، وفي (ط): لطف اللَّه أحمد.
(5)
في (ط): "بدرب ريحان" وهو تحريف، ودرزيجان قرية كبيرة تحت بغداد على دجلة بالجانب الغربي (معجم البلدان 2/ 567)(بشار).
(6)
تاريخ مدينة السلام (2/ 215 ط. د. بشار)، المنتظم (8/ 93).
(7)
في (ط): "محمد بن الحسن بن أحمد بن علي" وما هنا من النسخ، وهو الذي في تاريخ الخطيب (2/ 625 ط. د. بشار) وتاريخ الإسلام (9/ 452)(بشار).
(8)
المنتظم (8/ 93).
(9)
في (ط): "الحسن" وهو تحريف، وما أثبتناه يوافق ما في تاريخ الخطيب وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (بشار).
ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمئة، وقدم بغداد، وخرّج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمع منه البَرْقاني إلا أنَّه بأن كذبه حتى كان بعضهم يسميه: جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثمّ عاد إلى الأهواز، فمات بها في هذه السنة.
[مِهْيار الديلمي الشاعر] مهيار بن مَرْزَوَيْه
(1)
، أبو الحسن الفارسي [الكاتب]، ويقال له: الدَّيْلميّ.
كان مجوسيّا فأسلم، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، فكان ينظم الشعر القويّ الفحل في شيء من مذاهبهم من سبِّ الصحابة، وغير ذلك، حتى قال له أبو القاسم بن برهان
(2)
: يا مهيار! انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى، كنت مجوسيًّا فأسلمت، وصرت تسبُّ الصحابة، وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ، وله ديوان شعر كبير مشهور، فمن مستجاد شعره قوله:
أسْتَنْجِدُ الصّبْرَ فيكُمْ وَهُوَ مُغْلُوبُ
…
وأَسْألُ النّومَ عَنْكُمْ وَهُوَ مَسْلُوبُ
(3)
وَأبْتَغِيْ عِنْدَكُمْ قَلْبًا سَمَحْت
(4)
بِهِ
…
وَكَيْفَ يَرجِعُ شَيءٌ وَهُوَ مَوْهُوبُ
ما كُنْتُ أعْرِفُ مَا مِقْدارُ وَصْلِكُم
(5)
…
حَتّى هَجَرْتُم
(6)
وَبَعْضُ الهَجْرِ تَأْدِيبُ
وله أيضًا رحمه الله وسامحه بمنّه وكرمه-:
أجَارَتَنا
(7)
بالغَوْرِ والرّكبُ مِنْهُمُ
…
أيَعْلَمُ خَالٍ كَيْفَ بَاتَ المُتيَّمُ
رَحَلْتُمْ وَعُمْر اللَّيلِ
(8)
فينا وَفيكُمُ
…
سَواءٌ وَلِكنْ سَاهِرُونَ وَنُوَّمُ
(1)
تاريخ بغداد (13/ 276)، المنتظم (8/ 94)، الكامل في التاريخ (9/ 456)، وفيات الأعيان (5/ 359). قال ابن خلِّكان: ومهيار: بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء.
ومرزويه: بفتح الميم وسكون الراء وفتح الزاي والواو وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم هاء ساكنة، وهما اسمان فارسيان لا أعرف معناهما.
(2)
هو الشيخ الثقة الصالح الحسين بن عمرو بن برهان توفي سنة 412 ترجمته في: سير أعلام النبلاء (17/ 265).
(3)
كذا في (ط): وفي بعض النسخ: مغلوب.
(4)
في المنتظم: سمعت.
(5)
في (ط): حبكم.
(6)
في (ط): هجرت.
(7)
في المنتظم: أجيراننا.
(8)
في (ط): وجمر القلب.
فَبِنْتُم [عَلينا]
(1)
طَاعِنين وَخَلّفُوا
…
قُلُوبًا أبَتْ أَنْ تَعْرِفَ الصَّبْرَ عَنْهُمُ
ولمّا جلا
(2)
التّوْدِيعِ عمّا حَذِرْتُهُ
…
وَلَمْ يَبْقَ إلا نَظْرَةٌ تَتَغَنَّنمُ
(3)
بَكَيْتُ عَلى الوَاديْ فحرَّمْتُ
(4)
مَاءَهُ
…
وكَيْفَ يَحِلُّ الماءُ أكْثَرُهُ دَمُ
(5)
قال ابن الجوزي: ولما كان شعره كلّه جيدًا اقتصرت منه على هذا القدر. وكانت وفاته في جمادى الآخرة.
هبة اللَّه بن الحسن
(6)
أبو الحسين، المعروف بالحاجب.
كان من أهل الفضل والأدب، والتديّن، وله شعر حسن، فمنه قوله:
يا لَيْلَة سَلَكَ الزَّمَا
…
نُ بطِيْبِهَا
(7)
في كُلِّ مَسْلَكْ
إذْ نَرْتَقِي رَوْضَ المَسَرَّ
(8)
…
ة مُدْرِكًا ما لَيْسَ يُدْرَك
والبَدْرُ قَدْ فَضَحَ الظَّلا
(9)
…
مَ وَسِتْرُةٌ
(10)
فيهِ مُهتّك
وكأنَّمَا زَهْرُ النُّجُوْ
…
مِ بِلَمْعِها شُعَلٌ تَحَرَّكْ
وَالغَيْم
(11)
أحْيانًا يلو
…
حُ كَأنَّه ثَوْبٌ مُمسَّكْ
وكأنَّ تَجْعِيدَ الريّا
…
حِ لِدِجْلةٍ ثَوْبٌ مُفرَّك
وَكأنَّ نَشْرَ المِسْكِ أثْـ
…
ـثَر في النسيم إذا تَحَرّك
(12)
وَكأنَّما المنثورُ مُصْفَرُّ
…
الذُرَا ذَهَبٌ مَشَبّك
(13)
والنورُ يبسِمُ في الريا
…
ضِ فإنْ نَظَرتَ إليْهِ سرّك
(1)
في (ط): فبنتم عنا، وفي المنتظم: وتناءيتم من.
(2)
في (ط): خلى.
(3)
في (ط): نظرة لي تغنم.
(4)
في (ط): وحرمت.
(5)
في (ط): وكيف به ماء وأكثره دم.
(6)
المنتظم (8/ 95)، الكامل في التاريخ (9/ 456).
(7)
في (ط): في طيبها.
(8)
في (ط): إذ ترتقي روحي المسرة.
(9)
في (ط): الزمان.
(10)
في (ط): وسره، وفي المنتظم: فستره.
(11)
في (ط): والغيب.
(12)
في (ط):
وكأن نسر المسك ينفـ
…
ـخ النسيم إذا تحرّك
(13)
في (ط): مسبّك.
شَارَطْتُ نفسِي أنْ أقوْ
…
مَ بِحَقِّها والشَّرْطُ أمْلَك
حتّى تَولَّى اللّيْلُ مُنْـ
…
ـهِزِمًا وجَاءَ الصّبْحُ يَضْحَكْ
واه الفتى لو أنه
…
في ظلِّ طِيبِ العيش يُتركَ
(1)
والدهر
(2)
يُحسَبُ عُمْرُهُ
…
فإذا أتاهُ الشّيْبُ فذْلك
وكانت وفاته في رمضان من هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
أبو علي بن سينا
(3)
الطبيب الفيلسوف، الحسين
(4)
بن عبد اللَّه بن سينا، الشيخ الرئيس الذي كان نادرة [وبارعًا في الطب] في زمانه.
كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها ابن سينا فقرأ القرآن، وأتقن علومه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب، والجبر، والمقابلة، وإقليدس
(5)
، والمَجِسطِي
(6)
، ثمّ اشتغل على أبي عبد اللَّه الناتِلي الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه، وتردّد الناس إليه، واشتغلوا عليه وهو ابن ست عشرة سنة، وقد عالج بعض ملوك السّامانيّة وهو الأمير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة سنية، وَحكَّمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب، [والمحاسن ما لا يوجد في غيرها]، ويقال: إنّه عزا بعضها إلى نفسه، وله في الإلهيات، والطبيعيات كتبٌ كثيرةٌ.
قال ابن خلِّكان
(7)
: له نحو من مئة مصنّف صغار وكبار، منها:"القانون" و"الشفاء" و"النجاة" و"الإشارات"، و"سلامان" و"أبسال" و"حىّ بن يقظان" وغير ذلك، قال: وكان من فلاسفة الإسلام، ثمّ أورد له من الأشعار قصيدته التي يقول فيها
(8)
:
(1)
في (ط):
وذا الفتى لو أنه
…
في طيب العيش يترك
(2)
في المنتظم: والمرء.
(3)
تاريخ حكماء الإسلام (52 - 72)، الكامل في التاريخ (9/ 456)، وفيات الأعيان (2/ 157)، تاريخ الإسلام (9/ 438 - 446)، سير أعلام النبلاء (17/ 531)، الوافي بالوفيات (12/ 391)، الجواهر المضية (2/ 63)، النجوم الزاهرة (5/ 25) شذرات الذهب (3/ 234).
(4)
في (ط): الحسن، وهو تحريف.
(5)
إقليدس: رياضي يوناني، علّم الهندسة في الإسكندرية أيام بطليموس ملكها، ووضع مبادئ الهندسة المسطحة، (القرن الثالث ق. م).
(6)
المَجِسطي: كتاب قديم في الفلك، ألفه بطليموس اليوناني (148 ق. م) ومعناه الأكبر، دعي كذلك لأهميته، عَرّبه عن اليونانية حنين بن إسحاق.
(7)
وفيات الأعيان (2/ 160).
(8)
وهي التي تعرف بالقصيدة العينية.
هَبطَتْ إلَيْكَ مِنَ المَحلِّ
(1)
الأرْفَعِ
…
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمنُّعِ
مَحجُوبةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ
…
وَهِيَ الّتي سَفَرَتْ فَلَمْ تَتَبرْقَعِ
وَصَلَتْ عَلى كُرْهٍ إلَيْكَ ورُبّما
…
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهِيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
وهي قصيدة طويلة، وقوله أيضًا:
اجعلْ غِذاءكَ كُلَّ يومٍ مرَّةً
…
وَاحْذَرْ طَعَامًا قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ
وَاحْفَظْ مَنيكَ ما اسْتَطَعْتَ فإنَّهُ
…
مَاءُ الحَياةِ يُصَبُّ في الأرْحَام
وذكر أنّه توفي بالقولنج في همذان، وقيل: بأصبهان -والأول أصح- يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمئة عن ثمان وخمسين سنة، وقد خصّ
(2)
الغزالي كلامه في مقاصد الفلاسفة، ثمّ ردّ عليه في "تهافت الفلاسفة" في عشرين مسألة
(3)
وكفّره في ثلاث مسائل منهنّ، وهي قوله: بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وأنّ اللَّه لا يعلم الجزئيات، وبدّعه في البواقي، ويقال: إنّه تاب عند الموت، فاللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمئة
فيها: كان بدء ملك السلاجقة
(4)
:
وفيها: استولى ركن الدولة أبو طالب طُغْرُلْبَك محمد بن ميكائيل بن سُلجوق على نيسابور، وجلس على سرير ملكها، وبعث أخاه داود إلى سائر بلاد خراسان، فملكها، وانتزعها من نواب الملك مسعود بن محمود بن سُبُكْتكين.
وفيها: قتل جيش المصريين لصاحب حلب، وهو شِبْل الدَّولة، نصر بن صالح بن مِرْداس، واستولوا على حلب وأعمالها.
وفيها: سأل جلال الدولة من الخليفة أن يلقَّب بملك الدولة
(5)
، فأجابه إلى ذلك بعد تمنّع.
وفيها: استدعى الخليفة القائم بأمر اللَّه القضاة والفقهاء، وأحضر جاثليق النصارى،
(1)
في (ط): المقام.
(2)
في (ط): حصر.
(3)
في (ط): مجلسًا.
(4)
ساقطة من (أ).
(5)
كذا في (أ) و (ب) وفي الكامل في التاريخ (9/ 459)، والمنتظم (8/ 97): ملك الملوك.
ورأس جالوت اليهود، وألزموا بالغيار
(1)
.
وفي رمضان لقّب جلال الدولة بشاهنشاه الأعظم ملك الملوك، بأمر الخليفة، وخطب بذلك على المنابر، فنفرت العامة من ذلك، ورموا الخطباء بالآجر، ووقعت فتنة عظيمة، واستُفْتِيَ الفقهاء في ذلك، فأفتى أبو عبد اللَّه الصَّيمري: إن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنيّة وقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] وقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض لتفاضلهم في القوّة والإمكان، وجاز أن يكون بعضهم [فوق بعض و] أعظم
(2)
من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير ولا الممائلة بين الخالق والمخلوق، وكتب القاضي أبو الطيِّب الطبري: إنَّ إطلاق ملك الملوك جائز ويكون معناه: ملك ملوك الأرض، وإذا جاز أن يقال: كافي الكفاة، وقاضي القضاة، جاز ملك الملوك، وإذا كان في اللَّفظ ما يدلّ على أنَّ المراد به ملوك الأرض، زالت الشبهة، ومنه قولهم: اللهمّ أصلح الملك، فينصرف الكلام إلى المخلوقين. وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك أيضًا، وأمّا القاضي الماوردي صاحب "الحاوي الكبير" فنقل عنه أنّه أجاز ذلك أيضًا، والمشهور عنه كما نقله ابن الجوزي
(3)
، والشيخ أبو عمرو بن الصّلاح، في "أدب المفتي" أنّه منع من ذلك، وأصرّ على المنع مع صحبته للملك جلال الدولة، وكثرة ترداده إليه، ووجاهته عنده، وأنَه امتنع من الحضور في مجلسه حتى استدعاه الملك جلال الدولة في يوم عيد، فلمّا دخل عليه دخل وهو وَجِلٌ خائِفٌ أن يوقع به مكروهًا، فلضا واجهه قال له: قد علمت أنَّه إنّما منعك من موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي، ووجاهتك عندي، دينك، واتباع الحقّ، [وإن الحقّ آثر عندك من كلِّ أحد]، ولو حابيت أحدًا من الناس لحابيتني، وقد زادك ذلك عندي محبّةً ومكانةً.
قلت: والذي صار إليه القاضي الماوردي من المنع من ذلك هو السنّة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة من غير وجهٍ. قال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده"
(4)
: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أخنع اسم عند اللَّه يوم القيامة، رجلٌ تسمَّى بملك الأملاك". قال أحمد: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم قال: أوضع.
وقد رواه البخاري
(5)
عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة.
(1)
إلزامهم بلباس يخالفون فيه لباس المسلمين.
(2)
في (ب): أمكن.
(3)
المنتظم (8/ 97).
(4)
مسند أحمد (2/ 242) رقم (7325) من حديث أبي هريرة.
(5)
صحيح البخاري (6205) كتاب الآداب، باب أبغض الأسماء إلى اللَّه ومسلم رقم (2143) وأبو داود رقم (4961) والترمذي رقم (2839) من حديث أبي هريرة (ع).
وأخرجه مسلم
(1)
من طريق همام، عن أبي هريرة، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أغيظ رجل على اللَّه يوم القيامة وأخبثه رجل تسمّى ملك الأملاك، لا ملك إلا للَّه عز وجل". وقال [الإمام] أحمد
(2)
: حدّثني محمد بن جعفر، ثنا عوف عن خلاس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اشتدّ غضب اللَّه على من قتله نبيّ، واشتدّ غضب اللَّه على رجل تسمّى بملك الأملاك، لا ملك إلا اللَّه عز وجل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو منصور
(3)
عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري.
كان إمامًا في اللغة والأخبار وأيام الناس، بارعًا مفيدًا، له التصانيف الكبار في النظم، والنثر، والبلاغة، والفصاحة، وأكبر كتبه:"يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر"
(4)
وفيها يقول بعضهم:
أبياتُ أشْعارِ اليَتِيمَهْ
…
أبكارُ أفْكارِ قَدِيمَهْ
ماتُوا وعَاشَتْ بَعْدَهم
…
فَلِذَاكَ سُمّيت اليَتِيْمَهْ
وإنما سُمي الثعالبي لأنه كان فرّاءً يخيط جلود الثعالب، وله أشعار كثيرة مليحة، ولد سنة خمسين وثلاثمئة، ومات في هذه السّنة
(5)
.
الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي
(6)
، الفقيه الشافعي.
أحد الأئمة في الأصول والفروع، وكان ماهرًا في فنون كثيرة [من العلوم] منها: علم الحساب والفرائض، وكان ذا مال وثروة، أنفقه كلّه على أهل العلم، وصنّف في العلوم، ودرّس في سبعة عشر علمًا، وكان اشتغاله على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وأخذ عنه ناصر المروزي، وغيره، رحمه اللَّه تعالى وإيانا بمنّه وكرمه، وهو حسبي ونعم الوكيل
(7)
.
(1)
صحيح مسلم (2143/ 21) كتاب الآداب، تحريم التسمي بملك الأملاك.
(2)
مسند أحمد (2/ 492) رقم (10333) وهو حديث صحيح (ع).
(3)
وفيات الأعيان (3/ 178)، سير أعلام النبلاء (17/ 437)، شذرات الذهب (3/ 246).
(4)
طبع في دمشق عام 1304 هـ، وفي القاهرة 1943 م، وفي بيروت 1947 م، ثم أعيد طبعه عام 1973 م.
(5)
صحح الذهبي وفاته في سنة (430 هـ) كما في تاريخ الإسلام (9/ 478) وسير أعلام النبلاء (17/ 438)(بشار).
(6)
وفيات الأعيان (3/ 203)، طبقات السبكي (3/ 238).
(7)
ورَّخه الذهبي في وفيات سنة (427 هـ) مختصرًا (9/ 425) نقلًا من إنباه الرواة للقفطي (2/ 185 - 186) ثم أعاده في هذه السنة (9/ 464) نقلًا من السياق لعبد الغافر (كما في المنتخب منه رقم 1190)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 203)(بشار). =
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمئة
فيها التقى الملك مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين، والملك طُغْرُلْبَك السلجوقي ومعه أخوه داود في شعبان، فهزمهما مسعود وقتل من أصحابهما خلقًا كثيرًا.
وفي هذه السنة: خطب شبيب بن وَثّاب
(1)
للقائم بأمر اللَّه بحرّان والرقّة
(2)
، وقطع خطبة المستنصر العبيدي.
وفيها: خوطب أبو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز، وهو مقيم بواسط، وهذا العزيز هو الذي كان آخر من تملّك من بني بويه ببغداد، لما طغوا وبغوا وتمرّدوا وتسمّوا بملك الأملاك -وهو اسم يبغضه اللَّه تعالى- سلبهم ما كان أنعم به عليهم، وجعل الملك إلى غيرهم، قال اللَّه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
وفيها: خلع الخليفة على فاضي القضاة [أبي] عبد اللَّه بن ماكولا خلعة تشريف.
وفيها: وقع ثلج عظيم ببغداد، مقدار شبر على الأسطحة حتى جرفه الناس عنها.
قال ابن الجوزي
(3)
: وفي جمادى الآخرة تملّك بنو سلجوق بلاد خراسان والجبل، وتقسّموا الأطراف، وهو أول ملك السّلجوقيّة.
ولم يحجّ أحد في هذه السنة من أهل العراق، وخراسان، ولا من [أهل] الشام، ولا مصر، إلا قليلًا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحافظ أبو نعيم الأصبهاني
(4)
أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مِهْران، الحافظ الكبير، ذو التصانيف الكثيرة الشهيرة، من ذلك:"حلية الأولياء" في مجلدات كثيرة دلّت على اتساع روايته، وكثرة مشايخه، وقوّة اطّلاعه على مخارج الأحاديث، وتشعّب طرقها. وله: "معجم
(1)
تحرفت في (ط) إلى: شبيب بن ريان.
(2)
في (ط): والرحبة، وفي (ب): الرقعة، وكلاهما خطأ.
(3)
المنتظم (8/ 92).
(4)
المنتظم (8/ 100)، الكامل في التاريخ (9/ 466)، وفيات الأعيان (1/ 91)، تاريخ الإسلام (9/ 468)، سير أعلام النبلاء (17/ 453)، الوافي بالوفيات (7/ 81)، طبقات السبكي (4/ 18)، النجوم الزاهرة (5/ 30)، شذرات الذهب (3/ 245).
الصحابة" وهو عندي بخطّه، وله: "صفة الجنة" [و"دلائل النبوة"]، وكتاب في الطبّ [النبوي] وغير ذلك من المصنّفات المفيدة.
وقد قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي
(1)
: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضِّح أحدهما من الآخر
(2)
.
وقال عبد العزيز النخشبي: لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة من أبي بكر بن خلاد بتمامه، فحدّث به كلّه
(3)
.
وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: سمع الكثير، وصنّف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الأشعري [في الاعتقاد] ميلًا كثيرًا.
وكانت وفاته في الثامن عشر من المحرّم من هذه السنة عن أربع وتسعين سنة، لأنّه ولد فيما ذكره ابن خلِّكان في سنة ست وثلاثين وثلاثمئة. قال: وله: "تاريخ أصبهان".
وذكر [أبو نعيم] في ترجمة والده: أن مهران أسلم، وأن ولاءهم لعبد اللَّه بن معاوية بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وذكر أن معنى أصبهان، وأصله بالفارسيّة -سباهان
(4)
- أي مجمع العساكر، وأن الإسكندر بناها، قاله السمعاني.
الحسن بن الحسين
(5)
أبو علي البُرجُمي
(6)
.
وزر لشرف الدولة أبي علي بن بهاء الدولة سنتين ثمّ عزل، وكان عظيم الجاه في زمان عطلته، وهو الذي بنى المارستان بواسط، ورتّب فيه الأشربة والأطباء والأدوية وغير ذلك مما يحتاج إليه، ووقف عليه كفايته، كانت وفاته في هذه السنة وقد قارب الثمانين، رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن جعفر
(7)
أبو الفتوح العلوي، أمير مكّة شرّفها اللَّه تعالى.
(1)
رواه أبو الفضل بن طاهر المقدسي، عن عبد الوهاب الأنماطي، عن الخطيب، كما في تاريخ الإسلام (بشار).
(2)
تعقب الذهبي قول الخطيب فقال: "هذا يفعله نادرًا، فإنه كثيرًا ما يقول: كتب إليَّ جعفر الخلدي، كتب إليَّ أبو جعفر الأصم، أخبرنا ميمون بن راشد في كتابه"(تاريخ الإسلام 9/ 471)(بشار).
(3)
تعقب الحافظ ابن النجار قول عبد العزيز النخشبي هذا فقال: "وهم في هذا، فأنا رأيت نسخة الكتاب عتيقة، وعليها خط أبي نعيم يقول: سمع مني فلان إلى آخر سماعي من هذا المسند من ابن خلاد، فلعله روى الباقي بالإجازة، واللَّه أعلم"(تاريخ الإسلام 9/ 471)(بشار).
(4)
تحرفت في (ط): إلى: شاهان، أنساب السمعاني (1/ 289).
(5)
المنتظم (8/ 100)، الكامل في التاريخ (9/ 466).
(6)
كذا الأصل و (ط): البرجمي، وفي الكامل في التاريخ (9/ 466): الرَّخجي.
(7)
المنتظم (8/ 100)، الكامل في التاريخ (5/ 466)، ووقع في بعض النسخ:"الحسن بن حفص" وهو تحريف.
الحسين بن محمد بن الحسن بن علي بن عبد اللَّه المؤدب
(1)
وهو أبو محمد الخلال.
سمع "صحيح البخاري" من إسماعيل بن محمد الكُشْميهني، وسمع غيره. كانت وفاته في جمادى الأولى ودفن بباب حرب.
عبد الملك بن محمد بن عبد اللَّه بن (بشران بن)
(2)
محمد بن بشر بن مهران
(3)
أبو القاسم الواعظ.
سمع النَّجَّاد ودَعْلَج بن أحمد والآجري وغيرهم، وكان ثقة صدوقًا، وكان يشهد عند الحكَّام، فترك ذلك رغبة عنها
(4)
ورهبة من اللَّه، ومات في ربيع الآخر من هذه السنة، وقد جاوز التسعين، وصلّي عليه في جامع الرّصافة، وكان الجمع حافلًا، ودفن إلى جانب أبي طالب المكّي، وكان أوصى بذلك.
محمد بن الحسين بن خلف بن الفَرّاء
(5)
أبو خازم، أخو القاضي أبي يعلى الحنبلي.
سمع الدارقطني، وابن شاهين.
قال الخطيب: كان لا بأس به. ورأيت له أصولًا بسماعه فيها، ثمّ بلغنا أنه خلّط في الحديث بمصر، واشترى من الورّاقين صحفًا فروى منها، وكان يذهب إلى الاعتزال.
وكانت وفاته في المحرّم من هذه السنة بتِنِّيس من بلاد مصر.
محمد بن عبيد اللَّه
(6)
أبو بكر الدِّيْنَوري الزاهد.
وكان خشن العيش، وكان ابن القَزْويني يُثني عليه، وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره، وقد سأله مرة أن يطلق الناس مكس الملح، وكان [مبلغه] في السنة ألفي دينار، فتركه من أجله، ولمّا توفي اجتمع أهل البلد لجنازته، وصُلِّي عليه مرات، ودفن بباب حرب.
الفضل بن منصور
(7)
أبو الرِّضا، ويعرف بابن الظريف، وكان شاعرًا ظريفًا، ومن شعره الفائق، ونظمه الرائع قوله:
(1)
تاريخ بغداد (8/ 108)، المنتظم (8/ 102)، سير أعلام النبلاء (17/ 597).
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من مصادر ترجمته لا يستقيم النص من غيرها (بشار).
(3)
تاريخ بغداد (10/ 432)، المنتظم (8/ 102)، سير أعلام النبلاء (17/ 450)، النجوم الزاهرة (5/ 30)، شذرات الذهب (3/ 246).
(4)
في (ط): "عنه" ولا يصح، إذ المقصود الشهادة، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الخطيب (بشار).
(5)
تاريخ بغداد (2/ 252)، المنتظم (8/ 102).
(6)
المنتظم (8/ 102).
(7)
المنتظم (8/ 103)، الكامل في التاريخ (9/ 466).
يا قَالَةَ الشِّعْرِ نَصَحْتُ لَكُمْ
…
وَلَسْتُ أدْهى إلا من النُّصْحِ
قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بالكِرَامِ
…
وَفي ذَاك أُمُورٌ طَوِيلةُ الشَّرْحِ
وَتَطْلُبُونَ
(1)
النَّوَالَ من رَجُلٍ
…
قَدْ طُبِعَتْ نَفْسُهُ على الشُّحِّ
وأَنْتُم
(2)
تَمْدَحُونَ بِالحُسْنِ والـ
…
ـظرف وُجُوهًا في غَايَةِ القُبْحِ
من أجْلِ ذا تُحرَمُونَ رِزْقَكُم
…
لأَنَّكُم تَكْذِبُونَ في المَدْحِ
صُوْنُوا القوافي فَمَا أرَى أحَدًا
…
يَعْثُرُ فيهِ الرَّجَاءُ بالنُّجْعِ
(3)
فَإنْ شَكَكْتُمْ فيْما أقولُ لَكُمْ
…
فَكَذِّبُوني بواحدٍ سَمْحِ
هِبَةُ اللَّه بن علي بن جَعْفَر
(4)
أبو القاسم بن ماكولا، وزر لجلال الدولة مرارًا، وكان حافظًا للقرآن، عارفًا بالشّعر والأخبار، خُنِق بهيت في جمادى الأخرى من هذه السنة.
أبو زيد الدَّبُوسيّ
(5)
عَبْدُ اللَّه بن عُمر بن عيسى، الفقيه الحنفي.
أول من وضع علم الخلاف، وأبرزه إلى الوجود، قاله ابن خلِّكان
(6)
. قال: وكان يُضرب به المثل. والدبوسى نسبة إلى قرية من أعمال بخارى، قال: وله كتاب "الأسرار" و"التقويم للأدلة" وغير ذلك من التصانيف والتعاليق. قال: ورُوي أنه ناظر الفقهاء فبقي بعضهم، كلّما ألزمه أبو زيد إلزامًا تبسّم أو ضحك، فأنشد أبو زيد:
ما لي إذا ألْزَمْتُه حُجَّةً
…
قابَلَنِي بالضّحْكِ وَالقَهْقَهَه
إنْ كانَ ضِحْكُ المرْءَ مِنْ فِقهِهِ
(7)
…
فَالدُّبُّ في الصَّحْرَاءِ ما أفْقَهَه
الحَوْفي صاحب "إعراب القرآن" أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف [الحَوْفي] النَّحْوي
(8)
.
(1)
في (ط): أتطلبون.
(2)
في المنتظم: وأنتم تمدحون بالجود والعدل.
(3)
في (ط): أحدًا يغتزُ فيه بالنجح.
(4)
المنتظم (8/ 103)، الكامل في التاريخ (9/ 466).
(5)
وفيات الأعيان (3/ 48)، سير أعلام النبلاء (17/ 521)، النجوم الزاهرة (5/ 76)، شذرات الذهب (3/ 245). قال ابن خلِّكان: والدَّبُوسي: بفتح الدال المهملة، وضم الباء الموحدة، وبعدها واو ساكنة وسين مهملة، هذه النسبة إلى دَبُوسة، وهي بليدة بين بخارى وسمرقند نسب إليها جماعة من العلماء.
(6)
وفيات الأعيان (3/ 48).
(7)
في (ط): إن ضحك المرء من فقهه.
(8)
وفيات الأعيان (3/ 300)، سير أعلام النبلاء (17/ 521)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 381)، شذرات الذهب (3/ 247).
له كتاب في النحو كبير، و"إعراب القرآن" في عشر مجلدات، وله "تفسير القرآن" أيضًا، وكان إمامًا في العربيّة [والنحو] والآداب، وله تصانيف كثيرة، انتفع الناس بها.
قال ابن خلِّكان
(1)
: والحوفي نسبة إلى ناحية بمصر يقال لها: الشرقيّة، وقصبتها مدينة بَلْبيس، فجمع ريفها يسمون [حَوْف واحدهم حَوْفي]، وهو من قرية يقال لها: شبرا اللنجة
(2)
من أعمال الشرقيّة المذكورة.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمئة
فيها: زادت دجلة زيادةً عظيمة بحيث حملت الجسر ومَن عليها فألقتهم بأسفل البلد وسلموا.
وفيها: وقع بين الجند وجلال الدولة شَغَبٌ، وقُتِلَ من الفريقين خلق كثير، وجرت شرور طويلة، و [وقع] فساد عريض، واتّسع الخرق على الراقع، ونهبت الأتراك دور الناس، ولم يبق للملك عندهم حرمة ولا كلمة، وغلت الأسعار ببغداد جدًّا.
وفيها: بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل ابن مافنّة إلى البصرة فملكها له.
وفيها: زار الملك أبو طاهر مشهد عليّ، ومشهد الحسين، ومشى حافيًا في بعض تلك الزيارات، ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
إسماعيل بن أحمد بن عبد اللَّه أبو عبد الرحمن الضرير الحِيري
(3)
، من أهل نيسابور.
وكان من أعيان الفضلاء الأذكياء، والثقات الأمناء، قدم بغداد حاجًّا في سنة ثلاثة وعشرين وأربعمئة، فقرأ عليه الخطيب البغدادي جميع صحيح البخاري في ثلاثة مجالس بروايته له عن أبي الهيثم الكُشْمِيهني عن الفربري عن البخاري، وكانت وفاته في هذه السنة
(4)
وقد قاربَ السبعين سنة. رحمه اللَّه تعالى.
(1)
وفيات الأعيان (3/ 300).
(2)
تحرفت في (أ) وبعض النسخ إلى: الخيمة، وفي (ط):"النخلة" وما أثبتناه هو الذي في وفيات الأعيان لابن خلكان الذي ينقل منه المصنف، وكذلك سماها القفطي في إنباه الرواة (2/ 219)، وينظر الاقتصار لابن دقماق (5/ 62)(بشار).
(3)
المنتظم (8/ 105).
(4)
إنما ذكر المصنف وفاته في هذه السنة متابعة لابن الجوزي في المنتظم الذي استنتج هذا التاريخ من قول الخطيب في ترجمته: "وحدثني مسعود بن ناصر السجزي أنه مات بعد سنة ثلاثين وأربعمئة بيسير"(7/ 319 بتحقيقنا)، =
بُشْرَى الفَاتِني
(1)
وهو بُشْرَى بن مَسِيْس، من سبي الروم.
أهداه بعض أمراء بني حمدان لفاتن غلام المطيع فأدَّبه، وسمع الحديث على جماعة من المشايخ، وروى عنه الخطيب، وقال
(2)
: كان صدوقًا، صالحًا، ديِّنًا، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر، رحمه اللَّه تعالى.
محمّد بن عليّ بن أحمد بن يعقوب بن مروان
(3)
أبو العلاء الواسطي.
وأصله من فم الصّلح. سمع الحديث، وقرأ القراءات، ورواها، وقد تكلّموا في روايته في القراءات والحديث، فاللَّه أعلم، توفي في جمادى الآخرة وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وأربعمئة
فيها: عظم شأن السّلجوقية، وارتفع شأن ملكهم طُغْرُلْبَك محمد، وأخيه جفري بك داود، وهما ابنا ميكائيل بنِ سلجوق بن تُقاق
(4)
. وقد كان جدّهم تُقاق هذا من مشايخ الترك القدماء، الذين لهم الرأي والمكيدة والمكانة عند ملكهم الأعظم، ونشأ ولده سلجوق نجيبًا شهمًا، فقدّمه الملك ولقبه شَبَاشِى
(5)
، فأطاعته الجيوش، وانقادت له الناس بحيث تخوَّف منه الملك، وأراد قتله، فهرب منه إلى بلاد المسلمين فأسلم، فازداد عزًّا وعلوًّا، ثمّ توفي عن مئة وسبع سنين، وخلّف أرسلان، وميكائيل، وموسى، فأما ميكائيل فإنّه اعتنى بقتال الكفار من الأتراك، حتى قُتل شهيدًا وخلّف ولديه طُغْرُلْبَك محمدًا، وجفري بك داود، فعظم شأنهما في بني عمهما، واجتمع عليهما الترك من المؤمنين، وهم ترك الإيمان الذين يقال لهم اليوم: تُرْكمان، وهم السلاجقة بنو سلجوق جدّهم هذا؛ ففتحوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سُبُكْتكِين، وقد كان يتخوّف منهم الملك محمود بعض التخوّف، فلمّا توفي وقام ولده مسعود من بعده قاتلهم وقاتلوه مرارًا، [فكانوا] يهزمونه في أكثر المواقف، واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها، ثمّ قصدهم مسعود في جنود يضيق بها الفضاء، فكسروه فيها،
= وهي رواية لا تفيد القطع. لكن الذهبي ترجمه في وفيات سنة (430 هـ) من تاريخ الإسلام، وقال: ذكر ابن خيرون وفاته في سنة ثلاثين" (9/ 474 بتحقيقنا) وهذا بلا شك أثبت وأدق (بشار).
(1)
المنتظم (8/ 106) وقد ورد اسمه في (ب): "بشر" وهو تحريف.
(2)
تاريخه 7/ 645 (ط. د. بشار).
(3)
المنتظم (8/ 107).
(4)
كذا في الأصل والكامل في التاريخ (9/ 473) وذكر معناه: القوس الجديد.
وفي وفيات الأعيان (5/ 63): دقاق، وقد ضبطها كذلك، وفي (ط): يناق.
(5)
كذا الأصل، وفي (ط): شباسي، وفي الكامل:(سباشي)، وذكر أن معناه: قائد الجيش.
وكبسه مرّة داود فانهزم منه مسعود، فاستحوذ على حواصله وخيامه، وجلس على سريره، وفرّق الغنائم، ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفًا من دهمة العدوّ، وبمثل هذا الاحتراس تمّ لهم ما راموه، وكمل جميع ما أمّلوه، ثم كان من سعادتهم أنّ الملك مسعود توجّه نحو بلاد الهند ليشتي بها، وترك مع ولده مودود جيشًا كثيفًا بسبب قتال السّلاجقة، فلمّا عبر الجسر الذي على سيحون، نهبت جنوده حواصله، واجتمعوا على أخيه محمّد، وخلعوا مسعودًا، فرجع إليهم مسعود فقاتلهم، فهزموه، وأسروه، فقال له أخوه: واللَّه لا أقابلنَّك على سوء صنيعك إليّ، ولكن اختر لنفسك أيّ بلد تكون فيه أنت وعيالك، فاختار قلعة كبرى، فكان بها. ثمّ إن الملك محمدًا [أخا مسعود] جعل لولده أحمد الأمر من بعده، وبايع الجيش له، وقد كان في أحمد هوج وقلّة عقل، فاتفق هو وعمهم يوسف بن سُبُكْتِكين على قتل مسعود ليصفو لهم الأمر، ويتمّ لهم المُلْك، فسار إليه أحمد عن غير علم أبيه فقتله، فلمّا علم أبوه غاظه ذلك، وعتب على ابنه عتبًا شديدًا، وبعث إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم أنّه لم يعلم بذلك، حتى كان يكتب إليه مودود بن مسعود يقول: رزق اللَّه ولدك المعتوه عقلًا يعيش به، فقد ارتكب أمرًا عظيمًا، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي، لقبه أمير المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين، وستعلمون أيّ حيف تورطتم، وأيّ شرّ تأبطتم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. ثم سار إليهم مي جنود عظيمة، فقاتلهم فقهرهم، وأسرهم، فقتل عمّه محمدًا وابنه أحمد، وبني عمّه كلّهم إلا عبد الرحيم، وخلقًا من رؤوس أمرائهم، وابتنى قرية هنالك سمّاها: فتح آباذ، ثمّ سار إلى غزنة فدخلها في شعبان، وأظهر العدل، وسلك سيرة جدّه محمود؛ فأطاعه الناس، وكتب إليه أصحاب الأطراف بالانقياد والاتِّباع، غير أنَّه أهلك قومه بيده، وكان هذا من جملة سعادة السّلاجقة.
وفيها: خالف
(1)
أولاد حمّاد على العزيز باديس صاحب إفريقية، فسار إليهم فحاصرهم قريبًا من سنتين، ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد، بسب تأخر الأمطار عنهم.
ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنّة من أهل الكرخ، وأهل باب البصرة، فقتل خلق كثير من الفريقين.
ولم يحجّ في هذه السنة أحد من أهل العراق وضواحيها، وخراسان.
وممن توفي فيها من الأعيان:
محمد بن الحسين بن الفضل بن العباس
(2)
أبو يعلى البصري الصوفي.
(1)
في (ط): اختلف.
(2)
المنتظم (8/ 108).
أذهب عمره في السفر والتغرّب، وقدم بغداد في سنة ثنتين وثلاثين
(1)
، فحدّث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقيّ، وأبي الحسين بن جُميع الغسّاني، وكان ثقة، صدوقًا، أديبًا، حسن الشعر.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمئة
فيها: ملك طُغْرُلْبَك جرجان، وطبرستان، ثمّ عاد إلى نيسابور مؤيَّدًا منصورًا.
وفيها: ولي ظهير الدولة، أبو منصور بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه بعد وفاة أبيه، فوقع الخلف بينه وبين أخويه أبي كاليجار وكرشاسف
(2)
.
وفيها: دخل أبو كاليجار همذان ودفع الغزو عنها.
وفيها: شغبت الأتراك ببغداد بسبب تأخّر العطاء عنهم، وسقطت قنطرة زريق على نهر عيسى، وكذا القنطرة العتيقة التي تقاربها.
وفيها: دخل بغداد رجل من البلغار يريد الحج، وذكر أنه من كبارهم فأنزل بدار الخلافة، وأجري عليه الأرزاق، وذكر أنّهم مولَّدون من الترك والصقالبة، وأنهم في أقصى بلاد الترك، وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون ستٍّ ساعات وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع، وثمار على المطر والسقي.
وفي هذه السنة: قرئ الاعتقاد [القادري] الذي كان جمعه القادر باللَّه أمير المؤمنين، وأخذت خطوط العلماء والزّهاد [عليه] بأنه اعتقاد المسلمين، ومَنْ خالفه فقد كفر وفسق، فكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني، ثمّ كتب بعده العلماء، وقد سرده أبو الفرج بن الجوزي في "منتظمه"
(3)
بتمامه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السَّلف
(4)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
بَهْرام بن مَافَنّة
(5)
أبو منصور، الوزير لأبي كاليجار، وكان عفيفًا، نزهًا، صينًا، عادلًا في سيرته، وقد وقف خزانة كتب بمدينة فيروز أباذ، وتشتمل على سبعة آلاف مجلّد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخطّ أبي علي وأبي عبد اللَّه ابني مقلة.
(1)
وانقطع خبره فيها (تاريخ مدينة السلام 2/ 630) وتاريخ الإسلام (9/ 520)(بشار).
(2)
في ط: "كرسانيف" محرفة، والمثبت من خط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 529)(بشار).
(3)
المنتظم (8/ 109).
(4)
لكن قال الذهبي بعد أن ساق بعضه: "وفي ذلك كما ترى بعض ما يُنكر وليس من السنة"(تاريخ الإسلام 9/ 495)(بشار).
(5)
المنتظم (8/ 111)، الكامل في التاريخ (9/ 502) وقد تحرف اسم أبيه في (ط) إلى: منافيه.
محمد بن جعفر أبو الحَسَن
(1)
المعروف بالجهرميّ
(2)
.
قال الخطيب البغدادي: هو أحد الشعراء الذين لقيناهم، وسمعنا منهم، وكان يجيد القول، فمن شعره:
يا ويحَ قَلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ
…
أبدًا يَحِنُّ إلى مُعَذِّبه
قَالُوا: كَتَمْتَ هَوَاهُ عَنْ جَلَدٍ
…
لَوْ أنَّ لِي جَلَدًا
(3)
لبُحْتُ بِهِ
بأبِي حَبِيبٌ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ
…
عَنِّي وَيُكْثِر من تعتُّبِهِ
(4)
حَسْبي رِضَاهُ مِنَ الحياةِ وَيَا
…
قَلَقِيْ
(5)
وَمَوْتي مِنْ تَغَضُّبِه
مسعود الملك
(6)
بن الملك محمود بن الملك سُبُكْتِكين صاحب غزنة، وابن صاحبها.
قتله ابن عمّه أحمد بن محمّد بن محمود، فانتقم له ابنه مودود بن مسعود، وقتل عمّه وابن عمّه، وأهل بيته من أجل أبيه، واستتبَّ له الأمر وحده من غير منازع من قومه، كما تقدم.
بنت أمير المؤمنين المتّقي للَّه
(7)
تأخّرتْ مدّتها حتى كانت وفاتها في رجب من هذه السنة عن إحدى وتسعين سنة بالحرم الطاهري، ودفنت بالرّصافة، رحمها اللَّه تعالى وإيّانا بمنّه وكرمه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمئة
فيها: أمر الملك جلال الدولة أبو طاهر بجباية أموال الجوالي، ومنع أصحاب الخليفة من قبضها، فانزعج القائم بأمر اللَّه، وعزم على الخروج من بغداد، وأرسل إلى الفقهاء والقضاة والأعيان في التأهّب للخروج صحبته، وارتجت بغداد بسبب ذلك.
(1)
في بعض النسخ: "أبو الحسين" وفي (ط): "محمد بن جعفر بن الحسين"، وكله تحريف، وما أثبتناه هو الذي في تاريخ الخطيب والكامل لابن الأثير وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (بشار).
(2)
تاريخ مدينة السلام (2/ 545)، المنتظم (8/ 112)، الكامل في التاريخ (9/ 502)، تاريخ الإسلام (9/ 533).
(3)
في الكامل: رمقًا.
(4)
في (ط):
ما بين جننت غير مكترث
…
عني ولكن من نعيبه
(5)
في (ط): وما يلقى.
(6)
المنتظم (8/ 113)، الكامل في التاريخ (9/ 395 - 488)، وفيات الأعيان (5/ 181)، سير أعلام النبلاء (17/ 495)، شذرات الذهب (3/ 253).
(7)
المنتظم (8/ 113).
وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، هُدّمت قلعتها وسورها وأسواقها ودورها حتى من دار الإمارة عامّة قصورها، ومات تحت الهدم خمسون ألفًا، ولبس أهلها المسوح لشدّة مصابهم.
وفيها: استولى السلطان طُغْرُلْبَك على أكثر البلاد الشرقيّة فمن ذلك: مدينة خوارزم، ودهستان
(1)
، وطَبَس، والريّ، وبلاد الجبل، وكرمان وأعمالها، وقزوين. وخُطِبَ له في تلك النواحي كلّها، وعظم شأنه جدًّا واتّسع صيته.
وفيها: ملك ثِمال بن صالح بن مِرْداس حلب، وأخذها من أيدي جيش الفاطميين، فبعث إليه المصريون من حاربه.
ولم يحجّ أحد [من أهل العراق وغيرها] من هذه السنة ولا فيما قبلها.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو ذر الهَرَوِيّ
(2)
عبد
(3)
بن أحمد بن محمد الحافظ، الفقيه المالكي.
سمع الكثير ورحل إلى الأقاليم، وخرج إلى مكّة فسكنها، ثمّ تزوج في العرب، وأقام بالسروات، فكان يحجّ في كل سنة، ويقيم بمكة أيام الموسم، ويسمع الناس عليه، وأخذ عنه المغاربة مذهب مالك، ومذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ، عن القاضي أبي بكر الباقلاني، وكان يقول: إنّه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني، وقد كان ثقة حافظًا ضابِطًا، توفي في ذي القعدة من هذه السنة.
محمد بن الحسين بن محمد بن جعفر
(4)
أبو الفتح الشَّيْباني، العطّار، ويُعرف بقُطيط.
سافر إلى البلاد الشاسعة، وسمع الكثير، وكان شيخًا ظريفًا يسلك طريق التصّوف، وكان يقول: لمّا وُلْدتُ سُمِّيت قُطيط، على أسماء البادية، ثم سمّاني بعض أهلي محمدًا.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمئة
فيها: رُدَّت الجوالي إلى نوّاب الخليفة.
(1)
في الأصل: دهشتان، خطأ.
(2)
تاريخ بغداد (11/ 141)، المنتظم (8/ 115)، الكامل في التاريخ (9/ 514)، سير أعلام النبلاء (17/ 554)، النجوم الزاهرة (5/ 36)، نفح الطيب (2/ 70)، شذرات الذهب (3/ 254)، شجرة النور الزكية (104).
(3)
وقع اسمه في (ط): "عبد اللَّه"، وهو خطأ.
(4)
المنتظم (8/ 116).
وفيها: ورد كتاب من الملك طغرلبك إلى جلال الدولة يأمره بالإحسان إلى الرعايا والوصاة بهم. [قبل أن يحلّ به ما يسوؤه].
ذكر مُلك أبي كاليجار بغداد بعد وفاد أخيه جلال الدولة بن بهاء الدولة
وفيها: توفي جلال الدولة، أبو طاهر بن بهاء الدولة، فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء الدولة، وخُطِبَ له بها عن ممالأة أُمرائها، وأخرجوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، فتنقل في البلاد، وتشرّد من مملكته إلى غيرها، حتى توفي في سنة إحدى وأربعين، وحُمِل ودُفن عند أبيه بمقابر قريش.
وفيها: أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرًا كثيرًا إلى خراسان، فبرز إليهم [ألْب] أرْسَلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق في عسكر آخر فاقتتلا قتالًا عظيمًا.
وفيها: في صفر منها أسلم من الترك الذين كانوا يؤذون المسلمين، نحو من عشرة آلاف خركاه، وضحوا في يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس من الغنم، وتفرّقوا في البلاد، ولم يُسْلِم من الخَطا والتَّتَر أحد، وهم في نواحي الصين.
وفيها: نفى ملك الروم من قسطنطينية كلَّ غريب له دون العشرين سنة فيها.
وفيها: خطب المعزّ أبو تميم بن باديس، صاحب إفريقيّة ببلاده للخليفة العباسي، وقطع خطبة الفاطميين، وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة القائم بأمر اللَّه الخلع واللواء والمنشور، وفيه تعظيم له، وثناء عليه.
وفيها: أرسل الخليفة القائم بأمر اللَّه أفضى القضاة أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، قبل وفاة جلال الدولة إلى الملك المظفّر طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال الدولة، وأبي كاليجار، فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقّاه الملك على أربعة فراسخ إكرامًا له ولمن أرسله، وأقام عنده إلى السنة القابلة، فلمّا قدم [على الخليفة] أخبر بطاعته وإكرامه له، واحترامه من أجل الخليفة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسين بن عثمان بن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف العِجْلي
(1)
أبو سعد.
أحد الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتنائية، ثمّ أقام ببغداد مدّة وحدّث بها، روى عنه
(1)
تاريخ بغداد (8/ 84)، المنتظم (8/ 117).
الخطيب وقال: كان صدوقًا منتبهًا، ثمّ انتقل في آخر عمره إلى مكّة فسكنها حتى مات بها في شوال من هذه السنة.
عبيد اللَّه بن أبي الفتح
(1)
أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر، أبو القاسم الأزْهَري، الحافظ المحدّث الشهير، ويعرف بابن السَّوادي
(2)
.
سمع من أبي بكر بن مالك، وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقةً صدوقًا، ديّنًا صحيح الاعتقاد، حسن السِّيرة، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء التاسع عشر من صفر من هذه السنة عن ثمانين سنة وعشرة أيام.
الملك جلال الدوله
(3)
أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عَضُدِ الدولة بن بُويه الدَّيْلمي، صاحب بغداد وغيرها من البلاد.
كانت فيه محبة عظيمة للعبّاد يزورهم، ويلتمس دعاءهم، وقد نكب مرات عديدة، وخالفه الأتراك غير مرّة، وأخرجوه من داره، و [تارة أخرج] من بغداد بالكليّة، ثمّ يعود إليهم ويرضون عنه، حتى اعتراه وجع في كبده هذه السنة، فمات من ذلك في ليلة الجمعة الخامس من شعبان هذه السنة وله من العمر إحدى وخمسون سنة وأشهر، وولي بغداد من ذلك ست عشرة سنة وأحد عشر شهرًا
(4)
.
ثم دخلت سنة ستٍّ وثلاثين وأربعمئة
فيها: دخل الملك أبو كاليجار بغداد، وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تكن الملوك قبله تفعله، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاثة أوقات، وما كان يضرب في الأوقات الخمسة إلا للخليفة، وكان دخوله في رمضان، وقد فرّق على الجند أموالًا جزيلة، وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار، وخلع على مقدَّمي الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاوري، والهُمام أبو اللقاء، ولقبه الخليفة محيي الدولة، وخُطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها، وخُطب له بهمذان، ولم يبق لنواب طغرلبك فيها أمر.
(1)
تاريخ بغداد (10/ 385)، المنتظم (8/ 117)، سير أعلام النبلاء (17/ 578)، النجوم الزاهرة (5/ 37)، شذرات الذهب (3/ 255)، وقد تحرف اسمه في (ط) إلى: عبد.
(2)
تحرف في (ط): إلى: السواري، والسوادي: نسبة إلى سواد العراق.
(3)
المنتظم (8/ 118)، الكامل في التاريخ (9/ 361 و 516)، سير أعلام النبلاء (17/ 577)، النجوم الزاهرة (5/ 37)، شذرات الذهب (2/ 55).
(4)
قال الذهبي: "وقد ذكرنا من أخبار جلال الدولة ما يدل على ضعف دولته ووهن سلطته. وكان شيعيًا جبانًا، عاض نيفًا وخمسين سنة، وكان عسكره قليلًا، وحده كليلًا، وأيامه نكدة"(تاريخ الإسلام (9/ 549 - 550)(بشار).
وفيها: استوزر طغرلبك أبا القاسم علي بن عبد اللَّه الجوينيّ، وهو أول وزير وزر له.
وفيها: وزر أبو نصر أحمد بن يوسف لصاحب مصر، وكان يهوديًا فأسلم بعد موت الجرجرائي.
وفيها: ولي نقابة العلويين
(1)
الشريف أبو أحمد عدنان بن الشريف الرَّضي، وذلك بعد وفاة عمّه المرتضى أبي القاسم علي -وستأتي ترجمته-.
وفيها: ولي القاضي أبو الطيِّب الطبري، قضاء الكرخ، مضافًا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطّاق، وذلك بعد موت القاضي أبي عبد اللَّه الصّيمري.
وفيها: نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المُسْلمة
(2)
في كتابه ديوان الخلافة، وكان عنده بمنزلة عالية.
ولم يحجّ في هذه السنة أحد من أهل العراق لفساد الطريق.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسين بن علي بن محمد بن جعفر
(3)
أبو عبد اللَّه الصَّيْمَري، نسبة إلى نهرٍ بالبصرة يقال له: الصَّيْمَر، عليه عدة قنى.
أحد أئمّة الحنفيّة، ولي قضاء المدائن، ثمّ قضاء ربع الكرخ، وحدّث عن أبي بكر المفيد وابن شاهين وغيرهما، وكان صدوقًا وافر العقل، جميل المعاشرة، حسن العبارة، عارفًا بحقوق العلماء، توفي في شوّال عن خمس وثمانين سنة.
عبد الوّهاب بن منصور
(4)
بن أحمد أبو الحَسَن
(5)
، المعروف بابن المشتري، الأهوازي.
كان على قضاء الأهواز ونواحيها، شافعيّ المذهب، وكان له مكانة كبيرةٌ عند السلطان، [وكان] صدوقًا كثير المال، حسن السيرة، رحمه اللَّه تعالى.
الشريف المُرْتَضى
(6)
علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن
(1)
في (ط): الطالبيين.
(2)
في (ط): "المسلم" وهو تحريف، وهو معروف مشهور (بشار).
(3)
تاريخ بغداد (8/ 98)، المنتظم (8/ 119)، الجواهر المضية (2/ 116)، سير أعلام النبلاء (17/ 615)، النجوم الزاهرة (5/ 38)، شذرات الذهب (3/ 256)، تهذيب ابن عساكر (4/ 347).
(4)
المنتظم (8/ 120)، الجواهر المضية (1/ 214)، الكامل في التاريخ (9/ 527).
(5)
في بعض النسخ: "أبو الحسين"، خطأ، وما أثبتناه من (ط): ويعضده ما في تاريخ الخطيب (12/ 94، بتحقيقنا)، وتاريخ الإسلام بخط الذهبي (9/ 555)(بشار).
(6)
تاريخ بغداد (11/ 402)، المنتظم (8/ 120)، الكامل في التاريخ (9/ 526)، وفيات الأعيان (3/ 313)، سير أعلام النبلاء (17/ 588)، النجوم الزاهرة (5/ 39)، شذرات الذهب (3/ 356)، أعيان الشيعة (41/ 188).
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الشريف الموسوي الملقّب بالمرتضى ذي المجدين.
وكان أكبر من أخيه الرضي ذي الحسبين، نقيب الطالبيين، وكان جيّد الشعر، إمامًا في مذهب الإماميّة والاعتزال يُناظر على ذلك، وكان يُنَاظَرُ عنده في كلّ المذاهب، وله تصانيف في التشيّع أصولًا وفروعًا.
وقد نقل ابن الجوزي في ترجمته أشياء من مفردات الشيعة، فمن ذلك أنّه لا يصحّ السجود إلا على الأرض، أو ما كان من جنسها، وأنَّ الاستجمار إنَّما يجزئ من الغائط لا من البول، وأنّ الكتابيات حرام، وذبائح أهل الكتاب حرام، وكذا ما ولوه هم وسائر الكفّار من الأطعمة، وأنّ الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين، والمعلّق منه لا يقع، وإن وجد شرطه، ومن نام عن صلاة العشاء حتى انتصف اللّيل وجب قضاؤها، ويجب عليه أن يصبح صائمًا كَفّارة لما وقع، ومن ذلك أنّ المرأة إذا جزّت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ، ومن شقّ ثوبه في مصيبة وجب عليه كفارة يمين، ومن تزوّج بامرأة لها زوج لا يعلمه يجب عليه أن يتصدّق بخمسة دراهم، وأن قطع السارق من أصول الأصابع، قال ابن الجوزي
(1)
: نقلتها من خطّ أبي الوفاء بن عقيل، قال: وهذه مذاهب عجيبة تخرق الإجماع، وأعجب منها ذمّ الصحابة رضي الله عنهم.
ثمّ سرد من كلامه شيئًا قبيحًا في تكفير عمر [بن الخطاب] وعثمان، وعائشة، وحفصة، رضي الله عنهم، وأخزاه اللَّه وأمثاله [من الأرجاس الأنجاس، أهل الرفض والارتكاس] إن لم يكن قد تاب. فقد روى ابن الجوزي، قال:
أخبرنا ابن ناصر، عن أبي الحسين بن الطيوري، قال: سمعت أبا القاسم بن بَرْهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه، فإذا به قد حوّل وجهه إلى الجدار فسمعته يقول: أبو بكر وعمر وَلِيا فعدلا، واستُرحما فرحما. فأنا أقول ارتدَّا بعدما أسلما، قال: فقمتُ فما بلغت عتبة الباب حتى سمعت الزعقة عليه، وكانت وفاته في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.
فقد ذكره ابن خلكان
(2)
فملس
(3)
عليه [على عادته مع الشعراء في الثناء عليهم]، وأورد شيئًا من أشعاره الرائقة، قال: ويقال: إنّه هو الذي وضع "نهج البلاغة" تجاوز اللَّه عنه ورحمه.
(1)
المنتظم (8/ 121).
(2)
وفيات الأعيان (3/ 313).
(3)
"ملس عليه": أثنى وتغاضى عن سيئاته.
محمد بن أحمد بن شُعَيب بن عبد اللَّه بن الفضل
(1)
أبو منصور الرُّوياني، صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني.
قال الخطيب: سكن بغداد وحدّث بها، وكتبنا عنه، وكان صدوقًا، يسكن بِقَطِيْعَة الربيع، ومات في ربيع الأول من هذه السّنة ودفن بباب حرب.
أبو الحسين البَصْري المعتزلي
(2)
محمد بن علي بن الطيِّب، أبو الحُسين البصري، المتكلِّم.
شيخ المعتزلة، والمنتصر لهم، والحامي عن ذِمارهم
(3)
بالتصانيف الكثيرة، فكانت وفاته في ربيع الآخر من هذه السنة، وصلّى عليه القاضي أبو عبد اللَّه الضَّيْمريُّ، ودفن في الشونيزيّة، وليس له من رواية الحديث سوى حديث واحد رواه عنه الخطيب البغدادي في "تاريخه".
حدّثنا محمد بن علي بن الطّيب: قُرئ على هلالى بن محمد بن أخي هلال الرأي بالبصرة وأنا أسمع، قيل له: حدّثكم أبو مسلم الكجّي، وأبو خليفة الفضل بن الحُبَاب الجُمَحي، والغَلابي، والمازني، والزُّرَيقي، قالوا: حدّثنا القعنبي، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ من كَلام النُّبوَّةِ الأولى، إذا لَمْ تَسْتَح فَاصْنَعْ ما شِئْتَ"
(4)
.
والغلابي، اسمه محمد، والمازني، اسمه محمد بن حيان، والزريقي: أبو علي محمد بن أحمد بن خالد البصري.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمئة
فيها: بعث السلطان طُغْرُلبَك السّلجوقي أخاه إبراهيم يَنّال إلى بلاد الجبل فملكها، وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، فالتحق بالأكراد، ثمّ سار إبراهيم يَنّال إلى الدَّيْنَوَر فملكها. وأخرج منها صاحبها وهو أبو الشوك. فسار أبو الشوك إلى حُلْوان فتبعه إبراهيم فملكها عليه قهرًا، وأحرق داره
(1)
تاريخ بغداد (1/ 307)، المنتظم (8/ 126).
(2)
تاريخ بغداد (3/ 100)، المنتظم (8/ 126)، الكامل في التاريخ (9/ 527)، وفيات الأعيان (4/ 271)، سير أعلام النبلاء (17/ 587)، الوافي بالوفيات (4/ 145)، النجوم الزاهرة (5/ 38)، شذرات الذهب (3/ 259).
(3)
في (ط): ذمّهم.
(4)
رواه البخاري (3483) و (3484) في أحاديث الأنبياء، ورقم (6120) في الأدب، باب الحياء وأبو داود (4797) في الأدب من حديث أبي مسعود البدري (ع).
وغنم أمواله، فتجهز الملك أبو كاليجار صاحب بغداد لقتال السّلاجقة الذين غزوا
(1)
أنصاره [وتعدَّوا على أتباعه]، فلم يمكنه ذلك لقلّة الظهر، وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة الخيل فمات له فيها نحو من اثني عشر ألف فرس بحيث جافت بغداد من نتن الخيل.
وفيها: وقع ببغداد بين الروافض والسنّة ثمّ اتفق الفريقان على نهب دور اليهود، وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم.
واتفق في هذه السنة موت رجل من أكابر النصارى بواسط، فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك، وأخرجوا جنازته جهرة، ومعها طائفة من الأتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة، فأخذوا الميت منهم واستخرجوه من أكفانه فأحرقوه ورموه في دجلة ومضوا إلى الدير فنهبوه، وعجز الأتراك عن دفعهم.
ولم يحجّ أهل العراق في هذا العام.
وممن توفي فيها من الأعيان:
فارس بن محمد
(2)
بن عنان
(3)
صاحب الدِّيْنَوَر وحُلْوان، كانت وفاته في هذا الأوان.
خديجة بنت موسى بن عبد اللَّه الواعظة
(4)
وتعرف ببنت البقّال، وتُكْنَى أم سَلَمة.
قال الخطيب: كتبت عنها، وكانت فقيرة
(5)
صالحة فاضلة.
أحمد بن يوسف
(6)
[السليكي] المَنَازي
(7)
، الشاعر، الكاتب، وزير أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميّافارقين [وديار بكر].
كان فاضلًا بارعًا لطيفًا تردَّد في الرسلية إلى القُسْطَنْطينيّة غير مرة، وحصّل كتبًا كثيرة أوقفها على جامعي آمد وميّافارقين، ودخل يومًا على أبي العلاء المعرّي، فقال له: إنّي معتزل الناس وهم يؤذونني [وتركت لهم الدنيا]، فقال: ولِمَ؟ وأنت تركت لهم الدنيا والآخرة أيضًا. [فقال: والآخرة
(1)
في (ب): عدوا.
(2)
المنتظم (8/ 129)، الكامل في التاريخ (9/ 531).
(3)
كذا في الأصل والمنتظم، وفي (ط): والكامل في التاريخ: عنّاز.
(4)
المنتظم (8/ 128)، تاريخ بغداد (14/ 446).
(5)
في تاريخ بغداد: ثقة.
(6)
وفيات الأعيان (1/ 143)، سير أعلام النبلاء (17/ 583)، الوافي بالوفيات (8/ 285)، شذرات الذهب (3/ 259).
(7)
تحرفت في (ب): إلى: المازني.
يا قاضي؟ قال: نعم]. وله ديوان شعر قليل النظير، عزيز الوجود، حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر عليه، وكانت وفاته في هذه السنة، ومن شعره في وادي بُزَاعَة
(1)
:
وقَانا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءَ وَادٍ
…
وَقَاهُ مُضَاعَفُ النَّبْتِ العَمِيمِ
نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا
…
حُنُوَّ المُرْضِعَاتِ عَلَى الفَطِيْمِ
وَأرْشَفَنا عَلَى ظَمَأٍ زُلالًا
…
ألَذَّ مِنَ المُدَامَةِ للنَّدِيْمِ
يُراعي الشَّمْسَ أنَّى قابَلَتْه
…
فَيَحْجِبُها وَيَأذَنُ للنَّسِيْمِ
تَرُوْعُ حَصَاهُ حاليَةَ العَذَارَى
…
فَتَلْمَسُ جَانِبَ العِقْدِ النَّظِيْمِ
قال ابن خلِّكان
(2)
رحمه اللَّه تعالى: وهذه الأبيات بديعة في معناها وبابها.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمئة
استهلت [هذه السنة] والمُوتان في الدواب كثير جدًا، حتى جافت بغداد. قال ابن الجوزي
(3)
: وربّما أحضر بعض الناس الأطباء إلى دوابهم، فيسقونها ماء الشعير ويطيبونها.
وفيها: حاصر السلطان طُغْرُلْبَك أصبهان، فصالحه أهلها على مال يحملونه إليه، وأن يُخطَب له في بلدهم، فأجابوه إلى ذلك.
وفيها: ملك مهلهل قَرمِيسين والدِّيْنَوَر.
وفيها: تأمَّر على بني خفاجة [رجل يقال له]: رجب بن أبي منيع بن ثِمال بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الأعراب أكثر من يصدّ الحجيج عن البيت الحرام، فلا جزاهم اللَّه خيرًا، وقبّحهم يوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم القعنة ولهم سوء الدار.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الشيخ أبو محمد
(4)
عبد اللَّه بن يوسف بن عبد أنَّطء بن يوسف بن محمد بن حَيَّويه، الشيخ أبو محمد الجُوَيْنيُّ، إمام الشافعيّة في زمانه.
(1)
"وادي بُزَاعة": كثمامة بين منبج وحلب.
(2)
وفيات الأعيان (1/ 143).
(3)
المنتظم (8/ 129).
(4)
المنتظم (8/ 130)، الكامل في التاريخ (9/ 535)، وفيات الأعيان (3/ 47)، سير أعلام النبلاء (17/ 617)، السبكي (5/ 73)، النجوم الزاهرة (5/ 42)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 253)، شذرات الذهب (3/ 261).
قال ابن خلّكان: والجويني، بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى =
وهو والد إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن أبي محمد، وأصله من قبيلة يقال لها: سِنْبس، وجُوَين من نواحي نيسابور، سمع الحديث في بلاد شتًى على جماعة، وقرأ الأدب على أبيه، وتفقه بأبي الطيّب سهل بن محمد الصُّعلوكي، ثمّ خرج إلى مرو، إلى أبي بكر عبد اللَّه بن أحمد القفّال، ثمّ عاد إلى نيسابور، وعقد مجلس المناظرة، وكان مهيبًا لا يجري بين يديه إلا الجدّ، وصنّف التصانيف الكثيرة في أنواع من العلوم، وكان ورعًا زاهدًا، شديد الاحتياط [لدينه حتى] ربّما أخرج الزكاة مرّتين، وقد ذكرته في "طبقات الشافعيّة"، و [ذكرت] ما قاله الأئمة في مدحه. كانت وفاته في ذي القعدة.
وقال ابن خلّكان
(1)
: صنّف "التفسير الكبير" المشتمل على أنواع العلوم، وله في الفقه "التبصرة" و"التذكرة"، و"مختصر المختصر"، و"الفرق والجمع"، و"السلسلة" وغير ذلك. وكان إمامًا في الفقه، والأصول، والعربيّة، والأدب. توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة أربع وثلاثين، قاله السّمعاني في كتابه "الأنساب"
(2)
، ومات وهو في سن الكهولة، رحمه الله وإيانا بفضله ورحمته.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمئة
فيها: اصطلح الملك طُغْرُلْبك السَّلْجُوقيّ وأبو كاليجار صاحب بغداد، وتزوّج طغرلبك بابنة أبي كاليجار، وتزوّج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك.
وفيها: أسرت الأكراد سُرْخاب أخا أبي الشوك، وأحضروه بين يدي إبراهيم يَنّال، فأمر بقلع إحدى عينيه.
وفيها: استولى أبو كاليجار على بلاد البطيحة، ونجا صاحبها أبو نصر بنفسه.
وفيها: ظهر شخص يقال له الأصْفَر التغلبيُّ، وادّعى أنه من المذكورين في الكتب، فاستغوى خلقًا من الناس، وقصد بلاد الروم، فغنم منها أموالًا فقوي بها وعظم أمره، فاتفق أنّه أُسِرَ وحُمِل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر، فاعتقله، وسدّ عليه باب السجن
(3)
.
وفيها: كان وباء شديد بالعرق والجزيرة وبغداد [بسبب جيف الدواب التي ماتت]، فمات خلق كثير حتى خلت الأسواق، وغلت الأسعار [وقلّت الأشياء] التي يحتاج إليها المرضى، وورد كتاب من
= جُوَين، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كشيرة مجتمعة.
(1)
وفيات الأعيان (3/ 47).
(2)
الأنساب (3/ 385).
(3)
الكامل في التاريخ (9/ 540 - 541).
الموصل بأنّه لا يصلّي الجمعة من أهلها إلا نحو أربعمئة، وأنّ أهل الذمّة لم يبق منهم إلا نحو من مئة وعشرين نفسًا.
[وفيها: وقع غلاء شديد أيضًا] وجرت فتنة بين الروافض والسنّة ببغداد، قُتل فيها خلق كثير.
ولم يحجّ أحد من ركب العراق في هذا العام، فلا قوّة إلا باللَّه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن أحمد
(1)
أبو الفضل، القاضي الهاشمي الرَّشيديّ.
ولي القضاء بِسِجِسْتان، وسمع الحديث من الغِطْريفي، وعنه الخطيب، فقال: أنشدني لنفسه:
قَالُوا اقْتَصِدْ في الجُودِ إنَّكَ مُنْصِفٌ
…
عَدْلٌ وَذو الإنْصافِ لَيْسَ يَجُورُ
فَأجَبْتُهُمْ إنِّي سُلالَةُ مَعْشَرٍ
…
لَهُمُ لِواءٌ في النَّدَى مَنْشُورُ
تَاللَّهِ إنِّي شَائِدٌ ما قَدْ بنى
…
جَدِّي الرَّشِيْدُ وَجَدِّيَ المَنْصُورُ
(2)
عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب
(3)
أبو القاسم، الشاعر المعروف بالمطرِّز، ومن شعره:
يا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ وَمَعْصِيةٍ
…
إنْ كُنْتَ نَاسِيْها فاللَّه أحْصَاهَا
لابُدَّ يا عَبْدُ مِنْ يَوْمٍ تَقُومُ لَهُ
…
بِوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي القَلْبَ ذِكْرَاهَا
(4)
إذا عَرَضْتُ عَلى قَلْبِي تَذَكّرَها
…
وَسَاءَ ظَنِّي أقُولُ: اسْتَغْفِر اللَّه
(5)
محمد بن الحسين بن علي بن عبد الرحيم
(6)
أبو سَعْد الوزير.
وَزَر للملك أبي طاهر ستّ مرات، ثم كان موته بجزيرة ابن عمر في هذه السنة، عن ستٍّ وخمسين سنة.
محمد بن أحمد بن موسى
(7)
أبو عبد اللَّه الواعظ الشيرازي.
(1)
تاريخ بغداد (5/ 50)، المنتظم (8/ 132).
(2)
في (ط): والمنتظم:
تاللَّه إني شائد ما قدموا
…
جدّي الرشيد وقبله المنصور
(3)
المنتظم (8/ 134)، الكامل في التاريخ (9/ 543).
(4)
في (ط) والمنتظم:
لابد يا عبد من يوم تقوم به
…
ووقفة لك يدمي القلب ذكراها
(5)
في (ط) والمنتظم: قد ساء ظني فقلت أستغفر اللَّه.
(6)
المنتظم (8/ 134)، الكامل في التاريخ (9/ 542).
(7)
تاريخ بغداد (1/ 359)، المنتظم (8/ 134).
قال الخطيب: قدم بغداد وأظهر الزهد، والتقشّف، والورع، وعزوف النفس عن الدنيا، فافتتن الناس به، وكان يحضر مجلسه خلق كثير، ثم إنه قبل ما كان يُعرض عليه فيأبى قبوله
(1)
، فكثرت أمواله، ولبس الثِّياب الناعمة، وجرت له أمور كثيرة، وكثرت أتباعه، وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه خلق كثير، فبرز ظاهر البلد ناحيةً منها، وكان يضرب له الطبل في أوقات الصلوات، وسار إلى ناحية بلاد أذربيجان، فالتفّ عليه خلق كثير، وضاهى أمير تلك الناحية، فكانت وفاته هناك في هذه السنة.
قال الخطيب: وقد حدّث ببغداد، وكتبت عنه أحاديث يسيرة، وحدثني بعض أصحابنا بشيء يدلّ على ضعفه في الحديث، وأنشدني هو لبعضهم:
إذَا ما أطَعْتَ النَّفْسَ في كُلِّ لَذَّةٍ
…
نُسبْتَ إلى غَيْرِ الحِجَى وَالتَّكَرُّمِ
إذَا ما أجَبْتَ النَّفْسَ في كُلِّ دَعْوَةٍ
…
دَعَتْكَ إلى الأَمْرِ القَبِيحِ المُحَرَّمِ
محمد بن الحسن بن عمر بن بَرْهان
(2)
أبو الحسن الغزال، سمع [محمّد] بن المظفر وغيره، وكان صدوقًا، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن علي بن إبراهيم أبو الخطّاب
(3)
الجَبُّلي
(4)
الشاعر، فمن شعره قوله:
مَا حَكَمَ الحُبُّ فَهُوَ مُمْتَثَلٌ
…
وَمَا جَنَاهُ الحَبِيْبُ مُحْتَمَلُ
يَهْوَى وَيَشْكُو الضّنى
(5)
وَكُل هَوًى
…
لا يُنْحِلُ الجِسْم فَهْوَ مُنْتَحَلُ
وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرّة النعمان، فامتدحه أبو العلاء المعري بن سليمان بأبيات فأجابه مرتجلًا عنها، وقد كان حسن العينين حين سافر، فما عاد إلا وهو أعمى، وكانت وفاته في ذي القعدة من هذه السنة، ويقال: إنّه كان شديد الرفض، واللَّه أعلم.
الشيخ أبو علي السِّنْجِيّ
(6)
الحسين بن شُعَيب بن محمد شيخ الشافعيّة في زمانه.
(1)
في ط: "ثم إنه بعد حين كان يعرض عليه الشيء فيقبله"، وما أثبتناه من النسخ، وهو الموافق لما في تاريخ الخطيب الذي ينقل منه (بشار).
(2)
المنتظم (8/ 135).
(3)
تاريخ بغداد (3/ 101)، المنتظم (8/ 135).
(4)
في (ط): "الحنبلي" محرف، وما أثبتناه مجود في نسخ تاريخ الخطيب (4/ 170 بتحقيقنا)، وبخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 585)، وهو رافضي جلد فكيف يكون حنبليًا؟ (بشار).
(5)
في المنتظم: الصبا.
(6)
وفيات الأعيان (2/ 135)، سير أعلام النبلاء (17/ 526)، الوافي بالوفيات (12/ 378)، طبقات السبكي (4/ 344).
قال ابن خلكان: والسِّنجي، بكسر السين المهملة وسكون النون بعدها جيم نسبة إلى سنج، وهي قرية كبيرة من قرى مرو.
أخذ عن أبي بكر القفّال، وشرح "الفروع" لابن الحدّاد، وقد شرحها قبله شيخه، وبعده القاضي أبو الطيّب الطبري
(1)
، وشرح أبو علي السِّنْجي كتاب "التلخيص" لابن القاصّ شرحًا كبيرًا وله كتاب "المجموع" وأخذ منه الغزالي في "الوسيط"، قال ابن خلِّكان
(2)
: وهو أوّل من جمع بين طريقتي العراق وخراسان، وكانت وفاته سنة بضع وثلاثين وأربعمئة، رحمه اللَّه تعالى
(3)
.
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمئة
في جمادى الأولى منها، مرض الملك أبو كاليجار صاحب بغداد، وهو في بريّة، ففصد في يوم ثلاث مرات، وحمل في محفّةٍ فمات في ليلة الخميس، وانتهبت الغلمان الخزائن، وأحرق الجواري الخيام، سوى الخيمة التي هو فيها، والخركاه
(4)
التي كان بها، وولي بعده ابنه أبو نصر وسمّوه الملك الرحيم
(5)
، ودخل دار الخلافة في يوم مشهود، وخلع عليه الخليفة سبع خِلَع، وسوّره، وطوّقه، وعلى رأسه التاج والعمامة السوداء الرُّصافيّة، ووصّاه الخليفة، وسار إلى داره، وذهب الناس لتهنئته.
وفيها: دار السور
(6)
على شيراز، وكان دوره اثني عشر ألف ذراع، وارتفاعه ثمانية أذرع، وعرضه ستة أذرع، وفيه أحد عشر بابًا.
وفيها: غزا إبراهيم يَنّال بلاد الروم فغنم مئة ألف رأس، وأربعة آلاف درع، وقيل: تسعة عشر ألف درع، ولم يبق بينه وبين القسطنطينية إلا خمسة عشر يومًا، وحمل ما حصل له من الغنائم على عشرة آلاف عجلة.
وفيها: خُطِب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر اللَّه على المنابر بولاية العهد، من بعد أبيه، وحُيي بذلك.
(1)
في (أ) و (ب): السكري، خطأ. والقاضي أبو الطيب، شيخ الإسلام، فقيه بغداد. سترد ترجمته في وفيات سنة (450 هـ).
(2)
وفيات الأعيان (2/ 135).
(3)
هكذا ذكر وفاته في هذه السنة استنادًا إلى تقدير ابن خَلِّكان، وترجمه الذهبي في وفيات سنة (532) من تاريخه وسماه الحسن بدلًا من الحسين، وقال: توفي بمرو في ربيع الأول، كذا سماه وورخه أبو علي محمد بن الفضل بن جهاندار، وسماه ابن خلكان: الحسين. . إلخ" (9/ 517) فهذا أدق وأثبت. واللَّه أعلم (بشار).
(4)
"الخركاه": الخيمة الكبيرة بالفارسية.
(5)
ذكر ابن الأثير في الكامل (9/ 548): أن الخليفة امتنع من تلقيبه بهذا الاسم، قال: لا يجوز أن يلقّب بأخص صفات اللَّه تعالى.
(6)
"دار السور": أي انتهى من بنائه حول المدينة.
وفيها: اقتتل الروافض والسنة وجرت ببغداد فتن طويلة منكرة.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذا العام أيضًا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
السيد الكبير، الحسنُ بن عيسى بن المقتدر باللَّه
(1)
أبو محمد العبّاسيّ.
ولد في المحرّم من سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة، وسمع من مؤدّبه أحمد بن منصور اليَشْكري، وأبي الأزهر عبد الوّهاب بن عبد الرحمن الكاتب، وكان فاضلًا ديّنًا، حافظًا لأخبار الخلفاء، عالمًا بأيام الناس، صالحًا، أعرض عن ولاية الخلافة عن قدرةٍ وآثر بها القادر باللَّه.
وكانت وفاته في هذه السنة عن سبع وتسعين سنة، وأوصى أن يدفن بباب حرب بغير تابوت، فدفن قريبًا من قبر الإمام أحمد، وكان يوم جنازته مشهودًا، مشى الأمراء والوزراء والبساسيري إلى المقبرة، وجلس رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة للعزاء من الغد.
عُبيد اللَّه
(2)
بن عمر بن أحمد بن عثمان
(3)
أبو القاسم
(4)
الواعظ، المعروف بابن شاهين.
سمع من أبي بكر بن مالك، وابن ماسي، وأبا بحر
(5)
البَرْبهاري، وابن المظفر.
قال الخطيب
(6)
: كتبت عنه وكان صدوقًا، ومولده في سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة، وتوفي في ربيع الأول
(7)
من هذه السنة ودفن بباب حرب، رحمه اللَّه تعالى.
علي بن الحسن بن محمد بن المنتاب
(8)
أبو القاسم، المعروف بابن أبي عثمان الدقّاق.
(1)
تاريخ بغداد (7/ 354)، المنتظم (8/ 137)، الكامل في التاريخ (9/ 552)، سير أعلام النبلاء (17/ 621)، الوافي بالوفيات (12/ 199)، شذرات الذهب (3/ 264).
(2)
في (ط): "هبة اللَّه"، وهو تحريف.
(3)
تاريخ بغداد (10/ 386)، المنتظم (8/ 138)، سير أعلام النبلاء (17/ 601)، شذرات الذهب (3/ 264).
(4)
في السير: أبو الفتح.
(5)
في (ب): يحيى، وفي (ط):"البرقاني"، وكله تحريف، والصواب ما أثبتنا، وهو أبو بحر محمد بن الحسن البربهاري.
(6)
تاريخ بغداد (10/ 386).
(7)
في (ط): "ربيع الآخر" خطأ، فالذي في تاريخ الخطيب:"مات في يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول من سنة أربعين وأربع مئة"(12/ 122 بتحقيقنا)، وكذلك نقله الذهبي عن الخطيب في تاريخ الإسلام، وهذا القسم وصل إلينا بخطه (9/ 590)(بشار).
(8)
تاريخ بغداد (11/ 390)، المنتظم (8/ 138).
قال الخطيب: سمع القطيعي وغيره، وكان شيخًا صالحًا، صدوقًا، ديّنًا، حسن المذهب.
محمد بن جعفر بن أبي الفرج بن فَسَانْجس
(1)
الوزير، أبو الفرج المُلقَّب بذي السعادات.
وزر لأبي كاليجار بفارس وبغداد، وكان ذا مروءةٍ غزيرة، مليح الشعر والترسّل، ومن محاسنه أنّه كُتِبَ إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر، وله ما يقارب مئة ألف دينار، فإن رأى الوزير أن يقترض من العين إلى [حين] بلوغ الطفل، فكتب [الوزير] على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، والطفل [اليتيم] جبره اللَّه، والمال ثمّره اللَّه، والسّاعي لعنه اللَّه، ولا حاجة لنا إلى مال الأيتام. اعتُقِل ثمَّ قُتِل في رمضان من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة.
محمد بن محمد بن إبراهيم
(2)
بن غَيْلان بن عبد اللَّه بن غَيْلان بن حكيم بن غَيْلان أبو طالب البزّاز.
روى عن جماعة، وهو آخر من حدَّث عن أبي بكر الشافعي، وكان ثقةً، صدوقًا، ديِّنًا، صالحًا، قويّ النفس على كبر السن، كان يملك ألف دينار، فيصبّها كلَّ يومٍ في حجْره فيقلِّبها ثمّ يردّها إلى موضعها، وقد خرّج له الدّارقطني "الأجزاء الغيلانيات"
(3)
وهي سماعنا، وكانت وفاته يوم الإثنين سادس شوّال من هذه السنة عن أربع وتسعين سنة، ويقال: إنه بلغ مئة سنة وخمس سنين، فاللَّه أعلم.
الملك أبو كاليجا
(4)
واسمه المَرْزُبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عَضُدِ الدولة، كانت وفاته في هذه السنة عن أربعين سنة وأشهرٍ، وقد وَلي العراق نحوًا من أربع سنينٍ، ونُهبت له قلعة كان فيها ما يزيد على ألف ألف دينار، وقام بالأمر من بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر كما تقدّم ذكره في الحوادث.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمئة
في عاشر المحرم تقدّم إلى أهل الكرخ ألا يعملوا بدعة النَّوح، فجرت بينهم وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحدّ من الجراح والقتل.
(1)
المنتظم (8/ 138)، الكامل في التاريخ (9/ 542)، سير أعلام النبلاء (17/ 620)، الوافي بالوفيات (2/ 304)، النجوم الزاهرة (5/ 45).
(2)
المنتظم (8/ 139)، وفيه اسمه: محمد بن أحمد. تاريخ بغداد (3/ 234)، الكامل في التاريخ (9/ 552)، سير أعلام النبلاء (17/ 598)، الوافي بالوفيات (1/ 119)، النجوم الزاهرة (5/ 47)، شذرات الذهب (3/ 265).
(3)
حققها في مجلدين تحقيقًا علميًا حلمي كامل أسعد، ونشرتها دار ابن الجوزي بالرياض سنة 1417 هـ (بشار).
(4)
المنتظم (8/ 136)، الكامل في التاريخ (9/ 547)، سير أعلام النبلاء (17/ 631)، النجوم الزاهرة (5/ 46)، شذرات الذهب (3/ 263).
وفيها: بنى أهل الكرخ سورًا عليه، وبنى أهل السنة سورًا على سوق القلائين، ونقض كلّ من الفريقين أبنية الآخرين، وحملوا الآجر إلى مواضعه بالطبول والمزامير، وجرت بينهم مفاخرات في ذلك، وسخف لا ينحصر ولا ينضبط [وإنشاد أشعار في فضل الصحابة وثلبهم، ثم وقعت بينهم فتن يطول أمرها
(1)
، وأحرقوا دورًا كثيرة جدًا.
وفيها: وقعت وحشة بين الملك طُغْرُلْبَك وأخيه إبراهيم يَنّال، فأمر طُغْرلْبَك بضربه وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، فسار إبراهيم فجمع جموعًا كثيرة، واقتتل هو وأخوه فهزمه طُغْرُلْبَك، ثمّ أسره من قلعة قد تحصّن بها بعد محاصرة أربعة أيام فاستنزله منها مقهورًا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عند أخيه مكرمًا.
وكتب ملك الروم إلى طُغْرُلْبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم يَنّال، ويبذل له فيه قطعة كبيرة من المال، فبعثه إليه مجّانًا من غير عوض اشترطه عليه، فأرسل ملك الروم هدايا كثيرة وتحفًا غزيرة، وأمر بعمارة المسجد الذي بالقُسْطَنْطينية، وأقيمت فيه الصلاة، والجمعة، وخُطِبَ فيه للملك طُغْرُلْبَك، فبلغ هذا الأمر العجيب سائر الملوك، فعظّموا الملك طُغْرُلْبَك تعظيمًا زائدًا، وخطب له نصر الدولة بن مروان بالجزيرة.
وفيها: ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سُبُكْتكين الملك بعد وفاة أبيه، وكان صغيرًا فمكث أيامًا ثمّ عدل عنه إلى عمّه علي بن مسعود، ثمّ نازعه عمّه عبد الرشيد بن محمود فاستقرّ الملك بيده، وانعزل علي بن مسعود، وهذا أمر غريب جدًا.
وفيها: ملك المصريون مدينة حلب، وأجلوا عنها صاحبها ثِمال بن صالح بن مرداس.
وفيها: كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب.
وفيها: ملك البساسيري الأنبار من يد قرواش فأصلح أمورها.
وفي شعبان: سار البساسيري إلى طريق خراسان، وقصد ناحية الدزّدار وملكها، فغنم مالًا كثيرًا كان فيها، وكان سعْدي بن أبي الشوك قد حصّنها.
قال ابن الجوزي
(2)
: وفي ذي الحجَّة ارتفعت سحابة سوداء ليلًا فزادت على ظلمة اللّيل، وظهر من جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس لذلك، وخافوا، وأخذوا في الدّعاء والتضرّع، فانكشف في باقي اللّيل بعد ساعة جيدة، وكانت قد هبّت ريح شديدة جدًا قبل ذلك، فأتلَفَتْ شيئًا كثيرًا من الأشجار
(1)
في (ط): ذكرها.
(2)
المنتظم (8/ 142).
وهدمت رواشن كثيرة، من دار الخلافة، ودار المملكة، ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمد بن منصور
(1)
أبو الحسن، المعروف بالعَتِيقي نسبة إلى جدٍّ له كان يسمّى عتيقًا.
سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقًا، توفي في صفر وقد جاوز السبعين
(2)
.
علي بن عبد اللَّه بن الحسين أبو القاسم العلوي
(3)
، ويعرف بابن الشَّبية
(4)
.
قال الخطيب: سمع من ابن المظفر، وكتبت عنه، وكان صدوقًا ديِّنًا، حسن الاعتقاد، يورِّق بالأجرة، ويأكل منه، ويتصدّق، توفي في رجب منها وقد جاوز الثمانين.
عبد الوهّاب بن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي
(5)
يكنّى بأبي الفائز، شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى وثلاثين، فأجاز شهادته احترامًا لأبيه، وكانت وفاته في المحرَّم من هذه السنة.
الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن علي بن عبد اللَّه بن محمد الصُّوري
(6)
الحافظ.
طلب الحديث بنفسه بعدما كبر وأسنّ، فرحل في طلب الحديث إلى الآفاق، وكتب الكثير، وصنَّف واستفاد على الحافظ عبد الغني بن سعيد المصريّ، وكتب عنه شيخه عبد الغني شيئًا من تصانيفه، وكان من أعظم أهل الحديث همَّة في الطلب وهو شابٌّ، ثمّ كان من أقوى الناس عزيمةً على العمل الصالح، كان يسرد الصوم كلَّ يوم
(7)
إلا يومي العيدين و [أيام] التشريق، وكان مع ذلك حَسَن الخُلق، جميل المعاشرة، وقد ذهبت إحدى عينيه فكان يكتب بالأخرى المجلّد في جزء.
قال أبو الحسن بن الطُّيُوري: يقال: إنّ عامّة كتب الخطيب سوى التاريخ مستفادة من كتب عبد اللَّه
(1)
تاريخ بغداد (4/ 379)، المنتظم (43/ 18)، الكامل في التاريخ (9/ 561)، سير أعلام النبلاء (17/ 602)، الوافي بالوفيات (7/ 358)، شذرات الذهب (3/ 265).
(2)
في (ط): التسعين، وهذا خطأ إذ ذكر الخطيب وابن الجوزي والذهبي أنه ولد سنة سبع وستين وثلاثمئة.
(3)
المنتظم (8/ 142)، تاريخ بغداد (12/ 9).
(4)
تحرفت في (ط) إلى: محيي السنة.
(5)
المنتظم (8/ 143)، الكامل في التاريخ (9/ 561).
(6)
تاريخ بغداد (3/ 103)، المنتظم (8/ 143)، الكامل في التاريخ (9/ 561)، سير أعلام النبلاء (17/ 627)، النجوم الزاهرة (5/ 48)، شذرات الذهب (3/ 267).
(7)
سرد الصوم كل يوم مخالف للسنة، وفيه نهي، وأفضل الصيام، صيام داود عليه السلام، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا (ع).
الصُّوري
(1)
، وترك كتبه اثني عشر عدلًا عند أخيه، فلمّا صار الخطيب إلى الشام أعطى أخاه شيئًا وأخذ بعض تلك لكتب فحوّلها في كتبه، ومن شعر أبي عبد اللَّه الصُّوريّ:
تَوَلَّى الشَّبابُ بِرَيْعَانِهِ
…
وَجَاءَ المَشِيْبُ بِأحْزَانِهِ
فَقَلْبِي لِفِقْدَانِ ذَا مُؤْلِمٌ
…
كَئِيبٌ بِهَذَا وَوِجْدَانِه
وإنْ كَانَ مَا جَارَ في سَيْرِه
(2)
…
وَلا جَاءَ في غَيْرِ إبَّانِهِ
وَلَكِنْ أتَى مُؤْذِنًا بِالرَّحيـ
…
ــلِ فَوَيْلِي مِنْ قُرْبِ إيْذَانِه
ولَوْلا ذُنُوبٌ تَحَمَّلْتُهَا
…
لَمَا رَاعَنِي حَالَ إتْيَانِهِ
(3)
وَلَكِن ظَهْري ثَقِيْلٌ بِمَا
…
جَنَاهُ شَبَابِي بِطُغْيَانِهِ
فَمَنْ كَان يَبْكي شَبَابًا مَضَى
…
وَيَنْدُبُ طِيْبَ أزْمَانِهِ
(4)
فَلَيْسَ بُكَائِيْ وَمَا قَدْ تَرَو
…
نَ مِنِّي لِوَحْشَةِ فُقْدَانِهِ
وَلَكِنْ لِما كَان قَدْ جَرَّه
…
عَلَيَّ بِوَثْبَاتِ شَيْطَانِه
(5)
فَوَيْلي
(6)
وَوَيْحِي إنْ لَمْ يَجُدْ
…
عَليَّ مَلِيْكِي بِرِضْوَانِهِ
وَلَمْ يَتَغمّد ذُنُوبي وَمَا
…
جَنَيْتُ بِواسِعِ غُفْرَانِهِ
(7)
ويَجْعَلْ مَصِيري إلى جَنَّةٍ
…
يَحُلُّ بِهَا أهْلُ قُرْبَانِهِ
(8)
وإنْ كُنْتُ مَا لي من قُرْبَة
(9)
…
سِوَى حُسْنِ ظَنِّي بِإحْسَانِهِ
وأني مُقِرٌّ بِتَوْحِيْدِهِ
…
عَلِيمٌ بِعِزَّةِ سُلْطَانِهِ
أخالِفُ في ذَاكَ أهْلَ الجُحودِ
(10)
…
وأهْل الفُسُوق وعُدْوَانِه
(1)
هذا كلام لا يصح البتة، وقد فندناه بتفصيل في مقدمتنا لتاريخ الخطيب، فراجعها إن شئت (3/ 43 - 45)(بشار).
(2)
في (ط): حكمه.
(3)
في (ط): لما راعني إتيانه.
(4)
في (ط): زمانه.
(5)
لم يرد هذا البيت في (أ) و (ب)، وفي المنتظم (8/ 144):
فولّى وأبقى عليّ الهموم
…
مما قد تحملت في شانه
(6)
في المنتظم: فويلي وعوني لئن.
(7)
في (ط): حنيت برحمته وغفرانه.
(8)
في (ط): يحلّ بها أهل رضوانه وغفرانه.
(9)
في (ط): فإن كنت مالي من طاعة.
(10)
في (ط): الهوى.
وأرْجُو بِهِ الفَوْزَ في مَنْزِلٍ
…
مُقِرٍّ لأعْيُنِ سُكّانِهِ
(1)
وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ أهْلَ الجُحُو
…
دِ وَمَنْ أقَرَّ بإيْمَانِهِ
فَهَذَا يُنَجِّيهِ إيْمَانُهُ
…
وَهَذَا يَبُوءُ بِخُسْرَانِهِ
وَهَذَا يَنعمُ في جَنَّةٍ
…
وَذَلك في قَعْرِ نِيْرَانِهِ
(2)
ومن شعر أبي عبد اللَّه الصُّوريّ أيضًا، رحمه اللَّه تعالى:
قلْ لِمنْ عَاندَ الحَديثَ وأضْحَى
…
عَائبًا أهْلَهُ ومَنْ يَدَّعِيْهِ
أبِعلْمٍ تَقُولُ هَذَا أبِنْ لي
…
أمْ بِجَهْلٍ فَالجْهَلُ خُلُقُ السَّفيهِ
أيُعَابُ الذينَ هُم حَفِظُوا الدِّيْـ
…
ــنَ من التُّرَّهَاتِ وَالتَّمْويْهِ
وإلى قَوْلهِمْ وَمَا قَدْ رَوَوْهُ
…
رَاجِعٌ كلُّ عالمٍ وفقيهِ
وكان سبب وفاته رحمه الله أنّه افتصد فورمت يده، لأنّه على ما ذكر، كانت ريشة الحاجم مسمومة لغيره، فغلط ففصده بها، فكانت فيها منيته بإذن اللَّه وقَدَرِه، فحُمل إلى المارستان فمات به في يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة من هذه السَّنة، ودفن بمقبرة جامع المدينة، وقد نيّف على الستين سنة، أسأل اللَّه تعالى أن يرحمنا وإيّاه بمنّه وكرمه.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وأربعمئة
فيها: فتح السلطان طُغْرُلْبَك أصبهان بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من الريّ، وجعلها دار إقامته. وخرّب قطعة من السور، وقال: إنّما يحتاج إلى السور من تضعف قوته، وأنا حصني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور قرامرز
(3)
بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، فأخرجه منها، وأقطعه بعض بلادها.
وفيها: سار الملك الرحيم إلى الأهواز، وأطاعه عسكر فارس، وملك عسكر مَكْرَم
(4)
.
وفيها: استولت الخوارج على عُمان، وأخربوا دار الإمارة منها، وأسروا أبا المظفَّر بن أبي كاليجار.
وفيها: دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقيّة، وجرت بينهم وبين المعزّ بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الأرض فسادًا عدّة سنين.
(1)
في (ط): معدٍّ مهيأ لسكانه.
(2)
في (ط): وذاك قرين لشيطانه.
(3)
في (ط): قرامز.
(4)
بلد مشهور من نواحي خوزستان منسوب إلى مَكْرَم بن مغراء. معجم البلدان (4/ 123).
وفيها: اصطلح الروافض والسنّة ببغداد وذهبوا كلُّهم لزيارة المشهدين، مشهد عليّ، ومشهد الحسين، وترضّوا في الكرخ عن الصحابة وترحّموا عليهم، وهذا عجيب جدًا، إلا أن يكون من باب التقيّة، ورخصت الأسعار ببغداد جدًا.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة أيضًا، فلا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
علي بن عمر بن الحسن أبو الحسن الحَرْبي، المعروف بالقَزْويني
(1)
.
وُلد في مستهلّ المحرّم من سنة ستين وثلاثمئة، وهي الفيلة التي توفي فيها أبو بكر الآجريّ، وسمع أبا بكر بن شاذان، وأبا حفص الزيّات، وابن حَيُّويه. وكان وافر العقل من كبار عباد اللَّه الصالحين، له كرامات كثيرة، يقرأ القرآن بالقراءات. ويروي الحديث، ولا يخرج إلا للصّلاة، وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، فغلقت بغداد يومئذ لموته، وحضر الناس جنازته، وكان يومًا مشهودًا رحمه الله.
عمر بن ثابت الثَّمانين، النَّحوي، الضرير
(2)
، شارح "اللُّمع".
وكان في غاية العلم بالنحو، وكان يأْتَجِرُ عليه
(3)
.
ذكر ابن خلِّكان: أنّه اشتغل على ابن جنيّ وشرح كلامه، وكان ماهرًا في صناعة النحو، قال: وهذه النسبة إلى قرية بالجزيرة، يقال لها: ثمانين، باسم الثمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السَّفينة، واللَّه أعلم.
قِرواش بن مُقلَّد
(4)
أبو المَنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرهما، كان من الجبَّارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الأحايين، فاستماله إليه، فخطب له ببلاده، ثمّ تركه واعتذر إلى القادر فعذَرَهُ، وقد جمع هذا الجبَّار بين أختين في النكاح فلامته العرب، فقال: وأيّ شيء نعمله هو مباح في الشريعة. وقد نكب في أيام المعزِّ الفاطمي، ونهبت حواصله، وحين توفي قام بالأمر من بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلَّد.
(1)
تاريخ بغداد (12/ 43)، المنتظم (8/ 146)، سير أعلام النبلاء (17/ 609)، طبقات السبكي (5/ 260)، النجوم الزاهرة (5/ 49)، شذرات الذهب (3/ 268).
(2)
المنتظم (8/ 146)، وفيات الأعيان (3/ 443)، شذرات الذهب (3/ 269).
(3)
يعلمه بالأجرة.
(4)
المنتظم (8/ 147)، الكامل في التاريخ (9/ 553)، سير أعلام النبلاء (17/ 633)، ووفاته فيه سنة أربع وأربعين وأربعمئة. النجوم الزاهرة (5/ 49)، شذرات الذهب (3/ 266).
مَوْدود بن مَسْعود بن محمود بن سُبُكْتِكين
(1)
صاحب غَزْنَة، توفي في هذه السنة، وقام بالأمر من بعده عمّه عبد الرّشيد بن محمود بن سُبُكْتِكين، واللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمئة
في صفر منها وفع الحرب بين الروافض والسنّة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أنّ الروافض نصبوا أبراجًا وكتبوا عليها بالذهب، محمّد وعليّ خير البشر، فمن رضي شكر، ومن أبى فقد كفر. فأنكرت السنّة اقتران عليّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت الحرب بينهم واستمرّ القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقُتل رجلٌ هاشميّ فدفن عند الإمام أحمد، ورجع السنّة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر، وأحرقوه، وأحرق ضريح موسى ومحمّد الجواد، وقبور ملوك بني بويه، ومَنْ هناك من الوزراء، واحترق قبر جعفر بن المنصور، ومحمّد الأمين، وأمّه زبيدة وقبور كثيرة [جدًا]، وانتشرت الفتنة، وتجاوزت الحدّ، وقد قابلهم أولئك [الرافضة] أيضًا بمفاسد كثيرة، وأحرقوا محال كبيرة، وبعثروا قبورًا قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى همّوا بقبر الإمام أحمد فمنعهم النَّقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلَّط على الرافضة عيّار يقال له: القطيعي
(2)
تتبّع رؤوسهم وكبارهم فقتلهم جهارًا وغيلةً، وعظمت المحنة بسببه جدًا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر، ولما بلغ ذلك دُبَيس بن علي بن مَزْيَد، وكان رافضيًّا قطع خطبة الخليفة القائم بامر اللَّه، ثمّ روسل فأعادها.
وفي رمضان جاءت الهدايا من الملك طُغْرُلْبَك إلى الخليفة، شكرًا له على إنعامه عليه، وإحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد، وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد كان طُغْرُلْبَك حين عمَّر الريَّ وخرَّب فيها أماكن ليصلحها، وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
محمد بن محمد بن أحمد
(3)
أبو الحسن الشاعر البُصْرويّ نسبة إلى قرية دون عُكْبَرا يقال لها بُصْرَي
(4)
، باسم المدينة التي هي أمّ حَوران.
(1)
المنتظم (8/ 148)، الكامل في التاريخ (9/ 558)، سير أعلام النبلاء (17/ 634)، شذرات الذهب (3/ 634).
(2)
كذا في الأصل، وفي (ب): القطيطقي، وفي المنتظم (8/ 150)، وتاريخ الإسلام للذهبي (9/ 610): الطقطقي.
(3)
تاريخ بغداد (3/ 236)، المنتظم (8/ 152)، الكامل في التاريخ (9/ 580)، معجم البلدان (1/ 141).
(4)
وهي من قرى بغداد.
وقد سكن بغداد، وكان متكلمًا مطبوعًا، له نوادر، ومن شعره الذي رواه عنه الخطيب قوله:
نَرَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتَها
(1)
فَنَصْبُو
…
وَمَا يَخْلُو من الشهوات
(2)
قَلْبُ
فَضُولُ العَيْشِ أكْثَرُها هُمُومٌ
…
وَأَكْثَرُ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ
فَلا يَغْرُرْكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ
…
وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعْطَافِ رَطْبُ
إذَا ما بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا
…
فَخُذْها فَالغِنَى مَرْعًى وشُرْبُ
إذا اتّفَقَ القَلِيْلُ وفيه سِلْمٌ
…
فَلا تُرِدِ الكَثِير وَفِيْهِ حَرْبُ
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمئة
فيها: كتبت محاضر بذكر الخلفاء المصريين، وأنهم أدعياء [كذبة] لا نسب لهم صحيحًا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكتب فيها القضاة والفقهاء والأشراف.
وفيها: كانت زلازل عظيمة بنواحي أرَّجان، والأهواز، وتلك البلاد، فهدم بسببها شيء كثير من العمران والدور، وشُرُفات القصور، وحكى بعض من يعتمد قوله، إنّه انفرج إيوانه حتى رأى السماء منه، وشاهد ذلك ثمّ عاد إلى حاله كأن لم يتغيّر.
وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين الروافض وأهل السنة، وأحرقوا أماكن كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق وكتبوا على مساجدهم: محمد وعليّ خير البشر، وأذّنوا بحي على خير العمل، واستمرّت الحروب بينهم، وتسلّط القطيعي العيار على الروافض بحيث إنّه لم يقرّ لهم معه قرار، وهذا من جملة ما جرت به الأقدار.
وممن توفي فيها من الأعيان:
ابن المُذْهِب راوي "المسند"
(3)
الحسنُ بنُ عليّ بن محمد بن عليّ بن أحمد بن وهب بن سنبل
(4)
بن قرّة بن واقد، أبو علي التميميُّ الواعظ.
(1)
كذا الأصل، وفي (ط) والمنتظم، ومعجم البلدان: شهوتها، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الخطيب الذي ينقل منه المؤلف.
(2)
في الأصل: "الشبهات"، وما أثبتناه من (ط)، وهو الموافق لما في تاريخ الخطيب الذي ينقل منه المؤلف، وهو كذلك في المنتظم ومعجم البلدان.
(3)
تاريخ بغداد (7/ 390)، المنتظم (8/ 155)، الكامل في التاريخ (9/ 592)، سير أعلام النبلاء (17/ 640)، النجوم الزاهرة (5/ 53)، الوافي بالوفيات (12/ 121)، شذرات الذهب (3/ 271).
(4)
في المنتظم: شبل.
ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، وسمع مسند الإمام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي، عند عبد اللَّه ابن الإمام أحمد عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي محمد بن ماسي، وابن شاهين، والدّارقطني، وخلق، وكان ديّنًا خيّرًا.
وقد ذكر الخطيب
(1)
: أنّه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي، غير أنّه ألْحَق اسمَه في أجزاء.
قال ابن الجوزي: وليس هذا بقدح [في سماعه]، لأنّه إذا تحقّق سماعه، جاز أن يلحق اسمه الذي غَفَل عنه الكاتب، والعجب أن يجاز قول الشيخ: أخبرني فلان ولا يسمع منه، ولا يجيز إلحاقه اسمه فيما تحقّق سماعه له، وقد تعنَّت عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها، رحمه اللَّه تعالى
(2)
.
علي بن الحسين بن محمد أبو الحسن، المعروف بالشاشى
(3)
البغدادي، وقد أقام بالبصرة، فاستحوذ هو وعمّه عليها، وعلى أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنّه من ذوي الأحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب فاجر، قبّحه اللَّه، وقبَّح عمّه، وقد كان مع هذا رافضيًّا خبيثًا، قرمطيًّا -لا كثّر اللَّه أمثاله في العالمين- كانت وفاته في هذا العام، وللَّه الحمد.
القاضي أبو جعفر السِّمْناني
(4)
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القاضي.
أحد المتكلِّمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد سمع الحديث من الدّارقطني وغيره، وكان عالمًا، فاضلًا، سخيًّا، وتولّى القضاء بالموصل، وكان له في داره مجلس للمناظرة، وتوفي بعدما كفّ بصره بالموصل وهو قاضيها في هذه السنة، في ربيع الأول، وقد بلغ خمسًا وثمانين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمئة
فيها: تجدد الشرّ والقتال والحريق بين الروافض والسنّة، وقوي وتفاقم الحال.
ووردت الأخبار بأن المعزّ الفاطمي عازم على قصد العراق.
وفيها: نقل إلى الملك طُغْرُلْبَك: أن الشيخ أبا الحسن الأشعريّ يقول: بكذا وكذا، وذكر أشياء من الأمور التي أنكر الملك [والتي لا تليق بالدين والسّنة]، فأمر بلعنه، وصرّح أهل نَيسابور بتكفير من يقول
(1)
تاريخ بغداد (7/ 390).
(2)
كلام ابن الجوزي في الرد على الخطيب غير مُسَلَّم له، وقد أجاد الحافظ الذهبي في تقصي ترجمته وما قيل فيه، في تاريخ الإسلام (9/ 652 - 654)، وسير أعلام النبلاء (17/ 640 - 643)(بشار).
(3)
كذا في (ط): الشاشي وفي بعض النسخ: الشباشي.
(4)
تاريخ بغداد (4/ 382)، المنتظم (8/ 156)، الكامل في التاريخ (9/ 592)، سير أعلام النبلاء (17/ 652).
ذلك. فضجّ الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القُشَيري
(1)
، وصنّف رسالة سمّاها "شكاية أهل السّنة لما نالهم من المحنة" واستدعى السلطان جماعة من رؤوس الأشعريين، منهم القشيري فسألهم عمّا أنهي إليه من ذلك، فأنكروا أن يكون الأشعري قال ذلك، فقال: نحن إنَّما لعنا من يقول بذلك، وجرت فتن عظيمة طويلة.
وفيها: استولى الملك فولاسون
(2)
أبو منصور ابن الملك أبي كاليجار على شيراز، وخرج منها أخوه أبو سعيد
(3)
.
وفي شعبان أو شوّال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا بالبَوَازِيج
(4)
فهزمهم وأخذ أموالهم.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق فيها.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن عمر بن رَوْح
(5)
أبو الحُسين
(6)
النَّهْروَانيُّ.
كان ينظر في العيار بدار الضرب، وله شعر حسن، قال: كنت يومًا على شطّ النَّهروان فسَمعت رجلًا يتغنى في سفينة منحدرة يقول:
وما طلبوا سوى قتلي
…
فهان عليّ ما طلبوا
فاستوقفته وقلت: أضف إليه غيره أيضًا:
عَلَى قَتْلِيْ الأحِبَّةُ بالتـ
…
ــتمادِي في الجَفَا غَلَبُوا
(7)
(1)
الإمام القدوة أبو القاسم القشيري المفسّر، توفي سنة خمس وستين وأربعمئة، ورسالته المذكورة طبت عدة مرّات، وللشيخ زكريا الأنصاري شرح لها.
(2)
كذا الأصل وفي (ط): فولابسور، وفي الكامل (9/ 595): فولاستون. وفي تاريخ الإسلام (9/ 611): فولاذ.
(3)
كذا الأصل وفي (ط): والكامل: أبو سعد.
(4)
في (ط): قد أفسدوا في الأرض. والبوازيج: بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة. معجم البلدان (1/ 503).
(5)
المنتظم (8/ 158)، الكامل في التاريخ (9/ 604) وفيه وفاته سنة ست وأربعين وستمئة. وما هنا أصح، فقد ورخه الخطيب في هذه السنة، وقد سمع منه، وتابعه الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 666).
(6)
في (ط): "الحسن"، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ الخطيب وقد كتب عنه، فكان به عارفًا، وكذلك هو في تاريخ الإسلام وهو بخط المؤلف (9/ 666)(ثار).
(7)
في الكامل:
على قلبي الأحبةُ با
…
لتمادي في الهوى غلبوا
وَبِالهِجرَانِ طِيبَ النَّوْ
…
مِ مِنْ عَينيَّ قَدْ سَلَبُوا
(1)
وَمَا طَلَبُوا سِوى قَتْلِي
…
فَهَانَ عَلَيَّ مَا طَلَبُوا
إسماعيل بن علي بن الحسين بن محمد بن زَنْجُوَيه
(2)
أبو سعد
(3)
الرازي، المعروف بالسَّمَّان، شيخ المعتزلة.
سمع الحديث الكثير، وكتب عن أربعة آلاف شيخ
(4)
، وكان عالمًا بارعًا فاضلًا مع اعتزاله. ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام، وكان حنفيّ المذهب عالمًا بالخلاف والفرائض، والحساب، وأسماء الرجال، وقد ترجمه ابن عساكر في "تاريخه"
(5)
فأطنب في شكره والثّناء عليه.
عمر ابن الشيخ أبي طالب المكّي محمد بن عليّ بن عطيّة
(6)
.
سمع أباه وابن شاهين، وكان صدوقًا يُكْنَى بأبي حفص
(7)
.
محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر
(8)
أبو طالب، المعروف بالسَّواديّ، وهو أخو أبي القاسم الأزْهري.
توفي عن نيف وثمانين سنة.
محمد بن محمد بن أبي تمّام
(9)
أبو تمام الزَّيْنيّ، نقيب النُّقباء.
[قام ببغداد بعد أبيه] مكانه في النِّقابة.
(1)
في (ط) والكامل:
وبالهجران من عيني
…
طيب النوم قد سلبوا
(2)
الجواهر المضية (1/ 424)، سير أعلام النبلاء (18/ 55)، النجوم الزاهرة (5/ 51)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 109)، شذرات الذهب (3/ 273)، تهذيب تاريخ دمشق (3/ 38).
(3)
تحرفت في (ط) إلى: سعيد.
(4)
الذي في تاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الإسلام للذهبي: ثلاثة آلاف وستمئة شيخ، وفي رواية: ثلاثة آلاف شيخ، فلم يقل أحد أنه كتب عن أربعة آلاف شيخ (بشار).
(5)
تاريخ دمشق (9/ 22 - 23).
(6)
المنتظم (8/ 159).
(7)
في (ط): "جعفر" خطأ، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ الخطب (13/ 148 بتحقيقنا)، والمنتظم، وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 671)(بشار).
(8)
تاريخ الخطيب (2/ 162 ط. د. بشار)، سؤالات السلفي لخميس الحوزي، رقم (5)، المنتظم (8/ 159)، تاريخ الإسلام (9/ 671).
(9)
المنتظم (8/ 159)، الكامل في التاريخ (9/ 596).
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمئة
فيها: غزا الملك طُغْرُلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم، وسبى، وعمل أشياء حسنة، ثمّ عاد سالمًا إلى أذربيجان فأقام بها سنة.
وفيها: أخذ قريش بن بدران الأنبار، وخطب بها وبالموصل للسلطان طُغْرُلْبَك، وأخرج منها نواب البساسيري.
وفيها: دخل أبو الحارث المظفّر البساسيري إلى بغداد مع بني خفاجة منصرفه من الوقعة، وظهرت منه آثار النفرة للخلافة، فراسله الخليفة ليطيّب
(1)
نفسه، وخرج في ذي الحجّة إلى الأنبار فأخذها، وكان معه دُبَيس بن علي بن مَزْيَد، وخرب أماكن، وحرّق غيرها، ثمّ أذن له [الخليفة] في الدخول إلى بيت النَّوبة ليخلع عليه، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة [فقبَّل الأرض] فخدم وانصرف، ولم يعبر فقويت الوحشة.
ولم يحجّ أحد من العراق في هذه السّنة أيضًا، واللَّه أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسين بن جعفر بن محمّد بن داود
(2)
أبو عبد اللَّه السَّلَماسي.
سمع ابن شاهين وابن حَيّويه والدارقطني، وكان ثقة أمينًا مشهورًا باصطناع المعروف، وفعل الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى ذلك، وكان له في كلّ شهرٍ عشرة دنانير نفقة لأهله.
عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد اللَّه الأصْبَهَاني
(3)
، المعروف بابن اللبّان.
أحد تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وولي قضاء إيْذَج
(4)
، وكان يصلّي بالنّاس التراويح، ثمّ يقوم بعدهم [فيصلي] إلى [أن يطلع] الفجر، فربّما انقضى الشهر عنه، ولم يضطجع إلى الأرض، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
في (ب) و (ط): لتطيب.
(2)
المنتظم (8/ 161) والسَّلماسي: نسبةً إلى سلماس، وهي من بلاد أذربيجان. الأنساب (7/ 107).
(3)
تاريخ بغداد (10/ 144)، المنتظم (8/ 162)، الكامل في التاريخ (9/ 604)، سير أعلام النبلاء (17/ 653)، طبقات السبكي (5/ 72)، النجوم الزاهرة (5/ 38)، شذرات الذهب (3/ 274).
(4)
كورة وبلد بين خوزستان وأصبهان، وهي من أجلّ مدن هذه الكورة. معجم البلدان (1/ 288).
[ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمئة]
(1)
فيها: ملك طُغْرُلْبَك السّلجوقي بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية لبلاد العراق، وآخر مُلْكِ بني بويه.
وفيها: تأكَّدت الوحشة بين البساسيري وبين الخليفة، واشتكت الأتراك منه، وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنَّه كاتب المصريين بالطّاعة، وخلع ما كان عليه من بيعة العباسيين، وقال الخليفة: ليس إلّا إهلاكه.
ملكُ طُغْرُلْبَك السّلجوقي في بغداد ودخوله إليها في رمضان
(2)
قال الخطيب
(3)
: كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري، قد عظم أمره، واستفحل، لعدم أقرانه من متقدمي الأتراك، واستولى على البلاد، وطار اسمه، وتهيّبته أمراء العرب والعجم، ودُعي له على كثير من المنابر العراقيّة والأهواز ونواحيها، وجبى الأموال، ولم يكن الخليفة القائم بأمر اللَّه يقطع أمرًا دونَه، ثمّ صحّ عند الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الأتراك، عرّفهم وهو بواسط عزمه على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن ميكائيل بن سُلْجوق بن نعاق الملقب طُغْرُلْبَك، يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفضّ أكثر من كان مع البساسيري، وعادوا إلى بغداد، ثمّ أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي
(4)
فأحرقوها، وهدموا أبنيتها. ووصل طُغْرُلْبَك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقَّاه إلى أثناء الطريق الأمراء والوزراء والحجّاب، فدخل بغداد في أُبَّهةٍ عظيمة جدًّا، وخُطِبَ له بها، ثمّ بعده للملك الرحيم، ثم قُطِعَت خطبة الملك الرحيم في أواخر شهر رمضان، ورفع إلى قلعة السِّيروان معتقلًا، فكان آخر ملوك بني بُويه، وكانت مدة [ولايتهم قريب المئة وعشر سنين، وكان مدة] ولايته لبغداد ستّ سنين وعشرة أيّام.
وطُغْرُلْبَك أوّل ملوك السَّلجوقيّة، ونزل طُغْرُلْبَك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه على دور الأتراك، وكان معه ثمانية أفيلة، ووقعت فتنة بين الأتراك والعامة، ونُهب الجانب الشرقي بكماله، وجرت خطوب، وخبطة عظيمة.
(1)
زيادة من (ب) و (ط)، وفي (أ) تقديم وتأخير مخلّ بتسلسل الأحداث دون نقص فيها.
(2)
العنوان ساقط من (ب) و (ط).
(3)
تاريخه 11/ 48 فما بعدها (ط. د. بشار).
(4)
في (أ): الشرقي، وما أثبت موافق لما في تاريخ الخطيب الذي ينقل منه المصنف وهي كذلك في المنتظم والكامل.
وأمّا البساسيري فإنه فرَّ من الخليفة إلى ناحية بلاد الرَّحبة
(1)
، وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوة له بالعراق، فارسل إليه بولاية الرَّحبة، ونيابته بها، ليكون على أهبة التمكّن من الأمر الذي يحاوله، قبَّحهما اللَّه تعالى.
وفي يوم الثلاثاء عاشر
(2)
ذي القعدة قُلِّد أبو عبد اللَّه محمد بن علي الدَّامَغَاني
(3)
قضاء القضاة وخُلِع عليه، وذلك بعد موت أبي عبد اللَّه الحسين بن علي بن ماكولا، ثمّ خلع [الخليفة] على الملك طُغْرُلْبك بعد [دخوله بغداد] بيوم، ورجع إلى داره وبين يديه الدّبادب
(4)
والبوقات
(5)
.
وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن أمير المؤمنين القائم بأمر اللَّه، وهو ولي عهد أبيه، فعظمت الرزيّة به، وجلس رئيس الرؤساء للعزاء، وجاء النَّاس وقد أمروا بتخريق ثيابهم، ونشر عمائمهم، والتحفّي، وقُطعت الدبادب أيام العزاء به بدار الخلافة، ودار الملك، حزنًا على وليّ عهد الخلافة.
وفي هذه السنة: استولى أبو كامل علي بن محمد الصُّلَيحي
(6)
الهمذاني على أكثر أعمال اليمن، وخطب فيها للفاطميين، وقطع خطبة العباسيين.
وفيها: كثر فساد الغز ونهبهم [دواب الناس] فساورهم العوام، واقتتلوا، ونهبتهم العامة حتى بيع الثور بخمسة قراريط، والحمار بقيراطين إلى خمسة قراريط.
وفيها: اشتدّ الغلاء بمكّة، وعدمت الأقوات؛ فأرسل اللَّه عليهم جرادًا ملأ الأرض، فتعوضوا به عن الطعام، ولم يحج أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وفيها: غلت الأسعار بنواحي الأهواز حتى بيع الكُرُّ
(7)
في مدينة شيراز بألف دينار، ووقعت الفتنة بين الروافض والسنة على العادة، واقتتلوا قتالًا شديدًا مستمرًا. ولا يمكن للدولة أن تحجز بين الفريقين؛ فإنا للَّه وإنّا إليه راجعون.
(1)
"الرحبة": مدينة أحدثها مالك بن طوق التغدٍ في خلافة المأمون، بينها وبين دمشق ثمانية أيام، وإلى بغداد مئة فرسخ، وإلى الرقة نيف وعشرون فرسخًا، وهي بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات. معجم البلدان (3/ 34).
(2)
في (ب): اليوم الثاني عشر، خطأ، فهو لا يوافق الحساب.
(3)
سترد ترجمته في وفيات سنة ثمان وسبعين وأربعمئة.
(4)
جمع دبداب: وهو الطبل.
(5)
جمع بوق: وهو أداة مجوفة ينفخ فيها ويزمر.
(6)
سترد ترجمته وافية مع وفيات سنة ثلاث وسبعين وأربعمئة.
(7)
"الكُرّ": مكيال العراق، وهو ستون قفيزًا، أو أربعون أردبًا. وفي المنتظم (8/ 163): الكرّ من الحنطة.
وفيها: وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة. وكان جانب الحنابلة قويًّا بحيث لم يمكّن كثيرًا من الأشاعرة شهود [الجمعة و] الجماعات، قاله ابن الجوزي في "المنتظم"
(1)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسين
(2)
بن علي بن جعفر بن علَّكان
(3)
بن محمد بن دُلف بن أبي دُلف العجلي
(4)
قاضي القضاة، أبو عبد اللَّه، المعروف بابن ماكولا، الشّافعي.
أصله جَرْباذَقان
(5)
، وولي القضاء بالبصرة، ثم ولاه القادر باللَّه قضاء القضاهَ ببغداد سنة عشرين وأربعمئة، وأقرّه ابنه القائم بأمر اللَّه إلى أن مات في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة، وله في القضاء سبع وعشرون سنة، وكان صيّنًا، ديّنًا، لا يقبل من أحد هديّة، ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع من أبي عبد اللَّه بن مَنْده، وله شعر حسن فمنه:
تَصَابَى بُرْهَةً مِنْ بَعْدِ شَيْبٍ
…
فَمَا أغْنَى المَشِيْبُ مَعَ التَّصَابِي
(6)
وَسَوَّدَ عَارِضَيْهِ بِلَوْنِ خَضْبٍ
(7)
…
فلمْ ينفعْهُ تَسْوِيْدُ الخِضَابِ
وَأَبْدَى لِلأحبَّة كُلَّ لُطْفٍ
…
فَما زَادُوا سِوَى فَرْطِ اجتِنَابِ
سلامُ اللَّه عَوْدًا بَعْدَ بَدْءٍ
…
على أيّامِ رَيْعانِ الشَّبابِ
تَوَلَّى غَيْرَ مَذْمُومٍ وَأبْقَى
…
بِقَلْبِي حَسْرَةً تَحْتَ الحِجَابِ
(8)
علي بن المُحَسِّن بن علي بن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التَّنُوخي
(9)
.
قال ابن الجوزي: وتَنُوْخُ هذه اسم لعدّة قبائل اجتمعوا بالبحرين، وتحالفوا على التناصر والتآزر
(1)
المنتظم (8/ 163)، ومن قوله: وفيها غلت الأسعار. . . إلى هنا ساقط من (ب).
(2)
في (ط): "الحسن"، محرف.
(3)
في (ط): "علي"، وهو جائز أيضًا، لكن سيأتي في ترجمة ابن أخيه علي أنه سماه هناك "علكان"(وفيات سنة 475)(بشار).
(4)
تاريخ بغداد (8/ 80)، المنتظم (8/ 167)، الكامل في التاريخ (9/ 615)، شذرات الذهب (3/ 275).
(5)
بلدة قريبة من همذان بينها وبين الكرخ وأصبهان. معجم البلدان (1/ 118).
(6)
في المنتظم (8/ 167): فما أغنى مع الشيب التصابي.
(7)
في المنتظم (8/ 167): خضر.
(8)
في (ط):
تولى عزمه يومًا وأبقى
…
بقلبي حسرة ثمّ اكتئاب
(9)
تاريخ بغداد (12/ 115)، المنتظم (8/ 168)، الكامل في التاريخ (9/ 615)، وفيات الأعيان (4/ 162)، سير أعلام النبلاء (17/ 649)، النجوم الزاهرة (5/ 58)، شذرات الذهب (3/ 276).
فسموا تنوخًا. ولد بالبصرة سنة خمس وستين
(1)
وثلاثمئة، وسمع الحديث سنة سبعين، وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وتولّى القضاء بالمدائن وغيرها، وكان صدوقًا محتاطًا، إلا أنّه كان يميل إلى الاعتزال والرفض.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمئة
في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم، عُقد عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طُغْرُلْبَك، وقيل: امرأة أخيه داود، وتُلَقب أرسلان خاتون على صداق مئة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندريّ وزير طُغْرُلْبَك، ونقيب العلويين، ونقيب الهاشميين، وقاضي القضاة الدامغاني، وأقضى القضاة الماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة، وهو الذي خطب الخطبة، وقبل الخليفة العقد بنفسه، فلمّا كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طُغْرُلْبَك وقال: أمير المؤمنين يقول ذلك: قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقد أذن في نقل الوديعة الكريمة إلى داره العزيزة، فقال: السمع والطاعة، فذهبت أمّ الخليفة إلى دار المملكة لاستدعاء العروس فجاءت معها، وفي خدمتها الوزير عميد الملك، فدخلوا دار الخلافة، وشافه [الوزير] الخليفةَ عن عَمِّها يسأل معاملتها باللطف. والإحسان. فلما دخلت عليه قتلت الأرض بين يديه مرارًا، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها خلعة سنيّة وتاجًا من جوهر، وأعطاها من الغد مئة ثوب ديباج، وقضبانًا من ذهب، وطاسة ذهب قد رُصّع فيها الجوهر، والياقوت، والفيروزج، وأقطعها في كل سنة [من ضياعه] من عمل الفرات [ما يغلّ] اثني عشر ألف دينار.
وفي هذه السنة: أمر السلطان طُغْرُلْبَك ببناء دار الملك العضديّة، فخربت محال كثيرة في عمارتها، ونهبت العامة أخشابًا كثيرة بسببها من دور الأتراك، والجانب الغربي، وباعوه على الخبازين [والطباخين] وغيرهم.
وفيها: وقع غلاء شديد [على الناس]، وخوف، ونهب كثير ببغداد، ثمّ عقب ذلك فناء عظيم بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الأشربة، وما يحتاج إليه المرضى كثيرًا، [واعترى الناس موت كثير] واغبرَّ الجوّ، وفسد الهواء، وكثر الذباب. قال ابن الجوزي في "منتظمه"
(2)
: وعمّ هذا الوباء والغلاء مكّة، والحجاز، وديار بكر، والموصل، وبلاد الروم، وخراسان، والجبال، والدنيا كلّها، هذا لفظه.
(1)
في (ط): خمس وخمسين، خطأ.
(2)
المنتظم (8/ 171).
قال: وورد كتاب من مصر: أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجُدوا عند الصّباح موتى، أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكوَّرة [ليأخذها فلم يمهل].
وفيها أمر رئيس الرؤساء بأن تنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهله لذلك، وكان كثير الأذيّة للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكُنْدَريّ وزير الملك طُغْرُلْبَك.
وفيها: هبّت ريح شديدة، وارتفعت سحابة ترابيّة فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الأسواق إلى السُّرُج في النهار.
قال ابن الجوزي في "المنتظم"
(1)
: وفيها: في العشر الثاني من جمادى الآخرة، ظهر وقت السحر نجم له ذؤابة بيضاء، طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، في عرض نحو الذراع، ولبث على هذه الحال إلى النصف من رجب ثم اضمحلّ، وكانوا يقولون: إنه طلع مثل هذا بمصر فملكت، وكذلك بغداد، لما طلع فيها هذا ملكت، وخطب بها للمصريين.
وفيها: أُلزم الروافض بترك الأذان بحيّ على خير العمل، وأمروا أن يناديَ المؤذن في الصبح بعد الحيعلتين الصلاة خير من النوم مرّتين، وأزيل ما كان على أبواب مساجدهم ومشاهدهم من كتابة: محمّد وعليّ خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى الكرخ، فأنشدوا [القصائد] بفضائل الصحابة في مدائح لهم، وذلك أن النَّوء الأوّل [للرافضة] اضمحل، حيث كانت بنو بويه تقوّيهم
(2)
وتنصرهم، فزالوا وبادوا، وأذهب اللَّه دولتهم، وجاء اللَّه بقوم آخرين من الأتراك السّلجوقيَّة يحبّون السنّة، ويوالون أهلها، ويعترفون برِفعة قدرها، ويرفعون محلّها [واللَّه المحمود أبدًا على طول المدى]
(3)
، وأمر رئيس الرؤساء وزير الخلافة الوالي بقتل أبي عبد اللَّه بن الجلاب شيخ البزازين
(4)
بباب الطاق، لما كان يتظاهر به من الغلوّ في الرفض، فقتل، وصلب على باب دكانه. وهرب أبو جعفر الطوسي، ونهبت داره [وللَّه الحمد والمنة]
(5)
.
وفيها: جاء البساسيري قبّحه اللَّه تعالى إلى الموصل، ومعه نور الدولة دُبَيْس في جيش كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش، ونصره قتلمش ابن عم طُغْرُلْبَك، وهو جد ملوك الروم، فهزمهما البساسيري، وأخذ البلد قهرًا، فخطب بها للمصريين الفاطميين، وأخرج كاتبه من السجن. وكان قد أظهر الإسلام، ظنًا منه أن ذلك ينفعه، فقتل.
(1)
المنتظم (8/ 171).
(2)
في (ب): تقربهم.
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
في (ط): الروافض.
(5)
زيادة من (ب).
وكذلك خُطب للمصريين في هذه السنة بالكوفة وواسط وغيرهما من البلاد. وعزم الملك طُغْرُلْبَك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري، فنهاه الخليفة عن الخروج، وذلك لضيق الحال، وغلاء الأسعار، فلم يقبل، وخرج بجيشه قاصدًا الموصل في جحفل عظيم، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى، وربّما سطَوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك، فبعث يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، فسلّم عليه، فأعرض عنه [فقال: يا رسول اللَّه، لأيّ شيء تعرض عني] فقال له: يحكمك اللَّه في البلاد فلم لا ترفق بخلقه، ولا تخاف من جلال اللَّه عز وجل، فاستيقظ مذعورًا، وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحدٌ أحدًا، ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادًا، ثم فتحها وسلّمها إلى أخيه داود، ثمّ سار منها إلى بلاد بكر
(1)
ففتح أماكن كثيرة هنالك.
وفيها: ظهرت دولة الملثَّمين ببلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين، وكلمة الحق، واستولوا على بلاد كثيرة بالمغرب، منها: سِجِلْماسة، وأعمالها، والسوس، وقتلوا خلقًا كثيرًا من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له: أبو بكر بن عمر وقد أقام بسِجِلْماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين كما سيأتي بيانه، وولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقّب بأمير المؤمنين، وقوي أمره، وعلا قدره ببلاد المغرب.
وفيها: أُلْزم الذمّة بلبس الغيار ببغداد عن أمر السلطان طُغْرُلْبَك.
وفيها: ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولد ذكر، وهو أبو القاسم عبد اللَّه المقتدي بأمر اللَّه.
وفيها: كان الغلاء والفناء مستمرَّين [على الناس] ببغداد، وغيرها من البلاد، على ما كان عليه الأمر في السنة الماضية [فإنا للَّه وإنا إليه راجعون]
(2)
، ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السّنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
علي بن أحمد
(3)
بن علي بن سَلَّك
(4)
أبو الحسن المؤدب، المعروف
(1)
في الكامل في التاريخ (9/ 630): ديار بكر.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
تاريخ بغداد (11/ 334)، المنتظم (8/ 174)، الكامل في التاريخ (9/ 632)، سير أعلام النبلاء (18/ 54)، النجوم الزاهرة (3/ 378).
(4)
في بعض النسخ "بلبل"، وهو تحريف، وما أثبتناه من (ط)، وهو الموافق لما في مصادر ترجمته، وسَلك ضبطه ابن خلكان بفتح السين المهملة وتشديد اللام (وفيات 3/ 316)، وبه أخذ الذهبي في كتبه (تاريخ الإسلام 9/ 711) ووقع فيه من غلط الطبع بتشديد اللام وكسرها فيصحح والسير) وذكر ابن خلكان أنه وجده في موضع آخر بكسر السين وسكون اللام. وضبطه ابن حجر في التبصير بفتح السين وسكون اللام، فلعله وهم (بشار).
بالفالي
(1)
، صاحب "الأمالي"
(2)
، وفالة: قرية قريبة من أيْذَج
(3)
.
أقام بالبصرة مدّة، وسمع بها من أبي عُمر
(4)
بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل، ومن شعره [الحسن]
(5)
.
لما تبذلت المحاسن
(6)
أوجهًا
…
غيرَ الّذينَ عَهدتُ مِن علمائِها
وَرأيتُها محفوفةً بسوى الأُلى
…
كانوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفنائِها
أنْشَدْتُ بَيْتًا سائِرًا مُتَقدِّمًا
…
والعينُ قد شَرِقَتْ بجاري مائِها
أمّا الخيامُ فإنها كخيامِهمْ
…
وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائِها
ومن شعره أيضًا قوله:
تصدّرَ للتدريسِ كلُّ مهوَّسٍ
…
بليدٍ تَسمَّى بالفقيهِ المدرِّسِ
فحقَّ لأهلِ العلمِ أنْ يتمثّلوا
…
ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مَجْلِسِ
لقدْ هزَلتْ حتى بدَا من هُزَالها
…
كُلاهَا، وحتى سامَها كلُّ مُفْلِس
محمد بن عبد الواحد، ابن الصبّاغ الفقيه الشافعي.
وليس هذا بصاحب "الشامل"
(7)
. ذاك متأخر، وكان هذا من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة، وشهد عند قاضي القضاة ابن الدَّامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل المقدار، رحمه اللَّه تعالى.
هلال بن المحسّن بن إبراهيم بن هلال
(8)
أبو الحُسين
(9)
الكاتب الصابئ، صاحب التاريخ، وجدّه أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، وأبوه كان صابئيًا أيضًا، وأسلم هلال هذا وحسن إسلامه، وقد
(1)
"الفالي": نسبة إلى فالة، بلدة قريبة من أيذج من بلاد خوزستان. معجم البلدان (4/ 232).
(2)
لم تذكر المصادر أن للفالي كتاب "الأمالي" إنما هو لأبي علي، إسماعيل بن القاسم المتوفى سنة 356 هـ، ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 45)، ومصادر ترجمته ثمَّة.
(3)
معجم البلدان (4/ 232).
(4)
في (ط): "من عمر" خطأ.
(5)
تاريخ بغداد (2/ 362)، سير أعلام النبلاء (18/ 22)، الوافي بالوفيات (4/ 63)، طبقات السبكي (4/ 188).
(6)
في المنتظم وفي (ط): المجالس.
(7)
صاحب كتاب الشامل: أبو نصر ابن الصباغ.
(8)
تاريخ بغداد (14/ 76)، المنتظم (8/ 176)، وفيات الأعيان (6/ 101)، شذرات الذهب (3/ 278).
(9)
في (ط): "أبو الخير" وهو تحريف، وما أثبتناه من مصادر ترجمته وهو بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (9/ 719)(بشار).
كان سمع في حال كفره من جماعة المشايخ، وذلك أنَّه كان يتردد إليهم يطلب العلم والأدب، فلمّا أسلم نفعه ذلك، وكان [ذلك] سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي في "منتظمه"
(1)
، بسنده [مطولًا] أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام مرارًا يدعوه إلى اللَّه عز وجل، ويأمره بالدخول في الإسلام، ويقول له: أنت رجل عاقل، فَلِمَ تدَع دين الإسلام الذي قامت عليه الدلائل؟ وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمن ذلك أنه قال له: إن امرأتك حامل [بولد] ذكر، فسمّه محمّدًا، [فولدت ذكرًا، فسماه محمدًا]، وكنّاه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي مطوّلة، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقًا، رحمه اللَّه تعالى. توفي في هذه السنة وله تسعون سنة، منها في الإسلام نيّف وأربعون سنة، تغمّده اللَّه برحمته.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمئة
فيها: كان الغلاء والفناء مستمرَّين ببغداد وغيرها من البلاد، بحيث خلت [أكثر] الدور، وسُدّت على أهلها [أبوابها بما فيها وأهلها] فيها موتى، وصار المارّ في الطريق لا يلقى إلَّا الواحد بعد الواحد، وأكل الناس الجِيف والميتات من قلّة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضرّ، وأروح. وشوى رجل صَبِيَّة في الأتُّون
(2)
وأكلها، فقتل، و [قيل] سقط طائر ميت من سطح، فاحتوشه خمسة أنفس فاقتسموه، وأكلوه.
وورد كتاب من بخارى أنّه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها، ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء إلى يوم كتابة هذا الكتاب -يعني الوارد من بخارى- بألف ألف وستمئة ألف وخمسون ألفًا، والناس يمرّون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقًا فارغة وطرقات خالية، وأبوابًا مغلقة، حكاه ابن الجوزي
(3)
قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنّه لم يسلم إلا العدد القليل، قال: ووقع وباء بالأهواز وأعمالها، وبواسط، والنيل، والكوفة، وطبق الأرض، وكان أكثر سبب ذلك الجوع حتى كان الفقراء يشوون الكلاب، وينبسون القبور، ويشوون الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، وقد كانت تحفر الحفيرة فيدفن فيها العشرون، والثلاثون، وكان الإنسان يكون قاعدًا فينشقّ قلبه عن دم المهجة فيخرج إلى الفم
(4)
منه قطرة فيموت، وتاب الناس، وتصدّقوا بأكثر أموالهم [فلم يجدوا أحدًا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض
(1)
المنتظم (8/ 177).
(2)
"الأتُّون": الموقد الكبير، كموقد الحمّام.
(3)
المنتظم (8/ 177).
(4)
في (أ): القلب.
عليه الدنانير الكثيرة، والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسوة! أريد ما يسد جوعي فلا يجد ذلك]، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، وتصالحوا، ولزموا المساجد لقراءة القرآن والعبادة، وقلّ دار يكون فيها خمر إلا ومات أهلُها كلّهم، ودُخل على مريض له سبعة أيام في النزع، فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر، فأراقوها، فمات من فوره بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجد معه خمسون ألف درهم [فعرضت على الناس]، فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد [فلما كان بعد ذلك]، دخل أربعة فأخذوها فماتوا عليها [فلم يخرج من المسجد منهم أحد حيّ، بل ماتوا جميعًا].
وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبّار بن محمد يشتغل عليه سبعمئة متفقّه، فمات، وماتوا كلّهم إلا اثني عشر نفرًا منهم.
ولمّا اصطلح دُبَيْس بن علي مع الملك طُغْرُلْبَك، رجع إلى بلاده فوجدها خرابًا لقلّة أهلها [من الطاعون]، فأرسل رسولًا منه إلى بعض النواحي فتلقّاه طائفة فقتلوه وشووه، وأكلوه.
قال ابن الجوزي
(1)
: وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى [وسوق الطعام، والكنيس، وأصحاب السقط، وباب الشعير، وسوق العطارين]، وسوق العروس، والأنماط، والخشابين، والجزّارين، والتمّارين، والقطيعة، وسوق محول، ونهر الدجاج، وسويقة غالب، والصفّارين، والصبّاغين وغير ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من [الجوع و] الغلاء والفناء، [ضعف الناس، حتى طغت النار فعملت عملها، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون].
وفيها: كثر العيّارون ببغداد، وأخذوا الأموال جهارًا، وكبسوا الدور ليلًا ونهارًا، وكبست دار أبي جعفر الطّوسي متكلّم الشيعة، وأحرقت كتبه ودفاتره التي كان يستعملها في بدعته، ويدعو إليها أهل نحلته.
وفيها: دخل الملك طُغْرُلْبَك بغداد عائدًا إليها من الموصل، وقد تسلَّمها واستعادها من البساسيري، وسلّمها إلى أخيه إبراهيم ينَّال، فأحسن فيهم السّيرة، وحسنت منه العلانية والسريرة، فتلقّاه الأمراء والوزراء وكبار الدولة إلى أثناء الطريق، وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة فرجيّة
(2)
مجوهرة، فلبسها، وقبّل الأرض، ثمّ بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب إليها فرسًا من مراكب الخليفة، فلمّا دخل على الخليفة إذ هو على سرير طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة [النبويّة]، وبيده القضيب، فقبّل الأرض، ثمّ أجلس الملك على سرير دون سرير الخليفة، ثمّ قال الخليفة لرئيس
(1)
المنتظم (8/ 181).
(2)
"فرجيّة": ثوب له فتحة من الإمام.
الرؤساء، قل له: أمير المؤمنين حامد لسعيك، شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه اللَّه تعالى من بلاده، فاتق اللَّه فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد، وصلاح العباد، ونشر العدل، وكفّ الظلم.
ففسّر له وزيره عميد الدولة ما قاله، فقام، وقبّل الأرض، وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرّف عن أمره ونهيه، ومتشرّف بما [أهَّلني له و] استخدمني فيه، ومن اللَّه أستمدّ المعونة والتوفيق.
ثمّ أذن له الخليفة في أن ينهض للبيت الخلع، فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض عليه سبع خلع، وتاج. ثمّ عاد فجلس على السرير، بعدما قبّل يد الخليفة، ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفًا وقلّده إياه، وخاطبه بملك الشرق والغرب، وأحضر ثلاثة ألوية، فعقد منها الخليفة بيده لواءً يُقال له: لواء الحمد، وأحضر العهد، فسلّم إلى الملك، ووضاه الخليفة بتقوى اللَّه تعالى والقيام بالحق في ذلك العهد [والعدل في الرعية]، وقرئ بين يدي الخليفة بحضرة الملك، ثمّ نهض فقبّل يد الخليفة، ووضعها على عينيه، ثمّ خرج في أُبّهة عظيمة [إلى داره]، وبين يديه الحجّاب والجيش بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، والتهنئة له، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة، منها خمسون ألف دينار، وخمسون غلامًا أتراكًا بمراكبهم وأسلحتهم، ومناطقهم، وخمسمئة ثوب أنواعًا، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش [وغير ذلك].
وفيها: قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازوري
(1)
، وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان هذا الوزير حنفيًّا يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان الشيخ أبو يوسف القَزْويني يثني عليه، ويمدحه.
وممن توفي في هذه السنة:
أحمد بن عبد اللَّه بن سليمان
(2)
بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهِّر بن زياد بن ربيعةَ بنِ الحارثِ بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عديّ بن غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تيم اللَّه بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن علوان
(3)
ببن عمران بن الحاف بن قُضاعة،
(1)
في (ط): البازري.
(2)
تاريخ بغداد (4/ 240)، المنتظم (8/ 184)، معجم البلدان (5/ 156)، الكامل في التاريخ (9/ 636)، وفيات الأعيان (1/ 113)، تاريخ الإسلام (9/ 721 - 732)، سير أعلام النبلاء (18/ 23)، الوافي بالوفيات (7/ 94)، النجوم الزاهرة (5/ 61)، شذرات الذهب (3/ 280) وثمة اختلاف يسير في نسبته بين المصادر.
(3)
في (ط): تغلب بن حلوان.
أبو العلاء المعرّي التَّنُوخي، الشاعر المشهور بالزَّندقة، اللُّغوي، صاحب الدواوين والمصنّفات في الشّعر واللغة.
ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمئة.
وأصابه جدريٌّ، وله أربع أو ستّ أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر، وله إحدى عشرة أو اثنتا عشرة سنة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمئة، فأقام بها [ستة أو] سبعة أشهر، ثمّ خرج منها طريدًا منهزمًا، لأنّه قال شعرًا يدلّ على قلّة دينه، وعلمه، وعقله، وهو قوله:
يدٌ بخَمس مِئينٍ عسْجدٍ وُديَتْ
…
ما بالُها قُطِعَتْ في رُبعِ دينار
(1)
تناقُضٌ ما لنا إلا السُّكوتُ لَهُ
…
وأن نَعُودَّ بمَولانا مِن النَّارِ
[وهذا من إفكه].
يقول: اليد ديتها خمسمئة دينار، فمالكم تقطعونها إذا سَرَقت ربع دينار، وهذا من قلّة عقله وعَمى بصيرته، وذلك أنه إذا جُني عليها يناسب أن تكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن العدوان، وأمّا إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقلّ قيمتها [وديتها] لتنزجر عن أخذ الأموال، وتُصان أموال الناس، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لمّا كانت أمينة، فلما خانت هانت. ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا الكلام هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله، فكان لا يخرج منه.
[وكان يومًا عند الخليفة، وكان الخليفة يكره المتنبِّي ويضع منه، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره، ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس، فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه ذلك. فغضب الخليفة، وأمر به فسحب برجله على وجهه، وقال: أخرجوا عني هذا الكلب. وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة؟ وذِكره لها؟ أراد قول المتنبي فيها:
وإذا أتَتْكَ مذمتي من ناقص
…
فهي الدليل عليّ أني كامل
وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا، وهذا من فرط ذكاء الخليفة حيث تنبّه لهذا]. ومكث خمسًا وأربعين سنة من عمره، لا يأكل لحمًا، ولا لبنًا، ولا بيضًا، ولا شيئًا من حيوان على طريقة البراهمة من الفلاسفة، ويقال: إن راهبًا اجتمع به في بعض الصوامع آواه اللّيل إليه، فشكّكه في دينه، وكان يتقوَّت بالنبات وغيره، وأكثر ما كان أكله العدس، ويتحلَّى بالدبس والتين، ولا يأكل
(1)
تقدم البيت الثاني على الأول في (ب) وكذلك في اللزوم (1/ 544).
بحضرة أحد، يقول: أكْلُ الأعمى عورة. وكان في غاية. الذكاء المفرط على ما ذكر، وأمّا ما ينقل عنه من الأشياء المكذوبة، والخرافات المختلقة، من أنّه وضع تحت سريره درهم فقال: إمّا أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم، أو ارتفعت الأرض مثل ذلك [أي أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم]
(1)
. فهذا ما لا أصل له، وهو كذب عليه، وكذلك يذكرون أنّه مرّ في بعض أسفاره بمكان فطاطأ رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: أما هاهنا شجرة؟ [قالوا: لا، فلم يوجد، ثمّ نظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك قديمًا قد اجتاز بها مرّة [في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت]، فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه هناك [لما جازوا تحتها، فلمّا مرّ بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفًا من أن يصيبه شيء منها]، فاستحضره في هذه المرة، فهذا أيضًا لا يصحّ، وهو كذب، وكذلك ما شاكل هذا من الكذب البحت، ولكن كان ذكيًّا ولم يكن زكيًّا، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي بعض أشعاره ما يدلُّ على زندقةٍ وانحلالٍ [من الدِّين]، ومن الناس من يعتذر عنه، ويقول:[إنّه إنما كان يقول ذلك مُجونًا ولعبًا]، كان في الباطن مسلمًا، وإنما يقول ذلك بلسانه. قال ابن عقيل: وما الذي كان يلجئه إلى أن يقول في دار الإسلام ما يكفّره به الناس؟ والمنافقون مع قفة علمهم، وعقلهم، ودينهم، أجود سياسة منه، حافظوا على ستر قبائحهم في الدنيا، وهو أظهر الكفر الذي تسلّط به عليه الناس [وزندقوه]، واللَّه تعالى يعلم أنّ باطنه كظاهره.
قال ابن الجوزي
(2)
: وقد رأيت لأبي العلاء كتابًا سمّاه "الفصول والغايات في معارضة السور والآيات"
(3)
على حروف المعجم في آخر كلماته، وهو في غاية الرِّكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته.
قال: وقد نظرتُ في كتابه المسمّى "لزوم ما لا يلزم". ثمّ أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره أشياء كثيرة، فمن ذلك قوله:
إذا كانَ لا يحظَى برزقِكَ عاقِلٌ
…
وتَرزقُ مَجنونًا وترزقُ أحمَقَا
فلا ذنْبَ يا ربَّ السماءِ على امرئٍ
…
رَأى مِنْكَ ما لا يَشْتهي فَتزنْدَقا
ومن ذلك أيضًا، قوله:
وهيهات البريّة
(4)
في ضلالٍ
…
وقد نظَر اللبيبُ لما اعتراها
(1)
زيادة من (ب).
(2)
المنتظم (8/ 185).
(3)
في حاشية (أ): رأيته بخط كاتبه في ثلاث مجلدات بمصر، وهو موجود حال كتابة هذا المكان.
(4)
في (ط): ألا إن البريَّة.
تقدَّمَ صاحبُ التوراةِ موسى
…
وأوقَع في الخَسارِ من افتراها
فقالَ رجالُه: وَحيٌ أتاه
…
وقالَ الناظِرونَ: بل افترَاهَا
وما حجِّي إلى أحجارِ بيْتٍ
…
كؤوسُ الخمْر تُشربُ في ذُرَاهَا
(1)
إذا رجعَ الحليمُ إلى حِجَاهُ
…
تهَاونَ بالمذاهبِ وازْدَراهَا
ومن ذلك أيضًا قوله:
هذت
(2)
الحنيفةُ والنصارَى ما اهتدَتْ
(3)
…
ويهودُ جَارتْ والمَجُوسُ مُضَلَّلَهْ
اثْنانِ أهلُ الأرضِ: ذُو عقْل بِلا
…
دينٍ، وآخرُ دَيِّن
(4)
لا عَقْل لَهْ
ومن ذلك أيضًا قوله:
فلا تَحْسَبْ مَقَال الرُّسْلِ حَقًّا
…
ولكِنْ قولُ زُورٍ سطَّروهُ
وكان النَّاسُ في عَيْشٍ رغيدٍ
…
فَجاؤُوا بالمُحال فكَدَّرُوهُ
وقلت أنا في معارضة هذا:
فلا تَحسَبْ مقال الرُّسْلِ كِذْبًا
(5)
…
ولكنْ قولُ حقٍّ بلَّغُوه
وكانَ الناسُ في جهلٍ عظيمٍ
…
فجاؤُوا بالبيانِ فَأذهبوه
(6)
ومن ذلك أيضًا قوله:
إنَّ الشرائعَ ألقَتْ بَيْننا إحَنًا
…
وَأوْرَثتْنا أفانينَ العَدَاواتِ
وهلْ أبيحَ نِساءُ الرومِ عن عُرُضٍ
(7)
…
للعُربِ إلا بأحكامِ النُّبوَّاتِ
[من ذلك قوله:
وما حمدي لآدمَ أو بنيهِ
…
وأشهدُ أنَّ كلَّهمُ خسيس]
ومن ذلك أيضًا قوله:
(1)
في (ط): كروس الحمر تشرف في ذراها.
(2)
في (ب) واللزوم (2/ 301): هفت.
(3)
في (ط): عفت الحنيفة والنصارى اهتدت.
(4)
في (ط): ذو دين.
(5)
في (ط): زورًا.
(6)
في (ط): فأوضحوه.
(7)
في اللزوم (1/ 228): وهل أبيحت نساء الروم عن عُرُض. وفي القاموس: ويضربون الناس عن عرض: لا يبالون من ضربوا.
أفيقُوا، أفيقُوا يا غُواةُ فإنَّما
…
دياناتُكُم مَكرٌ من القدماءِ
(1)
ومن ذلك أيضًا قوله:
صرفُ الزَّمانِ مُفرِّقِ الإلفَينِ
…
فاحْكُمْ إلهي بينَ ذاكَ وبَيْني
أنهيْت
(2)
عَنْ قَتْلِ النُّفوسِ تَعمُّدًا
…
وبَعَثْتَ أنتَ لِقَبضِها
(3)
مَلَكينِ
وزَعمْتَ أن لها مَعادًا ثانِيًا
…
ما كانَ أغناهَا عن الحالَيْنِ
ومن ذلك أيضًا قوله:
ضَحِكْنا وكانَ الضَّحكُ منّا سَفاهةً
…
وحَقَّ لسكّانِ البسيطةَ أنْ يَبكُوا
تُحطِّمنَا الأيّامُ حتى كأنَّنا
…
زُجاجٌ ولكنْ لا يُعاد
(4)
لنا سَبْكُ
ومن ذلك أيضًا قوله:
أمورٌ تَستخِفُّ بها حُلومٌ
…
وما يَدْرِي الفَتى لِمنِ الثُّبورُ
كتابُ محمّدٍ وكتابُ موسى
…
وإنجيلُ ابنِ مريمَ والزّبورُ
وقال:
قالتْ معاشرُ لم يبعثْ إلهكمُ
…
إلى الريّةِ عِيسَاهَا ولا مُوسى
وإنما جَعلوا الرحمنَ مأكلةً
…
وصيّرُوا دينَهُمْ في الناسِ نَامُوسا
وذكر [ابن الجوزي وغيره] أشياء غير ذلك، [من شعره] وكل قطعة من هذه تدلّ على كفره، وانحلاله، وزندقته، وضلاله، [ويقال: إنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جَناهُ أبي عَليَّ
…
وما جَنَيْتُ على أحَد
معناه: أن أباه بتزوجه لأمِّه أوقعه في هذه الدّار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كلّه كفر وإلحاد، قبَّحه اللَّه].
وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كلِّه، وتاب منه، وأنّه قال قصيدة يعتذر من هذا كلّه، ويتنصّل فيه، وهي التي يقول فيها:
يا مَنْ يَرى مَدَّ البعوض جَناحَهَا
…
في ظلمةِ اللَّيلِ البهيمِ الألْيَلِ
(1)
في (ط): مكرًا من القدماء.
(2)
في (ط): نهبت.
(3)
في (ط): تقبضها مع.
(4)
في (ط): لا يعود له، وفي المنتظم (8/ 187): زجاج لا يعاد لنا السبك.
وتَرى منَاطَ عروقِها في نَحْرِهَا
…
والمحُّ في تلك العِظامِ النُّحَّلِ
امنُنْ عليَّ بتوبَةٍ تمحُو بها
…
ما كان مني في الزّمان الأوَّل
وقد كانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة بمعرّة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يومًا، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته، وأُنْشِدَتْ عند قبره ثمانون مرثاة حتى قال بعضهم في رثائة:
إنْ كُنْتَ لم تُرِقِ الدِّماءَ زهادةً
…
فَلَقدْ أرَقْتَ اليومَ من جَفني دَما
قال ابن الجوزي
(1)
: وهؤلاء [الذين رثوه والذين اعتقدوه] إمّا جهال بأمره، أو ضلال على مذهبه وطريقته، وقد رأى بعضهم في المنام رجلًا ضريرًا على عاتقيه حيّتان مدلَّيتان إلى صدره رافعتان رؤوسهما، وهما ينهشان من لحمه وهو يستغيث، وقائل يقول: هذا المعرّي الملحد.
وقد ذكره القاضي ابن خلِّكان في "الوفيات"
(2)
، فرفع من نسبه [على عادته في الشعراء] كما ذكرنا، وذكر له من المصنفات كتبًا كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المئة من كتابه المسمى "بالأيك والغصون" وهو المعروف: بالهمز والردف. وأنه أخذ العربية عن أبيه، واشتغل بحلب على محمد بن عبد اللَّه بن سعد النَّحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسِّن التَّنوخي، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التِّبريزي، وذكر أنَّه مكث خمسًا وأربعين سنة لا يأكل اللّحم على طريقة الحكماء، وأنَّه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناهُ أبي عليَّ
…
وما جَنَيْتُ على أحد
قال ابن خلِّكان: وهذا أيضًا يتعلّق باعتقاد الحكماء، فإنَّهم يقولون: إيجاد الولد، وإخراجه إلى هذا الوجود جِناية عليه، لأنّه يتعرَّض للحوادث والآفات.
قلت: وهذا يدلّ على أنَّه لم يتغيّر عن اعتقاد الحكماء إلى آخر وقت، وأنّه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم، واللَّه أعلم [بظواهر الأمور وبواطنها].
وذكر ابن خلِّكان، أنَّه كانت عينه اليمنى ناتئة وعليها بياض، واليسرى غائرة، وكان نحيفًا. ثمّ أورد من أشعاره الجيدة أبياتًا منها قوله:
لا تطلُبنَّ بآلةٍ لكَ رُتبةً
…
قلمُ البليغِ بغيْرِ جدٍّ مِغْزَلُ
سكَن السماكانِ السماءَ كلاهُما
…
هذا لَهُ رُمحٌ وهذا أعْزلُ
(1)
المنتظم (8/ 188).
(2)
وفيات الأعيان (1/ 113 - 116).
الأستاذ أبو عثمان الصّابوني
(1)
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد
(2)
النَّيسابوري الحافظ، الواعظ، المفسِّر.
قَدِم دمشق وهو ذاهب إلى الحجِّ فسمع بها، وذكّر الناس. وقد ترجمه ابن عساكر ترجمةً مطوَّلةً [عظيمة]، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله:
إذا لم أصبْ أموَالَكُم ونوالَكُم
…
ولم آمُلِ المعروفَ منكُم ولا البِرَّا
وكنتُم عَبيدًا للَّذي أنا عبدُهُ
…
فمن أجلِ مَاذا أتعِبُ البدنَ الحُرَّا
وروى ابن عساكر
(3)
عن إمام الحرمين أنَّه قال: كنتُ أتردَّدُ وأنا بمكّة في المذاهب، فرأيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"عليكَ باعتماد أبي عثمان الصَّابوني".
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمئة من الهجرة النبويَّة
فيها: كانت فتنة الخبيث البساسيري، وهو أرسلان التركي، قبّحه اللَّه تعالى. وذلك أن إبراهيم يَنَّال أخا الملك طُغْرُلْبَك ترك الموصل الذي كان استعمله أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه، وخلع عليه، وأصلح أمره، ففي غبون ذلك ركب البساسيري ومعه قُريش بن بَدران أمير العرب إلى الموصل، فأخذها، وأخرب قلعتها. فسار [إليه] الملك طُغْرُلْبَك سريعًا من بغداد إلى الموصل فاستردَّها، وهرب منه البساسيري [وقريش] خوفًا منه، فتبعهما إلى نصيبين، وفارقه أخوه إبراهيم وعصا عليه وهرب إلى هَمَذان، وذلك بإشارة البساسيري عليه، فسار الملك طُغْرُلْبَك وراء أخيه وترك عساكر وراءه فتفرّقوا وقلّ من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندريّ إلى بغداد. ثمّ جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأنّ طُغرُلْبَك محصور بهَمذان فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وأرجف الناس بأن البساسيري عازم على قصد بغداد، وأنّه قد اقترب من الأنبار، فقوي عزم الكندريّ الوزير على المقام ببغداد، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحوّل إلى الجانب الغربي، فنهبت داره، وقطع الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش وذهبت إلى هَمَذان لتنصر زوجها، وسار الكندريّ ومعه أنوشروان بن تومان وأمّه الخاتون المذكورة، ومعهما بقية الجيش إلى بلاد
(1)
الكامل في التاريخ (9/ 638)، تاريخ الإسلام (9/ 734)، سير أعلام النبلاء (18/ 40)، الوافي بالوفيات (9/ 143)، طبقات السبكي (4/ 271)، النجوم الزاهرة (5/ 62)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 107)، شذرات الذهب (3/ 282).
(2)
تحرف في (أ) إلى: عايذ، وقد ضبطه في توضيح المشتبه (6/ 62): بموحدة مكسورة بعد الألف، ثم دال مهملة.
(3)
تاريخ دمشق 9/ 12.
الأهواز، وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة. فعزم الخليفة على الترحّل عن بغداد إلى غيرها -وليته فعل- ثمّ أحب داره والمقام مع أهله. فمكث اغترارًا ودَعةً فيها فلمّا خلا البلد من المقاتلة قيل للناس: من أراد الخروج فليذهب حيث شاء، فانزعج الناس، وبكى الرجال والنساء والأطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي وبلغت المعبرة دينارًا ودينارين لعدم الجسر.
قال ابن الجوزي
(1)
: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحًا مزعجًا، وقيل لرئيس الرؤساء: من المصلحة أن الخليفة يرتحل من بغداد لعدم المقاتلة بها فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام، ودُفِعَ إليهم السلاح [الكثير] من دار المملكة، فلمّا كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة دخل البساسيري بغداد ومعه الرايات البيض المصريّة وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها [اسم] الإمام المستنصر باللَّه أبو تميم معد أمير المؤمنين، فتلقّاه أهل الكرخ الرافضة، فتضرّعوا إليه، وسألوه أن يختار عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزوايا فخيّم بها. والناس في ضرٍّ ومجاعةٍ شديدة، ونزل قُريش بن بَدران في نحو مئتي فارس على مشرعة باب البصرة. وكان البساسيري قد جمع العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة. ونهب أهل الكرخ دور السنّة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدّامغاني، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكمية وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين [بخدمة] الخليفة، وأعادت الروافض الأذان بحيّ على خير العمل، وأُذّن به في سائر جوامع بغداد في الجمُعات والجماعات، وخُطب للمستنصر العبيدي الذي يقال له: الفاطمي، على منابر بغداد وغيرها. وضربت له السكّة على الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المَسْلمة الملقب برئيس الرؤساء بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يفد ذاك شيئًا، فركب الخليفة بالسواد والبردة على كتفيه، وعلى رأسه اللواء، وبيده السيف مصلتًا، وحوله زمرة من الهاشميين
(2)
، والجواري حاسرات وجوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رؤوس الرِّماح، وبين يديه الخدم بالسيوف المسلَّلة.
ثمّ إن الخليفة أخذ ذمامًا من أمير العرب قُريش بن بَدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المَسْلَمة فآمنه على ذلك كلّه، وأنزله في خيمته، فلامه البساسيري على ذلك وقال: قد علمت ما كان وقع الاتفاق بيني وبينك من أنّك لا تستبد برأي دوني ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك. واستحضر البساسيري أبا القاسم بن المسلمة فوبّخه [توبيخًا مفضحًا] ولامه لومًا شديدًا، ثمَّ ضربه ضربًا مبرّحًا، واعتقله مُهانًا عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس والديباج [والذهب
(1)
المنتظم (8/ 191).
(2)
في (ط): العباسيين.
والفضة] والثياب والأثاث [والدواب] وغير ذلك مما لا يحدّ ولا يوصف. ثمّ اتفق رأي البساسيري وقريش بن بدران على تسيير الخليفة من بغداد وتسليمه إلى أمير حديثة عانة
(1)
، وهو مُهارش بن مجلّي البدوي، وهو من بني عم قريش بن بدران. وكان رجلًا صالحًا [فيه دين ومروءة]، فلمّا بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد، فلم يفد ذلك شيئًا، وسيَّروه مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش أميرها حولًا كاملًا وليس معه أحد من أهله. فحكي عن الخليفة القائم بأمر اللَّه أنّه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثمّ دعوت اللَّه تعالى، بما سنح لي، ثمّ قلت: اللهمّ أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسّر اجتماعنا، وأعدْ رَوض الأنس زاهرًا، وربع القرب عامرًا، فقد قلّ العزاء، وبرح الخفاء. قال: فسمعت قائلًا على شاطئ الفرات يقول: نعم، نعم. فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثمّ أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول، إلى الحول. فعلمت أنَّه هاتف أنطقه اللَّه بما جرى الأمر عليه، وكان كذلك. خرج من دار الخلافة في ذي القعدة من هذه السنة ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة. وقد قال الخليفة في مقامه بالحديثة شعرًا يذكر فيه حاله، فمنه قوله:
خَابت
(2)
ظنُوني فيمنْ كنتُ آملُهُ
…
ولم يجلُ
(3)
ذِكرُ من واليتُ في خَلَدِي
تَعلّموا من صروفِ الدهرِ كلّهمُ
…
فما أرى أحدًا يحنو على أحد
ومن ذلك أيضًا قوله:
ما لي مِنَ الأيامِ إلا موعدٌ
…
فمتى أرى ظَفَرًا بذاكَ الموعدِ
يومي يمرُّ وكلَّما قضَّيته
…
علّلت نفسي بالحديثِ إلى غدِ
أحيا
(4)
بنفسٍ تستريحُ إلى المُنى
…
وعلى مطامِعِها تروحُ وتغتَدِي
وأمّا البساسيري، وما اعتمده في بغداد؛ فإنَّه ركب يوم الأضحى، وألبس الخطباء والمؤذِّنين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصريّة، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر. والروافض في غاية السرور، والأذان في سائر بلاد العراق بحيّ على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقامًا عظيمًا، وغرّق خلقًا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا [ممن كان يحبّه ويواليه] وأظهر العدل.
(1)
مدينة في أعلى حديثة على الفرات، عامرة إلى اليوم.
(2)
في (ط): ساءت.
(3)
في المنتظم (8/ 196): يخب.
(4)
في (ط): أقبح.
ولمّا كان يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجّة أحضر إلى بين يديه الوزير أبو القاسم بن المَسْلَمة الملقّب برئيس الرؤساء، وعليه جبّة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب حمارًا
(1)
، وطيف به في البلد، وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، حتى اجتاز بالكرخ، فنثروا عليه خُلْقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبّوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك كلّه يتلو قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
ثمّ لما فُرغ من التطواف به في محالّ البلد، وأعيد إلى المعسكر، ألبس جلد ثور بقرنيه وعلّق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة حيّا، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه اللَّه تعالى، وكان آخر كلامه أن قال: الحمد للَّه الذي أحياني سعيدًا وأماتني شهيدًا
(2)
.
وفي هذه السنة: وقع بَرد بارض العراق، أهلك كثيرًا من الغلات، وقتل بعض الفلاحين، وزادت دجلة زيادة عظيمة، وزلزلت [بغداد في هذه السنة] في شوال قبل الفتنة بشهر، زلزالًا شديدًا، فتهدّمت دور كثيرة، ووردت الأخبار أنَّها اتصلت من بغداد إلى هَمَذان، وواسط، وعانة، وتكريت، وذكر أن الطواحين وقفت من شدّة الزلزال.
وفي هذه السنة: كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف [عن الرؤوس] جهرة، حتّى إن الشيخ أبا نصر بن الصبّاغ خُطفت عمامته وطيلسانه وهو ذاهب إلى الصلاة يوم الجمعة.
وفي أواخر السنة خرج السلطان طُغْرُلْبَك من هَمَذان فقاتل أخاه وانتصر عليه، فتباشر الناس بذلك، وكثر سرورهم وفرحهم، ولم يُظهروا ذلك خوفًا من البساسيري، واستنجد طُغْرُلْبَك بأولاد أخيه داود -وكان قد مات- ومن معهم من الجنود على أخيه إبراهيم، فغلبوه له، وأسروه، وذلك في أوائل سنة إحدى وخمسين واجتمعوا على عمّهم طُغْرُلْبَك فسار بهم نحو العراق فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.
وممن مات في هذه السنة من الأعيان:
الحسين بن محمد أبو عبد اللَّه الفرضي [الوَنّي]
(3)
.
(1)
في (ط): جملًا أحمر.
(2)
خير من كتب في هذه الحوادث هو الخطيب البغدادي في ترجمة القائم من تاريخه (11/ 48 - 52) إذ كان شاهد عيان، وكان ابن المسلمة صديقًا له، ولذلك هاجر إثر هذه الحوادث إلى بلاد الشام فما عاد منها إلا قبل وفاته بعام (بشار).
(3)
المنتظم (8/ 197)، الكامل في التاريخ (9/ 651)، وفيات الأعيان (2/ 138)، سير أعلام النبلاء =
وهو شيخ الحربي، وكان شافعيّ المذهب قُتل ببغداد في فتنة البساسيري، ودُفن يوم الجمعة يوم عرفة من هذه السنة، رحمه الله.
داود أخو طُغْرُلْبَك الأكبر
(1)
كان مقيمًا ببلخ بإزاء أولاد محمود بن سُبُكْتِكِين توفي في هذه السنة، وقام أولاده مقامه في الملك.
طاهر بن عبد اللَّه بن طاهر بن عمر أبو الطيِّب الطبري
(2)
، الفقيه، شيخ الشافعيّة.
ولد بآمُل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة، وسمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغِطْريفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسَرْجسِي، وعليه درس الفقه، وتفقّه أيضًا على أبي على الزَّجَاجي، وأبي القاسم بن كَجّ، ثمَّ اشتغل ببغداد على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وشرح "المختصر" و"فروع" ابن الحداد، وصنف في الأصولِ والجدلِ وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة، وسمع ببغداد من الدّارقطني وغيره، وولي القضاء برُبع الكَرخ بعد موت أبي عبد اللَّه الصَّيْمَري، وكان ثقة دينًا عالمًا بأصول الفقه وفروعه، وله المصنَّفات الباهرة في ذلك، [حسن الخلق]، سليم الصدر، مواظبًا على تعليم العلم ليلًا ونهارًا، وقد ذكرت ترجمته في "الطبقات"
(3)
بما فيه الكفاية.
وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
(4)
عنه وكان شيخه، وقد أجلسه بعده فى الحلقة: أنّ [أبا الطيب] أسلم خفًّا له [وكان متقللًا من الدنيا فقيرًا] عند خفّاف ليصلحه له فأبطأ عليه، وكان كلّما مرّ عليه غمسه في الماء وقال:[أيها الشيخ] الساعة، الساعة، أصلحه، فقال له الشيخ: إنّما أسلمته لك لتصلحه، ولم أسلمه لتعلِّمه السباحة.
وحكى ابن خلِّكان
(5)
: أنّه كان له ولأخيه عمامة واحدة وقميص واحد، إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت، [وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن يجفا] وقد قال في ذلك القاضي أبو الطيّب:
= (18/ 99)، طبقات السبكي (4/ 374)، شذرات الذهب (3/ 283)، وقد ورد اسمه في (أ) و (ط) والمنتظم: الحسن، وأعاد المصنف ترجمته في السنة التالية.
قال ابن خلّكان: "والونّي": بفتح الواو وتشديد النون، هذه النسبة إلى وَنّ، وهي قرية من أعمال قهستان أظنه منها.
(1)
المنتظم (8/ 198)، الكامل في التاريخ (10/ 5)، سير أعلام النبلاء (18/ 106).
(2)
تاريخ بغداد (9/ 358)، المنتظم (8/ 198)، الكامل في التاريخ (9/ 651)، سير أعلام النبلاء (17/ 668)، وفيات الأعيان (2/ 512)، طبقات السبكي (5/ 12)، النجوم الزاهرة (5/ 63)، شذرات الذهب (3/ 284).
(3)
طبقات الشافعية للمصنف (195).
(4)
طبقات الشيرازي (127).
(5)
وفيات الأعيان (2/ 514).
قومٌ إذا غسلوا الثيابَ رأَيتَهم
(1)
…
لبسوا البيوتَ إلى فراغ الغاسل
وكان قد بلغ من العمر مئة سنة وسنتين، وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء يفتي ويشتغل إلى أن مات في هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى. [وقد ركب مرّة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيّب، فقال: هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكِبَر].
[القاضي الماوردي صاحب "الحاوي الكبير"]
(2)
علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن المَاوَرْدي البصري.
شيخ الشافعيين، صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول، والفروع، والتفسير، والأحكام السلطانية، وأدب الدين والدنيا. قال: بسّطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، يعني:"الحاوي الكبير"، واختصرته في أربعين ورقة، يعني:"الإقناع". وقد ولي الحكم في بلاب كثيرة، وكان حليمًا وقورًا أديبًا، لم ير أصحابه ذراعه يومًا من الدهر من شدّة تحرّزه وأدبه، وقد استقصيت ترجمته في "الطبقات". كانت وفاته في هذه السنة عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب. وقد أنشد له ابن خلِّكان أشعارًا منها قوله:
جرَى قلمُ القضاءِ بما يكونُ
…
فَسِيَّان التَّحرّكُ والسُّكونُ
(3)
جنونٌ منكَ أنْ تسعَى لرزقٍ
…
ويُرزقُ في غِشاوتِهِ الجنينُ
رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المُسلمة
(4)
، عليّ بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عمر أبو القاسم وزير القائم بأمر اللَّه.
كان أولًا قد سمع الحديث من أبي أحمد الفَرَضي وغيره، ثمّ كان أحد المعدَّلين، ثم استكتبه الخليفة القائم بامر اللَّه، واستوزره، ولقَّبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الورى. وكان متضلِّعًا بعلوم شتّى، مع سداد رأي، ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرًا، حتى قتله البساسيري
(1)
في (ط): قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم.
(2)
زيادة من (ب) و (ط). وترجمته في تاريخ بغداد (12/ 102)، المنتظم (8/ 199)، الكامل في التاريخ (9/ 651)، وفيات الأعيان (3/ 282)، سير أعلام النبلاء (18/ 64)، طبقات السبكي (5/ 267)، النجوم الزاهرة (5/ 64)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 423)، شذرات الذهب (3/ 285).
قال ابن خلِّكان: الماوردي، نسبة إلى بيع الماورد، هكذا قاله الحافظ ابن السمعاني.
(3)
سقطت هذه الأبيات من (ط).
(4)
تاريخ بغداد (11/ 391)، المنتظم (8/ 196)، الكامل في التاريخ (9/ 530)، سير أعلام النبلاء (18/ 216)، النجوم الزاهرة (5/ 6).
بعدما شهره، ثمّ صلبه معلّقًا بشدقيه كما قدّمنا ذلك. [وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر]
(1)
.
عبد اللَّه بن أحمد بن شيطا
(2)
المسند للحديث.
وكان ثقة بصيرًا بالعربية ووجوه القراءات ومذاهب القراء، بلغ الثمانين. وله كتاب في التجويد، رحمه اللَّه تعالى.
منصور بن الحسين أبو الفوارس الأسدي
(3)
، صاحب الجزيرة.
كانت وفاته في هذه السنة فاجتمعت العشيرة على إقامة ولده صدقة من بعده، واللَّه أعلم بالصواب.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمئة
استهلت [هذه السنة] وبغداد في قبضة البساسيري يخطب فيها للمستنصر الفاطمي [صاحب مصر] والقائم [الخليفة العباسي] قاعد بحديثة عانة. ثمّ لما كان يوم الإثنين ثاني عشر صفر أحضر البساسيري قاضي القضاة أبا عبد اللَّه الدّامغاني وجماعة من الوجوه والأعيان من العلويين والعباسيين وأخذ عليهم البيعة للمستنصر الفاطمي [صاحب مصر]، ثمّ دخل دار الخلافة وهؤلاء المذكورون معه، وأمر بنقض تاج دار الخلافة؛ فنقضت بعض الشراريف، ثم قيل له: إن القبح في هذا أكثر من المصلحة فتركه، ثمّ ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة
(4)
، وعزم على حفر نهر يساق إلى الحائر
(5)
لوفاء نذر ما كان عليه. وأمر بأن تنقل جثة ابن المُسلمة إلى ما يقارب الحريم الطاهري وأن ينصب على دجلة، وكتبت أثم الخليفة -وكانت عجوزًا كبيرة قد بلغت السبعين
(6)
- وهي مختفية في مكان إلى البساسيري، تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال؛ فأرسل إليها ونقلها إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كلّ يوم اثني عشر رطلًا من الخبز وأربعة أرطال لحم، ولا يفي هذا قيراطًا مما فعله بولدها وبأهل السنّة.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
الكامل في التاريخ (9/ 651) وسقطت هذه الترجمة من (ب) و (ط).
(3)
المنتظم (8/ 201)، الكامل في التاريخ (9/ 650)، تاريخ الإسلام (9/ 755).
(4)
يعني مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو المعروف بالنجف.
(5)
"الحائر": هي المعروفة اليوم بكربلاء، محافظة من محافظات العراق تبعد عن بغداد 90 كيلومترًا، وبها قبر الحسين بن علي رضي الله عنه.
(6)
في (ط): التسعين.
فصل
ولما تخلّص السلطان طُغْرُلْبَك أيده اللَّه من حِصاره بهَمَذان، وقاتل أخاه إبراهيم وأسره وقتله، وتمكّن من أمره، وطابت نفسه، واستقرّ حاله، ولم يبق له في تلك البلاد منازع، كتب إلى قريش بن بدران أمير الأعراب يأمره بأن يعاد الخليفة إلى [وطنه و] داره على ما كان عليه، وتوعّده على ترك ذلك ببأس شديد؛ فكتب إليه قريش يتلطّف به ويسالمه ويقول: أنا معك على البساسيري بكلِّ ما أقدر عليه حتى يمكِّن اللَّه منه، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو يبادر إليه أحد بأذيّة [يكون عليّ عارها] ولكنّي سأعمل لما أمرتني بكلّ ما يمكنني، وأمر بردّ امرأة الخليفة الخاتون المعظَّمة أرسلان خاتون إلى دارها وقرارها. ثم إنَّه راسل البساسيري، وأشار عليه بعود الخليفة إلى داره، وخوّفه من جهة الملك طُغْرُلْبك، وقال له فيما قال: إنّك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر، وبيننا وبينه ستمئة فرسخ، ولم يأتنا من جهته رسول ولا أحد [من عنده]، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد [قريب منا].
وقد جاءني كتاب من الملك طُغْرُلْبَك عنوانه: إلى الأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من شاهنشاه المعظَّم ملك المشرق والمغرب طُغْرُلْبَك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سُلجوق. وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان حسبي اللَّه [ونعم الوكيل]. وكان في الكتاب: والآن فقد شرقت بنا المقادير إلى قتال كلّ عدوّ للدين والملك، ولم يبق علينا من المهمات إلا خِدمة سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين القائم بأمر اللَّه، واطلاع أبَّهة إمامته على سرير عزّه، فإنّ الذي يلزمنا ذلك، ولا فسحة في التضييع
(1)
فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بخيول وجنود المشرق إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إتمام السعي في ذلك، إذ هو السعي النجيح الذي وفق له، وتفرّد به، وهو أن يتمم وفاءه من أمانته وخدمته في باب سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر اللَّه أمير المؤمنين من أحد الوجهين: إمّا أن يُقْبِل به إلى وكر عزِّه، ومثوى إمامته، وموقف خلافته من مدينة السلام، وينتدب بين يديه متوليًا أمره، ومنفِّذًا حكمه، وشاهرًا سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة [وتلك الخدمة بعض ما يجب له]، وتوليه العراق بأسرها، وتصفو له مشارع برّها وبحرها، لا تطأ حوافر خيل من خيول العجم والعرب شبرًا من أراضي تلك المملكة إلا بالتماسه لمعاونته ومظاهرته، وإمّا أن يحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة إلى حلّته، أو في القلعة إلى حين لحاقنا بخدمته؛ فتتكفّل بإعادته، ويكون الأمير الجليل مخيّرًا بين أن يكتفي بنا أو يقيم
(1)
في (ط): التقصير.
حيث شاء. فنولِّيه العراق ونستخلفه في الخدمة الإماميّة، ونصرف أعنّتنا إلى الممالك الشرقيّة، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا الغرض المفترض، ولا تشفّ إلى مملكة من تلك المماليك. بل الهمّة دينيّة، وهو أدام اللَّه تمكينه يتيقّن ما ذكرنا، ويعلم أن توجّهنا إثر هذا الكتاب لهذا الغرض المعلوم، ولا غرض سواه، فلا تستشعرن قلوب عشائره رهبته، فإنّهم كلّهم إخواننا، وفي ذفتنا وعهدنا، وعلينا به عهد اللَّه وميثاقه ما داموا موافقين للأمير الأجل في موالاتنا، ومن اتصل به من سائر العرب والعجم والأكراد، فإنَّهم آمنون في جملته، وداخلون في عهدنا وذمتنا، وعهده وذمته، ولكل مجترم في العراق عفونا وأمننا مما بدر منه، إلَّا البساسيري، فإنه لا عهد له ولا أمان منا، وهو موكول إلى الشيطان وتساويله، فقد ارتكب في دين اللَّه عظيمًا، وهو إن شاء اللَّه مأخوذ حيث وجد، ومعذّب على ما عمل، فقد سعى في دماء خلق كثير بسوء دخيلته، ودلّت أفعاله على سوء عقيدته.
وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين وأربعمئة، وبعث بهذا الكتاب مع رسولين من أهل العلم، وبعث معهما بتحفٍ عظيمةٍ للخليفة وأمرهما أن يخدما الخليفة نيابة عنه. جزاه اللَّه عن الإسلام خيرًا.
ولما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران، استعلم أخبار الملك طُغْرُلْبَك من الرسل وغيرهم، فإذا معه جنود عظيمة، فخاف من ذلك خوفًا شديدًا، وبعث إلى البريّة فأمر بحفر أماكن الماء، وتجهيز علوفات كثيرة إلى هناك. ونفذ الكتاب والأخبار إلى البَسَاسيري، فانزعج لذلك البساسيري، قبحه اللَّه، وخارت قوّته، وضعف أمره، وبعث إلى أهله فنقلهم عن بغداد، وأرصد له إقامات عظيمة بواسط، وجعلها دار مقرَّته، ووافق على عود الخليفة إلى بغداد، ولكن اشترط شروطًا كثيرةً ليذهب خجله، ولما انتقل أهل البساسيري من بغداد، وصحبتهم أهل الكرخ والروافض، قبحهم اللَّه تعالى، وانحدروا في دجلة إلى واسط، كان خروجهم عن بغداد في سادس ذي القعدة من هذه السنة، وفي مثله من العام الماضي دخلوا بغداد، وعند ذلك ثار الهاشميون وأهل السّنة من باب البصرة إلى الكرخ، فنهبوه، وأحرقوا منه محال كثيرة جدًا، واحترق من جملة ذلك دار العلم التي كان وقفها الوزير أزدشير من مدة سبعين سنة، وفيها من الكتب شيء كثير، وكان في جملة ما احترق درب الزعفران وفيه ألف ومئتا دار، لكلّ منها قيمة جليلة عظيمة، وترحّل قريش بن بدران إلى أرض الموصل
(1)
، وبعث إلى حديثة عانة يقول لأميرها مهارش بن مجلّي الذي سلّم إليه الخليفة: المصلحة تقتضي أن الخليفة تحوّله إليّ حتى نستأمن لأنفسنا بسببه ولا تسلّمه حتى تستأمن لنا، وتأخذ أمانًا في يدك دون يدي فامتنع عليه مهارش وقال: قد غزر بي البساسيري، ووعدني بأشياء فلم أرها، ولست بمرسله إليك أبدًا، وله في عنقي أيمان أكيدة لا أغدرها. وكان مهارش رجلًا صالحًا ثقة أمينًا رحمه الله.
(1)
من قوله: فهمتنا لا تقتضي إلا هذا الغرض. . إلى هنا، ساقط من (ط).
وقال الأمير محيي الدين أبو الحارث مهارش بن مجلّي العقيلي صاحب عانة والحديثة للخليفة: من المصلحة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان طُغْرُلْبَك، فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا، فإنّا نخشى من البَسَاسيري أن يعود فيحصرنا في بغداد. فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة، فسارا في الحادي والعشرين من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عُكْبَرا
(1)
، فلقيته رسل الملك طُغْرُلْبَك بالهدايا والتحف التي كان أنفذها إليه، وهو متشوق إليه كثيرًا، وجاءت الأخَبار بأن السلطان طُغْرُلْبَك دخل بغداد، وكان يومًا مشهودًا، غير أن الجيش نهبوا البلد سوى دار الخلافة، وصودر خلق كثير من التجار، وأُخِذت منهم أموال كثيرة وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق عظيمة وملابس سنيّة، وما يليق بالخليفة في السفر، وأرسل ذلك مع [الوزير] عميد الملك الكُنْدري، ولما انتهوا إليه أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه وقال لمن حوله: اضربوا السرادق، وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجيء نحن فنستأذن عليه. فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة، فلما دخل الوزير ومن معه قبّلوا الأرض، وأخبروه بسرور السلطان بما حصل من العود إلى بغداد، واشتياقه إليه جدًا، وأخبروا مهارشًا بشكر السلطان له، ونيته له بما ينبغي لمثله من الإكرام
(2)
. وكتب عميد الملك كتابًا إلى الملك يعلمه بصفة ما جرى الأمر عليه، وأحبّ أن يأخذ خطّ الخليفة في أعلى الكتاب ليكون أقرّ لعين الملك، فلم تكن عند الخليفة دواة، فأحضر الوزير دواته ومعها سيف، وقال: هذه خدمة السيف والقلم، فأُعجب الخليفة بذلك، وترحّلوا من منزلهم ذلك بعد يومين. فلمّا وصلوا إلى النّهروان خرج السلطان طُغْرُلْبَك من بغداد لتلقّيه، فلما انتهى إلى السرادق قبّل الأرض بين يدي الخليفة سبع مرات، فأخذ الخليفة مخدّة فوضعها بين يديه، فأخذها الملك فقبّلها، ثمّ جلس عليها كما أشار أمير المؤمنين، وقدَّم إلى الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بُويه، فوضعه بين يدي الخليفة، وأخرج اثنتي عشرة حبّة من لؤلؤ كبار جدًا. وقال: أرسلان خاتون -يعني زوجة الملك- تخدم الخليفة، وتسأله أن يُسبِّح بهذه السبحة، وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه إبراهيم، فقتلته، واتفق موت أخي الأكبر داود، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وكنت عزمت على أن أصعد إلى الحديثة لأصون المهجة الشريفة، ولكن لمّا بلغني بحمد اللَّه أمر مولاي أمير المؤمنين الخليفة فرحت بذلك، وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا إن شاء اللَّه تعالى أمضي وراء هذا الكلب البساسيري، وأقتنصه، وأعود إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة، بما كان من فعل البساسيري هاهنا؛ فدعا له الخليفة، وشكره على ذلك. كلّ ذلك بترجمة عميد المُلك بين الخليفة والملك طُغْرُلْبَك.
(1)
"عكبرا": بليدة نواحي دجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ.
(2)
من قوله: واشتياقه. . إلى هنا، ساقط من (ط).
وأعطى الخليفة للملك سيفًا كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك لبقيّة الجيش أن يخدموا الخليفة، فرُفعت الأستار عن جوانب الخركاه
(1)
فلما شاهد الأتراك الخليفة قبّلوا الأرض.
ودخل الخليفة بغداد يوم الإثنين لخمس بقين من ذي القعدة، وكان ذلك يومًا مشهودًا، الجيش كلّه معه، والقضاة والأعيان بين يديه، والملك طُغْرُلْبَك آخذٌ بلجام بغلته حتى وصل إلى باب الحجرة، ولما وصل الخليفة إلى دار ملكه، ومقرّ خلافته، استأذنه السلطان طُغْرُلْبَك في الخروج وراء البساسيري، فأذن له، وكان قد عزم على أن يمضي معه، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أكفيك ذلك إن شاء اللَّه، وأطلق الملك لمهارش عشرة آلاف دينار فلم يرض، وشرع السلطان في ترتيب الجيوش للمسير وراء البساسيري. فأرسل جيشًا من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو في التاسع والعشرين من الشهر في بقيَّة الجيش، وأمّا البساسيري فإنَّه مقيم بواسط في جمع غلات وتمور يهيئها لقتال أهل بغداد ومن فيها من الغز
(2)
، وعنده أن الملك طُغْرُلْبَك ومن معه ليسوا بشيء يُخاف منهم، وذلك لما يريده اللَّه تعالى من إهلاكه على يدي الملك طُغْرُلْبَك، جزاه اللَّه عن الإسلام خيرًا، آمين.
صفة أخذ البساسيري قبّحه اللَّه تعالى
(3)
لما سار السلطان نحوه، وصلت إليه السريّة الأولى، فلقوه بأرض واسط ومعه ابن مَزْيَد، فاقتتلوا هنالك، فانهزم أصحابه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس، فتبعه بعض الغلمان فرمى فرسه بنشَّابة فألقته إلى الأرض، وجاء [الغلام] فضربه على وجهه ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له: كمشتكين
(4)
فحزّ رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله، ولما وصل الرأي إلى السلطان أمر أن يُذهب به إلى بغداد، وأن يُرفع على قناة، وأن يُطاف به في المحالّ و [أن يطوف معه] الدبادب، والبوقات، والنفَّاطون. وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ففُعل ذلك، ثمّ نُصب على الطيار تجاه دار الخلافة، وللَّه الحمد والمنة.
وقد كان مع البساسيري خلق من البَغاددة خرجوا معه ظانّين أنَّه سيعود إليها محبّة فيه، فهلكوا، ونهبت أموالهم كلّها، ولم ينج من أصحابه إلا القليل، وفرَّ ابن مَزْيَد في ناس قليل إلى البطيحة، وفيمن
(1)
كذا في (أ) و (ب)، وفي (ط): الحركات، والخركاه: الخيمة الكبيرة المنصوبة بالفارسية.
(2)
في (ط): وأمور يهيئها لقتال السلطان.
(3)
كذا العنوان في (أ) و (ب) وفي (ط): مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك.
(4)
في (ب): لمشكين، وفي (ط): كمسكين.
معه أولاد البساسيري وأُمُّهم، وقد سلبتهم الأعراب، فلم يتركوا لهم شيئًا؛ فوردوا البطيحة مسلوبين محزونين، ثمّ استُؤمن لابن مَزْيَد من السلطان، ودخل معه بغداد، وقد نهبت العساكر السلطانية ما بين واسط والبصرة والأهواز، وذلك لكثرة الجيش، وانتشاره وكثافته.
وأمّا الخليفة فإنّه لما عاد إلى دار الخلافة جعل للَّه عليه عهدًا أن لا ينام على وطأ، ولا يأتيه أحد بطعامه إذا كان صائمًا، ولا يخدمه في وضوئه وغسله [أحد]، بل يتولّى ذلك بنفسه لنفسه، وعاهد اللَّه أن لا يؤذي أحدًا ممن آذاه، وأن يصفح عمن ظلمه، وكان يقول: ما عاقبت من عصى اللَّه فيك بأكثر من أن تطيع اللَّه فيه.
وفيها: ولي الملك ألب أرْسَلان بن داود جَغْريبَك بن ميكائيل بن سُلجوق بلاد خراسان
(1)
بعد وفاة أبيه بتقرير عمه الملك طُغْرُلْبَك، وكان له من الإخوة ثلاثة: سليمان، وقارون، وياقوت
(2)
، فتزوّج طُغْرُلْبَك بام سليمان هذا، وأوصى له بالملك من بعده.
وكان في هذه السنّة بمكة رخص لم يسمع بمثله، إذ بيع البرّ والتمر كلّ مئتي رطل بدينار.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان والمشاهير:
أرْسلان، أبو الحارث البَسَاسِيريّ التركي
(3)
كان من مماليك بهاء الدولة بن عَضُدِ الدولة، وكان أولًا مملوكًا لرجل من أهل مدينة بسا فنسب إليه، فقيل له البساسيري ويلقب بالمظفَّر، ثمّ كان مقدّمًا كبيرًا عند الخليفة القائم بأمر اللَّه، لا يقطع أمرًا دونه، وخطب له على منابر العراق كلّها، ثمّ طغى وبغى وتمرّد وعتا، وخرج على الخليفة بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين، فتمّ له ما رامه من الأمل الفاسد، واستدرج
(4)
، ثمَّ كان أجله في هذه السنة، على ما ذكرنا، وللَّه الحمد. كان دخوله بأهله إلى بغداد في سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمئة، ثمّ اتفق خروجهم منها في سادس ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين بعد سنة هلالية كاملة. ثمّ كان خروج الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثامن عشر من
(1)
في (ط): حران. خطأ.
(2)
في (ط): قاروت وياقوتي.
(3)
المنتظم (8/ 212)، الكامل في التاريخ (9/ 555) وما بعدها، وفيات الأعيان (1/ 192)، سير أعلام النبلاء (18/ 132)، الوافي بالوفيات (8/ 340)، شذرات الذهب (3/ 387).
قال الذهبي: البساسيري: نسبة إلى تاجر باعه من أهل فَسَا، والصواب: فسوي، فقيلت على غير قياس كعادة العجم.
(4)
من قوله: بل وعلى المسلمين. . إلى هنا ساقط من (ط).
كانون الأول. واتفق قتل البساسيري في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الأول بعد سنة شمسيّة، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة.
الحسن بن أبي الفضل
(1)
أبو علي الشَّرْمَقَاني، المؤدَّب، المقرئ، الحافظ [للقرآن] والقراءات واختلافها.
كان ضيّق الحال فرآه شيخه ابن العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخسّ من دجلة فيأكلها؛ فأعلم ابن المُسلمة [بحاله] فأمر غلامًا له أن يذهب إلى الخزانة التي بمسجده ليتخذ لها مفتاحًا غير مفتاحه، ثمّ كان يضع فيها كلّ يوم ثلاثة أرطال من خبز السميد، ودجاجة، وحلاوة سكر؛ فظن أبو علي الشَّرْمَقَاني أنَّ ذلك كرامة [أكرمه اللَّه بها]، وأنَّ هذا الطعام [الذي يجده في خزانته] من الجنَّة؛ فكتمه زمانًا، وجعل ينشد في غالب أوقاته:
مَنْ أطْلَعُوهُ عَلى سِرٍّ فباحَ بهِ
…
لمْ يَأْمَنُوهُ على الأسرارِ ما عَاشَا
[وأبْعَدُوهُ فلم يَظْفَرْ بِقُرْبِهِمُ
…
وأبْدَلُوهُ فكانَ الأنسُ إيحاشا]
فلما كان في بعض الأيام، ذاكره ابن العلاف في أمره، وقال [فيما قال] له: أراك قد سمنت، فما هذا الأمر وأنت رجل فقير! فجعل يلوّح ولا يصرّح، ويُكنّي ولا يُفصح، ثم [ألحّ عليه] فأخبره بأنّه يجد كلّ يوم في خزانته من طعام الجنّة ما يكفيه [وأن هذا كرامة أكرمه اللَّه بها]، فقال له: ادعُ لابن المُسلمة، فإنَّه الذي يفعل معك ذلك. وشرح له صورة الحال، فانكسر، ولم يعجبه ذلك.
علي بن محمود بن إبراهيم
(2)
بن ماحُرَّة
(3)
أبو الحسن الرَّوْزَني.
شيخ الصوفية، وإليه ينسب رباط الروزني، وقد كان بُني لأبي الحسن الحُصْريّ شيخه، وقد صحب أبا عبد الرحمن السُّلَميّ، وقال: صحبت ألف شيخ، وأحفظ عن كل شيخ حكاية. توفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي
(4)
أبو طالب الحَرْبيّ، المعروف بالعُشَاري، وإنَّما قيل له ذلك لطول جدّه
(5)
.
(1)
تاريخ بغداد (7/ 402)، معرفة القراء الكبار (1/ 412).
(2)
تاريخ بغداد (12/ 115)، تاريخ الإسلام (10/ 21).
(3)
تحرفت في (ط) إلى ما جود. وقال الخطيب: كان يقول لنا: كان جدي ماخرة مجوسيًا.
(4)
تاريخ بغداد (3/ 107)، المنتظم (8/ 214)، الكامل في التاريخ (10/ 9)، سير أعلام النبلاء (18/ 48)، الوافي بالوفيات (4/ 130)، شذرات الذهب (3/ 289).
(5)
تحرفت في (ط) والمنتظم إلى: جسد.
وقد سمع الدَّارقطنيّ وغيره، وكان ثقة ديّنًا صالحًا، وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة وقد نيف على الثمانين.
الوَنّي الفرضي
(1)
الحسين بن محمد، أبو عبد اللَّه الوَنّي، نسبة إلى وَنّ، قرية من أعمال قهستان
(2)
، الفَرَضي، شيخ الخبري -وهو أبو حكيم عبد اللَّه بن إبراهيم- كان الونّي إمامًا في الحساب والفرائض، وانتفع الناس به، توفي في هذه السنة ببغداد شهيدًا في فتنة البساسيري.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وأربعمئة
في يوم الخميس السابع عشر من صفر، دخل السلطان إلى بغداد، مرجعه من واسط بعد قتل البَسَاسيري.
وفي يوم الحادي والعشرين منه جلس الخليفة بدار الخلافة وحضر الملك طُغْرُلْبَك، ومدَّ سِماطًا عظيمًا بين يديه فأكل الأمراء منه والعامّة.
ثمّ في يوم الخميس ثاني ربيع الأول، عمل الملك طُغْرُلْبَك سماطًا عظيمًا [للناس] أيضًا.
وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة؛ ورد الأمير عدّة الدين أبو القاسم عبد اللَّه بن ذخيرة الدّين بن أمير المؤمنين القائم بأمر اللَّه، وجدّته وعمته وله من العمر يومئذ أربع سنين صحبة أبي الغنائم بن المحلبان؛ فتلقّاه الناس إجلالًا لجدِّه، وقد ولي هو الخلافة بعد ذلك، وهو المقتدي بأمر اللَّه.
وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتَّابي دار كتب بشارع ابن أبي عوف من غربي مدينة السلام، ونقل إليها ألف كتاب عوضًا عن دار كتب أزدشير التي احترقت بالكرخ.
وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها، فامتدحه الشعراء.
وملك عطيّة بن صالح بن مرداس الرحبة، وذلك كلّه يُنْتَزَعُ من أيدي الفاطميين.
وفيها: عاد الملك طُغْرُلْبَك إلى الجبل، وعقد بغداد على العميد بمئة ألف ديار في السنة، ولسنتين بعدها بثلاثمئة ألف دينار، فشرع العميد في عمارة الكرخ وأسواقه.
(1)
المنتظم (8/ 197)، الكامل في التاريخ (9/ 651)، وفيات الأعيان (2/ 138)، طبقات السبكي (4/ 374)، سير أعلام النبلاء (18/ 99)، شذرات الذهب (3/ 283). وقد ذكره المصنف رحمه الله مع وفيات السنة السابقة.
(2)
في معجم البلدان: قرية من قرى قوهستان.
ولم يحجّ أحد من أهل العراق في هذه السنة، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع طائفة من الخفر.
وممن توفي فيها من الأعيان:
باي بن جعفر بن باي أبو منصور الجيْلي
(1)
.
من تلامذة الشيخ أبي حامد، ولي القضاء بباب الطاق، وبحريم دار الخلافة، وسمع الحديث من جماعة.
قال الخطيب
(2)
: وكتبنا عنه، وكان ثقة رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن محمد بن أبي الفضل
(3)
أبو محمد النَّسَوي
(4)
الوالي.
سمع الحديث، وكان ذكيًا في صناعة الولاية
(5)
ومعرفة التُّهَم [والمتهومين] من بين الغرماء بلطف من الصنيع، كما نُقل عنه أنه وقف بين يدي جماعة اتهموا بسرقة، فأتي بكوز ليشرب منه فرمى به، فانزعج الواقفون إلا واحدًا، فأمر به أن يقرر، وقال: السارق يكون جريئًا قويًا فوجد الأمر كذلك. وقد قتل مرةً واحدًا، وضرب بين يديه، فادُّعي عليه عند القاضي أبي الطيِّب الطبري فحكم عليه بالقصاص، ثمّ فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص من القتل.
محمد بن عُبيد اللَّه بن أحمد بن محمد بن عُمْروس
(6)
أبو الفضل البزار.
انتهت إليه رئاسة الفقهاء المالكيين ببغداد، وكان من القرّاء المجوّدين، وأهل الحديث المُسندين، سمع ابن حَبابة، والمُخَلِّص، وابن شاهين. وقد قبل شهادته أبو عبد اللَّه الدّامغاني، فكان أحد المعدَّلين.
(1)
تاريخ بغداد (7/ 136)، المنتظم (8/ 216)، الكامل في التاريخ (10/ 13)، طبقات الإسنوي (1/ 357)، توضيح المشتبه (1/ 299). وقد تحرف اسمه في (أ) إلى: بالي، وفي (ب) إلى: بابي.
(2)
تاريخ بغداد (7/ 136).
(3)
المنتظم (8/ 217)، الكامل في التاريخ (10/ 12)، تاريخ الإسلام (10/ 33).
(4)
نسبة إلى نَسَا.
(5)
يعني الشرطة، كما صَرَّح الذهبي في تاريخ الإسلام.
(6)
تاريخ بغداد (2/ 339)، الأنساب (9/ 54)، المنتظم (8/ 218)، الكامل في التاريخ (10/ 13)، سير أعلام النبلاء (18/ 73)، شذرات الذهب (3/ 290).
"وعمروس": ضبطه السمعاني بفتح العين، وضبطه الفيروزآبادي بضمها، وقال: وفتحه من لحن المحدثين. وقد تحرف في (ط) إلى: عروس. وفي المنتظم إلى: ابن عمرو بن أبي الفضل.
قَطْرُ النَّدَى
(1)
ويقال: بَدْرُ الدُّجى، ويقال: علم، أمُّ الخليفة القائم بأمر اللَّه، كانت عجوزًا كبيرة، وقد بلغت التسعين سنة، وكانت أرمنية، وفد احتاجت في زمان البساسيري، وألجأتها الحاجة، حتى كتبت إليه رقعة تشكو فقرها وحاجتها، فأجرى عليها رزقًا، وأخدمها جاريتين، وهذا كان من أحسن ما صنع، ثمّ لم تمت حتى أقرّ اللَّه عينها بولدها، وأهله، ورجوعهم إلى دار الخلافة على ما كانوا عليه، ثمّ توفيت في رجب من هذه السنة، فحضر الخليفة جنازتها، وكانت حافلة جدًا. رحمها اللَّه تعالى وأكرم مثواها.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمئة
فيها: خطب الملك طُغْرُلْبَك ابنة الخليفة، فانزعج من ذلك، وقال: هذا شيءٌ لم تجر العادة بمثله. ثمّ طلب أشياء كثيرة، كهيئة المُبْعِدِ له من ذلك. وهو ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط، وصداق ثلاثمئة ألف دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يترحّل عنها، ولا يحيد عنها يومًا أبدًا، فوقع الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمئة ألف دينار مع ابنة أخيه داود، زوجة الخليفة أرسلان خاتون، وأشياء كثيرة من آلات الذهب والفضة، والنثار، والجواري، والكراع، ومن الجواهر ألفان ومئتا قطعة، من ذلك سبعمئة وعشرون قطعة من جوهر، وزن كلّ واحدة ما بين الثلاثة مثاقيل إلى المثقال، وأشياء كثيرة، فتمنّع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك [الوزير] الكُنْدري لمخدومه [السلطان]، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابًا يأمر فيه بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار الملك حتى تنفصل هذه القضيّة، وعزم الخليفة على النقلة من بغداد، وأصلح الطيّار، فانزعج الناص لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى [رئيس] شحنة بغداد برشق
(2)
يأمره بعدم المراقبة، وكثرة العسف في مقابلة ردّ أصحابنا بالحرمان، وعزم على نقلة الخاتون إلى دار المملكة ليرسل من يحملها إلى البلدة التي هو فيها، وكلّ ذلك غضب على الخليفة؛ فإنّا للَّه وإنا إليه راجعون.
قال ابن الجوزي
(3)
: وفي رمضان رأى إنسان من الزّمنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وهو قائم، ومعه ثلاثة أنفس، فجاء إليه أحدهم فقال له: ألا تقوم. فقال: لا أستطيع، أنا رجل مقعد. فأخذ بيده وقال: قم، فقام، وانتبه؛ فإذا هو بريء، وأصبح يمشي في حوائجه.
(1)
المنتظم (8/ 217)، الكامل في التاريخ (10/ 13).
(2)
في (ط): برشتق، وفي (ب): برسق.
(3)
المنتظم (8/ 222).
وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست الأهوازي، وخلع عليه، وجلس في مجلس الوزارة.
وفي جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه، كسفت الشمس كسوفًا عظيمًا، جميع القرص غاب فمكثت أربع ساعات، حتى بدت النجوم، وآوت الطيور إلى أوكارها وتركت الطيران وذلك لشدة الظّلمة.
وفيها: وَلِيَ [أبو تميم] إبراهيم بن معزّ
(1)
بن باديس بلاد إفريقية بعد وفاة أبيه صاحبها.
وفيها: ولي نصر بن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي ديار بكر بعد أبيه أيضًا.
وفيها: ولي سيف الدولة بن قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين بعد أبيه.
وفيها: خُلع على طِراد بن محمد الزَّيْنَبي الملقَّب بالكامل، وولي نقابة العباسيين، وخُلع على أسامة بن أبي عبد اللَّه بن علي، وقلّد نقابة
(2)
الطالبيين، ولقِّب بالمرتضى.
وفيها: ضمن أبو إسحاق إبراهيم بن علان اليهودي ضياع الخليفة من صرصر إلى أوانا، كلّ سنة بستة وثمانين ألف دينار، وسبعة عشر ألف كُرٍّ من غلّة.
ولم يحجّ أحدٌ من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
أحمد بن مروان
(3)
أبو نصر الكردي، صاحب بلاد بكر، وميّافارِقين، لقبه القادر باللَّه نصر الدولة.
ملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة، وتنعّم تنعّمًا لم يقع لأحد من أهل زمانه ولا أدركه فيه أحد من بعده [من أقرانه]. كان عنده خمسمئة سرِّيّة، سوى من يخدمهن، وعنده خمسمئة خادم. وعنده من المغنّيات شيءٌ كثير، كل واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار وأكثر، وكان يحضر في مجلسه من الآلات والأواني ما يساوي مئتي ألف دينار، وتزوّج بعدة من بنات الملوك.
وكان كثير المهادنة للملوك، إذا قصده عدوّ أرسل إليه بمقدار ما يغرمه على حربه، ويصالحه بذلك، فيرجع عنه.
وقد أرسل إلى الملك طُغْرُلْبَك بهديّة عظيمة حين ملك العراق، من ذلك جَبَل
(4)
من ياقوت كان يكون
(1)
في (ط): "معز الدولة"، وهو خطأ بيّن (بشار).
(2)
من قوله: وولي نقابة العباسيين. إلى هنا ساقط من (ط).
(3)
المنتظم (8/ 222)، الكامل في التاريخ (10/ 17)، وفيات الأعيان (1/ 177)، سير أعلام النبلاء (18/ 117)، دول الإسلام (1/ 266)، الوافي بالوفيات (8/ 176)، شذرات الذهب (3/ 290).
(4)
في (ط): "حبل" بالحاء المهملة، وما أثبتناه هو الصواب، وهو الذي في كامل ابن الأثير وتاريخ الإسلام =
لبني بويه، اشتراه بمقدار عظيم، وبعث إليه بمئة ألف دينار عينًا، وغير ذلك. وزر له أبو القاسم المغربي مرتين، ووزر له أيضًا أبو نصر محمد بن محمد بن جَهِيْر فخر الملك، وكانت بلاده من آمن البلاد وأطيبها، وأكثرها عدلًا. وقد بلغه أن الطيور تتنجع في الشتاء [فتخرج] من الجبال إلى القرى فيصطادها الناس، فأمر بفتح الأهراء
(1)
وإلقاء ما يكفيها من الغلات مدّة الشتاء. فكانت تكون في ضيافته طول [الشتاء مدة] عمره، وكانت وفاته في هذه السّنة وقد قارب الثمانين أو جاوزها.
وقال ابن خلِّكان
(2)
: قال ابن الأزرق في "تاريخه": إنّه لم يصادر أحدًا من رعيته سوى رجل واحد، ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرة اللّذات، كانت له ثلاثمئة وستون حظيّة يبيت عند كلِّ واحدة ليلة من السّنة، وخلّف أولادًا كثيرة، ولم يزل على ذلك الحال إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمئة
فيها: وردت الكتب الكثيرة من الملك طُغْرُلْبَك تشكو قلّة إنصاف الخليفة، وعدم موافاته بما أسداه إليه من الخدم والنّعم إلى الملوك بالأطراف، وقاضي القضاة ابن الدّامغاني؛ فلمّا رأى الخليفة ذلك، وأن الملك قد أرسل إلى نوّابه بالحوطة على أملاك الخليفة، وقد انزعج لذلك، كتب إلى الملك طُغْرُلْبَك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إلى طُغْرُلْبَك فرح بذلك فرحًا شديدًا، وأرسل إلى نوّابه أن يطلقوا الأملاك الخليفيّة، فلما انتهت الركابية بذلك إلى بغداد، دقت البشائر بدار الخلافة، وطيف بالركابيّة بين أيديهم الدبادب والبوقات، وفرح الناس بإجابة الخليفة إلى ذلك
(3)
، واتفقت الكلمة [بعد أن كادت تتفرق]، فوكل الخليفة في العقد، وكتب بذلك وكالة، ثمّ وفع العقد بمدينة تبريز بخضرة الملك طُغْرُلْبَك، وعمل سماطًا عظيمًا، ولما جيء بالوكالة قام لها الملك، وقبَّل الأرض عند رؤيتها [ودعا للخليفة دعاءً كثيرًا]، ثمّ أوجب العقد على صداق أربعمئة ألف دينار، وكثر دعاء الناس للخليفة، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة. ثم بعثت ابنة أخيه الخاتون أرسلان زوجة الخليفة في شوال بتحف عظيمة، وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة، وهدايا عظيمة، لأمّ العروس وأهلها كلِّهم، وقال الملك للناس جهرة: أنا عبدٌ قِنّ للخليفة ما بقيت، لا أملك شيئًا سوى ما عليّ من الثياب.
= (10/ 36) والسير.
(1)
"الأهراء": جمع هُرْي بالضم: بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان.
(2)
وفيات الأعيان (1/ 177).
(3)
من قوله: فلما انتهت الركابية. . إلى هنا ساقط من (ط).
وفيها: عزل الخليفة وزيره، واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جَهِير، استقدمه من ميَّافارقين.
وفيها: عمَّ الرخص جميع الأرض، حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان قراريط [ولم يحجّ فيها أحد]. واللَّه أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
ثِمال بن صالح
(1)
معزّ الدولة صاحب حلب.
كان كريمًا حليمًا وقورًا. ذكر ابن الجوزي: أنّ الفرّاش تقدّم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست، فعفا عنه، رحمه اللَّه تعالى.
الحسن بن علي بن محمد
(2)
[أبو محمد]، الجوهري.
ولد في شعبان سنة ثلاث وستين وثلاثمئة، وسمع الحديث على جماعة، وتفرّد بمشايخ كثيرة منهم: أبو بكر بن مالك القطيعي، وكان آخر من حدّث عنه، توفي في ذي القعدَة منها.
الحسين بن أبي زيد
(3)
أبو علي الدَّباغ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول اللَّه: ادعُ اللَّه أن يحييني على الإسلام، فقال: وعلى السنة، وعلى السنّة، وعلى السنّة، رحمه اللَّه تعالى.
سعد بن محمد بن منصور
(4)
أبو المحاسن الجُولَكى
(5)
، كان من الرؤساء القدماء، وجّه رسولًا إلى الملك محمود بن سُبُكْتكين في حدود سنة عشر، وكان من الفقهاء العلماء تخرّج به جماعة، وروى عن جماعة الحديث. وعقد له مجلس النظر ببلدان كثيرة، وقُتل ظلمًا بإستراباذ في رجب من هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى وإيّانا بمنّه وكرمه.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمئة
فيها: دخل السلطان طُغْرُلْبَك بغداد، وعزم الخليفة على تلقّيه، ثمّ ترك ذلك، وأرسل وزيره أبا نصر عوضًا عنه، وكان من جش الملك أذيّة كثيرة للناس في الطريق، وتعرّض للحريم،
(1)
المنتظم (8/ 227)، الكامل في التاريخ (10/ 24)، الوافي بالوفيات (11/ 16).
(2)
تاريخ بغداد (7/ 393)، المنتظم (8/ 227)، الكامل في التاريخ (10/ 24)، سير أعلام النبلاء (18/ 68)، شذرات الذهب (3/ 292).
(3)
تاريخ بغداد (8/ 110)، المنتظم (8/ 228).
(4)
المنتظم (8/ 228).
(5)
في (ط): "الجرجاني" محرفة، وهو منسوب إلى جولك الغازي، على ما ظن أبو سعد السمعاني في "الجولكي" من الأنساب. وينظر تاريخ الإسلام (10/ 46)(بشار).
حتى أنّهم هجموا على النساء في الحمامات، فخلصهنّ منهم العامّة بعد جهد جهيد.
دخول الملك طُغْرُلْبَك على بنت الخليفة
لما استقرّ الملك طُغْرُلْبَك ببغداد، أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل السيدة من الدار العزيزة النبويّة إلى دار المملكة، فتمنّع الخليفة من ذلك وقال: إنّكم إنّما سألتم أن يعقد العقد فقط لحصول التشريف، والتزمتم لنا بعدم المطالبة بها، فتردد [الناس] في ذلك، بين الخليفة والملك، وأرسل الملك زيادة على النقد مئة ألف دينار، وخمسين ألف درهم
(1)
، وتحفًا أخر، وأشياء لطيفة، فلما كان ليلة الإثنين الخامس عشر من صفر من هذه السنة زُفّت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها دار المملكة، وكانت ساعة عظيمة، [فلما دخلت] جلست على سرير مكلّل بالذهب، وعلى وجهها برقع، ودخل الملك طُغْرُلْبَك فوقف بين يديها، وقبّل الأرض ولم تقم له [ولم تره] ولم يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار، والحجَّاب والأتراك يرقصون هناك فرحًا وسرورًا، وبعث لها مع الخاتون أرسلان ابنة أخيه زوجة الخليفة عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبّل الأرض، وجلس على سرير مكلّل بالفضة بإزائها ساعة ثمّ خرج، وأرسل إليها جواهر كثيرة ثمينة، وفرجيّة
(2)
نسيج مكلّلة باللؤلؤ، وما زال كذلك كلّ يوم يدخل، ويقبّل الأرض، ويجلس على السرير بإزائها، لمّ يخرج فيبعث التحف والهدايا، ولم يكن منه إليها شيء، ويمدّ في كلّ يوم من هذه الأيام السبعة سماطًا عظيمًا، وخلع يوم السابع على جميع الأمراء. ثمّ عرض له سفر، واعتراه مرض، فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد مدّة قريبة، ثمّ يعود بها، فأذن بها الخليفة بعد تمنّع شديد، وحزن عظيم، فخرج بها معه، وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة برسم خدمتها، وتألَّمت والدتها لفقدها ألمًا عظيمًا جدًا لا يُعبَّر عنه، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه، مثقل لا ترجى منه العافية.
فلمّا كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأن الملك طُغْرُلْبَك توفي في ثامن الشهر رحمه اللَّه تعالى. فثارت العيّارون بهمَذان، فقتلوا العميد والشحنة وسبعمئة من أصحابه، ونهبوا الأموال، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارًا حتى انسلخ الشهر لعنهم اللَّه وقبّحهم. وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود، وكان طُغْرُلْبَك قد نصّ عليه، وأوصى إليه، لأنّه كان تزوّج بأمّه بعد أبيه، واتفقت الكلمة [عليه] وأنفقت في الأمراء والأتراك الأموال والخلع، ولم يبق عليهم خوف إلا من
(1)
في (أ): وخمسة آلاف درهم، وفي (ط): مئة وخمسين ألف درهم، وما أثبت من (ب) والمنتظم (8/ 229).
(2)
"الفرجية": ثوب له فتحة من الإمام أو الخلف. .
جهة أخي سليمان وهو الملك عضد الدولة ألب آرسلان محمد بن داود، فإن الجيش كانوا يميلون إليه، ويقبلون عليه، وقد خطب له أهل الجبل ومعه لنظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره، ولما رأى الكُنْدري قوة أمره خطب له بالريّ، ثمّ من بعده لأخيه سليمان بن داود. وقد كان الملك طُغْرُلْبَك عاقلًا حليمًا، كثير الاحتمال، شديد الكتمان للسرّ، محافظًا على الصلوات، وعلى صوم الإثنين والخميس، مواظبًا على لبس البياض، وكان عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولدًا، وكان مدة ملكه بحضرة القائم بأمر اللَّه سبع سنين وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا، ولما مات اضطربت الأحوال وانتفضت الأمور بعده جدًا، وعاثت الأعراب في سواد بغداد وأرض العراق ينهبون الأموال ويشلّحون الرجال، وتعذّرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج لذلك الناس.
وفيها: كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس.
وفيها: وقع مُوتان بالجدريّ والفجأة، ووقع بمصر وباءٌ شديد، كان يخرج منها في كلّ يوم ألف جنازة.
وفيها: ملك الصُّلَيحي صاحب اليمن مكّة، وجلب الأقوات إليها، وأحسن إلى أهلها.
وفي أوائل هذه السنة طلبت الست أرسلان خاتون زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمّها، وذلك لمّا هجرها بالكليّة وبارت عنده، فبعثها الخليفة مع الوزير الكُنْدَري، فلمَّا وصلت إلى عمّها كان مريضًا مدنفًا مثقلًا، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها، فكتب إليه الخليفة يقول ارتجالًا:
ذهبتْ شِدَّتي وولّى الغرامُ
…
وارتجاعُ الشّبابِ مَا لا يُرامُ
أذهبَتْ مني اللّيالي جَديدًا
…
واللّيالي يَضعُفْن والأيامُ
فَعَلى ما عَهدتُهُ من شبابي
…
وعلى الغَانياتِ منّي السلامُ
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
زهير بن الحسن بن علي
(1)
بن خدام أبو نصر الخِدامي
(2)
.
ورد بغداد، فتفقّه على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وسمع بالبصرة "سنن أبي داود" على القاضي أبي عمر، وحدّث بالكثير، وكان يُرجع إليه في الفتاوى وحلّ المشكلات. كانت وفاته بسرخس في هذه السنة.
(1)
في (ط): "زهير بن علي بن الحسن" مقلوب، وما أثبتناه هو الصواب، وترجمه الذهبي في وفيات السنة الماضية من تاريخه، وقال: وقيل إنه توفي سنة خمس وخمسين (تاريخ الإسلام 10/ 46)(بشار).
(2)
الأنساب (5/ 56 الخدامي)، المنتظم (8/ 232) وسقط منه "زهير" اسم المترجم، وتحرفت نسبته فيه إلى: الجذامي، طبقات السبكي (4/ 379)، سير أعلام النبلاء (18/ 134)، شذرات الذهب (3/ 292).
سعيد بن مروان صاحب آمد
(1)
.
يقال: إنّه سُمّ، فانتقم سعيد صاحب ميّافارقين ممن سمّه، فقطّعه قطعًا.
الملك الكبير أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سُلْجوق بن تقاق
(2)
، الملقب طُغْرُلْبَك
(3)
.
وكان أول ملوك السَّلاجقة، وكان خيِّرًا مُصلّيًا محافظًا على الصلوات في أوقاتها يديم صيام الإثنين والخميس، حليمًا عمن أساء إليه، كتومًا للأسرار، سعيدًا في حركاته وتقلّباته، ملك في أيام محمود بن سُبُكْتِكين عامة بلاد خراسان، واستناب أخاه داود، وأخاه لأمّه إبراهيم ينّال، وأولاد إخوته على كثير من البلاد، ثمّ استدعاه الخليفة لملك العراق حين فسد الحال ببغداد من البساسيري، وضعف الملك الرحيم؛ فقدمها، وجلس له الخليفة، وخَلَعَ عليه سبع خلع، ولقّبه بملك المشرق والمغرب، ثمّ اشتغل بقتال أخيه إبراهيم حين كان من أمر البساسيري ما ذكرناه، ثمّ ظفر بأخيه إبراهيم فقتله، ثمّ عاد إلى بغداد فاستعادها وأعاد الخليفة من حديثة عانة إلى دار خلافته، ومقرّ سعادته، ثمّ سعى في التزويج ببنت الخليفة فتزوجها بعد تمنّع من الخليفة، ودخل بها في هذه السنة، ففرح كما ذكرنا، ولكنه لم يمتع بها، فإنّه عرض له مرض متلف، واستمر به حتى كانت وفاته في ثامن شهر رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبعون سنة، وكان له في الملك مدة ثلاثين سنة، منها في مملكة العراق ثماني سنين إلا ثمانية عشر يومًا.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمئة
فيها: قبض السلطان ألْب آرسلان على وزير عمّه عميد الملك الكُنْدري، وسجنه في بعض القلاع سنة، ثمّ أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق، يكرم العلماء والفقراء. ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش، وخرج عن الطاعة، وطمع في أخذ الملك من ألب
(1)
المنتظم (8/ 232).
(2)
في بعض النسخ: "نعاق"، محرف، وما أثبتناه هو الموافق لمصادر ترجمته، ويقال فيه "دقاق" بالدال المهملة بدل التاء ثالث الحروف (بشار).
(3)
المنتظم (8/ 190 - 234)، الكامل في التاريخ (10/ 12 - 28)، وفيات الأعيان (5/ 63)، سير أعلام النبلاء (18/ 107)، الوافي بالوفيات (5/ 102)، النجوم الزاهرة (5/ 73)، شذرات الذهب (3/ 294)، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة (12/ 322 - 333).
قال ابن خلكان: طغرلبك، بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وضم الراء، وسكون اللام، وفتح الباء الموحدة، وبعدها كاف، وهو اسم علم تركي، مركب من طغرل: وهو اسم علم بلغة الترك لطائر معروف عندهم، وبه سمي الرجل، وبك: معناه الأمير، وضبطه ابن تغري بردي بكسر الراء.
أرسلان، وكان من بني عم طُغْرُلْبَك، فجمع وحشد واحتفل له، وخاف منه ألب أرسلان؛ قال له الوزير: أيها الملك لا تخف، فإني قد استخدمت لك جندًا ليليًّا [ما بارزوا عسكرًا إلا كسروه كائنًا ما كان. فقال له الملك: من هم؟ قال: جند] يدعون لك وينصرونك بالتوجّه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء [والفقراء] والصلحاء، فطابت نفسه بذلك، وحين التقى مع قتلمش لم ينتظره أن كسره، وقتل خلقًا من جنوده، وقتل قتلمش في المعركة، واجتمعت الكلمة على ألب أرْسلان.
وفيها: أرسل ولده ملك شاه، ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد الكَرَج
(1)
ففتحوا حصونًا كثيرة، وغنموا أموالًا جزيلة جدًا، وفرح المسلمون بنصرهم، وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الأعظم صاحب ما وراء النهر، وزفت إليه، وزوج ولده بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل البيتين السلجوقيّ والمحمودي.
وفيها: أذن ألْب أرْسلان للسيدة ابنة الخليفة في الرجوع إلى بغداد، وأرسل معها بعض القضاة والأمراء، فدخلت بغداد في تجمّل عظيم، وخرج الناس للنظر إليها، فدخلت ليلًا في أبَّهة عظيمة، ففرح الخليفة وأهلها بذلك، وأمر الخليفة بالدعاء للملك ألبْ أرْسلان على المنابر في الخطب. فقيل في الدعاء: اللهمّ وأصلح السلطان المعظّم عَضُد الدولة، وتاج الملّة أرْسَلان أبا شجاع محمد بن داود. وجلس الخليفة للناس جلوسًا عامًا، وبايعهم للملك ألْب أرْسَلان، وأرسل إليه بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب العباسيين طِراد بن محمد الزَّيْنَبي، وأبي محمد التميمي، وموفق الخادم، ولقب الوزير نظام المُلْك: قِوامُ الدين والدولة رضى أمير المؤمنين، وإئما كان يقال له قبل ذلك: خواجه بررك. وأرسل الملك ألْب أرْسَلان بالهدايا العظيمة، والتحف النفيسة المفتخرة، واستقرّ أمره على بغداد وجميع بلاد العراق.
قال ابن الجوزي
(2)
: وفي ربيع الأول شاع ببغداد أن قومًا من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البريَّة خيمًا سودًا، وسمعوا فيها لطمًا شديدًا، وعويلًا كثيرًا، وقائلًا يقول: قد مات سيدوك
(3)
ملك الجنْ، وأيّ بلد لم يلطم به عليه، ولم يقم له مأتم فيه، قلع أصله، وأهلك أهله. قال: فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام، ويخرّقن ثيابهن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من السّفهاء يفعلون ذلك. وفُعل هذا في واسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال: وكان هذا من الحمق لم ينقل مثله.
(1)
في (ط): "الكرخ"، وهو تصحيف ظاهر.
(2)
المنتظم (8/ 235).
(3)
في (ب): "سندرك"، وهو تحريف، وما أثبتناه من (ط) والمنتظم (8/ 235)، والكامل في التاريخ (10/ 42)، وتاريخ الإسلام (10/ 12)(بشار).
قال ابن الجوزي
(1)
: في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبد الصمد على أبي علي [بن الوليد] المدرّس للمعتزلة، فسبّوه، وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع، وتدريسه لهذا المذهب، وأهانوه، وجزوه، ولُعنت المعتزلة بجامع المنصور، وجلس أبو سعد بن أبي عمامة
(2)
فلعن المعتزلة قبَّحهم اللَّه تعالى.
وفي شوال ورد الخبر بأن السلطان غزا بلدًا عظيمًا فيه سبعمئة ألف دار، وألف بيعة [ودير] وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأسر خمسمئة [ألف] إنسان.
وفي ذي القعدة حدث وباء عظيم ببغداد وغيرها من بلاد العراق، وغلت أسعار الأدوية التي يُتداوى بها، وعدم الشيرخشك
(3)
، وقل التمرهندي، وزاد الحرّ في تشارين، وفسد الهواء.
وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمّر بن محمد بن عبيد اللَّه العلوي في بيت النوبة بنقابة الطالبيين و [ولاية] الحجِّ والمظالم، ولقّب بالطاهر ذي المناقب، وقرئ تقليده بالموكب، وحجّ بالناس في هذه السنة.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
الإمام الحافظ العلامة أبو محمّد
(4)
علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْم بن غالب بن صالح بن خلف بن مَعْدان
(5)
بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي.
أصل جدِّه يزيد هذا فارسيّ أسلم. وخلفٌ المذكور أول من دخل منهم بلاد المغرب، وكانت بلدتهم قرطبة، فولد ابن حَزْم هذا بها في سلخ رمضان من سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، فقرأ القرآن، واشتغل بالعلوم [النافعة] الشرعية، فبرّز فيها، وفاق أهل زمانه، وصنّف الكتب المفيدة الشهيرة، فيقال: إنه صنف أربعمئة مجلّد من تصنيفه في قريب من ثمانين ألف ورقة.
(1)
المنتظم (8/ 235 - 236).
(2)
في (أ) و (ب): "عماية" محرف، وما هنا من (ط) والمنتظم وخط الذهبي في تاريخ الإسلام (11/ 83)، وأبو سعد من أبي عمامة هذا هو الذي صلى على الخطيب البغدادي ثانية بأهل الضرية والحربية، وستأتي ترجمته في وفيات سنة 507 من هذا الكتاب واسمه: المعمر بن علي بن المعمر (بشار).
(3)
الشيرخشك: لعلَّه نوع من الطعام أو الشراب.
(4)
جذوة المقتبس (308)، الصلة لابن بشكوال (408)، وفيات الأعيان (3/ 325)، تاريخ الإسلام (10/ 74 - 82)، سير أعلام النبلاء (18/ 184)، نفح الطيب (2/ 77). وللشيخ محمد أبو زهرة: ابن حزم وآراؤه وفقهه. وللدكتور عبد الحليم عويس دراسة قيمة بعنوان: ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري. نشر دار الاعتصام القاهرة.
(5)
فى (ط): معد. خطأ.
وكان أديبًا، طبيبًا، شاعرًا، فصيحًا، له في الطب والمنطق اليد العالية. وكان من بيت وزارة ورياسة، ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحبًا للشيخ أبي عمرو بن عبد البَرّ النمري، ومناوئًا للشيخ أبي الوليد سُليمان بن خَلَف الباجي، وقد جرت بينهما مناظرات يطول شرحها. وكان أبو محمد بن حزم كثير الوقيعة في العلماء الذين يخالفون الأحاديث الصحيحة بلسانه وقلمه أيضًا، فأورثه ذلك حقدًا في قلوب أهل زمانه، فما زالوا به حتى بغّضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في ثاني شعبان من هذه السنة، وقد جاوز السبعين
(1)
، والعجب كلّ العجب أنه كان ظاهريًا [حائرًا] في الفروع، لا يقول بشيء من الأقيسة لا الجليّة ولا غيرها، [وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيرًا في نظره وتصرّفه]، وكان مع هذا من أشدّ الناس تاويلًا في باب الأصول [وآيات الصفات، وأحاديث الصفات]، لأنّه كان قد تضلّع أولًا من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المَذْحِجي الكتاني القرطبي، ذكره ابن ماكولا وابن خلِّكان [ففسد بذلك حاله في باب الصفات]، رحمه اللَّه تعالى.
عبد الواحد بن علي بن بَرْهان [بن] علي بن هانئ أبو القاسم النحويّ
(2)
.
كان شرس الأخلاق جدًا، ولم يلبس سراويل قط، ولا غطّى رأسه، ولم يقبل عطاء لأحد، وذُكر عنه: أنَّه كان يقبّل المرد في غير ريبة.
قال ابن عقيل: وكان يختار مذهب مرجئة المعتزلة، وينفي خلود الكفار [في النار] ويقول: دوام العقاب في حقّ من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له مع ما وصف اللَّه به نفسه من الرحمة، ويتأوّل قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 169] أيّ أبدًا من الآباد.
قال ابن الجوزي
(3)
: وقد كان ابن بَرْهان يقدح في أصحاب أحمد، ويخالف اعتقاده اعتقاد المسلمين، لأنّه قد خالف الإجماع في عدم خلود الكفار، فكيف يُقبل كلامه، توفي هذا العام وقد نيف على الثمانين.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمئة
فيها: سار جماعة [من العراق] للحج بخفارة، فلم يمكنهم المسير، فعدلوا إلى الكوفة، ورجعوا.
(1)
في (ط): التسعين. خطأ.
(2)
تاريخ بغداد (11/ 17)، المنتظم (8/ 236)، الكامل في التاريخ (10/ 42)، سير أعلام النبلاء (18/ 124)، الجواهر المضية (2/ 481)، النجوم الزاهرة (5/ 75)، شذرات الذهب (3/ 297).
(3)
المنتظم (8/ 237).
وفي ذي الحجة فيها: شرع في بناء المدرسة النظامية ببغداد، ونقض لأجلها دور كثيرة بين مشرعة الزوايا وباب البصرة.
وفيها: كانت حروب كثيرة بين تميم بن المعز بن باديس وأولاد حمّاد، والعرب، والمغاربة، بصنهاجة وزناتة.
وحجّ بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم.
وفيها: كان مقتل عميد الملك الكُنْدري
(1)
، وهو منصور بن محمد
(2)
أبو نصر وزير طُغْرُلْبَك، وقد كان مسجونًا سنة تامة، ولمّا قُتِل حُمِل فدفن عند أبيه بقرية كُنْدُر من عمل طُرَيْثيث، وليست بكندر التي بالقرب من قزوين
(3)
، واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله، وقد كان ذكيًّا فصيحًا شاعرًا، لديه فضائل جمّة، حاضر الجواب، سريعه، ولما أرسل الملك طُغْرُلْبَك إلى الخليفة يخطب إليه ابنته، امتنع الخليفة من ذلك أشدّ الامتناع، وأنشد متمثلًا بقول المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرءُ يُدْركه
فتمَّمه الوزير:
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فسكت الخليفة وأطرق. وكان عمر الكُنْدُري حين قُتل نيّفًا وأربعين سنة. ومن شعره الجيّد قوله:
إنْ كان بالناس ضِيقٌ عن مُنَافَستي
…
فالموتُ قد وسَّعَ الدُّنيا على النَّاسِ
مضيتُ والشَّامتُ المغبونُ يَتْبَعُني
…
كُلٌّ لكاسِ المنَايا شاربٌ حاسِي
وقد كان الملك طُغْرُلْبَك بعثه مرة ليخطب له امرأة خوارزم شاه، فتزوّجها هو؛ فخصاه وأقرّه على عمله، فدفن ذكره بخوارزم، وتسفّح دمه حين قتل بمرو الرّوذ، ودفن جسده بكُنْدُر، وحمل رأسه فدفن بنيسابور، ونقل قحف رأسه إلى كرمان. [وأنا أشهد أن اللَّه جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم، أين كانوا وحيث كانوا، وعلى أيّ صفة كانوا، سبحانه وتعالى].
(1)
قصة قتله وترجمته في المنتظم (8/ 238)، الكامل في التاريخ (10/ 31)، وفيات الأعيان (5/ 138)، سير أعلام النبلاء (18/ 113)، النجوم الزاهرة (5/ 176)، شذرات الذهب (3/ 301).
(2)
هكذا سماه أبو الحسن محمد بن الصابئ في تاريخه والباخرزي في دمية القصر (2/ 796). أما المصادر الأخرى، ومنها المنتظم وكتب الذهبي ففيها:"محمد بن منصور بن محمد" وذكر الذهبي في تاريخ الإسلام والسير (18/ 113) أن محمد بن عبد الملك الهمذاني سماه: محمد بن محمد بن منصور (بشار).
(3)
معجم البلدان (4/ 482).
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمئة
في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم، وأحضروا نساءً فَنُحنَ على الحسين كما جرت به سالف عادات بدعهم المتقدمة [المخالفة]، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا الغنائم نقيب الطالبيين، وأنكر ذلك عليه، فاعتذر بأنَّه لم يعلم بذلك، وأنّه حين علم به أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، ويتنصَّلون منه، وخرج التوقيع بكفر من يسبّ الصحابة، ويظهر البدع.
قال ابن الجوزي
(1)
: وفي ربيع الأول ولد بباب الأزَجّ صبيّة لها رأسان ووجهان ورقبتان وأربع أيدي على بدن كامل ثمّ ماتت.
قال: وفي جمادي الآخرة كانت زلزلة بخراسان لبثت أيامًا ثم تصدّعت منها الجبال، وأهلكت جماعة، وخسفت بِعدَّة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء، وأقاموا هنالك.
ووقع حريق بنهر مُعَلّى من بغداد، فأحرق مئة دكان وثلاث دور، وذهب للنّاس شيء كثير، ونهب الناس بعضهم بعضًا.
قال ابن الجوزي: وفي شعبان وقع قتال في دمشق، فضربوا دارًا كانت مجاورة للجامع بالنار، فاحترق جامع دمشق. كذا قال ابن الجوزي. والمشهور أن حريق جامع دمشق، إنّما كان [في ليلة النصف من شعبان] في سنة إحدى وستين وأربعمئة بعد ثلاث سنين. وأن غلمان الفاطميين اقتتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار الإمارة -وهي الخضراء- فاحترقت وتعدّى حريقها إلى أن وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه و [بادت] زخرفته و [تلف] رخامه، ولقي كأنّه خرابة، وبادت الخضراء فصارت كومًا من تراب بعدما كانت في غاية الإحكام والإتقان، وطيب الغناء و [نزهة المجالس] وحسن البناء [والمنظر]، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة مكانها إلا سفلة الناس وسُقَّاطهم بعدما كانت دار [الخلافة و] الملك والإمارة منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان رحمه اللَّه تعالى، وأمّا الجامع [الأموي] فإنّه لم يكن على وجه الأرض بناءٌ أحسن منه إلى أن احترق فبقي خرابًا مدة طويلة، ثمّ شرع الملوك في تجديده وترميمه، حتى بُلِّط في زمان العادل أبي بكر [بن أيوب]، ولم يزالوا في تحسيبن معالمه إلى زماننا هذا، فتماثل حاله وهو بالنسبة إلى حاله الأول [كلا شيء] ولا زال التحسين فيه إلى هذه الأيام التي وليها الأمير سيف الدين تنكُز عبد اللَّه النّاصري، في حدود سنة ثلاثين وسبعمئة وما قبلها وما بعدها بيسير، رحمه الله.
(1)
المنتظم (8/ 240).
وفيها: رخصت الأسعار ببغداد رخصًا بيِّنًا، ونقصت دجلة نقصانًا ظاهرًا.
وفيها: أخذ الملك ألْب آرْسلان العهد من بعده لولده، ومشى بين يديه بالغاشية، والأمراء بين يديه يتماشون بالخلع، وكان يومًا مشهودًا. وحجّ بالناس في هذه السنة نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين أبي الحسن محمد بن الزَّيْنَبي، وجاور بمكة هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد اللَّه بن موسى البَيْهقيّ
(1)
.
أحد الحفاظ الكبار، ومن له التصانيف التي سارت بها الركبان في سائر الأمصار والأقطار. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمئة. وكان واحد زمانه في الإتقان والحفظ والتصنيف، فقيهًا، محدِّثًا، أصوليًا، أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد اللَّه النيسابوري، وسمع على غيره شيئًا كثيرًا، وجمع أشياء كثيرة نافعة جدًا، لم يُسبَق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، من ذلك كتاب "السنن الكبير"، و"نصوص الشافعي" كلٌّ في عشرة مجلدات. و"السنن والآثار" و"المدخل" و"الآداب"، و"شعب الإيمان" و"الخلافيات"، و"دلائل النبوة" أو "البعث والنشور"، وغير ذلك من المصنّفات الكبار والصغار المفيدة التي لا تسامى ولا تدانى، وكان زاهدًا متقللًا، كثير العبادة والورع، رحمه اللَّه تعالى، وكانت وفاته بنيسابور، ونقل تابوته إلى بَيْهق في جمادى الأولى من هذه السنة.
الحسن بن غالب
(2)
بن علي بن غالب بن منصور بن صعلوك أبو علي التميمي، ويعرف بابن المبارك المقرئ.
صحب ابن سمعون، وأقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه، وجُرّب عليه الكذب إمّا عمدًا أو خطأً، واتّهم في روايات كثيرة، وكان أبو الحسن
(3)
القزويني ممن ينكر عليه، وكتب عليه محضر، وألزم بعدم الإقراء بالحروف المنكرة.
قال أبو محمد بن السمرقندي: كان كذابًا، وكانت وفاته في هذه السنة عن اثنتين وثمانين سنة، ودفن عند إبراهيم الحربي.
(1)
الأنساب (2/ 381)، المنتظم (8/ 242)، الكامل في التاريخ (10/ 52)، وفيات الأعيان (1/ 75)، سير أعلام النبلاء (18/ 163)، الوافي بالوفيات (6/ 354)، طبقات السبكي (4/ 8)، النجوم الزاهرة (5/ 77)، شذرات الذهب (3/ 304).
والبيهقي: نسبة إلى بَيْهق، وهي ناحية كبيرة وكورة واسعة من نواحي نيسابور. معجم البلدان (1/ 537).
(2)
تاريخ بغداد (7/ 400)، والمنتظم (8/ 242)، تاريخ الإسلام (10/ 97).
(3)
في (ط): أبو بكر.
قال ابن خلكان: وأخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر
(1)
بن محمد العمري المروزي، ثمّ غلب عليه الحديث، واشتهر به، ورحل في طلبه.
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرّاء
(2)
القاضي أبو يعلى، شيخ الحنابلة، ومُمهّد مذهبهم في الفروع.
ولد في محرم سنة ثمانين وثلاثمئة، وسمع الحديث الكثير، وحدّث عن ابن حَبَابة.
قال ابن الجوزي: وكان من سادات [العلماء] الثقات، وشهد عند ابن ماكولا وابن الدّامغاني فقبلاه، وتولّى النظر في الحكم بحريم دار الخلافة، وكان إمامًا في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرّس وأفتى سنين، وانتهى إليه المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع الأمانة، والصدق، والعفّة، وحسن الخلق، والتعبّد، والتقشف، والخشوع، وحسن السّمت، والصّمت عمّا لا يعنيه، وكانت وفاته في العشرين من رمضان هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والأعيان من الفقهاء والشهود، وكان يومًا حارًّا، فأفطر بعض من اتّبع جنازته ذلك اليوم، وترك من البنين عبيد اللَّه أبا القاسم، وأبا حازم، وأبا الحسين.
ورآه بعضهم في المنام، فقال له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: رحمني، وعزّني، ورفع منزلتي، وأكرمني. وجعل يعدّد ذلك بأصابعه فقال: أَبِالعلم؟ قال: بالصدق، رحمه اللَّه تعالى.
ابن سِيْدَه اللُّغوي
(3)
هو أبو الحسن، علي بن إسماعيل المُرسي.
كان إمامًا حافظًا للّغة، وكان ضرير البصر، أخذ علم اللغة والعربيّة عن أبيه، وكان ضريرًا أيضًا، ثمّ اشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي، وله:"المحكم" في مجلدات عديدة، وله "شرح الحماسة" في ست مجلدات، وغير ذلك. وقرأ على الشيخ أبي عمر المالكي [الطَّلَمَنْكي] كتاب "الغريب المصنّف" لأبي عُبَيد سردًا من حفظه، والشيخ يقابل نسخته بما يقرأ، فسمع الناس قراءته من حفظه، وتعجّبوا لذلك، وكانت وفاته في ربيع الآخر من هذه السنة وله ستون سنة، وقيل: إنّه توفي في سنة ثمان وأربعين، والأوَّل أصحّ، واللَّه أعلم.
(1)
في (ط): نصر.
(2)
تاريخ بغداد (2/ 256)، المنتظم (8/ 243)، طبقات الحنابلة (2/ 193)، الكامل في التاريخ (10/ 52)، سير أعلام النبلاء (18/ 89)، الوافي بالوفيات (3/ 7)، شذرات الذهب (3/ 306).
(3)
جذوة المقتبس (311)، الصلة لابن بشكوال (2/ 417)، وفيات الأعيان (3/ 330)، المغرب في حلي المغرب (2/ 359)، سير أعلام النبلاء (18/ 144)، نفح الطيب (4/ 27)، شذرات الذهب (3/ 305).
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمئة
فيها: بنى أبو سعد المستوفي الملقب بشرف الملك مشهد الإمام أبي حنيفة النعمان ببغداد، وعقد عليه قبَّة، وعمل بإزائها مدرسة، وأنزلها المدرسين والفقهاء، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرًا [لأبي حنيفة] فأنشد ارتجالًا:
ألمْ ترَ أنّ العلمَ كان مُضيَّعًا
…
فجمّعَهُ هذا المُغَيَّبُ في اللَّحدِ
كذلكَ كانتْ هذه الأرضُ ميْتةً
…
فأنشرَها جودُ العميدِ أبي السَّعدِ
وفي شعبان هبّت ريح حارّة فمات بسببها خلق كثير، ودواب ببغداد، وأتلفت شجرًا من الليمون والأترجّ ببغداد.
وفيها: احترق قبر معروف الكرخي، وكان سبب ذلك: أنّ القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه، فتعدّت النار إلى الأخشاب، فاحترق المشهد بكماله.
وفيها: وقع غلاءٌ وفناءٌ كثير بدمشق، وحلب، وحرَّان، و [أعمال] خراسان بكمالها، ووقع الفناء في الدوابّ تنتفخ رؤوسها وأعينها، حتى كانوا يأخذون حمر الوحش بالأيدي ولكن يأنفون من أكلها.
قال ابن الجوزي في "المنتظم"
(1)
: وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سَعْد
(2)
القاضي الناس لحضور الدرس بالنظاميّة ببغداد، وعُيِّن [لتدريسها و] لمشيختها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فلما تكامل اجتماع الناس، وذهب [أبو إسحاق] إليهم ليدرِّس، فلقيه فقيه شاب، فقال: يا سيدي تدرّس في مكان مغصوب، فامتنع [أبو إسحاق] من المسير
(3)
ورجع إلى بيته، فأقيم الشيخ أبو نصر بن الصبَّاغ فدرّس، فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيّظ على العميد، وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فردّه إلى التدريس بالنظامية في ذي الحجة من هذه السنة، وكان لا يصلّي فيها مكتوبة بل يخرج إلى بعض المساجد فيؤدي المكتوبة، لما ذكر من كونها في بعض أرضها غصب، وكانت مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يومًا، ثمّ عاد الشيخ أبو إسحاق إليها.
وفي ذي القعدة من هذه السنة قُتل الصُّلَيحي أمير اليمن وصاحب مكة، قتله بعض أمراء اليمن، وخطب بها للقائم بأمر اللَّه العباسي
(4)
، وحجّ بالناس في هذه السنة أبو الغنائم النقيب.
(1)
المنتظم (8/ 246).
(2)
في بعض النسخ: "أبو سعيد" محرف، وما هنا من (ط) ويعضده ما في المنتظم وتاريخ الإسلام (10/ 13).
(3)
في (ب) و (ط): الحضور.
(4)
هذا وهم من المصنف رحمه الله وتابع فيه ابن الأثير في الكامل (10/ 55 - 56)، والصحيح أن وفاة الصليحي كانت =
وممن توفي فيها من الأعيان:
محمد بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطَّرَسُوسيّ
(1)
، ويقال له: العراقي لظرفه وطول مقامه بها.
سمع الحديث من أبي طاهر المخلّص، وتفقّه على أبي محمد الباقي، ثمّ على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وولي قضاء بلدة طَرَسُوس، وكان من الفقهاء الفضلاء المبرِّزين، رحمه اللَّه تعالى.
ثم استهلَّت سنة ستين وأربعمئة من الهجرة النبويَّة
قال ابن الجوزي
(2)
: وفي جمادى الأولى كانت زلزلة شديدة بأرض فلسطين أهلكت بلد الرّملة، ورمت شُرافتين من مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز كثيرة من المال، وبلغ حسّها الرحبة والكوفة، وجاء كتاب بعض التجار في ذكر هذه الزلزلة ويقول: إنّها خسفت الرّملة جميعًا حتى لم يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة، وانشقت الصخرة التي ببيت المقدس، ثمّ عادت فالتأمت بقدرة اللَّه تعالى. وغار البحر مسيرة يوم وساح في البرّ، وخرّب الدنيا [وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها]، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون، فرجع فأهلك خلقًا كثيرًا منهم [أو أكثرهم]. هذا لفظة
(3)
.
وفي يوم السبت النصف من جمادى الآخرة قرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذاهب أهل السنّة والجماعة، والإنكار على أهل البدعة، وقرأ أبو مسلم الليثي البخاري المحدّث كتاب "التوحيد" لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين، وذلك بمحضر الوزير ابن جَهِير، وجماعة الأعيان من الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا بالموافقة، ثمّ قرئ الاعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي باللَّه بباب البصرة، وذلك بسماعه له من الخليفة القادر باللَّه مصنّفه.
وفيها: عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جَهِير الملقب فخر الدولة، وبعث إليه يعاتبه في أشياء كثيرة، فاعتذر منها، وأخذ في الترقق والتذلّل، فأجيب بأن يترحّل إلى أيّ الجهات شاء، فاختار حلّة ابن مَزْيَد، فباع أصحابه أموالهم وأملاكهم، وطلّقوا نساءهم، وأخذ أولاده وأهله، وجاء ليركب في سميريّة
(4)
لينحدر منها إلى الحلّة، والناس حوله يتباكون لبكائه، فلما اجتاز بدار الخلافة قبّل
= سنة ثلاث وسبعين وأربعمئة، وسترد ترجمته فيها.
(1)
المنتظم (8/ 247)، تاريخ الإسلام (10/ 114).
(2)
المنتظم (7/ 247).
(3)
في هذه القصة التي ذكرها بعض التجار مبالغات لا دليل عليها (ع).
(4)
في (ط): سفينة، وهما بمعنى.
الأرض دفعات، والخليفة في الشبّاك، والوزير يقول: يا أمير المؤمنين أرحم شيبتي، وغربتي، وأولادي، وعيالي، فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دُبَيْس بن مَزْيَد في السنة الآتية، وامتدحه الشعراء، وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة، كان يوم دخوله بغداد يومًا مشهودًا بكثرة الناس وتباكيهم فرحًا بقدومه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الملك بن محمد بن يوسف
(1)
أبو منصور الملقب بالشيخ [الأجلّ].
كان أوحد زمانه في القيام بالمعروف [والنهي عن المنكر]، والمبادرة إلى فعل الخيرات، واصطناع الأيادي عند أهلها من أهل السنّة، وفي شدّة القيام على أهل البدع وقمعهم، وافتقاد المستورين بالبرّ، والصدقة على المحاويج، وإخفاء ذلك جهده وطاقته، ومن غريب ما وقع له أنّه كان يبز إنسانًا في كلّ سنة بعشرة دنانير، يكتب له بها على رجل يقال له: ابن رضوان، فلمّا توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان يطلب منه ما كان يصرفه إليه، فقال له ابن رضوان: إنّ الذي كان يكتب لك عليّ قد مات، ولا أقدر أن أصرف لك شيئًا، فذهب الرجل إلى قبرِ الشيخ الأجلّ فقرأ شيئًا من القرآن، وترحَّم عليه، ثمّ التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير
(2)
، فاخذَها وجاء بها إلى ابن رضوان، فذكر له ذلك، فقال له ابن رضوان: هذه يا أخي سقطت مني اليوم فخذها، ولك عليّ مثلها في كلّ عام، وكانت وفاته في المنتصف من محرم هذه السنة عن خمس وستين سنة، وكان يومًا مشهودًا حضره خلق من الناس لا يعلم عددهم إلا اللَّه عز وجل، فرحمه اللَّه وأكرم مثواه.
أبو جعفر، محمد بن الحسن الطوسيّ
(3)
فقيه الشيعة.
توفي في هذه السنة، ودفن بمشهد علي، وقد كان مجاورًا به من حين احترقت داره بالكرخ، وكتبه في سنة ثمان وأربعين إلى المحرم من هذه السنة، فتوفي، ودفن هناك.
خديجة بنت محمد بن علي بن عبد اللَّه
(4)
الواعظة، المعروف بالشَّاهجَانيّة.
ولدت سنة أربع وسبعين [وثلاثمئة]، ودفنت إلى جانب ابن سمعون
(5)
.
(1)
تاريخ بغداد (10/ 434)، المنتظم (8/ 250)، الكامل في التاريخ (10/ 58)، سير أعلام النبلاء (18/ 333)، النجوم الزاهرة (5/ 82).
(2)
هذا أيضًا من المبالغات التي لا دليل عليها (ع).
(3)
المنتظم (8/ 250)، الكامل في التاريخ (10/ 58)، سير أعلام النبلاء (18/ 334)، الوافي بالوفيات (2/ 349)، أعيان الشيعة (44/ 33)، طبقات السبكي (4/ 126)، طبقات المفسرين للداودي (2/ 126)، النجوم الزاهرة (5/ 82).
(4)
تاريخ بغداد (14/ 258)، المنتظم (8/ 250).
(5)
تأتي بعد هذا في (أ) ترجمة أبي القاسم عمر بن محمد بن أحمد البزري الجزري، ووفاته سنة 560، ولم ترد في =
ثم دخلت سنة إحدي وستين وأربعمئة
في ليلة النصف من شعبان كان حريق جامع دمشق، وكان سببه: أنّ غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فيما بينهم، فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى حريقها إلى الجامع فسقطت سقوفه، وتناثرت فصوصه المذهَّبة التي على جدرانه، وتقلّعت الفسيفساء التي كانت في أرضه [وعلى جدرانه]، وتغيرت معالمه ومحاسنه، وتبدّلت بهجته بضدّها، وقد كانت سقوفه مذهّبة مبطّنة كلّها، والجملونات من فوقها، وجدرانه بالفصوص المذهبة والملوّنة، مصوّر فيه جميع بلاد الدنيا [بحيث إن الإنسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصوّرًا كهيئته، فلا يسافر إليه، ولا يُعنَّى في طلبه]، الكعبة ومكّة في المحراب، والبلاد كلها شرقًا وغربًا، كلّ [إقليم] في مكانه اللائق به، و [مصوّر] فيه كلّ شجرة مثمرة وغير مثمرة، مشكّل مصوّر في بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران بالفصوص الملوّنة، وأرضه كلّها بالفصوص والرُّخام والفسيفساء [ليس فيها بلاط]، ولم يكن في الدنيا بناءٌ أحسن منه، لا قصور الملك، ولا دور الخلفاء، فضلًا عن غيرهم، ثمّ لما وقع [الحريق فيه] تبدّل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طينًا في زمن الشتاء، وغبارًا في زمن الصيف، محفّر، مجوّر، ولم يزل كذلك حتى بلط أرضه في زمن العادل أبي بكر بن أيوب بعد الستمئة [من الهجرة]، وكان جميع ما سقط من الرخام وغيره من الأخشاب [والفصوص] مودعة في المشاهد الأربعة شرقيّة وغربيّة، حتى فرغها من ذلك القاضي كمال الدين بن الشهرزوري في زمن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي حين ولاه نظره مع القضاء، ونظر الأوقاف كلّها، ونظر دار الضرب وغير ذلك، ولم تزل الملوك تجدّد في محاسنه وإلى زماننا هذا؛ فتقارب حاله في زمن الأمير سيف الدين تنكز بن عبد اللَّه الناصري نائب الشام، أثابه اللَّه تعالى.
وقد أرّخ الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "المنتظم"
(1)
هذا الحريق في سنة ثمان وخمسين، وتبعه ابن السّاعي في "تاريخه"
(2)
، والصواب أنّه في هذه السنة كما ذكره ابن الساعي أيضًا في هذه السنة، وشيخنا الحافظ أبو عبد اللَّه الذَّهبي مؤرخ الإسلام في "تاريخه"
(3)
، وغير واحد، واللَّه أعلم.
= (ب) و (ط) فوجودها هنا خطأ بيِّن.
(1)
المنتظم (8/ 241).
(2)
علي بن أنجب بن عثمان، تاج الدين ابن الساعي، من كبار المصنفين في التاريخ، مولده ووفاته ببغدادت (674 هـ) وكتابه:"الجامع المختصر في عنوان التاريخ وعيون السير" يقع في خمسة وعشرين مجلدًا.
(3)
تاريخ الإسلام (10/ 139) تحقيق الدكتور بشار عواد معروف.
وفيها: نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء بن عَقيل، وهو من كبرائهم بتردده على أبي علي بن الوليد المتكلّم المعتزليّ، واتّهموه بالاعتزال، ولا شكّ أنّه لم يكن يتردد إليه إلا ليحيط علمًا بمذهبه، ولكن شرقه الهوى [شرقة كادت روحه تخرج معها]، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة، وتأذّى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثمّ اصطلحوا فيما بينهم بعد اختصام كبير.
وفيها: زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعًا، حتى دخل [الماء] مشهد أبي حنيفة، ومشهد النذور
(1)
.
وفيها: ورد الخبر بأن الأفشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى عمّورية
(2)
، فقتل خلقًا وغنم أموالًا كثيرة.
وفيها: كان رخص عظيم بالكوفة، حتى بيع السمك كلّ أربعين رطلًا بحبّة. وحجّ بالناس في هذه السنة أبو الغنائم العلوي.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فُوران، الفُوراني
(3)
، المروزيّ.
أحد أئمة الشّافعيّة، مصنّف "الإبانة" التي فيها من النقول الغريبة والأقوال والأوجه التي لا توجد إلّا فيها، وكان بصيرًا بالأصول والفروع، أخذ الفقه عن أبي بكر القفّال، وحضر إمام الحرمين عنده وهو صغير فلم يلتفت إليه، فصار في نفسه منه، فهو يخطئه كثيرًا في "النهاية".
قال القاضي ابن خلِّكان: فمتى قال في "النهاية": وقال بعض المصنفين: كذا، وشرع في تخطئته، فمراده الفُوراني.
وكانت وفاته في رمضان من هذه السنة بمرو، عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كتب تلميذه أبو سعد عبد الرحمن بن محمد بن المأمون المقرئ، مدرّس النظاميّة بعد الشيخ أبي إسحاق، وقبل ابن الصبّاغ وبعده أيضًا كتابًا على "الإبانة" سمّاه "تتمة الإبانة" انتهى إلى كتاب الحدود، ومات قبل إتمامه، فتمم عليه أسعد العِجْلي وغيره، فلم يلحقوا شأوه، وسمّوه:"تتمة التتمة" رحمهم اللَّه تعالى.
(1)
كلاهما في الأعظمية اليوم، وهي أرض مرتفعة قلما يصيبها الغرق، وإنما دخل الماء إلى المشهدين المذكورين من شدة ارتفاعه (بشار).
(2)
تحرفت في (ط) إلى: غورية.
(3)
الكامل في التاريخ (10/ 68)، وفاته فيه سنة 463 هـ. وفيات الأعيان (3/ 132)، سير أعلام النبلاء (18/ 262)، طبقات السبكي (5/ 109)، شذرات الذهب (3/ 309).
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وأربعمئة
قال ابن الجوزيّ
(1)
: فمن الحوادث فيها: أنّه كان على ثلاث ساعات من يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى، وهو الثامن عشر من آذار، كانت زلزلة عظيمة بالرّملة وأعمالها، فذهب أكثرها، وانهدم سورها، وعمّ ذلك بيت المقدس، ونابلس، وانخسفت إيلياء، وانجفل البحر حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه، ثمّ عاد، وتغترت إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان.
وفيها: توجّه ملك الروم من قسطنطينيّة إلى الشام، في ثلاثمئة ألف، فنزل على منبج، وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم، وفزع المسلمون في حلب وغيرها فزعًا عظيمًا، فأقام ستة عشر يومًا، ثمّ رذه اللَّه خاسئًا وهو حسير، ذلك لقفة ما معهم من الميرة، وهلاك أكثر جيشه بالجوع، وللَّه الحمد والمنّة.
وفيها: ضاقت يد أمير مكة، فأخذ الذهب من أستار الكعبة، والميزاب، وباب الكعبة، فضرب كلّ ذلك دراهم ودنانير، وكذلك فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي، على ساكنه أفضل الصلاة والسلام.
وفي هذه السنة: كان غلاءٌ شديد وقحط عظيم بديار مصر، بحيث إنَّهم أكلوا الجيف والميتات، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت [ميتاتها]، وأفنيت الدواب، فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد [أن كان له العدد] الكثير منها. ونزل الوزير يومًا عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا، فصُلبوا، فأصبحوا وإذا عظامهم بادية قد أكل الناس لحومهم، فقُتل [وأكل لحمه]. وكانت الأعراب يقدمون بالطعام فيبيعونه ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يختطف [وينهب] من بين أيديهم، [وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارًا، وإنما يدفنه ليلًا خفية، لئلا يُنبش فيؤكل]، واحتاج صاحب مصر، حتى باع أشياء كثيرة من نفائس ما عنده، من ذلك أحد عشر درعًا. وعشرون ألف سيف محلّى، وثمانون ألف قطعة بلّور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القيّم، وبيعت ثياب النساء والرجال، وسجف المهود بأرخص الأثمان، وكذلك الأملاك وغيرها. وكان بعض هذه النفائس للخليفة مما نهب من بغداد أيام البساسيري.
وفيها: وردت الخلع والتحف والهدايا من الملك ألْب آرسلان إلى الخليفة القائم بأمر اللَّه.
(1)
المنتظم (8/ 256).
وفيها: ضُرب اسم وليّ العهد على الدنانير، وسُمي [المضروب عليه] الأميري، ومنع التعامل بغيرها.
وفيها: ورد كتاب صاحب مكّة إلى الملك ألب آرسلان، وهو بخراسان يخبره بإقامة الخطبة للقائم بأمر اللَّه، وللسلطان بمكّة، وقُطعت الخطبة للمصريين، فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار، وخلع سنيّة، وأجرى له في كلِّ سنة عشرة آلاف دينار.
وفيها: تزوج عميد الدولة بن جَهِير بابنة نظام المُلْك بالريّ ثم عاد إلى بغداد، وحجّ بالناس أبو الغنائم العلوي.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحسن بن علي بن محمد بن باري
(1)
أبو الجوائز الواسطي.
سكن بغداد دهرًا طويلًا، وكان أديبًا شاعرًا ظريفًا، ولد سنة ثنتين وخمسين وثلاثمئة، وتوفي في هذه السنة عن مئة وعشر سنين، ومن مستجاد شره قوله:
وَاحَسْرتي مِن قولِها
…
قد خَانَ عَهْدِي ولَهَا
وحَقِّ منْ صيَّرني
…
وَقْفًا عَلَيها ولَهَا
ما خَطَرتْ بخاطري
…
إلا كَستْني وَلَها
محمد بن أحمد بن سهل
(2)
المعروف بابن بِشْران النَّحوي الواسِطيّ.
ولد سنة ثمانين وثلاثمئة، وكان عالمًا بالأدب، وانتهت إليه الرحلة في اللّغة، وله شر حسن، فمنه قوله:
يا شَائِدًا للقصورِ مَهلًا
(3)
…
أقصِرْ فَقَصْرُ الفتَى المماتُ
لم يجتمعْ شَملُ أهلِ قَصْرٍ
…
إلا وقصراهم
(4)
الشّتاتُ
وإنّما العيشُ مِثْلُ ظلٍّ
…
مُنتقلٍ مالهُ ثَبَاتُ
(1)
المنتظم (8/ 258)، الكامل في التاريخ (10/ 62) وباري، بالراء، كذا ضبطه ابن ناصر في توضيح المشتبه (1/ 321) ويقال: بازي، بالزاي كما في تبصير المنتبه (1/ 57).
(2)
المنتظم (8/ 259)، معجم الأدباء (17/ 214)، الكامل في التاريخ (10/ 62)، سير أعلام النبلاء (18/ 235)، الوافي بالوفيات (2/ 82)، الجواهر المضية (2/ 11)، النجوم الزاهرة (5/ 85)، شذرات الذهب (3/ 310).
(3)
في المنتظم والكامل: كهلًا.
(4)
في (ط): قصاراهم.
ومن ذلك أيضًا قوله:
ودّعْتُهم ولي الدُّنيا مُودِّعةٌ
…
ورحتُ مالي سوى ذِكراهُم وطرُ
(1)
وقلتُ يا لذّتي بيني لبينهمُ
…
فإنَّ
(2)
صفو حياتي بعدهُم كدَرُ
لولا تعلّلُ قلبي بالرجاءِ لهمْ
…
ألفيتُه إذ
(3)
حدَوا بالعيسِ ينفطرُ
ياليتَ عيسَهُمُ يومَ النَّوى نُحرتْ
…
أوليتَها للضواري بالفَلا جزرُ
يا ساعةَ البينِ أنتِ السّاعةُ اقتربتْ
…
يا لوعةَ البيْنِ أنتِ النّارُ تستعرُ
ومن ذلك قوله أيضًا:
طلبتُ صديقًا في البريّةِ كلِّها
…
فأعيا طلابي أن أصيبَ صديقا
بلى من تسمّى بالصديق مجازة
…
ولم يكُ في معنى الودادِ صَدُوقا
فطلّقتُ ودَّ العالمينَ صريمةً
(4)
…
وأصبحتُ من أسرِ الحفاظِ طليقا
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمئة
فيها: أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم، والكرج، والفرنج، وعُدد عظيمة، وتجمُّل هائل، معه خمسة وثلاثون ألفًا من البطارقة مع كلّ بطريق ما بين ألفي
(5)
فارس إلى خمسمئة فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفًا، ومن الغز الذين يسكنون
(6)
وراء القسطنطينية خمسة عشر ألفًا، ومعه مئة ألف نقّاب وحفّار، وألف روزجاري
(7)
، ومعه أربعمئة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والعرّادات
(8)
والمجانيق، منها منجنيق يمدّه ألف ومئتا رجل، ومن عزمه قبّحه اللَّه تعالى أن يجتثّ الإسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد.
(1)
الوطر: الحاجة.
(2)
في (ط): كأن. "بان": فارق.
(3)
في (ط): إن. "حدوا" ساروا. "ينفطر": يتشقق.
(4)
في (ط): ثلاثة. "صريمة": قطيعة.
(5)
في (ط): مئتي ألف. وعدد في الأصل مبالغة في عدد عظيم غير معقول. انظر المنتظم (8/ 261) والكامل في التاريخ (10/ 65). وسير أعلام النبلاء (18/ 415)، ولعل الصواب ما ذكره ابن الأثير أن جيشه كان من مئتي ألف مقاتل (10/ 65)، وهو الذي نقله الذهبي في تاريخ الإسلام (10/ 141).
(6)
في (أ): يكونون.
(7)
روز جاري: لعله يريد: بنَّاءً (ع).
(8)
جمع عرادة: آلة حربية أصغر من المنجنيق ترمي الحجارة المرمى البعيد.
واستوصى نائبها بالخليفة خيرًا، قال له: ارفق بذاك الشيخ فإنّه صاحبنا، ثمّ إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام [وأهله] ميلة واحدة، فاستعادوه من أيدي المسلمين، واستنقذوه فيما يزعمون، والقدر يقول: لعمرك إنَّهم لفي سكرتهم يعمهون. فالتقاه السلطان ألب آرْسلان في جيشه، وهم قريب من عشرين ألفًا بمكان يقال له: الرَّهوة
(1)
، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف [السلطان] من كثرة [جند] المشركين، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال، حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلمّا [كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان و] تواجه الفتيان، نزل السلطان عن فرسه، وسجد [للَّه عز وجل]، ومرّغ وجهه في التراب، ودعا اللَّه تعالى واستنصره، فأنزل اللَّه نصره على المسلمين، ومنحهم أكتاف المشركين، فقتلوا منهم خلقًا لا يُحصون كثرة، وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام روميّ، فأمَّره السلطان وأعطاه شيئًا كثيرًا، وقد كان هذا الغلام عُرض على نظام الملك الوزير في جملة تقدمة فلم يقبله، فقال له سيّده: إنّه وإنّه. . -يثني عليه- فردّه وقال كهيئة المستهزئ به: لعلّه يجيئنا بملك الروم أرمانوس أسيرًا؛ فوقع الأمر كما قال، وللَّه الحمد والمنّة، فلمّا وقف أرمانوس بين يدي الملك ألب آرْسَلان ضربه بيده ثلاث مقارع، وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك، ماذا كنت تفعل؟ قال: كلَّ قبيحٍ. قال: فما ظنّك بي؟ قال: [إمّا أن] تقتلني، أو تشهرني في بلادك، وإمّا العفو وأخذ الفداء فتعيدني. فقال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمئة دينار، وأن يطلق كلّ أسير في بلاد الروم وعلى هدنة خمسين سنة، يحمل فيها عن كلّ يوم ألف دينار، وقام بين يدي الملك فسقاه شربة، وقبّل الأرض بين يديه، وإلى نحو جهة الخليفة إجلالًا وإكرامًا، فأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهّز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة من أصحابه وشيّعه فرسخًا، وأرسل معه جيشًا يخدمونه ويحوطونه ويحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه. فلمّا انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملَّكوا عليهم غيره، فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه وبعث من الذهب والجوهر ما يقارب ثلاثمئة ألف دينار، وتزهّد ولبس الصوف، ثمّ استضاف ملك الأرمن فأخذه فكحله، وأرسل إلى السلطان فأعلمه بذلك، يتقرّب إليه به.
وفيها: خطب صاحب حلب محمود بن صالح بن مِرداس للقائم بأمر اللَّه وللسلطان ألب آرْسَلان معه، فبعث إليه الخليفة بالخلع [والهدايا والتحف] والعهد مع الشريف طِرادٍ الزّينبي.
وفيها: حجّ بالناس نور الهدى أبو الغنائم العلوي، وخُطِبَ بمكّة للخليفة القائم بأمر اللَّه، وقطعت
(1)
في (ط): الزهوة. خطأ. و"رَهْوَة": صحراء قرب خلاط، وقد ذكر معظم المؤرخين: أن الوقعة كانت في منازجرد، وهي بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم، يعد في أرمينية، وأهله يقولون منازكرد، بالكاف. معجم البلدان (5/ 202)، وقد تحرفت في الكامل (10/ 56) إلى: ملازكرد.
خطبة المصريين منها، وقد كان يخطب لهم فيها مئة سنة، فانقطع ذلك في هذه السنة، وللَّه الحمد والمنّة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الحافظ أبو بكر، الخطيب البغدادي
(1)
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي.
أحد مشاهير الحفّاظ، وصاحب "تاريخ بغداد" وغيره من المصنّفات العديدة المفيدة، نحو من ستين مصنّفًا، ويقال: مئة مصنّف، فاللَّه أعلم.
ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمئة، وقيل: سنة ثنتين وتسعين
(2)
، وأول سماعه سنة ثلاث وأربعمئة، ولا ببغداد، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري
(3)
وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد [الإسفراييني]، وسمع الحديث الكثير، ورحل إلى البَصرة، ونَيسابور، وأصبهان، وهمَذان، والشام، والحجاز، وسُمي الخطيب لأنَّه كان يخطب بدَرْزيجان
(4)
، وسمع بمكة على القاضي أبي عبد اللَّه محمد بن سلامة القُضاعي، وقرأ "صحيح البخاري" على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد فحظي عند الوزير أبي القاسم بن المَسْلَمة، ولمّا ادّعى اليهود الخيابرة: أنّ معهم كتابًا نبويًّا فيه إسقاط الجزية عنهم، أوقف [ابن مَسْلَمة] الخطيب [على هذا الكتاب] فقال: هذا كذب. فقيل: ما الدليل على ذلك؟ فقال: لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإسلام معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد كان توفي عام الخندق سنة خمس، فأعجب الناس ذلك، وقد سُبِق الخطيب إلى هذا النقد [سبقه محمد بن جرير] كما ذكرت في مصنّف مفرد.
ولمّا وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج منها إلى الشام، فأقام بدمشق في المئذنة الشرقية من جامعها، يقرأ على الناس الحديث النبوي، وكان جهوري الصوت يُسمع صوته من أرجاء الجامع
(1)
الأنساب (5/ 151)، تاريخ دمشق (7/ 22)، المنتظم (8/ 265)، معجم الأدباء (4/ 13)، الكامل في التاريخ (10/ 68)، وفيات الأعيان (1/ 92)، سير أعلام النبلاء (18/ 270) الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ليوسف العش.
(2)
هذا هو الصواب الذي ليس فيه ارتياب، فقد ذكر الخطيب في ترجمة أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين أنه ولد في يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة 392 (تاريخ مدينة السلام 13/ 135 بتحقيقنا)، وكذلك أجاب حين سأله غيث بن علي الصوري (معجم الأدباء 1/ 385 بتحقيق العلامة إحسان عباس). أما ما جاء في المنتظم من أنه ولد في سنة 391 فغلط محض (بشار).
(3)
تحرفت في (ط) إلى: أبي طالب الطبري، وقد تقدمت ترجمة أبي الطيب في وفيات سنة 450.
(4)
في الأصل و (ط): درب ريحان، وهو تحريف، فقد ذكر ياقوت في معجمه (2/ 450) أن درزيجان قرية كبيرة تحت بغداد على دجلة بالجانب الغربي، منها كان والد الخطيب البغدادي وكان يخطب بها.
كلّها، فاتفق أنّه قرأ يومًا فضائل العبّاس فثار عليه الروافض، وأتباع الفاطميين، وأرادوا قتله، فتشفَّع بالشريف الزَّينبي
(1)
فأجاره، وكان مسكنه بدار العقيقي.
ثم خرج من دمشق فأقام بمدينة صور فكتب شيئًا كثيرًا من مصنفات أبي عبد اللَّه الصوريّ بخطّه، كان يستعيرها من زوجته، فلما يزل مقيمًا بالشام إلى سنة ثنتين وستين، ثمّ عاد إلى بغداد، فحدّث بأشياء من مسموعاته، وقد كان سأل اللَّه تعالى بمكة أن يملك ألف دينار، وأن يحدَث بالتاريخ بجامع المنصور، وأن يموت ببغداد فيدفن إلى جانب بشر الحافي، فيقال: إنه حدَّث بالتاريخ بجامع المنصور، وإنه ملك ذهبًا يقارب ألف دينار، وحين احتضر كان عنده قريب من مئتي دينار، فأوصى بها لأهل الحديث، وسأل السلطان أن يمضي له ذلك، فإنه لم يترك وارثًا، فأجيب إلى ذلك.
وله مصنفات كثيرة مفيدة منها: "التاريخ" وكتاب "الكفاية"، و"الجامع"، و"شرف أصحاب الحديث"، و"المتفق والمفترق"، و"السابق واللاحق"، و"تلخيص المتشابه في الرسم"، و"فصل الوصل"، و"رواية الآباء عن الأبناء"، و"رواية الصّحابة عن التابعين"، و"اقتضاء العلم العمل"، وغير ذلك. وقد سردها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "المنتظم"
(2)
قال: ويقال: إنَّ هذه المصنفات أكثرها [لأبي عبد اللَّه الصُّوري أو] ابتدأها أبو عبد اللَّه الصُّوري فتمّمها الخطيب [وجعلها لنفسه]
(3)
.
وقد كان حسن القراءة، فصيح اللَّفظ، عارفًا بالأدب، يقول الشعر، وقد كان أولًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فانتقل إلى مذهب الشافعي، ثمّ صار يتكلّم في أصحاب أحمد، ويقدح فيهم ما أمكنه، وله دسائس عجيبة في ذقهم، ثمّ شرع ابن الجوزي ينتصر لأصحابه [ويذكر مثالب الخطيب، ودسائسه، وما كان عليه من محبّة الدنيا والميل إلى أهلها]، بما يطول ذكره، وقد أورد من شعر الخطيب قصيدة نقلها من خطّه، جيّدة المطلع، حسنة المنزع، أولها:
(1)
هذا غلط محض من المؤلف إن صح عنه، فآل الزينبي بغداديون، وإنما تشفع بصديقه الحميم الشريف أبي القاسم علي بن إبراهيم بن أبي الجن العلوي وكان ابن أبي الجن هذا يتظاهر بالتشيع مداراة للدولة العبيدية لكنه كان سنيًا، قال الذهبي:"كان صدرًا نبيلًا مرضيًا ثقة محدثًا مهيبًا سنيًا ممدوحًا بكل لسان"(تاريخه 11/ 115)، وقد حذر ابن أبي الجن الوالي من قتله بأن قال له: هذا الرجل مشهور بالعراق وإن قتلته قُتل به جماعة من الشيعة بالعراق وخُربت المشاهد (معجم الأدباء 1/ 393) وتنظر مقدمتي لتاريخ الخطيب (1/ 34 - 35)(بشار).
(2)
المنتظم (8/ 266)، وذكر ابن خلّكان في الوفيات (1/ 92): أنه صنف قريبًا من مئة مصنف، قد أحصى المرحوم يوسف العش مؤلفاته، فبلغت واحدًا وسبعين مؤلفًا وذكر أماكن وجودها، وأشار إلى المطبوع منها والمخطوط، وذلك في كتابه: الخطيب البغدادي ص (120 - 134) وللدكتور أكرم العمري كتاب قيم سماه: موارد الخطيب، وقد أحصى فيه ستة وثمانين مصنفًا للخطيب، رحمه الله.
(3)
قال الذهبي في السير (18/ 283): ما الخطيب بمفتقر إلى الصوري، هو أحفظ، وأوسع رحلة، وحديثًا، ومعرفة.
لعمركَ ما شجاني رسمُ دارٍ
…
وقفتُ بهِ ولا ذِكر
(1)
المغاني
ولا أثَرُ الخيامِ أراقَ دمْعي
…
لأجلِ تَذكّري عهدَ الغواني
ولا مَلَكَ الهوى يومًا قِيادي
…
ولا عاصيتُهُ فثنَى عِنَاني
عرفتُ فعالَهُ بذوي التّصابي
…
وما يلقونَ من ذلّ الهوانِ
فلم أطمعْهُ فيّ وكمْ قتيلٍ
…
لهُ في النّاسِ ما يحصى دعاني
طلبتُ أخًا صحيحَ الودِّ مخصًا
(2)
…
سليمَ الغيبِ محفوظ
(3)
اللِّسانِ
فلم أعرفْ مِنَ الإخوانِ إلا
…
نِفاقًا في التَّباعدِ والتداني
وعالَمُ دهرِنا لا خير فيهِ
…
ترى صُورًا تروقُ بلا مَعاني
ووصفُ جميعهمْ هذا فما أن
…
أقولَ سوى فلانٍ أو فلانِ
ولمّا لم أجدْ حرًّا يواتي
…
على ما نابَ من صرفِ الزمانِ
صبرتُ تكرّمًا لقراعِ دهري
…
ولم أجزعْ لما منه دهاني
ولم أكُ في الشدائدِ مُستكينًا
…
أقولُ له ألا كُفّي كَفانِي
ولكنّي صليبُ العُودِ عودٌ
…
ربيطُ الجأش مجتمعُ الجنان
أبيّ النّفسِ لا أختار رِزقًا
…
يجيء بغير سيفي أو لساني
(4)
فعزٌّ في لظى باغيه يثوي
(5)
…
ألدُّ من المذلَّةِ في الجِنانِ
وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" ترجمة حسنة كعادته، وأورد من شعره قوله:
لا تغبطنَّ أخا الدنيا لعيشته
(6)
…
ولا لِلذَّةِ وقتٍ عَجَّلتْ فَرَحا
فالدّهرُ أسرعُ شيءٍ في تقلُّبهِ
…
وفِعْلُهُ بيّنٌ للخَلق قد وَضَحا
كمْ شاربٍ عَسلًا فيه منيّتُه
…
وكم تقلَّد سيفًا مَنْ به ذُبحا
(7)
وقد كانت وفاته يوم الإثنين ضحى السابع من ذي الحجة من هذه السنة، وله ثنتان وسبعون سنة في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة، جوار المدرسة النظاميّة، واحتفل الناس بجنازته، وحمل [نعشه]
(1)
في (ط): رسم.
(2)
في (ط): محظى.
(3)
في المنتظم: مأمون.
(4)
في (ب) و (ط) والمنتظم: سنأتي.
(5)
في (ط): يهوى، وفي المنتظم: يشوى.
(6)
في (ب) وتاريخ دمشق: لزخرفها.
(7)
تحرف الشطر الثاني في (ط) إلى: وكم مقلّد سيفًا من قربه ذبحا.
فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ودفن إلى جانب بشر الحافي، في قبر رجل كان قد أعدَّه لنفسه، فسئل أن يتركه للخطيب، فشحّت به نفسه، حتى قال له بعض الناس: باللَّه عليك لو قُدّمت أنت والخطيب إلى بشر، أيُّكما كان يجلس إلى جانبه؟ فقال: الخطيب، فقيل: فاسمح له به. فوهبه له، فدفن فيه رحمه الله وأكرم مثواه، وهو ممن ينشد له قول الشاعر:
ما زلتَ تدأبُ في التاريخ مجتهدًا
…
حتى رأيتُك في التاريخِ مكتُوبا
وحكى ابن خلِّكان عن السّمعاني: أنّه توفّي في شوال
(1)
، وأنّه تصدّق بجميع ماله، وأوقف كتبه، رحمه الله
(2)
.
حسّان بن سعيد بن حسّان بن محمد بن أحمد بن عبد اللَّه بن محمد بن مَنِيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المَنِيعي
(3)
.
كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة، حتى ساد أهلَ زمانه، ثمّ ترك ذلك، وأقبل على العبادة، والزهد، والبرّ، والصّلة، والصدقة، والإحسان إلى الخلق، وبناء المساجد والرباطات، وكان السلطان يأتي إليه، ويتبرّك به، ولما وقع الغلاء كان يعمل كل يوم شيئًا كثيرًا من الخبز والطعام فيتصدّق به، وكان يكسو في كلِّ سنة قريبًا من ألف نفس ثيابًا وجبابًا وفِراءً، وكذلك [كان يكسو الأرامل وغيرهن من] النساء، ويجهّز بنات الفقراء الأيتام، وأسقط أشياء كثيرة من المكوس والوظائف السلطانيّة عن نيسابور وقراها، وهو في غاية التبذّل والثياب الأطمار
(4)
، ولم يزل كذلك حتى كانت وفاته ببلدة مَرو الرُّوذ في هذه السنة، تغمّده اللَّه برحمته، آمين.
محمد بن الحسن بن حمزة
(5)
أبو علي الجعفري، فقيه الشّيعة في زمانه.
محمد بن وِشاح بن عبد اللَّه
(6)
أبو علي، مولى أبي تمّام محمد بن علي بن الحسن الزَّيْنَبي.
سمع الحديث، وكان أديبًا شاعرًا، وكتب لنقيب النقباء الكامل، وكان ينسب إلى الاعتزال والرَّفض، ومن شعره:
(1)
لا يصح هذا.
(2)
من قوله: وحكى ابن خلكان. . إلى هنا ساقط من (ط).
(3)
الأنساب (المنيعي)، المنتظم (8/ 270)، الكامل في التاريخ (10/ 69)، سير أعلام النبلاء (18/ 265)، شذرات الذهب (3/ 313).
(4)
"الثوب الطِّمر": الخَلَق البالي.
(5)
المنتظم (8/ 271)، الكامل في التاريخ (10/ 68) واسمه فيهما: محمد بن الحسين.
(6)
تاريخ بغداد (3/ 336)، المنتظم (8/ 271)، سير أعلام النبلاء (18/ 296) عرضًا.
حملتُ العصا، لا الضعفُ أوجبَ حملَها
…
عليّ ولا أني تحنَّيت
(1)
من كِبَر
ولكنني ألزمتُ نفسي بحملها
…
لأعْلِمَها أنَّ المقيمَ على سفرِ
وممن توفي في هذه السنة:
الشيخ أبو عمر بن عبد البَرِّ النَّمَريّ
(2)
الحافظ.
صاحب التَّصانيف [المليحة الهائلة]، منها:"التمهيد" و"الاستذكار" و"الاستيعاب" وغيرها رضي الله عنه، ورحمه بمنّه وكرمه.
ابن زَيْدُون الشاعر
(3)
أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن غالب بن زيدون، أبو الوليد الشاعر الماهر، الأندلسيّ، القرطبي.
اتصل بالأمير المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيليّة، فحظي عنده، وصار عنده مشاورًا في منزلة الوزير، ووزر له ولده أبو بكر بن أبي وليد، وهو صاحب القصيدة الفراقيّة المشهورة التي يقول فيها
(4)
:
بِنْتُم وَبِنّا فما ابتلّتْ جَوانِحُنا
…
شَوْقًا إليكُم ولا جَفَّتْ مَآقِينا
نَكَادُ حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضمائِرُنا
…
يَقْضِي عَلَيْنا الأسَى لَوْلا تَأَسِّينا
حَالَتْ لبعدِكُمُ أيامُنا فَغَدَتْ
…
سُودًا، وكانتْ بِكُم بيضًا لَيالينا
بالأمسِ كنّا ولا يُخشى تفرُّقنا
…
واليومَ نحنُ ولا يُرجى تلاقينا
وهي قصيدة طويلة، فيها صنعة قويّة، مهبِّجة للبكاء لكلّ من قرأها أو سمعها، لأنّه ما من أحد من أبناء الدنيا إلا وقد فقد خِلًّا، أو حبيبًا، أو قريبًا، أو نسيبًا.
ومن شعره
(5)
:
(1)
في (ط): نهلت، وفي المنتظم: وانحنيت.
(2)
جذوة المقتبس (367)، مطمح الأنفس (61)، الصلة لابن بشكوال (2/ 677)، وفيات الأعيان (7/ 66)، سير أعلام النبلاء (18/ 153)، شذرات الذهب (3/ 314) وتمام اسمه: يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر بن عاصم النّمري.
قال ابن خلّكان: النّمري، بفتح النون والميم وبعدها راء، هذه الشبة إلى النَّمر بن قاسط، بفتح النون وكسر الميم، وإنما تفتح الميم في النسبة خاصة، وهي قبيلة كبيرة مشهورة.
(3)
جذوة المقتبس (130)، وفيات الأعيان (1/ 139)، سير أعلام النبلاء (18/ 240)، نفح الطيب (1/ 627 وغيرها)، النجوم الزاهرة (5/ 88)، شذرات الذهب (3/ 312).
(4)
ديوانه (298 - 299).
(5)
ديوانه (163).
بيني وبينَكَ ما لو شئتَ لم يضِعِ
…
سرٌّ إذا ذاعتِ الأسرارُ لم يُذَعِ
يا بائعًا حظَّه مني ولو بُذِلتْ
…
ليَ الحياةُ بحظِّي منه لم أبِعِ
تِهْ أحتملْ، واستطلْ أصبرْ، وعِزَّ أهُنْ
…
وولِّ أقبلْ، وقُلْ أسمعْ، ومُر أطِعِ
توفي في رجب من هذه السنة، واستمرّ ولده أبو بكر وزيرًا للمعتمد بن عبّاد، حتى أخذ ابن تاشفين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين فقتل يومئذ، قاله ابن خلّكان في "الوفيات"
(1)
.
كريمة بنت أحمد بن محمد بن أبي حاتم المَرْوَزِيَّة
(2)
.
كانت عالمة صالحة، سمعت "صحيح البخاري" على الكُشْمِيهَني، وقرأ عليها الأئمة: كالخطيب، وأبي المظفّر السَّمعاني وغيرهما.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمئة
فيها: قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المواخير
(3)
[وفي إبطال المؤَاجرات]، وهنّ البغايا، وكوتب السلطان في ذلك فجاءت كتبه بالإنكار.
وفيها: كانت زلزلة عظيمة ببغداد، ارتجّت لها الأرض ستّ مرات.
وفيها: كان غلاء شديد، ومُوتان ذريع [في الحيوانات]، بحيث إن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هنّ قد متن كلّهنّ، وجاء سيل عظيم، وبَرَد كبار. فأتلف شيئًا كثيرًا من الزروع والثمار بخراسان.
وفيها: تزوج الأمير عُدَّة الدين، ولي العهد المقتدي باللَّه، حفيد القائم بأمر اللَّه بابنة السلطان ألْب آرْسلان سفري خاتون، وذلك بنيسابور وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل الزوج عميد الدولة ابن جَهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة، وكان يومًا مشهودًا، زُيِّنت الأفيلة والخيول، وضُربت الدبادب، والبوقات.
(1)
وفيات الأعيان (1/ 139).
(2)
المنتظم (8/ 270)، الكامل في التاريخ (10/ 69)، سير أعلام النبلاء (18/ 233)، شذرات الذهب (3/ 314) ونستها إلى مرو الشاهجان، وهي مرو العظمى، أشهر مدن خراسان، والنسبة إليها مروزي على غير قياس. معجم البلدان (5/ 112).
(3)
"المواخير": جمع ماخور: بيت الريبة والخمر، ومجمع أهل الفسق والفساد.
وممن توفي فيها من الأعيان:
بكرُ بن محمد بن حِيْد
(1)
أبو منصور النيسابوري.
كان يزعم أَنَّه من سلالة عثمان بن عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المُذْهب، وكان ثقة، توفي في المحرّم
(2)
من هذه السنة [وقد قارب الثمانين].
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الصمد بن المهتدي باللَّه أبو الحسن الهاشمي
(3)
خطيب جامع المنصور.
وكان ممن يلبس القلانس الطوال، حدّث عن ابن زرقويه وغيره، وروى عنه الخطيب. وكان عدلًا ثقة، شهد عند ابن ماكولا. وابن الدامغاني فقبلاه، وتوفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، ودفن بقرب قبر بشر الحافي، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن أحمد بن شَاده بن جعفر
(4)
أبو عبد اللَّه الأصفهاني، القاضي بدُجيل.
كان شافعيّ المذهب، وروى المذهب عن أبي عمر
(5)
بن مهدي، وكانت وفاته ببغداد، ونقل إلى دُجيل [من عمل واسط].
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمئة
في يوم الخميس حادي عشر المحرّم، حضر إلى الديوان أبو الوفاء علي بن محمد بن عقيل [العقيلي] الحنبلي، وقد كتب على نفسه كتابًا يتضمّن توبته من الاعتزال، ومخالطة أهله، وأنّه رجع عن اعتقاد كون الحلاج من أهل [الحق و] الخير، وقد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك، وأنَّه قد قتل بإجماع علماء عصره [على زندقته]، وقد كانوا مصيبين [في قتله وما رمَوه به] وهو مخطئ، وشهد عليه جماعة من الكُتَّاب، ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر، فسلّم عليه، وصالحه، واعتذر إليه وعظّمه، وللَّه الحمد والمنّة.
(1)
تاريخ بغداد (7/ 97)، والمنتظم (8/ 274)، سير أعلام النبلاء (18/ 252) وحيد، تحرف في المنتظم إلى: حيدر، وفي (ط) إلى: حيده.
(2)
في السير: في صفر.
(3)
تاريخ بغداد (7/ 356)، المنتظم (8/ 274)، الكامل في التاريخ (10/ 72)، سير أعلام النبلاء (18/ 238)، وكنيته في الكامل: أبو الحسين.
(4)
المنتظم (8/ 275)، تاريخ الإسلام (10/ 210)، وقد تحرفت كلمة شاذة في (ط) إلى شارة، بالراء.
(5)
في (ط): عمرو، خطأ.
وفاة السلطان ألْب آرْسَلان وماك ولده ملك شاه من بعده
كان السلطان قد سار في أول هذه السنة في مئتي ألف مقاتل يريد غزاة بلاد ما وراء النهر، فاتفق في بعض المنازل أنّه تغضَّب على رجل يقال له: يوسف الخُوارزمي، فأوقف بين يديه، فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه، ثمّ أمر بأن يضرب له أربعة أوتاد، ويُصْلب بينها، فقال للسطان: يا مخنّث أمثلي يقتل هكذا؟ فاحتدّ السلطان، وأمر بإرساله، وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه، وأقبل يوسف نحو السلطان، فنهض عن السرير [خوفًا منه]، فنزل فعثر فوقع، وأدركه يوسف فضربه بخنجر كان في يده في خاصرة الملك، وأدركه الجيش فقتلوه، وقد جرح السلطان جرحًا منكرًا، فتوفي يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة.
ويقال: إن أهل بخاري لما اجتاز بهم، ونهب عامةُ عسكره أشياء كثيرة لهم، دعَوا عليه فهلك.
ولما توفي أجلس ولده ملكشاه على سرير الملك، وقام الأمراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك: تكلَّم أيّها السلطان، فقال: الأكبر منكم أبي، والأوسط أخي، والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه. فأمسكوا، فأعاد القول، فأجابوه بالسمع والطاعة، وقام بأعباء أمره الوزير لأبيه نظام الملك، فزاد في أرزاق الجند سبعمئة ألف دينار، وساروا إلى مرو فدفنوا بها السلطان ألب آرْسَلان، وسيأتي ذكر شيء من ترجمته في الوفيات.
ولمّا بلغ خبر وفاته بغداد، أقام الناس له العزاء، وغُلِّقت الأسواق، وأظهر الخليفة الجزع عليه، وتسلّبت ابنته الخاتون زوجة الخليفة
(1)
، وجلست على التراب.
وجاءت الكتب من السلطان ملك شاه في رجب إلى الخليفة، يتأسّف فيها على والده، ويسأل أن تقام له الخطبة [بالعراق] ففعل ذلك، وخلع ملك شاه على الوزير نظام الملك خلعًا سنيّة وأعطاه تحفًا كثيرة، من جملة ذلك عشرون ألف دينار، ولقّبه أتابك [الجيوش]، ومعناه: الأمير الكبير الوالد، فسار سيرة حسنة، ولمّا بلغ قارون
(2)
بيك موت أخيه ألب آرْسلان، ركب في جيوش كثيرة قاصدًا قتال ابن أخيه ملك شاه، فالتقيا فاقتتلا، فانهزم أصحاب قارون، وأسر هوَ، فأنَّبه ابن أخيه، ثمّ اعتقله [ثمَّ أرسل إليه من قتله].
وفيها: جرت فتنةٌ عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلائين، فاقتتلوا، فقتل منهم خلق كثير
(1)
في (ب) و (ط): وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها. والصحيح أنها أخت السلطان وليست ابنته.
(2)
كذا الأصل، وفي (ط) والوفيات (5/ 284): قاروت، وفي الكامل (10/ 78) والمنتظم (8/ 277): قاورت بتقديم الواو على الراء.
واحترق جانب كبير من الكرخ، فانتقم المتولّي لأهل الكرخ من أهل باب البصرة والآخرين، فأخذ من أموالهم شيئًا كثيرًا جناية لهم على ما صنعوا.
وفيها: أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس.
وفيها: ملك صاحب سمرقند وهو [محمد] ألتكين مدينة ترمذ، وفيها: حجّ بالناس أبو الغنائم العلوي، واللَّه أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
السلطان ألب آرْسَلان
(1)
الملقب بسلطان العالم، ابن جغْري بك
(2)
داود بن مِيكائيل بن سُلْجوق بن تُقاق
(3)
التركيّ، صاحب الممالك المتَّسعة.
وقد ملك بعد عمّه طُغْرُلْبَك سبع سنين وستة أشهر وأيامًا. وكان عادلًا يسير في الناس سيرة حسنة، كريمًا رحيمًا، شفوقًا على الرعية، رفيقًا على الفقراء، بارًّا بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام ما أُنعم به عليه، كثير الصدقات، يتصدّق في كلّ رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يُعرف في زمانه جناية، ولا مصادرة، بل يقنع من الرعايا بالخراج في قسطين، رفقًا بهم، كتب إليه بعض السُّعاة في نظام الملك [وزيره، وذكر ما له في ممالكه]، فاستدعاه، وقال له: إنْ كان هذا صحيحًا؛ فهذّب أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن لم يكن صحيحًا؛ فاغفر لهم زلّتهم بمهمٍّ يَشغلهم عن السعايات بالناس. وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا، بلغه أن غلامًا من غلمانه أخذ إزارًا لبعض التجار فصلبه، فارتدع سائر المماليك به خوفًا من سطوته. وترك من الأولاد: ملك شاه الذي قام بالأمر من بعده، وإياز، وتكش
(4)
، وبوري برس، وآرْسلان، وآرغو، وسارة، وعائشة، وبنتًا أخرى. وكانت وفاته في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالريّ، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
المنتظم (8/ 276)، الكامل في التاريخ (10/ 63 - 75)، وفيات الأعيان (5/ 69)، سير أعلام النبلاء (18/ 414)، الوافي بالوفيات (2/ 308)، النجوم الزاهرة (5/ 92)، شذرات الذهب (3/ 318).
قال ابن خلّكان: وألب آرسلان، بفتح الهمزة وسكون اللام وبعدها باء موحدة وبقية الاسم معروفة، وهو اسم تركي معناه شجاع أسد، فألب: شجاع، وآرسلان: أسد.
(2)
في (أ): ابن جفري بك بن داود. خطأ.
(3)
قال الذهبي في السير (18/ 243): وجدهم تقاق، تفسيره: قوس حديد، فكان أول من أسلم من الترك من السلجوقية.
(4)
في (ط): تكشر.
أبو القاسم القُشَيريّ
(1)
[صاحب "الرسالة"] عبد الكريم بن هَوازِن بن عبد الملك
(2)
بن طلحة.
وأمّه من بني سليم، توفي أبوه، وهو طفل، فقرأ الأدب والعربيّة، وصحب الشيخ أبا علي الدّقاق، وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطُّوسي، والكلام عن أبي بكر بن فُورَك، وصنّف الكثير، فله:"التفسير الكبير"، و"الرسالة" التي ترجم فيها جماعة من المشايخ والصالحين، وحجّ صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البَيْهَقي الحافظ، وكان يعظ الناس، وتوفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدّقاق، ولم يدخل أحد من أهل بيته بيت كتبه، إلا بعد سنين احتراما له، وكانت له فرس يركبها، وقد أهديت إليه، فلمّا توفي لم تأكل علفًا حتى نفقت بعده بيسير، فماتت، ذكره ابن الجوزي.
وقد أثنى عليه القاضي ابن خلكان في "الوفيات"[ثناءً] كثيرًا، وذكر شيئًا من شعره الرّائق، فمن ذلك قوله:
سَقَى اللَّهُ وقتًا كنتُ أخلُو بِوَجْهِكُمْ
…
وثَغْرُ الهوى في رَوضَةِ الأنْسِ ضاحِكُ
أقمنَا
(3)
زَمانًا والعيونُ قريرةٌ
…
وأصْبَحْتُ يومًا والجُفُونُ سَوافِكُ
وقوله أيضًا، رحمه اللَّه تعالى:
لو كنتَ ساعةَ بيننا ما بينَنا
…
وشهدتَ حينَ فِراقنا
(4)
التوديعا
أيقنتَ أنَّ من الدموع محدِّثًا
…
وعلمتَ أنَّ من الحديثِ دُمُوعا
ومن ذلك قوله أيضًا:
ومنْ كانَ في طولِ الهوى ذاقَ سَلْوةً
…
فإنّيَ من ليلى بها
(5)
غير ذائقِ
وأكبرُ
(6)
شيءٍ نلتُه من وِصالِها
…
أمانيَ لم تصدق كخطفةِ بارِقِ
(1)
تاريخ بغداد (11/ 83)، الأنساب (10/ 156)، المنتظم (8/ 280)، الكامل في التاريخ (10/ 88)، وفيات الأعيان (3/ 205)، سير أعلام النبلاء (18/ 227)، النجوم الزاهرة (5/ 91)، طبقات السبكي (5/ 153)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 338)، شذرات الذهب (3/ 319).
والقشيري، بضم القاف وفتح الشين وسكون الياء وفي آخرها راء، هذه النسجة إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قبيلة كبيرة.
(2)
في بعض النسخ: "عبد المطلب" وهو خطأ بيّن.
(3)
في الوفيات والسير: أقمت.
(4)
في بعض النسخ: تكرر.
(5)
في (ط): لها.
(6)
في (ط): وأكثر.
ابن صُرّبَعْر الشاعر
(1)
اسمه علي بن الحسن
(2)
بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب المعروف: بابن صُرّبَعْر.
وكان نظام الملك يقول له: أنت صُرَّدُرّ، لا صُرّبَعْر. وهجاه بعضهم فقال:
لئن نَبَذ الناسُ قِدمًا أباكَ
…
فسمّوهُ من شحّه صُرَّبَعْرا
(3)
فإنّك تنثر
(4)
ما صَرَّهُ
…
عُقوقًا له، وتسمّيه شِعرا
قال ابن الجوزي: وهذا ظلم فاحش، فإن شعره في غاية الحسن، ثمّ أورد له قِطَعًا حسانًا من شعره فمن ذلك قوله:
إيهِ أحاديثَ نُعمانَ وسَاكنَهُ
…
إنَّ الحديثَ عن الأحبابِ مختارُ
(5)
أفتِّش الريحَ
(6)
عنكم كلَّما نَغَمت
…
من نحو أرضكمُ مِسْكٌ
(7)
ومعطار
(8)
قال: وقد حفظ القرآن، وسمع الحديث من ابن بشران
(9)
وغيرهما، وحدّث كثيرًا، وركب يومًا دابة فتردّى عنها هو ووالدته [فسقطا بالشُونيزيّة]
(10)
في بئر فماتا، ودفنا في باب أبرز
(11)
، وذلك في صفر من هذه السنة.
[قال ابن الجوزي
(12)
: قرأت بخط ابن عقيل، صُرَّبَعْر: جارنا
(13)
بالرصافة، وكان ينبذ الإلحاد.
(1)
المنتظم (8/ 280)، الكامل في التاريخ (10/ 88)، وفيات الأعيان (3/ 385)، سير أعلام النبلاء (18/ 303)، النجوم الزاهرة (5/ 94)، شذرات الذهب (3/ 322).
(2)
في بعض النسخ: "الحسين"، محرف.
(3)
في الكامل: فسمّوه من شعر صرّبعرا.
(4)
في المنتظم: تنبذ بالصبر بعرا. وفي الكامل: تنظم اصره.
(5)
في (ط) والمنتظم: أسمار.
(6)
في المنتظم: الركب.
(7)
في الأصل: مسكًا.
(8)
في (ط) مسكًا فأرضكم مسك أو إعطار.
(9)
تحرفت فى (ط) إلى: شيران.
(10)
الشونيزية: مقبرة ببغداد بالجانب الغربي دفن فيها جماعة من الصالحين، وهناك خانقاه للصوفية. وفي السير: وقع به الفرس في زُبية للأسد، فهلكا معًا.
(11)
في (ط): "بيرر" وفي (ب): "تبريز" وكله تحريف، وما أثبتناه هو الصواب، ومقبرة باب أبرز من مقابر الجانب الشرقي من بغداد، وطبيعي أن يدفن فيها، فهو من أهل الرصافة التي تقع في الجانب الشرقي (بشار).
(12)
المنتظم (8/ 282).
(13)
كذا الأصل، وفي المنتظم: خازنًا.
وقد أورد له ابن خلِّكان
(1)
شيئًا من أشعاره، وأثنى عليه في فنّه، واللَّه أعلم بحاله].
محمد بن علي بن محمد بن عُبيد اللَّه
(2)
بن عبد الصمد بن المهتدي باللَّه
(3)
أبو الحسين، ويعرف بابن الغريق
(4)
.
ولد سنة سبعين وثلاثمئة، وسمع الدّارقطني، وهو آخر من حدّث عنه في الدنيا، وابن شاهين، وتفرّد عنه وسمع خلقًا آخرين.
وكان ثقة ديِّنًا كثير الصلاة والصيام، فكان يقال له: راهب بني هاشم. وكان غزير العلم والعقل، كثير التِّلاوة، رقيق القلب، رحل إليه الطلبة من الآفاق، ثمّ ثَقُل سمعه، فكان يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه، خطب وله ست عشرة سنة، وشهد عند الحكام [سنة ست وأربعمئة، وولي الحكم سنة تسع وأربعمئة، وأقام خطيبًا بجامع المنصور وجامع الرصافة ستًا وسبعين سنة وحكم] ستًا وخمسين سنة، وتوفي سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وقد جاوز تسعين سنة، وكان يوم جنازته يومًا مشهودًا، ورؤيت له منامات صالحة.
ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمئة
في صفر، جلس الخليفة جلوسًا عامًا [وعلى رأسه حفيده الأمير عدة الدّين، أبو القاسم عبد اللَّه
(5)
] وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة [وهو في غاية الحسن، وحضر الأمراء والكبراء]، فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملك شاه [وكثر الزحام يومها، وهنَّأ الناس بعضهم بعضًا بالسلامة]، وكان يومًا مشهودًا.
صفة غرق بغداد في هذه السنة
وفي جمادى الآخرة، جاء مطر عظيم، وسيلٌ قوي كثير، وزادت دجلة حتى غرَّقت جانبًا كبيرًا من بغداد، وحتى خلص ذلك إلى دار الخلافة، فخرجت الجواري حاسرات [عن وجوههن] حتى صرن إلى الجانب الغربي، وهرب الخليفة من مجلسه، فلم يجد طريقًا يسلكه، فحمله بعض الخدم إلى التاج،
(1)
وفيات الأعيان (3/ 385 - 386).
(2)
في (ط): "عبد اللَّه" خطأ بيّن، وما أثبتناه هو الموافق لما في مصادر ترجمته (بشار).
(3)
تاريخ بغداد (3/ 108)، المنتظم (8/ 283)، الكامل في التاريخ (10/ 88)، سير أعلام النبلاء (18/ 241)، الوافي بالوفيات (4/ 137)، شذرات الذهب (3/ 324).
(4)
تصحفت في (ط) إلى: العريف.
(5)
في (ط) بعد هذا: "ابن المهتدي باللَّه" وهو غلط محض فهو عبد اللَّه بن محمد ابن الخليفة القائم، وهو المقتدي بأمر اللَّه فيما بعد (بشار).
وكان ذلك يومًا عظيمًا، [وأمرًا هائلًا]، وهلك للناس أموال عظيمة جدًا، ومات خلق كثير تحت الردم، من أهل بغداد والقرايا، وجاء على وجه السيل من الأخشاب والوحوش والحيّات شيء كثير جدًا، وسقطت دور كثيرة من الجانبين، وغرقت قبور كثيرة، من ذلك مقبرة الخيزران، ومقبرة الإمام أحمد بن حنبل، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العَضُدي، وأتلف السيل من الموصل شيئًا كثيرًا، وصدم سور سنجار، فهدمه وأخذ بابه من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ
(1)
.
وفي ذي الحجَّة جاءت ريح شديدة بالبصرة، فاجْتُثَّ منها نحو من خمسة
(2)
آلاف نخلة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن أحمد
(3)
أبو الحسين السِّمْنانيّ، الأشعري الحنفي، قال ابن الجوزي: وهذا من الغريب.
تزوّج قاضي القضاة، أبو عبد اللَّه الدامغاني ابنته، وولاه نيابة القضاء، وكان ثقة نبيلًا، من ذوي الهيئات، جاوز الثمانين.
عبد العزيز بن أحمد بن علي بن سليمان أبو محمد الكتَّاني
(4)
الحافظ الدمشقي.
سمع الكثير، وكتب كثيرًا، وصنّف، فأجاد وأفاد، وله في الفضائل أشياء كثيرة غريبة، وبعض ما يرويه موضوع، ولا ينبّه عليه، مع أنّه كان ثقة ضابطًا، حافظًا، صدوقًا، مستقيم الطريقة والاعتقاد، سلفي المذهب [وقد كان يملي من حفظه]، وقد كتب عنه الحافظ أبو بكر الخطيب.
محمد بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن جعفر
(5)
أبو بكر العطار، الأصبهاني الحافظ، مستملي أبي نعيم.
سمع الكثير، وكان يملي من حفظه، كتب عنه الخطيب حديثًا واحدًا، وكان عظيمًا في بلده ثقة نبيلًا جليلًا، وكانت وفاته في هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
المنتظم (8/ 284)، الكامل في التاريخ (10/ 90).
(2)
في (ط): عشرة.
(3)
تاريخ بغداد (4/ 382)، المنتظم (8/ 287)، الكامل في التاريخ (10/ 93)، سير أعلام النبلاء (18/ 304)، الجواهر المضية (1/ 254).
والسمناني: بكسر السين أو فتحها، نسبة إلى سمنان، قرية بالعراق. معجم البلدان (3/ 251).
(4)
الإكمال (7/ 187)، المنتظم (8/ 288)، الكامل في التاريخ (10/ 93)، تاريخ الإسلام (10/ 234)، سير أعلام النبلاء (18/ 248)، شذرات الذهب (3/ 325).
(5)
تاريخ بغداد (1/ 417)، المنتظم (8/ 288)، سير أعلام النبلاء (18/ 388)، الوافي بالوفيات (1/ 355)، النجوم الزاهرة (5/ 97)، شذرات الذهب (3/ 325) ولم ترد هذه الترجمة في (ط).
الماورديّة: ذكر ابن الجوزي
(1)
أنّها كانت عجوزًا صالحة، من أهل البصرة، تعظ النساء بها، وكانت تكتب وتقرأ، ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهارًا، ولا تنام ليلًا، وتقتات بخبز الباقلاء، وتأكل التين اليابس لا الرطب، وشيئًا يسيرًا من العنب والزبيب، وربّما أكلت من اللحم اليسير، وحين توفيت تبع كلّ البلد جنازتها، ودفنت في مقابر الصالحين.
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمئة
في صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر اللَّه مرضًا شديدًا [انتفخ منها حلقه، وامتنع من الفصد، فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى] افتصد، فصلح الحال [وكان الناس قد انزعجوا]، وفرح الناس بعافيته.
وجاء في هذا الشهر سيل عظيم، [قاسى الناس منه شدة عظيمة، ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الأول، فخرج الناس إلى الصحراء، فجلسوا على رؤوس التلال تحت المطر.
ووقع وباءٌ عظيم بالرحبة]، فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف، وكذلك وقع بواسط، والبصرة، وخوزستان، وأرض خراسان، وغيرها.
صفة موت الخليفة القائم بأمر اللَّه
افتصد في آخر يوم من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق، ثمّ نام بعد ذلك فانفجر فصاده فاستيقظ، وقد سقطت قوّته، وحصل الإياس منه، فاستدعى بحفيده، ووليّ عهده من بعده عدّة الدين أبي القاسم عبد اللَّه بن محمد بن القائم، وأحضر إليه القاضي والنقباء، وأشهدهم عليه ثانيًا بولاية العهد له من بعده فشهدوا. ثمّ كانت وفاته في منتصف شعبان عن أربع وسبعين
(2)
سنة ونصف، وكانت مدة خلافته أربعًا وأربعين سنة ونصف
(3)
، فلم يبلغ أحد من العباسيين قبله هذه المدة، وقد جاوزت خلافة أبيه قبله أربعين سنة، فكان مجموع أيامهما خمسًا وثمانين سنة ونصف، وذلك مقاربًا لدولة بني أميّة كلّها.
وقد كان القائم بأمر اللَّه جميلًا مليح الوجه، أبيض، مشربًا [بحمرة] فصيحًا، ورعًا، زاهدًا، أديبًا، كاتبًا، بليغًا، كما تقدّم [شيء من] شعره بحديثةِ عانة سنة خمسين، وكان عادلًا كثير الإحسان إلى الناس، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
المنتظم (8/ 289).
(2)
كذا الأصل، والكامل في التاريخ (10/ 94) وفي (ط): وتسعين.
(3)
كذا الأصل، وفي (ط): وثمانية أشهر. وفي الكامل: وثمانية أشهر وأيامًا.
وغسّله الشريف أبو جعفر بن موسى الحنبلي، عن وصيّة الخليفة بذلك. فعُرض على الشريف أبي جعفر ما هنالك من الأثاث والأموال فلم يقبل منه شيئًا، وصُلِّي على الخليفة، ودفن عند أجداده، ثمّ نقل إلى الرَّصافة، فقبره يزار إلى الآن [وغُلِّقت الأسواق لموته، وعلِّقت المسوح، وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم، وجلس الوزير ابن جَهِير وابنه للعزاء على الأرض وخرق الناس ثيابهم، وكان يومًا عصيبًا، واستمرّ الحال كذلك ثلاثة أيام].
وقد كان من خيار بني العبّاس، دينًا، واعتقادًا، ودَولةً، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره، ومفارقة أهله وأولاده، فأقام بحديثة عانة سنة كاملة، ثمَّ أعاد اللَّه نعمته عليه، وخلافته إليه، كما قال الشاعر:
فأصبحوا قد أعاد اللَّه نعمتَهم
…
إذ هم قريش، وإذْ ما مثلهم بشر
[وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] وقد ذكرنا ملخّص ما ذكره المفسّرون في سورة "ص"، وبسطنا الكلام عليه في هذه القصّة العباسيّة، والفتنة البساسيرية، في سنة خمسين، وإحدى وخمسين وأربعمئة].
خلافة المقتدي بأمر اللَّه
وهو أبو القاسم عدّة الدين عبد اللَّه ابن الأمير ذخيرة الدّين محمد ابن الخليفة القائم بأمر اللَّه عبد اللَّه بن القادر العباسي، وأف أرمنيّة، واسمها أرجوان، وتدعى قرّة العين، أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده، المستظهر، والمسترشد، [وقد كان أبوه توفي وهو في الحمل، فحين ولد ذكرًا، فرح به جدُّه والمسلمون فرحًا شديدًا، إذ حفظ اللَّه على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لأن من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق، ويختلطون مع العوام، وكانت القلوب تنفر من تولية أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جدّه القائم بأمر اللَّه، يربِّيه بما يليق بأمثاله، ويدرّبه على أحسن السجايا، وللَّه الحمد].
وكان عمر المقتدي حين ولي الخلافة عشرين سنة، وهو في غاية الجمال خَلفًا وخُلُقًا، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، جلس في دار الشجرة بقميص أبيض، وعمامة بيضاء [لطيفة، وطرحة قصب أدرية] وجاء الوزراء والأمراء، والأشراف ووجوه الناس، فبايعوه، فكان أول من بايعه الشريف
(1)
أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي، وأنشده قول الشاعر:
(1)
في بعض النسخ: "بعد الشريف"، ولا يصح، ومن هنا من (ط).
إذا سَيِّدٌ مِنَّا مضَى قَامَ سَيِّدٌ
ثم أرتِجَ عليه، فلم يدر ما بعده؛ فقال الخليفة:
قَؤُول بما قالَ الكِرَامُ فَعُولُ
وبايعه من شيوخ العلم: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر الصبّاغ الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبرز فصلّى بالناس العصر، ثمّ بعد ساعة أخرج تابوت جده، بسكون ووقار، من غير صراخ، ولا نوح، فصلّى عليه، وحُمل إلى المقبرة.
وقد كان المقتدي باللَّه شهمًا، شجاعًا، أيامُه كلُّها مباركة، والرزق دارٌّ، والخلافة معظَّمة جدًا، وتصاغرت الملوك له [وتضاءلوا بين يديه]، وخُطِبَ له بالحرمين، وبيت المقدس، والشاميّات كلّها، واسترجع المسلمون الرُّها، وأنطاكية [من أيدي العدوّ]، وعمّرت بغداد، وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جَهير [ثمّ أبا شجاع، ثم أعاد ابن جَهير]، وقاضيه ابن الدامغاني، ثمّ أبو بكر الشاشيّ، وهؤلاء [مِنْ] خيار القضاة والوزراء، وللَّه الحمد.
وفي شعبان أخرج المفسدات من الخواطئ وغيرها من بغداد على حُمُراتٍ [وأمرهن أن]، ينادين على أنفسهنّ بالعار والفضيحة، وخرّب [الخمَّارات، ودور الزواني، والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذلّ والصغار]، وخرّب أبرجة الحمام [ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم في الحمّامات، ومنع أصحاب الحمامات] أن يصرفوا فضلاتها إلى دِجلة، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة، صيانة لماء الشرب.
وفي شوّال، وقعت نار في أماكن متعدّدة ببغداد حتى في دار الخلافة، فأحرقت شيئًا كثيرًا من الدور والدكاكين، ووقع في واسط حريق في تسعة أماكن، واحترق فيها أربعة وثمانون دارًا، وستة خانات [وأشياء كثيرة].
وفيها: عمل الرصد للسلطان ملك شاه، اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجّمين، وأنفق عليه أموالٌ كثيرة، وبقي الرّصد دائرًا حتى مات السلطان، فبطل
(1)
.
وفي ذي الحجّة أعيدت الخطبة بمكة للمصريين، وقُطعت خطبة العباسيين، وذلك لمّا قوي أمر صاحب مصر بعدما كان ضعيفًا بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تراجع الناس إليها، وطاب العيش بها، وقد كانت الخطبة العباسيّة بمكّة أربع
(2)
سنين وخمسة أشهر، وستعود على ما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه.
(1)
الكامل في التاريخ (10/ 98).
(2)
في (ط): أربعين سنة، وهذا خطأ. الكامل في التاريخ (10/ 98).
وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدَّة الوباء، وقلّة ماء دجلة ونقصها.
وحجّ بالناس الشريف أبو طالب الحسين بن محمد الزَّينبي، وأخذ البيعة للخليفة المقتدي [بالحرمين].
وممن توفي فيها من الأعيان:
الخليفة القائم بأمر اللَّه
(1)
وقد ذكرنا شيئًا من ترجمته عند وفاته.
الدَّاوودي
(2)
راوي "صحيح البخاري"، عبد الرحمن بن محمد بن المظفَّر بن محمد بن داود، أبو الحَسَن
(3)
بن أبي طلحة الدّاوودي.
ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمئة، سمع الكثير، وتفقّه على الشيخ أبي حامد الإسفراييني وأبي بكر القفّال، وصحب أبا علي الّقاق، وأبا عبد الرحمن السُّلَمي، وكتب الكثير، ودرّس وأفتى وصنّف، ووعظ الناس، وكانت له يد طولى في النظم والنثر، وكان مع ذلك كثير الذِّكر، لا يفتر لسانه عن ذكر اللَّه تعالى، دخل عليه الوزير نظام الملك وجلس بين يديه، فقال له الشيخ: إنّ اللَّه قد سلّطك على عباده، فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم، وكانت وفاته ببوشنج
(4)
من هذه السنة، وقد جاوز التسعين، ومن شعره الجيد قوله:
كانَ في الاجتماعِ بالناسِ نورٌ
…
ذهبَ النور وادْلَهَمَّ الظَّلامُ
فَسَدَ الناسُ والزمانُ جميعًا
…
فعَلى الناسِ والزَّمانِ السَّلامُ
أبو الحسن، علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيّب البَاخَرْزِي
(5)
الشاعر المشهور.
اشتغل بالعلم أولًا على أبي محمد الجُويني، ثمّ عدل إلى الكتابة والشعر ففاق أقرانه، وله ديوان شعر في غاية الجودة والصنعة، فمن شعره قوله:
(1)
وللاستزادة فترجمته في: تاريخ بغداد (9/ 299)، المنتظم (8/ 57 و 295)، الكامل في التاريخ (9/ 417) و (10/ 94)، سير أعلام النبلاء (18/ 307)، فوات الوفيات (2/ 157)، النجوم الزاهرة (5/ 4 - 11 و 97 - 98)، تاريخ الخلفاء (417)، معجم الأسرات الحاكمة (4).
(2)
المنتظم (8/ 296)، الكامل في التاريخ (10/ 101) وقد جعل وفاته سنة ثمان وستين وأربعمئة، فوات الوفيات (2/ 295)، سير أعلام النبلاء (18/ 222)، شذرات الذهب (3/ 327).
(3)
في بعض النسخ: "الحسين" خطأ، وما هنا يعضده ما في مصادر ترجمته.
(4)
"بوشنج"، بالشين المعجمة، بليدة نزهة خصبة في واد مشجر من نواحي هراة. معجم البلدان (1/ 508) وقد ذكر ياقوت المترجم وأورد له شعرًا يخاطب فيه أبا حامد الإسفراييني ببغداد.
(5)
معجم البلدان 1/ 316، معجم الأدباء (13/ 33 - 48، وفيات الأعيان 3/ 387 - 389، تاريخ الإسلام (10/ 252)، سير أعلام النبلاء 18/ 363، وهو صاحب "دمية القصر" المطبوع عدة طبعات.
وإني لأشكو لَسْعَ أصداغك التي
…
عقاربُها في وَجْنَتيك نجومُ
وأبكي لدرِّ الثغرِ منكَ ولي أبٌ
…
فكيف يُديمُ الضحكَ وهو يتيمُ
ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمئة
قال ابن الجوزي
(1)
: جاء جراد في شعبان بعدد الرّمل والحصا، فأكل الغلات، وآذى أكثر الناس، وجاعوا فطحن الناس الخرّوب
(2)
بدقيق الدخن فأكلوه، فوقع الوَباء، ثمّ منع اللَّه تعالى الجراد من الفساد، فكان يمرّ ولا يضرّ، فرخصت الأسعار.
قال: ووقع غلاء شديد بدمشق، واستمرّ ثلاث سنين.
وفيها: ملك نصر بن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج، وأجلى عنها الروم.
وفي هذه السنة: ملك الأقسيس مدينة دمشق، وهزم عنها المعلَّى بن حيدرة نائب المستنصر العُبيدي إلى مدينة نابلس، وخطب فيها للمقتدي، وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن، وذلك في ذي القعدة في هذه السنة، فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن، وللَّه الحمد.
قلت: الإقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، ويلقّب بالملك المعظم، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بحيّ على خير العمل، بعد أن كان يؤذَّن به على منابر دمشق، وسائر الشام مئة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم، فأمر المؤذِّنين والخطباء أن يترضَّوا عن الصحابة أجمعين، ونشر العدل وأظهر السنة وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدوّ، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلد، يقال له: باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنّما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألْب آرْسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه
(3)
.
وحجّ بالناس في هذه السنة مُقْطَع الكوفة، وهو الأمير السكيني ختلغ
(4)
التفكين التركي، ويعرف بالطويل، وكان قد شرّد خفاجة في البلاد وقهرهم، ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركيًّا، فوصل سالمًا إلى مكّة، ولمّا نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد، فقتل فيهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة،
(1)
المنتظم (8/ 297).
(2)
"الخَرّوب": شجر مثمر من الفصيلة القرنية، ثماره قرون سكرية تؤكل وتعلفها الماشية، ويتخذ منها دبس.
(3)
من قوله: قلت الإقسيس هذا. . إلى هنا ساقط من (أ).
(4)
تحرف في (ط) إلى: جنفل. وسترد ترجمته في هذا الجزء.
ثمّ أعيدت الخطبة في ذي الحجّة هذه بمكّة للعباسيين، وقُطعت خطبة المصريين، وللَّه الحمد. وكان ختلغ بعد الوقعة المتقدمة لا ينزل إلا بالزاهر. قاله ابن الساعي في "تاريخه".
وممن توفي فيها من الأعيان:
محمد بن علي [بن أحمد بن محمد]
(1)
بن عيسى بن أحمد بن أبي موسى
(2)
أبو تمام
(3)
بن أبي القاسم ابن القاضي أبي علي الهاشمي نقيب الهاشميين.
وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، وروى الحديث، وسمع منه أبو بكر بن عبد الباقي، ودفن بباب حرب، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن القاسم بن حبيب بن عَبدوس
(4)
أبو بكر الصفّار من أهل نيسابور.
سمع الحاكم، وأبا عبد الرحمن السُّلَمي وخلقًا، وتفقَّه على الشيخ أبي محمد الجُويني، وكان يخلفه في حلقته.
محمد بن محمد بن عبد اللَّه
(5)
أبو الحَسن
(6)
البيضاوي الشافعي، ختن أبي الطيب الطبري على ابنته.
سمع الحديث، وكان ثقة خيرًا، توفي في شعبان، وتقدّم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصبّاغ، وحضر جنازته أبو عبد اللَّه الدامغاني مأمومًا، ودفن بداره في قطيعة الكرخ.
محمد بن نصر بن صالح أمير حلب
(7)
وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين، وكان من أحسن الناس شكلًا وفعلًا.
مسعود بن المُحَسِّن
(8)
بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البَياضي الشاعر.
(1)
في (ب): "محمد بن علي بن عيسى". وفي (ط): "محمد بن علي بن أحمد بن عيسى" وكله لا يصح به النسب، والصواب ما أثبتناه، وينظر تاريخ الإسلام للذهبي (10/ 269)(بشار).
(2)
في (ط): "أبي موسى" خطأ، فهو عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن معبد بن العباس بن عبد المطلب.
(3)
المنتظم (8/ 299).
(4)
المنتظم (8/ 299) وفيه: الصفاري، الكامل في التاريخ (10/ 101)، طبقات السبكي (4/ 194)، سير أعلام النبلاء (18/ 437)، شذرات الذهب (3/ 331).
(5)
المنتظم (8/ 300)، الكامل في التاريخ (10/ 101).
(6)
في (ط): "الحسين"، محرف، وما أثبتناه يعضده ما في مصادر ترجمته ومنها تاريخ الخطيب (4/ 390 بتحقيقنا)، وتاريخ الإسلام (10/ 269)(بشار).
(7)
في (ط): (1/ 101).
(8)
المنتظم (8/ 300).
ومن شعره قوله:
ليسَ لي صاحبٌ مُعِينٌ سوى اللـ
…
ـــيْلِ إذا تم
(1)
بالصدودِ عَلَيّا
أنا أشكُو بُعْدَ الحبيبِ إليه
…
وهوَ يشكُو بُعْدَ الصباحِ إليّا
ومن شعره الجيد قوله:
يا من لبستُ لهجرِهِ ثوبَ الضّنا
…
حتى خفيت بها
(2)
عن العُوّادِ
وأنِستُ بالسَّهَرِ
(3)
الطويل فأنسيتْ
…
أجفانُ عيني كيفَ كانَ رُقادي
إنْ كانَ يوسُف بالجمالِ مُقطِّع الـ
…
أيدي، فأنتَ مفتِّتُ الأكبادِ
الواحدي المفسّر
(4)
أبو الحسن، علي بن أحمد بن متّويه الواحِدي.
قال ابن خلِّكان: لا أدري هذه النسبة إلى ماذا
(5)
، وهو صاحب التفاسير الثلاثة:"البسيط"، و"الوسيط"، و"الوجيز". قال: ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه، قال: وله: "أسباب النزول"، و"التحبير في شرح أسماء اللَّه الحسنى"، وقد شرح "ديوان" المتنبي، وليس في شروحه مع كثرتها مثله. قال: وقد رُزق السَّعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها، وذكرها المدرّسون في دروسهم، وقد أخذ التفسير عن الثَّعالبي
(6)
، وقد مرض الواحدي مدَّة، ثمّ كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة من هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
ناصر بن محمّد بن عليّ
(7)
أبو منصور التركيّ المضافريّ
(8)
، وهو والد الحافظ محمد بن ناصر، قرأ القراءات، وسمع الكثير، وهو الذي تولّى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور، وكان ظريفًا، صبيحًا، مات شابًا دون الثلاثين سنة، في ذي القعدة من هذه السنة، وقد رثاه بعضهم بقصيدة طويلة أوردها كلّها ابن الجوزي في "المنتظم".
(1)
في (ط): طال.
(2)
في (ط): إذًا، وفي المنتظم: به.
(3)
في المنتظم: بالسحر.
(4)
الكامل في التاريخ (10/ 101)، وفيات الأعيان (3/ 303)، سير أعلام النبلاء (18/ 339)، طبقات السبكي (5/ 240)، النجوم الزاهرة (5/ 104)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 387)، شذرات الذهب (3/ 330).
(5)
وتمام قول ابن خلّكان: لم أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي، ولا ذكرها السمعاني، ثم وجدت هذه النسبة إلى الواحد بن الدين بن مهرة، ذكره أبو أحمد العسكري.
(6)
هو المفسر أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم اليسابوري البغدادي الثعالبي، أو الثعلبي، توفي سنة 427 هـ، وقد مرت ترجمته في هذا الجزء.
(7)
المنتظم (3/ 330).
(8)
هكذا في النسخ، ولم أقف على هذه النسبة، ولا أعرفها وهو في موارد ترجمته بغدادي سلامي (بشار).
يوسف بن محمد بن يوسف بن الحسن
(1)
أبو القاسم الهَمَذاني، سمع وجمع وصنّف، وانتشرت عنه الرواية وكان موته في هذه السنة، وقد قارب التسعين، رحمه اللَّه تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمئة
فيها: كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسِز بن أوق
(2)
الخُوارزمي، لما انتزع دمشق من أيدي العُبَيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة، وكان مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد، باب يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانيّة منها، وقد أسسها وارتفع بعض أبرجتها فلم تتكامل حتى انتزع مُلْك البلد منه الملك المظفّر تاج الملوك تتش بن ألْب آرْسلان السلجوقي فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك، واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب جدّد فيها شيئًا، وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها دارًا هائلة للمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجًا منها جدده وعلَّاه، ووطده، وأكده. ثمّ جدّد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربيّ القبلي، ثمّ ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبه الشجاعي، الطارقة الشمالية الغربية، والقبّة الزرقاء وما حولها
(3)
.
وفي المحرم، مرض الخليفة مرضًا شديدًا، فأرجف الناس بموته، فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا.
وفي جمادى الآخرة زادت دجلة زيادة كثيرة جدًّا، إحدى وعشرين ذراعًا ونصفًا، فنقل الناس أموالهم، وخيف على دار الخلافة، فنُقل تابوت القائم بأمر اللَّه، ليلًا إلى التربة بالرُّصافة.
وفي شوّال وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعريّة، وذلك أنَّ ابن القشيري
(4)
قدم بغداد، فجلس يتكلّم
(1)
المنتظم (8/ 304)، سير أعلام النبلاء (18/ 348)، شذرات الذهب (3/ 331). وتصحفت في (ط) الهمذاني إلى الهمداني، بالدال المهملة.
(2)
في (ط): "أوف" وهو تحريف، وما هنا من (ب) وتاريخ ابن الأثير وتاريخ الإسلام، والوافي وغيرها ويقال فيه:"أبق" أيضًا (بشار).
(3)
من قوله: فيها كان ابتداء عمارة قلعة دمشق. . إلى هنا زيادة من (ب) و (ط).
(4)
هو الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري، النحويّ، المتكلّم، وهو الولد الرابع من أولاد الشيخ، مبالغ في التعصب للأشاعرة، وقد أورد له السبكي في طبقاته (7/ 163) شعرًا يقول فيه:
شيئان مَن يعذُلُني فيهما
…
فهو على التحقيق منّي بري
حبُّ أبي بكر إمام التقى
…
ثمّ اعتقادي مذهب الأشعري
توفي سنة 514 هـ وستأتي ترجمته في وفيات السنة المذكورة من هذا الكتاب.
في المدرسة النظاميّة وأخذ يذمُّ الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصّوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة، ويسأله المعونة، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة وهو في مسجده، فدافع عنه آخرون، وثارت الفتنة، [واقتتل الناس بسبب ذلك وقُتِل رجلٌ خياط من سوق التبن وجُرح آخرون]، وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك، فجاء كتابه إلى فخر الدولة، به يُنكر ما وقع، ويكره [أن ينسب] إلى المدرسة التي بناها شيءٌ من ذلك، وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبًا مما وقع من الشرّ، فأرسل إليه الخليفة [يُسَكِّنه] ثمّ جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر، وأبي سعد الصوفي، وأبي نصر ابن القشيري عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظّمه في الفِعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق وقال: أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، أقول فيها خلافًا للأشعريّة، ثم قبّل رأسه، فقال له: صدقت، إلا أنك لما كنت فقيرًا لم يظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان، وخواجا بُزْرك، يعني نظام المُلك، [وشبعت]، أبديت ما كان مخفيًّا [في نفسك]، وقام الشيخ أبو سعد الصوفي فقبّل رأس الشريف أبي جعفر، وتلطّف به، فالتفت إليه مغضبًا وقال: أيّها الشيخ! أمّا الفقهاء إذا تكلموا في [مسائل] الأصول فلهم فيها مدخل، أمّا أنت فصاحب لهو وسماع، وتعبير، فمن زاحمك [منا] على [باطلك]؟ ثم قال: أيّها الوزير! أنَّى تُصلح بيننا [وكيف يقع بيننا صلح]، ونحن نوجب ما نعتقده، وهم يُحرّمون، أو يكفِّرون، وهذا جَدُّ الخليفة القائم باللَّه، والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس [على رؤوس الأشهاد] على مذهب أهل السنّة والجماعة، والسَّلف، ونحن على ذلك، كما وافق عليه الخراسانيّون، والعراقيّون، وقرئ على الناس في الدواوين كلّها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة، وخصوصًا الشريف أبي جعفر ثمّ استدعى [الخليفةُ أبا جعفر] إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرّك بدعائه.
قال ابن الجوزي: وفي ذي القعدة [منها] كثرت الأمراض في الناس ببغداد، وواسط [والسواد]، وورد الخبر بأن الشام كذلك.
وفي هذا الشهر، أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد، وهرب الفساق منها.
وفيها: ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه.
وفيها: تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز
(1)
بن علاء الدولة بن كاكويْة الست أرسلان خاتون بنت داود عمّة السلطان ألب آرْسلان، وكانت زوجة القائم بأمر اللَّه.
(1)
في (ط): قرامز.
فيها: حاصر الأقسيس صاحب دمشق مصر، وضيّق على صاحبها المستنصر باللَّه ثمّ كرّ راجعًا إلى دمشق، وحجّ بالناس في هذه السنة ختلغ التركي مقطع الكوفة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
اسبهدوست بن محمد بن الحسن
(1)
أبو منصور الدّيلميّ الشاعر.
لقي أبا عبد اللَّه بن الحجاج، وعبد العزيز بن نُباتة وغيرَهما من الشعراء. وكان شيعيًّا فتاب، وقال قصيدة في ذلك، منها:
وإذا سئلتُ عن اعتقادي قلتُ ما
…
كانتْ عليه مذاهبُ الأبرارِ
وأقولُ خيرُ النّاسِ بعدَ محمّدٍ
…
صدِّيقُهُ وأنيسُهُ في الغارِ
ثمَّ الثلاثةُ بعدَهُ خيرُ الوَرَى
…
أكرمْ بهمْ من سادةٍ أطْهارِ
هذا اعتقادي والذي أرجُو بِهِ
…
فوزي وعتقِي من عذابِ النّارِ
طاهر بن أحمد بن بابشاذ
(2)
أبو الحسن البَصرِي النَّحوي، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص، الذي بمصر، فمات من ساعته، وذلك في رجب من هذه السنة.
قال القاضي ابن خلِّكان: لم يوجد مثله، كان بمصر إمام عصره في النحو، وله المصنفات المفيدة من ذلك "مقدمته" وشرحها و"شرح الجمل"[للزجاجي].
قال: وكانت وظيفته بمصر أنَّه لا تكتب الرسائل في ديوان الإنشاء إلا عُرضت عليه، فيُصْلح منها ما فيه خلل، ثمّ تنفَّذ إلى الجهة التي عيِّنت لها، وكان له على ذلك معلوم، وراتب جيّد، قال: فاتفق أنّه كان يأكل يومًا مع بعض أصحابه طعامًا، فجاءه قطّ، فرموا له شيئًا، فأخذه وذهب سريعًا، ثمّ أقبل فرموا له شيئًا أيضًا، فانطلق به سريعًا، ثمّ جاء، فرموا له شيئًا أيضًا، فعلموا أنّه لا يأكل هذا كلّه، فتتبعوه، فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك، فتعجّبوا من ذلك، فقال الشيخ: يا سبحان اللَّه! هذا حيوان بَهيم، قد ساق اللَّه إليه رزقه على يد غيره، أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده، ثمّ ترك ما كان له من الراتب، وجمع حواشيه [وأقبل على العبادة] والاشتغال
(1)
المنتظم (8/ 308)، الكامل في التاريخ (10/ 106)، وفي (ط) اسفهدوست.
(2)
المنتظم (8/ 309)، الكامل في التاريخ (10/ 106)، وفيات الأعيان (2/ 515)، سير أعلام النبلاء (18/ 439)، الوافي بالوفيات (16/ 390)، النجوم الزاهرة (5/ 105)، شذرات الذهب (3/ 333). قال ابن خلّكان: وبابشاذ، ببائين موحدتين بينهما ألف ثم شين معجمة، وبعد الألف الثانية ذال معجمة، وهي كلمة عجمية تتضمن الفرح والسرور.
والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص، إلى أن مات كما ذكرنا
(1)
.
وقد جمع "تعليقه" في النحو قريبًا من خمسة [عشر] مجلدًا، [فأصحابه: كابن برّي
(2)
وغيره، ينقلون منها، وينتفعون بها] ويسمونها "تعليقة الغرفة".
عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن عمر بن أحمد بن المُجمِّع بن محمد بن بحر بن معبد بن هَزَارْمرد
(3)
.
أبو محمد الصَّرِيفيني، ويعرف بابن المعلّم.
أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين، تفرّد عن جماعة من المشايخ لطول عمره، وهو آخر من حدث "بالجعديّات" عن ابن حَبَابة عن أبي القاسم البَغوي، عن علي بن الجَعْد، وهو سماعنا.
ورحل إليه الناس بسببه، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم: الحافظ أبو بكر الخطيب.
وكان ثقة محمود الطريقة، توفي بصريفين
(4)
في جمادى الأولى من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، رحمه اللَّه تعالى.
حيّان بن خلف بن حسين بن حيّان بن وهب بن حيّان
(5)
أبو مروان القُرْطبي [مولى بني أميّة]، صاحب "تاريخ المغرب"
(6)
في ستين مجلّدًا.
أثنى عليه الحافظ أبو علي الغسّاني في فصاحته، وصدقه، وبلاغته، وقال:[وسمعته يقول]: التهنئة بعد ثلاث، استخفاف بالمودّة، والتعزية بعدها إغراء بالمصيبة.
قال ابن خلِّكان: توفي في ربيع الأول منها، ورآه بعضهم في النوم [فسأله عن حاله]، فقال: غفر اللَّه لي، وأمّا التاريخ فندمت عليه، لكنّ اللَّه بلطفه أقالني وعفا عني.
(1)
من قوله: قال: وكانت وظيفته. . إلى هنا زيادة من (ب) و (ط) وفي القصة مبالغة، والتوكل ينبغي أن يكون مع العمل بالأسباب (ع).
(2)
من قوله: وقد جمع تعليقة. . إلى هنا ساقط من (ب).
(3)
تاريخ بغداد (10/ 146)، المنتظم (8/ 309)، الكامل في التاريخ (10/ 106)، معجم البلدان (3/ 403)، سير أعلام النبلاء (18/ 370)، شذرات الذهب (3/ 334) وثمة خلاف بسيط في نسبه في مصادر ترجمته.
(4)
قال ياقوت في معجم (3/ 403): وصريفون بلدة في سواد العراق في موضعين، إحداهما قرية كبيرة غناء شجراء قرب عكبرا وأوانا على ضفة نهر دجيل، إذا أُذِّن فيها سمعوه في أوانا وعكبرا، وإليها ينسب أبو محمد الخطيب الصريفيني المترجم. وصريفون الأخرى من قرى واسط، ومواضع أخرى تسمى: صريفين.
(5)
جذوة المقتبس (200)، الصلة لابن بشكوال (1/ 153)، بغية الملتمس، (275)، وفيات الأعيان (2/ 218)، سير أعلام النبلاء (18/ 30)، شذرات الذهب (3/ 333)، نفح الطيب (مواضع متعددة).
(6)
ذكر في الوفيات والسير: أن من تصانيفه: المبين في تاريخ الأندلس، في ستين مجلدًا، وأظنه الذي عناه المصنف.
أبو نصر السِّجزِي
(1)
عُبَيْد اللَّه بن سعيد بن حاتم، أبو نصر السِّجْزي الوائلي، نسبة إلى قرية يقال لها: وائل من قرى سجستان
(2)
.
سمع الكثير، وجَمَع وصنّف [وخرّج]، وأقام بالحرم، وله كتاب "الإبانة في الأصول" وله في الفروع أيضًا، ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوريّ، رحمه الله.
محمد بن علي بن الحسين أبو عبد اللَّه الأنْماطي
(3)
، المعروف بابن سِكِّيتة، ولد سنة تسعين وثلاثمئة، وكان كثير السماع، وكانت وفاته في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة.
ثم استهلَّت سنة سبعين وأربعمئة
قال ابن الجوزي
(4)
: في ربيع الأول وقعت صاعقة بمحلّة التوثة
(5)
من الجانب الغربي على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فاطفؤوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل نارًا.
قال: وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جوانب كتابه إليه في شأن الحنابلة، ثمّ سرده ابن الجوزي، ومضمونه: أنّه لا يمكن تغيير المذاهب، ولا نقلة أهله عنها، والغالب على أهل تلك [الناحية] هو مذهب الإمام أحمد، ومحلّه معروف عند الأئمة، وقدره معلوم في السنّة، في كلام طويل.
قال: وفي شوال وقعت فتنة بين الحنابلة وبين بعض فقهاء النظاميّة، وحمي لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلًا [وجرح آخرون]، ثمّ سكنت الفتنة.
وفي تاسع عشر من شوال ولد للخليفة المقتدي ولده المستظهر بأمر اللَّه، أبو العباس أحمد، وزين
(1)
المنتظم (8/ 310)، الأنساب (الوائلي)، سير أعلام النبلاء (17/ 654)، توضيح المشتبة (9/ 169)، شذرات الذهب (3/ 271) وثمة اختلاف في نسبه وسنة وفاته، ففي الأصل: عبد اللَّه بن سعد، وفي المنتظم: عبد اللَّه بن سعيد، وما أثبتناه من مصادر ترجمته الأخرى. وقد ذكر الذهبى سنة وفاته وقال: توفى أبو نصر بمكة، في المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمئة.
(2)
في معجم البلدان (5/ 356): قرية على ثلاثة فراسخ من سجستان، وذكر نسبة المترجم إليها.
(3)
المنتظم (8/ 311)، سير أعلام النبلاء (18/ 346) والأنماطي: نسبة إلى بيع الأنماط، وهي الفرش التي تُبسط.
(4)
المنتظم (8/ 311).
(5)
في (ب) و (ط): النوبة، مصحف، ومحلة التوثة معروفة ببغداد، فانظر تاريخ الخطيب (4/ 373 و 8/ 629 و 11/ 228 بتحقيق الدكتور بشار).
البلد، وجلس الوزير للهناء، ثمّ في يوم الأحد السادس والعشرين من
(1)
هذا الشهر ولد للخليفة ولد آخر أبو محمد هارون.
قال ابن الجوزي
(2)
: وفيها: وَليَ تاج الدولة آرْسَلان الشام، وحاصر حلب، وحجّ بالناس في هذه السنة الأمير مقطع الكوفة ختلغ، وذكر ابن الجوزي: أن ابن جَهير كان عمل منبرًا هائلًا لتقام عليه الخطبة بمكّة، فحين وصل إليها إذ الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكُسر ذلك المنبر وحُرق.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب بن أحمد أبو بكر [اليَربُوعي] الرزاز المقرئ
(3)
.
آخر من حدَّث عن أبي الحسين بن سمعون، وقد كان ثقة، متعبّدًا حسن الطريقة، كتب عنه الخطيب، وقال: كان صدوقًا. توفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة، رحمه اللَّه تعالى.
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد اللَّه
(4)
أبو الحسين بن النَّقُّور البزاز.
أحد المسندين المُعَمَّرين، تفرّد بنسخ كثيرة عن ابن حَبَابة، عن البغوي، عن أشياخه، كنسخة هُدبة، وكامل بن طلحة، وعمر بن زُرارة، وأبي محمد البكري
(5)
، وكان مكثرًا متحرِّيًا، وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت [بن عَبَّاد]
(6)
دينارًا، وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على إسماع الحديث، لاشتغاله به عن الكسب، توفي عن تسع وثمانين سنة، رحمه اللَّه تعالى.
أحمد بن عبد الملك [بن علي] بن أحمد بن صالح المؤذِّن النيسابوري الحافظ
(7)
.
(1)
من قوله: يوم الأحد. . إلى هنا زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم (8/ 312).
(3)
تاريخ بغداد (4/ 381)، المنتظم (8/ 313).
(4)
تاريخ بغداد (4/ 381)، المنتظم (8/ 314)، الكامل في التاريخ (10/ 107)، سير أعلام النبلاء (18/ 372)، شذرات الذهب (3/ 335).
(5)
في (ط): السكن البكري، وفي (ب): السكين البكري، ولعل الصواب ما أثبتنا، وهو أبو محمد عبد اللَّه بن مطيع المتوفى سنة 237 هـ (تاريخ الإسلام 5/ 858)، فهو من شيوخ البغوي وذكر الذهبي أن حديثه يقع عاليًا. على أن الذهبي ذكر في نرجمة ابن النقور هذا النص وذكر إضافة لنسخة هدبة وكامل وعمر: نسخة طالوت ونسخة مصعب الزبيري (تاريخ الإسلام 10/ 288) وسير أعلام النبلاء (18/ 372)(بشار).
(6)
في (ط): "عبادة" محرف، والصواب ما أثبتنا، وترجمته في تاريخ الإسلام (5/ 842) وهو أبو عثمان الصيرفي البصري (بشار).
(7)
تاريخ بغداد (4/ 267)، المنتظم (8/ 314)، الكامل في التاريخ (10/ 108)، سير أعلام النبلاء (18/ 419)، وفيه اسمه: أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمد بن عبد الصمد بن بكر. الشذرات (3/ 335).
كتب الكثير، وجَمع، وصنّف، وكتب عن ألف شيخ ألف حديث، كان يعظ ويؤذِّن [مات وقد] جاوز الثمانين.
عبد اللَّه بن الحسن بن علي بن القاسم بن أبي محمد الخَلال
(1)
آخر من حدّث عن أبي حفص الكتاني
(2)
، وقد سمع الكثير، وروى عنه الخطيب ووثّقه.
توفي عن خمس وثمانين سنة، ودفن بباب حرب، رحمه الله.
عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم
(3)
أبو القاسم بن أبي عبد اللَّه بن مندة الإمام ابن الإمام.
سح أباه وابن مَردوَيه، وخلقًا في أقاليم شتّى سافر إليها، وجمع شيئًا كثيرًا، وكان ذا وقار وسمت حسن، واتّباع للسنّة، وفهمٍ جيّد، كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يخاف في اللَّه لومة لائم.
وكان سعد بن محمد الزَّنْجَاني يقول: حفظ اللَّه الإسلام به وبعبد اللَّه الأنصاري الهروي
(4)
.
توفي ابن مَنْده هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة، وحضر جنازته خلق لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل، رحمه اللَّه تعالى.
عبد الملك بن عبد الغفار
(5)
بن محمد بن المظفّر بن علي
(6)
أبو القاسم الهَمَذاني.
أحد الحفاظ الأولياء الفقهاء وكان يلقب بُنْجِير
(7)
، وقد سمع الكثير [وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم]، وكانت وفاته بالريّ في هذه السنة، ودفن إلى جانب إبراهيم الخوّاص.
(1)
تاريخ بغداد (9/ 439)، المنتظم (8/ 314)، سير أعلام النبلاء (18/ 368)، شذرات الذهب (3/ 336) وقد تصحفت فيه نسبته الخلال: إلى: الحلال، وفي (ط) إلى: الحلالي.
(2)
تصحفت في (ط) إلى: الكناني.
(3)
المنتظم (8/ 315)، الكامل في التاريخ (10/ 108)، طبقات الحنابلة (2/ 242)، سير أعلام النبلاء (18/ 349)، شذرات الذهب (3/ 337).
(4)
هو شيخ الإسلام، أبو إسماعيل عبد اللَّه بن محمد بن علي بن علي الهروي، المتوفى سنة 148 هـ، وسترد ترجمته في هذا الجزء.
(5)
في (ط): "عبد الملك بن محمد بن عبد الغفار"، ولا يصح، وما هنا من النسخ الخطية، وهو الموافق لما في مصادر ترجمته، وينظر تاريخ الإسلام (10/ 297)(بشار).
(6)
المنتظم (8/ 365)، واسمه فيه: عبد الملك بن محمد بن عبد العزيز.
(7)
قيَّده الحافظ ابن حجر في الألقاب (1/ 133) فقال: بضم أوله وسكون النون وكسر الجيم وسكون التحتانية ثم راء"، وتصحف في (ط) إلى: "بجير" (بشار).
الشريف أبو جعفر الحنبلي
(1)
: عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم
(2)
بن عبد اللَّه بن مَعْبَد بن العبّاس بن عبد المطلب الهاشمي، [ابن أبي موسى الحنبلي العباسي]
(3)
.
كان أحد الفقهاء العبّاد العلماء [الزهّاد] المشهورين بالدّيانة والفضل، والعبادة، والقيام في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر [لا تأخذه في اللَّه لومة لائم].
ولد سنة إحدى عشرة وأربعمئة، واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفَرَّاء، وزكّاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله ثمّ ترك الشهادة بعد ذلك. وكان مشهورًا بالصلاح والديانة، وحين احتضر الخليفة، القائم بأمر اللَّه، أوصى أن يغسِّله الشريف أبو جعفر، وأوصى له بشيء [كثير ومال] جزيل فلم يقبل من ذلك شيئًا، [وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرَّمًا معظَّمًا يدخل عليه الفقهاء وغيرهم، ويقبّلون يده ورأسه، ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله]
(4)
.
توفي في [النصف من] صفر
(5)
هذه السنة، ودفن إلى جانب الإمام أحمد، وقرئ عنده عشرة آلاف ختمة من كثرة القراءة عليه، رحمه اللَّه تعالى.
محمد بن محمد
(6)
بن عبد اللَّه أبو الحسن البَيضاوي.
أحد الفقهاء الشافعيين، وتولى القضاء بربع الكرخ، ودفن عند والده، رحمه اللَّه تعالى.
(1)
المنتظم (8/ 315)، ذيل طبقات الحنابلة (1/ 15)، سير أعلام النبلاء (18/ 546)، شذرات الذهب (3/ 336).
(2)
اضطرب النسب في (ط) والنسخ، ففي (ط):"عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم"، وفي النسخ "عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن إبراهيم" وكله غلط، والصواب ما أثبتناه من تاريخ الإسلام (10/ 292) وسير أعلام النبلاء (18/ 546) وغيرهما (بشار).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ب): فتوفي عندهم ليلة الخميس النصف من صفر من هذه السنة، ودفن. .، وثمة اختلاف يسير في العبارة بين الأصل و (ب) و (ط).
(6)
في بعض النسخ: "محمد بن محمد بن محمد"، وهو خطأ. وقد تقدمت ترجمته في وفيات سنة 468 من هذا الكتاب بأوسع مما هنا. وانظر تاريخ الخطيب (4/ 390 بتحقيقنا) والكامل في التاريخ (10/ 107)، وتاريخ الإسلام (10/ 269)(بشار).
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمئة
ثم ملك السلطان [الملك المظفر تاج الملوك]
(1)
تتش بن ألْب آرْسَلان [السلجوقي]
(2)
دمشق، وقتل ملكها إقسيس [وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين، فلما وصل إليه لم يركب لتلقّيه، فأمر بقتله، فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالًا، وستين حبة لؤلؤ، كلّ حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار، ومئتي سرج ذهب وغير ذلك، وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوق
(3)
الخُوارزمي، وكان يلقب بالملك المعظّم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحِّهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحيّ على خير العمل، وأمر بالترضّي عن الصحابة أجمعين. وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس، فرحمه اللَّه، وبلّ بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه.
وفيها: عزل الوزير ابن جَهير بإشارة نظام الملك بسبب ممالأته على الشافعيّة، ثمّ كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته، [فأعيد ولده، وأطلق هو]
(4)
.
وفيها: قَدِمَ سعد الدولة [جوهر
(5)
أميرًا إلى بغداد، وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، وأساء الأدب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس؛ فكوتب السلطان بأمره، فجاء الكتاب من السلطان بالإنكار عليه]. وحجّ بالناس في هذه السنة ختلغ التركي مقطع الكوفة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
سعد بن علي بن محمد بن على بن الحسين أبو القاسم الزَّنْجاني
(6)
.
رحل إلى الآفاق، وسمع الكثير، وكان إمامًا حافظًا، متعبّدًا، ورعًا، انقطع آخر عمره بمكّة، فكان الناس يتبرّكون بتقبيل يده. [قال ابن الجوزي: ويقبّلون يده أكثر مما يقبّلون الحجر الأسود]
(7)
.
(1)
زيادة من (ب) و (ط). وفي نسخة "تاج الدولة".
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
في (ط): "أوف"، محرف، وتكلمنا عليه فيما مضى (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ط): "جوهرًا" ولا يستقيم.
(6)
أنساب السمعاني في "الزنجاني"، المنتظم (8/ 320)، تاريخ دمشق (20/ 273)، تاريخ الإسلام (10/ 327)(بشار).
(7)
زيادة من (ب) و (ط).
سليم الحَوْري
(1)
[نسبة إلى قرية]، من قرى دجيل.
كان عابدًا، زاهدًا، يقال: مكث مدّة يتقوّت كلّ يوم بزبيبة، وقد سمع الحديث، وقُرئ عليه، رحمه اللَّه تعالى.
عبد اللَّه بن سَبْعون
(2)
أبو محمد
(3)
الفقيه المالكي القيرواني، توفي ببغداد، ودفن بباب حرب.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمئة
فيها: ملك إبراهيم بن محمود بن مسعود بن [محمود بن] سُبُكْتِكين صاحب غزنة قلاعًا كثيرة حصينة، ثم عاد إلى بلاده سالمًا غانمًا.
وفيها: ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدي بأمر اللَّه، وزُيِّنت له بغداد.
وفيها: ملك الموصل سيف الدولة مسلم بن قريش بن بدران [العقيلي] بعد وفاة أبيه.
وفيها: ملك منصور بن مروان بلاد ديار بكر بعد أبيه.
وفيها: أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة، وأخذ من ذخائره أربعمئة ألف دينار، وضمن خمارتكين البصرة بمئة ألف دينار ومئة فرس في كلّ سنة، وقطعت خطبة المصريين بمكّة، وخطب فيها للمقتدي، والسلطان ملك شاه السلجوقي.
[وفيها: فتح عبيد اللَّه بن نظام الملك تكريت.
وحجّ بالناس ختلغ التركي]
(4)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الملك بن الحسين
(5)
بن أحمد بن خيران
(6)
أبو نصر، سمع الكثير، وكان زاهدًا عابدًا يسرد الصوم، ويختم في كلّ ليلة ختمة، رحمه الله.
(1)
المنتظم (8/ 320)، الكامل في التاريخ (10/ 112)، معجم البلدان (2/ 318)، توضيح المشتبه (2/ 533) ونسبته إلى حَورى: من قرى دُجيل ببغداد.
(2)
المنتظم (8/ 321)، تاريخ الإسلام (10/ 330)، وفي (ط): ابن شمعون: بالشين.
(3)
في (ط): "أبو أحمد" خطأ، وما هنا يعضده ما في المنتظم وتاريخ الإسلام (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ط): "الحسن"، محرف، وفي المنتظم:"أحمد" محرف أيضًا، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ الإسلام (بشار).
(6)
في (ط) والمنتظم: "خيرون" وهو تحريف، وهو مجود في تاريخ الإسلام للذهبي (10/ 342). وقد اشتبه عليهم بأبي القاسم عبد الملك بن الحسن بن خيرون الدباس أخي الحافظ أبي الفضل أحمد، وأبو القاسم توفي في =
محمّد بن محمّد بن أحمد بن الحسين بن عبد العزيز بن مهران العُكْبَري
(1)
.
سمع هلالًا الحفار، وابن رزقويه، والحمامي
(2)
وغيرهم، وكان فاضلًا جيّد الشعر، فمن شعره قوله:
أطيل تفكّري في أيّ ناسٍ
…
مضوا قُدُمًا
(3)
وفيمن خَلَّفونا
همُ الأحياءُ بعد الموت ذِكرًا
(4)
…
ونحنُ من الخمولِ الميّتُونا
توفي في رمضان من هذه السنة، وله تسعون
(5)
سنة، رحمه اللَّه تعالى.
هَيَّاج بن عُبيد
(6)
الحِطِّيني الشامي
(7)
.
سمع الحديث، وكان أوحد زمانه زهدًا وفقهًا واجتهادًا في العبادة، أقام بمكة مدّة يفتي أهلها، ويعتمر في كلّ يوم ثلاث مرات على قدميه، ولم يلبس نعلًا مذ أقام بمكّة، ويزور قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكّة ماشيًا حافيًا، وكذلك يزور قبر ابن عباس بالطائف وكان لا يدّخر شيئًا، ولا يلبس إلا قميصًا واحدًا، ضربه بعض أمراء مكّة في بعض فتن الروافض، فتشكّى أيامًا، ومات رحمه اللَّه تعالى، وقد نيّف على الثمانين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمئة
وفيها: استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض خراسان.
وفيها: أذن للوعاظ في الجلوس، وكانوا قد منعوا من وقت فتنة ابن القشيري.
= ذي الحجة من سنة 480، وترجمته في المنتظم (9/ 39 - 40)، وإكمال ابن نقطة (2/ 454) وتاريخ الإسلام للذهبي (10/ 455)، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين (3/ 487) وغيرها. (بشار).
(1)
تاريخ بغداد (3/ 239)، المنتظم (8/ 325)، الكامل في التاريخ (10/ 117)، سير أعلام النبلاء (18/ 392)، شذرات الذهب (3/ 342).
"والعكبري": نسبة إلى عكبرا، بضم العين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وقيل: بضمها، وهي بلدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ من الجانب الشرقي، والنسبة إليها: عكبري، عكبراوي. معجم البلدان (4/ 142).
(2)
"الحمامي": ساقط من (أ).
(3)
في المنتظم: عنا.
(4)
في المنتظم: حقًّا.
(5)
في (ب) و (ط): سبعون.
(6)
في (ط): "عبد اللَّه"، محرف، وما أثبتناه يعضده ما في مصادر ترجمته.
(7)
المنتظم (8/ 326)، معجم البلدان (2/ 273)، سير أعلام النبلاء (18/ 393)، الشذرات (3/ 342).
وفيها: قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيسًا يقال له: عبد القادر الهاشمي، وقد كاتبوه من الأقطار، كان الساعي له رجلًا يقال له: ابن رسول، وكانوا يجتمعون عند جامع براثا؛ فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين، فأمر بالقبض عليهم
(1)
.
وحجّ بالناس ختلغ في هذه السنة أيضًا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن عمر بن محمد بن إسماعيل
(2)
أبو عبد اللَّه بن الأخضر، المحدّث.
سمع [أبا] علي بن شاذان، وكان على مذهب الظاهريّة، وكان كثير التلاوة حسن السيرة، متقللًا من الدنيا، قنوعًا، رحمه الله.
الصُّلَيْحيّ
(3)
المتغلّب على اليمن، أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الملقّب بالصُّلَيْحيّ، كان أبوه قاضيًا باليمن، وكان سنيًّا، فنشأ هذا، فتعلّم العلم، وبرع في أشياء كثيرة، وكان شيعيًّا على مذهب القرامطة، ثمّ كان يُدِلّ بالحجيج مدّة خمس عشرة سنة، وكان قد اشتهر أمره وذِكره بين الناس أنّه سيملك اليمن، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاحًا صاحب تهامة، واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مُدّة، واستوثق له الملك بها في سنة خمس وخمسين، وخطب للمستنصر العُبَيدي صاحب مصر، فلما كان في هذا العام خرج للحجّ في ألفي فارس، فاعترضه سعيد بن نجاح بالمهجم في نفر يسير، فقاتلهم فقتل هو وأخوه، واستحوذ سعيد بن نجاح على مملكته وحواصله، ومن شعر الصُّلَيْحي هذا قوله:
أنْكَحتُ بيضَ الهندِ سُمْرَ رماحِهِمْ
…
فَرؤوسُهُمْ عِوَض النِّثَارِ نِثارُ
وكذا العُلا لا يُستباح نِكاحُها
…
إلا بحيثُ تُطلَّقُ الأعمارُ
محمد بن الحسين
(4)
بن عبد اللَّه بن أحمد بن يوسف بن الشبل
(5)
أبو علي الشاعر البغدادي.
أسند الحديث، وله الشعر الرائق، فمن ذلك قوله:
(1)
من قوله: وفيها قبض. . إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
المنتظم (8/ 327).
(3)
المنتظم (8/ 165)، الكامل في التاريخ (10/ 30 و 55 - 56)، وفيات الأعيان (3/ 411)، تاريخ اليمن (47)، سير أعلام النبلاء (18/ 359)، النجوم الزاهرة (5/ 58، 72)، شذرات الذهب (3/ 346).
قال ابن خلكان: الصليحي: بضم الصاد المهملة، وفتح اللام، وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها حاء مهملة، لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي، والظاهر أنه رجل، فقد جاء في الأسماء والأعلام: صُليح، ونسبوا إليه أيضًا.
(4)
المنتظم (8/ 328)، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد (5)، وتاريخ الإسلام (10/ 357).
(5)
في (ط): الشبلي.
لا تُظْهِرن لعَاذِلٍ أو عاذِرٍ
…
حَالَيْكَ في السَّرَّاءَ والضّراءِ
فَلرحْمةِ المتَوجّعينَ مرارةٌ
…
في القلبِ مثلُ شماتَةِ الأعداءِ
وله أيضًا:
يَفْنَى البخيلُ بِجَمْعِ المالِ مُدّتَه
…
وَلِلحوادِثِ والأيّامِ ما يدعُ
كَدُودةِ القَزِّ ما تبنيه يهدمها
(1)
…
وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
يوسف بن الحسن بن محمد بن الحسن
(2)
أبو القاسم التَّفكْريّ
(3)
، ومن أهل زِنجان.
ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمئة، وتفقّه على مذهب الشافعيّ، ودرس الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلامذته، وكان عابدًا ورعًا، خاشعًا كثير البكاء عند الذكر، مقبلًا على العبادة، وكانت وفاته في هذه السنة وقد قارب الثمانين.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمئة
فيها: ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دُبيس ما كان يليه أبوه من الأعمال، وخلع عليه السلطان والخليفة.
وفيها: ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حرّان، وصالح صاحب الرُّها.
وفيها: فتح تتش بن ألب آرْسَلان صاحب دمشق مدينة أنطرطوس.
[وفيها: أرسل الخليفة ابن جَهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بشرط أن لا يكون له زوجة، ولا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك]
(4)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
داود بن السلطان ملك شاه
(5)
.
وجد عليه أبوه وجدًا عظيمًا بحيث إنّه كاد أوْ هَمّ أن يقتل نفسه فمنعه الأمراء من ذلك، وانتقل إلى غير ذلك البلد، وأمر النساء بالنوح عليه [ولما وصل الخبر إلى بغداد، جلس وزير الخليفة للعزاء].
(1)
في (ط): يخنقها.
(2)
المنتظم (8/ 329)، الكامل في التاريخ (10/ 119)، توضيح المشتبه (4/ 229) وفيه سنة وفاته خمسمئة.
(3)
تصحفت في (ط) إلى: العسكري.
(4)
زيادة من (ب) و (ط)، والخبر في الكامل في التاريخ (10/ 120).
(5)
المنتظم (8/ 333)، الكامل في التاريخ (10/ 122).
القاضي أبو الوليد الباجي
(1)
سليمان بن خلف بن سَعد بن أيوب التُّجيبيّ، الأندلسي، الباجي، الفقيه المالكي.
أحد الحفاظ المكثرين في الفقه والحديث. سمع الحديث، ورحل إلى بلاد الشرق سنة ست وعشرين وأربعمئة، فسمع هناك كثيرًا، واجتمع بأئمة ذلك الوقت، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وجاور بمكّة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذرّ الهرويّ، وأقام ببغداد ثلاث سنين أيضًا، وبالموصل سنة عند أبي جعفر السِّمناني قاضيها يأخذ عنه الفقه والأصول، وسمع الخطيب البغدادي، وسمع منه الخطيب أيضًا، وروى عنه هذين البيتين الحسنين:
إذا كنتُ أعلمُ علمًا يقينًا
…
بأنّ جميعَ حياتي كساعة
(2)
فَلِمْ لا أكونُ ضَنِيْنًا
(3)
بِهَا
…
وأجعلها في صلاحٍ وطاعَهْ
ثمّ عاد إلى بلدهِ بعد ثلاث عشرة سنة، وتولّى القضاء هناك، ويقال: إنّه تولّى قضاء حلب أيضًا. قاله ابن خلِّكان. قال: وله مصنفات عديدة، منها:"المنتقى في شرح الموطأ"، و"إحكام الفصول في أحكام الأصول" و"الجرح والتعديل" وغير ذلك. وكان مولده في سنة ثلاث وأربعمئة، وتوفي بالمَريَّة
(4)
[ليلة الخميس بين العشاءين] التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة.
أبو الأغرّ دُبَيْس بن علي بن مَزْيد
(5)
، الملقب نور الدين، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة مكث فيها أميرًا نيّفًا وستين سنة، وقام بالأمر من بعده ولده أبو كامل: ولقّب: بهاء الدولة.
عبد اللَّه بن أحمد بن رضوان
(6)
أبو القاسم البغدادي، كان من الرؤساء، ومرض بالشقيقة ثلاث سنين، فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءًا، ولا يسمع صوتًا.
(1)
ترتيب المدارك (4/ 802)، الصلة لابن بشكوال (1/ 200)، المغرب (1/ 404)، وفيات الأعيان (2/ 408)، سير أعلام النبلاء (18/ 535)، الوافي بالوفيات (13/ 129)، النجوم الزاهرة (5/ 114)، نفح الطيب (6/ 173)، شذرات الذهب (3/ 344).
(2)
في (أ): ساعة.
(3)
في (ط): كضيف.
(4)
سقط اسم المدينة من (ط)، وفي (ب): الرقة. خطأ، و"المرية": مدينة كبيرة من كورة إلبيرة من أعمال الأندلس. معجم البلدان (5/ 119).
(5)
المنتظم (8/ 333)، الكامل في التاريخ (10/ 121)، وفيات الأعيان (2/ 491)، سير أعلام النبلاء (18/ 557)، النجوم الزاهرة (5/ 114).
(6)
المنتظم (8/ 333)، الكامل في التاريخ (10/ 122).
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمئة
فيها: قدم مؤيد الملك بن نظام الملك، فنزل في مدرسة أبيه، وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث.
وفيها: نُفِّذَ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولًا إلى السلطان ملك شاه، والوزير نظام الملك، فكان [أبو إسحاق] كلّما مرّ على بلدة خرج إليه أهلها يتلقَّونه أولادهم ونسائهم، يتبرّكون به، ويتمسَّحون بركابه، وربّما أخذوا من تراب حافر بغلته، ولما وصل إلى ساوَة
(1)
خرج إليه أهلها، وما مرّ بسوق فيها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم، حتى اجتاز بسوق الأساقفة، فلم يكن عندهم إلا مداسات الصغار فنثروها عليه، فجعل الشيخ يتعجّب من ذلك.
وفيها: جددت الخطبة [من جهة الخليفة]
(2)
لبنت السلطان ملك شاه، فطلبت أمها أربعمئة ألف دينار، ثمّ اتفق الحال على أن يكون خمسين ألف دينار للرضاع، وأن يكون الصداق مئة ألف دينار.
[وفيه: حارب السلطان أخاه تتش فأسره، ثمّ أطلقه، واستقرت يده على دمشق وأعمالها]
(3)
وحج بالناس ختلغ.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الوهّاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مَنْدَه
(4)
أبو عمرو
(5)
الحافظ.
من بيت الحديث، رحل إلى الآفاق، وسمع الحديث الكثير، وتوفي بأصبهان فى هذه السنة، رحمه اللَّه تعالى.
ابن ماكولا
(6)
الأمير أبو نصر، علي ابن الوزير أبي القاسم هِبَة اللَّه بن علي بن جعفر بن علكان بن
(1)
مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخًا. معجم البلدان (3/ 179).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخًا. معجم البلدان (3/ 179).
(4)
المنتظم (8/ 309)، الكامل في التاريخ (10/ 128)، سير أعلام النبلاء (18/ 440)، شذرات الذهب (3/ 348). وقد ورد اسمه في الأصل: عبد الوهاب بن محمد بن الحسين. ولم يتوافق ذلك مع مصادر ترجمته.
(5)
تحرفت في (ط): إلى: عمر.
(6)
المنتظم (9/ 5)، الكامل في التاريخ (10/ 128)، وفيات الأعيان (3/ 305)، سير أعلام النبلاء (18/ 569)، النجوم الزاهرة (5/ 115)، شذرات الذهب (3/ 381)، مقدمة كتاب الإكمال (1/ 7 - 8).
محمد بن دُلف بن أبي دلف التميمي الأمير، سعد الملك، أبو نصر، ابن ماكولا.
أحد أئمة الحديث وسادة الأمراء، رحل وطوّف، وسمع الكثير، وصَنّف. له:"الإكمال في المشتبه من أسماء الرجال" وهو كتاب جليل لم يُسبق إليه، ولم يلحق فيه إلا ما استدركه عليه ابن نقطة في كتاب سماه "الاستدراك".
قثله مماليكه بكرمان في هذه السنة، وكان مولده في سنة عشرين وأربعمئة، فعاش خمسًا وخمسين سنة.
قال ابن خلِّكان: وقيل: إنّه قتل في سنة تسع وسبعين، وقيل: سنة خمس وثمانين، وقيل: سنة ستّ وثمانين
(1)
قال: وقد كان أبوه وزيرًا للقادر باللَّه
(2)
، وعمّه عبد اللَّه بن الحسين ولي قضاء بغداد، قال: ولا أدري لم سمي الأمير؟ إلا أن يكون منسوبًا إلى جدّه الأمير أبي دلف، وأصله من جرباذقان
(3)
، وولد في عَكْبُرا في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمئة، قال: وقد كان الخطيب البغدادي صنّف كتاب "المؤتنف" جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف، فجاء ابن ماكولا وزاد على كتاب الخطيب وسمّاه "الإكمال"، وهو في غاية الإفادة [ورفع الالتباس والضبط]، ولم يوضع مثله، ولا يحتاج بعده إلى ذِكر فضيلة أخرى، ففيه دلالةٌ على كَثْرةِ اطلاعه، وضبطه وتحريره، وإتقانه. ومن شعره قوله:
قَوضْ خِيامَكَ عن أرضٍ تُهانُ بها
…
وجانبِ الذُّلَّ إن الذُّلَّ يُجتنَبُ
وارحلْ إذا كانَ في الأوطانِ منقصةٌ
…
فالمَنْدلُ
(4)
الرَّطْبُ في أوطانِه حَطَبْ
(5)
ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمئة
فيها: عزل عميد الدولة بن جَهير عن وزارة الخلافة، فسار بأهله وأولاده إلى السلطان، وقصدوا نظام الملك الوزير، فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بكر، فسار إليها بالخلع
(1)
وترجمه الذهبي في وفيات سنة 487 من تاريخه (10/ 581).
(2)
في (ط): للقائم بأمر اللَّه، وكذلك في الوفيات.
(3)
في (أ): باذقان. وجرباذقان، بالفتح، والعجم يقولون: كرباذكان: بلدة قريبة من همذان بينها وبين الكرج وأصبهان، كبيرة ومشهورة.
وجرباذقان أيضًا: بلدة بين استراباذ، وجرجان من نواحي طبرستان. معجم البلدان (2/ 118).
(4)
"المندل": كمقعد: العود الرطب يتبخَّر به. أو أجوده.
(5)
البيتان في وفيات الأعيان (3/ 306)، سير أعلام النبلاء (18/ 577) مع خلاف يسير.
والكوسات
(1)
والعساكر، وأمر أن ينتزعها من يزيد بن مروان، وأن يخطب لنفسه، وأن يكتب اسمه على السكة، فما زال حتى انتزعها من أيديهم، وباد ملكهم على يديه كما سيأتي بيانه، وسدّ وزارة الخلافة أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، ثمّ عزل في شعبان، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين، ولقب: ظهير الدين.
وفي جمادى الأولى
(2)
وَلَّى مؤيد الملك أبا سعيد عبد الرحمن بن المأمون المتولّي تدريس النظامية، بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله.
وفيها: عصا أهل حرَّان
(3)
على شرف الدولة مسلم بن قريش، فحاصرها ففتحها وهدم سورها، وصلب قاضيها ابن جَلَبة
(4)
، وأثبته على السور.
وفي شوال قُتل أبو المحاسن بن أبي الرضا، وذلك لأنّه وشى إلى السلطان في نظام الملك، وقال: سلمهم إليّ حتى أخفص لك منهم ألف ألف دينار، فعمل نظام الملك سماطًا هائلًا، واستحضر غلمانه، وكانوا ألوفًا وشرع يقول للسلطان: هذا كلّه من أموالك، وما أوقفته من المدارس والربط فكلُّه شكره لك في الدنيا، وأجره لك في الآخرة [وأموالي وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقَّعة وزاوية]، فعند ذلك أمر السلطان بقتل أبي المحاسن، وكان حضيًّا عنده، وخصيصًا به، وجيهًا لديه
(5)
. وعزل أباه عن كتابة الطغراء، وولاها مؤيد الملك بن نظام الملك.
وحجّ بالناس في هذه السنة الأمير ختلغ التركي، مُقطع الكوفة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
(6)
إبراهيم بن علي الشيرازي الفيروزآباذي، وهي قرية من قرى فارس، وقيل: هي مدينة جور
(7)
.
(1)
"الكوسات": قطعتان من المعدن تمسك كل واحدة بيد وتضرب الواحدة بالأخرى.
(2)
في (ط): الآخرة.
(3)
في الأصل: خراسان. خطأ.
(4)
مفتي حران وقاضيها، أبو الفتح، عبد الوهاب بن أحمد بن جَلَبة الحراني. ترجمته في الكامل في التاريخ (10/ 129)، سير أعلام النبلاء (18/ 560)، شذرات الذهب (3/ 352).
(5)
الخبر في المنتظم (9/ 6)، الكامل في التاريخ (10/ 131).
(6)
المنتظم (9/ 7)، معجم البلدان (3/ 381)، الكامل في التاريخ (10/ 132)، وفيات الأعيان (1/ 29)، طبقات السبكي (4/ 215)، سير أعلام النبلاء (18/ 453)، النجوم الزاهرة (5/ 117)، شذرات الذهب (3/ 349).
(7)
في (ط): خوارزم. خطأ. قال ياقوت في معجمه (4/ 283): فيروزآباذ: بالكسر ثم السكون وبعد الراء واو ساكنة ثم زاي وألف وباء موحدة وآخره ذال معجمة، بلدة بفارس قرب شيراز، كان اسمها جور فغيّرها عضد =
شيخ الشافعية، ومدرّس النظامية، ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمئة وتفقّه بفارس على أبي عبد اللَّه البيضاوي، ثمّ قدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمئة، فتفقّه على القاضي أبي الطيّب الطبري، وسمع الحديث من ابن شاذان، والبَرْقاني. وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، كبير القدر، معظّمًا، محترمًا، إمامًا في الفقه، والأصول والحديث، وفنون كثيرة، وله المصنّفات الكثيرة النافعة. كـ "المهذّب"[في المذهب]، و"التنبيه"، و"النكت"، و"الخلاف"، و"اللمع في أصول الفقه"، و"التبصرة"، و"المعونة"، و"طبقات الفقهاء" وغير ذلك.
قلت: وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في أول "شرح التنبيه"، وقد كانت وفاته في جمادى الآخرة في دار أبي المظفّر ابن رئيس الرؤساء، وغسّله أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، وصُلِّيَ عليه بباب الفردوس من دار الخلافة، وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر اللَّه، وتقدّم للصلاة عليه أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء -وكان نائب الوزارة- ثم صُلّي عليه مرة ثانية بجامع القصر، ودفن بباب أبرز، في تربة مجاورة للتاجيّة، رحمه الله. وقد امتدحه الشعراء في حياته وبعد وفاته، وكان هو في نفسه له شعر رائق، فمما أنشده ابن خلِّكان من شعره قوله:
سألتُ النَّاسَ عن خِلٍّ وفيٍّ
…
فَقالُوا: ما إلى هذا سبيلُ
تمسَّكْ إنْ ظَفِرتَ بودٍّ
(1)
حرٍّ
…
فإنّ الحرَّ في الدنيا قليلُ
قال ابن خلِّكان: ولمّا مات عمل الففهاء عزاءه بالمدرسة النظاميّة، وعين مؤيد الملك أبا سعد المتولي مكانه، فلمّا بلغ الخبر إلى نظام الملك كتب يقول: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله، وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصبّاغ.
طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد اللَّه القَوَّاس
(2)
.
قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقّه على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأفتى ودرّس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى، وكان ثقة، ورعًا، زاهدًا، لازم مسجده خمسين سنة، وكانت وفاته في هذه السنة عن ست وثمانين سنة، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد، رحمه الله.
محمّد بن أحمد بن محمّد بن إسماعيل
(3)
أبو طاهر الأنْبَاري، الخطيب، وكان يعرف بابن أبي الصقر.
= الدولة، وسمى مواضع أخرى بفيروزآباد.
(1)
في (ط) والوفيات: بذيل.
(2)
المنتظم (9/ 8)، سير أعلام النبلاء (18/ 452)، شذرات الذهب (3/ 351).
(3)
المنتظم (9/ 9) وذكر اسمه: ابن أبي السقر، والصحيح بالصاد. سير أعلام النبلاء (18/ 578)، الوافي بالوفيات (2/ 86)، النجوم الزاهرة (5/ 118)، شذرات الذهب (3/ 453).
طاف البلاد، وسمع الكثير، وكان ثقةً، صالحًا، فاضلًا، عابدًا، وقد سمع منه الخطيب البغدادي، وروى عنه مصنّفاته، وتوفي بالأنبار في جمادى الآخرة عن نحو من مئة سنة.
محمد بن أحمد بن الحسين بن جَرْدة
(1)
أحد كبار الرؤساء ببغداد من ذوي الثروة والمروءة، وكان ماله يحزر بثلاثمئة ألف دينار، وكان أصله من عكبرا، فسكن بغداد [وكانت له بها] دار عظيمة [تشتمل على ثلاثين مسكنًا مستقلًا]
(2)
فيها حمام وبستان، ولها بابان، وفي كلّ باب مسجد، إذا أذن في أحدهما لا يسمع من في الآخر لاتساعها [وفد كانت زوجة الخليفة القائم حين وقعت فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمئة، نزلت عنده في جواره، فبعث إلى الأمير قريش بن بدران أمير العرب بعشرة آلاف دينار، ليحمي له داره جزاه الله خيرًا، وهو الذي بنى المسجد المعروف به ببغداد] وقد ختم فيه القرآن ألوف من الناس، وكان لا يفارق زي التجّار، وكانت وفاته في عاشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن في التربة المجاورة لتربة القزويني، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمئة
فيها: كانت الحرب بين فخر الدولة بن جَهير وبين ابن مروان صاحب ديار بكر، فاستولى ابن جَهير على ملك العرب، وسبى حريمهم، وأخذ البلاد ومعه سيف الدولة صَدقة بن منصور بن دُبَيْس بن علي بن مَزْيَد الأسدي، فافتدى خلقًا من العرب، فشكره الناس على ذلك، وامتدحه الشعراء عليه.
وفيها: بعث السلطان عميد الدولة بن جَهير في جيش كثيف، معه قسيم الدولة آقسنقر جدّ بني أتابك ملوك الشام والموصل، [فسارا] إلى الموصل فملكوها.
وفي شعبان ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية، فأراد شرف الدولة مسلم بن قريش أن يستنقذها منه فهزمه سليمان وقتله، وكان مسلم هذا من خيار الملوك، له سيرة حسنة، وله في كلِّ قرية والٍ وقاض وصاحب خبر [وكان يملك من السِّنْديَّة
(3)
إلى منبج، وولي بعده أخوه إبراهيم بن قريش، وكان مسجونًا من سنين فأطلق، ومَلَك]
(4)
.
وفيها: ولد السلطان سَنْجَر بن ملكشاه في العشرين من رجب بسنجار.
(1)
وقع في بعض النسخ: "جزرة"، وفي (ط):"جرادة" وكله تحريف؛ والصواب ما أثبتناه، وترجمته في المنتظم (9/ 9)، وتاريخ الإسلام للذهبي (10/ 398)(بشار).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
"السِّنْدية": قرية من قرى بغداد على نهر عيسى بين بغداد والأنبار. معجم البلدان (3/ 268).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
[وفيها: عصا تكش أخو السلطان فأخذه السلطان فسمله وسجنه]
(1)
.
وحجّ بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين الجستاني
(2)
وذلك لشكوى الناس من شدّة سير ختلغ التركي بهم، وأخذ المكوسات منهم، سار مرة من الكوفة إلى مكة في تسعة عشر يومًا.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن دُوست
(3)
أبو سعد النيسابوري شيخ الصوفية.
له رباط بمدينة نيسابور يدخل من بابه الجمل براكبه، وحجّ مرات على التجريد، وحين انقطعت طريق مكّة كان يأخذ جماعة من الفقراء، ويتوصّل من قبائل العرب حتى يصل إلى مكة، [توفي في هذه السنة وقد جاوز التسعين] رحمه الله [وأوصى أن يخلفه ولده إسماعيل، فأجلس في مشيخة الرباط]
(4)
.
ابن الصَّبَّاع
(5)
صاحب "الشامل"، عبد السيّد بن محمّد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، الإمام أبو نصر بن الصَّبَّاغ.
ولد سنة أربعمئة وتفقّه ببغداد على أبي الطيِّب الطبري، حتى فاق الشافعية بالعراق، وصنّف المصنفات المفيدة، منها كتابه "الشامل في المذهب"[وهو أول من درّس بالنظامية]، وكانت وفاته في هذه السنة، ودفن بداره في الكرخ، ثمّ نقل إلى باب حرب.
قال ابن خلِّكان: كان فقيه العراقيين، وكان يقاس بالشيخ أبي إسحاق، وكان ابن الصَّبَّاغ أعلم منه بالمذهب، وإليه الرحلة، وقد صنّف "الشامل في الفقه"، و"العدة في أصول الفقه"، وتولّى تدريس النظامية أولًا، ثمّ عزل بعد عشرين يومًا، [واستبدل] بالشيخ أبي إسحاق، فلما مات الشيخ أبو إسحاق تولاها أبو سعد المتولّي، ثم عزل بابن الصبّاغ، وكان ثقةً حجةً صالحًا، وأضرّ في آخر عمره رحمه الله.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
في (ط): "جماز بكر الحسنائي" وفي (ب): "الحذائي" وكله تحريف، وما أثبتناه يعضده ما في معجم السفر للحافظ السلفي، فقد ذكر أنه قرأ عليه بالمدينة النبوية (الترجمة 122)، ونقل الترجمة عنه الذهبي في تاريخ الإسلام حيث ذكره في وفيات سنة 499 منه (1/ 813)(بشار).
(3)
المنتظم (9/ 11)، الكامل في التاريخ (10/ 159)، تاريخ الإسلام (10/ 437)، سير أعلام النبلاء (18/ 491)، النجوم الزاهرة (5/ 124)، شذرات الذهب (3/ 363)، وقد تحرفت دوست في (ط) إلى: دوبست. وقد ترجمه الذهبي ومن نقل منه في وفيات سنة 479 هـ.
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
المنتظم (9/ 12)، الكامل في التاريخ (10/ 141)، وفيات الأعيان (3/ 217)، طبقات السبكي (5/ 122)، سير أعلام النبلاء (18/ 464)، النجوم الزاهرة (5/ 199)، شذرات الذهب (3/ 355).
مسعود بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل
(1)
أبو سعد السِّجْزِي
(2)
، الحافظ.
رحل في الحديث، وسمع الكثير، وجمع الكتب النفيسة، وكان حسن الخطّ صحيح النقل، حافظًا، ضابطًا، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمئة
في المحرم منها زلزلت أرَّجان؛ فهلك خلق كثير من الناس ومواشيهم.
وفيها: كَثُرت الأمراض بالحمّى والطاعون بالعراق والحجاز والشام، وتعقّب ذلك موت الفجأة، ثمّ ماتت الوحوش في البريّة، ثمّ تلاهاموت البهائم، حتّى عزّت الألبان واللّحمان، ومع هذا كلّه وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنّة، فقتل خلق كثير.
وفي ربيع الأول هاجت ريح سوداء، وسفت رملًا، وتساقطت أشجار كثيرة من النخيل وغيرها، ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، ثمّ انجلى ذلك، ولله الحمد.
وفيها: ولد للخليفة ولده أبو عبد الله الحسين، وزُيِّنت بغداد، وضُربت الطبول والبوقات وكثرت الصدقات.
وفيها: استولى فخر الدولة بن جَهير على بلاد كثيرة منها: آمد ومئافارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقرضت دولة بني مروان على يده في هذه السنة.
[وفي ثاني عشر، رمضان منها: قلّد أبو بكر محمد بن المظفّر الشامي
(3)
قضاء القضاة ببغداد بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني [وخلع عليه في الديوان].
وحجّ بالناس الأمير ختلغ التركي [وزار النبي صلى الله عليه وسلم ذاهبًا وآيبًا، قال: أظن أنّها آخر حجّتي، وكان كذلك.
وفيها: خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ محلّة، وإلزام أهل الذمّة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد.
(1)
المنتظم (9/ 13) سير أعلام النبلاء (18/ 532)، شذرات الذهب (3/ 357).
(2)
"السجزي": بكسر السين المهملة وسكون الجيم وفي آخرها زاي، هذه النسبة إلى سجستان - إحدى بلاد كابل - على غير قياس، والقياس: السجستاني. الأنساب (7/ 47) وقد تصحفت هذه النسبة في المنتظم إلى: الشجري، وفي (ط) إلى: السجري.
(3)
ستأتي ترجمته في وفيات سنة (488 هـ) من هذا الكتاب. (بشار).
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم
(1)
[بن أبي أيوب]، أبو بكر الفَوْرَكي، سبط [الأستاذ] أبي بكر بن فُورَك.
استوطن بغداد، وكان متكلِّمًا يعظ الناس في النظامية، فوقعت بسببه فتنة بين أهل المذاهب.
قال ابن الجوزي: وكان مؤثرًا للدنيا على الآخرة، لا يتحاشى من لبس الحرير، وذكر أنّه كان يأخذ مكس الفحم [ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة] وكانت وفاته في هذه السنة، وله نيّف وستون سنة، ودفن إلى جانب قبر الأشعري بمشرعة الروايا
(2)
.
الحُسين
(3)
بن علي
(4)
أبو عبد الله المَرْدُوسي.
كان رئيس أهل زمانه، وأكملهم مروءة، وكان قد خدم في أيام بني بُوَيه، وتأخّر إلى هذا الحين، وكانت الملوك تكاتبه وتعظّمه بعبده وخادمه
(5)
وكان كثير الصدقة والصِّلات والبِرِّ، وبلغ من العمر خمسًا وتسعين سنة [وأعد لنفسه قبرًا وكَفَنًا قبل موته بخمس سنين]، رحمه الله.
أبو سعد المتولِّي
(6)
عبد الرحمن بن المأمون بن علي، أبو سعد المتولِّي.
مصنّف "التتمة"
(7)
، ومدرّس النظاميّة، بعد الشيخ أبي إسحاق الشِّيرازي. وكان فصيحًا بليغًا، ماهرًا بعلوم كثيرة. كانت وفاته في شوال من هذه السنة عن ثنتين وخمسين سنة، رحمه الله، وصلّى عليه القاضي أبو بكر الشاشي ودفن بباب أبرز.
[إمام الحرمين]
(8)
عبد الملك ابن [الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن
(1)
المنتظم (9/ 17)، تاريخ الإسلام (10/ 419).
(2)
في (ط): "الزوايا" بالزاي، خطأ (بشار).
(3)
في (ط): "الحسن"، محرف، وما أثبتناه يعضده ما في المنتظم وتاريخ الإسلام (بشار).
(4)
المنتظم (9/ 17)، تاريخ الإسلام (10/ 420).
(5)
أي تكتب إليه: عبده وخادمه، كما في المنتظم.
(6)
المنتظم (9/ 18)، الكامل في التاريخ (10/ 146)، وفيات الأعيان (3/ 133)، طبقات السبكي (5/ 106)، سير أعلام النبلاء (18/ 585)، شذرات الذهب (3/ 358).
(7)
بهذا الكتاب تمم الإبانة لشيخه أبي القاسم الفوراني، وقد تقدمت ترجمته مع وفيات سنة 461 من هذا الجزء.
(8)
المنتظم (9/ 18)، معجم البلدان (2/ 93)، الكامل في التاريخ (10/ 145)، وفيات الأعيان (3/ 167)، طبقات السبكي (5/ 165)، سير أعلام النبلاء (18/ 468)، النجوم الزاهرة (5/ 121)، شذرات الذهب (3/ 358). "والجويني" بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء وفي آخرها النون، نسبة إلى جوين، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة.
محمد، بن حَيّويه، أبو المعالي الجُويْني، وجُوين: من قرى نَيْسابور، الملقّب بمامام الحرمين لمجاورته مكّة أربع سنين.
كان مولده في سنة تسع عشرة وأربعمئة. سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني، ودرّس بعده في حلقته، وتفقّه على القاضي حسين، ودخل [بغداد وتفقّه] بها، وروى بها الحديث، وخرج إلى مكّة فجاور فيها [أربع سنين]، ثمّ عاد إلى نَيسابور فسُلِّم إليه التدريس والخطابة والوعظ، وصنّف "نهاية المطلب في دراية المذهب"، و"البرهان في أصول الفقه" وغير ذلك في علوم شتّى، واشتغل عليه الطَّلبة، ورحلوا إليه في الأمصار، وكان يحضر مجلسه ثلاثمئة متفقّه، وقد استقصيت ترجمته في "الطبقات".
وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وخمسين سنة، ودفن بداره ثمّ نقل إلى جانب والده، رحمه الله تعالى.
قال ابن خلِّكان: كانت أمُّه جارية اشتراها أبوه من كسب يده من النسخ وأمرها أن [لا تدع أحدًا] يرضعه غيرها، واتفق أن امرأة دخلت عليهم فأرضعته مرة، فأخذه الشيخ أبو محمّد [فنكسه] فوضع يده على بطنه، [ووضع أصبعه في حلقه] ولم يزل به حتى استقاء كلّ ما كان في بطنه من لبنها. قال: ربّما حصل لإمام الحرمين في بعض مجالس المناظرة فتور [ووقفة] فيقول: هذا من آثار تلك الرضعة. قال: ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلّم إليه المحراب والمنبر والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة، وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، وصنّف في كلّ فن، من ذلك "النهاية" التي ما صنّف في الإسلام مثلها.
قال أبو جعفر الحافظ
(1)
: سمعت الشيخ أبا إسحاق الفيروزآبادي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد [أهل] المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئِمّةِ. ومن تصانيفه:"الشامل في أصول الدين"، و"تلخيص التقريب"، و"الإرشاد" و"العقيدة النظامية"، و"غياث الأمم"، و"غياث الخلق" وغير ذلك مما أتمّه، ومما سمّاه ولم يتمّه، قال: ولما مات في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمئة صلّى عليه ولده أبو القاسم، وغلقت الأسواق؛ وكسّر تلاميذه أقلامهم ومحابرهم - وكانوا أربعمئة - ومكثوا كذلك سنة. وقد رثي بمراثٍ كثيرة، فمن ذلك قول بعضهم:
قلوبُ العالمينَ على المقَالي
…
وأيامُ الورى مثلُ
(2)
الليالي
(1)
هو أبو جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني.
(2)
في (ط): شبه.
أيثمر غصنُ أهلِ العلمِ يومًا
…
وقد ماتَ الإمامُ أبو المعالي
محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد
(1)
[أبو علي] ابن الوليد.
شيخ المعتزلة، كان يدرِّس لهم، فأنكر ذلك أهل السنَّة عليهم، فلزم بيته خمسين سنة، إلى أن توفي في ذي الحجة من هذه السنة، ودفن في مقبرة الشونيزية، وهذا هو الذي تناظر هو والشيخ أبو يوسف القزويني المعتزلي المفسّر في إباحة الولدان في الجنّة، [وأن يباح لأهل الجنة وطء الولدان في أدبارهم]، كما حكى ذلك ابن عقيل عنهما، وكان حاضرهما. فمال هذا إلى إباحة ذلك لكونه مأمون المفسدة هنالك، وقال أبو يوسف: إن هذا لا يكون لهم [لا في الدنيا ولا في الآخرة] ومن أين لك أن يكون لهم أدبار؟ وهذا العضو إنما خلق في الدنيا مخرجًا للأذى [لحاجة العباد إليه] وليس في الجنة شيء من ذلك [وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم، فإذا هم ضمر فلا يحتاجون أن يكون لهم أدبار] فلا يكون لهذه المسألة صورة بالكلّية، وقد روى هذا الرجل حديثًا واحدًا عن شيخه أبي الحسين البصري بسنده المتقدم، من طريق شعبة، عن منصور، عن رِبْعي بن حِراش، عن أبي مسعود البدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"
(2)
. وقدرواه القَعْنبي، عن شعبة، ولم يرو عنه سواه. فقيل: لأنّه لما رحل. إليه دخل عليه، وهو يبول على البالوعة، فسأله أن يحدِّثه، فروى له هذا الحديث كالواعظ له، والتزم أن [لا] يحدثه بغيره، وقيل: لأن شعبة مرّ على القَعْنبي قبل أن يشتغل بعلم الحديث، وكان إذ ذاك يعاني الشراب، فسأله أن يحدثه فامتنع، فسلّ سكِّينا، وقال: إن لم تحدثني، وإلا قتلتك، فحدّثه، فتاب وأناب ولزم مالكًا، ثم فاته السماع من شعبة، فلم يتفق له غير هذا الحديث.
أبو عبد الله الدّامَغَانيّ
(3)
[القاضي]، محمد بن علي (بن محمد)
(4)
بن الحسين بن عبد الملك بن
(1)
المنتظم (9/ 20)، الكامل في التاريخ (10/ 145)، المغني في الضعفاء (2/ 548)، سير أعلام النبلاء (18/ 489)، الوافي بالوفيات (20/ 84)، النجوم الزاهرة (5/ 121)، شذرات الذهب (3/ 362).
(2)
في سند هذا الحديث ثلاثة ضعفاء: أبو علي بن الوليد المترجم، وشيخه أبو الحسين البصري، وشيخ شيخه هلال الرأي، أما متن الحديث فصحيح من طريق آخر، فهو عند البخاري (6120)، وأبي داود (4797) وابن ماجه (4183).
(3)
تاريخ بغداد (3/ 109)، المنتظم (9/ 22)، الكامل في التاريخ (10/ 146)، سير أعلام النبلاء (18/ 485)، الفوائد البهية (182)، الوافي بالوفيات (4/ 39)، النجوم الزاهرة (5/ 121)، شذرات الذهب (3/ 362).
ونسبته إلى دامغان: بفتح الدال وسكون الألف، وفتح الميم والغين المعجمة وسكون الألف وبعدها نون، وهي بلدة كبيرة بين الري ونيسابور. معجم البلدان (2/ 433).
(4)
ما بين الحاصرتين لابد منه اتفقت عليه جميع المصادر (بشار).
عبد الوهاب بن حموية
(1)
الدّامغاني، الحنفي، قاضي القضاة ببغداد.
مولده في سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة، وتفقّه ببلده، ثمّ قدم بغداد في سنة ثماني عشرة وأربعمئة، فتفقّه بها على أبي عبد الله الصَّيمَري، وأبي الحسن القُدوري، وسمع الحديث منهما ومن ابن النقور والخطيب وغيرهم. وبرع في الفقه، وكان له عقل وافر، وتواضع زائد، وانتهت إليه رئاسة الففهاء، وكان فَصيح العبارة، وكان فقيرًا في ابتداء طلبه [عليه أطمار رثَّة] ثم صارت إليه الرئاسة والقضاء بعد ابن ماكولا في سنة تسع وأربعين، وكان القائم بأمر الله يكرمه، والسلطان طُغْرُلْبَك يعظِّمه، وباشر الحكم ثلاثين سنة في غاية السيرة الحسنة، والأمانة والديانة ومرض أيامًا يسيرة، ثمّ توفي في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة وقد ناهز الثمانين، ودفن بداره بدرب القلايين
(2)
، ثمّ نقل إلى مشهد أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن المطَّلب
(3)
أبو سعد الأديب.
كان قد قرأ النحو واللّغة والأدب والسير وأخبار النّاس، ثمّ أقلع عن ذلك كلِّه، وأقبل على كثرة الصَّلاة والصَّدقة والصوم إلى أن توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي طاهر العبّاسي
(4)
يعرف بابن الرجيحي
(5)
، تفقه على ابن الصبّاغ، وناب في الحكم، وكان محمود الطريقة، شهد أولًا عند ابن الدامغاني فقبله.
مَنْصور بن دُبَيْس بن علي بن مَزْيَد
(6)
أبو كامل، الأمير بعد سيف الدولة صدقة.
[كان كثير الصلاة والصدقة]، توفي في رجب هذه السنة، وقد كان له شعر وأدب وفضيلة، فمن شعره قوله:
إذا
(7)
أنا لم أحْمل عظيمًا ولم أقُدْ
…
لُهامًا ولم أصبر على كلِّ معظَمِ
(1)
في السير: حَسْوية، وفي الوافي: حسنوية، وثمة اختلاف يسير في أسماء آبائه في المصادر، وما هنا موافق لما في النجوم الزاهرة.
(2)
في (ط): العلايين، خطأ.
(3)
المنتظم (9/ 24)، سير أعلام النبلاء (18/ 490).
(4)
المنتظم (9/ 24).
(5)
هكذا في النسخ، وفي المنتظم:"المرجي"، ولعل الصواب:"الرخجي".
(6)
المنتظم (9/ 25)، الكامل في التاريخ (10/ 150)، تاريخ الإسلام (10/ 450). وقد ذكره المؤلف في وفيات هذه السنة متابعة منه لابن الجوزي في المنتظم. أما ابن الأثير والذهبي فذكرا وفاته في التي بعدها (بشار).
(7)
في (ط) والكامل: فإن.
ولم أحجزِ الجاني وأمنعْ جَورَه
(1)
…
غداةَ أنادي للفخارِ وأنتمي
فلا نهضت بي همّةٌ عربيةٌ
…
إلى المجدِ ترقى بي ذرا كلِّ مخدم
(2)
هِبةُ الله بن أحمد بن السِّيْبي
(3)
مؤدّب الخليفة المقتدي بأمر الله، سمع الحديث، وتوفي في محرم هذه السنة وقد جاوز الثمانين، وله شعر جيد، فمنه قوله:
رجوتُ الثمانينَ من خالقي
…
لِما جاءَ فيها عنِ المصطفى
فَبَلَّغَنِيها فشكرًا لَهُ
…
وزادَ ثلاثًا بها أرْدَفا
وإني
(4)
لمنتظرٌ وَعْدَهُ
…
لينجزَهُ فهو أهلُ الوَفا
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمئة
(5)
وفيها: كانت الوقعة بين تتش صاحب دمشق وبين سليمان بن قتلمش صاحب حلب وأنطاكية وتلك الناحية، فانهزم أصحاب سليمان، وقتل هو نفسه بخنجر كانت معه، فسار السلطان ملك شاه من أصبهان إلى حلب فملكها، وملك ما بين ذلك من البلاد التي مرّ بها، هي حزان، والرُّها، وقلعة جعبر، وكان جعبر شيخًا كبيرًا قد عمي، وله ولدان، وكان قطاع الطريق يلجؤون إليها فيتحصّنون بها، [فراسل السلطان سابق بن جعبر في تسليمها، فامتنع عليه، فنصب عليه المجانيق والعرّادات ففتحها، وأمر بقتل سابق، فقالت زوجته: لا تقتله حتى تقتلني معه، فألفاه من رأسها فتكسر، ثمّ أمر بتوسيطه بعد ذلك]
(6)
. فألقت زوجته نفسها وراءه فسَلِمت، فلامها بعض الناس في ذلك، فقالت: كرهت أن يصل إليّ التركي، فيبقى ذلك عارًا عليّ، فاستحسن منها ذلك. واستناب السلطان على حلب قسيم الدولة آقسنقر التركي، وهو جد نور الدين الشهيد، واستناب على الرحبة، وحرّان، والرقّة، وسروج، والخابور محمد بن شرف الدولة مسلم، وزوجه بأخته زليخا خاتون، وعزل فخر الدولة بن جَهير عن ديار
(1)
في (ب) والكامل: ولم أجر الجاني وأمنع حوزه.
(2)
في (ب) و (ط): محرم.
(3)
الإكمال (4/ 514)، الأنساب (7/ 216)، المنتظم (9/ 25)، الكامل في التاريخ (10/ 146)، توضيح المشتبه (5/ 23).
والسِّيبي بكسر المهملة، وسكون المثناة تحت، تليها موحدة. نسبة إلى بلد السِّيب، وهو على الفرات بقرب الحلّة.
(4)
في المنتظم: وها أنا.
(5)
في (ب) تصحيح للعنوان السابق وهو سنة إحدى وسبعين. وهذا الخطا في العنوان بدأ من أول هذا الجزء مع مسايرة الأحداث والتراجم لنسخة (أ) و (ط).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
بَكَر، وسلّمها إلى العميد أبي علي البلخي، وخلع على سيف الدولة صَدقة بن دبيس الأسدي، وأقرّه على عمل أبيه، ودخل بغداد في ذي القعدة من هذه السنة، وهي أول دخلة دخلها، فزار المشاهد والقبور، ودخل على الخليفة فقبّل يده، ووضعها على عينيه، وخلع عليه الخليفة خلعَة سنيّة، وفوّض إليه أمور الناس، واستعرض الخليفة أمراءه، ونظام الملك واقف بين يدي الخليفة يعرّفه بالأمراء واحدًا [بعد واحد] باسمه، وكمِّ جيشه وإقطاعه، ثم خرج السلطان فنزل بمدرسة النظامية [ولم يكن رآها قبل ذلك] فاستحسنها، إلا أنّه استصغرها، واستحسن أهلها [ومن بها، وحمد الله، وسأل الله أن يجعل ذلك خالصًا لوجهه الكريم]
(1)
، ونزل بخزانة كتبها، وأملى جزءًا من مسموعاته، فسمعه المحدثون منه، وورد الشيخ أبو القاسم علي بن أبي الحسين الحسيني الدَّبوسي
(2)
إلى بغداد في تجمّل عظيم، فرتّبه مدرسًا بالنظامية بعد أبي سَعْد
(3)
المتولّي.
[وفي ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذِّن فيها
(4)
].
وفي هذه السنة: كانت زلازل [هائلة] بالعراق والجزيرة والشام فهدمت شيئًا كثيرًا من العمران [وخرج أكثر الناس إلى الصحراء ثمّ عادوا].
وحجّ بالناس الأمير خمارتكين الجستاني
(5)
، وقطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة، وقلعت الصفائح التي على باب الكعبة التي عليها ذكر [الخليفة] المصري وجدّد غيرها عليها [وكتب عليها] اسم المقتدي.
قال ابن الجوزي
(6)
: وظهر رجل بين السندية وواسط. يفطع الطريق وهو مقطوع اليد اليسرى، يسرع بفتح الأقفال في أسرع مدّة، ويغوص دجلة في غوصتين، ويقفز القفزة خمسة وعشرين ذراعًا، ويتسلّق الحيطان الملس ولا يقدر عليه أحد، وخرج من العراف سالمًا.
قال: وفيها توفي فقير يسأل الناس في جامع المنصور، فوجد في مرقعته ستمئة دينار مغربيّة.
قال: وفيها: عمل سيف الدولة صدقة، سماطًا للسلطان [جلال الدولة أبي الفتح] ملكشاه،
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
هو الشيخ أبو القاسم، علي بن المظفر بن حمزة بن زيد الدَّبوسي. سترد ترجمته مع وفيات سنة 482 من هذا الجزء.
(3)
في بعض النسخ: "سعيد"، خطأ، وما هنا من (ط)، وتقدمت ترجمته قبل قليل (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ط): "الحسناني"، وقد تقدم قبل قليل التعليق على هذه النسبة (بشار).
(6)
بعد هذا في (ط): "أي صحاحًا كبارًا من أحسن الذهب"، وهي من إضافة بعض النساخ أو القراء، وإنما ينقل المؤلف من المنتظم وليس فيه ذلك (بشار).
اشتمل على ألف رأس من الغنم، ومئة من الجمال والخيل، وعشرين ألف دجاجة، ودخله [عشرون] ألف منٍّ من السكر [وجعل عليه] من أصناف الطيور والوحوش من السكر شيء كثير، فتناول السلطان [بيده منه] شيئًا يسيرًا، ثمَّ أشار فانتهب عن آخره، ثمّ انتقل من ذلك المكان إلى سرادق عظيم له لم ير مثله من الحرير، وفيه خمسمئة قطعة من فضة وذهب وألوان من تماثيل الندّ والمسك والعنبر وغير ذلك، فمدّ فيه سماطًا خاصًا، فأكل السلطان حينئذ، وحمل إليه عشرين ألف دينار، وقدم له ذلك السرادق بكماله فانصرف.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الأمير جَعْبَر بن سابق القُشيريّ
(1)
الملقب بسابق الدين.
كان قد تملك قلعة جعبر مدة طويلة فنسبت إليه [وإنما كان يقال لها قبل ذلك الدُّوسرية، نسبة إلى غلام النعمان بن المنذر، ثمّ إن هذا الأمير كبر وعمي]
(2)
. وكان له ولدان يقطعان الطريق فاجتاز السلطان ملكشاه بن ألْب آرْسَلان السلجوقي وهو ذاهب إلى حلب فاستنزله منها، وقتله، وأخذها منهم.
الأمير ختلغ
(3)
أمير الحاج.
[كان مُقْطَعًا للكوفة]، وله وقَعات مع العرب، أعربت عن شجاعته، وأرعبت قلوبهم وشرّدتهم في البلاد شذر مذر، وقد كان حسن السيرة، محافظًا على الصلوات، كثير التلاوة، وله آثار حسنة في طريق مكّة، في إصلاح المصانع والأماكن التي يحتاج إليها [الحجاج وغيرهم [وله] مدرسة على الحنفية بمشهد يونس بالكوفة، وبنى مسجدًا بالجانب الغربي من بغداد على دجلة بمشرعة الكرخ، وكانت وفاته [في جمادى الأولى] من هذه السنة، رحمه الله تعالى. ولما بلغ نظام الملك وفاته قال: مات ألف رجل.
علي بن فَضَّالٍ المُجَاشعيّ
(4)
أبو على
(5)
النحوي المغربي.
(1)
المنتظم (9/ 31)، الكامل في التاريخ (10/ 149)، وفيات الأعيان (1/ 363)، معجم البلدان (2/ 142)، سير أعلام النبلاء (18/ 552).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
المنتظم (9/ 33)، الكامل في التاريخ (10/ 163)، وفيه اسمه: قتلغ: ووفاته في سنة 480.
(4)
المنتظم (9/ 33)، الكامل في التاريخ (10/ 159)، سير أعلام النبلاء (28/ 518)، النجوم الزاهرة (5/ 124).
والمجاشعي: بضم الميم وفتح الجيم وسكون الألف وكسر الشين المعجمة والعين المهملة، نسبة إلى مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم. وقد تحرفت في (ط) إلى: المشاجعي.
(5)
كذا كنيته في الأصل و (ط)، وفي المنتظم والكامل وغيرهما:"أبو الحسن"، وهو الصواب.
له المصنّفات الدالّة على علمه وغزارة فهمه، [وأسند الحديث، توفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن بباب أبرز]
(1)
، رحمه الله.
علي بن أحمد التُّستَري
(2)
كان مقدّم أهل البصرة في المال [والجاه] وله مراكب تعمل في البحر، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفرّد برواية "سنن" أبي داود، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة.
يحيى بن (الحسين)
(3)
إسماعيل الحسيني
(4)
.
كان فقيهًا على مذهب زيد بن علي بن الحسين، وعنده معرفة بالأصول والحديث.
ثم استهلَّت سنة ثمانين وأربعمئة
في المحرم منها نقل جهاز [ابنة] السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة المكرمة على مئة وثلاثين جملًا مجلّلة بالديباج الرومي عليها أواني الذهب والفضّة، وعلى أربع وسبعين بغلًا مجفلة بأنواع الديباج الملكي [وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضّة] وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقًا من فضة فيها [أنواع من] الجواهر والحليّ، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسًا عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر، ومَهْد عظيم مجلّل بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب مرصع بالجواهر، [وبعث الخليفة لتلقِّيهم الوزير أبا شجاع، وبين يديه نحو من ثلاثمئة موكبيّة غير المشاعل لخدمة الست خاتون امرأة السلطان، تركان خاتون
(5)
حماة الخليفة، وسألها أن تحمل الوديعة الشريفة إلى دار الخلافة، فأجابت إلى ذلك، فحضر الوزير نظام الملك وأعيان الأمراء]
(6)
وبين أيديهم من الشموع والمشاعل ما لا يحصى [وجاءت نساء الأمراء، كل واحدة في جماعتها وجواريها] ثمّ جاءت الخاتون ابنة السلطان زوجة الخليفة بعد الجميع في محفّة مجلّلة، وعليها من الذَّهب والجواهر ما لا يُحصى قيمته
(7)
، [وقد أحاط بالمحفّة مئتا جارية تركية
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم (9/ 33)، الكامل في التاريخ (10/ 159)، سير أعلام النبلاء (18/ 481)، شذرات الذهب (3/ 363).
والتُّسْتَري: بضم التاء وسكون السين وفتح التاء وكسر الراء، نسبة إلى تستر: أعظم مدينة بخوزستان، وهي تعريب شوشتر. معجم البلدان (2/ 29). وقد تحرفت هذه النسبة في (أ) إلى: القشيري، وفي الكامل إلى: الشيري.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من المنتظم وتاريخ الإسلام لابد منها.
(4)
المنتظم (9/ 35)، تاريخ الإسلام (10/ 451).
(5)
في (ب): تركان شاه.
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
(7)
من قوله: وجاءت نساء الأمراء .. إلى هنا ساقط من (ب) وما بعدها زيادة من (ب) و (ط).
بالمراكب المزيَّنة العجيبة مما يبهرن الأبصار]، فدخلت دار الخلافة على هذه الصفة، وكانت ليلة مشهودة هائلة جدًّا. [وقد زُيّن الحريم الطاهري وأشعلت فيه الشموع]
(1)
فلما كان من الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان، ومدّ سماطًا لم يُرَ مثله عمَّ الحاضرين والغائبين، وخلع على الخاتون زوجة السلطان [أم العروس] وكان يومًا مشهودًا. [وكان السلطان متغيبًا في الصيد ثمّ قدم بعد أيام، وكان الدخول بها في أول السنة]
(2)
، فولدت من الخليفة [في ذي القعدة] ولدًا ذكرًا زيَّنت له بغداد
(3)
.
وفي هذه السنة: ولد للسلطان ملكشاه ولد سماه: محمودًا، وهو الذي ملك بعده.
وفيها: جعل السلطان ولده أبا شجاع أحمد وليًّا للعهد من بعده، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، تاج الملّة، عدة أمير المؤمنين، وخطب له بذلك على منابر بغداد وغيرها، ونثر الذهب على الخطباء عند ذكر اسمه.
وفيها: شرع في بناء التاجية بباب أبرز [وعملت بستان وغرست النخيل والفواكه هنالك] وعمل سور بأمر السلطان ملكشاه.
وحجّ بالناس في هذه السنة نجم الدولة خمارتكين.
وممن توفي في هذه السنة:
إسماعيل بن عبد الله
(4)
بن موسى بن سعيد
(5)
أبو القاسم النيسابوري، رحل في طلب الحديث إلى الآفاق حتى جاوز ما وراء النهر، وكان له حظ وافر في علم الأدب ومعرفة العربثة، توفي بنيسابور في [جمادى الأولى] من هذه السنة.
طاهر بن الحسين البَنْدَنِيْجي
(6)
أبو الوفاء، الشاعر المبرّز، له قصيدتان في مدح نظام الملك إحداهما معجمة، والأخرى غير منقوطة أولها:
لامُوا ولو علمُوا ما اللّومُ ما لامُوا
…
ورَدّ لومهُمُ هَمٌّ وآلامُ
وكانت وفاته ببلده في رمضان عن نيف وسبعين سنة، رحمه الله تعالى.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
ذكر ابن الأثير (10/ 162): أن الخليفة سماه جعفرًا، وكناه أبا الفضل.
(4)
في (ط): "إبراهيم" غلط محض، والتصويب من بعض النسخ ومصادر ترجمته كافة (بشار).
(5)
المنتظم (9/ 39)، الكامل في التاريخ (10/ 163)، تاريخ الإسلام (10/ 453).
(6)
المنتظم (9/ 39)، الكامل في التاريخ (10/ 163).
محمد بن أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله
(1)
عَرَض له جدري فمات وله تسع سنين، فحزن والده والناس، [وجلسوا للعزاء فأرسل إليهم] يقول: إنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة حين توفي ابنه إبراهيم. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ثم [عزم] على الناس فانصرفوا إلى منازلهم.
محمد بن محمد بن زيد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
(2)
، أبو الحسن الحسيني، الملقب بالمرتضى ذي الشرفين.
ولد سنة خمس وأربعمئة ببغداد ونشأ بها، وسمع الحديث الكثير، وقرأ بنفسه على الشيوخ، وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب، فصارت له معرفة جيدة بالحديث، وسمع عليه الخطيب شيئًا من مرويّاته، ثمّ انتقل إلى سمرقند، وأملى الحديث بأصبهان [وغيرها]، وكان يرجع إلى عقلٍ كاملٍ، وفضل ومروءةٍ، وكانت له أموالٌ جزيلةٌ، وأملاك متَّسعةٌ، ونعمةٌ وافرةٌ. يقال: إنَّه ملك أربعين قرية، وكان كثير الصدقات [والبرّ والصلة] للعلماء والفقراء، وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير زكاة العشور، وكان له بستان ليس لملك مثله، فطلبه منه ملك ما وراء النهر واسمه الخضر بن إبراهيم، عارية ليتنزّه فيه، فأبى عليه وقال: أعيره إيّاه ليشرب فيه الخمر بعدما كان مأوى أهل العلم والدين والحديث، فأعرض عنه [السلطان] وحقد عليه، ثمّ استدعاه إليه ليستشيره في بعض الأمور على العادة، فلما حصل عنده، قبض عليه، وسجنه في قلعته، واستحوذ على جميع أملاكه وأمواله وحواصله، فكان يقول: ما تحققت صحّة نسبي إلا بهذه المصادرة، فإني رُبِّيتُ في النَّعيم، فكنت أقول: إن مثلي لا بُدَّ أن يُبتلى. ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات رحمه الله في القلعة، فأخرجوه فدفنوه هناك، فقبره يزار، أكرم الله مثواه.
محمد بن هلال بن المُحَسِّن
(3)
بن إبراهيم
(4)
أبو الحسن الصابئ، الملقب بغَرْسِ النعمة.
سمع أباه وأبا علي بن شاذان، وكانت له صدقة [كثيرة] ومعروف، وقد ذيّل على تاريخ أبيه الذي ذيّله على تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيّله على تاريخ ابن جرير الطبري. وقد أنشأ دارًا ببغداد، وقف فيها أربعة آلاف مجلّد في فنون من العلم، وترك حين مات سبعين ألف دينار، ودفن بمشهد علي رضي الله عنه ورحمه.
(1)
المنتظم (9/ 40).
(2)
المنتظم (9/ 40)، سير أعلام النبلاء (18/ 520)، الوافي بالوفيات (1/ 143)، شذرات الذهب (3/ 365).
(3)
في (ط): "الحسن"، وهو تحريف جد ظاهر، فهم معروفون مشهورون (بشار).
(4)
المنتظم (9/ 42)، الكامل في التاريخ (10/ 163)، وفيات الأعيان (2/ 167)، سير أعلام النبلاء (18/ 481)، شذرات الذهب (3/ 279).
هبة الله بن علي بن محمد بن أحمد بن المُجْلي
(1)
أبو نصر.
جمع خطبًا ووعظًا، وسمع الحديث على خلق من المشايخ، وتوفي شابًا قبل أوان الرواية، رحمه الله.
أبو بكر بن عمر أمير الملثّمين
(2)
.
كان في أرض غانة
(3)
اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، وكان يركب معه إذا سار لقتال العدوّ خمسمئة ألف مقاتل، كلّ يعتقد طاعته، وكان يقيم الحدود، ويحفظ محارم الإسلام [ويحوط الدين] ويسير في الناس سيرة شرعية مع صحّة معتقده [ودينه] وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشَّابة في بعض حروبه، فجاءته في حلقه فقتلته في هذه السنة.
فاطمة بنت علي المؤدِّبة الكاتبة
(4)
وتُعرف ببنت الأقرع.
سمعت الحديث من أبي عمر بن مَهدي وغيره، وكانت تكتب الخطّ المنسوب على طريقة ابن البواب
(5)
، ويكتب الناس عليها، وبخطّها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد الملك الكُنْدُري رقعة فأعطاها ألف دينار، توفيت في [المحرم] ببغداد في هذه السنة ودفنت بباب أبرز.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمئة
فيها: كانت فتن عظيمة ببغداد بين الروافض والسنّة، وجرت خطوب كثيرة.
وفي [ربيع الأول] أخرجت الأتراك من حريم الخلافة، وهذا فيه قوة للخلافة.
وفيها: ملك مسعود بن الملك المؤيد بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكِين بلاد غزنة بعد أبيه.
(1)
المنتظم (9/ 43)، توضيح المشتبه (8/ 59)، شذرات الذهب (3/ 392)، مع من توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمئة.
(2)
المنتظم (9/ 43)، الكامل في التاريخ (9/ 618 - 622)، وفيات الأعيان (7/ 113)، سير أعلام النبلاء (18/ 425) وفيه وفاته سنة اثنتين وستين وأربعمئة، وإنما تابع المؤلف ابن الجوزي في المنتظم.
(3)
في (ط): "فرغانة" وهو غلط فاحش، والصواب ما أثبتناه، وهي بلد معروف بإفريقية. (بشار).
(4)
المنتظم (9/ 40)، الكامل في التاريخ (10/ 163)، سير أعلام النبلاء (18/ 480) وفيها اسمها: بنت الحسن بن علي البغدادي، وإنما تابع المؤلف ابن الجوزي، وهو كثير الأوهام.
(5)
هو علي بن هلال بن البواب، تعانى الكتابة، ففاق الأولين والآخرين فيها. وردت ترجمته مع وفيات سنة 413.
وفيها: فتح ملكشاه مدينة سمرقند، وحج بالناس الأمير خمارتكين، وممن حجّ فيها الوزير أبو شجاع واستناب ولده أبا منصور وطِراد بن محمد [الزَّيْنبي].
وممن توفي فيها من الأعيان:
اْحمد بن السلطان ملكشاه
(1)
كان ولي عهد أبيه، توفي وعمره إحدى عشرة سنة، فمكث الناس في العزاء سبعة أيام [لم يركب أحد فرسًا]، والنساء ينحن في الأسواق عليه، [وسوّد أهل البلاد التي لأبيه أبوابهم].
عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن جعفر
(2)
[أبو إسماعيل]، الأنصاري الهرويّ، روى الحديث وصنّف، وكان كثير السّهر باللّيل، وكانت وفاته بهراة في ذي الحجة عن ست وثمانين سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمئة
في المحرم درّس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجيّة بباب أبرز، وكان قد أنشأها الصاحب تاج الملك
(3)
أبو الغنائم على الشافعيّة.
وفيها: كانت فتنة عظيمة بين الروافض والسنّة، ورفعوا المصاحف وجرت حروب طويلة وقتل خلق كثير. نقل ابن الجوزي في "المنتظم"
(4)
من خطّ ابن عقيل: أنه قتل في هذه الفتنة قريب من مئتي رجل، قال: وسبّ أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتفعوا إلى سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلعنة الله على أهل الكرخ الذين فعلوا ذلك - وإنما حكيت هذا ليعلم الواقف عليه ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله والعداوة الكافية في قلوبهم لله ولرسوله ولشريعته.
وفيها: ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر وطائفة كثيرة من تلك الناحية بعد حروب عظيمة ووقعات هائلة.
وفيها: استولى جيش المصريين على عدة من بلاد الشام.
[وفيها: عمرت منارة جامع حلب.
(1)
الكامل في التاريخ (10/ 69).
(2)
المنتظم (9/ 44)، الكامل في التاريخ (10/ 168). قال بشار: قصَّر في ترجمته لمتابعته ابن الجوزي، وسقط عند ابن الجوزي من نسبه قبل جعفر:"أحمد"، وله في تاريخ الإسلام ترجمة رائقة (10/ 489 - 495).
(3)
في (ب) و (ط): الدين.
(4)
(9/ 48).
وفيها: أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تشكو إلى أبيها إعراض الخليفة عنها، فبعث إليها أبوها الطواشي صواب والأمير مران ليرجعاها إليه، فأجاب الخليفة إلى ذلك، وبعث معها بالنقيب وجماعة من أعيان الأمراء، وخرج ابن الخليفة أبو الفضل والوزير فشيعاها إلى النهروان، وذلك في ربيع الأول، فلما وصلت إلى أبيها توفيت في شوال من هذه السنة بأصبهان، فعمل عزاؤها ببغداد سبعة أيام، وأرسل الخليفة إلى السلطان أميرين لتعزيته فيها]
(1)
.
وحجّ بالناس في هذه السنة خمارتكين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الصمد بن أحمد بن علي المعروف بظاهر
(2)
النيسابوري الحافظ.
رحل وسمع الكثير، وخرّج، عاجله الموت في هذه السنة بهمَذان وهو شاب، رحمه الله تعالى.
علي بن أبي يعلى بن زيد
(3)
أبو القاسم الدبوسيّ، مدرس النظامية بعد المتولي.
وقد سمع شيئًا من الحديث، وكان فقيهًا ماهرًا، وجدليًا باهرًا.
عاصم بن الحَسَن
(4)
بن محمد بن علي بن عاصم بن مهران
(5)
أبو الحسين العاصِميّ.
وهو من أهل الكَرْخ، سكن باب الشعير [ولد] سنة سبع وتسعين [وثلاثمئة] وكان من أهل الفضل والأدب، وسمع الحديث من الخطيب وغيره، وكان ثقة حافظًا، ومن شعره الجيد قوله:
لَهفي على قومِ بكاظمةٍ
…
ودّعتُهم والركبُ مُعتَرضُ
لم تترك العبراتُ مذ بعدوا
…
لي مقلةً ترنُو وتغتمضُ
رحلوا فدمعي واكفٌ هطلٌ
(6)
…
جار وقلبي حشوهُ مَرضُ
وتعوّضوا لاذقتُ فقدهمُ
…
عنّي ومالي عنهم عِوَضُ
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم (9/ 50)، تاريخ الإسلام (10/ 508 - 509)، ووقع في (ط):"طاهر" بالطاء، المهملة وهو تصحيف.
(3)
المنتظم (9/ 50)، الكامل في التاريخ (10/ 181)، طبقات السبكي (5/ 296)، سير أعلام النبلاء (19/ 91)، النجوم الزاهرة (5/ 129).
(4)
في بعض النسخ: "الحسين"، وما هنا من (ط) ويعضده ما جاء في مصادر ترجمته كافة. وقد ترجمه الذهبي ومن تابعه في وفيات سنة (583) كما في السير وتاريخ الإسلام (10/ 521).
(5)
المنتظم (9/ 51)، الكامل في التاريخ (10/ 180)، سير أعلام النبلاء (18/ 598)، النجوم الزاهرة (5/ 128)، شذرات الذهب (3/ 368).
(6)
في (ب) و (ط) والمنتظم: رحلوا فطر في دمعه هطل.
أقرضتُهم قلبي على ثقةٍ
…
منهم فما ردُّوا الذي اقترضوا
محمد بن أحمد بن حامد بن عُبيد
(1)
أبو جعفر البخاري، المتكلّم، المعتزلي، أقام ببغداد، ويعرف بقاضي حلب.
وكان حنفي المذهب في الفروع، معتزليًا في الأصول، مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأصفهاني
(2)
المعروف [بابن] سَمْكُوية
(3)
.
أحد الحفّاظ الجوّالين الرحّالين، سمع الكثير، وجمع الكتب، وأقام بهراة، وكان رجلًا صالحًا، كثير العبادة، توفي رحمه الله بنيسابور في ذي الحجّة من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمئة
في المحرم ورد [إلى] الفقيه أبي عبد الله الطبري منشور نظام المُلْك بتدريس النظاميّة ببغداد، فدرّس بها، ثمّ في ربيع الأول. ورد الفقيه أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي بمنشور آخر منه بتدريسها، فاتفق الحال على أن يدرِّس هذا يومًا وهذا يومًا.
وفي جمادى الأولى دهم أهلَ البصرة رجل اسمه تِلْيا
(4)
كان ينظر في النجوم، فاستغوى خلقًا من أهلها، وزعم أنَّه المهدي، وأحرف من البصرة شيئًا كثيرًا، من ذلك دار كانت أول دار كتبٍ وقفت في الإسلام [لم يُرَ في الإسلام مثلها] وأتلف شيئًا كثيرًا من الدواليب والمصانع وغير ذلك.
وفيها: خلع على أبي القاسم علي بن طِراد الزَّينبي بنقابة العباسيين بعد أبيه.
وفيها: استفتي على معلمي الصبيان أن يمنعوا من المساجد صيانة لها [فأفتوا بمنعهم] ولم يستثن منهم سوى رجل كان فقيهًا شافعيًا، يدري كيف تصان المساجد، واستدلّ المفتي بقوله عليه السلام:"سدّوا كلّ خوخة إلا خوخة أبي بكر"
(5)
.
(1)
المنتظم (9/ 52)، سير أعلام النبلاء (18/ 586).
(2)
المنتظم (9/ 52)، سير أعلام النبلاء (19/ 16)، الوافي بالوفيات (2/ 88)، شذرات الذهب (3/ 367).
(3)
في (ط) إلى: مسلرفة.
(4)
في (ط): "بليا" مصحف، وما هنا يعضده ما في الكامل لابن الأثير (10/ 183 و 184)، وسيأتي على الصواب في حوادث السنة الآتية (بشار).
(5)
الحديث رواه البخاري (467) في الصلاة: باب الخوخة والممر في المسجد، وأحمد في المسند (1/ 270)، كلاهما بسندهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والخوخة: الفتحة والمنفذ.
وحجّ بالناس فيها خمارتكين على العادة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
الوزير أبو نصر بن جَهِير بن محمد بن محمد بن جهير
(1)
عميد الملك
(2)
.
أحد مشاهير الوزراء، وزر للقائم، ثمّ لولده المقتدي، ثمّ عزله السلطان ملكشاه، وولاه ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها، مات بالموصل في هذه السنة وهي البلدة التي ولد بها.
[وفيها: كان مقتل صاحب اليمن الصُّلَيحي وقد تقدم ذكره]
(3)
.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمئة
في المحرم منها كثب المنجّم الذي أحرق البصرة إلى أهل واسط يدعوهم إلى طاعته، ويذكر في كتابه: أنّه المهديّ، صاحب الزمان، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهدي الخلق إلى الحقّ، فإن أطعتم أمنتم من العذاب، وإن عدلتم عن الحقّ خُسِفَ بكم، فآمنوا بالله وبالإمام المهدي.
وفيها: ألْزِم أهل الذمّة [بلبس] الغيار وشدّ الزنّار، وكذلك نساؤهم في الحمِّامات وغيرها.
وفي جمادى الأولى قدم الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النظاميّة بها، ولقّبه نظام الملك: زين الدين، شرف الأئمة.
قال ابن الجوزي
(4)
: كان كلامه معسولًا، وذكاؤه شديدًا.
وفي رمضان منها عزل الوزير أبو شجاع عن وزارة الخلافة فأنشد عند عزله متمثلًا:
تولاها وليسَ له عدوٌّ
…
وفارقَها وليسَ له صديقُ
ثم جاء كتاب نظام المُلْك بأن يخرج من بغداد، فخرج [منها إلى عدة أماكن، فلم تطب له] فعزم على الحجّ [ثم طابت نفس النظام عليه فبعث عليه يسأله أن يكون عديله في ذلك]
(5)
وناب ابن
(1)
أورد المصنف هذه الترجمة تبعًا لابن الجوزي في المنتظم ولابن الأثير في الكامل دون تحقيق في سنة الوفاة، والصحيح أن ابن جهير قد توفي في سنة ثلاث وتسعين وأربعمئة، وسترد ترجمته ثمة.
(2)
في (ط): عميد الدولة.
(3)
زيادة من (ب) و (ط) وهي خطأ؛ إذ وردت ترجمة الصليحي مع وفيات سنة ثلاث وسبعين وأربعمئة من هذا الجزء.
(4)
المنتظم (9/ 55).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
الموصلايا في الوزارة
(1)
، وقد كان أسلم قبل هذه المباشرة، في أول هذه السنة.
وفي رمضان منها دخل السلطان ملكشاه بغداد ومعه الوزير نظام المُلْك، وقد خرج لتلقّيه قاضي القضاة أبو بكر الشاشي وابن الموصلايا المسلماني، وجاءت ملوك الأطراف للسلام عليه، منهم أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وأتابكه قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب.
وفي ذي القعدة خرج ملك شاه وابنه وابن ابنته من الخليفة في خلق كثير إلى الكوفة.
وفيها: استُوزر أبو منصور بن جَهير، وهي النوبة الثانية لوزارته للمقتدي، وخلع عليه، وركب إليه نظام المُلْك، فهناه في داره [بباب العامة].
وفي ذي الحجة عمل السلطان الميلاد في دجلة. وأشعلت نيران عظيمة، وأوقدت شموع كثيرة [وجمعت المطربات في السميريات] وكانت ليلة مشهودة [عجيبة] جدًّا، وقد نظم الشعراء فيها شعرًا، فلما أصبح النهار من هذه الليلة، جيء [بالخبيث المنجم الذي حرق البصرة] الداعية المدّعي أنّه المهدي تِلْيا المنجم محمولًا على جمل ببغداد [وجعل] يسبّ الناس والناس يلعنونه، وعلى رأسه طُرطُورٌ بودع، والدرّة تأخذه من كلّ جانب [فطافوا به بغداد]، ثمّ صُلِب بعد ذلك.
وفيها: أمر السلطان ملك شاه جلال الدولة بعمارة جامعه المنسوب إليه بظاهر السور.
وفي هذه السنة: ملك أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين صاحب بلاد المغرب كثيرًا من الأندلس
(2)
، وأسر صاحبها المعتمد بن عباد وسجنه وأهله بأغمات
(3)
، وقد كان المعتمد هذا موصوفًا بالكرم، والأدب والعلم، والحلم وحسن السيرة والعشرة، والإحسان إلى الرعيّة والرفق بهم، فحزن الناس عليه، [وقال في مصابه الشعراء فأكثروا]
(4)
.
وفيها: ملكت الفرنج [مدينة]، صِقلِّية من بلاد المغرب، ومات
(5)
ملكهم، فقام من بعده ولده، فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين وأحسن إليهم وكأنه منهم [لما ظهر منه من الإحسان إلى المسلمين].
(1)
ابن الموصلايا، وهو أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب، أسلم في هذه السنة حيث ألزم الخليفة أهل الذمة بلبس الغيار، ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الكامل في التاريخ (10/ 186).
(2)
الخبر بتمامه في الكامل لابن الأثير (10/ 187 - 193).
(3)
"أغمات": ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش. معجم البلدان (1/ 225).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
خبر امتلاك الفرنج جزيرة صقلّية في الكامل لابن الأثير (10/ 193 - 198).
وفيها: كانت زلازل كثيرة بالشام وغيرها، فهدَّمت بنيانًا كثيرًا، وكان من جملة ذلك تسعون برجًا من سور أنطاكية، وهلك تحت الهدم خلق كثير. وحجّ بالناس فيها خمارتكين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الرحمن بن أحمد بن عَلَّك
(1)
أبو طاهر.
ولد بأصبهان، وتفقّه بسمرقند، وهو الذي كان سبب فتحها على يدي السلطان ملك شاه، وكان من رؤساء الشافعيّة، وقد سمع الحديث الكثير.
قال عبد الوهّاب بن مَنْده: لم نرَ فقيهًا في وقتنا أنصف منه ولا أعلم، وكان فصيح اللَّهجة، كثير المروءة، غزير النعمة، وكانت وفاته ببغداد، فمشى الرؤساء والوزراء في جنازته، غير أن نظام المُلْك ركب واعتذر بكبر السنّ، ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان يومًا مشهودًا، وجاء السلطان ملك شاه إلى التربة. [قال ابن عقيل: جلست بكرة العزاء إلى جانب نظام المُلْك، والملوك قيام بين يديه، اجترأت على ذلك بالعلم، حكاه ابن الجوزي]
(2)
.
محمد بن أحمد بن علي
(3)
أبو نصر المَرْوزيّ.
كان إمامًا في القراءات، وله فيها المصنّفات، وسافر في ذلك كثيرًا، واتفق أنّه غرق في البحر في بعض أسفاره، فبينما الموج يرفعه ويضعه، إذ نظر إلى الشمس قد زالت، فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثمّ صعد، فإذا خشبة، فركبها وصلّى عليها، ورزقه الله السلامة ببركة الصلاة. [وامتثاله للأمر، واجتهاده على العمل] وعاش بعد ذلك دهرًا، وتوفي في هذه السنة، وله نيّف وتسعون سنة، رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن الحسين
(4)
أبو بكر الناصحي، الفقيه الحنفي المناظر، المتكلّم، المعتزلي.
وقد ولي القضاء بنيسابور، ثمّ عزل عنها لجنايته، وكلامه، وأخذه الرشا، وولي قضاء الريّ، وقد سمع الحديث، وكان من أكابر العلماء، توفي في رجب.
(1)
المنتظم (9/ 58)، الكامل في التاريخ (10/ 20)، تاريخ الإسلام (10/ 532).
(2)
المنتظم (9/ 59).
(3)
المنتظم (9/ 60)، معرفة القراء الكبار (1/ 354)، سير أعلام النبلاء (18/ 600)، الوافي بالوفيات (2/ 88)، النجوم الزاهرة (5/ 133)، شذرات الذهب (3/ 372).
(4)
المنتظم (9/ 60)، الكامل في التاريخ (10/ 630)، سير أعلام النبلاء (9/ 119)، الوافي بالوفيات (3/ 338)، شذرات الذهب (3/ 372).
أرتق بن أكسب
(1)
التُّركماني
(2)
جدّ الملوك الأرتقيّة الذين هم اليوم ملوك ماردين، كان شهمًا شجاعًا، عالي الهمّة، تغلّب على بلاد كثيرة، وقد ترجمه ابن خلّكان، وأرّخ وفاته في هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمئة
فيها: أمر السلطان ملك شاه ببناء [سور] سوق المدينة المعروفة بطُغْرُلْبَك، إلى جانب دار الملك، وجدّد خاناتها وأسواقها، ودورها، وأمر بتجديد الجامع الذي تمّ على يد هارون الخادم في سنة أربع وعشرين وخمسمئة، ووقف على نصب قبلته بنفسه، ومنجّمه إبراهيم حاضر، ونقلت إليه أخشاب جامع سامرّاء، وشرع نظام المُلْك في بناء دار هائلة له أيضًا [وكذلك تاج الملوك أبو الغنائم، شرع في بناء دار هائلة أيضًا]
(3)
، واستوطنوا البلد فطابت لهم بغداد.
وفي جمادى الأولى وقع حريق عظيم ببغداد في أماكن شتّى، فما أطفئ حتى هلك للناس شيء كثير، فما عمروا بقدر ما حرق وما غرموا.
وفي ربيع الأول خرج السلطان إلى أصبهان، ومعه ولد الخليفة أبو الفضل جعفر، [فبينما هو في الطريق يوم عاشوراء عدا صبيّ من الدّيلم على الوزير نظام الملك بعد أن أفطر، فضربه بسكين فقضى عليه بعد ساعة، وأخذ الصبيّ الدّيلمي فقتل، وكان من كبار الوزراء وخيار الأمراء، وسنذكر شيئًا من سيرته عند ذكر ترجمته]
(4)
.
ثمّ عاد إلى بغداد في رمضان بنيّة غير صالحة، فلقاه الله في نفسه ما يتمناه لأعدائه، وذلك أنّه لما استقرّ ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه والتهنئة بقدومه [وأرسل إليه الخليفة يهنئه]
(5)
فبعث إلى الخليفة يقول له: لا بدّ أن تترك لي بغداد، وتتحول إلى أيّ بلاد شئت؛ فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرًا، فقال: ولا ساعة واحدة، فأرسل يتوسّل إليه في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنّع شديد [فما استتم الأجل حتى]
(6)
خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد، فأصابته حمّى شديدة، فافتصد، فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام، ولله الحمد، فاستحوذت زوجته زبيدة خاتون على
(1)
في (ط): "ألْب" محرف، وما أثبتناه يعضده ما في مصادر ترجمته وتراجم الأراتقة (بشار).
(2)
وفيات الأعيان 1/ 191، تاريخ الإسلام (10/ 530)، العبر (5/ 148)، النجوم الزاهرة (6/ 314).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
الجيش، وضبطت [الأموال] والأحوال جيدًا، وأرسلت إلى الخليفة تسأل منه أن يكون ولدها محمود ملكًا بعد أبيه، وأن يخطب له على المنابر، فأجابها إلى ذلك.
[وأرسل إليه بالخلع، وبعث يعزِّيها ويهنئها مع وزيره عميد الدولة ابن جَهير]
(1)
وكان عمر الملك محمود [يومئذ] خمس سنين، ثمّ سارت به نحو أصبهان لتوطّد له الملك، فدخلوها فتمّ لهم مرادهم، وخُطِبَ له في جميع البلدان حتى في الحرمين، واستُوزر له تاج الملك أبو الغنائم المرزبان بن [خسرو]، وأرسلت أم الملك محمود تسأل له من الخليفة أن يجعل ولايات العمال إليه [فامتنع الخليفة، ووافقه الغزالي] وقال: هذا لا يسيغه الشرع [وأفتى العلماء بجواز ذلك منهم المتطيب بن محمد الحنفي، فلم يعمل إلا بقول الغزالي.
وانحاز أكثر جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركياروق فبايعوه وخطبوا له بالريّ [وانفردت الخاتون وولدها ومعهم شرذمة قليلة من الجيش والخاصكية]
(2)
فأنفقت الخاتون ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركياروق بن ملك شاه فالتقوا في ذي الحجة، فكانت الخاتون هي المنهزمة، ومعها ولدها، وقد ثبت في "صحيح البخاري"
(3)
: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".
وفيها: جاء بَرَدٌ شديد بالبصرة وزن البرَدة الواحدة منه خمسة أرطال إلى ثلاثة عشر رطلًا، فأتلفت شيئًا كثيرًا من الأشجار، وجاء ريح عاصف قاصف فألقى عشرات الألوف من النخيل أيضًا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
[وفي ذي القعدة اعترضت بنو خفاجة للحجيج، فقاتلهم من في الحجيج من الجند مع الأمير خمارتكين فهزموهم، ونهبت أموال الأعراب، فلِلَّه الحمد والمنّة].
وفي هذه السنة: ملك تاج الدولة تتش صاحب دمشق مدينة حمص، وقلعة عَرْقَة، وقلعة أفامية، معه قسيم الدولة آقسنفر، [وكان السلطان قد جهز سريّة إلى اليمن صحبة سعد الدولة كوهرائين، وأمير آخر من التركمان، فدخلاها وأساءا فيها السيرة، فتوفي سعد الدولة كوهرائين يوم دخوله إليها في مدينة عدن، ولله الحمد والمنّة]
(4)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
جعفر بن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن
(5)
أبو الفضل التميمي المعروف
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
برقم (4425) في المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر.
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
المنتظم (9/ 64)، سير أعلام النبلاء (19/ 131)، الوافي بالوفيات (11/ 167)، شذرات الذهب =
بالحَكَاك
(1)
المكّي.
رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وأصبهان، وغير ذلك من البلاد، وسمع الكثير [وخرّج الأجزاء]، وكان حافظًا، متقنًا، ثقة، ضابطًا، صدوقًا، [أديبًا]، خيّرًا، وكان يراسل صاحب مكة، وكان من ذوي الهيئات والمروءات، قارب الثمانين، رحمه الله.
نظام المُلْك الوزير
(2)
هو الحسن بن علي بن إسحاق بن العبَّاس، أبو علي الوزير.
وزير الملك ألب آرْسلان، وولده ملك شاه ثلاثين سنة. وكان من خيار الوزراء، ولد بطوس سنة ثمان وأربعمئة، وكان أبوه ممن يخدم أصحاب محمود بن سُبُكْتِكين [وكان من الدَّهاقين]
(3)
فاشتغل ولده هذا فقرأ القرآن [وله إحدى عشرة سنة] وأشغله بعلم القراءات، والتفقّه على مذهب الشافعي، وسماع الحديث واللّغة والنحو، وكان عالي الهمّة [فحصّل من ذلك طرفًا صالحًا] ثمّ ترقى في المراتب حتى وزر [للسلطان ألب آرْسَلان بن داود بن ميكائيل بن سُلجوق، ثمّ من بعده لملك شاه تسعًا وعشرين سنة، لم ينكب في شيء منها]
(4)
. وبنى المدارس النظاميات
(5)
في بغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم عامة أوقاته، فقيل له: هؤلاء قد شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري، وأبو المعالي الجُويني، قام لهما وأجلسهما في المسند، فإذا دخل عليه أبو علي الفَارمَذيّ
(6)
قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك، فقال: إنهما إذا دخلا على فقالا: أنت وأنت [يطروني ويعظّموني ويقولون فيّ ما ليس فيّ، فازداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر] وإذا دخل أبو علي الفارمَذيّ ذكّرني عيوبي وظلمي فأنكسر وأرجع عن كثير من الذي أنا فيه. وكان
= (3/ 373) وثمة خلاف في أسماء آبائه.
(1)
تحرفت في (أ) إلى: الكمال.
(2)
المنتظم (9/ 64)، الكامل في التاريخ (10/ 204)، وفيات الأعيان (2/ 128)، تاريخ الإسلام (10/ 541)، سير أعلام النبلاء (19/ 94)، الوافي بالوفيات (12/ 123)، طبقات السبكي (4/ 309)، النجوم الزاهرة (5/ 136)، شذرات الذهب (3/ 373).
(3)
زيادة من (ب) و (ط). و"الدهاقين" ج. دهقان: رئيس الإقليم، وزعيم فلاحي العجم. وأيضًا: من له مال وعقار، وأصلها بالفارصية دهكان، بالكاف.
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
ذكر السبكي في طبقاته تسع مدارس غير المدرسة الكبرى في بغداد، والتي شرع في عمارتها سنة سبع وخمسين وأربعمئة، ودرّس فيها كبار العلماء.
(6)
هو الإمام الكبير شيخ الصوفية الفضل بن محمد الفارمذي الخراساني، الواعظ، توفي سنة سبع وسبعين وأربعمئة، ترجمته في السير (18/ 565)، شذرات الذهب (3/ 355).
محافظًا على الصلوات في أول الوقت [لا يشغله بعد الأذان شغل عنها]
(1)
ويواظب على صوم الإثنين والخميس، وله [الأوقاف الدارّة] والصدقات البارَّة.
وكان يعظّم الصوفيّة تعظيمًا زائدًا، فعوتب في ذلك فقال: إني كنت أخدم بعض الأمراء فجاء بي يومًا إنسان فقال: اخدم من ينفعك خدمته، إلى متى تخدم من تأكله الكلاب غدًا، فلم أفهم ما يقول. فاتفق أن ذلك الأمير سكر تلك الليلة، وخرج في أثناء الليل وهو ثمل، وكانت له كلاب تفترس الغرباء باللّيل، فلم تعرفه فمزّقته، فأصبح وقد أكلته الكلاب، قال: فأنا أطلب مثل ذلك الشيخ.
وقد سمع الحديث في أماكن شتى ببغداد وغيرها، وكان يقول:[إني لأعلم] أني لست بأهلٍ للرواية، ولكن أحب أن أربط في قطار نَقَلَةِ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا: رأيت [ليلة] في المنام إبليس فقلت له: ويحك! خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهةً، فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة، وأنا أسجد له في كلِّ يوم مرات، وأنشأ يقول:
منْ لمْ يكُنْ للوِصَالِ أهْلًا
…
فكُلُّ إحسانِه ذُنُوبُ
[وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك.
وقد ملك ألوفًا من الترك]
(2)
، وكان له بنون كثرِة، وَزَرَ منهم خمسة، وزر ابنه أحمد للسلطان محمد بن ملك شاه، ولأمير المؤمنين المسترشد بالله. وخرج نظام المُلْك مع السلطان من أصبهان قاصدًا بغداد، في مستهلّ رمضان من هذه السنة، فلما كان اليوم العاشر اجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نَهاوند، [وهو يسايره في محفّة] فقال: قد قتل هاهنا خلق من الصحابة زمن عمر رضي الله عنه، فطوبى لمن يكون عندهم، فاتفق أنّه لما أفطر جاءه صبيّ في هيئة مستغيث ومعه قصّة، فلما انتهى إليه ضربة بسكِّين في فؤاده وهرب، فعثر بطنب الخيمة، فأُخذ فقتل، ومكث نظام المُلْك ساعة، وجاءه السلطان يعوده، فمات وهو عنده رحمه الله [وقد اتُّهم السلطان في أمره أنّه هو الذي مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يومًا فكان في ذلك عبرة لأولي الألباب. [وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضًا من بغداد، فما تمّ له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام] ورثاه الشعراء بقصائد، منهم مقاتل بن عطيّة:
كانَ الوزيرُ نظامُ المُلْكِ لؤلؤةً
…
يتيمةً صاغَها الرحمنُ من شَرَفِ
عزَّتْ فلم تعرِفِ الأيامُ قيمتَها
…
فردَّها غَيْرةً منهُ إلى الصَّدَفِ
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
زيادة من (ب) و (ط). والعبارة في الوفيات (4/ 128).
وأثنى عليه غير واحد، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما
(1)
، رحمه الله.
عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا
(2)
أبو القاسم الشاعر، من أهل الحريم الطاهريّ.
ولد سنة عشر وأربعمئة، وكان أديبًا، شاعرًا، ماهرًا، غير أنّه رماه بعضهم برأي الأوائل، وأنكر أن يكون في السماء نهر من ماءٍ، أو نهر من لبن، أو نهر من خمر، أو نهر من عسل، يعني في الجنة، وما يسقط من ذلك قطرة إلا هذا الذي يخرّب ويهدّم السقوف، وهذا الكلام كفر من قائله لعنه الله، نفله ابن الجوزي في "المنتظم"، وحكى بعضهم أنّه وجد في كفّه مكتوبًا حين مات هذين البيتين:
نزلت بجارٍ لا يُخيِّبُ ضَيْفَهُ
…
أرَجِّي نجاتي من عذابِ جَهَنَّمِ
وإنّي على خوفي من اللهِ واثقٌ .... بإنعامِه والله أكرمُ مُنْعمِ
مالك بن أحمد بن علي بن إبراهيم
(3)
أبو عبد الله البانياسيّ الشاميّ.
[وقد كان له اسم آخر سمّته به أمّه: علي، أبو الحسن، فغلب عليه ما سمّاه به أبوه به]، وسمع الحديث على مشايخ كثيرة، وكان آخر من حدّث عن أبي الحسن بن الصَّلْت، هلك في سوق الرَّيحانيين
(4)
، وله ثمانون سنة، وكان ثقة عند المحدِّثين.
السلطان ملك شاه
(5)
جلال الدين والدولة، أبو الفثح ملك شاه بن أبي شجاع ألْب آرْسَلان بن داود بن ميكائيل بن سُلجوق بن تُقَاق التركي.
ملك من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وراسله الملوك من سائر الأقاليم والأقطار، حتى ملك الروم، والخزر، واللان. وكانت دولته صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، وكان مع عظمته يقف للمسكين والمرأة والضعيف [فيقضي حوائجهم] وعفر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط
(1)
نقل ابن الجوزي في المنتظم (9/ 67) نص كلام ابن عقيل من خطه: وأما النظام، فإن سيرته بهرت العقول جودًا وكرمًا وحشمة وإحياءً لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها الوقوف، ونعش العلم وأهله، وعمر الحرمين، وعمر دور الكتب، وابتاع الكتب، فكانت سوق العلم في أيامه قائمة .. ، وما ظنك برجل كان الدهر في خفارته؛ لأنه قد أفاض من الإنعام ما أرضى الناس.
(2)
المنتظم (9/ 68)، الكامل في التاريخ (10/ 218)، الوافي بالوفيات (18/ 16)، وضبط ناقيا، بالنون وبعد الألف الأولى قاف وياء آخر الحروف. وقد تحرفت في الأصل و (ط) إلى: باقيا، بالباء.
(3)
المنتظم (9/ 69)، سير أعلام النبلاء (18/ 526)، النجوم الزاهرة (5/ 137)، شذرات الذهب (3/ 376).
(4)
يعني حين احتراق هذا السوق في تاسع جمادى الآخرة، كما ذكر تلميذه أبو علي بن سكرة (تاريخ الإسلام 10/ 552)(بشار).
(5)
المنتظم (9/ 69)، أخبار الدولة السلجوقية (55)، الكامل في التاريخ (10/ 210 - 214)، الوفيات (5/ 283) سير أعلام النبلاء (19/ 54)، النجوم الزاهرة (5/ 134)، شذرات الذهب (3/ 376).
المكوس والضرائب، وحفر الأنهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة [والسوق، وبنى الجامع الذي يقال له: جامع السلطان ببغداد]
(1)
وبنى الجوامع، وبنى منارة القرون من صيوده بالكوفة، ومثلها فيما وراء النهر، وضبط ما صاده بنفسه في صيوده، فكان نحوًا من عشرة آلات صيد، فتصدّق بعشرة آلاف درهم وقال: إني خائف من الله تعالى أن أكون أزهقت نفسَ حيوان لغير مأكلة.
وقد كانت له أفعال حسنة، وسيرة صالحة، من ذلك: أن فلاحًا أنهى إليه أن غلمانًا أخذوا له حمل بطيخ، وهو رأس ماله، فقال: اليوم أردّ عليك حملك، ثمّ قال لقيّمه: أريد أن تأتوني اليوم ببطيخ، ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه، فاستدعى الحاجب فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: جاء به الغلمان، فقال: أحضرهم، فذهب فهزمهم، فأرسل إليه فأحضره، وسلَّمه للفلاح، وقال: خذ بيده فإنّه مملوكي ومملوك أبي، وإياك أن تفارقه، فردّ عليه حمله، فخرج الفلاح بحمله، وفي يده الحاجب فاستنقذ [الحاجب] نفسه [من الفلاح] بثلاثمئة دينار. ولما توجّه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس، فدخل لزيارة قبر علي بن موسى الزَضا، ومعه نظام المُلْك، فلما خرجا قال للنظام: بم دعوت الله؟ قال: دعوت الله أن يُظْفِرَكَ على أخيك، فقال: لكني قلت: اللهمّ إن كان أخي أصْلَحَ مني للمسلمين فظفِّره بي، وإن كنتُ أصْلَحَ لهم فظفّرني به. وقد سار ملك شاه هذا بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية، فما عرف أن أحدًا من جيشه ظلم أحدًا من رعيته، [وكانوا مئين ألوف].
واستعدى إليه تركماني: أنَّ رجلًا افتضّ بكارة ابنته، وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال: يا هذا، إن ابنتك لو شاءت ما مكَّنته من نفسها، فإن كنت لابدّ فاعلًا فاقتلها معه، فسكت الرجل. ثمّ قال الملك: أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن تزوجها منه، فزوّجها من ذلك الرجل، وأنا أمْهرهما من بيت [المال] كفايتهما، [ففعل].
وحكى له بعض الوعاظ أن كسرى اجتاز يومًا في بعض أسفاره بقرية منفردًا من جيشه فوقف على باب دار فاستسقى، فأخرجت إليه جارية إناءً فيه ماءُ قصب السكر بالثلج، فشرب منه فأعجبه، فقال: كيف تصنعون هذا؟ فقالت: إنّه سهل علينا، اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها، فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويعوّضهم عنه غيره. فأبطأت عليه، ثمّ خرجت وليس معها شيء، فقال: ما لكِ؟ فقالت: كأن نيّة سلطاننا تغيرت علينا، فتعسّر عليّ اعتصاره، وهي لا تعرف أنّه السلطان. فقال اذهبي فإنّك الآن تقدرين، وغير نيّته إلى غيرها، فذهبت، وجاءته بشربة أخرى سريعًا، فشربها وانصرف. فقال له السلطان ملك شاه: هذه تصلح لي، ولكن قصّ على الرعية حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببستان فطلب من ناطوره عنقودًا من حصرم، فإنّه قد أصابته صفراء [في رأسه]
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
وعطش، فقال الناطور: إنّ السلطان لم يأخذ حقّه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئًا، قال: فعجب الناس من ذكاء الملك، وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك.
واستعداه رجلان من الفلاحين على الأمير خمارتكين: أنّه أخذ منهما مالًا كثيرًا، وكسر ثنيتهما، وقالا: سمعنا بعدلك في العالم، فإن أنقذتنا منه كما أمرك الله، والا استعدينا عليك الله يوم القيامة، وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه، وقال: خذا بكمِّي فاسحباني إلى دار نظام المُلْك، فهابا ذلك، فعزم عليهما، ففعلا ما أمرهما به، فلما بلغ النظام [مجيء السلطان] إليه خرج مسرعًا من خيمته، فقال له الملك: إني قلّدتك الأمر لتنصف المظلوم ممن ظلمه، فكتب من فوره بعزل خمارتكين، وحلّ إقطاعه. وأن يرد إليهما أموالهما، وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البيِّنة، وأمر لهما الملك من عنده بمئة دينار.
وأسقط مرّة بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين: يا سلطان العالم: إن هذا [الذي أسقطته] يعدل ستمئة ألف دينار وأكثر، فقال: ويحكّ! إنّ المال مال الله، والعباد عبيده، والبلاد بلاده، وإنّما [أردت أن] يبقى هذا لي [عند الله] ومن نازعني هذا ضربت عنقه.
وغنّته امرأة حسناء، فطرب، وتاقت نفسه إليها، فهمّ بها، فقالت: أيها الملك إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار، وبين الحلال والحرام كلمة واحدة، فاستدعى القاضي فزوّجه بها.
وقد ذكر ابن الجوزي
(1)
، عن ابن عقيل: أنَّ السلطان ملك شاه، كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الباطنيّة، ثمّ تنصّل من ذلك وراجع الحقّ.
وذكر ابن عقيل: أنَّه كتب له شيئًا في إثبات الصانع.
[وقد ذكرنا أنّه لما رجع آخر مرة إلى بغداد فعزم على الخليفة أن يخرج منها، فاستنظره عشرة أيام، فمرض السلطان: ومات قبل انقضاء العشرة أيام]
(2)
.
وكانت وفاة السلطان في ليلة الجمعة النصف من شوال عن سبع وثلاثين سنة ونصف، وكانت مدة ملكه من ذلك تسع عشرة سنة ونصف، ودفن بالشونيزية
(3)
، ولم يصلّ عليه أحد لكتمان الأمر، وكان مرضه بالحمّى، وقيل: إنّه سُمّ، والله أعلم.
المَرْزُبان بن خُسرو
(4)
تاج المُلْك، الوزير أبو الغنائم، باني التاجية التي درّس بها أبو بكر الشَّاشي،
(1)
المنتظم (9/ 73).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
في (ط): الشونيزي، وكلاهما صحيح، وهي مقبرة سري السقطي الزاهد المشهور.
(4)
المنتظم (9/ 74)، أخبار الدولة السلجوقية (67)، الكامل في التاريخ (10/ 216)، وفيات الأعيان (2/ 131)، سير أعلام النبلاء (19/ 100)، ووفاته فيه سنة ست وثمانين وأربعمئة.
وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق، وقد كان السلطان ملك شاه أراد أن يستوزره بعد نظام المُلْك فمات سريعًا، فاستوزر لولده محمود، فلما قهره أخوه بركياروق، قتله غلمان نظام المُلْك، وقطعوه إربًا إربًا في ذي الحجّة من هذه السنة.
هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد بن برزة
(1)
أبو القاسم الشيرازي.
أحد الرجّالين الجوّالين في الآفاق، وكان حافظًا، ثقة، دينًا، ورعًا، حسن الاعتقاد، والسيرة، له تاريخ حسن
(2)
، رحل إليه الطلبة من بغداد وغيرها، والله أعلم، رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمئة
وفيها: قدم إلى بغداد رجل يقال له: أردشير
(3)
بن منصور، أبو الحسين العَبّادي، مرجعه من الحجّ، فنزل النظاميّة، فوعظ الناس، وحضر مجلسه الغزالي، وازدحم النّاس في مجلس وعظه [وكثروا في المجالس بعد ذلك، وترك كثير من الناس من معايشهم]
(4)
وكان يحضر المجلس في بعض الأحيان قريب من ثلاثين ألف من الرجال والنساء، وتاب كثير من الناس، ولزموا المساجد، وأريقت الخمور، وكُسِّرت الملاهي، [وكان الرجل في نفسه صالحًا] له عبادات، وفيه زهد وافرٌ [وله أحوال صالحة] وكان [الناس] يزدحمون على فضل وضوئه، وربما أخذوا من البِرْكةِ التي يتوضأ بها للبركة. ونقل ابن الجوزي
(5)
: أنّه اشتهى على بعض أصحابه توتًا شاميًا وثلجًا، فطاف البلد [بكماله] فلم يجده، فرجع فوجد الشيخ في خلوته؛ فسأل: هل جاء اليوم [إلى الشيخ] أحد؟ فقيل له: جاءت امرأة، فقالت: إني قد غزلت بيدي غزلًا وبعته، وأنا أحبّ أن أشتري للشيخ به طرفة، فامتنع من ذلك، فبكت، فرحمها، وقال: اذهبي فاشتري، فقالت: ماذا أشتري؟ فقال: ما شئت، [فذهبت] فأتته بتوت شامي وثلج، فأكله.
[وقال بعضهم: دخلتُ عليه وهو يشرب مرقًا، فقلت في نفسي: ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ
(1)
المنتظم (9/ 74)، الكامل في التاريخ (10/ 218)، سير أعلام النبلاء (17/ 19)، شذرات الذهب (3/ 379).
(2)
يريد: تاريخ شيراز.
(3)
في (ب) و (ط): أردشير، وفي الكامل (10/ 225) أردشيرين.
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
المنتظم (9/ 76).
القرآن، فناولني فضله فقال: اشربها على تلك النيّة، قال: فرزقني الله حفظ القرآن]
(1)
. وكانت له عبادات ومجاهدات. ثمّ اتفق أنَّه تكلّم في بيع القراضة بالصحيح فمنع من الجلوس وأخرج من البلد.
وفي هذه السنة: خطب تش بن ألْب آرْسَلان صاحب دمشق لنفسه بالسلطنة، وطلب من الخليفة أن يخطب له بالعراق، فحصل التوقّف في ذلك بسبب ابن أخيه بركياروق بن ملك شاه، فسار إلى الرحبة وفي صحبته وطاعته آقسنقر صاحب حلب، وبوران صاحب الرُّها، ففتح الرحبة [ثم سار إلى الموصل، فأخذها من يد صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وهزم جيوشه من بني عقيل]
(2)
وقتل خلقًا من الأمراء [صبرًا] وكذلك أخذ ديار بكر [واستوزر الكافي بن فخر الدولة بن جَهير]
(3)
وكذلك أخذ هَمذان وخِلاط، وفتح أذربيجان واستفحل أمره، ثمّ فارقه الأميران آقسنقر وبوران فسار إلى الملك بركياروق [وبقي تتش وحده فطمع فيه أخوه بركياروق، فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة آقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما]
(4)
وأسر بوران وآقسنقر فصلبهما [وبعث برأس بوران فطيف به في حران والرُّها، وملكها من بعده]
(5)
.
وفيها: وقعت الفتنة بين الروافض والسنّة وانتشرت بينهما شرور كثيرة.
وفي [ثاني] شعبان ولد للخليفة ولده المسترشد بالله، أبو منصور، الفضل بن أبي العباس أحمد المستظهر بالله بن المقتدي، ففرح الخليفة وولي عهده بالولد السعيد.
وفي ذي القعدة دخل السلطان بركياروق بغداد [وخرج إليه الوزير أبو منصور بن جَهير، وهنأه عن الخليفة بالقدوم]
(6)
.
وفيها: أخذ المستنصر العبيدي مدينة صور من أرض الشام، ولم يحج أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
جعفر بن المقتدي بالله
(7)
من الخاتون بنت السلطان، ملك شاه [في جمادى الأولى] وجلس الوزير للعزاء ثلاثة أيام.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
(7)
المنتظم (9/ 77)، الكامل في التاريخ (10/ 227).
سليمان بن إبراهيم بن محمد بن سليمان
(1)
أبو مسعود الأصبهاني.
سمع الكثير، وصنّف [وخرّج على الصحيحين، وكانت له معرفة جيدة بالحديث]
(2)
، وسمع ابن مردويه وأبا نعيم، والبَرْقاني، وكتب عنه الخطيب
(3)
وغيره، وكانت وفاته في ذي القعدة عن تسع وثمانين سنة.
عبد الواحد بن أحمد بن المُحَسِّن
(4)
الدَّسْكري
(5)
أبو سعد الفقيه الشافعي.
صحب أبا إسحاق الشيرازي، وروى الحديث [وكان مألفًا
(6)
لأهل العلم]، وكان يقول: ما عصا بدني هذا في لذة قط، توفي في رجب من هذه السنة، ودفن بباب حرب، رحمه الله.
علي بن أحمد بن يوسف بن جعفر
(7)
أبو الحسن الهَكَّاري
(8)
.
قدم بغداد ونزل برباط الزَّوزني
(9)
وكانت له أربطة قد ابتناها، سمع الحديث، وروى عنه غير [واحد] من الحفّاظ، وكان يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في الروضة، فقلت: يا رسول الله! أوصني، فقال: عليك باعتقاد أحمد بن حنبل، ومذهب الشافعي، وإياك ومجالسة أهل البدع.
وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة.
علي بن محمد بن محمد
(10)
أبو الحسن الخطيب الأنْباري، المعروف بابن الأخضر.
سمع أبا أحمد الفرضي
(11)
، وهو آخر من حدّث عنه، وكانت وفاته في شوال عن خمس وتسعين سنة، رحمه الله.
(1)
المنتظم (9/ 78)، المغني في الضعفاء (1/ 277)، وسير أعلام النبلاء (19/ 21)، شذرات الذهب (3/ 377).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
ينظر تاريخ مدينة السلام (6/ 560)(بشار).
(4)
في بعض النسخ والمنتظم: "الحُصين"، وما أثبتناه من (ط) والكامل لابن الأثير. (بشار).
(5)
في (ط): "الدشكري" بالشين المعجمة، وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه، وهو من دسكرة نهر الملك، أو دسكرة الملك (بشار).
(6)
في (ط): "مؤلِّفًا" ولا معنى لها، والصواب ما أثبتناه (بشار).
(7)
المنتظم (9/ 79)، الكامل في التاريخ (10/ 226)، وفيات الأعيان (3/ 345)، سير أعلام النبلاء (19/ 67)، النجوم الزاهرة (5/ 138)، شذرات الذهب (3/ 378).
(8)
هذه النسبة إلى: الهكارية، بلدة وناحية وقرى فوق الموصل. معجم البلدان (5/ 408).
(9)
في (ط): الدوري. خطأ.
(10)
المنتظم (9/ 79).
(11)
في (ط): أبا محمد الرضي. خطأ.
أبو نصر بن ماكُولا
(1)
علي بن هبة الله بن علي
(2)
بن جعفر بن علي
(3)
بن محمد بن دُلف بن أبي دلف الأمير.
ولد سنة ثنتين وأربعمئة، وسمع الكثير، وكان من الحفّاظ، وله كتاب "الإكمال في المؤتلف والمختلف"
(4)
، جمع بين كتاب عبد الغني بن سعيد، وكتاب الدارقطني وغيرهما، وزاد عليهما أشياء كثيرة مهمّة حسنة، نافعة، وكان نحويًّا مبرّزًا، فصيح العبارة، حسن الشعر، قال ابن الجوزي
(5)
: وسمعت شيخنا عبد الوهّاب يطعن في دينه ويقول: العلم يحتاج إلى دين
(6)
.
وقُتل في خوزستان في هذه السنة [أو التي بعدها]، وقد جاوز الثمانين، كذا ذكر ابن الجوزي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمئة
فيها: كانت وفاة الخليفة المقتدي، وخلافة ولده المستظهر بالله.
[صفة موته: لما قدم السلطان بركياروق بغداد، سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتابًا فيه العهد إليه، فكتب ذلك، وهيئت الخلع، وعرضت على الخليفة، وكان الكتاب يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم ثم قُدِّم إليه الطعام، فتناول منه على العادة، وهو في غاية الصحّة، ثمّ غسل يديه، وجلس ينظر في العهد بعدما وقّع عليه، وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار، قالت: فنظر إليّ وقال: من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن؟ قالت: فالتفتُّ فلم أر أحدًا، ورأيته قد تغيّرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلَّت قواه، وسقط إلى الأرض، قالت: فظننت أنّه غُشي عليه، فحللت
(1)
المنتظم (9/ 79)، الكامل في التاريخ (10/ 128)، وفيات الأعيان (3/ 305)، سير أعلام النبلاء (18/ 569)، شذرات الذهب (3/ 381)، النجوم الزاهرة (5/ 115).
(2)
سقط هذا الاسم من بعض النسخ، ولا يصح إلا به. (بشار).
(3)
ويقال فيه "عَلَّكان" بدلا من "علي". (بشار).
(4)
كتاب الإكمال في رفع عارض الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب، جمع فيه ما في المؤتلف والمختلف للدارقطني وتكملته للخطيب البغدادي والمؤتلف والمختلف ومشتبه النسبة لعبد الغني الأزدي، مع ما شذ عنها، وأسقط ما لا يقع الإشكال فيه مما ذكروه، وذكر ما وهم فيه أحدهم على الصحة، وقد حقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله ستة أجزاء منه وطبعت بحيدر آباد الدكن في الهند، ثم أكمل المجلد السابع في بيروت بتحقيق الشيخ نايف العباس رحمه الله، ونشره السيد محمد أمين دمج.
(5)
المنتظم (9/ 79).
(6)
هذا كلام يحتاج إلى دليل، تفرد به ابن الجوزي، وقد أثنى كبار العلماء على ابن ماكولا ووثقوه منهم: الحميدي، ومحمد بن طاهر، وشيرويه، وابن عساكر، وأبو سعد السمعاني، وشجاع الذهلي، وابن النجار وغيرهم. (بشار).
أزرار ثيابه، فإذا هو لا يجيب داعيًا، فأغْلقتُ عليه الباب، وخرجتُ فأعلمت ولي العهد بذلك، وجاء الأمراء ورؤوس الدولة يعزّونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه.
ذكر ترجمة المقتدي بأمر الله، رحمه الله
هو أمير المؤمنين، المقتدي بأمر الله، أبو القاسم عبد الله بن
(1)
الذخيرة، الأمير ولي العهد، أبو العباس محمد
(2)
بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله بن القادر بالله العباسي، أمّه أم ولد، اسمها أرجوان، أرمنيّة أدركت خلافة ولدها، وخلافة ولده المستظهر، وولد ولده المسترشد أيضًا]
(3)
.
وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل، تامّ القامة؛ عمرت في أيامه محال كثيرة ببغداد، ونفى عنها المغنيَّات وأرباب الملاهي [والمعاصي]، وكان غيورًا على حريم الناس، أمّارًا بالمعروف، نهّاءً عن المنكر، حسن السيرة والسريرة، تغمده الله برحمته.
وكانت وفاته يوم الجمعة منتصف المحرم من هذه السنة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة [وثماني شهور وتسعة أيام]
(4)
، وخلافته من ذلك تسع عشرة سنة [وثمان شهور إلا يومين، وأخفي موته ثلاثة أيام
(5)
، حتى توطّدت البيعة لابنه المستظهر، ثمّ صلي عليه ودفن في تربتهم.
خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس أحمد
ولما توفي أبوه [يوم الجمعة] أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران، فبويع له بالخلافة، وكان أول من بايعه الوزير أبو منصور بن جَهير، ثمّ أخذت البيعة له من الملك ركن الدولة بركياروق بن السلطان ملك شاه، ثمّ من الأمراء والرؤساء، [وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثمّ أظهر التابوت يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلّى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان بل كبراء أمرائه]
(6)
وصلى عليه الأمراء والوزراء، ومن العلماء: الغزالي، والشاشي، وابن عقيل [وبايعوه يوم ذلك].
(1)
في الأصل: أبو عبد الله. خطأ. فاسم الخليفة عبد الله، وكنيته أبو القاسم كما في مصادر ترجمته. المنتظم (9/ 84)، الكامل في التاريخ (10/ 231 وما قبلها)، سير أعلام النبلاء (18/ 318).
(2)
في الأصل: أحمد. خطأ، فذخيرة الدين اسمه: محمد بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله الأمير ولي العهد، توفي في خلافة أبيه سنة 447 هـ.
(3)
من قوله: صفة موته .. إلى هنا، زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط) وفي (أ): ثمان وثلاثون سنة ونصف.
(5)
من قوله: وخلافته .. إلى هنا ساقط من (ب).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
وقد كان المستظهر بالله كريم الأخلاق، حافظًا للقرآن الكريم، فصيحًا، بليغًا، شاعرًا [منطقيًا]، ومن لطيف شعره قوله:
أذابَ حرُّ الجوى في القلبِ ما جَمَدا
…
يومًا مددتُ على رسمِ الوداعِ يدَا
(1)
فكيفَ أسلكُ نهجَ الاصطبارِ وقدْ
…
أرى طرائقَ من يهوى الهوى قِددَا
(2)
قد أخلفَ الوعدَ بدرٌ قد شُغِفتُ بِهِ
…
من بعدِما قد وَفَى دهرًا بما وعَدا
(3)
إن كنتُ أنقضُ عَهْدَ الحبِّ في خَلَدي
…
من بعدِ هذا فلا عاينتُهُ أبَدَا
وفوّض المستظهر أمور الخلافة إلى الوزير أبي منصور عميد الدولة بن جَهير، فدبّرها له أحسن تدبير، ومهّد له الأمور أتمّ تمهيد [وساس الرعايا، وكان من خيار الوزراء.
وفي ثالث عشر]
(4)
شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي
(5)
عن القضاء، وفوّضه إلى أبي الحسن بن الدّامغاني.
وفيها: وقعت فتنة بين السنّة والروافض، فأحرقت محال كثيرة، وقُتل ناس كثيرون، ولم يحج أحد في هذه السنة لاختلاف السلاطين.
وكانت الخطبة للسلطان بركياروق [ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم، وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعدما علّم على توقيعه]
(6)
.
وممن توفي فيها من الأعيان:
آقسنقر الأتابك الملقب قَسِيْم الدولة السلجوقي
(7)
، ويعرف بالحاجب، صاحب حلب وديار بكر والجزيرة.
وهو جدّ الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكي بن آقسنقر.
(1)
في الكامل لابن الأثير (10/ 535): لما مددت إلى رسم الوداع يدا.
(2)
في الكامل: أرى طرائق في مهوى الهوى قِدَدا.
(3)
في الكامل: من بعدما قد وفى دهري بما وَعَدا.
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (أ): الشافعي، وما أثبته من (ب) و (ط) وقد اشتهر أبو بكر رحمه الله بهذه النسبة، وهو أيضًا شيخ الشافعية في زمانه.
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
(7)
الكامل في التاريخ (10/ 232)، وفيات الأعيان (1/ 241)، سير أعلام النبلاء (19/ 129)، النجوم الزاهرة (5/ 141)، شذرات الذهب (3/ 380).
وكان أولًا من أخصّ أصحاب السلطان ملك شاه [بن ألب آرْسَلان السلجوقي، ثمّ ترقّت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك، وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة، وكانت الرعيّة معه في أمن ورخص وعدل، ثمّ كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وذلك: أنه استعان به، وبصاحب حرّان والرّها على قتال ابن أخيه بركياروق بن ملكشاه، ففرّا عنه وتركاه، فهرب إلى دمشق، فلما تمكن قاتلهما بباب حلب، فقتلهما، وأخذ بلادهما إلا حلب فإنها استقرت لولد آقسنقر زنكي فيما بعد، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمئة كما سيأتي بيانه.
وذكر ابن خلِّكان أنّه كان مملوكًا للسلطان ملك شاه هو وبوزان
(1)
صاحب الرّها، فلما ملك تتش حلب استنابه بها، فعصا عليه، فقصده، وكان قد ملك دمشق أيضًا، فقاتله، فقتله في هذه السنة في جمادى الأولى منها]
(2)
فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي بحلب، أدخله إليها من فوق السور بالمدرسة الزجاجيّة.
بدر الجمَالي
(3)
صاحب الجيوش بمصر، ومدبّر الممالك الفاطميّة.
كان عاقلًا، كريمًا، محبًّا للعلماء، ولهم عليه رسوم دارّة، تمكّنَ في أيام المستنصر تمكنًا عظيمًا [ودارت أزِمَّةُ الأمور على آرائه، وفتح بلادًا كثيرة، وامتدت حياته وأيامه [وبعد صيته] وامتدحه الشعراء، ثمّ كان موته [في ذي القعدة منها] وقام بالأمور من بعده ولده الأفضل.
الخليفة المقتدي بأمر الله
(4)
عبد الله ابن ولي العهد، ذخيرة الدِّين أبي العباس، أحمد ابن أمير المؤمنين الخليفة القائم بأمر الله بن القادر، وقد ذكرنا شيئًا من ترجمته عند موت الخليفة
(5)
.
الخليفة المستنصر الفاطمي
(6)
، معدّ أبو تميم بن أبي الحسن علي بن الحاكم.
استمرت أيامه ستين سنة، ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده، وكان قد عهد [بالأمر] لولده نزار، فخلعه الأفضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه [وأمر الناس] فبايعوا أبا القاسم أحمد بن المستنصر
(1)
ويقال فيه: "بُزاف".
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
الكامل في التاريخ (10/ 235)، وفيات الأعيان (2/ 448) في ترجمة ولده. سير أعلام النبلاء (19/ 81)، الوافي بالوفيات (10/ 95)، النجوم الزاهرة (5/ 141)، شذرات الذهب (3/ 383).
(4)
المنتظم (8/ 291، و 9/ 84)، الكامل في التاريخ (10/ 94 و 229)، سير أعلام النبلاء (18/ 318)، النجوم الزاهرة (5/ 139)، شذرات الذهب (3/ 380).
(5)
هذه الترجمة بعضها زيادة من (ط)، وجميعها زيادة من (ب). وقد تقدم الكلام على الخليفة في أحداث سنة 467 هـ.
(6)
الكامل في التاريخ (10/ 237).
[أخاه] ولقّبه بالمستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية، فجمع الناس عليه فبايعوه، وتولّى جلال الدين بن عمار، فقصده الأفضل [فحاصره] فقاتله نزار فهزمهم الأفضل، وأسر القاضي ونزارًا، فقتل القاضي، وحبس نزارًا [بين حيطين] حتى مات واستقرّ المستعلي في الخلافة وعمره إحدى وعشرون سنة.
محمد بن أبي هاشم أمير مكّة
(1)
.
كانت وفاته في هذه السنة عن نيف وتسعين سنة.
محمود بن السلطان ملك شاة
(2)
.
[كانت أمه قد عقدت له الملك، وأنفقت بسببه الأموال الجزيلة]
(3)
فنازعه أخوه بركياروق فقهره وكسره، ولزم بلدة أصبهان، فمات بها في هذه السنة، وحمل إلى بغداد، فدفن بالتربة النظاميّة، وكان من أحسن الناس وجهًا، وأظرفهم شكلًا [توفي في شوال منها].
وقد توفيت أمّه الخاتون تركان شاه في رمضان هذه السنة [فانحلّ نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزِمّة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريبًا من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحلّ النظام، ولم تحصل على طائل، والله سبحانه أعلم]
(4)
.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمئة
فيها: ورد يوسف بن أبق
(5)
التركماني من جهة تاج الدولة أبي سعيد تتش بن ألب آرْسَلان صاحب دمشق، لإقامة الدعوة له ببغداد، وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الريّ، فلما دخل رسوله إلى بغداد هابوه، وخافوه، واستدعاه الخليفة فقرّبه، وقبّل الأرض بين يدي الخليفة، وتأهب أهل بغداد له، وخافوا أن ينهبهم، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه [رسول ابن] أخيه فأخبره أن تتش [قتل في أول من قتل في الوقعة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة]
(6)
فاستفحل أمر بَرْكياروق، واستقلّ
(1)
الكامل في التاريخ (10/ 239)، سير أعلام النبلاء (19/ 400).
(2)
الكامل في التاريخ (10/ 234).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط)، ونهاية الفقرة في (ب): فانحل النظام ولم يحصل لها ولا لولدها التئام.
(5)
في بعض النسخ: "أرتق" خطأ، وما أثبتناه من (ط)، والكامل لابن الأثير (10/ 244)، وتاريخ الإسلام (10/ 482)(بشار).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
بالأمور، وكان دقاق بن تتش مع أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فتسلمها من الأمير ساوتكين
(1)
الذي استنابه أبوه، واستوزر أبا القاسم الخوارزمي، وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب، ودبّر أمر مملكته جناح الدولة الحسين بن إيتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماة، وإليه تنسب بنو رضوان بها.
[وفي يوم الجمعة التاسع عشر] من ربيع الأول خطب لولي العهد أبي منصور الفضل بن المستظهر، ولقّب بذخيرة الدين.
وفي ربيع الآخر خرج الوزير عميد المُلك بن جَهير، فاختطّ سورًا على الحريم، وأذن للعوام في العمل والتفرّج، فأظهروا منكرات كثيرة، وسخافات عقول ضعيفة، وعملوا أشياء منكرة سخيفة، وبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ، وإنكار بغيض
(2)
.
[وفي رمضان خرج السلطان بَرْكياروق فعدا عليه فداويّ
(3)
، فلم يتمكن منه، فمسك فعوقب فأقرّ على آخرين، فلم يقرّا، فقتل الثلاثة، وجاء الطواشي من جهة الخليفة مُهنئًا له بالسلامة]
(4)
.
وفي ذي القعدة خرج أبو حامد الغزالي [من بغداد] متوجهًا إلى بيت المقدس تاركًا التدريس في النظاميّة، زاهدًا [في الدنيا]، لابسًا خشن الثياب [بعد ناعمها]، وناب عنه أخوه في التدريس، وعاد في السنة الثانية إلى الحج، ثمّ رجع إلى بلده، وقد صنف كتاب "الإحياء" في هذه المدة، وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كلّ يوم في الرباط فيسمعونه.
وفي يوم عرفة خُلع على الفاضي أبي الفرج عبد الوهاب بن هبة الله السِّيبي
(5)
ولقّب بشرف القضاة، وردّ إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره.
وفي هذه السنة اصطلح أهل الكرخ
(6)
مع بقيّة المحال، وتزاوروا [وتواصلوا] وتواكلوا، وتشاربوا، وكان هذا من العجائب.
(1)
في (ب): سارتكين، وماهنا من (ط) والكامل (10/ 248)، وتاريخ الإسلام (10/ 483).
(2)
نقل ابن الجوزي في المنتظم (9/ 85) نص هذه الرقعة بكاملها.
(3)
الفداوي: هو الفدائي، وهم غالبًا ما يكونون من الباطنية. على أن ابن الجوزي وابن الأثير ذكرا أن الذي جرح السلطان كان من أهل سجستان يعمل ستريًا عن السلطان (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ط): "عبد الرحمن بن هبة الله البستي"، وهو تحريف عجيب، وما أثبتناه من المنتظم (9/ 87)، وقد عاش عبد الوهاب السيبي هذا إلى سنة (504) وترجمه ابن النجار في التاريخ المجدد (1/ 407 - 409 من طبعة الهند) والذهبي في وفيات سنة (504) من تاريخ الإسلام (11/ 51).
(6)
في (ط) بعد هذا: "من الرافضة والسنة" ولا تصح، لأن أهل الكرخ كلهم شعة في ذلك لوقت. والمراد أن أهل الكرخ الشيعة تصالحوا مع بقية المحال السنية (بشار).
وفيها: قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند، وسببه أنّه شُهد عليه بالزندقة فخنق وولّي مكانه ابن عمّه مسعود.
وفيها: دخل الأتراك إفريقية وغدروا بيحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس، وقبضوا عليه، وملكوا بلاده، وقتلوا خلقًا، بعدما جرت بينهم وبينه حروب شديدة، وكان مقدمهم رجل يقال له: شاه ملك
(1)
، وكان من أولاد بعض أمراء المشرق، فقدم مصر، وخدم بها، ثمّ هرب إلى المغرب [ومعه جماعة] ففعل ما ذكر.
ولم يحج أحد من أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن الحسن بن أحمد بن خَيرون
(2)
أبو الفضل المعروف بابن الباقِلاني.
سمع الكثير، وكتب عنه الخطيب [وكانت له معرفة جيدة] وهو من الثقات، وشهد عند أبي عبد الله الدامغاني، ثمّ صار أمينًا له، ثمّ ولّي بعده إشراف خزانة الغلّات، توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة.
تتش أبو المظفر
(3)
تاج الدولة بن ألْب آرْسَلان، بن داود بن ميكال بن سُلجوق، صاحب دمشق وغيرها من البلاد.
وقد تزوّج امرأة علي بن أخيه بَرْكياروق بن ملكشاه بن ألْب آرْسَلان ولكن قدّر الله وما شاء فعل، وقال المتنبي:
وللهِ سِرٌّ في علاكَ وإنَّما
…
كلامُ العِدا ضربٌ من الهذَيانِ
قال ابن خلِّكان: كان صاحب البلاد [الشرقية] فاستنجده أتسز
(4)
في محاربة أمير الجيوش
(5)
[من
(1)
في الكامل في التاريخ (10/ 241): شاهملك.
(2)
المنتظم (9/ 87)، الكامل في التاريخ (10/ 253)، سير أعلام النبلاء (19/ 105)، الوافي بالوفيات (6/ 320)، شذرات الذهب (3/ 383)، قال بشار: ووقع في (ط): "الحسن بن أحمد بن خيرون" وهو خطأ.
(3)
المنتظم (9/ 87)، تاريخ الدولة السلجوقية (75)، الكامل في التاريخ (10/ 244)، وفيات الأعيان (1/ 295)، سير أعلام النبلاء (19/ 83)، الوافي بالوفيات (10/ 378)، النجوم الزاهرة (5/ 155)، شذرات الذهب (3/ 384)، تهذيب تاريخ دمشق (3/ 343).
(4)
في الأصل: آقسنقر، وما أثبت من (ط) والوفيات.
(5)
في الوفيات: أمير الجيوش بدر الجمالي.
جهة] صاحب مصر فلما قدم دمشق لنجدته، وخرج إليه أتسز، أمر بمسكه وقتله، واستحوذ هو على دمشق وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم تحارب هو وأخوه بَرْكياروق ببلاد الري، فكسره أخوه وقتل هو في المعركة، وتملك ابنه رضوان حلب، [وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها] إلى سنة سبع وخمسمئة
(1)
، سمّته أمّه في عنقود عنب، فقام بالأمر من بعده مملوك أبيه وزوج أمّه، إلى سنة ثنتين وعشرين وخمسمئة، فقام من بعده ولده تاج الملوك بوري أربع سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملوك إسماعيل ثلاث سنين فقتلته أمه أيضًا، وهي زمرّد خاتون بنت جاولي
(2)
، ثم أجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، فملك أربع سنين، ثم ملك أخوه الآخر [محمد بن بوري بن طغتكين
(3)
] سنة، ثم ملك مجير الدين
(4)
بن أبق
(5)
من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود بن زنكي - كما سيأتي - وكان أتابك العسكر بدمشق أيام أبق
(6)
معين الدين
(7)
الذي تنسب إليه [المعينية] بالغور، والمدرسة المعينيّة بدمشق.
رزق الله بن عبد الوهّاب بن عبد العزيز
(8)
أبو محمد التميمي.
أحد أئمة القراء والفقهاء، على مذهب أحمد [وأئمة] الحديث، وكان له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور، ثمّ بجامع القصر. وكان حسن الشكل محبَّبًا إلى العامة، له شعر حسن
(9)
، وكان كثير العبادة [فصيح العبارة]، حسن المناظرة، وقد روى عن آبائه حديثًا مسلسلًا إلى علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، أنّه قال: هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا رحل.
وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، بعثه في مهام الرسل إلى السلطان، وكانت وفاته في يوم الثلاثاء
(1)
في (ط): "سنة سبع وخمسين وخمسمئة" ولا تصح البتة، وقد توفي رضوان هذا في سنة (507) فعُلم أن لفظة "خمسين" مقحمة لا معنى لها، وسيأتي في السنة المذكورة من هذا الكتاب ذكر وفاة لي ضوان (بشار).
(2)
في الوفيات (1/ 296): خاتون زمرد بنت جاولي.
(3)
في (ط): "طغركين" محرف (بشار).
(4)
في (ط): "مخير الدين"، مصحف (بشار).
(5)
في (ط): "أتق" وفي بعض النسخ: "أرتق" وكله تحريف (بشار).
(6)
في (ط): "أتق" وفي بعض النسخ: "أرتق" وكله تحريف (بشار).
(7)
في بعض النسخ: "عز الدين"، وهو تحريف ظاهر (بشار).
(8)
الكامل في التاريخ (10/ 253)، معرفة القراء الكبار (1/ 356)، سير أعلام النبلاء (18/ 609)، ذيل طبقات الحنابلة (1/ 77)، شذرات الذهب (3/ 384).
(9)
نقل الذهبي في السير (18/ 614) من شعره قوله:
لا تسألاني عن الحيّ الذي بانا
…
فإنني كنت يوم البين سكرانا
يا صاحبيَّ على وجدي بنعمانا
…
هل راجعٌ وصل ليلى كالذي كانا
ما ضرّهم لو أقاموا يوم بينهمُ
…
بقدر ما يلبس المحزون أكفانا
النصف من جمادى الأولى من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة، وصلّى عليه ابنه أبو الفضل، رحمه الله.
أبو يوسف القَزويني
(1)
عبد السّلام بن محمد بن يوسف بن بُنْدار، شيخ المعتزلة.
قرأ على عبد الجبّار بن أحمد الهَمَذاني، ورحل إلى مصر، فأقام بها أربعين سنة، وحصّل كتبًا كثيرة، وصنّف تفسيرًا في سبعمئة مجلّد.
قال ابن الجوزي
(2)
: جمع فيه العجب، وتكلّم فيه على قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] في مجلد كامل.
وقال ابن عقيل: كان طويل اللّسان بالعلم تارة، وبالشعر أخرى، وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، ومات ببغداد عن سث وتسعين سنة، وما تزوج إلَّا في آخر عمره.
أبو شجاع الوَزير
(3)
محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم، أبو شجاع، الملقب ظَهير. الدّين [الرُّوذْرَاوَريّ
(4)
الأصل، الأهوازي المولد].
كان من خيار الوزراء، كثير الصدقة والإحسان إلى العلماء والفقهاء، وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وصنف كتبًا، منها كتابه الذي ذيّله على "تجارب الأمم"، ووزر للخليفة المقتدي بأمر الله، وكان يملك ستمئة ألف دينار، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات، ووقف الوقوف الحسنة، وبنى المشاهد، وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام.
قال له رجل: إلى جانبنا امرأة لَها أربعة أيتام، وهم عراة جياع، فبعث إليهم مع واحد من خاصته نفقة، وكسوة، وطعامًا، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد وقال: والله لا ألبسها حتى ترجع إليّ بخبرهم، فذهب الرجل مسرعًا، فقضى حاجته، وأوصل لهم ذلك الإحسان، ثمّ عاد - والوزير يرتعش من البرد -[إليه فأخبره أتهم فرحوا بذلك، ودعوا للوزير] فلما أخبره بما سرَّه لبس ثيابه.
وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغَّص عليه ذِكر من لا يقدر عليها، فأرسلها كلّها إلى المساجد [وكانت كثيرة جدًّا] فأطعمها الفقراء والعميان، ففرِّقت عليهم.
(1)
المنتظم (9/ 89)، الكامل في التاريخ (10/ 253)، طبقات السبكي (5/ 121)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 301)، سير أعلام النبلاء (18/ 616)، النجوم الزاهرة (5/ 156)، شذرات الذهب (3/ 385).
(2)
المنتظم (9/ 90).
(3)
المنتظم (9/ 90)، الكامل في التاريخ (10/ 250)، وفيات الأعيان (5/ 134)، طبقات السبكي (4/ 136)، الوافي بالوفيات (3/ 3).
(4)
الروذراوري: بضم الراء وسكون الواو والذال المعجمة وفتح الراء والواو بينهما ألف في آخرها راء أخرى، نسبة إلى روذراور: كورة قرب نهاوند من أعمال الجبال. معجم البلدان (3/ 78).
وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل يسألهم فيه، فحكم بما يفتونه به، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصَّتِهم وعامَّتِهم.
ثمّ إنه عزل عن الوزارة فسار إلى الحج، وجاور بالمدينة النبويّة [ثمّ مرض] فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبويّة فقال: يا رسول الله، قال الله سبحانه وتعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وها أنا [قد جئتك] أستغفر الله من ذنوبي، وأرجو شفاعتك فيها يوم القيامة. ثمّ مات من يومه ذلك، فدفن بالبقيع، رحمه الله تعالى.
القاضي أبو بكر الشاميُّ
(1)
محمد بن المظفر بن بكران الحَمَوي، أبو بكر الشامي.
ولد سنة أربعمئة، وتفقّه ببلده
(2)
، ثم حجّ في سنة سبع عشرة، وقدم بغداد فَتَفقه على الشيخ أبي الطيّب الطَّبَري، وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدّامغاني فقبله، ولازم مسجده خمسًا وخمسين سنة، يُقرئ الناس ويُفَقِّههم، ولما مات أبو عبد الله الدّامغاني، أشار به أبو شجاع الوزير، فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفّهم، فلم يقبل من سلطان عطيّة، ولا من صاحب هديّة، ولم يغيّر ملبسه، ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرًا، ولم يستنب أحدًا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقًا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بيّنة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقرّوا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدلّ على هذا، وقد صئف أبو بكر الشاشي كتابًا في الردّ عليه في ذلك
(3)
، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26].
وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين، يقال له:[المشطب]
(4)
بن محمد بن أسامة الفَرَغَاني، فلم يقبله، لما [رأى] عليه من الحرير، وخاتم الذَّهب، فقال له المدَّعي: إنّ السلطان ووزيره نظام المُلْك، يلبسان الحرير والذهب! فقال القاضي الشامي:[والله] لو شهدا عندي على باقة بقل ما قبلت شهادتهما، [ولرددت شهادتهما.
وشهد عنده مرّةً فقيه فاضل، من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأي شيءٍ تردّ شهادتي، وهي جائزة
(1)
في (ط): "الشاشي" وهو تحريف قبيح، فهو حموي شامي (بشار).
(2)
يعني: حماة.
(3)
سماه: "الرد على من حكم بالفراسة وحققها بالضرب والعقوبة"(المنتظم 9/ 95)، وكان الشاشي هذا عدوًا للشامي (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
عند كلّ حاكم إلا أنت؟ فقال له: لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عُريانا غير مستور العورة فلا أقبلك].
توفي رحمه الله [يوم الثلاثاء]
(1)
عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة ودفن بالقرب من ابن سُرَيْج
(2)
.
أبو عبد الله الحُمَيْدي
(3)
محمد بن أبي نصر [فتوح] بن عبد الله بن فتوح بن حُميد، الحُميدي، الأندلسي، من جزيرة يقال لها: مَيُورقة
(4)
، قريبة من الأندلس.
قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظًا مُكثرًا، ديِّنًا، ماهرًا، عفيفًا نَزهًا، وهو صاحب "الجمع بين الصحيحين" وغير ذلك من المصنّفات، [وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب]
(5)
وكانت وفاته [ليلة الثلاثاء] منتصف ذي الحجّة، وقد جاوز السّبعين، وقبره قريب من قبر بشر الحافي.
هبة الله ابن الشيخ أبي الوفاء بن عقيل.
كان قد حفظ القرآن، وتفقّه، وظهرت نجابته، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالًا جزيلة فلم يفد شيئًا، فقال له ابنه ذات يوم: يا أبه! إنّك قد أكثرت الأدوية والأدعية، ولله فيَّ اختيار، فدعني واختيار الله فيّ. [فعلمت أنّه لم يوفق لهذا الكلام، إلا وقد اختير للحظوة]
(6)
، رحمه الله.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمئة
قال ابن الجوزي في "المنتظم"
(7)
: في هذه السّنة حكم جهلة المنجّمين، بأنه سيكون فيها طوفان [قريب من طوفان نوح، وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عيشون
(8)
المنجم فسأله عن هذا الكلام]
(9)
فقال: إن طوفان نوح اجتمع في برج الحوت الطوالع
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
في (ط): "شريح" وهو تصحيف، وهو أبو العباس ابن سريج الفقيه المعروف (بشار).
(3)
المنتظم (9/ 96)، الكامل في التاريخ (10/ 254)، سير أعلام النبلاء (19/ 120)، الوافي بالوفيات (4/ 317)، النجوم الزاهرة (5/ 156)، شذرات الذهب (3/ 392).
(4)
في (ب) و (ط) تحرفت إلى: برقة.
(5)
المنتظم (9/ 97).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
(7)
المنتظم (9/ 97).
(8)
تحرفت في (ط) إلى: عشبون، والتصويب من (ب)، والمنتظم (9/ 97)، وتوضيح المشتبه (4/ 401).
(9)
زيادة من (ب) و (ط).
السبعة، والآن فقد اجتمع فيه ستة، ولم يجتمع معها زحل، فلابدّ من وقوع طوفان في بعض البلاد، والأقرب أنها بغداد، [فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها]
(1)
وجعل النّاس ينتظرون ذلك، فجاء الخبر بأن الحُجّاج حُصِروا في وادي المناقب بعد نخلة، فأتاهم سيل عظيم فنجا منهم من تعلّق برؤوس الجبال، وأذهب الماء الرِّجال، والرِّحال
(2)
، فخلع الخليفة على ذلك المنجم، وأجرى له جراية. وفيها: ملك الأمير قوام الدولة أبو سعد كربوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش، وغرَّقه بعد حصار سبعة أشهر.
وفيها: ملك تميم بن المعزّ بن باديس مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمرًا، فقال خطيب سوسة في ذلك:
ضحِكَ الزّمانُ وكَان يُلْفَى عَابِسًا
(3)
…
لمّا فَتَحْتَ بِحَدِّ سَيْفِكَ قَابِسَا
وَأتَيْتَها بِكرًا وَمَا أمْهَرْتَها
…
إلا قَنًا وَصَوارِمًا وفَوَارِسَا
الله يَعْلَم ما جَنَيْتَ ثِمَارَها
(4)
…
إلا وَكَان أبوكُ قَبْلكَ غَارِسَا
(5)
مَنْ كان مِن زُرْقِ الأسنَّة حَاطِبًا
…
كانتْ لهُ قُلَلُ البِلادِ عَرائِسَا
وفي صفر درّس الشيخ أبو عبد الله الطبري بالنّظاميّة، ولاه إياها فخر المُلْك بن نظام المُلْك، وزير بَرى روق بن ملك شاه.
وفيها: أغارت خفاجة على بلاد سيف الدَّولة صَدَقة بن مَزْيَد بن منصور بن دُبَيْس، وقصدوا مشهد الحسين بالحائر، وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد، فكبسهم الأمير صدقة المذكور، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، حتى عند الضريح [ومن العجائب، أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه]
(6)
. وحجّ بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين الجَسْتاني.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
في (ط): "الجمال والرجال والرحال"، وما هنا موافق لما في (ب) والمنتظم الذي ينقل منه المؤلف.
(3)
في (ب) و (ط): يلقى عابسًا.
(4)
في الكامل: ما هويت ثمارها.
(5)
في (ب) و (ط) والكامل: إلا وكان أبوك قبل الفارسا.
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله
(1)
أبو حكيم الخَبْري
(2)
، وخَبْر: إحدى بلاد فارس.
سمع الحديث، وتفقّه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكانت له معرفة بالفرائض، وله معرفة بالأدب واللّغة، وكانت له مصنّفات، وكان مرضيَّ الطَّريقة، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، فبينما هو يومًا يكتب، وضع القلم من يده، واستند وقال: والله لئن كان هذا موتًا إنَّه لطيّثب، ثمّ مات، رحمه الله.
عبد المحسن بن علي بن أحمد الشِّيْحي التاجر
(3)
ويُعرف بابن شُهْدانْكة
(4)
.
بغدادي، سمع الحديث الكثير، ورحل، وأكثر عن الخطيب وهو بصور، وهو الذي حمله إلى العراق، فلهذا أهدى إليه "تاريخ بغداد" بخطه، وقد روى عنه في مصنفاته، وكان يسميه عبد الله، وكان ثقة.
عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد
(5)
أبو الفضل الهَمَذَاني.
تفقّه على الماورديّ، وكانت له يد طولى في العلوم الشرعية، وفي الحساب، وغير ذلك، وكان يحفظ "غريب الحديث" لأبي عُبَيد، و "المجمل" لابن فارس، وكان عفيفًا زاهدًا، طَلَبه المقتدي ليولّيه قضاء القُضاة، فأبى أشدّ الإباء، واعتذر له بالعجز وعلوِّ السنِّ، وكان ظريفًا، لطيفًا. قال
(6)
: كان أبي إذا أراد أن يؤدِّبني أخذ العَصَا بيده ثمَّ يقول: نويت أن أضرب ولدي تأديبًا، كما أمر الله، ثمّ
(1)
المنتظم (9/ 99)، طبقات السبكي (625)، تاريخ الإسلام (10/ 392)، سير أعلام النبلاء (18/ 558)، النجوم الزاهرة (5/ 159)، توضيح المشتبه (2/ 486)، شذرات الذهب (3/ 353).
(2)
"الخبري"، بالباء، هذه النسبة إلى خبر كما أشار المصنف رحمه الله، وقال ياقوت في معجم البلدان (2/ 344): خبر، بليدة قرب شيراز من أرض فارس. وذكر نسبة المترجم إليها. وفي الأصل و (ط): أخو أبي حكيم. وهذا خطأ فالمترجم نفسه هو نفسه هو أبو حكيم الخبري. وثمة خلاف بين المصادر في سنة وفاته، ففي كتب الذهبي أنه توفي سنة ست وسبعين، وفي استدراك ابن نقطة أنه توفي في سنة ست وتسعين. وما هنا موافق لما في المنتظم والنجوم الزاهرة.
(3)
المنتظم (9/ 100)، سير أعلام النبلاء (19/ 152)، توضيح المشتبه (1/ 550)، شذرات الذهب (3/ 392). ونسبته: الشيحي إلى الشيحة من قرى حلب. معجم البلدان (3/ 379) وقد تحرفت في (ط) إلى الشنجي.
(4)
في (ط): "شهداء مكة"، وهو تحريف بيِّن (بشار).
(5)
المنتظم (9/ 100)، الكامل في التاريخ (10/ 261)، طبقات السبكي (5/ 162)، سير أعلام النبلاء (19/ 31).
(6)
الكلام لولده المؤرخ محمد بن عبد الملك، كما نص عليه ابن الجوزي في المنتظم.
يضربني. قال: وإلى أن ينوي ويتمّ النيّة، كنت أهرب، توفي في رجب من هذه السنة، ودفن عند قبر ابن سُرَيج
(1)
.
محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن مَنْصور
(2)
أبو بكر الدَّقَّاق، ويعرف بابن الخاضِبَة
(3)
.
كان معروفًا بالإفادة، وجودة القراءة، وحسن الخطّ، وصحّة النقل، وجمع بين علم القرآن والحديث، وأكثر عن أبي بكر الخطيب، وأصحاب المخلِّص. قال: لمّا غرقت بغداد غرقت داري وكتبي، فلم يبق لي شيء، فاحتجت إلى النسخ، فكتبت "صحيح مسلم" في تلك السّنة سبع مرّات، فنمت ذات ليلة فرأيت كأن القيامة قد قامت، وقائل يقول لي: أين ابن الخاضِبَة؟ فجئت، فأدخلت الجنّة، فلما دخلتها استلقيت على قَفاي، ووضعت إحدى رجلي على الأخرى، وقلت: استرحت من النسخ، ثمّ استيقظت والقلم في يدي والنسخ بين يدي، رحمه الله تعالى.
أبو المظفر السَّمعاني
(4)
منصور بن محمد بن عبد الجَبّار بن أحمد بن محمد، أبو المظفّر السَّمعاني الحافظ، من أهل مرو.
تفقّه أولًا على أبيه في مذهب أبي حنيفة، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي، وقد أخذ عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصّباغ، [وكانت له يد طولى في فنون كثيرة]
(5)
وصنّف "التفسير" وكتابه "الانتصار في الحديث"، و "البرهان"، و"القواطع في أصول الفقه"، و "الاصطلام"
(6)
وغير ذلك. ووعظ في مدينة نيسابور، وكان يقول: ما حفظتُ شيئًا فنسيته، وسُئِل عن أخبار الصفات فقال: عليكم بدين العجائز، [وصبيان الكتاتيب]، وسُئِلَ عن الاستواء فقال:
جِئْتُما لتعلَما سِرَّ سُعدى
…
تجداني بسرِّ سُعدى شَحيحَا
إنَّ سُعدى لَمُنيَة المتمنّي
…
جمعتْ عِفّةً وَوَجهًا صَبيحا
توفي رحمه الله في هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
(1)
في (ط): "شريح"، وهو تصحيف.
(2)
المنتظم (9/ 101)، الكامل في التاريخ (10/ 260)، دول الإسلام (2/ 18)، سير أعلام النبلاء (19/ 109)، الوافي بالوفيات (2/ 89)، شذرات الذهب (3/ 393).
(3)
تحرفت في (ط) إلى: الحاضنة.
(4)
المنتظم (9/ 102)، وفيات الأعيان (3/ 211)، طبقات السبكي (5/ 335)، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 339)، سير أعلام النبلاء (19/ 114)، النجوم الزاهرة (5/ 160)، شذرات الذهب (3/ 393).
قال ابن خلّكان: والسمعاني: بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح العين المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى سمعان، وهو بطن من تميم.
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
كتاب الاصطلام في الرد على أبي زيد الدّبوسي الحنفي. الأنساب (7/ 139).
ثم استهلَّت سنة تسعين وأربعمئة
فيها: كان ابتداء ملك الخُوارزميّة، وذلك أنّ السلطان بركياروق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه آرْسلان أرغون بن ألْب آرْسلان، وسلّمها إلى أخيه أحمد المعروف بالملك سنجر، وجعل أتابكه الأمير قماج، ووزيره [أبو الفتح] علي بن الحسين الطغرائي، واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن التونتاق
(1)
، فولّى مدينة خُوارزم شابًا يقال له: محمد بن أنوشتكين وكان أبوه من مماليك أمراء السَّلاجقة، ونشأ هو في أدب وفضيلة، وحسن سيرة، ولما وُلي خُوارزم، لقِّب خُوارزم شاه، فكان أوّل ملوكهم، فأحسن السيرة وعامل النّاس بالجميل وحين مات قام من بعده على خوارزم ولده [أتسزجرى] على سنن أبيه، وأظهر العدل، فحظي عند السلطان سنجر، وأحبّه الناس، وارتفعت منزلته.
وفيها: خطب الملك رضوان بن تاج الدولة تتش للخليفة المستعلي الفاطمي.
[وفي شوال قُتل رجل باطني عند باب النوبي كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل: أنّه دعاهما إلى مذهبه، فجعل يقول: أتقتلونني؟ وأنا أقول: لا إله إلا الله، فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: 84 الآية وما بعدها].
وفي رمضان قتل بُرْسُق أحد أكابر الأمراء، وكان أوّل من تولّى شحنة بغداد.
وحج بالناس في هذه السنة خمارتكين الجَسْتاني.
وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بُوَيْه لأمور ثبتَت عليه عند القاضي، فأُريق دَمُهُ، ونُقِضَتْ داره، وعُمِلَ مكانها مسجدان للحنفيّة والشافعيّة. وكان [السلطان] ملك شاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن زكريا بن دينار
(2)
أبو يَعلى العَبْدي البصري، ويعرف بابن الصوّاف.
ولد سنة أربعمئة، سمع الحديث، وكان زاهدًا متصوّفًا، وفقيهًا مدرّسًا، ذا سمت، ووقار، وسكينة، [ودين]، وكان علّامة في عشرة علوم، توفي في رمضان من هذه السّنة عن تسعين [سنة]، رحمه الله تعالى.
(1)
في (ط): "البرشاق"، وهو تحريف، وما أثبتناه يعضده ما في الكامل لابن الأثير (10/ 266 - 267).
(2)
المنتظم (9/ 103)، سير أعلام النبلاء (19/ 156)، شذرات الذهب (3/ 394).
المعمّر بن محمد بن المعمّر بن أحمد بن محمد
(1)
أبو الغنائم الحُسيني، النقيب للطالبيين.
سمع الحديث وكان حسن الصورة، كريم الأخلاق، كثير التعبّد، لا يُعرف أنّه آذى مسلمًا، ولا شتم صاحبًا، توفي عن نيّف وستين سنة، كان منها نقيبًا ثنتين وثلاثين سنة، وكان من سادات قريش، وتولّى بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولُقِّب بالرضيّ ذي الفخرين، وقد رثاه الشعراء بأبيات ذكرها ابن الجوزي
(2)
.
يحيى بن أحمد بن محمد بن علي السِّيبي
(3)
.
سمع الحديث، ورحل إليه الطَّلبة، وكان ثقةً، صالحًا، [صدوقًا أديبًا] عُمِّر مئة سنة وثنتي عشرة سنة ونصف، وهو مع ذلك صحيح الحواس يُقْرأ عليه القرآن والحديث، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمئة
في جمادى الأولى [منها] ملك الفرنج مدينة أنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة من بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وهرب صاحبها ياغي سِيان
(4)
في نفر يسير وترك [بها] أهله وماله، ثمّ أخذه في أثناء الطريق نَدَمٌ شديد على ما فعل، بحيث إنّه غُشي عليه، وسقط عن فرسه، فتركه أصحابه وذهبوا، فجاء راعي غنم فقطع رأسه، وذهب به إلى ملك الفرنج، ولما بلغ الخبر إلى الأمير كربوقا صاحب الموصل، جمع عساكر كثيرة، واجتمع إليه دُقاق بن تتش صاحب دمشق [وجناح الدولة] صاحب حمص وغيرهما، وساروا إلى الفرنج، فالتقوا معهم بأرض أنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالًا كثيرة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثمّ سارت الفرنج إلى معرّة النعمان فحاصروها وأخذوها أيضًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولما بلغ هذا [الأمر الفظيع إلى الملك بركياروق، شقّ عليه ذلك، وكتب إلى الأمراء ببغداد أن يتجهزوا صحبة الوزير ابن جَهير لقتال الفرنج،
(1)
المنتظم (9/ 104)، تاريخ الإسلام (10/ 654).
(2)
المنتظم (9/ 104 - 105).
(3)
المنتظم (9/ 105)، الكامل في التاريخ (10/ 271)، معرفة القراء الكبار (1/ 357)، سير أعلام النبلاء (19/ 98)، النجوم الزاهرة (5/ 161)، شذرات الذهب (3/ 396).
و"السِّيبي": بكسر المهملة، وسكون المثناة تحت، تليها موحدة، نسبة إلى بلد السِّيب، وهو على الفرات بقرب الحلّة. توضيح المشتبه (5/ 21 - 22).
(4)
في (أ) و (ب): "باغي سنان" وهو تحريف، وما أثبتناه من ط والكامل (10/ 274)، وتاريخ الإسلام (10/ 666).
فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي]
(1)
ثمّ انفسخت هذه العزيمة لأته بلغهم: أن الفرنج في ألف ألف مقاتل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وحجّ بالناس فيها خمارتكين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
طِرَاد بن محمد بن علي
(2)
بن الحسن بن محمد بن عبد الوهّاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي تمام.
من ولد زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، [وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن عبد الله بن عباس]
(3)
. سمع الحديث الكثير والكتب الكبار، وتفرّد [بالرواية] عن جماعة من المشايخ، ورُحِل إليه في الآفاق، وأملى الحديث في بلدان شتّى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات، وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه، وباشر نقابة العباسيين مدة طويلة، توفي عن نيّف وتسعين سنة في هذه السنة ودفن في مقابر الشهداء
(4)
، رحمه الله تعالى.
المظفّر بن رئيس الرُّؤساء
(5)
أبي القاسم بن المُسْلِمة، أبو الفتح.
كانت داره مجمعًا لأهل العلم والدين والأدب، وبها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ولما توفي أبو الفتح دفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة
فيها: أخذت الفرنج خذلهم الله تعالى بيت المقدس، لما كان ضحى يوم الجمعة [لسبع بقين] من آخر شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة، استحوذ الفرنج لعنهم الله وهم في نحو ألف ألف مقاتل على بيت المقدس شرفه الله تعالى، فقتلوا في وسطه أزيد من سبعين
(6)
ألف قتيل [من المسلمين]{فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5]، {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7]. قال ابن الجوزي
(7)
:
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم (9/ 106)، الكامل في التاريخ (10/ 280)، سير أعلام النبلاء (9/ 37)، النجوم الزاهرة (5/ 162)، شذرات الذهب (3/ 396).
(3)
زيادة في (ب) و (ط).
(4)
دفن أولًا بداره، ثم نقل في السنة التي تليها إلى مقابر الشهداء بباب حرب (تاريخ الإسلام 10/ 706)(بشار).
(5)
المنتظم (9/ 107)، الكامل في التاريخ (10/ 280).
(6)
كذا الأصل والكامل (10/ 283)، وفي (ط): ستين.
(7)
المنتظم (9/ 108).
وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلًا من فضة، زنة كلِّ قنديل ثلاثة آلاف وستمئة [درهم]. [وأخذوا] تنُّورًا من فضة زنته أربعون رِطلًا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلًا من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، ومنهم القاضي بدمشق أبو سعد الهَرَوي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك، وتباكَوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلامًا قرئ في الديوان وعلى المنابر، فجهش الناس بالبكاء، وقد ندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج، ليحرِّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئًا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال في ذلك أبو المظفَّر الأبِيوَرْدي:
مزجنا دماءً
(1)
بالدُّموع السواجمِ
…
فلم يَبْقَ منا
(2)
عُرضةٌ للمراجِم
وشرُّ سلاحِ المرءِ دمعٌ يُفيضه
(3)
…
إذا الحربُ شبَّتْ نارُها بالصوارِم
فإيهًا بَني الإسلامِ إنَّ وراءَكُم
…
وقائعَ يُلْحِقْنَ الذُّرا بالمناسم
وكيفَ تنامُ العينُ ملءَ جفونِها
…
على هَفَواتٍ أيْقَظَتْ كلَّ نائم
وإخوانُكمْ بالشّام يُضْحي مَقيلُهم
…
ظهورَ المذاكي أو بطونَ القَشاعم
تسومُهُمُ الرُّومُ الهوانَ وأنتُمُ
…
تجرُّونَ ذيلَ الخفضِ فعلَ المُسالِم
وبينَ اختلاسِ الضربِ والطعن وقعةٌ
…
يظلُّ لها الولدانُ شيبَ القَوادم
وتلكَ حروبٌ من يَغِبْ عن غِمارِها
…
ليسلَمَ يقرَعْ بعدها سنَّ نادم
سللنَ بأيدي المشركينَ قواضبًا
…
سَتُغْمَدُ منهمْ في الكِلَى والجماجم
يكادُ لهنَّ المستجير بِطَيبةٍ
…
يُنادي بأعلى الصوتِ يا آل هاشم
أرى أُمَّتي لا يُشرِعونَ إلى العِدا
…
رماحَهُمُ والدينُ واهي الدّعائم
ويجتنبونَ النارَ خوفًا من الرَّدى
…
ولا يحسبونَ العارَ ضربةَ لازمِ
أيرضى صَناديدُ الأعارِبِ
(4)
بالأذَى
…
ويُغضي على ذلٍّ حماةُ
(5)
الأعاجم
فَلَيْتَهُمُ إذْ لم يذودُوا حَميَّةً
…
عن الدِّينِ ذادوا غيرةً للمحارمِ
وإنْ زَهِدوا في الأجر إذ هَمَس الوغى
…
فهلا أتوهُ رغبةً في المغانم
(6)
(1)
في (ط): دمانا.
(2)
في (ب): منها.
(3)
في (ط): بريقه.
(4)
في (ط): الأعاريب.
(5)
في (ط): كماة.
(6)
القصيدة في ديوان الأبيوردي (2/ 156).
وفيها: كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملك شاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمّه، واستفحل أمره إلى أن صار من أمره أن خطب له ببغداد في ذي الحجّة من هذه السّنة.
وفيها: سار إلى الريّ فوجد زُبيدة خاتون أم أخيه بركياروق فأمر بخنقها، وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة.
وفي ذي الحجّة من هذه السنة كانت له مع بركياروق خمس وقَعات هائلة.
وفي هذه السنة غلت الأسعار ببغداد، حتى مات كثير من الناس جوعًا، وأصابهم وباءٌ شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى لكثرثهم.
وممن توفي فيها من الأعيان:
السلطان إبراهيم بن السلطان مسعود
(1)
ابن السلطان محمود بن سُبُكْتِكين
(2)
، صاحب غزنة، وأطراف الهند، وغير ذلك.
كانت له حرمة تامة، وأُبَّهةٌ عظيمة جدًّا، حكى إلْكيا الهرَّاسيّ حين بعثه السلطان بركياروق إليه في رسالته عمّا شاهده عنده من أمور السلطنة، في ملبسه ومجلسه، وما عنده [من الأموال] من السعادة الدنيويّة [قال: رأيت] شيئًا عجيبًا، وقد وعظه بحديث:"لَمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن من هذا"
(3)
فبكى. قال: وكان لا يبني لنفسه منزلًا حتى يبني قبله مسجدًا، أو مدرسةً، أو رباطًا، توفي رحمه الله تعالى في رجب من هذه السنة، وقد جاوز التسعين، ومدّة ملكه ثنتان وأربعون سنة.
عبد الباقي بن يُوسف بن علي بن صالح
(4)
أبو تراب المَرَاغي
(5)
.
(1)
في (ط): "إبراهيم ابن السلطان محمود بن مسعود"، وهو خطأ جد ظاهر (بشار).
(2)
المنتظم (9/ 109)، الكامل في التاريخ (10/ 167)، سير أعلام النبلاء (18/ 580)، ووفاته في سنة إحدى وثمانين، حيث تابع فيه ابن الأثير، لكنه ذكره في وفيات هذه السنة من تاريخ الإسلام (10/ 717)، النجوم الزاهرة (5/ 164).
(3)
الحديث، أخرجه البخاري رقم (3249) في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ورقم (3802) في مناقب الأنصار، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه وفي اللباس رقم (5836) وفي الأيمان والنذور رقم (6640)، ومسلم (2468) في فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه (ع).
(4)
المنتظم (9/ 110)، طبقات السبكي (5/ 96)، سير أعلام النبلاء (19/ 170)، النجوم الزاهرة (5/ 164).
(5)
في الأصل: الداعي، وفي (ط): البراعي. وما أثبته من مصادر ترجمته، وتوضيح المشتبه (1/ 425) ونسبة إلى: مراغة: بلدة مشهورة عظيمة، أعظم وأشهر بلاد أذربيجان. معجم البلدان (5/ 93).
ولد سنة إحدى وأربعمئة وتفقّه على القاضي أبي الطيِّب الطبري، وسمع الحديث عليه وعلى غيره من المشايخ ببلدان شتّى، ثمّ أقام بنيسابور، وكان يحفظ شيئًا كثيرًا من مسائل الخلاف نحوًا من أربعة آلاف مسألة بأدلّتها والمناظرة عليها، وغير ذلك من الحكايات والملح والآداب. وكان صبورًا متقلّلًا [من الدنيا] على طريقة السَّلف، جاءه منشور بقضاء همذان فقال: أنا منتظر منشورًا من الله [عز وجل] على يدي ملك الموت بالقدوم عليه، والله لجلوس ساعة في هذا المسجد على راحة القلب أحب إليّ من ملك العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحبّ إليّ من الثقلين
(1)
. حكاه ابن الجوزي في المنتظم"
(2)
، توفي في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة.
أبو القاسم بن إمام الحرمين
(3)
قتله بعض الباطنية بنيسابور، رحمه الله ورحم أباه بمنّه وكرمه.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمئة
في صفر منها دخل السلطان بركياروق إلى بغداد [ونزل بدار الملك] وأعيدت له الخطبة ببغداد، وقطعت خطبة أخيه محمد بن ملكشاه، وبعث إليه الخليفة الهدية الهائلة، وفرح به العوام والنساء، ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد، لإقبال الدولة عليه، واجتماعهم إليه، وقلّة ما معه من الأموال، ومطالبة الجند له بأرزاقهم [فعزم على مصادرة الوزير ابن جَهير، فالتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك، ثمّ اتفق الحال على المصالحة عنه]
(4)
وأخذ من الوزير ابن جَهير مئة ألف دينار وستين ألف دينار، ثمّ التقى هو وأخوه السلطان محمد بمكان قريب من همذان فهزمه أخوه محمد، ونجا بنفسه في خمسين فارسًا، وقُتل في هذه الوقعة سعد الدولة كوهرائين الخادم. وكان قديم الهجرة في الدولة، وقد ولي شحنة بغداد، وكان حليمًا حسن السيرة، ولم يتعمد ظلمًا، [ولم ير خادم ما رأى من الحشمة، والحرمة، وكثرة الخدم]
(5)
وقد كان يكثر الصلاة باللّيل، ولا يجلس إلا على وضوء، ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قطّ. ولما جرى ما جرى من هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركياروق، ثمّ تراجع إليه جيشه، وانضاف إليه الأمير داذحبشي
(6)
في عشرين ألفًا، فالتقى مع أخيه سنجر فهزمه سنجر أيضًا [وهرب في
(1)
جاء بعد هذا في (ط) تتمة لهذا الكلام، وليس من النص، بدليل أن المؤلف نص على أن هذا النص حكاه ابن الجوزي في المنتظم، وليس من ذلك شيء في المنتظم (بشار).
(2)
المنتظم (9/ 111).
(3)
الكامل في التاريخ (10/ 291).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
في (ط): "داود بن حبش"، محرف، وما هنا يعضده ما في الكامل لابن الأثير (9/ 296)(بشار).
شرذمة قليلة] وأسر [الأمير] داذ المذكور في هذه الوقعة فقتله الأمير بزغش، أحد أمراء سنجر فتقهقر حاله، وتفرّقت عنه رجاله، وقطعت خطبته من بغداد في [رابع عشر من] رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد.
وفي رمضان قبض على الوزير عميد الدولة بن جَهير، وعلى أخويه: زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقّب بالكافي، وأخذت منه أموال كثيرة، وحُبس بدار الخلافة حتى مات في شوال من هذه السنة، وفي اللّيلة السابعة والعشرين منه قتل [الأمير بلكابك سرمز] شحنة أصبهان، ضربه باطني بسكين في خاصرته [وقد كان يتحرّز منهم كثيرًا، وكان يدَّرع تحت ثيابه سوى هذه اللّيلة]
(1)
ومات من أولاده في هذه اللّيلة جماعة، فخرج من داره خمس جنائز من صبيحتها.
وفي هذه السنة أقبل ملك الفرنج في ثلاثمئة ألف مقاتل فالتقى مع كمشتكين الملقَّب بالدانشمنذ
(2)
طايلو، أتابك الجيوش بدمشق [الذي يقال له أمين الدولة، وواقف الأمينيّة]
(3)
بدمشق وببصرى، لا التي ببعلبَكَّ، فهزم الأفرنج وقتل منهم خلفًا كثيرًا، بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف وأكثرهم جرحى، وذلك في ذي القعدة من هذه السنة، ولحقهم إلى ملطية، فملكها، وأسر ملكها [ولله الحمد].
وحجّ بالناس الأمير التونتاش التركي، وكان شافعيّ المذهب.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عبد الرزاق الصّوفي الغَزْنوي
(4)
.
شيخ رباط عَتّاب، حجّ مرات على التجريد، ومات في هذه السنة وله نحو مئة سنة، ولم يترك كفنًا، وقد قالت له امرأته وهو في الاحتضار: إنّك ستفضح اليوم [قال: لم؟ قالت له: لأنه] لا يوجد لك كفن، فقال لها: لو تركتُ كفنًا لافتضحت. رحمه الله تعالى، وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، كان لا يلبس إِلَّا صوفًا شتاءً وصيفًا، ويظهر الزهد، وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة، فتعجب الناس من تفاوت حاليهما، واتفاق موتهما في هذه السنة رحم الله الأول، وسامح الثاني.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
في (ط): أنسّمندا.
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
المنتظم (9/ 116)، الكامل في التاريخ (10/ 302).
الوزير عميد الدولة ابن جَهْير
(1)
محمد بن أبي نصر محمد بن محمد بن جَهير، الوزير الكبير، أبو منصور، الملقب عميد الدولة.
أحد رؤساء الوزراء، وسادات الكبراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، ووزر لاثنين منهم، وكان حليمًا قليل العَجَلة، إِلَّا أنَّه كان يُتكلَّم فيه بسبب الكِبْر، وقد ولي الوزارة مرات، يُعزل ثُمَّ يُعاد، ثمّ كان آخرها هذه المرّة، حُبِس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن، إِلَّا ميتًا في شوال من هذه السنة.
ابن جَزْلَة
(2)
يحيى بن عيسى بن جزلة، الطبيب، صاحب "المنهاج"
(3)
في الطب.
كان نصرانيًا، وكان يتردد إلى الشيخ أبي علي بن الوليد المعتزلي
(4)
يشتغل عليه في المنطق، فكان يدعوه إلى الإسلام، ويوضِّح له الدّلالات، حتى أسلم وحسن إسلامه، حتى استخلفه أبو عبد اللّه الدامغاني قاضي القضاة في كتب السجلات، ثمّ كان يطبِّب الناس بعد ذلك بلا أجر، وربّما ركّب لهم الأدوية من ماله تبرّعًا، وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفًا في مشهد الإمام أبي حنيفة، رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمئة
فيها: عَظُم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنيّة، فقتل السلطان منهم خلقًا كثيرًا، وأبيحت دِماؤهم وأموالهم للعامّة [ونودي فيهم: إن كلّ من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله]
(5)
وكانوا قد استحوذوا على قِلاع كثيرة، وأوّل قلعةٍ ملكوها في سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن الصبّاح أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلّم من الزنادقة الذين كانوا بها، ثمّ صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، فكان لا يدعو إِلَّا غبيًّا [جاهلًا] لا يعرف يمينه من شماله، ثمّ يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحترق مزاجه، ويفسد دماغه، ثمّ يذكر له شيئًا من أخبار أهل البيت، ويكذب له من كذبات الرَّوافض الضُّلال، أنَّهم ظُلِموا، ومُنِعوا حقَّهم [الذي أوجبه لهم اللّه ورسوله] ثم يقول له: فإذا كانت الخوارج تقاتل مع بني أميّة لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا
(1)
المنتظم (9/ 118)، الكامل في التاريخ (10/ 298)، سير أعلام النبلاء (19/ 175)، الوافي بالوفيات (1/ 122)، النجوم الزاهرة (5/ 165).
(2)
المنتظم (9/ 119)، الكامل في التاريخ (10/ 302)، عيون الأنباء (343)، وفيات الأعيان (6/ 267)، سير أعلام النبلاء (19/ 188)، النجوم الزاهرة (5/ 166).
(3)
قال ابن خلّكان في هذا الكتاب: رتبه على الحروف، وجمع فيه أسماء الحشائش والعقاقير والأدوية وغير ذلك شيئًا كثيرًا.
(4)
في (ط): "المغربي" وهو تحريف.
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
يزال يسقيه من [العسل] وأمثاله حتى يستجيب له، ويصير أطوع له من أبيه وأمّه. ويُظهر له أشياء كثيرة من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إِلَّا على الجهّال، حتى التفّ عليه بشر كثير وجمّ غفير، وقد بعث إليه الملك ملك شاه يتهدَّده ويتوغده وينهاه (عن بعثة الفداويّة إلى العلماء) [وبعث إليه بفتاوى العلماء] فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حضره من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولًا إلى مولاه، فاشرأبَّت وجوه الحاضرين منهم، ثُمَّ قال لشاب منهم: اقتل نفسك، فأخرج سكّينًا فضرب بها غلصمته، فسقط ميتًا، وقال لآخر منهم: ألْقِ نفسك من هذا الموضع، فرمى بنفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطّعه، فقال لرسول [السلطان]: هذا الجواب، فمنها امتنع السلطان من مراسلته، هكذا أورده ابن الجوزي
(1)
، وسيأتي: أن الملك صلاح الدين [يوسف بن أيوب] فاتح بيت المقدس جرى له مع سنان
(2)
صاحب قلاع الألموت
(3)
مثل هذا.
وفي شهر رمضان أمر الخليفة المستظهر باللّه بفتح جامع القصر، وأن يُبيَّضَ، وأن يُصلّى فيه التراويح، وأن يُجهر بالبسملة، وأن يُمنع النِّساء من الخروج ليلًا للفرجة.
وفي أول هذه السَّنة دخل السلطان بركياروق إلى بغداد، ثمّ لحقه أخواه محمد وسنجر، فدخلاها
وهو مريض، فعبرا إلى الجانب الغربي، فقطعت خطبته، وخُطبَ لهما بها، وهرب بركيارودق إلى واسط، ونهب جيشه ما اجتازوا من البلاد والأراضي، فنهاه بعض العلماء عن ذلك ووعظه فلم يُفد شيئًا.
وفي هذه السنة ملكت الفرنج قلاعًا كثيرة منها: قيساريّة
(4)
، وسَرُوج
(5)
، وسار ملك الفرنج - وهو الذي أخذ بيت المقدس - كندبري
(6)
إلى عكا فحاصرها، فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره. ألا لعنة اللّه عليه وعلى أجناده.
(1)
المنتظم (9/ 121).
(2)
من هنا حتى قوله: ثم دخلت سنة خمس وتسعين. ساقط من (ب)، وسنان هذا هو مقدم الإسماعيلية، كان بينه وبين صلاح الدين حروب ومراسلات منذ سنة سبعين وخمسمئة وما بعدها.
(3)
في الأصل: الأكوب، وفي (ط): الإيوان. وكلاهما خطأ، وما أثبته من الكامل في التاريخ.
(4)
قيسارية: مدينة كبيرة عظيمة في بلاد الروم، وهي كرسي مُلْك بني سلجوق ملوك الروم أولاد قليج أرسلان. معجم البلدان (4/ 421).
(5)
"سَرُوج": بلدة قريبة من حرّان من ديار مضر، تم فتحها صلحًا سنة 17 في أيام عمر رضي الله عنه. معجم البلدان (3/ 216).
(6)
هكذا في النسح، ويكتب:"كندفري" و"كندهري" وهو كودفري دي بويون (بشار).
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن الصبَّاع
(1)
أبو منصور.
سمع الحديث وتفقّه على أبي الطيب الطَّبري، ثمّ على ابن عمه أبي نصر الصبّاغ، وكان فقيهًا، فاضلًا، كثير الصلاة، يصوم الدهر، وقد ولي القضاء بربع الكرخ، والحسبة بالجانب الغربي، رحمه اللّه تعالى.
عبد اللّه بن الحسن بن أبي منصور
(2)
أبو محمد الطَّبَسي.
رحل إليه العلماء، وجمع، وصنّف، وكان أحد الحفاظ المكثرين، ثقة، صدوقًا، عارفًا بالحديث، ورعًا، حسن الخلق، رحمه الله.
عبد الرحمن بن أحمد بن محمد
(3)
أبو محمد الزَّاز
(4)
السرخسي.
نزل مرو، وسمع الحديث، وأملى، ورحل إليه العلماء، وكان حافظًا لمذهب الشافعي متديّنًا ورعًا، رحمه الله.
عُزَيزي بن عبد الملك بن منصور
(5)
أبو المعالي الجِيْلي، القاضي، الملقّب: شَيْذَلة
(6)
.
كان شافعيًا في الفروع، أشعريًا في الأصول. وكان حاكمًا بباب الأزج، وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير، سمع رجلًا ينادي على حمار له ضائع، فقال: يدخل باب الأزج ويأخذ بيده من شاء، وقال يومًا للنقيب طِراد الزَّيْنَبي: لو حلف إنسان أنَّه لا يرى إنسانًا، فرأى أهل باب الأزج لم يحنث، فقال له الشريف: من عاشر قومًا أربعين يومًا فهو منهم، لهذا لمّا مات فرحوا
(1)
المنتظم (9/ 125)، الكامل في التاريخ (10/ 326)، طبقات السبكي (3/ 34).
(2)
المنظم (9/ 125)، منتخب السياق (الترجمة 960)، تاريخ الإسلام (10/ 753).
(3)
المنتظم (9/ 125)، معجم البلدان (3/ 209)، طبقات السبكي (5/ 101)، سير أعلام النبلاء (19/ 154) وكنيته فيه: أبو الفرج، شذرات الذهب (3/ 400).
(4)
في الأصل: البزار، وفي (ط): الرَّزاز، وما أثبت من مصادر الترجمة، والأنساب (6/ 219) وفيه: الزاز، بالألف بين الزايين المنقوطين، هو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه.
(5)
المنتظم (9/ 126)، الكامل في التاريخ (10/ 326)، وفيات الأعيان (3/ 259)، طبقات السبكي (5/ 235)، سير أعلام النبلاء (19/ 174)، نزهة الألباب في الألقاب (1/ 411)، شذرات الذهب (3/ 401).
(6)
قال ابن خلّكان (3/ 260): وشيذلة، بفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة واللام وبعدها هاء ساكنة، وهو لقب عليه، ولا أعرف معناه مع كثرة كشفي عنه.
بموته كثيرًا، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طَوْق
(1)
أبو الفضائل الرَّبَعي الموصلي.
تفقَّه على الشيخ أبي إسحاق الشِّيرازي، وسمع الحديث من القاضي أبي الطيِّب الطَّبري، وكان ثقةً صالحًا، كتب الكثير.
محمد بن الحسن
(2)
أبو عبد الله الرّاذاني
(3)
.
نزل أوانا، وكان مقرئًا، فقيهًا، صالحًا، له أحوال، وكرامات، ومكاشفات، أخذ عن القاضي أبي يعلى بن الفرّاء الحديث وغيره.
قال ابن الجوزي: بلغني أنَّ ابنًا صغيرًا له طلب منه غزالًا وألحّ عليه، فقال: يا بنيّ غدًا تأتيك غزال، فلمّا كان الغد، أتت غزال، فجعلت تنطح الباب بقرنيها حتى يفتحه، فقال له أبوه: يا بنيّ! أتتك الغزال، رحمه اللّه تعالى.
محمد بن علي بن عُبيد الله بن [أحمد] بن صالح بن سُلَيمان بن وَدْعان
(4)
أبو نصر الموصلي القاضي.
قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين، وحدّث عن عمّه بالأربعين الوَدْعانيّة، وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رِفاعة الهاشمي، فركّب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رِفاعة وهي موضوعة كلُّها، وإن كان في بعضها معانٍ صحيحة
(5)
، والله أعلم.
محمد بن منصور
(6)
أبو سعد المُستوفي، شرف المُلْك الخُوارزمي.
جليل القدر، وكان متعصّبًا لأصحاب أبي حنيفة، ووقف لهم مدرسة بمرو، ووقف فيها كتبًا
(1)
المنتطم (9/ 126)، الكامل في التاريخ (10/ 326)، الوافي بالوفيات (2/ 105)، توضيح المشتبه (2/ 571).
(2)
المنتظم (9/ 127)، معجم البلدان (3/ 12)، أنساب السمعاني (6/ 36)، وتوضيح المشتبه (4/ 88).
(3)
نسبة إلى راذان: كورة بسواد بغداد تشتمل على قرى كثيرة. معجم البلدان (3/ 12).
(4)
المنتطم (9/ 127)، الكامل في التاريخ (10/ 327)، سير أعلام النبلاء (19/ 164)، الوافي بالوفيات (4/ 141).
(5)
قال ابن حجر في لسان الميزان: (5/ 306): وقد سئل المزي عن الأربعين الودعانية، فقال: لا يصح منها على هذا النسق بهذه الأسانيد شيء، وإنما يصح منها ألفاظ يسيرة بأسانيد معروفة يحتاج في تتبعها إلى فراغ، وهي مع ذلك مسروقة.
(6)
المنتظم (9/ 128)، الكامل في التاريخ (10/ 326)، سير أعلام النبلاء (19/ 188)، النجوم الزاهرة (5/ 167).
كثيرة، وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق، وبنى القبّة على قبر أبي حنيفة، وبنى أربطة في المفاوز، وعمل خيرًا كثيرًا، وكان من أطيب الناس مأكلًا ومشربًا، وأحسنهم ملبسًا، وأكثرهم مالًا، ثمّ ترك العمالة بعد هذا كلّه، وأقبل على العبادة والاشتغال بنفسه إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
محمد بن منصور القشيري
(1)
المعروف بعميد خراسان.
قدم بغداد أيام طُغْرُلْبَك، وحدّث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور، كان كثير الرغبة في الخير، وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفّر السمعاني وذرّيته [قال ابن الجوزي]: وهم يتولّونها إلى الآن، وبنى بنيسابور مدرسة وفيها تربته، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة، رحمه الله.
نصر بن أحمد بن عبد الله بن البَطِر
(2)
أبو الخطّاب [الخطابي] البزّاز القارئ.
ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة، وسمع الكثير، وتفرّد عن ابن زِرقويه وغيره، وطال عمره، ورُحل إليه من الآفاق، وكان رحمه الله تعالى صحيح السماع.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمئة
في ثالث المحرم [منها] قُبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف بـ: إلكيا الهَرَّاسي، وعُزل عن تدريس النظاميّة، وذلك لأنّه رماه بعضهم عند السلطان بأنَّه باطني، فشهد له جماعة من العلماء - منهم ابن عقيل - ببراءته من ذلك، وجاءت الرسالة من دار الخلافة [يوم الثلاثاء] بخلاصه.
[وفي يوم الثلاثاء الحادي عشر من المحرم]
(3)
جلس الخليفة المستظهر بالله بدار الخلافة، وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر ابنا السلطان ملك شاه فقبّلا الأرض، فخلع عليهما الخلع السلطانيّة: على محمد سيفًا وطوقًا وسوارًا ولواءً وأفراسًا من مراكبه، ولسنجر دون ذلك، وولّى الخليفة السلطان محمد المُلْكَ، واستنابه في جميع ما يتعلّق بأمر الخلافة [دون ما أغلق عليه الخليفة بابه]
(4)
ثم خرج السلطان محمد [في تاسع عشر من الشهر] فأرجف الناس بقدوم بركياروق، ثُمَّ اصطلحوا على أمور، فركب السلطان محمد، فالتقوا، وجرت حروب كثيرة، وانهزم محمّد، وجرى عليه مكروه شديد، كما سيأتي بيانه.
(1)
المنتظم (9/ 128).
(2)
الأنساب (9/ 133)، المنتظم (9/ 129)، معجم البلدان (4/ 192)، الكامل في التاريخ (10/ 327)، سير أعلام النبلاء (19/ 46)، شذرات الذهب (3/ 402).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
وفي رجب قبل القاضي أبو الحسن بن الدامغاني شهادة أبي الحسين، وأبي حازم ابني القاضي أبي يعلى بن الفرّاء.
وفيها: قدم عيسى بن عبد الله الغزنوي [القونوي] فوعظ الناس وكان شافعيًّا، أشعريًا، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعريّة [ببغداد].
وفيها: وقع حريق عظيم ببغداد، وحجّ بالناس حُميد العُمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور بن دُبيس صاحب الحلّة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أبو القاسم صاحب مصر
(1)
الملَّقب بالمستعلي، كانت وفاته في ذي الحجَّة من هذه السنة، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو علي، وله تسع سنين
(2)
، ولقِّب: الآمر بأحكام اللّه.
محمد بن هبة اللّه
(3)
أبو نصر الضرير [القاضي البَنْدَنيجي]، الفقيه الشافعي.
أخذ عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثمّ جاوز بمكة أربعين سنة يفتي ويدرِّس، ويروي الحديث، كان من نوادر الزَّمان، ومن شعره:
عدمتُكِ نفسي ما تملِّي تطالبي
(4)
…
وقد مرَّ إخواني
(5)
وأهْلُ مودَّتي
أعاهدُ ربِّي ثمَّ أنقضُ عَهْدَهُ
…
وأتركُ عزمي حينَ تَعرِضُ شهوتي
وزادي قليلٌ ما أراه مُبلِّغي
…
من الزَّاد أبكي أمْ لطول مسافتي
(6)
ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمئة
فيها حاصر السلطان بركياروق أخاه محمدًا بأصبهان، فضاقت على أهلها الأرزاق، واشتدّ الغلاء عندهم جدًّا، وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة، والحصار حولهم من خارج البلد، فاجتمع عليهم
(1)
المنتظم (9/ 133)، الكامل في التاريخ (10/ 237)، وما بعدها، وفيات الأعيان (1/ 178) تاريخ الإسلام (10/ 681 و 765)، سير أعلام النبلاء (15/ 196)، شذرات الذهب (3/ 402).
(2)
تاريخ الإسلام والسير والوفيات: خمس سنين.
(3)
الأنساب (2/ 314)، المنتظم (9/ 133)، الكامل في التاريخ (10/ 352)، طبقات السبكي (4/ 207)، سير أعلام النبلاء (19/ 196)، الوافي بالوفيات (5/ 156).
(4)
في (ط) والمنتظم: بطالتي.
(5)
في (ط): أصحابي.
(6)
في (ط): لبعد مسافتي.
الخوف والجوع، والنقص من الأموال، والأنفس، والثمرات، ثمّ خرج السلطان محمد من أصبهان هاربًا فأرسل أخوه في إثره مملوكه إياز، فلم يتمكن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالمًا.
[قال ابن الجوزي
(1)
: وفي صفر منها: زِيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدَّامغاني: تاج الإسلام]
(2)
.
وفي ربيع الأول قُطِعت الخطبة للسلاطين ببغداد، واقتصر على [ذكر الخليفة فيها] والدُّعاء له [ثم التقى الأخوان بركياروق ومحمد، فانهزم محمد أيضًا ثُمَّ اصطلحا]
(3)
.
وفيها: ملك الملك دقاق بن تتش بن ملك شاه صاحب دمشق مدينة الرحبة.
وفيها: قتل أبو المظفّر الخُجَنْدي
(4)
، الواعظ بالريّ، وكان من كبار العلماء في المذهب الشافعي، كان محدِّثًا فقيهًا، مدرِّسًا، قتله رافضيٌّ علَوي في الفتنة، [وكان عالمًا فاضلًا]
(5)
كان نظام المُلْكِ يزوره ويعظِّمه.
وحجّ بالناس خمارتكين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن علي [بن عبيد الله] بن سِوَار
(6)
أبو طاهر المقرئ، صاحب المصنَّفات في علوم القراءات.
كان ثقةً ثبتًا مأمونًا، عالمًا بهذا الشأن، وقد جاوز الثمانين، رحمه الله تعالى.
أبو المعالي
(7)
أحدُ الصُّلحاء الزهّاد ذوي الكرامات والمكاشفات، وكان كثير العبادات متقلّلًا من الدنيا، لا يلبس صيفًا ولا شتاء إِلَّا قميصًا واحدًا، فإذا اشتدّ البرد وضع على كتفه مئزرًا، وذكر أنّه أصابه
(1)
المنتظم (9/ 134).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
المنتظم (9/ 137)، الكامل في التاريخ (10/ 366).
و"الخجندي": نسبة إلى خجندة، بضم أوله وفتح ثانيه ونون ثم دال مهملة: بلدة مشهورة بما وراء النهر على شاطئ سيحون. معجم البلدان (2/ 347).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
المنتظم (9/ 135)، معرفة القراء الكبار (1/ 362)، سير أعلام النبلاء (19/ 225)، الوافي بالوفيات (7/ 204)، النجوم الزاهرة (5/ 187)، شذرات الذهب (3/ 403).
و"سوار"، بكسر أوله وفتح الواو المخففة وبعد الألف راء وكذا ضبطه في توضيح المشتبه (5/ 204).
(7)
المنتظم (9/ 136)، الكامل في التاريخ (10/ 367).
فاقة شديدة في شهر رمضان، فعزم على الذهاب إلى أحد الأصحاب ليستقرض منه شيئًا، قال: فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي وقال: يا أبا المعالي! أنا الملك الفلاني، لا تمض إليه، نحن نأتيك به. [قال: فبكّر إليَّ الرجل]
(1)
رواه ابن الجوزي في منتظمه [من طرق عدة]. كانت وفاته في هذه السنة، ودفن قريبًا من قبر أحمد.
السيدة بنت القائم بأمر الله أمير المؤمنين
(2)
التي تزوجها طُغْرُلْبَك، توفيت في هذه السنة ودفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة والإيثار، [وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير]
(3)
.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمئة
فيها: قصد الفرنج لعنهم الله الشام، فقابلهم المسلمون فقتلوا [من الفرنج] اثني عشر ألفًا، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرًا، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب الرها.
وفي هذه السنة: سقطت منارة واسط [وقد كانت من أحسن المنائر وكان أهل]
(4)
البلد يفتخرون بها وبقبّة الحجَّاج، [فلما سقطت سُمع لأهل البلد بكاءٌ وعويل لم يُسمع بمثله، ومع هذا لم يهلك بسببها أحد]
(5)
، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمئة في زمن المقتدر.
وفي هذه السنة: تأكّد الصلح بين السلطانين الأخوين محمد وبركياروق، واقتسما البلاد فقطعت الخطبة ببغداد لمحمد، واستمرت للملك بركياروق [وبعث إليه بالخلع والى الأمير إياز].
وفي هذه السنة: أخذت الفرنج مدينة عكا وغيرها من السواحل.
[وفيها: استولى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحقة على مدينة واسط]
(6)
.
وفيها: توفي الملك دُقاق بن تتش صاحب دمشق، فأقام مملوكه طغتكين، ولدًا له صغيرًا مكانه، وأخذ البيعة له، وصار هو أتابكه، فدبّر الملك بدمشق مدّة.
وفيها: عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطُّغْرائي، ونفاه إلى غزنة.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
المنتظم (9/ 37).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب).
(6)
زيادة من (ب) و (ط).
وفيها: ولي أبو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء، بعد وفاة خاله أبي سعيد العلاء بن الحسن ابن المُوصِلايا.
وفيها: قُتِل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم
(1)
، وكانت له إصابات عجيبة جدًّا.
وحجّ بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أردشير بن منصور
(2)
أبو الحسن العبّادي
(3)
الواعظ، قدم بغداد [فوعظ بها] فأحبته العامة في سنة ست وثمانين، [وكانت له أحوال جيدة فيما يظهر، والله أعلم]
(4)
.
إسماعيل بن محمد بن عثمان بن أحمد
(5)
أبو الفرج القومساني
(6)
، من أهل همذان.
سمع من أبيه وجدّه وجماعة، وكان حافظًا، حسن المعرفة بالرِّجال والمتون [وأنواع الفنون] ثقة مأمونًا، رحمه اللّه تعالى.
العلاء بن الحسين بن وهب بن المُوصلايا
(7)
سعد الدولة، كاتب الإنشاء ببغداد.
كان نصرانيًا فأسلم في سنة أربع وثمانين، ومكث في الرئاسة مدّة طويلة، نحوًا من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة توفي في هذه السنة عن عمر طويل، رحمه اللّه تعالى.
محمد بن أحمد بن عمر
(8)
أبو عمر النَّهاوندي، قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيهًا عالمًا، سمع الحديث من أبي الحسن الماوردي وغيره، مولده في سنة [سبع وقيل: تسع] وأربعمئة.
(1)
الكامل في التاريخ (10/ 378).
(2)
في تاريخ الإسلام (10/ 787): "أردشير بن أبي منصور".
(3)
المنتظم (9/ 140)، توضيح المشتبه (1/ 194).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
في (ط): "إسماعيل بن محمد بن أحمد بن عثمان"، والصواب ما أثبتناه موافق لما في المنتظم. وفي كتب الذهبي:"إسماعيل بن محمد بن عثمان" فتأكد أن "أحمد بن عثمان" مقلوب (بشار).
(6)
المنتظم (9/ 140)، معجم البلدان (4/ 414)، سير أعلام النبلاء (19/ 155)، تاريخ الإسلام (10/ 788).
(7)
المنتظم (9/ 141)، الكامل في التاريخ (10/ 377)، وفيات الأعيان (3/ 480)، سير أعلام النبلاء (19/ 198)، النجوم الزاهرة (5/ 189).
(8)
المنتظم (9/ 141).
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمئة
فيها: توفي السلطان بركياروق، وعهد إلى ولده الصغير ملك شاه، وعمره أربع سنين ونصف، وخُطب له ببغداد، ولُقِّب جلال الدولة [ونُثر عند ذكره الدنانير والدراهم]
(1)
وجعل أتابكه الأمير إياز، ثم جاء السلطان محمد بن ملك شاه إلى بغداد فخرج إليه [أهل] الدولة لتلقّيه وصالحوه، وكان الذي [أخذ البيعة] في الصلح إلكيا الهرّاسي، مدرِّس النِّظامية، وخُطب له بالجانب الغربي ولابن أخيه بالجانب الشرقي، ثم قُتل الأمير إياز. [ومضى ابن جهير في الموكب فخلع على السلطان محمد وقصد دار وزيره سعد الملك وحمل إليه من دار الخليفة الدست والدواة والخلع]
(2)
. [وحضر الوزير سعد المُلك
(3)
عند إلكيا الهرَّاسي في درس النِّظامية ليرغِّب الناس في العلم.
وفي ثامن رجب منها أزيل الغيار عن أهل الذمّة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمئة ولا يعرف ما سبب ذلك]
(4)
.
وفيها: كانت حروب كثيرة بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، [ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقًا أيضًا]
(5)
.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
السلطان بركياروق
(6)
[ابن مَلِك شاه، ركن الدين
(7)
السَّلجوقي.
جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة]
(8)
خُطب له ببغداد ست مرات، وعُزل عنها ستَّ مرات،
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
في (ب) و (ط): "ثم قتل الأمير إياز وحملت إليه الخلع والدولة (كذا) والدست". وهو نص مضطرب لابد أنه سقط منه شيء، ولما كان المؤلف ينقل من المنتظم فقد نقلنا ما بين الحاصرتين منه لأن هذا هو المقصود، إذ بعد قتل إياز خلع على السلطان وحملت إلى وزيره سعد الملك الخلع والدواة والدست، وهي آلات الوزارة (المنتظم 9/ 143)(بشار).
(3)
في (ط): "سعد الدولة" وما أثبتناه يعضده ما في المنتظم وغيره (بشار).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
المنتظم (9/ 144)، أخبار الدولة السلجوقية (75)، الكامل في التاريخ (10/ 380)، وفيات الأعيان (1/ 268)، سير أعلام النبلاء (19/ 195)، الوافي بالوفيات (10/ 121)، النجوم الزاهرة (5/ 191)، شذرات الذهب (3/ 407).
(7)
في (ط): "ركن الدولة" خطأ، وما أثبتناه يتفق مع ما في مصادر ترجمته (بشار).
(8)
زيادة من (ب) و (ط).
[ثمّ تنقطع الخطبة له ثمّ تُعاد] وكان عمره يوم مات أربعًا وعشرين سنة [وشهورًا] وقام بعده ولده ملك شاه، فلم يتمّ أمره بسبب منازعة عمّه محمد له.
عيسى بن عبد اللّه بن القاسم
(1)
أبو المؤيد
(2)
الغَزْنَوي
(3)
، وكان واعظًا كاتبًا شاعرًا، ورد بغداد فوعظ بها، فنفق على أهلها، وكان أشعريّ المذهب، متعصِّبًا له، خرج من بغداد قاصدًا بلده، فتوفي بأسفرايين.
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سِلفَة الأصبهاني
(4)
أبو أحمد، كان شيخًا عفيفًا ثقة، سمع الكثير وهو والد الحافظ أبي طاهر السِّلَفي، رحمه اللّه تعالى.
الحافظ أبو علي الجيّاني
(5)
الحسين بن محمد بن أحمد الغسَّاني الأندلسي.
مصنّف "تقييد المهمَل على ألفاظ الصحيحين"
(6)
، وهو كتاب مفيد كثير النَّفع. وكان حسن الخط، عالمًا باللّغة، والشعر، والأدب، وكان يُسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة، رحمه الله.
محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصَّقْر
(7)
أبو الحسن الواسطيّ.
سمع الحديث، وتفقّه بالشيخ أبي إسحاق الشِّيرازي، وقرأ الأدب، وقال الشعر [من ذلك قوله]:
مَنْ قالَ لي جاهٌ ولي حِشمةٌ
…
ولي قَبولٌ عندَ مولانا
(1)
المنتظم (9/ 145)، الكامل في التاريخ (10/ 397)، تاريخ الإسلام (10/ 807).
(2)
في (ط): "أبو الوليد" وهو تحريف، وما أثبتناه هو الذي في مصادر ترجمته كافة (بشار).
(3)
في (أ): الغزي، وما أثبتناه من مصادر الترجمة.
(4)
المنتظم (9/ 145)، توضيح المشتبه (5/ 131).
(5)
الصلة لابن بشكوال (1/ 142)، وفيات الأعيان (2/ 180)، سير أعلام النبلاء (19/ 148)، النجوم الزاهرة (5/ 192)، شذرات الذهب (3/ 408).
قال ابن خلّكان: والجَيّاني، بفتح الجيم وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى جيّان، وهي مدينة كبيرة بالأندلس.
وقال ابن بشكوال: ويعرف بالجيّاني، وليس منها، إنما نزلها أبوه في الفتنة البربرية حوالي سنة 400، وأصلهم من الزهراء.
(6)
قيد الجيّاني رحمه الله في هذا الكتاب المهمل، وميّز المشكل بين الأسماء والكنى والأنساب لمن ذكر اسمه في صحيحي البخاري ومسلم، وقد طبع.
(7)
المنتظم (9/ 145)، الكامل في التاريخ (10/ 396)، وفيات الأعيان (4/ 450)، طبقات السبكي (4/ 191)، سير أعلام النبلاء (19/ 238)، الوافي بالوفيات (4/ 142)، النجوم الزاهرة (5/ 191).
ولم يَعُدْ ذاك بنفع على .... صديقِهِ لا كانَ مَنْ كانا
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمئة
في المحرّم منها ادّعى رجل النبوَّة بنواحي نَهاوند، وسمّى أربعة من أصحابه [بأسماء الخلفاء الأربعة]: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا، فاتَّبعه على ضلالته هذه خلق من الجهلة الرَّعاع، وباعوا أملاكهم، ورفعوا أثمانها إليه، وكان كريمًا يعطي مَنْ قَصَدَه ما عنده، ثُمَّ إنَّه قُتل بتلك الناحية لعنه الله، ورام رجل من ولد ألْب آرْسَلان بتلك الناحية الملك، فلم يتمّ له أمره، فقبض عليه في أقلّ من شهرين، فكانوا يقولون: ادّعى رجل النبوّة، وآخر الملك، فما كان بأسرع من زوال [دولتهما]
(1)
.
[وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة فاتلفت شيئًا كثيرًا من الغلات، وغرقت دور كثيرة ببغداد]
(2)
.
وفيها: كسر طغتكين أتابك العساكر بدمشق الفرنج، [وعاد مؤيَّدًا منصورًا إلى دمشق، وزيِّنت البلد زينًة عجيبًة مليحة، سرورًا بكسره الفرنج]
(3)
.
وفي رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين.
وفيها: وَرَدَ بغدادَ ملكٌ من ملوك الملثَّمين، وصحبته رجل يقال له: الفقيه، فوعظ النّاس وهو في جامع القصر، وهو ملثّم، ثُمَّ عاد إلى مصر، وله حروب كثيرة مع الفرنج استُشهد في بعضها.
وحجّ بالناس من العراق رجل من أقرباء سيف الدولة صدقة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
سهل بن أحمد بن علي الأرْغِياني
(4)
أبو الفتح الحاكم.
سمع الحديث من البَيْهقي وغيره، وعلَّق عن القاضي حسين طريقته، وشكره في ذلك، وكان قد
(1)
زيادة من (ب).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
المنتظم (9/ 146)، الكامل في التاريخ (10/ 415)، طبقات السبكي (3/ 169)، وفيات الأعيان (2/ 433)، توضيح المشتبه (1/ 303).
قال ابن خلكان: الأرغياني، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى: أرْغيان، وهي اسم ناحية من نواحي نيسابور بها عدّة قرى.
وقد ذكره ابن ناصر الدين في التوضيح في نسبة: الباني، وقال: نسبة إلى قرية من قرى أرغيان.
تفقه أولًا على الشيخ أبي علي السِّنْجِي، وعلَّق عن إمام الحرمين في الأصول، وناظر بحضرته فاستجاده، وولّي قضاء بلدة مدة طويلة، ثم ترك ذلك كلّه، وأقبل على التعبّد [وتلاوة القرآن].
قال ابن خلِّكان
(1)
: وبنى للصوفية رباطًا من ماله، ولزم التعبّد إلى أن مات [في مستهل المحرم من هذ السنة]
(2)
.
محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزّاق
(3)
أبو منصور الخيّاط
(4)
.
أحد القرّاء والصُّلحاء، ختم ألوفًا من الختَمات، وختم عليه ألوف من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعًا لم يعهد مثله في جنازة [ولم يعهد له نظير] بتلك الأزمان، وكان عمره يوم توفي سبعًا وتسعين سنة، رحمه الله [وقد رثاه الشعراء] وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربّك؟ فقال: غفر لي بتعليمي الصّبيان الفاتحة.
محمد بن عُبيد اللّه بن الحسن بن الحسين
(5)
أبو الفرج البَصْري، قاضيها.
سمع أبا الطَّيب الطَّبري والماوردي وغيرهما، ورحل في طلب الحديث، وكان عابدًا خاشعًا عند الذِّكر، رحمه اللّه تعالى.
مُهارِش بن مُجلِّي
(6)
أمير العرب بحديثة عانة.
وهو الذي أودع عنده الخليفة القائم بأمر اللّه حين كانت فتنة البساسيري
(7)
ببغداد [فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه الخليفة الجزاء الأوفى]
(8)
وكان الأمير مُهارش كثير الصلاة والصَّدقة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة.
(1)
وفيات الأعيان (2/ 434).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
الكامل في التاريخ (10/ 415)، معرفة القراء الكبار (1/ 370)، سير أعلام النبلاء (19/ 222).
(4)
تحرفت في (ط) إلى: الحناط.
(5)
المنتظم (9/ 147)، الكامل في التاريخ (10/ 415).
(6)
المنتظم (9/ 148)، الكامل في التاريخ (10/ 416)، وفيات الأعيان (5/ 269)، سير أعلام النبلاء (19/ 224)، النجوم الزاهرة (5/ 193).
(7)
تقدم الكلام على فتنة البساسيري، وإخراجه الخليفة القائم بأمر الله من بغداد، ثم رجوعه وقتل رأس الفتنة، وذلك في أحداث سنة خمسين وإحدى وخمسين وأربعمئة من هذا الجزء.
(8)
زيادة من (ب) و (ط).
ثم استهلت سنة خمسمئة من الهجرة النبوية
قال أبو داود في "سننه": [حَدَّثَنَا موسى بن سهل]
(1)
حَدَّثَنَا حجَّاج بن إبراهيم، حَدَّثَنَا [ابن] وهب، حدّثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"لن يَعجِزَ اللهُ هذه الأمة من نصف يوم". حَدَّثَنَا عمرو بن عثمان
(2)
، حَدَّثَنَا أبو المغيرة، حدَّثني صفوان، عن شُريح بن عُبَيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال
(3)
: "إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربِّها أن يؤخّرها نصف يوم". قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمئة سنة
(4)
. وهذا من دلائل النبوّة، وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر شيئًا من أشراط الساعة لا بدّ من وقوعها، كما أخبر سواء بسواءٍ، وسيأتي ذِكرها في بعد زماننا، وبالله التوفيق [وباللّه المستعان، ولا حول ولا قوة إِلَّا باللّه].
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث:
أنّ السلطان محمد بن ملك شاه حاصر في هذه السنة قلاعًا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وجمعًا كبيرًا، وجمًّا غفيرًا، وكان من جملة ما افتتح من ذلك قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان، في رأس جبل منيع [هناك، وكان سبب بنائه أنّه كان مرّة في بعض صيوده فهرب منه كلب، فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال الرومي: لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتّخذنا عليه قلعة، فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة]
(5)
. وكان قد صرف بالبناء ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار، فاستحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له: أحمد بن عبد الله بن عَطَاش
(6)
، فتعب المسلمون بسببها، وحاصرها السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل، وحشا جلده تِبنًا، وقطع رأسه فطيف به في الأقاليم، ثمّ نقض هذه القلعة حجرًا حجرًا، [وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلِفت، وهلك ما كان معها من الجواهر
(1)
في (ط): "قال أبو داود في سننه: حَدَّثَنَا حجاج بن إبراهيم .. إلخ" وهذا لا يصح لأن حجاجًا ليس من شيوخ أبي داود، والصواب ما أثبتناه بين حاصرتين من سنن أبي داود (4349)، وهو موسى بن سهل بن قادم، أبو عمران الرملي المتوفى سنة 262 على الصحيح (بشار).
(2)
سنن أبي داود (4350)(بشار).
(3)
في سنن أبي داود: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:
(4)
مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ، وقوله سبحانه:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} (بشار).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
(6)
في (ط): عطاء. خطأ.
النفيسة، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة. ويقولون: كان دليلها كلبًا، والمشير بها كافرًا، والمتحصّن بها زِنديقًا]
(1)
.
وفيها: كانت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عُبادة، فقهرت عُبادة خفاجة، وأخذت بثأرها [المتقدّم منها].
وفيها: استحوذ سيف الدولة صدقة بن منصور الأسدي على مدينة تكريت بعد قتال كثير.
[وفيها: أرسل السلطان محمد الأمير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إيّاها، فذهب فانتزعها من الأمير جكرمش بعدما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثمّ قتله بعد ذلك، وقد كان جكرمش من خيار الأمراء سيرة وعدلًا وإحسانًا، ثمّ أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل، فانتزعها من جاولي، فصار جاولي إلى الرّحبة، فأخذها، ثمّ أقبل إلى قتال قلج فكسره، وألقى قلج نفسه في نهر الخابور فهلك]
(2)
.
وفيها: نشأت حروب كثيرة بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالًا عظيمًا، وقتل من الفريقين ألوف، ثمّ كانت الهزيمة بعد كل حساب على الفرنج. [والحمد للّه رب العالمين]
(3)
.
وفي يوم عاشوراء قتل فخر الملك بن نظام الملك، وكان أكبر أولاده، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائمًا، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهو يقول له: عجّل إلينا، وأفطِر عندنا اللّيلة، فأصبح متعجّبًا، فنوى الصوم ذلك النهار، وأشار عليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من منزله، فما خرج إِلَّا في آخر النهار، فرأى شابًا يتظلّم وبيده رقعة فقال: ما شأنك؟ فناوله الرقعة، فبينما هو يقرؤها إذ ضربه بخنجر في يده فقتله، [فأخذ الباطني فرُفِعَ إلى السلطان فقرّره، فأقرّ على جماعة من أصحاب الوزير أنَّهم أمروه بذلك، وكان كاذبًا، فقتل، وقتلوا أيضًا]
(4)
.
[وفي رابع عشر] من صفر عزل الخليفة الوزير [أبا القاسم علي] بن جَهير، وخرّب داره التي كان قد بناها أبوه، [من خراب] بيوت الناس، وكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر [والنُّهى] واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن بن الدّامغاني [ومعه آخر]
(5)
.
(1)
زيادة من (ب) و (ط).
(2)
زيادة من (ب) و (ط).
(3)
زيادة من (ب) و (ط).
(4)
زيادة من (ب) و (ط).
(5)
زيادة من (ب) و (ط).
وحج بالناس في هذه السنة أمير تركماني [واسمه أليرن] من جهة السلطان محمد بن ملك شاه.
وممن توفي فيها من الأعيان:
أحمد بن محمد بن المظفَّر
(1)
أبو المظفَّر الخَوَافي الفقيه الشافعي.
قال ابن خلِّكان: كان أنظر أهل زمانه، تفقّه على إمام الحرمين، وصار أوجه تلامذته، ولي القضاء بطوس ونواحيها، فكان مشهورًا بين العلماء بحسن المناظرة وإفحام الخصوم. قال: والخَوَافي، بفتح الخاء والواو، نسبة إلى خَوَاف، ناحية من نواحي نيسابور، رحمه الله تعالى.
جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد السَّرَّاج
(2)
أبو محمد القارئ [البغدادي].
ولد سنة ست عشرة وأربعمئة
(3)
، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الكثير من الأحاديث النبويات من المشايخ والشَّيخات، في بلدان متباينات، وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء من مسموعاته، وكان صحيح الثبت، جيد الذهن، أديبًا، شاعرًا، حسن النظم، نظم كتاب "المبتدأ"
(4)
وكتاب "التنبيه"
(5)
والخِرَقي
(6)
، وغير ذلك" وله كتاب "مصارع العشّاق" وغير ذلك، وكان حافظًا مبرِّزًا على أقرانه من نُجباء أبناء زمانه، سمع منه الحافظ السِّلَفي، وكان يفتخر برؤيته، ومن شعره قوله:
قلْ لِلَّذينَ بجهلهمْ .... أضْحَوا يعيبونَ المحابرْ
والحاملينَ لَها من الـ
…
ـأيْدي بمجتمعِ الأساورْ
لولا المحابرُ والمقا .... لمُ والصحائفُ والدفاترْ
والحافظونُ شريعةَ الـ
…
ـمبعوثِ من خيرِ العشائرْ
والناقلونَ حديثَه
…
عن كابرٍ ثَبْتٍ فكَابِرْ
لرأيتَ مِن بَشعِ الضّلا ....... لِ عساكرًا تتلو عساكرْ
كلٌّ يقولُ بجهلهِ
…
واللهُ للمظلومِ ناصرْ
(1)
وفيات الأعيان (1/ 96). سير أعلام النبلاء (19/ 251).
(2)
المنتظم (9/ 151)، الكامل في التاريخ (10/ 439)، وفيات الأعيان (1/ 357)، طبقات الأسنوي (2/ 45)، سير أعلام النبلاء (19/ 228)، النجوم الزاهرة (5/ 194)، شذرات الذهب (3/ 411).
(3)
هذا ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم، وأصح منه ما نقله الذهبي في تاريخ الإسلام (10/ 825)، قال:"وقال السلفي: سألته عن مولده فقال: إما في آخر سنة سبع عشرة، وإما في أول سنة ثمان عشرة وأربعمئة ببغداد"(بشار).
(4)
كتاب المبتدأ لوهب بن منبه.
(5)
كتاب التنبيه في فروع الفقه الشافعي لإبراهيم بن علي الشيرازي، ت 474 هـ.
(6)
"الخرقي": هو عمر بن الحسين البغدادي ت 334 هـ صاحب المختصر في الفقه الذي نظمه المترجم.
سمّيتَهُم أهلَ الحديـ
…
ــث أولي النُّهى وأولي البَصائرْ
حَشَويةً أفٍّ لكم
…
وَلمَنْ بنقصهمُ يُجاهرْ
(1)
هم حَشوُ جَنَّاتِ النَّعيـ
…
ـم على الأسرَّةِ والمنابرْ
رفقاءُ أحمَد كلُّهمْ
…
عن حوضهِ ريَّانُ صادرْ
ومن شعره:
ومُدَّعٍ شرخَ الشَّباب وقدْ
…
عمَّمَهُ الشَّيبُ على وَفْرَتهْ
يخضبُ بالوشمةِ عُثنونَهُ
…
يكفيهِ أنْ يكذبَ في لحيتهْ
ذكر القاضي ابن خلِّكان
(2)
قطعة من أشعاره المستحسنة، وأرّخ وفاته في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، رحمه الله.
عبد الوهَّاب بن محمد بن عبد الوهَّاب بن عبد الواحد أبو محمد
(3)
الشيرازي الفارسيى
(4)
.
سمع الحديث الكثير، وتفقّه، وولاه نظام الملك تدريس النظاميّة ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرّس بها مدّة، وكان يملي الأحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث:"صلاةٌ في إثر صلاة كتاب في عليين"
(5)
، فقال: كَنَارٍ في غَلَس، ثمّ فسّر ذلك بأنَّه أكثر لإضاءتها.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله الأسدي الشاعر
(6)
.
لقي أبا الحسن التّهامي، وكان مغرمًا بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق، ثم بالحجاز، ثم خراسان، ومن شعره:
قلتُ: ثَقَّلتُ إذ أتيتُ مِرارًا
…
قَالَ ثَقَّلْتَ غاربي
(7)
بالأيادي
قلتُ طوَّلْتُ قال بل تطوَّلت
(8)
…
قلتُ مزَّقْتُ قالَ: حبلَ الوِدادِ
(1)
هذا البيت ساقط من (ب) و (ط).
(2)
وفيات الأعيان (1/ 358).
(3)
في (ط): "بن محمد" وهو تحريف ظاهر (بشار).
(4)
المنتظم (9/ 152)، الكامل في التاريخ (1/ 439)، طبقات السبكي (5/ 229)، سير أعلام النبلاء (19/ 248)، شذرات الذهب (3/ 413).
(5)
هو قطعة من حديث أخرجه أبو داود (558) في الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، وأحمد في المسند (5/ 268) رقم (22205) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(6)
المنتظم (9/ 153).
(7)
في (ب) و (ط): كاهلي.
(8)
في (أ): قلت طولت أو ليت طولًا.
يوسف بن علي
(1)
أبو القاسم الزَّنْجاني الفقيه.
كان من أهل الدِّيانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق [الشيرازي]، عن القاضي أبي الطيّب، قال: كنّا يومًا بجامع المنصور في حلْقة، فجاء شاب خراساني، فذكر حديث أبي هريرة في المُصَرَّاة
(2)
، فقال الشاب: هذا الحديث غير مقبول، فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حيّة، فنهض الناس هاربين، فتبعتْ ذلك الشابّ من بينهم، فقيل له: تبْ، تبْ، فقال: تُبْتُ، فذهبتْ تلك الحيّة، فلا يُدري أين ذهبت، رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي معمر الأنصاري عن أبي القاسم هذا.
* * *
(1)
المنتظم (9/ 154)، توضيح المشتبه (4/ 229).
(2)
في (ط): "المطر" ولا معنى لها، وما أثبتناه موافق لما في المنتظم الذي ينقل منه المؤلف، والمصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة التي تترك من الحلب اليومين والثلاثة حتى يجتمع لها لبن، فيراه مشتريها كثيرًا، وهذا غرور للمشتري. وحديث أبي هريرة هذا في الصحيحين: البخاري (2148) و (2150)، ومسلم (1515)(11)، ولفظ البخاري من حديث الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تصرُّوا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر"(بشار).