المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البداية والنهاية   «النهاية: ذكر الآخرة وأحوالها. .» تأليف الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء - البداية والنهاية - ط دار ابن كثير - جـ ١٧

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

البداية والنهاية

«النهاية: ذكر الآخرة وأحوالها. .»

تأليف

الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير

[701 هـ - 774 هـ]

حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط

الجزء السابع عشر

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة المحقق

إنَّ الحمد للَّه نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

من يهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد: فهذا هو الجزء الأخير من كتاب "البداية والنهاية" للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البُصروي الدمشقي المتوفى سنة (774 هـ) رحمه الله، ذكر فيه ما يكون في نهاية الزمان من ملاحم وفتن وأحداث، وهي من علامات قيام الساعة، فذكر ما يقع من الفتن جملة ثم فصَّلها، كافتراق الأمم، وما يحدث من الشرور في هذه الأمة في آخر الزمان، وظهور المهدي المنتظر، وهو (محمد بن عبد اللَّه) الذي يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسمُ أبيه اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وبين بأنه يكون من أولاد فاطمة رضي الله عنها، بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو رجل من علماء الأمة الإسلامية، ليس نبيًا ولا رسولًا، ولكنه مؤمن عالم يدعو إلى ما دعا إليه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى الإيمان، ويحارب الكفر والطغيان، وذكر بعض النصوص الواردة في ظهوره، وأنه من علامات الساعة الكبرى، وذكر أن من الفتن العظام خروج الدجال الأعور الكذاب الكافر الذي يدعو إلى الكفر والضلال، وذكر ما ورد من النصوص الصحيحة في حقه لعنه اللَّه، وأنه أيضًا من علامات الساعة الكبرى، كما ذكر كثيرًا من النصوص الواردة في حق نزول عيسى عليه السلام من السماء، وأنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهي نصوص صحيحة ومتواترة، وأنه يدعو إلى توحيد اللَّه تعالى والعمل بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، التي هي آخر الشرائع، وقد نسخت شريعته جميع الشرائع، ولا شريعة بعدها إلى يوم القيامة، فيقوم عيسى ابن مريم عليه السلام في ذلك الزمان ومعه المهدي المنتظر، ويدعوان الناس إلى الإسلام، والعمل بالقرآن وشريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام في كل مكان، ويلحق عيسى ابنُ مريم الدجالَ الكافر حتى يدركه بباب لُدٍّ في فلسطين فيقتله، وينتهي الناس من شره، ويسود الأمن والاستقرار في زمن عيسى عليه السلام، وينتشر الإسلام في كل مكان، ويتحقق قول اللَّه تعالى في القرآن {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] فيعم الإسلام الأرض كلها، كما يتحقق قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: "لَيَبْلُغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللَّه

ص: 5

بيت مدر ولا وَبَر، إلا أدخله اللَّه هذا الدين، بعِر عزيز، أو بذُل ذليل، عزًّا يُعزُّ اللَّه به الإسلام، وذُلًّا يُذلُّ به الكفر"

(1)

.

فيعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادِّياتهم وسلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلَّبوا على قوى الكفر والطغيان، وهذا ما بشَّر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتُظهر الأرض خيراتها وبركاتها، ويعيش المسلمون في أمن وإيمان، وراحة واطمئنان، إلى أن يتوفى عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم بعد ذلك تنتشر الفتن في كل مكان، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

كما ذكر المؤلف رحمه الله بعض ما يتعلق بالفتن في آخر الزمان، كخروج يأجوج ومأجوج، وغيرها من الفتن العظام التي تحصل في ذلك الزمان، وما جاء في ظهور الدخان، وأن نارًا تخرج من قعر عدن تحشر الناس، وأنها إذا خرجت، فعلى الناس أن يلجؤوا إلى بلاد الشام، لأنها تكون أبعد عن الفتن من غيرها، وذكر من علامات الساعة طلوع الشمس من مغربها، وهي آخر علامات الساعة الكبرى الدالة على قيام الساعة.

كما ذكر ما يتعلق بالصور، ونفخة الصعق، وذكر أحاديث في البعث والنشور، وأن الناس يبعثون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرلًا، وذكر ما يتعلق بأهوال يوم القيامة، وما ورد في المقام المحمود الذي خُص به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما ورد في الحوض النبوي، والصراط، وكيفية الحشر يوم القيامة، وصفة النار وما فيها من العذاب، وما ورد من الأحاديث في شفاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما ذكر صفة الجنة ونعيمها، وما ورد في أشجارها وغراسها وثمارها، وأن أعلى الخلق في الجنة منزلة محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن أمته أكثر أهل الجنة، إلى غير ذلك من الأمور التي لها علاقة بالجنة وأهلها، فجزاه اللَّه تعالى خير الجزاء، وحشرنا وإياه يوم القيامة، مع الذين أنعم اللَّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من اللَّه، وكفى باللَّه عليمًا.

‌منهج التحقيق:

لقد اعتمدنا في إخراج هذا الجزء من الكتاب على بعض النسخ المطبوعة، وقابلناها على مخطوطة المكتبة الأحمدية في حلب وقد رمزنا لها بحرف (أ)، وهي نسخة كاملة، وفيها زيادات مقحمة، وهي تعليقات لبعض العلماء، وفيها أخطاء كثيرة، وقد حصلنا أثناء التحقيق على مصورة نسخة خطية جيدة أصلها من فاس بالمغرب محفوظة في خزانة معهد المخطوطات العربية في القاهرة، عن طريق ولدنا وتلميذنا العزيز الأستاذ محمود الأرناؤوط لحرصه على إخراج الكتاب بأفضل صورة، جزاه اللَّه تعالى خيرًا ونفع به، وهي نسخة قيمة منسوخة عن نسخة قرئت على المصنف، وعليها تعليقات أيضًا

(1)

رواه أحمد في "المسند"(4/ 103) من حديث تميم الداري رضي الله عنه وإسناده صحيح.

ص: 6

في بعض المواضع، فكان اعتمادنا عليها في أكثر الأحوال، وقابلنا الكتاب عليها من أوله إلى آخره. وتبدأ هذه النسخة ببداية كتاب الفتن والملاحم من "البداية والنهاية"، وتنتهي بنهايته، وقد رمزنا لها بحرف (م)، وأصلها من خزانة جامعة القرويين بفاس برقم (40/ 248). وأفدنا من الطبعة الصادرة عن دار هجر بالقاهرة بإشراف الأستاذ الدكتور عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، ورمزنا لها في الحواشي بحرف (ط).

ثم قمنا بتحقيق هذا الجزء من الكتاب، والتعليق عليه، وتخريج أحاديثه، وشرح بعض الكلمات الغريبة الواردة فيه، والتعريف ببعض الأعلام، وغير ذلك، ونرجو اللَّه تعالى أن يكون هذا الجزء قد خرج بما قمنا به من عمل في تحقيقه على النحو الذي يرضي اللَّه تعالى، وأن ينتفع به طلاب العلم إن شاء اللَّه.

وقد ساعد في مقابلته والتعليق عليه بعض طلاب العلم جزاهم اللَّه تعالى خيرًا.

ونسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا الجزء من الكتاب من قرأه من العلماء وطلاب العلم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، كما نشكر كل من أعان على نشر هذا الكتاب العظيم، ونخص بالذكر منهم الأستاذ علي مستو صاحب دار ابن كثير الذي تحمَّل من العناء في سبيل طبع هذا الكتاب سنوات عديدة. كما نشكر كل من بذل مجهودًا في سبيل إخراج هذا الكتاب، ونخص منهم بالذكر ولدنا وتلميذنا العزيز الأستاذ محمود الأرناؤوط الذي كان يحثنا على تحقيق هذا الجزء من الكتاب، وعلى القيام بمراجعة نصوص الأحاديث الواردة في الأجزاء المتقدمة والحكم عليها، فجزى اللَّه تعالى الجميع خيرًا.

وفي الختام نسأل اللَّه تعالى أن يتولانا جميعًا بعنايته، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

دمشق في غرة شهر اللَّه المحرم لعام 1425 هـ

عبد القادر الأرناؤوط

خادم السنة النبوية بدمشق

* * *

ص: 7

صورة الصفحة الأولى من المخطوطة المغربية المعتمدة كأصل في التحقيق لهذا الجزء

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوطة المغربية المعتمدة كأصل في تحقيق هذا الجزء

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

‌ترجمة المؤلف

(1)

هو الإمام الحافظ المؤرِّخ المفسِّر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عُمَر بن كثير بن ضوء بن كثير القرشي البُصْروي ثم الدمشقي. ولد بـ (مُجَيدل القرية) من أعمال بُصرى سنة (701 هـ) وكان أبوه خطيبًا بها، انتقل إلى دمشق سنة (707 هـ) مع أخيه كمال الدين عبد الوهَّاب بعد موت أبيه، نشأ من نعومة أظفاره على مائدة العلم، بدأ طلب العلم على يد أخيه كمال الدين، ثم على يد كبار علماء دمشق، حفظ القرآن الكريم وعمره (10) سنوات، وقرأ بالقراءات، وبرع في التفسير، ودرس الفقه على كبار علماء دمشق، منهم برهان الدين الفزاري، وكمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم تزوج بنت الحافظ أبي الحجاج جمال الدين يوسف بن الزكي المِزِّي، ودرس عليه، واستفاد منه، وكان من كبار علماء الجرح والتعديل، وهو صاحب كتاب (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) وصحب شيخ الإسلام ابن تيمية، وقرأ عليه واستفاد منه، كما قرأ على كبار العلماء في عصره، وبرع في الففه والتفسير والحديث، ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتاريخ، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية الجوانية بعد موت السبكي. وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، أثنى عليه الأئمة، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير، واستفاد منه جمع من طلاب العلم في عصره.

له مؤلفات كثيرة، منها أحكام التنبيه في الفقه الشافعي، والاجتهاد في طلب الجهاد، واختصار علوم الحديث لابن الصلاح، وجامع المسانيد، وطبقات الشافعية، والتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، والفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتفسير، وهو من خيرة مصنّفاته،

(1)

ومظانها المصادر الآتية: "المعجم المختص" ص (74 - 75) و"ذيل العبر" لابن العراقي (2/ 358) و"ذيل تذكرة الحفاظ" ص (57) و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (3/ 113) و"الرّد الوافر" ص (92) و"إنباء الغمر"(1/ 45) و"الدرر الكامنة"(1/ 373) و"النجوم الزاهرة"(11/ 123) و"طبقات الحفاظ" ص (529) و"الدارس في تاريخ المدارس"(1/ 36) و"طبقات المفسِّرين"(1/ 110) و"شذرات الذهب"(8/ 397 - 399) تحقيق ولدي وتلميذي العزيز الأستاذ محمود الأرناؤوط، بإشرافي، طبع دار ابن كثير بدمشق، و"البدر الطالع"(1/ 153) و"هدية العارفين"(1/ 215) و"الأعلام"(1/ 320) و"معجم المؤلفين"(1/ 373) طبع مؤسسة الرسالة ببيروت.

ص: 9

وقد فسر فيه القرآن بالقرآن ثم بالحديث ثم بأقوال الصحابة والتابعين، وهو من أحسن التفاسير لطلاب العلم. و (البداية والنهاية) وهو مرجع كبير في التاريخ والتراجم، وهذا هو الجزء الأخير منه.

وقد عاش رحمه الله حياة حافلة بالعلم إلى آخر عمره، وفقد بصره في آخر حياته، وهو يؤلف كتاب (جامع المسانيد) فبارك اللَّه في عمره إلى أن توفي رحمه الله يوم الخميس في السادس والعشرين من شعبان سنة (774 هـ) بدمشق، ودفن قريبًا من شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما اللَّه تعالى رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جنانه.

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل

الحمد للَّه، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد: فهذا كتاب الفتن والملاحم

(1)

الواقعة في آخر الزمان مما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذِكر أشراط الساعة والأمور العظام التي تكون قبل يوم القيامة، مما يجب الإيمان بها، كما أخبر بها الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا إخبارَه صلى الله عليه وسلم عن الغيوب الماضية، وبسطناه في بدء الخَلْق، وقصص الأنْبياء، وأيّام الناس إلى زماننا، وأتْبعنا ذلك بذكر سيرته صلى الله عليه وسلم، وأيّامه، وذِكر شمَائِله، ودلائل نُبوته، وذكرنا فيها ما أخبر به من الغيوب التي وقعت بعده صلى الله عليه وسلم طِبْقَ إخْبارِه، كما شوهد ذلك عِيانًا قَبْل زمانِنا هذا، وقد أوردنا جملة ذلك في آخر كتاب دلائل النبوّة من سيرته صلى الله عليه وسلم وذكرنا عند كل زمان ما ورد فيه من الحديث الخاصّ به عند ذِكرنا حوادث الزمان، ووفياتِ الأعيان، كما بسطنا ذلك في كل سنة وما حدث فيها من الأمور الغريبة، وترجمنا مَن تُوفي فيها، من مشاهير الناس، من الصحابة، والخلفاء، والملوك، والوزراء، والأمراء، والفقهاء، والصلحاء، والشعراء، والنحاة، والأدباء، والمتكلِّمين ذوي الآراء، وغيرهم من النبلاء، ولو أعدنا الأحاديث المذكورة فيما تقدم لطال ذلك، ولكن نُشير إلى ذلك إشارة لطيفة، ثم نعودُ لِما قَصَدنا له هاهنا، وباللَّه المستعان.

فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة التي قال لها: "ارجعي إليّ" فقالت: "أرأيتَ إنْ لم أجِدْكَ؟ " كَأنَّها تُعَرِّضُ بِالْمَوْتِ، قال:"إنْ لَمْ تَجِدينِي فَأْتِي أبا بَكْر". رواه البخاريّ

(2)

فكان القائم بالأمر بعدَه أبو بكر، وقوله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يكتب للصدِّيق كتابًا بالخِلافة فتركه، لِعلْمه أن أصحابه لا يَعْدِلُون عن أبي بكر إلى غيره، لعلمهم بسابقته وأفضليته رضي الله عنه فقال:"يَأْبَى اللَّهُ والمؤمنون إلا أبا بكر" فوقع كذلك، وهو في "الصحيح" أيضًا

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اقتدُوا بالَّلذين من بعدي: أبي بكر، وعمر". رواه أحمد، وابن ماجه والترمذيّ، وحسنه، وصححه ابنُ حِبّان وهو من رواية حُذَيفَةَ بن

(1)

يعني من كتاب "البداية والنهاية".

(2)

أخرجه البخاري (3659) ومسلم رقم (2386)(10) وأحمد في المسند (4/ 82) من حديث جبير بن مطعم.

(3)

أخرجه مسلم رقم (2387).

ص: 11

اليَمَانِ

(1)

وقد رُوِيَ من طريق ابن مسعود

(2)

وابن عمر

(3)

وأبي الدرداء

(4)

، رضي الله عنهم. وقد بسطنا القول في هذا في فضائل الشيخين، والمقصود أنه وقع الأمر كذلك، وَلِيَ أبو بكر الصديق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخلافةَ، ثُمّ وَليَها بعدَه عمرُ بن الخطاب، كما أخبر صلى الله عليه وسلم سواء بسواءٍ.

وروى مالك، والليث عن الزُّهريّ، عن ابنٍ لكعب بن مالك، عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا افتَتَحْتُم مصر فاستوْصوا بالقبط"، وفي رواية:"فاستوصوا بأهلها خَيْرًا، فإنّ لهم ذِمّة وَرَحِمًا"

(5)

وقد افتتحها عمرو بن العاص في سنة عشرين، أيّامَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذرّ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها القيراطُ، فاستوصوا بأهْلِها خَيْرًا، فإنّ لهم ذِمَّة ورَحِمًا"

(6)

.

وقد مُصِّر في أيام عمرَ بنِ الخطابِ المِصْرانِ؛ البَصْرَةُ والكوفةُ. فروَى أبو داودَ: حدثنا عبدُ اللَّه بنُ الصَّبَّاحِ، ثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ الصمد، ثنا موسى الحَنَاطُ -لا أعلمُ إلّا ذكَره- عن موسى بنِ أنسٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[قال: "يا أنسُ]، إنَّ النَّاسَ يُمَصِّرُونَ أَمْصَارًا، وَإِنَّ مِصْرًا مِنْهَا يُقَالُ لَهُ: الْبَصْرَةُ -أو الْبُصَيْرَةُ- فَإنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بِهَا أوْ دَخَلْتَهَا فَإيَّاكَ وَسبَاخَهَا [وكَلّاءَها

(7)

] وسُوقَهَا وَأَبْوَابَ أُمَرَائِهَا، وعَلَيْكَ بِضَوَاحِيهَا؛ فإنَّه يكونُ بِهَا خَسْفٌ وَقَذْفٌ ومَسْخٌ وَرَجْفٌ، وَقَوْمٌ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ"

(8)

.

خبرُ الأُبُلَّةِ

(9)

: قال أبو داودَ: حدثنا ابنُ المُثَنَّى، ثنا إبراهيمُ بنُ صالحِ بنِ دِرْهَمٍ، سَمِعتُ أبي يقولُ: انطلقنا حاجِّين، فإذا رجلٌ، فقال لنا: مِن أينَ جِئْتُم؟ فقلنا: من بلدِ كذا وكذا. فقال: إنَّ بجنبِكم قرية يقالُ لها: الأُبُلَّةُ؟ فقلنا: نعم. فقال: مَن يضمنُ أن يصلِّيَ لي في مسجدِ العَشَّارِ ركعتين أو أربعًا، ويقولُ: هذه لأبي هريرةَ؟ فإني سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنْ مَسْجِدِ العَشَّارِ شُهَدَاءَ لَا يَقُومُ مَعَ شُهَدَاءِ بَدْرٍ غَيْرُهُمْ"

(10)

.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 382) والترمذي رقم (3662) و (3799) وابن ماجه (97) وابن حبان رقم (6902) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه الترمذي رقم (3805) وإسناده ضعيف، ولكن يشهد له حديث حذيفة الذي قبله.

(3)

رواه ابن عساكر.

(4)

رواه الطبراني.

(5)

البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 322).

(6)

رواه مسلم رقم (2843).

(7)

السِّباخ: الأراضي التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر، والكَلَّاء: مرفأ السفن عند الساحل المعنى: ابتعد عن هذه الأماكن. يقال: من مشى على الكلَّاء أي على الساحل، وقع في النهر، والكلَّاء: موضع بالبصرة وسوق بها.

(8)

رواه أبو داود رقم (4307) وهو حديث حسن.

(9)

الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة قرب البصرة.

(10)

رواه أبو داود (4308) وهو حديث ضعيف.

ص: 12

وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في "الصحيحين": "إذَا هَلَك قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وإذَا هَلَك كِسْرى فلَا كِسْرى بعْدَهُ، والَّذي نَفْسِي بِيَدهِ لتُنْفِقُنَّ كنوزهما في سَبِيل اللَّه"

(1)

وقد وقع ذلك كما أخبر به سواءً بسواءٍ، في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان انزاحت يدُ قيصر ذلك الوقت -واسم قيصر هرَقْل- عن بلاد الشام، والجزيرة، وثَبَت مُلكُه مقصورًا على بلاد الروم فقط، والعرب إنما كانوا يُسَمُّونَ قيصرَ لِمَنْ ملك بلاد الروم، مع الشام والجزيرة، وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لأهل الشام، وهو أن يدَ ملك الروم لا تعودُ إليها أبد الآبدين، ودهرَ الداهرين، إلى يوم الدين، وسنُورد هذا الحديث قريبًا بإسناده، ومتنه إن شاء اللَّه تعالى.

وأما كسرى فإنه سُلِبَ عامَّةَ مُلكه في زمن عمر بن الخطاب، ثم استُؤْصِل ما بقي في يده في زمن عثمان بن عفان، ثم قُتل في سنة ثنتين وثلاثين، وللَّه الحمدُ والمنَّة، وقد بسطنا ذلك مُطولًا فيما سلف، وقد دعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أنه مَزَّق كتابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يُمَرق ملكهُ كلَّ مُمَزَّق، فوقع الأمر كذلك

(2)

. وثبت في "الصحيحين" من حديث الأعمش، وجامع بن أبي راشد، عن شقيق بن سلمة، عن حُذَيْفة، قال: كنا جُلُوسًا عند عمر بن الخطاب، فقال: أَيُّكُم يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الفِتْنَة؟ قلت: أنا، قال: هَاتِ: إنَّكَ لَجَرِيء، فقلت: ذَكَر فِتْنة الرجل في أهله، وماله، وجاره، وولده، يُكفِّرها الصلاة، والصدقة، والأمرُ بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقال: ليس هذا أعني، إنما أعني التي تَموجُ مَوج البحر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن بينَك وبَيْنَها بابًا مُغلقًا، فقال: وَيْحكَ! أيُفْتَحُ البابُ أمْ يُكْسَر؟ قلت: بل يكسر، قال: إذًا لا يغلَقُ أبدًا، قلت: أجَلْ، فقلنا لحُذَيفة: أكان عمر يعلم مَن البابُ؟ قال: نعم، إني حَدَّثتهُ حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهِبْنا أن نسأل حذيفة: مَن الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: هو عمر

(3)

، وهكذا وقع الأمر سواءً بعد مقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين، وقعت الفتنُ بين الناس بعد مقتله، وكان ذلك سبب انتشارها بينهم. وأخبر صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان أنه من أهل الجنة، على بلوى تُصيبهُ

(4)

، فوقع الأمر كذلك، حُصِر في الدار كما بُسطَ ذلك في موضعه، وقتل صابرًا مُحتسبًا شهيدًا رضي الله عنه وقد ذكرنا عند مقتله ما ورد من الأحاديث بالإنذار بذلك، والإعلام به قبل كَوْنِه؛ فوقع طِبْقَ ذلك سواء بسواء. وذكرنا ما ورد من الأحاديث في يوم الجَمَل وصِفِّين ما ورد من الأحاديث المُؤذِنة بكَوْن ذلك، وما وقع فيها من الفتنة والاختبار، وباللَّه المستعان.

(1)

أخرجه البخاري رقم (3121) ومسلم رقم (2919) من حديث جابر بن سمرة.

(2)

أخرجه البخاري رقم (64).

(3)

رواه البخاري رقم (525) ومسلم رقم (144) من حديث الأعمش، ورواه البخاري رقم (1895) ومسلم رقم (144)(27) الذي بعد (2892) من حديث جامع بن أبي راشد به.

(4)

رواه البخاري رقم (3693).

ص: 13

وكذلك الإخبار بمقتل عَمّار

(1)

. وأما ذِكر الخوارج الذين قتلهم عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وصفتِهم، ونعتِ ذي الثُّديَّة منهم

(2)

فالأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جدًّا، وقد حررنا ذلك فيما سلف، وللَّه الحمد والمنّة. وذكرنا عند مقتل على الحديثَ الوارد في ذلك بطرقه، وألفاظه.

وتقدّم الحديث الذي رواه أحمدُ، وأبو داود، والنسائي، والترمذيّ، وحسّنه، من طريق سعيد بن جُمْهَان؛ عن سَفِينَة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثَلاثونَ سنة، ثم تكون مُلْكًا"

(3)

، وقد اشتملت هذه الثلاثون سنة على خلافة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان الشهيد، وعلي بن أبي طالب الشهيد أيضًا، وكان ختامها وتمامها بِسِتَّةِ أشهر التي وَلِيهَا الحسنُ بن علي بعد أبيه، وعند تمام الثلاثين نزل عن الإمرة لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربعين، وأصْفَقت البيعة لمعاوية بن أبي سفيان، وسُمي ذلك عامَ الجماعة، وقد بسطنا ذلك فيما تقدم

(4)

.

وروى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول والحسنُ بنُ عليّ إلى جانبه على المنبر: "إن ابني هذا سيِّدٌ وسيُصلح اللَّهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"

(5)

وهكذا وقع سواء. وثبت في "الصحيحين" عن أم حَرَام بنت مِلْحَانَ، ذكره صلى الله عليه وسلم غَزْو أُمَّته في البحر مرَّتَين، وكون أم حَرَام مع الأولين، وقد كان ذلك في سنة سبع وعشرين، مع معاوية حين استأذن عثمانَ في غزو قبرص، فأذِنَ له فركب مع المسلمين في المركب حتى وصلها، وفتحها قَسْرًا، وتُوفِّيت أمّ حَرَام في هذه الغزوة في البحر، وكانت أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت

(6)

وكان مع معاوية في هذه الغزوة زوجته فَاختَةُ بنت قَرظَة، وأما الثانية فكانت في سنة ثنتين وخمسين في أيام مُلك معاوية، بعث ابنه يزيدَ بن معاوية، ومعه الجنود إلى غزو القسطنطينية، ومعه في الجيش جماعةٌ من سادات الصحابة، منهم أبو أيُّوب الأنصاريّ، خالد بن زيد رضي الله عنه فمات هنالك، وأوصى إلى يَزيد بن معاوية أن يدفنه تحت سنابك الخيل، وأن يُوغل به إلى أقصى ما يُمكن أن ينتهى به إلى نحو جهة العدُوّ، ففعل ذلك، وتفرّد البخاري بما رواه من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عُمير بن

(1)

رواه البخاري (447) ومسلم (2915) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

رواه البخاري (3610) ومسلم (1064).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 220 - 221) وأبو داود رقم (4646) والنسائي في "الكبرى"(8155) والترمذي رقم (2226) وهو حديث حسن.

(4)

يعني عند كلام المؤلف على أحداث سنة أربعين من قسم التأريخ من كتابه، وقد أطلق المؤلف على الكتاب اسم "البداية والنهاية" لأنه تحدث في أوله عن بدء الخليقة وفي آخره عن نهاية الخليقة، وأرَّخ بينهما للأحداث من السنة الأولى للهجرة وإلى أواخر حياته رحمه الله.

(5)

رواه البخاري رقم (2704).

(6)

رواه البخاري رقم (2788) ومسلم رقم (1912).

ص: 14

الأسود العَنْسِي، عن أمّ حَرَام: أنّها سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أوَّلُ جَيشٍ من أُمَّتي يغزون البحر قد أوجبوا"، قالت أمّ حرام: فقلت: يا رسول اللَّه! أنا فيهم؟ قال: "أنتِ فيهم"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أولُّ جيش من أمّتي يَغْزُون مَدِينَةَ قَيصْرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ"، قلت: أَنا فيهم يا رسول اللَّه؟ قال: "لا"

(1)

.

‌ذكر قتال الهند

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا البراء، عن الحسن، عن أبي هريرة، حدثني خليلي الصادق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يكون في هذه الأمة بَعْثٌ إلى السِّنْد والهند" فإن أنا أدركتهُ فاستُشْهِدتُ فذاك، وإن أنا. . . فذكر كلمة، رجعتُ، فأنا أبو هريرة المحرّر قد أعتقني من النار

(2)

. ورواه أحمد أيضًا عن هُشَيم عن سيّار، عن جبر بن عَبِيدَة، عن أبي هريرة، قال: وعدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوة الهند، فإن استُشْهِدتُ كنتُ من خير الشهداء، وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرّر

(3)

، ورواه النّسائيّ من حديث هُشيم وزيد بن أبي أُنَيسَة عن سَيار، عن جبر -ويقال جبير- عن أبي هريرة. . . فذكر

(4)

. وقد غزا المسلمون الهند في سنة أربع وأربعين، في إمارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فجرت هناك أمور، قد ذكرناها مبسوطة فيما تقدم، وقد غزاها الملك الكبير السعيد المحمود، محمود بن سُبُكْتِكين، صاحب بلاد غَزْنَةَ، وما والاهَا، في حدود أربعمئة، ففعل هنالك أفعالًا مشهورة، وأمورًا مشكورة، كسرَ الصنمَ الأعظم، المسمَّى بسومنات، وأخذ قلائده وجواهره وذهبه وشُنُوفَه

(5)

، وأخذ من الأموال ما لا يحصى، ورجع إلى بلاده سالمًا غانمًا، وقد كان نُوّاب بني أمية يقاتلون الأتراك، في أقصى بلاد السند، والصين، وقهروا ملكهم القان الأعظم، ومرقوا عساكره، واستحوذوا على أمواله وحواصله، وقد وردت الأحاديث بذِكر صفتهم، ونعتهم، ولنذكر شيئًا من ذلك على سبيل الإيجاز:

قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، أخبرنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشَّعَر، وحتى تقاتلوا التُّركَ، صغارَ الأعين، حُمر الوجوه، ذُلْف الأنوف

(6)

كأنّ وجوههم المَجَانُّ

(7)

المُطْرَقَة، وتجدون من خير الناس أشدّهم كراهية لهذا الأمر، حتى يَدْخل فيه، والناس معادن، خيارهم في الجاهليّة

(1)

رواه البخاري رقم (2924).

(2)

رواه أحمد (2/ 369) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أحمد (2/ 228 - 229) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه النسائي (6/ 42) وإسناده ضعيف.

(5)

الشنوف: جمع شنف وهو القرط الأعلى.

(6)

أي قصار الأنوف مع صغرها.

(7)

المجان جمع مِجَنّ، وهو: الترس.

ص: 15

خيارُهم في الإسلام، وليأتيَنّ على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من أن يكون له مثل أهله وماله". تفردّ به البخاري

(1)

، ثم قال: حدثنا يحيى، ثنا عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن هَمّام بن مُنَبّه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تقُومُ السَّاعَةُ حَتَى تُقاتِلُوا خوزًا وكِرْمان، من الأعاجم، حُمْر الوجُوه، فُطسَ الأنوف، صغار الأعين، كأنَّ وُجُوهَهُم المَجَانُّ المُطْرقَة، نِعَالُهُمُ الشَّعَر"

(2)

. ورواه أحمد عن عبد الرزاق

(3)

. وقال أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، يَبْلُغ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقومُ الساعةُ حَتَّى تُقاتِلوا قومًا كأنَّ وُجُوهَهُم المَجَانُ المُطْرقَة، نِعَالهم الشَّعَر". وأخرجه الجماعة سوى النسائي، من حديث سُفْيان بن عُيَيْنةَ به

(4)

، ورواه البخاريُّ عن عليّ بن المدِينيّ، عن سُفيان بن عُيَيْنةَ به، ورواه مسلم أيضًا، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن قَيْس بن أبي حازم، عن أبي هريرة. . . فذكر نحوَه

(5)

، قال سفيان بن عُيَينةَ: وهم أهل البارَز، كذا قال سفيان، ولعلّه البازَر، وهو سوق الفُسوق الذي لهم.

‌حديث عمرو بن تغلب:

وقال أحمد: حدثنا عفّان، حدثنا جَرِير بنُ حازم، سمعتُ الحسنَ، حدثنا عمرو بن تغلب، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إنّ من أَشْرَاطِ الساعةِ أن تُقاتِلُوا قومًا نعالهم الشعر" -أو "ينتعلون الشعر- وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا عِراضَ الوُجوه، كان وجوهَهمُ المَجَانُّ المُطْرقَة". ورواه البخاريّ من حديث جَرير بن حازم

(6)

.

وقد رُوِي من حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ الأَسْلَميِّ. قال أحمد: ثنا أبو نُعَيْمٍ، ثنا بشير بن المُهاجر، حدَّثني عبدُ اللَّه بن بُرَيْدَةَ، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسمِعْتُه يقول: "إنَّ أُمَّتِي يَسُوقُهَا قَوْمٌ صِغَارُ الأَعْيُنِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الحَجَفُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى يُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ أَمَّا السِّيَاقَةُ الأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُم

(7)

، وأَمَّا الثانِيَةُ فَيَنْجُو بَعْضٌ وَيَهْلِكُ بَعْضٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فيُصْطَلَمُون كُلُّهُمْ مَن بقِيَ مِنْهُمْ". قالوا: يا رسول اللَّهِ، مَن هم؟ قال:"التُّرْكُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَرْبطُنَّ خُيُولَهُمْ بِسَوَارِي مَسْجِدِ المُسْلِمِينَ". قال: فكان بُرَيْدَةُ لا يُفارِقُه بَعِيران أو ثلاثةٌ، ومَتاعٌ بعدَ ذلك للهربِ؛ لمَا

(1)

رواه البخاري رقم (3587 - 3589).

(2)

رواه البخاري رقم (3590).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 271 و 272) وهو في "جامع معمر" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20782).

(4)

رواه أحمد (2/ 239) والبخاري رقم (2929) ومسلم رقم (2912) وأبو داود (4304) والترمذي رقم (2215) وابن ماجه (4096).

(5)

رواه البخاري (3591) ومسلم (2912)(66).

(6)

رواه أحمد (5/ 70) والبخاري رقم (2927).

(7)

في الأصل: من يبردهم، والمثبت من مسند أحمد.

ص: 16

سمِع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن البلاءِ في التُّركِ. ورواه أبو داودَ في كتابِ المَلاحمِ مِن "سننِه" عن جعفرِ بنِ مُسافرٍ، عن خَلَّادِ بنِ يَحْيَى، عن

(1)

بَشِيرِ بن المُهاجِرِ به. ورواه أبو يَعْلَى عنه، به، وفيه:"قَوْمٌ صِغَارُ الْعُيُونِ، عِرَاضُ الْوُجُوهِ، كَأنَّ وُجوهَهمُ الحَجَفُ، يُلْحِقُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ بِمَنَابِتِ الشِّيحِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ أَمَّا الْمَرَّةُ الأُولَى فَيَنْجُو منهم مَنْ هَرَبَ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَيَنْجُو بَعْضٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَيَهْلِكُونَ جَمِيعًا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَقَدْ رَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ". قيل: مَن هم يا رسول اللَّه؟ قال: "هُمُ التُّرْكُ"

(2)

.

‌حَدِيث أبي بَكْرَةَ الثَّقفيِّ في ذلك:

قال الإمامُ أحمد: ثنا أبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسمِ، ثنا الحَشْرَجُ

(3)

بنُ نُباتةَ القَيْسيُّ الكوفيُّ، ثنا سعيدُ بنُ جُمْهانَ

(4)

، ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بَكْرةَ، حدثني أبي في هذا المسجدِ مسجدِ البصرةِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لتَنْزِلَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي أَرْضًا يُقَالُ لَهَا: الْبَصْرَةُ. فَيَكْثُرُ بِهَا عَدَدُهُمْ وَنَخْلُهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ بَنُو قَنْطُورَاءَ، عِراضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، حَتَّى يَنْزِلُوا على جِسْرٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: دِجْلَةُ. فَيَفْتَرِقُ المُسْلِمُونَ ثَلَاثَ فِرَقٍ؛ فَأَمَّا فِرْقَةٌ فَتَأْخُذُ بِأَذْنَابِ الإبِلِ فَتَلْحَقُ بِالْبَادِيَةِ، فَهَلَكَتْ، وَأَمَّا فِرْقَةٌ فَتَأْخُذُ على أَنْفُسِهَا، فَكَفَرَتْ، فَهَذِهِ وَتِلْكَ سَوَاءٌ، وَأَمَّا فِرْقَةٌ فَيَجْعَلُونَ عِيَالَهُمْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُونَ، فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَيَفْتَحُ اللَّهُ على بَقِيَّتِهِمْ".

ورواه أبو داودَ في المَلاحمِ، عن محمدِ بنِ يحيى بنِ فارسٍ، عن عبدِ الصَّمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن سعيد بن جُمْهانَ

(5)

، ثنا مُسْلمُ بنُ أبي بَكْرةَ، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يَنْزِلُ أناسٌ مِنْ أُمَّتِي بِغَائِطٍ

(6)

يُسَمُّونَهُ البَصْرَةَ عند نهر يقال له: دِجْلةُ. يكون عليه لهم جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المُهَاجِرِينَ" -وفي لفظٍ:"المُسْلِمِينَ- فَإذَا كَانَ فِي آخِرِ الزَّمَان، جَاءَ بَنُو قَنْطُورَاءَ عِرَاضُ الوُجُوهِ، صِغَارُ الأَعْيُنِ، حتى يَنْزِلُوا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ، فيَتَفَرَّقُ المُهَاجِرُونَ ثَلَاثَ فِرَقٍ؛ فِرْقَةً تَأْخُذُ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَالْبَرِّيَّةِ وَهَلَكُوا، وفرقَةً يَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ وَكَفَرُوا، وَفِرْقَةً يَجْعَلُونَ ذَرَارِيَّهُمْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، ويُقَاتِلُونَهُمْ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ"

(7)

.

وتقَدَّم حديثُ أنسٍ في ذكرِ البصرةِ، التي مُصِّرَت في زمانِ عمرَ بن الخطابِ

(8)

.

(1)

تحرفت في الأصل إلى: بن.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 349) وأبو داود (4305) وهو حديث ضعيف.

(3)

في الأصل: الحسن.

(4)

في الأصل: جهمان، وهو خطأ.

(5)

في الأصل: جهمان، وهو خطأ.

(6)

الغائط: المطمئن من الأرض.

(7)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 44 - 45) وأبو داود (4306) وهو حديث حسن.

(8)

رواه أبو داود رقم (4307) وهو حديث حسن، وأُقحم في الأصل بعد هذا الكلام: ذكر قتالهم مع اليهود مع الدجال، جيشه سبعون ألفًا من الترك، ووزراؤه اليهود وهم سبعون ألفًا أيضًا".

ص: 17

وروَى مسلمٌ وأبو داودَ والنَّسائيُّ، عن قتيبة، عن يعقوبَ الإِسْكنْدرانيِّ، عن سُهيل بنِ أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ التُّرْكَ، قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجانُّ المُطْرَقَةُ، يَلْبَسُونَ الشَّعَرَ". وهذا لفظُ أبي داودَ

(1)

.

وقد رُوِي مِن حديث أبي سعيد، فقال أحمد: ثنا عمّارُ

(2)

بنُ محمدٍ ابن أختِ سُفْيانَ الثَّوريِّ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريِّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الأَعْيُنِ، عِرَاضَ الوُجُوهِ، كَأَنَّ أَعْيُنَهُمْ حَدَقُ الْجَرادِ، وَكَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ المُطْرَقَةُ، يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ، وَيَتَّخِذونَ الدَّرَقَ

(3)

حَتَّى يَرْبِطُوا خُيُولَهُمْ بِالنَّخْلِ". تَفَرَّد به أحمدُ

(4)

.

‌حديث معاويةَ بنِ أبي سفيانَ في قِتالِ التركِ:

قال أبو يَعْلَى: ثنا محمدُ بنُ يحيى

(5)

البَصْريُّ، ثنا محمدُ بنُ يعقوبَ، ثنا أحمدُ بنُ إبراهيمَ، حدثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ الغَمْرِ

(6)

مولى سموك، ثنا أبي، عن جَدِّي، سمِعْتُ مُعاويةَ بنَ حُدَيْجٍ يقولُ: كنتُ عندَ مُعاويةَ بن أبي سفيانَ، إذ جاءه كتابُ عاملِه يُخبر أنه أوقع بالتركِ وهزمهم، وبكثرة مَن قُتِل منهم، وكثرةِ ما غنم منهم، فغضب معاويةُ مِن ذلك، ثم أمرَ أن يُكْتب إليه: قد فَهِمْتُ ما ذَكَرْتَ مما قتلتَ وغنِمت

(7)

فلا أعْلَمَن أنك عُدْت لشيءٍ من ذلك، ولا تُقاتلهم حتى يأْتِيَك أمْري. فقلتُ له: ولِمَ أميرَ المؤمنين؟ فقال: سمِعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنَّ التُّرْكَ تُحَارِبُ الْعَرَبَ حَتَّى تُلْحِقَهَا بِمَنَابِتِ الشِّيحِ والقَيْصُومِ" فأَكرهُ قتالهم لذلك

(8)

.

طريق أخرى عن معاويةَ:

قال الطَّبرانيُّ: ثنا يحيى بنُ أيوبَ العَلَّافُ، حدَّثنا أبو صالحٍ الحَرَّانيُّ، ثنا ابنُ لَهِيعةَ، عن كعب بن عَلْقمةَ التَّنوخيِّ، ثنا حسان

(9)

بنُ كُرَيْبٍ الحِمْيَريُّ، سمِعْتُ ابنَ ذي الكَلاعِ

(10)

يقولُ:

(1)

رواه مسلم (4912) وأبو داود (4303) والنسائي (6/ 44 - 45).

(2)

في الأصل: عباد.

(3)

نوع من الترس.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 31) أقول: وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4099) وهو حديث صحيح.

(5)

في الأصل: محمد.

(6)

في الأصل: ابن أحمد.

(7)

في الأصل بدلها: غيمت.

(8)

رواه أبو يعلى في مسنده (7376) وإسناده ضعيف.

(9)

في الأصل: حماد.

(10)

في الأصل بدلها: من ذي الأسماع.

ص: 18

سمِعْتُ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ يقولُ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ"

(1)

.

وروى الطَّبَرانيُّ، عن إبراهيم بن أبي حاتم، عن نُعَيْم بن حمادٍ في كتاب "المَلاحِم"، ثنا يحيى ابنُ سعيد العَطَّارُ وأبو المُغيرةِ، عن إسماعيلَ بن عَيَّاشٍ، عن عبدِ اللَّه بنِ دِينارٍ، عن كعبِ الأحبارِ قال: يَنْزِلُ التُّركُ آمِدَ، ويشرب مِن نهرِ الدِّجْلةِ والفُراتِ سبعون ألفًا، ويَسْعَوْن في الجزيرةِ وأهل الإسلام، في الحِيرة، لا يَسْتطِيعون لهم شيئًا، فيَبْعَثُ اللَّهُ عليهم ثلجًا بغيرِ كَيْلٍ فيه صِرٌّ مِن ريحٍ شديدةٍ وجَليدٍ، فإذا هم خامِدون. وفي رواية عن كعب: فيبعث اللَّه عليهم الطاعون، فلا يفلت منهم إلا رجل واحد.

والمقصود أن التُّرك قاتلهم الصحابة، فهزموهم، وغَنِموهمْ وسَبَوا نساءَهم وأبناءهم، وظاهرُ هذه الأحاديث يقتضي أن قتالهم يكون من أشراط الساعة، وأشراطها لا تكون إلا بين يَديها قريبًا منها، فقد يكون هذا واقعًا مرة أخرى عظيمة بين المسلمين وبين الترك، حتى يكون آخر ذلك خروجَ يأْجُوجَ ومأجُوجَ، كما سيأتي ذِكرُ أمرهم، د ان كان أشراطُ الساعة أعمَّ من أن يكون بين يَدَيها قريبًا منها، أو يكون مما يقع في الجُملة، حتى ولو تقدّم قبلها بدهر طويل، إلّا أنه مما يقع بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي يظهرُ بعد تأملّ الأحاديث الواردة في هذا الباب، كما ترى ذلك قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. وقد ذكرنا ما ورد في مقتل الحُسَيْن بن عليّ بكَرْبلاءَ، في أيام يزيد بن معاوية، كما سَلَف، وما ورد من الأحاديث في ذكر خلفاء بني أمَيّة أُغَيْلمة بني عبد المطلب. قال أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو أمَيّة عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، أخبرني جَدِّي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "هَلَكَةُ أُمّتي عَلَى يَدْي غِلْمةٍ" فقال مروان، وهو معنا في الحَلْقة قبل أن يَلِيَ شيئًا: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عليهم غِلْمَةً، قال: أما واللَّه لو أَشَاء أن أقول بَنِي فلان، وبني فلان لفعلتُ، قال: فكنت أخرجُ مع أبي وجدّي إلى بني مروان بعد ما ملكوا، فإذا هُم يبايعونَ الصِّبْيانَ، ومنهم من يُبايَع له وهو في خِرْقَةٍ، قال لنا: هل عَسَى أَصْحَابُكُمْ هؤلاء أنْ يَكُونوا الذين سمعتُ أبا هريرة يذكر أن هذه الملوك يُشبه بعضها بعضًا. ورواه البخاريّ بنحوه عن أبي هريرة

(2)

. والأحاديثُ في هذا كثيرة جدًّا، وقد حررّناها في دلائل النبوة. وتقدم الحديث في ذِكر الكذَّاب والمبير من ثقيف

(3)

، فالكذَّاب هو المختار بن أبي عُبَيْد الذي ظهر بالكوفة، أيام عبد اللَّه بن الزُّبير، وكان رافضيًا خبيثًا، بل كان يُنْسَبُ إلى الزندقة، وادعى أنه يُوحى إليه، وقد قتله مصعب بن الزُّبير، وأما المُبير، فهو الحجاج بن يوسف الثقفيّ، الذي قَتَلَ عبد اللَّه بن الزُّبير، وكان ناصبيًا، جَبَّارًا عنيدًا، عكس الأول في الرفض كما تقدم.

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(19/ 882) وفي إسناده ضعف، وله شواهد بهذا الاختصار، فهو حسن لغيره.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 324) والبخاري رقم (3605).

(3)

رواه مسلم (2545).

ص: 19

وتقدم حديث الرايات السُّود

(1)

التي جاء بها بنو العباس، حين استلموا الملك من أيدي بني أمية، وذلك في سنة ثنتين وثلاثين ومئة، أخذوا الخلافة من مروان بن محمد بن مَرْوان بن الحكم بن أبي العاص، ويعرف بمروان الحمار، ومروان الجعْدي، لاشتغاله على الجعد بن درهم المعتزليّ، وكان آخر خلفاء بني أمية، وصارت الخلافة للسفاح بعده، المُصرّح بذكره في حديثٍ رواه أحمد بن حنبل في "مُسنده"

(2)

وهو أبو العباس عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن العبَّاس بن عبد المطلب، أول خلفاء بني العباس كما تقدّم ذلك.

وقال أبو داود الطيالسيّ: حدثنا جرير بن حازم، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخُشَنِيّ، عن أبي عُبَيْدة بن الجراح ومُعاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللَّه بَدَأ هَذَا الأمرَ نبوةً، ورحمةً، وكَائنًا خِلافة ورحمةً، وكائنًا مُلكًا عَضُوضًا، وكائنًا عِزةً وجبْريةً وفَسادًا في الأمة، يستحلُّونَ الفروج، والخمور، والحرير، ويُنْصَرون على ذلك ويُرزقون أبدًا، حتى يلْقَوا اللَّه عز وجل"

(3)

. وروى البَيْهَقيّ من حديث عبد اللَّه بن الحارث بن محمد بن حاطب الجمحي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَكونُ بَعْدَ الأنْبياء خُلَفاءُ يعملون بكتاب اللَّه، ويعدلون في عباد اللَّه، ثم يكون من بعد الخلفاء ملوكٌ، يأخذونَ بالثَّأْرِ، وَيقْتُلوُنَ الرِّجَال، وَيصْطَفُونَ الأمْوالَ، فَمُغيِّرٌ بيده، ومُغيرٌ بِلسَانه، ومُغيرٌ بقَلْبه، ليس وَرَاء ذلكَ من الإيمان شيْءٌ"

(4)

. وثبت في "صحيح البخاريّ" من حديث شعبة عن فُرات القزَّاز، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"كانَتْ بَنُو إسرائيلَ تَسُوسهُم الأنْبِياءُ، كلّما هَلَك نبيٌّ خلَفه نبيٌّ، وإنه لا نبيّ بَعْدِي، وإنه سَيَكونُ خلفاءُ، فيْكثُرُون" قالوا: فما تأمرنا يا رسول اللَّه؟ قال: "فُوا بِبيْعَة الأوّل، فالأوّل، وأعْطُوهُمْ حَقَّهم، فإن اللَّهَ سائلهُم عَمّا اسْتَرعاهم"

(5)

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي رافع، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما كانَ نَبِيٌّ إلّا كان له حَواريُّونَ يَهْدُونَ بَهدْيهِ وَيَسْتنُونَ بسُنَّته، ثم يكونُ من بَعْدِهم خُلُوف يقولون ما لا يَفْعَلُون، ويعملُون ما يُنْكِرُون"

(6)

. وثبت في "الصحيحين" من رواية عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"يكونُ اثنا عَشَر خليفةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيش"

(7)

. ورواه أبو داود، من طريق أخرى، عن جابر بن سَمُرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه أحمد (5/ 277) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد (3/ 80) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (228) وفي إسناده ضعف بطوله.

(4)

في "دلائل النبوة"(6/ 339 - 340).

(5)

رواه البخاري رقم (3455) ومسلم رقم (1842).

(6)

رواه مسلم رقم (50).

(7)

البخاري (7222) ومسلم رقم (1821).

ص: 20

يقول: "لَا يَزالُ هَذَا الدِّينُ قائمًا حتَّى يكونَ اثنا عشر خليفة"

(1)

، وفي رواية:"لَا تزَالُ هَذِه الأمّةُ مُسْتَقيمًا أمرُها، ظاهرَةً على عدوّها، حتى يَمْضِي منهُم اثنا عَشَر خليفةً كلُّهُمْ مِنْ قُريش" قالوا: ثُمَّ يكُون ماذَا؟ قال: "يكونُ الهَرْجُ"

(2)

. فهؤلاء الخلفاء المبشّر بِهم في هذا الحديث ليسُوا بالاثني عَشَر الذينَ يَزْعُم فِيهِم الرَّوافضُ ما يَزْعُمُونَ، من الكذب والبهتان، وأنهم معصومون، لأن أكثرَ أولئك لم يلِ أحدٌ منهم شيئًا من أعمال هذه الأمة في خلافةٍ، بل، ولا في قطرٍ ولا بَلَدٍ من البلدان، وإنما وَلِيَ منهم عليٌّ وابنه الحسن، رضي الله عنهما، وليس المرادُ من هؤلاء الاثني عشر الذين تتابعت ولايتهم سَرْدًا إلى أثناء دولة بني أميّة، لأن حديث سَفِينَة:"الخلافةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنةً"

(3)

يمنع من هذا المسلك، وإن كان البيهقيّ قد رجَّحَهُ، وقد بحثنا معه في كتاب دلائل النبوة من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، وللَّه الحمد، ولكن هؤلاء الأئمة الاثني عشر وجد منهم الأئمة الأربعة، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، وابنه الحسن بن علي، أيضًا، ومنهم عمر بن عبد العزيز، كما هو عند كثير من الأئمة، وجمهور الأمّة، وللَّه الحمد، وكذلك وجد منهم طائفة من بني العباس، وسيوجد بقيّتهم فيما يُستقبل من الزمان، حتى يكون منهم المهديّ المبشَّر به في الأحاديث الواردة فيه، كما سيأتي بيانها وباللَّه المستعان، وعليه التُّكلان، وقد نص على هذا الذي قلناه غيرُ واحدٍ، كما قررنا ذلك.

حديثُ عبادةَ فيما يتعلَّق بما بعدَ المئةِ سنةٍ:

قال أحمدُ: ثنا الحكمُ بن نافع، ثنا إسماعيلُ بنُ عياش، عن يزيدَ بنِ سعيد، عن أبي عطاء يزيدَ ابنِ عطاء السَّكْسَكِيِّ، عن مُعاذِ بن سعد السَّكسكي

(4)

، عن جُنادةَ بن أبي أميَّةَ، أنَّه سمع عبادةَ بنَ الصامتِ يذكرُ أنَّ رجلًا أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، ما مدةُ أمتِكَ في الرخاءِ؟ فلم يردَّ عليه شيئًا، حتى سأله ثلاثَ مِرارٍ، كلَّ ذلك لا يُجيبُه، ثم انصرف الرجلُ، ثم إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أينَ السَّائلُ"؟ فَرَدُّوه عليه، فقال:"سألْتَني عَنْ شَيْءٍ [مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي]؛ مُدَّةُ أُمَّتِي مِنَ الرَّخَاءِ مئة سَنَةٍ". قالها مرتين أو ثلاثًا، فقال الرجل: يا رسول اللَّه، فهل لذلك من أمارةٍ أو علامةٍ أو آيةٍ؟ فقال:"نَعَم، الخَسْفُ، وَالرَّجْفُ، وَإرْسَالُ الشَّيَاطِينِ المُجْلِبَةِ عَلَى النَّاسِ"

(5)

.

وفي "مسند أبي يعلى"، والبزارِ من حديثِ مُصعبِ بنِ مُصعبٍ، ولا أعرِفُه إلّا عن الزهريِّ، عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا

(1)

رواه أبو داود رقم (4279).

(2)

رواه الطبراني في "الكبير"(2/ 282) والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 520).

(3)

رواه أحمد والترمذي، وقد تقدم صفحة (14) وهو حديث حسن.

(4)

في الأصل: معاذ بن شقراء، وهو خطأ. والتصحيح من مسند أحمد، وكتب الرجال.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 325) وإسناده ضعيف.

ص: 21

سَنَةَ خَمسِ وعِشْرينَ وَمِئَةٍ". هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا

(1)

.

‌حديث فيما بعد المئتين من الهجرة

قال ابن ماجه: حدثنا الحسن بن عليّ الخلال، حدثنا عون بن عُمارة، حدثني عبد اللَّه بن المُثَنَّى ابن ثُمَامة بن عبد اللَّه بن أنَس بن مالك، عن أبيه، عن جدِّه، عن أنس، عن أبي قتادة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الآيات بعد المئتين". ثم أورده ابن ماجه، من وجهين آخرين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولا يصح

(2)

، ولو صحّ فمحمول على ما وقع من الفتنة بسبب القول بخلْق القرآن، والمحنة للإمام أحمد بن حنبل، وأصحابه، من أئمة الحديث، كما بسطنا ذلك هنالك.

وروى روَّاد بن الجرّاح، وهو مُنْكَر الرواية، عن سفيان الثوريّ، عن منصور، عن رِبْعِيّ، عن حُذَيفَة، مرفوعًا:"خيرُكم بَعدَ المئتين خَفِيفُ الحَاذِ" قالوا: وما خَفِيفُ الحَادِ

(3)

يا رسول اللَّه، قال:"مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ، ولا مالَ ولا ولد". وهذا منكر

(4)

.

وثبت في "الصحيحين" من حديث شُعْبَة عن أبي جمرة، عن زهدم بن مُضَرِّب، عن عمران بن حُصَيْن قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أمتّي قَرْني، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذينَ يلُونَهُمْ" قال عمران: فلا أدري ذكَرَ بعد قرنه قرنَيْن، أو ثلاثةً "ثمّ إنّ بَعْدَكم قومًا يَشْهَدُون، ولا يُسْتَشْهَدونَ، ويَخُونُون ولا يُؤتمنون، وينذرُون، ولا يُوفُونَ، ويظهر فيهم السِّمَنُ". وهذا لفظ البخاري

(5)

.

‌ذكر سنة خمسمئة

قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المُغيرة، حدثني صَفْوان، عن شُرَيح بن عُبَيْد، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إني لأرْجُو ألّا تَعْجِز أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّها أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ" قِيلَ لِسَعْد: وكَمْ نِصْفُ يَوْم؟ قال: خَمْسُمئة سنة. وقد تفرّد به أبو داود

(6)

.

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ثعلبة الخُشَنيِّ من قوله مثلَ ذلك

(7)

، وهذا التحديد بهذه المدة لا ينفي ما يزيدُ عليها إن صحّ رفع الحديث، واللَّه أعلم.

(1)

رواه أبو يعلى في مسنده (851) والبزار (1023).

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4057) و (4058).

(3)

أي: خفيف الظهر، ليس على ظهره حمل ثقيل.

(4)

ورواه أبو يعلى في "المسند الكبير" رقم (4365 - المطالب العالية) وابن عدي في "الكامل"(3/ 176 - 177) أقول: وهو حديث موضوع.

(5)

رواه البخاري رقم (3650) ومسلم رقم (2535).

(6)

رواه أبو داود رقم (4350) وهو حديث صحيح.

(7)

رواه أحمد (4/ 193) موقوفًا على أبي ثعلبة الخشني، ورواه أبو داود مرفوعًا رقم (4349) وهو حديث صحيح.

ص: 22

فأما ما يُوردُه كثير من العامّة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤلَّف تحت الأرض". فهو من قولهم وكلامهم، وليس له أصل، ولا ذِكْر في كتب الحديث المعتمدة، ولا سمعناه في شيء من المبسوطات، والأجزاء المختصرات، ولا ثَبتَ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه حَدَّ الساعة بِمُدَّة محصورة، وإنما ذكر شيئًا من أشراطها وأماراتها وعلاماتها على ما سنذكره إن شاء اللَّه.

‌ذكر الخبر الوارد في خروج نار من أرض الحجاز أضاءت لها أعناق الإِبل بُبصْرَى من أرض الشام وذلك في سنة أربع وخمسين وستمئة

قال البخاري: حدّثنا أبو اليمان، حدثنا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريّ، قال: قال سعيد بن المُسيب، أخبرني أبو هُرَيْرَة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم السَّاعَةُ حتّى تَخْرُجَ نارٌ مِنْ أرض الحِجَاز تُضيءُ أَعناقَ الإِبل بِبصرى". ورواه مسلم من حديث الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب به

(1)

.

وقد رواه أبو نُعَيْمٍ الأصْبَهانيُّ، ومن خطِّه نقلْتُ، مِن طريقِ أبي عاصمٍ النَّبيلِ، عن عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن عيسى بن عليٍّ الأنصاريِّ، عن رافعِ بن بشير السَّلَمِيِّ

(2)

، عن أبيه، قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تَخْرُجُ نَارٌ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى، تَسِيرُ سَيْرَ مطية الإِبِلِ، تَسِيرُ النَّهَارَ وَتُقِيمُ اللَّيْلَ، تَغْدُو وَتَرُوحُ، فَيُقَالُ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ غَدَتِ النَّارُ فَاغْدُوا. أَوْ: قَالَتِ النَّارُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَقِيلُوا. غَدَتِ النَّارُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَرُوحُوا. مَنْ أَدْرَكَتْهُ أَكَلَتْهُ". هكذا رواه أبو نُعَيْمٍ، وهو في "مسند أحمدَ" مِن روايةِ رافعِ بن بشرٍ السَّلمِيِّ

(3)

، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدونِ هذه الزيادة إلى:"تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى". وهو الصوابُ؛ فإن هذه النارَ التي ذكَر أبو نُعَيْمٍ هي النارُ التي تَسُوقُ النَّاسَ إلى أرضِ المَحْشَرِ، كما سيأتي بيانُ ذلك قريبًا

(4)

.

وقال الإمامُ أحمدُ: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، ثنا أبي، سمِعْتُ الأعمشَ يُحَدِّثُ عن عمرو بن مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن الحارثِ، عن حَبيبِ بنِ حِمَارٍ

(5)

، عن أبي ذرٍّ قال: أَقْبَلْنا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنَزَلْنا ذا الحُلَيْفَةِ فتعَجَّلَتْ رِجالٌ مِنَّا إلى المدينة، وبات رسول اللَّه، فلما أصْبَح سأل عنهم، فقيل: تَعَجَّلوا

(1)

رواه البخاري رقم (7118) ومسلم (2902).

(2)

في الأصل: الأسلمي.

(3)

في الأصل: الأسلمي.

(4)

وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (1229) وأحمد في المسند (3/ 443).

(5)

في الأصل: جماز. وفي ضبطه خلاف يراجع في "تعجيل المنفعة" للحافظ ابن حجر.

ص: 23

إلى المدينةِ. فقال: "تَعَجَّلُوا إلى المَدِينَةِ وَالنِّسَاءِ، أَمَا إنَّهُمْ سَيَدَعُونَهَا أَحْسَنَ مَا كَانَتْ". ثم قال: "لَيْتَ شِعْرِي، مَتَى تَخْرُجُ نَارٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ جَبَلِ الوَرَاقِ تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ [الإبل] بُرُوكًا ببُصرَى كَضَوْءِ النَّهَارِ". وهذا الاسنادُ لا بأسَ به

(1)

، وكأنه مما اشْتَبه على بعضِ الرُّواةِ، فإن النار التي تَخْرُجُ مِن قَعْر عَدَنَ مِن اليمن، هي التي تَسُوقُ النَّاسَ الموجودين في آخرِ الزمانِ إلى المَحْشَرِ، وأما النارُ التي تُضيءُ لها أعناقُ الإبلِ، فتلك تَخْرُجُ مِن أرضِ المدينةِ النبويةِ، كما تقَدَّم بيانُ ذلك.

وقد ذكر الشيخ شهابُ الدين أبو شامة، وكان شيخَ المحدِّثين في زمانه، وأستاذَ المؤرخين في أوانه، أن في سنة أربع وخمسين وستمئة في يوم الجمعة خاص جُمادَى الآخرة منها ظهرت نار بأرض المدينة النبوّية، في بعض تلك الأوْدية طول أربعة فراسخ، وعرض أربعة أميال، تُسِيل الصخر، حتى يبقى مثل الآنُك

(2)

ثم يصِيرُ مثلَ الفحم الأسود، وأن ضوءها كان الناسُ يسيرون عليه بالليل إلى تَيمْاءَ

(3)

، وأنها استمرّت شهرًا، وقد ضبط ذلك أهلُ المدينة، وعملوا فيها أشعارًا، وقد ذكرناها فيما تقدّم، وأخبرني قاضي القضاة، صدر الدين عليّ بن أبي القاسم الحنفي، قاضيهم بدمشق، عن والده الشيخ صفيّ الدين مدرّس الحنفية بِبُصْرَى، أنه أخبره غيرُ واحد من الأعراب صَبِيحةَ تلك الليلة، ممّن كان بحَاضِرَة بلد بُصْرى: أنهم شاهدُوا أعْنَاقَ الإِبل في ضَوْء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز، وقد تقدم بسط ذلك سنة أربع وخمسين وستمئة بما فيه كفاية عن إعادته هنا.

‌ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب المستقبلة، بعد زماننا هذا

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عزْرة بن ثابت، حدثنا عِلباء بن أحمر الْيَشْكُريّ، حدثنا أبو زيد الأنصاريّ، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم صَعِد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهرُ، ثم نزل فصلى الظهر، ثم صعِد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصرُ، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعِد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان، وما هو كائن، فأعلمُنا أحفظنا.

وقد رواه مسلم مُنفردًا به في كتاب الفتن من "صحيحه"، عن يعقوب بن إبراهيم الدّوْرَقِيّ، وحجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخْلَد النبيل، عن عزرة، عن عِلبْاء، عن أبي زيد، وهو عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاريّ، به

(4)

.

وقال البخاريّ في كتاب بدء الخلق من "صحيحه": رُوي عن عيسى بن موسى غُنْجار، عن

(1)

رواه أحمد في "المسند"(5/ 144).

(2)

الرصاص الخالص.

(3)

بين الشام ووداي القرى على طريق حاج الشام. "معجم البلدان".

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 341) ومسلم رقم (2892).

ص: 24

رَقَبةَ، عن قَيْس بن مُسلم، عن طارق بن شهاب، قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهلُ الجنة منازلَهم، وأهلُ النار منازلَهم، حفظ ذلك مَنْ حَفِظَهُ، ونَسيَهُ من نسيه. هكذا ذكره البخاريّ مُعلَّقًا بصيغة التمريض عن [عيسى] غُنْجار، عن رَقبة [وهو ابن مصقلة. قال أبو مسعود الدمشقي في "الأطراف": وإنما رواه عيسى غنجار عن أبي حمزة عن رَقَبَة]

(1)

فاللَّه أعلم.

وقال أبو داود في أول كتاب الفتن من "سُنَنِه": حدثنا عثمانُ بن أبي شَيْبَة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذَيْفَة قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا، فما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك، إلى قيام الساعة، إلّا حدّثه، حفظه مَنْ حَفِظَهُ، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيءُ فأذكره، كما يذكرُ الرجل وَجْهَ الرَّجُل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. وهكذا رواه البخاريّ من حديث سُفيان الثوريّ، ومسلم من حديث جرير، كلاهما عن الأعمش به

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن عليّ بن زيد، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ العصر ذاتَ يوم بنهارٍ، ثم قام، فخطبنا إلى أن غابت الشمس، فلم يدَع شيئًا مما يكون إلى يوم القيامة إلّا حدّثَناهُ، حفظ ذلكَ من حَفِظَهُ، ونسي ذلك من نَسِيهُ، فكان مما قال:"يا أيُّها الناسُ، إن الدُّنيا خَضِرَةٌ حُلْوَة، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فيها فناظرٌ كَيفَ تَعْمَلُونَ، فاتقوا الدُّنْيَا، واتقوا النِّساء". وذكر تمامَها إلى أن قال وقد دنت الشمسُ أن تغرُب: "وإن ما بقيَ من الدُّنيا فيما مضَى منها مثلُ ما تقِي من يَومِكُمْ هذَا فِيمَا مَضى منه". وعلي بن زيد بن جُدْعَان التيميّ، له غرائب، ومنكرات، ولكن لهذا الحديث شواهدُ من وجوه أُخرَ.

وفي "صحيح مسلم"، من طريق أبي نَضْرة عن أبي سعيد بعضه

(3)

.

وفيه الدلالة على ما هو المقطوع به، أن ما بقي من الدُّنيا بالنسبة إلى ما مضى منها شيء يسير جدًّا، ومع هذا لا يَعلَمُ مقدار ما بقي على التعيين والتحديد إلّا اللَّهُ تعالى، كما لا يَعلَمُ مقدار ما مضى منها إلّا اللَّهُ عز وجل، والذي في كتب الإسرائيليين، وأهل الكتاب، من تحديد ما سلف بألوف ومئين من السنين قد نَصّ غيرُ واحدٍ من العلماء على تخطئتهم فيه، وتغليطهم، وهم جديرون بذلك،

(1)

رواه البخاري معلقًا رقم (3192) بصيغة الجزم لا بصيغة التمريض. وقال الحافظ في "الفتح": ثبت في رواية حماد بن شاكر عن البخاري: روى عيسى عن أبي حمزة عن رقبة، وكذا قال ابن رميح عن الفربري.

(2)

رواه أبو داود رقم (4240) والبخاري رقم (6604) ومسلم رقم (2891).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 61) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20720) وإسناده ضعيف كما قال المصنف، وله شواهد، انظر البخاري رقم (6604) ومسلم (2891) من حديث حذيفة، ورقم (2742) من حديث أبي سعيد الخدري، ورقم (2892) من حديث عمرو بن أخطب.

ص: 25

حقيقون به، وقد ورد في حديث:"الدُّنْيَا جُمُعَةٌ من جُمَع الآخِرَة" ولا يَصحُّ إسناده

(1)

، وكذا كل حديث ورد فيه تحديدٌ بوقتِ يوم القيامة على التعيين لا يثبت إسنادُه، وقال اللَّه تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف] والآيات في هذا، والأحاديث كثيرة، وقال اللَّه تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر][وثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره، عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:]" بُعِثْتُ أَنا وَالسَّاعةُ كَهَاتَيْنِ"

(2)

وفي رواية: "إنْ كادَتْ لتَسْبِقُنِي"

(3)

وهذا يَدُلّ على اقْتِرَابها بالنسبة إلى ما مضى من الدنيا، وقال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} [الأنبياء] وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقال تعالى:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18].

وفي "الصحيح" أن رجلًا من الأعراب سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:"إنّها كائنة، فما أعدَدْتَ لها؟ " فقال الرجل: واللَّه يا رسول اللَّه لَمْ أُعِدَّ لهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ، وَلَا عَملٍ، ولكني أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فقال:"أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث

(4)

.

وفي بعض الأحاديث: أنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن السَّاعَةِ، فنظَرَ إلى غُلَامٍ فقال:"لَن يُدْرِكَ هَذَا الْهَرَمُ، حتَّى تَأْتِيَكُمْ ساعتُكُمْ"

(5)

والمراد انْخِرامُ قَرْنِهِمْ، ودُخولهم في عالم الآخرة، فإنّ كُلَّ من مات، فقد دخل في حكم الآخرة، وبعضُ الناس يقول: من مات فقد قامت قيامته

(6)

، وهذا الكلامُ بهذا المعنى صحيح، وقد يقول هذا بعضُ الملَاحِدَة، ويُشيرُون به إلى شيء من الزندقة والباطل، فأما الساعة العظمى وهو اجتماع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فهذا مما استأثَر اللَّه تعالى بعلم وقته، كما ثبت في الصحيح:"خمسٌ لا يَعْلَمُهُن إلَّا اللَّهُ"، ثم قرأ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]

(7)

.

(1)

رواه الديلمي في" مسند الفردوس" عن أنس، وهو ضعيف. ورواه السهمي في "تاريخ جرجان" صفحة (140) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البخاري رقم (6503) ومسلم رقم (2950).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 348) من حديث بريدة، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 226) والبخاري رقم (3688) ومسلم (2639).

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 283) والبخاري رقم (6167) ومسلم رقم (2953) من حديث أبي هريرة.

(6)

الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء": أخرجه ابن أبي الدنيا، في كتاب "الموت" من حديث أنس بسند ضعيف.

(7)

رواه أحمد (5/ 353) والبخاري رقم (50) ومسلم (9).

ص: 26

ولما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابيّ، فسأل عن الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، أجابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلمّا سأله عن الساعة، قال له:"ما المسؤولُ عنْها بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قال: فأخْبِرْنِي عَنْ أَشْرَاطِهَا، فأخْبَرهُ عن ذلك، كما سيأتي إيرادهُ بسنده، ومَتْنهِ

(1)

مع أمثاله، وأشكاله، من الأحاديث.

‌باب ذكر الفتن جملة ثم نفصل ذكرها بعد ذلك إن شاء اللَّه تعالى

قال البخاري: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا الوليد، حدثني ابن جابر، حدثني بُسْرُ بن عُبَيْد اللَّه الحَضْرميّ، حدثني أبو إدريس الخَوْلَانيُّ، أنّه سمعِ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمانِ يقول: كان الناسُ يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافةَ أن يُدْرِكني، فقلت: يا رسول اللَّه، إنّا كُنا في جَاهِليّة وشَرّ، فجاءنا اللَّهُ بهذا الخير، فهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرّ؟ قال:"نَعَمْ": قلت: وهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشرّ مِنْ خَيْر؟ قال: " نعم، وفيه دَخَنٌ

(2)

"، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: "قوم يَهْدُون بغير هديي تعرِفُ منهُمْ وتُنْكِرُ"، قلت: فهلْ بعد ذلك الخير من شَرّ؟ قال: "نعم، دُعَاةٌ على أبوابِ جهنم، من أجابهُمْ إليها قَذَفُوهُ فيها"، قلت: يا رسول اللَّه، صِفْهُم لنا، قال: "هُمْ من جلدتنا، ويتكلَّمُونَ بألسنتِنَا"، قلت: فما تأْمُرني إن أدْرَكَنِي ذلك؟ قال: "تَلزمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهُمْ"، قلت: فإن لم يكن لهم إمام، ولا جماعةٌ، قال: "فاعْتَزِل تلك الفِرَق كُلَّهَا، ولو أن تَعَضَّ بأصْلِ شجرةٍ، حتى يُدْركك الموتُ وأنتَ على ذلك". ثم رواه البخاريّ أيضًا، ومسلم، عن محمد بن المثنَّى، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به نحوه. وقد رُوي هذا الحديث من طُرُق كثيرةٍ، عن حُذيفَة، فرواه أحمدُ، وأبو داود، والنسائيّ، من طريق نصر بن عاصم، عن خالد بن خالد اليَشْكُرِيّ الكوفيّ، عنه مبسوطًا، وفيه تفسير لما فيه من مُشْكِل، ورواه النسائي وابن ماجه، من رواية عبد الرحمن بن قُرْط عنه. وفي "صحيح البخاري"، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قَيْس بن أبي حازم، عن حُذَيْفَة، قال: تعلَّمَ أصحابي الخيرَ، وتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ

(3)

.

وثبت في "الصحيح" من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحْوص، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعُودُ غَرِيبًا كما بدأ، فطُوبَى

(1)

رواه مسلم رقم (8) من حديث عمر، وقد تقدم من حديث أبي هريرة في الذي قبله.

(2)

أي خير مشوب بالشر.

(3)

رواه البخاري رقم (3606) و (7084) و (3607) ومسلم رقم (1847) وأحمد (5/ 386) وأبو داود رقم (4244) والنسائي في "الكبرى"(8032) و (8033) وابن ماجه رقم (3981).

ص: 27

لِلْغُربَاءِ" قيل: وَمَن الغُرَباء؟ قال: "النُّزَّاعُ من القبائل"

(1)

ورواه ابنُ ماجه عن أنس، وأبي هريرة

(2)

.

وقال أحمد: ثنا هارونُ بن معروف، أنبأنا عبدُ اللَّه بن وهبٍ، أخبرني أبو صخر، أنَّ أبا حازم حدَّثه، عن ابنٍ لسعدِ بن أبي وقاص: سمِعت أبي يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الإِيمَانَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأ، فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ؛ إذَا فَسَدَ النَّاسُ، وَالَّذِي نَفْسُ أبي الْقَاسِم بيَدِهِ لَيَأْرِزَنَّ الإِيمَانُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا"

(3)

.

وقال أحمد: ثنا حسن بن محمدِ بن موسى، ثنا ابن لهيعةَ، ثنا جميلٌ الأسْلَمِيُّ، عن سهل بن سعد الساعديِّ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ" -أو قال: "لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا- لَا يُتَّبَعُ فِيه الْعَلِيمُ، وَلَا يُسْتَحْيَا فِيهِ مِنَ الْحَلِيمِ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ". تفرَّد [به] أحمد

(4)

.

‌باب افترق الأمم

وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بِشر، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تفرَّقت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فرقة، وتفرَّقَت أمَّتِي على ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فرقة".

ورواه أبو داود، عن وهب بن بَقِيَّة، عن خالد، عن محمد بن عمرو، به

(5)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، حدثنا عبَّاد بن يوسف، حدثنا صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار" قيل: يا رسول اللَّه من هم؟ قال: "الجماعة". تفرد به، وإسنادُه لا بأس به

(6)

.

(1)

رواه أحمد (1/ 398) وابن ماجه رقم (3988) وهو حديث حسن.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (3987) و (3986) من حديثهما، وهو عند مسلم رقم (145) من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر رقم (146).

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 184) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 340) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه ابن ماجه رقم (3991) وأبو داود رقم (4596) وهو حديث حسن.

(6)

رواه ابن ماجه (3992).

ص: 28

وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا هشام هو ابن عَمّار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو عمرو، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلّا واحدة، وهي الجماعة". وهذا إسناد قويّ على شرط الصحيح، تفرد به ابنُ ماجه أيضًا

(1)

.

وقد روى أبو داود، من حديث الأوزاعيّ عن قتادة، عن أنس، وأبي سعيد، قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سيكون في أمتي اختلافٌ وفُرْقة، وقوم يُحسِنون القيل، ويُسِيؤون الفعل. . . " الحديث

(2)

.

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيى بن فارس، قالا: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوانُ، هو ابن عمرو، حدثنا أزهر هو ابن عبد اللَّه الحَرازيّ، قال أحمدُ: عن أبي عامر الهوزنيّ، عن معاوية بن أبي سفيان، أنه قام، فقال: ألا إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام فينا، فقال:"ألا إنّ مَنْ كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". تفرّد به أبو داود، وإسناده حسن

(3)

.

وفي "مُستدرك الحاكم" أن الصحابة لما سألوه عن الفرقة الناجية: من هم؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"

(4)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن سهل بن سعد الأنصاري عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم مِثلًا بمثل". تفرد به أحمد من هذا الوجه

(5)

.

وقد تقدم في حديث حُذَيْفة أنَّ المَخْلَصَ من الفِتَنِ عندَ وقُوعِها اتِّباعُ الجَماعةِ ولُزومُ الإِمامِ بالطاعةِ إذا كانوا على حق واتِّباعِ الشرعِ، وإذا فسَدوا فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، فإنَّما الطاعةُ في المعروفِ. قال أبو بكرٍ الصديق: أطيعوني ما أطعتُ اللَّهَ عز وجل، فإذا خالفتُ فلا طاعةَ لي عليكم.

وقد قال ابنُ ماجه: حدَّثنا العَبّاسُ بنُ عُثمان الدِّمَشقيُّ، حدَّثنا الوليدُ بن مسليم، حدَّثنا مُعانُ بن رِفاعةَ السَّلَاميُّ، حدَّثنا أبو خَلَفٍ الأعْمى، أنه سمِع أنس بن مالك يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالةٍ، فَإذَا رَأيْتُم الاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ". ولكن هذا

(1)

ابن ماجه (3993).

(2)

رواه أبو داود رقم (4765) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أبو داود رقم (4597) وأحمد في المسند (4/ 102).

(4)

رواه الحاكم (1/ 129) وهو حديث حسن بهذه الفقرة.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 340) وهو حديث حسن.

ص: 29

حديثٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ مُعانَ بن رفاعة السَّلَاميِّ قد ضعَّفه غيرُ واحدٍ من الأئمة

(1)

. وفي بعضِ الرِّواياتِ: "عَلَيْكُمْ بالسَّوَادِ الأَعْظَمِ؛ الْحَق وأَهْلِه"

(2)

.

وقد كان الإمامُ أحمدُ يقولُ: السوادُ الأعظم: محمدُ بن أسلم الطوسيُّ. وقد كان أهل الحقِّ في الصدرِ الأولِ هم أكثرَ الأُمةِ؛ فكان لا يوجدُ فيهم مبتدعٌ لا في الأقوالِ ولا الأفعال، وفي الأعصارِ المتأخِّرةِ قد يجتمعُ الجمُّ الغفيرُ على بدعةٍ، وقد يخلو الحقُّ في بعْضِ الأزمانِ المتأخرةِ عن عِصَابةٍ يقومون به، كما قال في حديثِ حُذيفةَ: فإنْ لم يكنْ لهم إمامٌ ولا جَمَاعةٌ؟ قال له: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ"

(3)

. وكما تقدَّم الحديثُ الصحيحُ: "بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ"

(4)

. وسيأتي في الحديثِ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ، اللَّهُ"

(5)

.

والمقصودُ أنَّه إذا ظَهَرتِ الفتنُ، فإنَّه يَسُوغُ اعتزالُ النَّاس حينئذٍ، كما ثبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَليْكَ بخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوامِّ"

(6)

. وفي رواية: "إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، فَعَلَيْكَ بخَاصَّةِ نَفْسِكَ، فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانَ الصَّبْرِ، صَبْرٌ فِيهِنَّ كَقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ"

(7)

.

وقد اعتزَل جماعةٌ مِن السلفِ النَّاسَ والجُمعةَ والجماعةَ، وهم أئمةٌ كبارٌ؛ كأبي ذرٍّ، وسعدِ بنِ أبي وقاصٍ، وسعيدِ بن زيْدٍ، وسلمةَ بنِ الأكوعِ في جماعةٍ من الصحابة

(8)

، حتى اعتزلوا مسجدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، واعتزل مالك الجمعة والجماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع معرفته الحديثَ في فضلِ الصلاةِ فيه، فكانَ لا يشهدُ جمعة ولا جماعةً، وكان إذا ليمَ في ذلك يقولُ: ما كلُّ ما يُعْلَمُ يُقَالُ. وقصتهُ معروفةٌ

(9)

، وكذلك اعتزل سفيانُ الثوريُّ وخلقٌ من التابعينَ وتابعيهم؛ لِما شاهَدوه من الظلمِ والشرور والفتن خوفًا على إيمانهم أَنْ يُسْلبَ منهم،

(1)

رواه ابن ماجه رقم (3950) وهو حديث ضعيف، دون الجملة الأولى "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"، فهي صحيحة.

(2)

رواه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (84) وهو حديث ضعيف.

(3)

رواه البخاري رقم (7084) ومسلم (1847).

(4)

رواه مسلم (145) و (146) من حديث أبي هريرة، وابن عمر.

(5)

رواه مسلم (148) وأحمد في المسند (3/ 162).

(6)

رواه أبو داود (4341) والترمذي (3058) وإسناده ضعيف.

(7)

رواه ابن ماجه (4014) وإسناده ضعيف، لكن جملة أيام الصبر إلى آخره صحيحة بطرقها وشواهدها.

(8)

وذلك في أثناء الفتنة التي وقعت في خلافة أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه.

(9)

المشهور أن مالكًا كان لا يصلي في المسجد النبوي لسلس البول الذي أصابه، أو لانفلات الريح.

ص: 30

وقد ذكَر الخطَّابيُّ في كتابِ "العُزلةِ" وكذلك ابنُ أبي الدنيا قبلَه من هذا جانبًا كبيرًا.

وقال البخاريُّ: حدَّثنا عبد اللَّه بن يوسف، أخبرنا مَالِكٌ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه

(1)

بن أبي صَعْصَعةَ، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ ومواقعَ الْقَطْرِ؛ يَفرُّ بِدِ. ينهِ مِنَ الْفِتَنِ". لم يخرجْه مسلمٌ، وقد روَاه أبو داودَ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجَه، من طريقِ ابن أبي صَعْصَعةَ به

(2)

. ويجوزُ حينئذٍ سؤالُ الموتِ وطلبُه من اللَّهِ عندَ ظهورِ الفتنِ والظلمِ وإن كان قد نُهِي عنه لغيرِ ذلك، كما صحَّ به الحديثُ

(3)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا حسنٌ، حدَّثنا ابن لَهِيعةَ، حدَّثنا أبو يونس، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُو بهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ، فَإِنَهُ إذا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا"

(4)

. والدليلُ على جوازِ سؤالِ الموتِ عندَ حلول الفتنِ: الحديثُ الذي رواه أحمد في "مسندِه" عن مُعَاذِ بنِ جَبلٍ، وهو حديثُ المَنَام الطويلُ، وفيه:"اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَة فتَوَفَّنِي إِليْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَل يُقَرِّبُنِي إِلى حُبِّكَ"

(5)

.

وهذه الأحاديثُ المتقدمة دالَّةٌ على أنَّه يأتي على النَّاسِ زَمَان شَدِيدٌ لا يكُونُ فيه للمسلمين جَماعَةٌ قَائِمةٌ بالحق، إمَّا في جميعِ الأرضِ، أو في بعضِهَا.

وقد ثبَت في "الصحيح" عن عبدِ اللَّه بن عمرو، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"

(6)

. وفي الحديثِ الآخر: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَذَلِكَ"

(7)

. وفي "صحيح البخاريِّ": "وَهُمْ بِالشَّامِ"

(8)

. قال عبد اللَّه بنُ المباركِ وغيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ: وهم أهل الحديثِ.

(1)

تحرفت في الأصل إلى عُبيد اللَّه.

(2)

رواه البخاري (7088) وأبو داود (4267) والنسائي (8/ 123 - 124) وابن ماجه (3980).

(3)

رواه البخاري (6351) ومسلم (2680) من حديث أنس.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 350) وهو حديث صحيح دون قوله: (إلا أن يكون قد وثق بعمله) فإنها ضعيفة.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 243) والترمذي (3235) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(6)

رواه البخاري (100) ومسلم (2673).

(7)

رواه مسلم رقم (1920) من حديث ثوبان.

(8)

رواه البخاري رقم (3641) وهو موقوف على معاذ بن جبل.

ص: 31

وقال أبو داودَ: حدَّثنا سليمانُ بنُ داودَ المَهْرِيُّ، حدَّثنا ابنُ وهبٍ، حدَّثنا سعيدُ بنُ أبي أيوبَ، عن شَراحيلَ بنِ يزيدَ المَعَافِريِّ، عن أبي عَلْقمةَ، عن أبي هريرةَ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّهَ تعالى يَبْعَثُ لِهَد الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينهَا". تفرَّد به أبو داودَ. ثم قال: عبد الرَّحمنِ بنُ شُرَيحِ لم يَجُزْ به شَراحِيلَ. يعني أنَّه موْقُوفٌ عليه

(1)

.

وقد ادَّعى كلُّ قومٍ في إمامِهِم أنَّه المُرَادُ بهذا الحديثِ، والظَّاهِرُ، واللَّهُ أعلمُ، أنَّه يَعُمُّ حمَلَة العِلْمِ العاملين به من كلِّ طائفةٍ، ممن عملُه مأخوذٌ عن الشارعِ، أو ممن هو موافقٌ للحق من كُلِّ طَائِفةٍ وكُلِّ صنْفِ من أصْنافِ العُلَماءِ؛ من مفشرين، ومُحَدِّثين، وقُرَّاءَ، وفُقَهاءَ، ونُحَاةٍ، ولُغَويِّين، إلى غيرِ ذلك مِن أصنافِ العلومِ النافعةِ، واللَّهُ أعلمُ.

قال سفيانُ بنُ عيينةَ: مَن فسَد من علمائِنا كان فيه شَبهٌ من اليهودِ، ومَن فسَد مِن عُبَّادِنا، كان فيه شبةٌ من النَّصارَى.

وقولُه في حديثِ عبدِ اللَّه بنِ عمرو: "إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُه مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ العُلَماءِ": ظاهرٌ في أن العلمَ لا يُنْتَزَعُ من صُدورِ العلماءَ بعدَ أنْ وهبَهُمُ اللَّهُ إيَّاه. وقد ورد في الحديثِ الآخر الذي رواه ابنُ ماجَه عن بُندَارٍ، ومحمَّدِ بنِ المُثنَّى، عن غُنْدَرٍ، عن شُعْبَةَ: سمعتُ قتادةَ يُحدِّثُ عن أنسِ بن مالكٍ قال: ألَا أحدِّثُكم حديثًا سمعتُه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يحدِّثُكم به أَحدٌ بعدِي، سمِعتُه يقول:"إن من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم، ويَظْهَر الجهل، ويَفْشُوَ الزنى، ويُشْرَب الخمر، ويذهب الرجال، ويبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم واحد". وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث غُنْدر به

(2)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نُمَيْر، حدثنا أبي ووكيع، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون بين يدي السَّاعة أيامٌ، يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكبّر فيها الهَرْج، والهرج القتل". وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به

(3)

.

وقال ابن ماجه: حدثني علي بن محمد، حدثنا أبو معاوية، عن أبي مالك الأشجعي، عن رِبْعِيّ ابن حِرَاش، عن حُذَيْفة بن اليمانِ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَدْرُس الإسلامُ كما يَدْرُس وشْيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صلاة ولا صدقة ولا نُسُك، ويُسْرَى على الكتاب في ليلة، فلا يبقى

(1)

رواه أبو داود رقم (4291) وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه ابن ماجه (4045) والبخاري رقم (81) ومسلم (2671).

(3)

رواه ابن ماجه (4050) والبخاري (7062) ومسلم (2672).

ص: 32

في الأرض منه آية، وتبقى طوائفُ من الناس: الشيخُ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا اللَّه، فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم "لا إله إلا اللَّه" وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه حُذَيْفة، ثم ردّها عليه ثلاثًا، كلُّ ذلك يُعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تُنجيهم من النار، ثلاثًا

(1)

وهذا دالٌّ على أن العلمَ قد يُرفع من صدور الناس في آخر الزمان، حتى إن القرآن يُسرى عليه فيرفع من المصاحف، والصدور، ويبقي الناس بلا علم ولا قرآن، وإنما الشيخ الكبير والعجوز المسنّة، يخبران أنهم أدركوا الناس وهم يقولون: لا إله إلا اللَّه، فهم يقولونها أيضًا على وجه التقرُّب بها إلى اللَّه، فهي نافعة لهم، وإن لم يكن عندهم من العمل الصالح، والعلم النافع غيرُها، وقوله: تنجيهم من النار، يحتمل أن يكون المراد أنها تدفع عنهم دخول النار بالكلية، ويكون فرضُهم في ذلك الزمان القول المجرد عن العمل لعدم تكليفهم بالأعمال التي لم يخاطَبوا بها، واللَّه أعلم، ويحتمل أن يكون المعنى أنها تُنجيهم من النار بعد دخُولهم إليها، وأن "لا إله إلا اللَّه" تكون سبب نجاتهم من العذاب الدائم المستمر، وعلى هذا يحتمل أن يكونوا من المرادين بقوله تعالى في الحديث:"وعزتي وجلالي لأُخْرجنّ من النار من قال يومًا من الدهر: لا إله إلا اللَّه"، كما سيأتي بيانه في أحاديث الشفاعة

(2)

، ويحتمل أن يكون أولئك قومًا آخرين، واللَّه أعلم.

والمقصود: أن العلم يُرفع في آخر الزمان، ويكثُر الجهل في رواية، وفي رواية:"وينزلُ الجهلُ" أي: يُلْهَمُ أهلُ ذلك الزمان الجهل، وذلك من قهر اللَّه عليهم، وخذلانه إياهم، نعوذ باللَّه من ذلك، ثم لا يزالون كذلك في تزايد من الجهالة، والضلالة، إلى منتهى الآجال، كما جاء في الحديث الآخر:"لا تقومُ الساعة على أحد يقول: اللَّه، اللَّه"

(3)

و"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"

(4)

.

وفي الطَّبرانيِّ من حديثِ مُطَّرِحِ بن يزيدَ، عن علي بنِ يزيدَ، عن القاسم، عن أبي أُمامةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِهِ أَنْ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ، فَهُمَا ذَلِيلَانِ فِيهَا مُضْطَهَدَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قُهِرَا وَذُلَّا وَاضْطُهِدَا، وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، فَلَا يَبْقَى فِيها إِلَّا الْفَقِيهُ أَوِ الْفَقِيهَانِ، فَهُمَا ذَلِيلانِ

(1)

رواه ابن ماجه (4049) وهو حديث صحيح.

(2)

البخاري (7510) ومسلم رقم (193).

(3)

رواه مسلم (148).

(4)

رواه مسلم رقم (2949).

ص: 33

مُضْطَهَدَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قُهِرَا وَاضْطُهِدَا، وَيَلْعَنُ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، أَلَا وَعَلَيْهِم حَلَّتِ اللَّعْنَةُ، حَتَّى يشربوا الْخَمْرَ عَلَانِيَةً، وَحَتَّى تَمُرَّ الْمَرْأَةُ بِالْقَوْمِ، فَيَقُومَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ، فَيَرْفَعَ بِذيْلِهَا كَمَا يُرْفَعُ بِذَنَبِ النَّعْجَةِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَلَا وَارَيْتَهَا وَرَاءَ حَائِطٍ. فَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِيكُمْ، وَمَنْ أَمَرَ يَوْمَئِذٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَلَهُ أجْرُ خَمْسِينَ مِمَّنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي وَأَطَاعَنِي وَبَايَعَنِي"

(1)

.

‌ذكر شرور تحدث في هذه الأمة في آخر الزمان وإن كان قد وجد بعضها في زماننا أيضًا

قال أبو عبد اللَّه ابن ماجه رحمه الله في كتاب الفتن من "سننه": حدَّثنا محمود بن خالد الدمشقي، حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن، أبو أيُّوب، عن ابن أبي مالك، عن أبيه، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد اللَّه بن عمر، قال: أقبل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال إذا ابتُليتُمْ بهن، وأعوذ باللَّه أن تدركوهُنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلِنُوا بهَا إِلَّا فَشَا فيهم الطاعون، والأوجاعُ التي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِم الَّذِينَ مَضَوْا، ولم يَنْقصُوا المكيال والميزان إِلَّا أُخِذُوا بالسنين، وشدة الْمَؤُونة، وجَوْر السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلَّا مُنعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمْطَروا، ولم يَنْقُضُوا عهد اللَّه، وعهدَ رسوله، إلَّا سَلَّطَ اللَّه عليهم عَدُوًّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أَئِمَّتُهُمْ بكتاب اللَّه، ويتخيروا مما أنزل اللَّه إلَّا جعل اللَّه بأسهم بينهم". تفرّد به ابنُ ماجه، وفيه غرابه

(2)

.

وقال الترمذيّ: حدثنا صالح بن عبد اللَّه، حدثنا الفرَج بن فضَالة أبو فضالة الشامي، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو بن علي، عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خَصلة حلَّ فيها البلاء" قيل: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: "إذا كان المَغْنَم دُوَلًا، والأمانة مَغْنَمًا، والزكاة مَغْرَمًا، وأطاع الرجلُ زَوْجَتَهُ، وعَقَّ أُمَّهُ، وبرِّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصواتُ في المساجد، وكان زعيمُ القوم أرذَلهم، وأُكْرِمَ الرجلُ مخافة شَرِّه، وشُرِبت الخَمْر، ولُبس الحرير، واتخِذت القينات، والمعازف، ولَعَن آخِرُ هذه الأمة أوَّلَهَا، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، أو خَسْفًا ومَسْخًا". ثمَّ قال الترمذيّ: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث علي إلّا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ غير الفرَج بن

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(7807) و (7863) وقد لفق المصنف بين السندين، وعند الطبراني في آخره: وتابعني، بدل: بايعني، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4019) أقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 34

فضالة، وفد تكلم فيه بعضُ أهل العلم من قِبَلِ حِفْظِهِ، وقد رَوَى عنه وكيعٌ، وغيرُ واحد من الأَئمّة

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزّار: حدثنا محمد بن الحسين القيسي، حدثنا يُونُس بن أرقم، حدثنا إبراهيمُ بن عبد اللَّه بن حسن بن حسن، عن زيد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى صلاته ناداه رجل: متى الساعة؟ فزبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانتهره، وقال:"اسكت"، حتى إذا أسفر رفع طرْفه إلى السماء، فقال:"تبارك رافعُها، ومُدبّرها" ثم رَمَى ببصره إلى الأرض، فقال:"تبارك داحِيها، وخالقُها" ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أين السائلُ عن الساعة؟ " فجثا الرجل على رُكبتيه، فقال: أنا بأبي وأمي سألتك، فقال: "ذلك عند حَيْف

(2)

الأئمّة، وتصديق بالنجوم، وتكذيب بالقَدر، وحتى تُتَّخَذَ الأمانةُ مَغْنمًا، والصَّدَقَةُ مَغْرَمًا، والفاحِشَةُ زيادة، فعند ذلك يَهْلِكُ قومُك". ثم قال البزّار: لا نعرفُه إلا من هذا الوجه، ويونُس بن أرقم كان صادقًا، روى عنه الناس، وفيه شِيعيّة شديدة

(3)

.

ثم قال الترمذيّ: حدثنا عليّ بن حجر، حدثنا محمد بن يزيد، عن المستلم بن سعيد، عن رميح الجُذاميّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا اتُّخِذَ الفيْء دُولًا، والأمانةُ مَغْنَمًا، والزكاةُ مَغْرَمًا، وتُعُلِّم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعقَّ أُمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصواتُ في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيمُ القوم أرذَلهم، وأُكْرِمَ الرجلُ مخافةَ شَرِّهِ، وظهرت القَيْنَاتُ

(4)

، والمعازف، وشُربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلهَا، فليرتقبُوا عند ذلك ريحًا حمراء، وخَسْفًا، ومَسْخًا، وقذفأ، وآياتٍ تَتَابع، كنظام

(5)

بالٍ قُطع سِلكُه فتتابع". وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه

(6)

.

حدّثنا عبّاد بن يعقوب الكوفيّ، حدثنا عبد اللَّه بن عبد القُدُّوس، عن الأعمش، عن هلال بن يِسَافٍ، عن عمران بن حُصَيْن: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "في هذه الأمة خَسْفٌ، ومَسْخٌ، وفَذْفٌ" فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "إذا ظهرت القِيَانُ، والمعازف، وشُرِبت الخمور". ثم قالا: هذا حديث غريب، ورُوي هذا الحديث عن

(1)

رواه الترمذيّ رقم (2210) وهو ضعيف كما أوما إليه الترمذيّ.

(2)

أي عند ظلم الأئمة.

(3)

رواه البزَّار في "مسنده" رقم (507) وفي سنده مجاهيل.

(4)

أي المغنيات.

(5)

أي كعقد.

(6)

رواه الترمذيّ رقم (2211) وهو ضعيف.

ص: 35

الأعمش، عن عبد الرحمن بن سابِط، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(1)

.

وقال التِّرمذي: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الكِنديّ، حدثنا زيد بن الحُباب، أخبرني موسى بن عُبَيْدَة، أخبرني عبد اللَّه بن دِينار، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مَشَتْ أمّتي المُطَيْطَاء

(2)

، وخدمها أبناءُ الملوك، أبناءُ فارس، والروم، سُلِّطَ شرارُها على خِيَارِها". وهذا حديث غريب، وقد رواه أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر، فذكره، ولا نعرف له أصلًا. وقد رواه مالك، عن يحيى بن سعيد، مُرْسَلًا

(3)

.

ثم روى من حديث صالح المُرّي، عن سعيد الجُرَيريّ، عن أبي عثمان النهديّ، عن أبي هُرَيْرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤكُمْ خِيَاركم، وأغنياؤكم سمحاءَكُم، وأموركُم شُورَى بَيْنَكُم، فظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بُخَلاءَكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". ثم قال: غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث صالح المُري، وله غرائب، لا يُتابَع علَيْها، وهو رجل صالح

(4)

.

وروى الحافظ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ من طريقِ مباركِ بن حسانَ، عن عمر بن [قيس المكي عن] عاصم بن عُبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا طَغَى نِسَاؤُكُمْ، وفَسَقَ شبابُكم

(5)

؟ " قالوا: يا رسول اللَّه، وإنَّ ذلك لَكَائنٌ؟! قال: "وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لَا تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ". قالوا: وإن ذلك لكائنٌ؟! قال: "وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؛ تَرَوْنَ المَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَالمُنْكَرَ مَعْروفًا". قالوا: وإن ذلك لكائنٌ؟! قال: "وَأَشَدُّ مِنْهُ؟ تَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ". قالوا: وإن ذلك لكائنٌ؟ قال: "وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ". ثم قال رسول للَّه صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَ أُولَئِكَ القَوْمُ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَقْتُلُونَ الَّذينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بالشُّبُهَاتِ، وَبئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَمْشِي المُؤْمِنُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمانِ"

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا خَلَف بن الوليد، حدثنا عَبَّاد بن عَبَّاد، عن مجالد بن سعيد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لتَضْرِبَنَّ مُضَرُ عبادَ اللَّه حتى لا يُعبَد للَّه

(1)

رواه الترمذيّ رقم (2212) وفي إسناده ضعف.

(2)

التبختر ومد اليدين في المشي.

(3)

رواه الترمذيّ (2261) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(4)

رواه الترمذيّ رقم (2266) وإسناده ضعيف.

(5)

في الأصل: شأنكم.

(6)

وإسناده ضعيف.

ص: 36

اسم، ولَيَضْرِبَنَّهُمُ المؤمنون حتى لا يَمْنعُوا ذَنَب تَلْعَةٍ

(1)

". تفرّد به أحمد من هذا الوجه

(2)

.

وقال أحمد: حدَّثنا عبدُ الصمد، حدثنا حَمَّادٌ، يعني ابن سلمة، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلابة، عن أنَسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حتَّى يَتَبَاهَى الناسُ في المَسَاجِدِ". ورواه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، من حديث حَمَّاد بن سَلَمَة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد اللَّه بن زيد الجَرْميّ، زاد أبو داود: وعن قتادة، كلاهما عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم به

(3)

.

وسيأتي في ذِكر أشراط الساعة حديثُ ابن مسعود، وفيه:"وَتُزَخْرَفُ المحَارِيبُ، وتَخْرَبُ القُلُوب".

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيدُ بن هارون، حدثنا شَرِيك بن عبد اللَّه، عن عثمان بن عُمَيْر، عن زَاذَان أبي عمر، عن عُلَيم، قال: كُنّا جُلوسًا على سطح، مَعَنا رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال يزيد: لا أعْلَمُهُ إلا عَبْسًا الغِفَاريّ، والناس يخرجون في الطاعون، فقال عَبْس: يا طاعون، خذني، يقولها ثلاثًا، فقال له عُلَيم: لم تقول هذا؟ ألم يَقُلْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّى أحدكم المَوْتَ، فإنَّهُ عِنْدَ انْقِطاعِ عَملِه، وَلَا يُرَدُّ فَيَستَعْتِب

(4)

"؟، فقال: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "بَادِرُوا بالمَوتِ ستًّا: إمْرَةَ السُّفَهاءِ، وكثْرَةَ الشُّرَط، وبَيْعَ الحُكْم، واستِخْفَافًا بالدم، وقطيعةَ الرحم، ونَشَوًا يتخذون القرآن مزامير يقدِّمُونَه لِيُغَنِّيهم، وإن كان أقَل مِنْهُمْ فقهًا". تفرَّد به أحمد

(5)

.

وفي رواية أبي مُعَلَّى

(6)

عن الحكم بن عمرو مثلُه أو نحوُه، كما ذكَرْنا في الزياداتِ على "مسندِ أحمدَ"

(7)

، واللَّهَ سبحانَه أحمدُ، وقد قال الطَّبَرانيُّ: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ التُّسْتَرِيُّ، حدَّثنا عبدُ اللَّه بن معاويةَ الجُمَحِيُّ، حدَّثنا جَميلٌ

(8)

بنُ عُبيدٍ الطائيُّ، حدَّثنا أبو مُعَلَّى (6)، قال: قال الحكمُ الغِفاريُّ: يا طاعونُ، خُذْني إليك. فقال له رجلٌ مِن القوم: لمَ تقولُ هذا، وقد سمعتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقولُ:"لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ"؟ فقال: قد سمعتُ ما سمعتُم، ولكني أُبادرُ ستًّا: بَيْعَ الحُكْمِ، وكثرةَ

(1)

"التلعة": أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يندفع منها إلى تلعة أسفل منها، وهي مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض والجمع: التِّلاع و"ذئب التلعة" ما كان أسفلها. وقد رمى بذلك إلى بيان مدى ذلهم وضعفهم وانهيار مَنَعتهم. "لسان العرب"(تلع).

(2)

رواه أحمد (3/ 86) وهو حديث حسن.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 134) وأبو داود (449) والنسائي (2/ 32) وابن ماجه (739) وهو حديث صحيح.

(4)

يستعتب: يترضى عما أصابه في الدنيا.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 494 - 495) وهو حديث صحيح.

(6)

في الأصل: يعلى.

(7)

جامع المسانيد (3/ 2252).

(8)

في الأصل: حميد.

ص: 37

الشُّرَطِ، وإمارةَ الصِّبيانِ، وسفكَ الدماء، وقطيعةَ الرَّحِمِ، ونَشَوًا يكونون في آخرِ الزمانِ يَتَّخِذون القُرآنَ مَزامِيرَ

(1)

.

وروى الطبراني من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلمَ، عن أبي حازم، عن سهل بن سعدٍ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ". قيل: ومتى ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَالْقَيْنَاتُ، وَاسْتُحِلَّتِ الْخَمْرُ". له شاهدٌ في "صحيح البخاري" من حديث أبي مالك أو أبي عامرٍ، كما جزمَ به البخاريُّ

(2)

.

وقال الإمامُ أحمدُ: ثنا يحيى بن أبي بُكَير، ثنا عُبَيد اللَّه بن إيادِ بن لَقِيطٍ، سمعتُ أبي يَذكُرُ عن حُذيفةَ، قال: سُئِل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ، فقال:"عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ، وَلكِنْ أُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا، إِنَّ بينَ يَدَيْهَا فِتَنًا وَهَرْجًا". قالوا: يا رسول اللَّه، الفتنةُ قد عرَفْناها، فالهَرْجُ ما هو؟ قال:"هُوَ بلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ". قال: "وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا". تفَرَّد به أحمد

(3)

.

وقال أحمدُ أيضًا: ثنا أبو المُغيرةِ، ثنا صَفْوانُ، حدَّثني السَّفْرُ بنُ نُسَيْرٍ الأزْديُّ وغيرُه، عن حذيفةَ بنِ اليَمانِ، أنه قال: يا رسول اللَّه، إنا كنا في شم، فذهبَ اللَّهُ بذلك الشرِّ، وجاء بخيرٍ على يديك، فهل بعدَ الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال:"نَعَمْ". قلتُ: ما هو؟ قال: "فِتَنٌ كَقِطَع اللَّيْلِ الْمُظْلِم يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً

(4)

كَوُجُوهِ الْبَقَرِ لَا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ"

(5)

.

وقال أحمدُ: ثنا سليمانُ، ثنا إسماعيلُ، حدَّثني عمرو، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمنِ الأَشْهَليِّ، عن حذيفةَ، [أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم] قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ، وَتَجْتَلِدُوا بأَسْيَافِكُمْ، وَيَرُبَّ

(6)

دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ"

(7)

.

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(3162) وأخرجه الحاكم من طريق التستري (3/ 443) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه الطبراني في "الكبير"(5810) وشاهده رواه البخاري (5590) تعليقًا، وقد وصله ابن حبان (6719) والطبراني، والبيهقي (10/ 221) وابن عساكر، وغيرهم من طرق عن هشام بن عمار، وصححه جمع من الأئمة، كابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والمصنف، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن الوزير اليماني، والصنعاني وغيرهم.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 389) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

في الأصل: شَبَهةً.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 391) وفي إسناده ضعف.

(6)

في المسند (ويرث).

(7)

رواه أحمد في المسند (5/ 389) وإسناده ضعيف.

ص: 38

وبه: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعَ"

(1)

.

وقال الطَّبَرانيُّ: ثنا الحسينُ بنُ إسحاقَ التُّسْتَريُّ، ثنا عمرو بن هشام أبو أميةَ

(2)

الحَرَّانيُّ، ثنا عثمان

(3)

بن عبد الرحمن، عن صدَقةَ، عن زيدِ بنِ واقدٍ، عن العَلاءِ بنِ الحارثِ، عن حِزامِ بنِ حَكيم بنِ حِزَامٍ، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ، قلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٍ مُعْطُوهُ، قَلِيلٍ سَائِلُوهُ

(4)

، الْعَمَلُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي زَمَانٌ قليلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، والْعِلْمُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ"

(5)

.

وقال أحمد: ثنا حمادُ بن أسامةَ، أخْبَرَني مِسْعَرٌ، عن عبدِ الملكِ بن ميسرة، عن هِلالِ بن يِسافٍ، عن عبدِ اللَّه بن ظالمٍ، عن سعيدِ بن زيدٍ قال: ذكَر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فتنًا كقطعِ الليلِ المظلم، أُراه قال:"فَيَذْهَبُ النَّاسُ فيها أَسْرَعَ ذَهَابٍ". قال: فقيل: يا رسول اللَّه كُلُّهم هَالِكٌ أَوْ بَعْضُهُمْ؟ قال: "حَسْبُهُم" -أو: "بِحَسْبِهِم- الْقَتْلُ". تفرَّد به

(6)

.

وقال أحمد أيضًا: ثنا عبد الرحمن، ثنا حمادُ بن سَلَمةَ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن أبي عثمانَ، عن خالدِ بن عُرْفُطةَ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا خَالِدُ، إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَحْدَاثٌ وَفِتَنٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ

(7)

اللَّهِ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ"

(8)

.

وروَى الطَّبَرانيُّ مِن حديثِ ثابتِ بنِ عَجْلانَ، حدَّثني أبو كثيرٍ المُحاربيُّ، سمعتُ خَرَشَةَ المُحاربيَّ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، والْجَالِسُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، [وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ] المَاشِي، وَالْمَاشِي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، أَلا من أَتَتْ عَلَيْهِ فَلْيَمْشِ بِسَيْفِهِ إِلَى الصَّفَا فَلْيَضْرِبه حَتَّى يَنْكَسِرَ، ثُمَّ لْيَضْطَجِعْ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ. . . " وذكَر الحديثَ

(9)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 389) وهو حديث حسن.

(2)

في الأصل: ابن أمية.

(3)

في الأصل: عفان.

(4)

وعلى هامش الأصل نسخة: سؤاله، وهي موافقة لما في "مجمع الزوائد"(1/ 127).

(5)

رواه الطبراني في "الكبير" رقم (3111) من حديث حكيم بن حزام وفي سنده ضعف، وقد رواه أحمد في المسند بنحوه (5/ 155) من حديث أبي ذر، وسنده ضعيف أيضًا.

(6)

رواه أحمد في المسند (1/ 189) وإسناده حسن.

(7)

في الأصل كتب عليها: معًا، أي عند، وعبد.

(8)

رواه أحمد في المسند (5/ 292) وهو حديث حسن.

(9)

رواه الطبراني في "الكبير"(4180) وأحمد في المسند (4/ 106) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 39

‌فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان

وهو أحد الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وليس هو بالمنتظر الذي تزعُمه الرافضة، وتَرْتَجِي ظُهوره من سرداب سامرَّا، فإن ذلك ما لا حقيقة له، ولا عمن، ولا أثر، ويزعمون أنه محمد بن الحسن العسكريّ، وأنه دخل السرداب وعمره خمسُ سنين، وأما ما سنذكره، فقد نطقت به الأحاديثُ المرويّة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه يكون في آخر الزمان، وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى ابن مريم، فإن هذا يملأ الأرض عدلًا، كما ملئت جورًا وظلمًا، وهكذا نزول عيسى ابن مريم، كما دلَّت على ذلك الأحاديث.

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا حجَّاج، وأبو نُعَيْم، قالا: حدثنا فِطْر، عن الفاسم بن أبي بَزَّة، عن أبي الطُّفَيْل، قال حجّاج: سمعت عليًّا يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو لم يَبْقَ من الدنيا إلا يومٌ لبَعَثَ اللَّهُ رجَلًا منّا يملؤها عَدْلًا، كما مُلئت جَوْرًا" قال أبو نُعَيم: رجلًا مني، وقال مرّة: يذكره عن حَبيب، عن أبي الطُّفَيل، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو داود، عن عثمان بن أبي شَيْبة، عن أبي نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا فضل بن دُكَيْن، حدثنا ياسين العِجْليّ، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنَفِيّة، عن أبيه، عن عليّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المهديّ منا أَهْلَ البَيْتِ يُصْلِحُه اللَّهُ في لَيْلةٍ". ورواه ابن ماجه عن عثمان بن أبي شَيْبَة، عن أبي داود الحَفَرِي، عن ياسين العِجْليّ، وليس هو ياسينَ بنَ معاذ الزيات، الزّياتُ ضعيف، وياسين العِجْليّ هذا أوثقُ منه

(2)

، وقال أبو داود: حُدِّثت، عن هارون بن المغيرة، حدثنا عمرو بن أبي قَيْس، عن شُعَيْب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال عليّ، ونَظَر إلى ابنه الحسن، فقال: إن ابني هذا سيّد، كمَا سَمّاهُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسيخرُج من صُلبه رجلٌ يُسَمَّى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم، يُشْبِهُهُ فى الخُلُق، ولا يُشبهه في الخَلْق، ثم ذكر قصة يملأ الأرض عَدْلًا

(3)

.

وقد عقد أبو داود السجستانيّ رحمه الله: كتاب المهدي مُفردًا في "سُنَنِه"، فأورد في صدره حديث جابر بن سَمُرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يزالُ هذا الدينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُم اثْنَا عَشَر خَلِيفَةً كُلُّهُمْ تَجْتَمع عَلَيه الأُمَّة" وفي رواية: "لَا يَزَالُ هذا الدِّينُ عزيزًا إلى اثنَيْ عَشَر خَلِيفةً" قال: فكبّر الناسُ، وضَجُّوا، ثم قال كلمةً خَفِيّة، قلت لأبي: ما قال؟ قال: "كُلُّهم من قريش"، وفي

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 99) وأبو داود (4283) وهو حديث حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 84) وابن ماجه (4085) وهو حديث حسن.

(3)

رواه أبو داود (4290) وإسناده ضعيف.

ص: 40

رواية قال: فلمّا رجع إلى بيته أَتَتْهُ قريش، فقالوا: ثُمَّ يكونُ ماذا؟ قال: "ثم يكون الهَرْجُ"

(1)

.

ثم رَوى أبو داود من حديث سُفيان الثوريّ، وأبي بكر بن عيّاش، وزائدة، وفِطْر، ومحمد بن عُبَيْد، كلهم عن عاصم بن أبي النَّجُود، وهو ابن بَهْدَلةَ، عن زِرّ بن حُبَيْش، عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو لم يَبْقَ من الدُّنيَا إِلّا يومٌ"، قال زائدة:"لطوَّل اللَّه ذلك اليوم" ثم اتفقوا: "حتى يبعث فيه رجلًا مِنّي، أو من أهل بيتي، يُواطِئ

(2)

اسمُه اسمِي، واسم أبيه اسم أبي" زاد في حديث فِطر:"يملأ الأرضَ قِسْطًا وعَدْلًا، كما مُلِئتْ ظُلْمًا وَجورًا"، وقال في حديث سفيان:"لا تذهبُ أو لا تَنْقَضي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ العَربَ رَجُلٌ مِنْ أهْل بَيتْي، يُواطئ اسمُه اسمي". وهكذا رواه أحمد، عن عمر بن عُبَيْد، وعن سُفيانَ بن عُيَيْنَة، ومن حديث سُفْيانَ الثوريُّ، كلُّهُمْ عن عاصم به، ورواه الترمذيّ من حديث السفيانيْن به، وقال: حسن صحيح، قال الترمذيّ: وفي الباب عن عليّ، وأبي سعيد، وأمّ سَلَمة، وأبي هريرة. ثم قال الترمذيّ: حدثنا عبد الجبّار بن العلاء العطار، حدثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَلي رجلٌ مِن أَهْلِ بَيْتِي يُواطِئ اسمُه اسمِي"، قال عاصم: وأخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة، قال: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِن الدُّنيَا إلا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذلكَ اليَوْمَ حَتَّى يلِيَ. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا سَهْل بن تمّام بن بزِيْع، حدّثنا عِمران القطّان، عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المهديّ منِّي، أجلى الجَبْهَةِ، أقْنى الأنف، يَملأُ الأَرْضَ قِسْطًا، وعَدْلًا، كما مُلئت ظلْمًا وجَوْرًا، يملِكُ سَبْع سِنينَ"

(4)

.

وقال أبو داود: حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا عبد اللَّه بن جعفر الرَّقِّي، حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن علي بن نُفَيل، عن سعيدبن المسيب، عن أمّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "المهديُّ مِنْ عِتْرَتي، مِنْ ولد فاطِمَة"، قال عبد اللَّه بن جعفر: سمعتُ أبا المَلِيح، يُثْنِي على عليِّ بن نُفَيْل، ويذكر عنه صَلَاحًا. ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شَيْبةَ، عن أحمد بن عبد الملك، عن أبي المَلِيح الرّقِّي، عن زياد بن بيان، به

(5)

.

فأمّا الحديثُ الذي رواه ابنُ عساكرَ في ترجمة محمدِ بنِ عبد اللَّهِ بنِ محمدِ بن علي بن عبد اللَّه بن

(1)

رواه أبو داود رقم (4279 - 4281) وهو حديث صحيح، دون قوله:"ما يزال الدين قائمًا" وقوله: "فكبر الناس وضجوا".

(2)

يواطئ: يوافق ويشابه.

(3)

رواه أبو داود (4282) وأحمد (1/ 376 و 377) والترمذي (2230) و (2231) وهو حديث حسن.

(4)

رواه أبو داود رقم (4285) وفي إسناده ضعف.

(5)

رواه أبو داود رقم (4284) وابن ماجه رقم (4086) وفي إسناده ضعف.

ص: 41

عبّاس، وهو المهديُّ بن المنصور، من طريق الدارقطنيِّ: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشميُّ، ثنا محمد بن الوليدِ القرشيُّ، ثنا أسباطُ بن محمد الضَّبِّيُّ، وصِلةُ بن سليمانَ الواسطيُّ، عن سليمان التيميِّ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّب، عن عثمان بن عفَّانَ، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ:"الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ الْعَبّاسِ عَمَّي". فإنَّه حديثٌ غريب، كما قال الدارقطنيُّ، تفرَّد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم، قال: ولم يُكْتَبْ إلَّا عن شيخِنا أبي إسحاقَ.

وقال أبو داود: حدثنا محمدُ بن المُثَنى، حدثنا معاذُ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن صاحب له، عن أمّ سلَمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون اختلافٌ عِنْدَ مَوْتِ خليفةٍ، فيخرُج رجل من أهْل المدينة هاربًا إلى مَكَّة، فيأتيه ناس من أهل مَكة، فيُخْرِجُونَه وهو كارِهٌ، فيُبَايِعُونَه بَيْنَ الرُّكن والمَقامِ، ويُبَعثُ إليه بعث مِن الشامِ فيُخْسَفُ بِهمْ بالبَيْدَاءِ، بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدالُ الشام، وعصائب أهل العراق، فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش، أخواله كَلْب، فيبعث إليهم بعثًا، فيظهرون عليهم، وذلك بَعْثُ كَلْب، والخيْبَةُ لمن لم يشهد غَنِيمةَ كَلْب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسُنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويُلْقي الإسلامُ بِجِرانِه

(1)

إلى الأرض، فيلبثُ سبعَ سنين، ثم يُتوفَّى، ويصلّي عليه المسلمون"

(2)

.

وقال أبو داود: قال هارون يعني ابنَ المُغيرة: حدّثنا عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف بن طريف، عن أبي الحسن، عن هلال بن عمرو: سمعت عليًا يقول: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرجُ رجل من وراء النَّهْر، يقال له: الحارث، حرَّاث، على مقدّمته رجل، يقال له: منصور، يُوطئ أو يُمكِّنُ لآلِ محمد، كما مَكّنت قريش لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجَبَتْ على كلِّ مُؤمن نُصْرتُه" أو قال: "إجابتهُ"

(3)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا حَرْمَلَةُ بن يحيى المِصريّ، وإبراهيم بن سعيد الجوهريّ؛ قالا: حدثنا أبو صالح عبد الغفار بن داود الحرَّاني، حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي زُرعة؛ عمرو بن جابر الحَضْرَمِيّ، عن عبد اللَّه بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيْديّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناسٌ من المشرق، فيوطِّئون للمَهْدِيّ"، يعني سلطانَه

(4)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا عثمان بن أبي شَيْبة، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا على بن صالح، عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن عَلْقَمة، عن عبد اللَّه، قال: بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ

(1)

يقال: ضرب كذا بجرانه، أي قر قراره واستقام.

(2)

أخرجه أبو داود رقم (4286) وأحمد في "المسند"(6/ 316) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود رقم (4290) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه ابن ماجه رقم (4088) وإسناده ضعيف.

ص: 42

أقْبلَ فِتْيَةٌ من بني هاشم، فلما رآهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم اغْرَوْرقتْ عَيْنَاهُ، وَتغَيّر لَوْنهُ، قال: فقلت: ما نَزالُ نَرَى في وجهك شيئًا تَكْرهُه، فقال:"إنَّا أَهلُ بيتِ اختار اللَّهُ لنا الآخِرَة على الدنيا، وإنّ أهْلَ بيتي سَيَلْقَوْنَ بعدي بَلاءً وتشريدًا، وتَطْريدًا، حتى يأتيَ قوم من قبَل المشرق معهم رايات سُود فيَسألون الخَيْر فلا يُعْطَونَه، فيقاتِلوُن فيُنْصَرون، فيُعْطَوْنَ ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قِسطًا كما ملؤوها جَوْرًا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حَبْوًا على الثلج"

(1)

.

ففي هذا الحديث، إشارة إلى مُلْك بني العباس، كما تقدم التنبيه على ذلك عند ذكر ابتداء دولتهم في سنة ثنتين وثلاثين ومئة، وفيه دلالة على أن المهدي يكون بعد دولة بني العباس، وأنه يكون من أهل البيت من ذُرّية فاطمة بنتِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم مِنْ ولد الحسن، لا الحُسَيْن كما تقدّم النص على ذلك في الحديث المرويّ، عن عليّ بن أبي طالب واللَّه أعلم.

وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، وأحمد بن يوسف، قالا: حدثنا عبد الرزّاق، عن سفيان الثوريّ، عن خالد الحَذَّاء، عن أبي قِلَابة، عن أبي أسماء الرحَبيّ، عن ثَوْبَان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنْزِكُمْ ثَلَاثةٌ كُلُّهم ابن خليفة، ثم لا يصيرُ إلى واحدٍ مِنْهُمْ، ثم تَطْلعُ الرَّاياتُ السُّودُ من قِبَل المَشرِق، فيقتلونكم قَتلًا لم يُقْتَلْه قوْم" ثم ذَكرَ شيئًا لا أحْفظُه فقال: "فإذا رَأَيتمُوه، فبَايِعُوهُ، ولَوْ حَبْوًا على الثَّلْج، فإنّه خَلِيفةُ اللَّه المهديّ". تفرّد به ابنُ ماجه، وإسناده قويّ صحيح

(2)

.

والظاهر أن المراد بالكنز المذكور كنزُ الكعبة، يَقْتتلُون عندَه ليأخذه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى إذا كان في آخر الزمان، فيخرج المهديّ، ويكون ظهوره من بلاد المشرق، وقيل: من مكة، لا من سِرداب سامرَّا، كما تَزْعُمهُ جَهَلَةُ الرافِضَة من أنّه محبوس فيه الآن، وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان، فإنّ هذا نوع من الهَذَيانِ، وقِسْطٌ كبير من الخِذْلان، وهوَس شديد من الشيطان، إذ لا دليل على ذلك ولا بُرهان، لا من كتاب ولا سُنّة ولا معقول صحيح ولا بيان.

وقال الترمذيّ: حدثنا قُتَيْيَة، حدّثنا رِشْدِينُ بن سعد، عن يونس عن ابن شهاب الزُّهريّ، عن قَبيصَةَ بن ذُؤَيْب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تخرُج من خُراسانَ راياتٌ سودٌ، فلا يَردُّها شَيْءٌ حَتى تُنْصَب بإيليَاء". هذا حديث غريبٌ

(3)

. وهذه الرايات السُّود ليست هي التي أقبل بها أبو مُسْلِمٍ الخُراسَانيّ، فاستَلَبَ بها دولة بني أميّة، في سنة ثِنْتَيْن وثَلَاثِين ومئة، بل هي راياتٌ سود

(1)

رواه ابن ماجه رقم (4082) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه ابن ماجه (4084) لكن في سنده: أبو قلابة الجَرمي عبد اللَّه بن زيد، وهو مدلس وقد عنعنه.

(3)

أخرجه الترمذيّ رقم (2269) وإسناده ضعيف.

ص: 43

أُخْرى، تأتي صُحْبَةَ المهديّ، وهو محمد بن عبد اللَّه العَلَوِيُّ الفاطمِيّ، الحَسَنِيّ، واللَّه أعلم، يُصلحه اللَّه في ليلة واحدة، أي يَتُوب عليه، ويُوَفقّه، ويُلهمه رُشْدَه، بعد أن لم يكن كذلكَ، ويؤيده بناسٍ من أهل المَشْرِق، ينصرونه، ويُقيمون سُلطانه ويُشيدون أركانه، وتكون راياتهم سُودًا أيضًا، وهو زيٌّ عليه الوقار، لأنّ رايةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، يُقال لها: العُقَاب، وقد ركزها

(1)

خالدُ بن الوليد على الثنيّة التي هي شرقيّ دِمشْق، حين أقبل من العِراق، فعُرفَتْ بها الثنيّة، فهي إلى الآن يقال لها ثَنِيّة العُقاب، وقد كانت عِقابًا على الكفار، من نَصارى الشام والرُّوم والعرب والفرس، وأطَّدت حُسْن العاقبة لعباد اللَّه المؤمنين، من المهاجرين والأنصار، ولمن كان معهم، وبعدهم، إلى يوم الدين، وللَّه الحمد. وكذلك دخل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى مكة، وعلى رأسه المِغْفرُ، وكان أسود، وجاءَ في حديث أنه كان مُعْتَقًا بِعِمامةٍ سوداء، فوق البيضة، صلوات اللَّه وسلامه عليه، والمقصود أن المهديّ الموعود بوجوده في آخر الزمان يكونُ أصلُ ظهوره وخروجِه من ناحية المَشْرِق، ثم يأتي مكة فَيُبايَع له عند البيت الحرام، كما دلّ على ذلك بعضُ الأحاديث، وقد أفردتُ في ذِكر المهديّ جُزءًا على حِدَة، وللَّه الحمد.

وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا نصرُ بن علي الجَهْضَمِيّ، حدثنا محمد بن مَرْوانَ العُقَيْلِيّ، حدثنا عُمارةُ بن أبي حَفْصة، عن زيد العَمِّيّ، عن أبي الصدِّيق الناجي، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في أمتي المهديّ إن قُصِرَ فسَبْع، وإلا فَتِسْعٌ، تنعم فيه أمتي نَعمةً لم ينعموا مثلها قط، تؤتي الأرض أُكُلهَا، ولا تدَّخِرُ منهم شيئًا، والمالُ يومئذ كُدُوس

(2)

، يقوم الرجل فيقول: يا مهديّ، أعطني، فيقول: خذ"

(3)

.

وقال الترمذيّ: حدثنا محمد بن بَشّار، حدثنا محمد بن جَعفر، حدثنا شُعبة، سمعتُ زيدًا العَمِّيّ، سمعت أبا الصدّيق الناجي يحدث عن أبي سعيد الخُدْرِيّ، قال: خَشِينا أن يكون بعدَ نَبِيّنا حدَثٌ، فسألنا نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"إنّ في أمتي المهديّ، يخرجُ يعيش خمسًا أو سبعًا، أو تِسْعًا" زيدٌ الشاكُّ، قال: قلنا: وما ذاك، قال: سنين، قال:"فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهديّ أعطني، أعطني" قال: "فيَحْثِي له في ثَوْبه ما استطاع أن يحمله". هذا حديث حسن، وقد رُوي من غير وجه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو الصدّيق الناجي اسمُه بكر بن عمرو، ويقال: بكر بن قَيْس

(4)

وهذا دليل على أن أكثر مُدّته تسعُ سنين، وأقلَّها خمس أو سبع، ولعلّه هو الخليفة الذي يحثو

(1)

أي غرزها.

(2)

مجموع بعضه إلى بعض.

(3)

رواه ابن ماجه رقم (4083) وهو حديث حسن.

(4)

رواه الترمذيّ رقم (2232) وإسناده ضعيف.

ص: 44

المالَ حَثْيًا، ولا يَعُدُّه عَدًّا، واللَّه أعلم، وفي زمانه تكون الثّمار كثيرةً، والزروع غَزِيرةً، والمالُ وافر، والسلطان قاهر، والدينُ قائم ظاهر، والعدوّ ملوم مخذول داخر، والبلاد آمنة، والأمر والنهي قائم، والرزق دارٌّ دائم، والخيرُ في أيامه دائم راغم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا خَلَفُ بن الوليد، حدثنا عَبَّاد بن عبّاد، حدثنا مُجالد بن سعيد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد، قال: قلت: واللَّه ما يأتي علينا أميرٌ إلَّا وهو شَرٌّ من الماضي، ولا عامٌ إلَّا وهو شرّ من الماضي، قال: لولا شيء سمعتهُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقلت مثل ما يقول، ولكن سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إن من أمرائكم أميرًا يَحْثو المَالَ حَثْوًا، ولا يَعُدّه عَدًّا، يأتيه الرجلُ يسألُه، فيقول: خذ، فيَبْسُط ثَوْبَه، فيَحْثُو فيه" وبَسَط رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِلْحَفَةً غَلِيظَةً، كانت عليه، يَحْكِي صُنع الرجُل، ثُمّ جمع إليه أكنافها، قال:"فيأخذه، ثم ينطلق". تفرّد به أحمد، من هذا الوجه

(1)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا هَدِيّة بن عبد الوهاب، حدثنا سعدُ بن عبد الحميد بن جعفر، عن عليّ بن زياد اليمَامِيّ، عن عِكْرمة بنِ عمّار، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلْحة، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن وَلَدُ عَبْدِ المُطَّلِب سادةُ أهل الجنّة، أنا، وحمزة، وعليّ، وجعفرٌ، والحسنُ، والحسينُ، والمهديُّ"، قال شيخنا أبو الحجاج المِزِّيّ: كذا وقع في "سنن ابن ماجه"، وفي إسناده عليّ بن زياد اليماميّ، والصواب عبد اللَّه بن زياد السُّحَيْمِي، قلت: وكذا أَورده البخاريّ في "التاريخ"، وابن أبي حاتم في "الجَرْح والتعديل"، وهو رجل مجهول، وهذا الحديث مُنكر

(2)

.

وفي الطبرانيِّ مِن حديث حسين بن عليٍّ، عن الأوزاعيِّ، عن قيس بن جابر الصَّدَفيِّ، عن أبيه، [عن جدِّه] مرفوعًا:"سَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءُ، ثُمَّ مُلُوكٌ، ثُمَّ أُمَرَاءُ، ثُمَّ جَبَابِرَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلأُ الأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ يُؤَمَّرُ الْقَحْطَانِيُّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بَيَده مَا هُوَ بِدُونِهِ"

(3)

.

فأمّا الحديثُ الذي رواه ابن ماجه في "سننه"، حيث قال رحمه الله: حدثنا يونُس بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن إدريس الشافعيّ، حدثني محمد بن خالد الجَنديّ، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزداد الأمرُ إلّا شِدّة، ولا الدنيا إلا إِدبارًا، ولا الناسُ إلّا شُحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شِرَار الناس، ولا المهديّ إلا عيسى ابن مريم" فإنه حديث مشهور

(1)

رواه أحمد (3/ 98) وفي إسناده ضعف.

(2)

أخرجه ابن ماجه رقم (4087).

(3)

رواه الطبراني في "الكبير"(22/ 937) وإسناده ضعيف.

ص: 45

بمحمد بن خالد الجنديّ الصَّنْعاني المؤذّن، شيخ الشافعي، وروى عنه غيرُ واحد أيضًا، وليس هو بمجهول، كما زعمه الحاكم، بل قد رُوي عن ابن مَعِين أنه وَثقه، ولكن من الرُّواة من حَدّث به عَنْه، عن أبان بن أبي عَيّاش، عن الحسن البَصري، مُرسلًا، وذكر شيخنا في التهذيب، عن بعضهم: أنه رأى الشافعيَّ في المنام وهو يقول: كذب عليَّ يونُس بنُ عبد الأعلى الصدفي، ليس هذا من حديثي. قلت: يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِيّ، من الثقات، لا يُطْعَنُ فيه بمجرد منَامٍ، وهذا الحديث فيما يظهر في بادي الرأي، مُخالفٌ للأحاديث التي أوردناها في إثبات مهديٍّ غير عيسى ابن مريم، إما قبل نزوله كما هو الأظهر واللَّه أعلم، وإما بعد نزوله، وعند التأمل يكون هذا الحديث لا ينافيها، بل يكون المراد من ذلك أن المهدي حقَّ المهديِّ هو عيسى ابنُ مريم، ولا ينفي ذلك أن يكون غيرهُ مَهْديًّا أيضًا، واللَّه أعلم

(1)

.

‌ذكر أنواع من الفتن وقعت وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان

قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا ابنُ عُيَيْنَة، أنه سمع الزهري، عن عُروة، عن زينب بنت أم سَلَمة، عن أم حَبِيبَة، عن زينب بنتِ جَحْش، أنها قالت: استيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من النوم مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، يقول:"لا إله إلا اللَّه، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتحَ اليوم من رَدْم يأجوجَ ومأجُوجَ مثلُ هذه" وعقد سفيان تسعين أو مئةً، قيل: أنَهْلِكُ وفينَا الصالحُونَ، قال:"نعم، إذا كَثُر الخَبَثُ". وهكذا رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عُيَيْنَة به، قال: وعقد سُفيانُ بيده عَشَرة، وكذلك رواه عن حَرْمَلة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري؛ وقال: وحلّق بإصْبَعَيْه الإبهام والتي تليها، ثم رواه عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، وسعيد بن عمرو، وزُهَير بن حرب، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت جحش، عن حَبِيبَةَ، عن أم حَبِيبَة، عن زينب، فاجتمع فيه تابعيّان وربيبتان، وزوجتان، أربع صحابيات، رضي الله عنهن

(2)

.

وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْب، حدثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فُتحَ اليومَ مِنْ رَدْمِ يأجُوج ومأجوج مثلُ هذه" وعقد وُهَيْبٌ تِسْعِين. وهكذا رواه مسلم من حديث وُهَيْب مثله

(3)

.

(1)

ابن ماجه (4039) وقال الذهبي شيخ المصنف في "الميزان": إنه خبر منكر، أقول: وأما جملة: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" فصحيحة.

(2)

رواه البخاري رقم (7056) ومسلم رقم (2880).

(3)

رواه البخاري رقم (7136) ومسلم رقم (2881).

ص: 46

وروى البخاري من حديث الزهري، عن هند بنت الحارث الفِرَاسِيّة، أن أُم سَلَمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلَةٍ فزِعًا، يقول:"سُبْحانَ اللَّه، ماذا أُنزل الليلةَ من الخزائن، وماذا أُنزل من الفتن؟ مَنْ يُوقِظُ صَواحِبَ الحُجُراتِ" يُريد أزواجه "لكي يُصَلّين، رُبَّ كاسِيَةٍ في الدنيا عَارِيةٌ في الآخرة"

(1)

.

ثم روى البخاري، ومسلم، من حديث الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد، قال: أشرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أُطُمٍ من آطَام

(2)

المدينة، فقال:"هل تَرَوْنَ مَا أرَى؟ " قالوا: لا؛ قال: "فإني لأرى الفِتَن تقع خِلَالَ بُيُوتِكم، كوقع القَطْر"

(3)

.

وروى البخاري من حديث الزهري عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يتقاربُ الزَّمَانُ، وينْقُصُ العِلْم، ويُلْقَى الشح، وتظهر الفِتَن، ويكْثُرُ الهَرْجُ" قالوا: يا رسول اللَّه أيمّا هو؟ قال: "القتل القتل"، ورواه أيضًا عن الزهري، عن حُمَيْد، عن أبي هريرة

(4)

، ثم رواه من حديث الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللَّه بن مسعود، وأبي موسى

(5)

.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سُفيانُ، عن الزُّبير بن عدي، قال: أتينا أنس بن مالك، فشكونا إليه ما يلقَون من الحَجَّاج، فقال:"اصبروا، فإنه لا يأتي على الناس زمانٌ إلّا الذي بعدَه شَرٌّ منه حتى تَلْقَوْا رَبّكم" سمعتهُ من نبيكم صلى الله عليه وسلم، ورواه الترمذيّ، من حديث الثوريّ، وقال: حسن صحيح

(6)

، وهذا الحديث يعبّر عنه العوامّ فيما يوردونه بلفظ آخر:"كُلَّ عَامٍ تَرْذُلُون"

(7)

.

وروى البخاري ومسلم من حديث الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يُشْرف لها، تَسْتَشْرِفْهُ، فمن وجد فيها ملجأً أو مَعاذًا فليَعُذْ به"

(8)

.

(1)

رواه البخاري رقم (115).

(2)

البناء المرتفع.

(3)

البخاري (1878) ومسلم رقم (2885).

(4)

رواه البخاري (7061) و (6037).

(5)

رواه البخاري (7062) مع (7063).

(6)

رواه البخاري (7068) والترمذي رقم (2206).

(7)

سبق للمصنف في أواخر ترجمة الحجاج قوله: هذا اللفظ لا أصل له، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث وكذلك قال ابن حجر: لا أصل له، وقال السخاوي في "المقاصد": هو من كلام الحسن البصري في رسالة.

(8)

رواه البخاري رقم (3601) ومسلم (2886).

ص: 47

ولمسلم عن أبي بكرة نحوُه. بأبسط منه

(1)

.

وقال البخاريُّ: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سُفْيان، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، حدثنا حُذَيفة قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخرَ، حدّثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم عَلِمُوا مِنَ القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رَفْعها قال: "ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرُها، مثل أثر الوَكْت

(2)

ثم ينام النومة، فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثرِ المَجْل

(3)

، كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتبِرًا

(4)

وليس فيه شيء، فيُصبح الناس يتبايعون، ولا يكاد أحد يُؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقالُ حبة خردل من الإيمان، ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أتكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ردَّه عليّ الإسلام، وإن كان نصرانيًا رده عليّ ساعيه

(5)

، وأما اليوم فما كنتُ أبايع إلّا فلانًا، وفلانًا" ورواه مسلم من حديث الأعمش به

(6)

.

وروى البخاري من حديث الزهري عن سالم، عن أبيه، ومن حديث الليث عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام إلى جَنْب المنْبر، وهو مُستقبلُ المَشرِق، فقال:"ألا إن الفتنةَ هاهنا، من حيث يطلعُ قرن الشيطان" أو قال: "قَرْنُ الشمس". ورواه مسلم، من حديث الزُّهريّ وغيره، عن سالم عن أبيه به، ومن حديث الليث، عن نافع به، ورواه أحمد، من طريق عبد اللَّه بن دينار، والطبرانى من رواية عطية، كلاهما عن عبد اللَّه بن عمر، به

(7)

.

وقال البخاريُّ: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقوم الساعة حتى يَمُرّ الرجلُ بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه"

(8)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفانُ، ثنا حمادُ بن سَلَمَةَ، أنا يونسُ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"تُوشِكُونَ أَنْ يَمْلأَ اللَّهُ أَيْدِيَكُمْ مِنَ الْعَجَمِ" -وقال عفانُ مرةً: "مِنَ

(1)

رواه مسلم رقم (2887).

(2)

الوكت: الأثر اليسير.

(3)

انتفاخ الجلد من كثرة العمل.

(4)

أي مرتفعًا.

(5)

المشرف على أمره.

(6)

رواه البخاري (6497) ومسلم (143).

(7)

رواه البخاري (7092) و (7093) ومسلم (2905) وأحمد (2/ 23).

(8)

رواه البخاري (7115).

ص: 48

الأَعَاجِمِ- يكُونُونَ أُسْدًا لَا يَفِرُّونَ، يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَكُمْ، وَيَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ"

(1)

.

وقال البخاريّ: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهريّ، أخبرني سعيد بن المسيّب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقوم الساعةُ حتى تَضْطرِبَ ألَيَاتُ نساء دَوْس على ذي الخَلَصة، وذو الخَلَصة طاغِيَةُ دَوْس التي كانوا يعبدون في الجاهلية"

(2)

.

وقال البخاريّ: حدثنا عبد اللَّه بن سعيد الكنديّ، عن عُقبة بن خالد، حدثنا عُبيد اللَّه، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن، عن جده حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُوشك الفُراتُ أن يَحْسِر عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذْ منه شيئًا"، قال عقبة: وحدثنا عُبَيد اللَّه، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلّا أنه قال:" يَحْسِرُ عن جَبَل مِنْ ذهب" وكذلك رواه مسلم، من حديث عُقبة بن خالد، من الوجهين، ثم رواه عن قُتَيْبَة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى يَحْسِر الفُراتُ عن جَبَلٍ مِنْ ذهب، يَقْتَتِلُ الناس عليه، فيُقتل من كل مئة تسعة وتسعون، يقول كل رجل منهم: لَعَلِّي أكونُ أنَا الذي أنجو"

(3)

.

ثم روى من حديث عبد اللَّه بن الحارث بن نَوْفل، قال: كنت واقفًا مع أبى بن كعب في ظل أجم

(4)

حَسّان فقال: لا يزال الناس مُختلفة أعناقُهم، في طلب الدنيا، قلت: أجل، قال: إني سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُوشِكُ الفُراتُ أنْ يَحْسِرَ عن جَبَل مِنْ ذَهَبٍ، فإِذَا سَمِعَ بِه الناسُ سَارُوا إليْه، فيقولُ مَنْ عِتْدَهُ: لئنْ تَركْنَا الناس يأْخْذُونَ مِنْهُ ليَذْهَبُن به كُلِّه" قال: "فَيَقْتَتلُون عليه فيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مئةٍ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ"

(5)

.

وقال البخاري: حدثنا أبو اليَمان، أخبرنا شُعَيْب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ السَّاعَةُ حتى تقْتتلَ فِئَتَان عَظِيمتَان، يكونُ بَيْنهمَا مقتلةٌ عظيمَةٌ، دعْوَاهُما واحدةٌ، وحتى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذابُونَ، قرِيب مِنْ ثَلاثين، كلٌّ يزعمُ أنه رسولُ اللَّه، وحتى يُقْبَضَ العلمُ، وتَكثُرَ الزلازلُ، ويَتقَارَبَ الزمَانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويكْثُرَ الهَرْجُ، وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المالُ، فيفيضَ حتى يُهِمَّ ربَّ المالِ مَنْ يقبلُ صَدَقته، وحتى يَعْرِضَه، فيقولُ الذي يَعْرِضُه علمِه، لا أرَب لي فيه، وحتى يَتَطَاول الناسُ في البُنْيانِ، وحَتّى يَمُرَّ الرجل بقبْرِ الرّجُل،

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 17) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البخاري (7116) ورواه مسلم (2906) من طريق الزهري.

(3)

رواه البخاري رقم (7119) ومسلم (2894).

(4)

الأجم: الحصن.

(5)

رواه مسلم رقم (2895).

ص: 49

فيقول: يا لَيْتَنِي مَكانَه، وحَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغربها، فإذا طلعتْ ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعةُ وقد انصرف الرجلُ بلبن لقحته

(1)

فلا يَطْعَمُهُ، ولتقُومنَّ الساعةُ وهو يَليطُ حوضه فلا يسْقِي فيه، ولتقُومن السَّاعةُ وقد رفع أُكْلَتَهُ إِلى فيه، فَلَا يَطْعَمُها"

(2)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا سُريجُ بن النعمان، ثنا عبد العزيز، يَعْنِي الدَّرَاوَرْديَّ، عن زيدِ بن أسلمَ، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا تَأْكُلُ الْبَقَرُ بِأَلْسِنَتِهَا". تفرَّد به أحمد

(3)

.

وقال مسلم: حدثني حَرْمَلةُ بن يحيى التُّجِيبيّ، حدثنا ابنُ وهب، حدثنا يونُس، عن ابن شِهَاب: أن أبا إدريس الخَوْلَاني، قال: قال حُذيفة بن اليمان: واللَّه إني لأعلم الناسِ بكلّ فِتْنَة كائنَةٍ فيما بَيْنِي وبينَ الساعة، وما بي إلّا أن يكون رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أسرّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يُحَدّثْه غيري، ولكنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال، وهو يُحدّث مَجْلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يَعُدّ الفتن:"منهن ثلاث" لا يَكَدْنَ يذَرْنَ شَيْئًا، ومنهن فِتَنٌ كريَاح الصيف، منها صِغَار ومنها كِبَار" قال حُذَيفة: فذهب أولئك الرَّهْطُ كلُّهم غيري

(4)

.

وروى مسلم من حديث زهير، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مَنَعَت العِرَاق دِرْهَمَها وقَفِيزها، ومنَعَتِ الشامُ مُدْيَها

(5)

ودِينَارَها، ومنَعَتْ مصرُ إرْدَبَّها، ودِينَارَها، وعُدْتمْ مِنْ حَيْثُ بَدأتُمْ، وعدتم من حيث بدأتم، [وعدتم من حيث بدأتم] " شهد على ذلك لَحم أبي هُريرَة ودمُه

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا الجُرَيْريّ، عن أبي نَضْرة، قال: كُنَّا عِندَ جَابِرٍ، فقال: يُوشِكُ أهْلُ العِراقِ ألّا يُجْبى إليهم قفيزٌ، ولا دِرْهَمٌ، قلنا: مِنْ أينَ ذاك؟ قال: من قِبَل العَجَم، يمنعون ذَاكَ، ثم قال: يوشك أهلُ الشام ألّا يُجْبَى إليهم دِينَارٌ ولا مُدْي، قُلنا: مِنْ أيْنَ ذاك، قال: مِنْ قِبَلِ الرُّوم، يمنعون ذَاكَ، ثم سكتَ هُنيهَة ثم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون في

(1)

اللقحة: الناقة الحلوب.

(2)

رواه البخاري رقم (7121).

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 84) وهو حديث حسن.

(4)

رواه مسلم (2891).

(5)

المدي: مكيال معروف لأهل الشام.

(6)

رواه مسلم (2896).

ص: 50

آخر أمّتي خَلِيفَةٌ يحثو المال حَثْيًا لا يَعُدّه عدًّا" قال الجُرَيْرِيّ: فقلت لأبي نضرة، وأبي العلاء: أَتَريَانِ أَنّه عمرُ بن عبد العزيز؟ فقالا: لا. ورواه مسلم من حديث الجُرَيْريّ، بنحوِه

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا أفلح بن سعيد الأنصاريّ، شيخٌ من أهل قُبَاءَ من الأنصار، وحدّثني عبد اللَّه بن رافع، مولى أمّ سَلمة، قالت: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنْ طَالَتْ بكُمْ مُدّةٌ أوشَكَ أَنْ تَرى قومًا يَغْدُونَ في سَخَطِ اللَّه، ويروحونَ في لَعْنتِه، في أيديهم مثلُ أذْنَابِ البقر". وأخرجه مسلم عن محمد بن عبد اللَّه بن نُمَير، عن زيد بن الحُبَاب، عن أفلح بن سعيد به

(2)

.

ثم روى عن زهير بن حَرْب، عن جَرِير، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صِنْفانِ من أهل النار لم أرَهُمَا بعدُ: قومٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كأذْنَابِ البَقَر يَضْرِبُونَ بِها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِيَاتٌ عَارِياتٌ، مائلات، مُمِيلات، رؤوسهنّ كأسنمة البُخْت المائلة، لا يدخلن الجَنّة، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنّ رِيحَها ليُوجَدُ مِنْ مَسِيرة كذا، وكذا"

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا زيدُ بن يحيى الدّمشقيّ، حدثنا أبو مُعَيْدٍ، حدثنا مكحول، عن أنس بن مالك، قال: قيل: يا رسول اللَّه! متَى نَدَعُ الائتمارَ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عَنِ المُنكَر؟ قال:"إذا ظَهَرَ فِيكُمْ مِثْلُ مَا ظَهَر فِي بَنِي إِسْرائيل؛ إذَا كانَتِ الفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ، والعِلْمُ في رُذَالِكم، والملك في صغَارِكم"، ورواه ابن ماجه، عن العباس بن الوليد الدِّمَشْقِيّ، عن زيد بن يحيى بن عُبَيد، عن الهَيْثَم بن حُمَيد، عن أبي مُعَيْد حفص بن غَيْلان، عن مكحول، عن أنس. . . فذكره نحوه

(4)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حمّاد، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو، أنّه حدّثهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ضاف رجلٌ رجلًا من بني إسرائيل، وفي داره كَلْبة مُجِحٌّ

(5)

، فقالت الكلبة: واللَّه لا أَنْبَحُ ضَيْفَ أهلي" قال: "فَعَوَى جِراؤها في بَطْنِها" قال: "قيل: ما هذا؟ " قال: "فأوحَى اللَّه عز وجل إلى رَجُلٍ منهم: هَذَا مثَل أمّةٍ تكُونُ مِن بعدكم، يقهرُ سُفَهاؤُهَا حُلماءَها"

(6)

.

وقال أحمد: حَدّثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن الأوزاعيّ، حدثني أبو عمّار،

(1)

رواه أحمد (3/ 317) ومسلم رقم (2913).

(2)

رواه أحمد (2/ 308) ومسلم (2857).

(3)

رواه مسلم (2128).

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 187) وابن ماجه رقم (4017) وفي إسناده ضعف.

(5)

المُجِح: الحامل القريبة الوضع.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 170) وإسناده ضعيف.

ص: 51

حدثني جار لجابر بن عبد اللَّه، قال: قَدِمْتُ من سَفَر، فجاءني جابر يُسَلّم عليّ، فجعلتُ أحدّثه، عن افتراق الناس، وما أحدثوا، فجَعَل جابر يبكي، ثم قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ النَّاسَ دَخَلُوا في دين اللَّه أفواجًا، وسَيْخُرجُونَ مِنْه أفواجًا"

(1)

.

وقال أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعَةَ، حدثنا أبو يونُس، عن أبي هريرة، وقال حسن: حدّثنا ابن لهِيعَةَ، حدّثنا أبو يونُس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ للعرب من شَرّ قد اقْتَرَب، فِتَنًا كَقِطَع الليل المُظلم، يُصبحُ الرجل مؤْمنًا، ويُمسي كافرًا يبِيعُ قومٌ دينَهُمْ بعَرَضٍ من الدُّنْيَا قَليلٍ، المتمسِّكُ يَوْمئذٍ بدِييه كالقَابض على الجَمْر" أو قال: "على الشوك"، وقال حسن في حديثه:"بخَبط الشوك"

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا أبو جعفر المدائنيّ، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزديّ، عن أبيه حبيب بن عبد اللَّه، عن شُبَيْلِ بن عوف، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لثوْبَان: "كيف أنتَ يا ثَوْبَان، إذا تداعتْ عليكمُ الأُمَمُ، كتداعيهِمْ إلى قَصْعَةِ الطعَام، يُصِيبُونَ مِنْه؟ " قال ثوبان: بأبي وأميّ يا رسول اللَّه؟ أمِنْ قلَّةٍ بنَا؟ قال: "لا، بل أَنُتمْ يَوْمئذٍ كثير، ولكنْ يُلقى في قلوبكم الوهَن" قالوا: وما الوهَن يا رسول اللَّه؟ قال: "حُبُّكم الدُّنيا، وكرَاهِيَتكُم القِتالَ"

(3)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدثنا عبد الرزَّاق، حدثنا مَعْمَر عن رجل، عن عمرو بن وابصة الأسَديِّ، عن أبيه، قال: إنِّي بالكوفة في داري، إذ سمعتُ على باب الدار: السلامُ عليكم، أألج؟ فقلت: عليكمُ السلامُ، فَلِجْ، فلما دخل، فإذا هو عبد اللَّه بن مسعود، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أيَّةُ ساعة زيارَةٍ هذه؟ وذلك في نحوِ الظَّهِيرة، قال: طال على النهار، فذكرتُ منْ أتَحدَّث إليه، قال: فجَعَلَ يُحدِّثني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأحدّثه، ثم أنشأ يُحدّثني، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تَكُونُ فِتْنَةٌ النَّائِمُ فيها خيرٌ من المُضْطَجِع، والمُضْطَجِعُ فِيها خَيْرٌ مِنَ القَاعِد، والقاعدُ فِيها خَيْرٌ مِنَ القَائِم، والقائمُ فِيها خَيْرٌ من الماشي، والماشي خَيْرٌ مِنَ الرّاكب، والراكبُ خَيْر من المُجري

(4)

، قتلاها كلّها في النار" قال: قلت: يا رسول اللَّه متى ذلك؟ قال: "ذلك أيامَ الهَرْج" قلتُ: ومتَى أيامُ الهَرْج؟ قال: "حين لا يَأْمَنُ الرّجُلُ جَلِيسَهُ" قال: قلت: فما تَأْمُرُنِي إنْ أدْرَكْتُ ذَلك؟ قال: "اكْفُفْ نَفْسَك، ويدكَ، وادْخُل دَارَك" قال: قلت: يا رسول اللَّه! أرأيتَ إن دَخَل عليّ رجل داري؟ قال:

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 343) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 390 - 391) وهو حديث حسن. والخبط: ما يتساقط من الشجر إذا ضرب بالعصا.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 359) وهو حديث حسن.

(4)

المجري: الذي يجري فرسه.

ص: 52

فادخل بيتك" قال: قلت: أفرأيت إن دَخَل عَلَيَّ بيْتي، قال: "فادْخُلْ مَسْجِدَكَ، واصْنَعْ هَكَذا" وقَبَض بِيَمِينِه عَلَى الكُوع "وقُلْ: ربّيَ اللَّهُ، حَتّى تَمُوتَ على ذلك"

(1)

.

وقال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبي، حدثنا شهاب بن خِراش، عن القاسم بن غَزْوان، عن إسحاق بن راشد الجزري، عن سالم، حدثني عمرو بن وابصة، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر بعض حديث أبي بَكْرة، قال:"قَتْلَاهَا كلهم في النَّار" قال فيه: قلتُ: متى ذلك يا ابن مسعود؟ قال: تِلْك أيامُ الهَرْج، حيث لا يأمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَه، قلت: فما تأمرُني إنْ أدْرَكَني ذَلِكَ الزّمانُ؟ قال: تكفُّ لِسَانكَ وَيدَك، وتكونُ حِلْسًا من أحْلاسِ بَيْتِكَ. قال يعني وابصة: فلما قُتِل عثمانُ طار قَلْبي مَطَارهُ، فركبت حتى أتيتُ دِمَشْقَ فَلقِيتُ خُرَيْمَ بن فَاتِك الأسَدِيّ، فحلف باللَّه الذي لا إله إلا هُوَ لَسَمِعَهُ مِنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما حدّث به ابن مسعود

(2)

.

وقال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شَيْبَة، حدّثنا وَكِيع، عن عثمانَ الشحّام، حدثني مسلم بن أبي بَكْرةَ، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنةٌ المضطجع فيها خيرٌ من الجالس، والجالس فيها خيرٌ من القَائِم، والقَائِمُ خَيْرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي" قال: يا رسول اللَّه! ما تأمرني؟ قال: "مَنْ كانت له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإبِلهِ، ومَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بغَنَمِه، ومَنْ كَانَتْ لَه أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بأَرضه" قال: فمنَ لمْ يكُنْ لَهُ شَيءٌ مِنْ ذَلِك؟ قال: "فليَعْمِدْ إلى سَيْفِه فليَضرِبْ بحدّه على حَرّةٍ ثم لينجُ ما اسْتَطَاع النَّجَاء". وقد رواه مسلم من حديث عثمان الشحّام بنحوه

(3)

.

وقال أبو داود: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي]، حدثنا المفضل، عن عيّاش، عن بُكَير، عن بُسْر بن سعيد، عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعيّ: أنه سمع سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، أرأيتَ إن دَخَلَ عليّ بَيْتي، وبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَني، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كُنْ كابْنِ آدَمَ" وتلا [يزيد]: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الآية [المائدة: 28]. انفرد به أبو داود، من هذا الوجه

(4)

.

وقال أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث بن سعد، عن عيّاش بن عبَّاس، عن بُكَير بن عبد اللَّه، عن بُسْر بن سعيد، أن سعد بن أبي وقّاص قال عند فتنة عثمان بن عفّانَ: أشهد أنّ

(1)

رواه أحمد في "المسند"(1/ 448 - 449) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أبو داود رقم (4258) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود رقم (4256) ومسلم (2887).

(4)

رواه أبو داود (4257) وهو حديث صحيح.

ص: 53

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّها سَتكُونُ فتنةٌ، القاعدُ فيها خير من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خَيْرٌ من السَّاعي" قال: أفرأيتَ إنْ دَخَل عَلَيّ بَيْتي فَبسَطَ يَدَه إليّ ليقْتُلَني؟ قال: "كن كابن آدم". وهكذا رواه الترمذيّ عن قتيبة، عن الليث، عن عياش بن عباس القِتبْانيّ، عن بُكَير بن عبد اللَّه بن الأشج، عن بُسر بن سعيد الحَضرميّ، عن سعد بن أبي وقاص. . . فذكره، وقال: هذا حديث حسن

(1)

، ورواه بعضهم عن الليث، فزاد في الإسناد رجلًا يعني الحُسَين، وقيل: الحسيل بن عبد الرحمن، ويقال: عبد الرحمن بن الحُسَين، عن سعد، كما رواه أبو داود آنفًا.

ثم قال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدّثنا عبدُ الوارث بن سعيد، عن محمد بن جُحَادة، عن عبد الرحمن بن ثَروان، عن هُزَيل، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدَي الساعة فِتَنًا كقِطَع الليل المُظْلِم، يُصْبحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمْسِي كافرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كافِرًا، القاعِدُ فيها خيرٌ من القائم، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعِي، فكَسِّرُوا قِسِيكم وقطعُوا أوْتارَكُم واضْرِبُوا سيُوفَكُمْ بِالحِجَارَة، فإنْ دُخِلَ [يعني] على أحَد مِنْكمْ فلْيَكُنْ كخَيْر ابنَيْ آدمَ"

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مرحوم، حدثنيِ أبو عمران الجَونِيّ، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ قال: ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا، وأرْدَفني خَلْفَه، فقال:"يا أبا ذرّ أرأيتَ إنْ أصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَديدٌ، حتى لَا تَسْتَطيعَ أنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشكَ إلي مَسْجِدِكَ كَيْفَ تَصْنَع؟ " قال: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"تَعَفّفْ" قال: "يا أبا ذرّ، أرأيْت إنْ أصَابَ النَّاسَ مَوتٌ شَدِيدٌ، يكونُ البيت فِيهِ بالعَبْد" يَعْنِي القَبْرَ "كَيْفَ تَصْنَع؟ " قلت: اللَّهُ ورسولهُ أعْلَمُ، قال:"اصْبِرْ" قال: "يا أَبا ذرّ، أرأيتَ إنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهمْ بَعْضًا" يعني حتى تغرق حِجَارة الزيت من الدماء "كيف تَصْنَع؟ " قال: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"اقْعُدْ في بَيْتِك، وأغلقْ عَلَيْكَ بَابَك" قال: فإنْ لَمْ أُتْرك؟ قال:، فَأْتِ مَنْ أنْتَ مِنْهُمْ فكُنْ فيهِمْ" قلت: فآخُذُ سلَاحِي، قال:"إذًا تُشارِكَهُم في ما هُمْ فِيه، ولكن إنْ خَشيتَ أن يَرْدَعك شُعاعُ السَّيْف، فألقِ طَرَفَ رِدَائك عَلَى وَجْهك كَيْ يَبُوءَ بإثْمِهِ وإثمك". هكَذا رواه الإمام أحمد، وقد رواه أبو داود عن مسدّد، وابن ماجه عن أحمد بن عَبْدة، كلاهما عن حمّاد بن زيد، عن أبي عِمْران الجَوْنيّ، عن المُشَعّث بن طريف، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ بنحوه، ثم قال أبو داود: لم يذكر المشعثَ في هذا الحديث غيرُ حمّاد بن زيد

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 185) والترمذي (2194) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أبو داود رقم (4259) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 149) وأبو داود رقم (4261) وابن ماجه (3958) وهو حديث صحيح.

ص: 54

زياد، حدثنا عاصم الأحول، عن أبىِ كَبشة قال: سمعت أبا موسى يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن بين أيديكم فِتنًا كقِطع الليل، يُصبحُ الرجل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، ويُمْسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعِي" قالوا: فما تأمُرنا؟ قال: "كونوا أحلاس بيوتكم"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيُّوب، عن أبي قِلَابة، عن أبي أسماء، عن ثَوْبَان قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها، ومغاربها، وإن مُلك أمّتي سيبلُغُ ما زُوِيَ لي منها، وإني أُعطيتُ الكنزين، الأحمر، والأبيض، وإني سأَلتُ ربّي لأمتي ألّا يهلِكوا بسَنَةٍ بعامة ولا يُسلطَ عَلَيْهِمْ عدوًّا من سوى أنفسهم، فيَسْتَبِيح بَيْضَتهُم وإن ربي عز وجل قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيت لأمتك ألّا أُهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَنْ بَيْنَ أقطارها" أو قال: "مَنْ بأقطارها، حتَّى يَكُونَ بَعْضهُمْ يسبي بعضًا، وإنما أخافُ على أمتي الأئِمة المضلِّين، وإذا وُضع السيف في أمتي لم يُرفَعْ عَنْهُمْ إلى يوم القِيَامَة، ولا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تلحق قبائلُ مِنْ أمتي بالمشْركِينَ، وحتى تعْبُد قبائلُ مِنْ أمتي الأوثانَ، وإنه سيكونُ في أمتي كَذَّابُونَ ثَلَاثُون، كلُّهُمْ يزعم أنه نبي، وأنا خَاتَمُ النبيين، لا نبيَّ بعدي، ولا تزالُ طَائِفةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهرين على الحق، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُم، حتى يَأْتيَ أمرُ اللَّه عز وجل". ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق عن أبي قِلابة، عبد اللَّه بن زيد الجرمي، عن أبي أسماء، عمرو بن مَرْثد، عن ثوبان بن بُجْدُد، بنحوه، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(2)

.

وقال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد اللَّه، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ، عن بدر بن عُثمان، عن عامر، عن رجل، عن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَكُونُ في هَذِه الأُمة أربَعُ فِتَن، آخرها الفَنَاءُ"

(3)

.

ثمّ قال أبو داود: حدثنا يحيى بنُ عُثمان بن سعيد الحِمْصِي، حدثنا أبو المغيرة، حدثني عبد اللَّه بن سالم، حدثني العلاء بن عُتْبَةَ، عن عمير بن هانئ العنسي، سمعتُ عبد اللَّه بن عمر يقول: كُنَّا قُعودًا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن، فأكثرَ في ذِكْرها، حتى ذكر فِتْنَة الأَحلَاس، فقال

(1)

رواه أبو داود رقم (4262) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 278) ومسلم رقم (2889) وأبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2176) وابن ماجه (3952).

(3)

رواه أبو داود (4241) وإسناده ضعيف.

ص: 55

قائل: يا رسول اللَّه، وما فِتْنَة الأحْلَاس؟ قال: "هي حَرَبٌ، وهَرَبٌ

(1)

ثم فِتْنَةُ السراء، دخنها مِنْ تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يَزْعُمُ أنه مِنَي، وليس مِنِّي، وإنما أوليَائي المُتَّقُون، ثم يَصْطَلِحُ النَّاسُ على رجل كورِك على ضِلَع

(2)

ثم فتنة الدُّهَيْمَاءَ، لا تَدَعُ أحَدًا مِنْ هذه الأمة إلا لَطَمَتْهُ، حتى إذا قيل: انْقَضَتْ، عادَتْ، يصبحُ الرَّجُلُ فيهَا مؤمنًا ويُمْسِي كافرًا، حتى يصير الناسُ إلى فُسْطَاطَيْن، فُسْطَاطِ إيمَانٍ لا نفَاق فيه، وفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لا إيمان فيه، فإذَا كَان ذَاكُمْ، فانتظروا الدجال، مِنْ يَوْمِه أوْ مِنْ غده". تفرد به أبو داود، وقد رواه أحمد في "مسنده"، عن أبي المُغيرة، بمثله

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن أبي حازم، عن أبيه، عن عُمَارَة بن عمرو، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كيف بكم وزمان" -أو "أوشك أن يأتيَ زمانٌ- يُغَرْبلُ فيهِ الناسُ غَرْبَلَةً، تَبْقَى حُثالةٌ مِن الناسِ، قدَ مَرِجت عُهُودُهم وأماناتهم، واختلفُوا، فكَانُوا هَكذَا" وشبك بين أصابعه، فقالوا: كيفَ بنا يا رسول اللَّه؟ قال: "تأْخُذُونَ بما تَعْرِفُونَ، وتَدَعُون ما تنكرون، تُقْبلُونَ على أمر خَاضَتِكُمْ وتَذَرونَ أمْرَ عَامّتكم" قال أبو داود: هكذا روي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. وهكذا رواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، ومحمد بن الصباح، عن عبد العزيز بن أبي حازم به، ورواه أحمد في "مُسنده" عن سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم به، وقد رواه الإمام أحمد، عن حُسَين بن محمد، عن [محمد بن] مُطرَّف، عن أبي حازم، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده. . . فذكر نحوه، أو مثلَه

(4)

.

ثم قال أبو داود: حدثنا هارونُ بن عبد اللَّه، حدثنا الفَضْلُ بن دُكَيْن، حدثنا يُونس، يعني ابن أبي إسحاق، عن هلال بن خَبَّاب، أبي العلاء، حدثنا عِكْرمة، حدثني عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: بينما نحنُ حول رسول اللَّه إذ ذكر الفتنة، أو ذُكرت عنده، فقال:"إذا رأيتم الناس قد مَرِجت عهودُهم، وخَفَّت أمَانَاتُهُمْ، وكانوا هكذا" وشبّك بَيْن أصابعه، قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني اللَّه فداك؟ قال: "الزم بَيْتَكَ، وامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وخُذْ بما تعرفُ، ودعْ ما تُنْكرُ، وعليك بأمْرِ خَاصَّةِ نفسك، ودع عنك أمر العَامة". وهكذا رواه أحمد، عن أبي نُعيم الفضل بن دُكين به، وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة"، عن أحمد بن

(1)

الحَرَب: نهب مال الإنسان، وتركه لا شيء.

(2)

أي يصطلحون على أمر واهٍ لا نظام له.

(3)

رواه أبو داود (4242) وأحمد (2/ 133) وهو حديث حسن.

(4)

رواه أبو داود رقم (4342) وابن ماجه رقم (3957) وأحمد في المسند (2/ 221) و (2/ 220) وهو حديث صحيح.

ص: 56

بكار، عن مخلد بن يزيد، عن يونُس بن أبي إسحاق. . . فذكر بإسناده نحوه

(1)

.

قال أحمد: ثنا عبدُ القدوسِ بن الحجَّاج، ثنا حَريزٌ، يَعْنِي ابن عثمانَ الرَّحَبيَّ، ثنا راشدُ بنُ سعدٍ المَقْرائيُّ، عن أبي حَيٍّ، عن ذي مِخْمَرٍ، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"كانَ هَذَا الأمْرُ في حِمْيَرَ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَجَعَلَهُ فِي قُريْشٍ، وَسَ يَ عُ و دُ إ لَ يْ هـ مْ". قال عبدُ اللَّه بن أحمد: هكذا في كتابِ أبي مُقَطَّعٌ، وحيث حدَّثنا به تكلَّم به على الاستواء

(2)

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عُبَيد، حدثنا حَماد بنُ زيد، حدثنا اللَّيْثُ عن طاوس، عن رجل، يقال له: زياد، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنّه ستكونُ فِتْنَةٌ تَسْتَنْطِفُ العَربَ، قتْلَاهَا فِي النَّارِ، اللِّسَانُ فِيهَا أشدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيفِ"، وقد رواه أحمد، عن أسود بن عامر، عن حمّاد بن سَلَمة، والترمذيّ، وابن ماجه، من حديثه عن اللّيث، عن طاوس، عن زياد، وهو الأعجم، ويقال له: زياد سيمين كوش

(4)

.

وقد حكى الترمذيّ، عن البخاريّ أنه ليس لزياد هذا حديث سواه، وأن حمّاد بن زيد، رواه عن الليث، فوقفه، وقد استدرك ابنُ عساكر على البخاري هذا الحديث، فإنّ أبا داود رواه من طريق حمّاد بن زيد مرفوعًا، فاللَّه أعلم

(5)

.

وقال أبو داود: حدثنا عبد الملك بن شُعَيْب، حدّثنا ابنُ وهب، حدثني الليث، عن يحيى بن سعيد، قال: قال خالد بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عبد الرحمن بن هُرْمزِ، عن أبى هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فِتْنَة صَمّاءُ بكماءُ، عَمْياءُ، من أشرفَ لهَا استَشْرَفتْ له، وإشرافُ اللِّسانِ فِيهَا كوقوع السيف"

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيعٌ، وحدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وَهْب، عن عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة، عن عبد اللَّه بن عمرو، وكنتُ جالسًا معه في ظِلّ الكعبة، وهو يُحدِّث النَّاسَ، قال: كُنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فنَزلنا مَنزلًا، فمِنّا من يضرب خباءه، ومنّا

(1)

رواه أبو داود (4343) وأحمد (2/ 212) والنسائي في "الكبرى" رقم (10033) وهو حديث صحيح.

(2)

أي قال: وسيعود إليهم.

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 91) وهو حديث صحيح.

(4)

يعني أن سيمين كوش والد زياد: أذنه من فضة، وهي كلمة فارسية.

(5)

رواه أبو داود رقم (4265) وأحمد في المسند (2/ 411) والترمذي رقم (2178) وابن ماجه (3967) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه أبو داود رقم (4264) وإسناده ضعيف، ولأوله شاهد من حديث حذيفة عند أحمد في المسند (5/ 386) وعند البغوي من حديث أنيس بن أبي مرثد، كما ذكره الحافظ في الإصابة.

ص: 57

مَنْ هُو في جَشَرِه

(1)

، ومِنا من ينْتَضِلُ، إذ نادى مُنادي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الصلاةُ جامعةٌ، قال: فانتهيتُ إليه وهو يخطبُ الناس، ويقول:"أيُّها الناسُ، إنّه لَمْ يَكُنْ نبِيٌّ قبْلِي إلّا كَانَ حَقًّا عليْهِ أَنْ يَدُلّ أُمَّتَه على مَا يَعْلَمُه خَيْرًا لهُمْ، ويُنْذِرهُمْ ما يَعْلمُه شَرًّا لَهُمْ، ألا وإنّ عَافيةَ هذه الأمّةِ في أَوّلِهَا، وسَيُصيبُ آخِرهَا بَلاءٌ وفِتَنٌ، يرقِّق بعضها بعضًا، تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مُهْلِكَتي، ثم تنكشف، ثم تجيء فيقول: هذه، هذه، ثم تجيء فيقول: هذه، هذه، ثم تنكشف، فمن أحبّ أن يُزَحْزَحَ عن النار ويُدْخَلَ الجَنةَ فلتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وهو يُؤْمنُ باللَّهِ واليَومِ الآخرِ، ويأتي إلى الَّناسِ ما يُحِبّ أَنْ يُؤتى إلَيْه، ومَنْ بايع إمامًا فأَعطْاهُ صَفْقَةَ يَدِه وثَمرةَ قَلْبِهِ فليطِعْهُ إن اسْتَطَاع" وقال مَرّةً: "ما اسْتَطاعَ".

قال عبد الرحمن: فلمّا سَمعتُها أدْخَلْتُ رَأسي بَيْن رَجُلَيْنِ، قلت: فإنّ ابنَ عَمِّكَ معاويةَ يأمُرنا أن نأْكلَ أمْوالنَا بَيْنَنا بِالباطِلِ، وأنْ نَقْتُلَ أَنْفسَنا، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ. . . وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النساء: 29]. قال: فجمع يديه، فوضعهما على جبهته، ثم نَكَس هُنَيْهةً ثم رفَع رأسَه، فقال: أطِعْهُ في طَاعِةِ اللَّهِ واعْصِهِ في مَعْصِيَةِ اللَّه، قلت له: أنتَ سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، سمعتْهُ أُذُنايَ، ووعاهُ قَلْبي. ورواه مسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث الأعمش، به، وأخرجه مسلم أيضًا، من حديث الشعبي، عن عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة، عن عبد اللَّه بن عمرو بنحوه

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا ابن نُمير، حدّثنا الحسن بن عمرو، عن أبي الزُّبير، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم أمّتي تَهَابُ الظالمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إنّك لَظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ منْهُمْ" وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا أبو قبيل، قال: كنا عند عبد اللَّه بن عمرو، وسُئل: أيُّ المَدينَتين تُفْتَحُ أوّلًا، القُسْطنْطِينيَّة أو رُومية؟ قال: فدعا عبدُ اللَّه بصندوقٍ له حِلَق، قال: فأخْرَج منْهُ كتابًا، قال: فقال عبد اللَّه: بيْنما نحنُ حَوْلَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكتبُ، إذ سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدِينَتَيْن تفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مدينةُ هِرقْلَ تُفْتَحُ أوّلًا" يعني القسطنطينينة

(4)

.

(1)

الجَشَر: الدواب التي ترعى وتبيت مكانها.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 191 و 161) ومسلم رقم (1844) وأبو داود رقم (4248) والنسائي (7/ 152 - 153) وابن ماجه (3956).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 163) وإسناده ضعيف، والحديث الثاني منهما، حسن.

(4)

أحمد في المسند (2/ 176) وهو حديث حسن.

ص: 58

وقال القرطبيّ في "التذكرة": ورُوِيَ من حديث حُذَيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ويَبْدأُ الخَرَاب في أطرْافِ الأرْضِ حَتَّى تَخْرَبَ مِصْرُ، ومِصْرُ آمِنَةٌ مِنَ الخَرابِ، حَتّى تَخرَبَ البَصْرَةُ، وخَرَابُ البَصْرَةِ مِنَ الغَرق، وخراب مصْر من جَفاف النيل، وخرابُ مكة منَ الحَبشة، وخرابُ المدينة من الجُوعِ، وخَرابُ اليَمَنِ مِنَ الجرَاد، وخرابُ الأُبُلَّةِ من الحِصَار، وخَرابُ فَارسَ منَ الصَّعَالِيك، وخَرابُ التّرك من الدّيْلَم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخزر، وخراب الخزر من الترك، وخراب الترك من الصواعق، وخرابُ السّند من الهنْد، وخَرابُ الهنْدِ مِنَ الصّين، وخَرابُ الصِّينِ مِنَ الرَّمل، وخَرابُ الحَبَشَةِ مِنَ الرَّجْفةِ، وخَرابُ الزَّوراء من السّفيانيِّ، وخَرابُ الرَّوْحاءِ من الخسف، وخَرابُ العِراقِ مِنَ القَحْطِ" ثمّ قال: ذكره أبو الفرَج ابن الجَوْزِيّ، قال: وسمعت أن خراب الأندلس بالرِّيح العَقِيم، واللَّه أعلم. وهذا الحديث لا يعرف في شيء من الكتب المعتمدة، وأَخْلِق به ألّا يكون صحيحًا، بل أَخْلِقْ به أن يكون موضوعًا، أو أن يكون موقوفًا على حذيفة، ولا يصح عنه أيضًا، واللَّه أعلم.

‌فصل في تعداد الآيات والأشراط الواقعة

قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا خَلَف، يعني ابن خليفة، عن أبي جناب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يتوَضّأُ وضُوءًا مَكيثًا

(1)

، فرفع رأسه، فنظر إليَّ فقَال:"ستٌّ فيكُمْ أيتها الأمَّةُ: موت نَبِيِّكُمْ" قال: فكأنَّمَا انْتَزَعَ فَلْبِي مِنْ مَكَانه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"واحدة"، قال: ويفيضُ المَالُ فيكُمْ، حتى إن الرَّجُلَ ليُعْطَى عشرة آلافٍ فيَظَل يَسْخَطُها" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ثنتين"، قال: وفتنة تدخل بيت كل رجل منكم". قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث"، قال: "وَمَوْتٌ كقُعَاص

(2)

الغَنَم" قال رسول اللَّه: "أرْبَعٌ، وهدنة تكون بينكم، وبين بني الأَصفر، يجمعون لَكُمْ تسعة أشهر كَقدْرِ حَمْل المَرأةِ، ثمّ يكونون أولى بالغَدْرِ منكم" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خَمْسٌ"، قال:"وفتح مَدينَة"، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"سِتّ"، قلت: يا رسول اللَّه! أي مدينة؟ قال: "قُسْطَنْطِينيّة". وهذا الإسناد فيه نَظَر من جهة رجاله، ولكن له شاهد من وجه آخر صحيح

(3)

.

فقال البخاري: حدثنا الْحُمَيْدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد اللَّه بن العَلَاء بن زَبْر، قال: سمعتُ بُسْرَ بن عبيد اللَّه، أنه سمع أبا إدريس؛ قال: سمعت عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: أتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوكَ، وهو في قُبَّةٍ مِنْ أَدَم فقال: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْن يدي السّاعَة:

(1)

أي بطيئًا متأنيًا غير مستعجل.

(2)

القعاص: داء يصيب الغنم فتموت به فورًا.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 174) وهو حديث حسن لغيره كما أومأ إليه المصنف.

ص: 59

مَوْتِي، ثم فتح بيت المقدس، ثمَ مُوتَانٌ يآخذُ فيكم كَقُعَاص الغنم، ثم استفاضةُ المال حتى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئة دِينَارٍ فيظَل سَاخِطًا، ثم فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بيْتٌ من العَرَب إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثم هُدْنَةٌ تكونُ بينكم وَبَينَ بَنِي الأَصْفَر فَيَغْدِرونَ، فَيَأْتونَكمْ تَحتَ ثَمَانينَ رَايَةً، تَحْتَ كُلِّ رَايةٍ اثْنَا عَشَر أَلْفًا". ورواه أبو داود وابن ماجه والطبرانيّ من حديث الوليد بن مسلم، ووقع في رواية الطبرانيّ: عن الوليد عن ابن زَبْر عن زيد بن واقد، عن بُسْر بن عُبيْد اللَّه، وقد صرّح البخاريُّ في روايته بسماع ابن زَبْر، مِنْ بسْر بن عبيد اللَّه. فاللَّهُ أَعْلم

(1)

.

وعند أبي داود: فقلت: أدخل يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم". قلت: كُلي؟ قال: "نعم". وإنما قلت ذلك من صِغَر القُبَّة

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المُغِيرة، حدثنا صفوان، حدثنا عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَيْر، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال: أَتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فسلَّمتُ عليه. فقال: "عوف؟ " فقلت: نعم. فقال: "ادخل". قال: قلت: كُلِّي أو بَعْضي؟ قال: "بل كُلُّك". قال: "اعدُدْ يا عوف سِتًّا بين يدي الساعة. أوَّلهُنّ موتي". قال: فاستبكيتُ حتى جَعَل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسْكِتُنِي. قال: "قل: إحدى". قلت: إحدى. "والثانية: فتح بيت المقدس، قُل: اثنتين". فقلت "والثالثة: مُوتَان يكون في أمّتِي يأْخُذُهُم مثلَ قُعَاصِ الغَنَم، قل: ثلاثًا". فقلت "والرَّابعَةُ: فِتْنَة تَكونُ في أُمَّتِي". وَعظَّمها. "قل: أربعًا. والخامسة: يَفِيضُ المال فيكُمْ، حتى إن الرَّجُل ليُعْطَى المئةَ دينار، فَيسْخَطُها، قلْ: خَمسًا، والسادسة: هُدْنَة تَكُونُ بينكم، وبين بني الأصفر، فيَسِيرُونَ إلَيْكُمْ على ثمَانِين غايةً" قلت: وما الغاية؟ قال: "الراية، تحتَ كُلِّ غايةٍ اثنا عشَرَ ألْفًا، فُسطاط المُسلمين يَوْمَئذٍ في أرْضٍ يُقَال لَهَا: الغُوطَةُ، في مدينة يقال لها: دِمَشقُ". تفردّ به أحمد من هذا الوجه

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا هشام بن عمّار، حدّثنا يحيى بن حَمْزة، حدّثنا ابن جابر

(4)

، حدثني زيدُ بن أرْطَاة، سمعتُ جُبَيْر بن نُفَيْرٍ، يُحدّث عن أبي الدرداء أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن فُسطاطَ المُسلمين يوم المَلْحَمة بالغُوطَةِ، إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خَيْر مَدائِن الشام"

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن النهّاس بن قَهْمٍ، حدّثني شدّاد أبو عمّار، عن مُعاذ بن جَبَل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سِت من أشراط الساعة: مَوْتي، وفتحُ بَيْتِ المقدس، وموتٌ

(1)

رواه البخاري رقم (3176) وأبو داود رقم (5000) وابن ماجه (4042) والطبراني في "الكبير"(18/ 70).

(2)

رواه أبو داود رقم (5000) وهو حديث صحيح دون التفسير، والتفسير عقبه (5001) من قول عثمان بن أبي العاتكة.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 25) وهو حديث صحيح.

(4)

في الأصول: أبو جابر، وهو خطأ.

(5)

رواه أبو داود رقم (4298) وأحمد في المسند (5/ 197) من طريق يحيى به، وهو صحيح.

ص: 60

يأخُذُ في النّاس كقُعَاصِ الغَنَم،. وفتْنةٌ يَدْخُلُ حربها بَيْت كُلِّ مُسْلِمٍ، وأن يُعْطَى الرَّجُلُ أَلف دِينَارٍ فَيَسْخَطُهَا، وأَن تَغْدِرَ الرُّومُ فَيَسِيروُنَ بِثَمانِينَ بندًا، تحت كل بَند اثنا عشر ألفًا"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، وعَفّان، قالا: حدّثنا همّام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن زياد بن ربَاح عن أبي هريرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"بادرُوا بالأعمال سِتًّا، طُلُوع الشَّمْسِ مِنْ مغرِبهَا، والدّجالَ، والدُّخَانَ، ودابّة الأرض، وخُوَيْصَّة أحدِكُمْ، وأُمَرَاء العَامّة" وكان قَتَادَةُ يقول: إذا قال: "وأمر العامّة"، يعني أمر الساعة. وهكذا رواه مسلم من حديث شُعْبة، وعبد الصمد، كلاهما عن هَمَّام به، ثم رواه أحمد مُنفردًا به، عن أبي داود، عن عمران القطّان، عن قتادة، عن عبد اللَّه بن رَبَاح، عن أبي هريرة، مرفوعًا مثله

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا إسماعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمالِ سِتًّا: طُلوعَ الشمْس من مَغرِبِها، والدّجّال، والدُّخَان، والدّابّة، وخاصّة أحَدِكم، وأمْرَ العامة". ورواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المَدَني به

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سُفيان بن عُييْنةَ، عن فُرَات، عن أبي الطُّفَيْل، عن حُذَيفة بن أسِيد، قال: اطّلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، ونحن نتذاكر الساعة، فقال:"ما تَذْكُرون؟ " قالوا: نذكر الساعة، فقال:"إنّها لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَروا عَشر آيات: الدُّخَان، والدَّجّال، والدّابة، وطلوع الشمس من مَغْرِبها، ونُزُولَ عِيسى ابنِ مَرْيم، ويَأجُوجَ وماجوج، وثلاثة خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخَسْفٌ بجَزِيرَةِ العَرَب، وآخِرُ ذلك نارٌ تخرجُ من قِبَل عَدَن، تطردُ الناس إلى مَحْشَرِهم" قال أبو عبد الرحمن، عبد اللَّه بن الإمام أحمد: سقط كلمةٌ. ثمّ رواه أحمد من حديث سُفْيان الثوريّ، وشُعْبَة، كلاهما عن فُرات القَزّاز، عن أبي الطُّفَيلِ، عامر بن واثِلَة، عن حُذَيْفة بن أسِيد، أبي سَريحة الغِفَاريّ. . . فذكره، وقال فيه:"ونارٌ تخرجُ من قَعْرِ عَدَن، تسُوقُ أو تَحْشُر النَّاس، تبيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وتَقِيلُ مَعَهُمْ حيث قَالوا" قال شعبة: وحدثني بهذا الحديث رجل عن أبي الطُّفَيْل عن أبي سَرِيحَة، ولم يرفعهُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أحد هذين الرَّجُلَين: نزولَ عِيسَى ابن مَرْيم، وقال الآخرُ: ريحٌ تُلْقِيهِمْ في البَحْر". وقد رواه مسلم من حديثِ سفيان بن عُيَيْنَةَ، وشُعْبَة، عن فُرات القزاز، عن أبي الطُّفَيلِ، عن حُذَيفة بن أَسِيد به، وفي رواية له عن شعبة، عن عبد العزيز ابن رُفَيع، عن أبي الطُّفيل، عن حُذَيفةَ بن أسِيد موقوفًا،

(1)

رواه أحمد (5/ 228) وهو حديث حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 324 و 511) ومسلم رقم (2947)(129).

(3)

أحمد في المسند (2/ 372) ومسلم (2947)(128).

ص: 61

ورواه أهل السُّنن الأربعة، من طُرق، عن فرات القزّاز به، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(1)

.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمةِ عبد اللَّه بن زياد بن سليمان بن سِمْعانَ، أبي عبد الرحمن القرشي المدني من طريقهِ، حدَّثني الزهريُّ

(2)

، حدثني عبيدُ اللَّه بن عتبةَ، عن أبي سريحةَ حذيفةَ بن أَسِيدٍ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ عَشْرُ آيَاتٍ كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْطِ، إذَا سَقَطَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ تَوَالَتْ: خروج الدَّجَّالِ، وَنُزُولُ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ، وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا. . . " وذكَر الحديثَ. هذا لفظُه.

وقال أبو يعلى: ثنا عقبةُ بن مُكْرَمٍ، ثنا يونسُ، ثنا عبدُ الغفارِ بنُ القاسمِ، ثنا إيادُ بنُ لَقِيطٍ، عن قَرَظَةَ بنِ حسَّانَ، سمِعت أبا موسى في يومِ جُمُعةٍ على مِنْبرِ البصرةِ يقول: سُئِل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ وأنا شاهدٌ، فقال:"لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ، لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا؛ إنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا رَدْمًا مِنَ الْفِتَنِ، وَهَرْجًا". فقيل له: وما الهرجُ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "هُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ. وَأَنْ تَجِفَ قُلُوبُ النَّاسِ، وَيُلْقَى بَيْنَهُمُ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا، [وَيُرْفَعُ ذَوُو الْحِجَا، وَتَبْقَى رِجْرِجَةٌ] مِنَ النَّاسِ لَا تَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا تُنْكِرُ مُنْكَرًا

(3)

.

‌ذكر قتال الملحمة مع الروم الذي يكون آخره فتح القسطنطينية

وعند ذلك يخرج الدّجال، فينزل المسيح عيسى ابن مريم من السماء إلى الأرض، على المَنَارةِ البَيْضَاء الشرقية، بدِمَشْق، وقتَ صلاة الفَجْر، كما سيأتي بيانُ ذلك كله، بالأحاديث الصحيحة.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مُصْعَب، هو القَرقسَانِيّ، حدثنا الأوزاعيّ، عن حسان بن عطيّة، عن خالد بن مَعْدان، عن جُبَيْر بن نُفَيرٍ، عن ذي مِخْمَرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"تصالحون الروم صُلْحًا آمنًا، وتَغْزُون أَنتُم وهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرائهم، فتَسْلَمُونَ وَتغْنَمُونَ، ثمّ تنزلونَ بَمرْجٍ ذي تُلُول، فيقوم رجل مِنَ الرّوم، فيرفعُ الصَّلِيبَ، ويقول: ألا غَلبَ الصليبُ، فيقوم إليه رجل من المسلمين، فيقتلهُ، فعند ذلك تغدر الرُّوم، وثكون الملَاحم، فيجمَعُونَ لكم، فيأتونكم في ثمانين غَايَة، مع كلّ غَاية عَشَرةُ آلافٍ".

(1)

أحمد في المسند (4/ 6 و 7) ومسلم رقم (2911) وأبو داود (4311) والترمذي (2183) والنسائي في "الكبرى"(11482) وابن ماجه (4041).

(2)

في الأصل: الزبيري.

(3)

رواه أبو يعلى في "مسنده" رقم (7228) وإسناده ضعيف، وفي الصحيح طرف من أوله.

ص: 62

ثم رواه أحمد عن رَوح، عن الأوزاعيّ به، وقال فيه:"فعند ذلك تغدر الرُّوم ويجمعون للمَلْحَمةِ"، وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه، من حديث الأوزاعي به

(1)

.

وقد تقدم في حديث عوف بن مالك في "صحيح البخاريّ": "فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عَشَر ألفًا"

(2)

وهكذا في حديث شدّاد أبي عمّار، عن مُعاذٍ:"فيسيرونَ إليكُمْ بثَمانين بَنْدًا، تحت كلّ بَنْدٍ اثنَا عَشَر ألفًا"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة، عن أُسَير بن جابر، قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هِجِّيرَى

(4)

إلّا يَا عَبْد اللَّه بن مسعود، جاءت الساعة، قال: وكان مُتّكئًا فجَلَس، فقال: إنّ الساعة لا تقومُ حتى لا يُقْسَمَ مِيراثٌ، ولا يُفْرَح بِغَنِيمة. قال: ومم ذاك؟ قال: عدوٌّ يَجْمَعُونَ لأهلِ الإسلام، ويجمعُ لهم أهلُ الإسلام، ونحا بيده نحو الشام. قلت: الرومَ تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال رَدّةٌ شديدة، قال: فيشترط المسلمون شُرْطَةً للموت، لا ترجع إلّا غالبةً، فيقتتلون، حتى يَحْجِزَ بينهم الليل، فيفيءُ هؤلاءَ وهؤلاء، كلٌّ غيرُ غالب، وتَفْنَى الشُّرطَةُ، ثم يشترط المسلمون شُرْطة للموت، لا ترجعُ إلّا غالبةً، فيقتتلون حتى يَحْجِزَ بينَهُمُ الليلُ، فيفيءُ هؤلاء، وهؤلاء، كلٌّ غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شُرْطَةً للموت، لا ترجع إلّا غالبةً، فيقتتلون حتى يُمْسُوا، فيفيءُ هؤلاء، وهؤلاء، كلٌّ غيرُ غالب، وتفنى الشّرطة، فإذا كان اليومُ الرابع نَهَدَ إليهم [بقية] أهل الإسلام، فيجعلُ اللَّه الدَّبْرة عليهم، فيقتتلون مَقْتَلَةً، إمّا قال: لا يُرى مثلُها، وإمّا قال: لم يُرَ مِثْلُهَا، حتى إنّ الطائر لَيَمُرُّ بِجَنَباتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهمْ حَتى يَخِرّ ميتًا، قال: فيتعادُّ بنو الأب، كانوا مئةً، فلَا يجدُونَهُ بقي منهم إلا الرجل الواحدُ، فبأيّ غنيمة يُفْرَحُ؟ أو أيّ ميراث يُقَاسَمُ، فبَيْنما هم كذلك إذ سَمِعُوا بِبَأسٍ هو أكبرُ من ذلك، قال: فَجَاءهم الصَّريخُ، إنّ الدّجالَ قد خَلَفَهُمْ في ذَرَارِيهِمْ، فيَرْفُضُونَ ما في أيديهمْ، ويُقْبلُونَ فيبعثون عَشَرةَ فَوارسَ طَلِيعةً، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خُيُولِهمْ، هُمْ خير فَوارِسَ على ظَهْر الأرض يومئذٍ". تفرّد بإخراجه مسلم، فرواه عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة وعليّ بن حُجر، كلاهما عن إسماعيل بن عُلَيَّة، ومن حديث حمّاد بن زيد، كلاهما عن أيّوب، ومن

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 91) وأبو داود (4292) وابن ماجه (4089). وهو حديث صحيح، وليس في سند روح في مسند الإمام أحمد: جبير بن نفير، وإنما هو من زيادة القرقساني كما صرح بذلك ابن حجر في "أطراف المسند".

(2)

رواه البخاري رقم (3176) من حديث عوف بن مالك.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 228) وهو حديث حسن.

(4)

الهِجِّيرى: العادة المستمرة.

ص: 63

حديث سُلَيْمان بن المُغِيرة، كلاهما عن حُمَيْد بن هلال العَدويّ، عن أبي قتادة العَدويّ. وقد اختُلِف في اسمه، والأشهرُ ما ذكره ابن مَعين: أنه تَميِمُ بن نُذَيْر، ووثقه، وقال ابن مَنْدَه وغيره: كانت له صُحْبَة، فاللَّه أعلم

(1)

.

وتقدّم من رواية جُبَيْر بن نُفَيْر، عن عَوْفِ بن مالك في تَعْدَادِ الأشْراط بين يَدَيِ الساعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"والسادسة هُدْنَةٌ تكونُ بَيْنَكم وبين بَني الأصفر، فيَسِيرون إليكم في ثمانين غايةً، تحتَ كلِّ غاية اثنا عشر ألفًا، وفُسْطاطُ المسلمين يومئذ في أرضٍ يُقال لها: الغُوطَةَ، في مدينةٍ يقال لها: دمشق" رواه أحمد

(2)

. وروى أبو داود، من حديث جُبَيْر بن نُفَيْر أيضًا، عن أبي الدرداء: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ فُسطاطَ المُسلمين يوم المَلْحَمَةِ بالغُوطَةِ إلى جانب مدينةٍ يقالُ لها: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْر مدائن الشام"

(3)

.

وتقدّم حديثُ أبي حَيّة، عن عبد اللَّه بن عمرو، في فتح القسطنطينية

(4)

وكذا حديث أبي قبيل في فتح رومية بعدها أيضًا

(5)

.

وقال مسلم بن الحجاج: حدثني زُهَيْر بن حَرْب، حدثنا مُعَلَّى بن منصور، حدثنا سُليمان بن بلال، حدثني سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:

"لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق

(6)

أو بدابق، فيخرج إليهم جيشٌ من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا قالت الروم: خلُّوا بيننا وبين الذين سُبُوْا مِنّا نُقَاتِلْهُمْ، فيقول المسلمون: لا واللَّه، لا نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزمُ ثُلُثٌ، لا يتوب اللَّه عليهم أبدًا، ويُقْتَلُ ثلثُهم، أَفْضَلُ الشهداء عند اللَّه، وَيَفْتَتِحُ الثلث، لا يُفْتَنُونَ أبدًا فَيَفْتَتِحُون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد عَلَّقُوا سُيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خَلَفَكُمْ في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج الدجال، فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسَوّون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابنُ مريم صلى الله عليه وسلم فأمَّهم، فإذا رآه عدوُّ اللَّه ذابَ كما يذوب المِلْح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يَهْلِكَ، ولكن يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فيريهمْ دَمه في حرْبته"

(7)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 435) ومسلم (2899) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(15/ 138).

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 25) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أبو داود (4298) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أحمد (2/ 174) وهو حديث حسن.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 176) وهو حديث حسن.

(6)

بين حلب وأنطاكية.

(7)

رواه مسلم رقم (2897).

ص: 64

وقال مسلم: حدثنا قُتْيبَةُ بن سعيد، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن ثور، وهو ابن زيد الدِّيليّ، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سمعتم بمدينةٍ جانبٌ منها في البرّ، وجانبٌ منها في البحر؟ " قالوا: نعم، يا رسول اللَّه، قال:"لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاحٍ، ولم يَرمُوا بسَهْم، قالوا: لا إلهَ إلّا اللَّهُ، واللَّه أكبر، فيسقط أحدُ جانبَيْها" قال ثور: لا أعلمه إلّا قال: "الذي في البحر""ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلّا اللَّه، واللَّه أكبر، فيُفَرَّجُ لهم، فيدخلوها فيَغْنَمُوا، فبينما هم يقتسمون المغانم، إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجَّال قد خرج، فيتركون كلّ شيء ويرجعون"

(1)

.

وقال ابن ماجه: حدثنا عليّ بن ميمون الرَّقِّي، حدثنا أبو يعقوب الحُنَيْنِيّ، عن كَثِير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تكون أدنى مسالح

(2)

المسلمين بِبَوْلَاء

(3)

" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ، يا عليّ، يا عليّ"، قال: بأبي وأمي، قال: "إنّكم ستقاتلون بني الأصفر، ويقاتلهم الذين مِنْ بعدكم، حتى تَخرجَ إليهم رُوقَة

(4)

الإسلام، أهلُ الحجاز الذين لا يخافون في اللَّه لَوْمةَ لائم، فيفتتحون القُسطنطينية بالتسبيح والتكبير، فيُصيبون غنائم لم يُصِيبُوا مثلَها، حتّى يقتسموا بالأَتْرِسَة، ويأتي آتٍ، فيقول: إن المَسِيح قَدْ خَرَج في بِلادِكُمْ، ألا وهي كِذْبة، فالآخذُ نادم والتارك نادم"

(5)

.

وقال مسلم: حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرة، عن نافع، عن عُتْبَة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "تغزون جزيرة العرب، فيفتحها اللَّه، ثم فارس، فيفتحها اللَّه، ثم تغزون الروم، فيفتحها اللَّه، ثم تغزون الدجّال فيفتحه اللَّه"

(6)

.

وقد روى مسلم من حديث الليث بن سعد: حدثني موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، قال: قال المُسْتَورِد القرشي عند عمرو بن العاص: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثرُ الناس" فقال له عمرو: أبْصِرْ ما تقول، قال: أقول ما سمعتُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت

(1)

رواه مسلم (2920).

(2)

المسالح: جمع مسلحة، وهي القوم الذين يحفظون الثغور من العدو.

(3)

اسم موضع بالحجاز.

(4)

أي: خيارهم.

(5)

رواه ابن ماجه رقم (4094) وكثير بن عبد اللَّه كذبه الشافعي وأبو داود، وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة.

(6)

رواه مسلم (2900).

ص: 65

ذلك إن فيهم لَخِصالًا أربعًا، إنهم لأحلم الناس عند فِتنةٍ، وأسرعُهم إفَاقةً بعد مُصِيبة، وأوشكهم كَرَّةً بعد فَرَّةٍ، وخيرهم لمسكين، ويتيم، وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعُهم من ظُلْم الملوك

(1)

.

ثم قال مسلم: حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبيّ، حدثنا عبد اللَّه بن وَهْب، حدثني أبو شُرَيح: أن عبد الكريم بن الحارث حدّثه: أن المستورد القُرَشيَّ قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثرُ الناس" قال: فبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال: ما هذه الأحاديث التي تُذْكر عنك أنك تقولها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال له المستورد: قلت الذي سمعتُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: فقال عمرو: لئن قلت ذلك إنّهم لأحلمُ الناس عند فِتْنةٍ، وأصبرُ الناس عند مصيبة، وخير الناس لمسَاكِينهم، وضُعَفائهم

(2)

.

وهذا يدلّ على أن الروم يُسْلِمُونَ في آخر الزمان، ولعلّ فتح القُسطنطينية يكون على يدي طائفةٍ منهم، كما نطق به الحديث المتقدّم أنه يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، والروم من سُلالة العِيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فهم أولاد عمّ بني إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، فالروم يكونون في آخر الزمان خيرًا من بني إسرائيل، فإن الدخال يتبعُه سبعون ألفًا من يهود أصْبهان، فهم أنصار الدخال، وهؤلاء -أعني الروم- قد مُدِحُوا في هذا الحديث، فلعلهم يُسلمون على يدي المسيح ابن مريم، واللَّه أعلم.

على أنه قد وقع في بعض الروايات: "من بني إسماعيل"، وقوَّى ذلك عياضٌ، وغيره، واللَّه أعلم.

وقال إسماعيل بن أبي أُوَيس: حدثنا كَثِيرُ بن عبد اللَّه بن عمرو بن عَوْف، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ستقاتلون بني الأصفر، ويقاتلهم مَنْ بعدكم من المؤمنين أهلُ الحجَاز، حتى يفتح اللَّه عليهم القُسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير، فَينهدم حِصْنُها فيصيبون مالًا لم يُصيبوا مثله قطّ، حتى إنهم يقتسمون بالأترسة، ثم يصرخ صارخ: يا أهلَ الإسلام، المسيحُ الدجال في بلادكم، وذراريكم، فينفَضّ الناس عن المال، منهم الآخذ، ومنهم التارك، الآخذ نادم، والتارك نادم، فيقولون: من هذا الصارخ؟ ولا يعلمون من هو؟ فيقولون: ابعثوا طليعةً إلى إيلياءَ، فإن يكن المسيحُ قد خرج فسيأتُونَكُمْ بِعلمه، فيأتون، فينظرون، فلا يرون شيئًا، ويرون الناس ساكتين فيقولون: ما صرخ الصارخ إلا لنبأٍ عظيم، فاعْتَزِمُوا، ثمّ ارتضوا، فيعتزمون أن نخرج بأجمعنا إلى إيلياء، فإن يكن الدجّال خرج نُقاتلْهُ بأجمعنا، حتى يحكم اللَّهُ

(1)

رواه مسلم (2898)(35).

(2)

رواه مسلم (2898)(36).

ص: 66

بيننا وبينه، وإن تكن الأخرى فإنّها بلادُكم وعشائِرُكم إن رجعتم إليها "

(1)

.

وقد روى الحافظ بهاءُ الدين ابن عساكر في كتابه "المستقصَى في فضائل الأقصَى" بسندٍ له، عن الأوزاعيُّ، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن كعب الأحبار أنّه قال: إنّ مدينة القسطنطينية شمتت بخراب بَيْت المقدس، يعني زمن بُخْت نصر، فتعزّزت، وتجَبَّرت، وشَمَخَتْ، فسماها اللَّهُ تعالى العاتِيَة المُسْتكبرة، وذلك أنّها قالت مع شماتتها ببَيْت المقدس: إن يكن عرشُ رَبِّي كان على الماء، فقد بُنيتُ أنا على الماء، فغضب اللَّه عليها، ووعدها العذابَ والخراب وقال لها: حلفتُ يا مُستكبرة، لما قد عَتَيْتِ عن أمري وتجبَّرتِ، لأبعثنّ عليكِ عبادًا لي مؤمنين، من مساكن سَبَأ، ثمّ لأُشجِّعَنَّ قلوبهم حتى أدعها كقلوب الأُسْدِ الضارية، ولأجعَلنّ صوتَ أحدهم عند البأس كصوت الأسد حين يخرُج من الغابة، ثم لأُرْعبَنّ قلوبَ أهلك، كرُعْبِ العُصفور، ثم لأنْزِعَنّ عَنكِ حَلْيَكِ، ودِيباجَكِ، وريَاشَكِ، ثم لأَتْرُكَنَّكِ جَلْحَاءَ قرعاء صلْعَاءَ، فإنّه طَال مَا أُشْرِكَ بي فيكِ، وعُبدَ غَيْري، وافْتُرِيَ عليّ، وأَمهَلْتُكِ إلى اليَوْمِ الذي فيه خِزْيُكِ، فلا تستعجلي يا عاتية، فإنّه لنْ يفوتني شيءٌ أريده.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أحمد، ثنا عبدُ الجبارِ بنُ العباس الشِّبامِي، عن أبي قيسي، قال عبد الجبار: أُراه عن هُزَيلٍ، قال: قام حذيفةُ خطيبًا في دارِ عامرِ

(2)

بن حنظلةَ فيها اليَمَنيُّ

(3)

والمُضَريُّ، فقال:"لَيَأْتِيَنَّ على مُضَرَ يَوْمٌ لَا يَدَعُونَ للَّهِ عَبْدًا يَعْبُدُهُ إلَّا قَتَلُوهُ، أَوْ لَيُضْرَبُنَّ ضَرْبًا لَا يَمْنَعُونَ ذَنَبَ تَلْعَةٍ". فقيل: يا أبا عبدِ اللَّه تقولُ هذا لقومِك -أو: لقومٍ أنت منهم- فقال: لا أقولُ إلا ما سمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول

(4)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَيْرِ بن نُفَيْر، عن مالك بن يُخَامِر، عن معاذ بن جَبَل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عُمرانُ بَيْتِ المَقدسِ خرابُ يَثْرِبَ، وخرابُ يَثْرِبَ خروج الْمَلحَمَة، وخروجُ الملحمةِ فتحُ القُسْطَنطينيةِ، وفتحُ القسطنطينية خروجُ الدّجّال" قال: ثم ضرب بيده على فخذِ الذي حدّثه أو مَنْكبِه، ثم قال:"إنّ هذا لَحقّ كما أنك هاهُنا" أو "كما أنك قاعد" يعني مُعاذَ بن جبل هكذا رواه أبو داود عن عباس العنبريّ، عن أبي النضر، هاشم بن القاسم به، وهذا إسناد جيّدٌ، وحديثٌ حَسَن، وعليه نُور الصّدق، وجلَالةُ النبوّة

(5)

.

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(17/ 22) وفيه كثير بن عبد اللَّه، وقد تقدم الكلام عليه قبل قليل أنه ضعيف ص (65).

(2)

كل من ترجمه سماه (عمرو بن حنظلة).

(3)

في المسند (التميمي).

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 404)، وهو حديث صحيح

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 645) وأبو داود (4294).

ص: 67

وليس المرادُ أن المدينة تخربَ بالكليّة، قبل خروج الدّجال، وإنما ذلك يكون في آخر الزمان، كما سيأتي بيانهُ في الأحاديث الصحيحية، بل يكون عِمَارةُ بَيْت المقدس سببًا في خراب المدينة النبوية، لأن الناس يرحلون منها إلى الشام لأجل الريف والرخص، فإنهُ قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الدّجال لا يدخلها، يمنعه من ذلك بما على أنقابها من الملائكة، بايديهم السُّيوفُ المُصْلَتَةُ.

وفي "صحيح البخاريّ" من حديث مالك، عن نُعيم المُجْمِر، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة لا يدخلها الطَّاعون ولا الدّجَّال"

(1)

.

وفي "جامع الترمذيّ": أن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا مات يُدفَنُ في الحُجْرة النبويّة

(2)

.

وقد قال مسلم: حدثني عمرو الناقد، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا زُهَيْرٌ، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تبلغ المساكنُ إهَابَ" أو "يِهَاب" قال زهير: قلت لسُهَيل: فكم ذلك من المدينة؟ قال: كذا وكذا ميلًا

(3)

.

فهذه العمارة إمّا أن تكون قبل عِمارة بيت المقدس، وقد تكون بعد ذلك بدَهْر، ثم تخرَب بالكلّية، كما دلّت على ذلك الأحاديث، التي سَنُوردها.

وقد روى القرطبيُّ، من طريق الوليد بن مُسلم، عن ابن لَهِيعَةَ، عن أبي الزُّبير، عن جابر: أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرُج أهلُ المدينة منها، ثمّ يعودون إلَيْها فيَعْمُرونَها، حتّى تَمتلئ، ثم يخرجون منْها، ثم لَا يعودُونَ إلَيْها أبدًا"

(4)

.

وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا مثلهُ: وزاد: "ولَيَدَعُنَها وهي خير ما تكون مونِعة" قيل: فمن يأكُلها؟ قال: "الطَّيرُ، والسِّباع"

(5)

.

وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يَتْركُونَ المدينة على خَيْرِ ما كانَتْ، لا يغشاها إلا العَوافي" يريد عَوافِيَ السِّباع والطير "ثم يخرجُ راعيانِ من مُزَيْنَة يُريدان

(1)

رواه البخاري (7133).

(2)

الترمذيّ (3617) وهو من نقل عبد اللَّه بن سلام عن التوراة، وإسناده إليه ضعيف.

(3)

رواه مسلم رقم (2903).

(4)

رواه عمر بن شَبَّة في "تاريخ المدينة"(1/ 283) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه عمر بن شَبَّة في "تاريخ المدينة"(1/ 280 - 281) وفيه أبو هارون العبدي وهو متروك.

ص: 68

المدينةَ يَنْعِقانِ بغنمهما، فيجدانها وحْشًا، حتى إذا بلغا ثَنِيّةَ الوادع خَرّا على وجُوهِهِمَا"

(1)

.

وفي حديث حُذَيْفة: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أشياء، إلّا أنّي لم أسألْهُ: ما يُخْرِجُ أهلَ المدينة منها

(2)

؟

وفي حديث آخر، عن أبي هريرة:"يَخْرُجُونَ منها ونصفُ ثَمرِها زَهْوٌ، ونصفها رُطَبٌ" قيل: ما يُخْرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال: أُمَراءُ السُّوءِ

(3)

.

وقال أبو داود: حدثنا ابن نُفَيْل، حدثنا عيسى بن يونس، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الوليد بن سفْيان الغسّانيّ، عن يزيد بن قطيب السَّكُونيّ، عن أبي بحْرِيةَ، عن مُعاذ بن جبل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المَلحمَةُ الكُبرى، وفتْحُ القْسطَنْطِينيّة، وخروج الدجّال في سبعة أشهر". ورواه الترمذيّ، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ، عن الحكم بن المبارك، عن الوليد بن مسلم به، وقال: حسن [غريب] لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وفي الباب عن الصعب بن جَثّامة، وعبد اللَّه بن بُسْر، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي سعيد الخُدْريّ. ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمّار، عن الوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عيّاش، عن أبي بكر بن أبي مَرْيَم به

(4)

.

وقال الإمام أحمد، وأبو داود، واللفظ له: حدثنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْح الحِمْصيّ، حدثنا بقيّة، عن بَحيْر بن سعد، عن خالد هو ابن مَعْدَان، عن ابن أبي بلال، عن عبد اللَّه بن بسر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بين الملحية وفتح المدينة ستُّ سنين، ويخرجُ الدجّال في السابعة".

وهكذا رواه ابن ماجه عن سُوَيد بن سعيد، عن بَقِيّة بن الوليد به

(5)

، وهذا مشكل مع الذي قبله، اللهمّ إلّا أن يكون بين أول الملحمة وآخرها ستّ سنين، ويكون بين آخرها وفتح المدينة، وهي القسطنطينية مدّة قريبة، بحيث يكون ذلك مع خروج الدجّال في سبعة أشهر، واللَّه أعلم.

وقال الترمذيّ: حدثنا محمود بن غَيْلان، حدثنا أبو داود، عن شُعْبة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك، قال: فتحُ القسطنطينية مع قيام الساعة، قال محمود: هذا حديث غريب. والقسطنطينية هي مدينة الرُّوم تُفتحُ عند خروج الدجّال، والقسطنطينية قد فُتِحَتْ في زمان بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

(6)

. هكذا قال: إنّها فُتحت في زمن الصحابة، وفي هذا نظر، فإنّ مُعاويةَ بَعث إليها

(1)

رواه مسلم (1389).

(2)

رواه مسلم (2891)(24).

(3)

أخرجه عمر بن شَبَّة في "تاريخ المدينة"(1/ 277 - 278) موقوفا على أبي هريرة، وفي إسناده ضعف.

(4)

رواه أبو داود (4295) والترمذي (2238) وابن ماجه (4092) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد (4/ 189) وأبو داود (4296) وابن ماجه (4093) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه الترمذي رقم (2239) كذا قال محمود بن غيلان، ولا يصح، بل فتحت القسطنطينية في عهد السلطان =

ص: 69

ابنَه يزيدَ في جيش فيهم أبو أيُّوبَ الأنصاريّ، ولكن لم يتفق له فتحها، وحاصرها مَسْلَمةُ بن عبد الملك بن مروان، في زمان دولتهم، ولم تُفتح أيضًا، ولكنْ صالحهم على بناء مسجد بها، كما قدمنا ذلك مبسوطًا، واللَّه تعالى أعلم.

‌ذكر خروج الدجال بعد وقوع الملحمة الرومية وفتح القسطنطينية

ولنذكر قبل ذلك مُقدِّمة فيما ورد في ذِكر الكذّابين الدخالِيْن الذين هم كالمقدِّمة بين يَدَيْه، ويكون المسيح الدجّال خاتَمُهمْ قبحه اللَّه وإيّاهُمْ، وجعل نار الجحيم مُنْقَلَبَهُمْ ومَثْواهُمْ.

روى مسلم في "صحيحه" من حديث شُعْبة وغيره، عن سِماك، عن جابر بن سَمُرة قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بَيْنَ يدي الساعة كذّابين" قال جابر: فاحذروهم

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا موسى، حدثنا ابن لَهيعَة، عن أبي الزُّبير، عن جابر أنه قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"بين يدي الساعة كذّابون، منهم صاحب اليمامة، ومنهم صاحب صنعاء العَنْسِي، ومنهم صاحبُ حِمْير، ومنهم الدجّال، وهو أعظمهم فتنةً" قال جابر: وبعض أصحابي يقول: "قريبٌ من ثلاثين كذابًا". تفردّ به أحمد

(2)

.

وثبت في "صحيح البخاريّ"، عن أبي اليمان، عن شُعَيْب، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يُبْعَثَ دخالون، كذّابون، قريب من ثلاثين، كلٌّ يزعمُ أنّه رسول اللَّه. . . " وذكر تمام الحديث بطوله

(3)

.

وفي "صحيح مسلم" من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى يُبْعَثَ دخالون، كذّابون قريب من ثلاثين، كلٌّ يزعمُ أنّه رسول اللَّه". حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَرٌ، عن هَمَّام بن مُنبّه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، غير أنّه قال:"ينبعث"

(4)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبة، سمعت العَلَاء بن عبد الرحمن، يُحدّث، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"لا تقوم الساعة حتى يظهر ثلاثُونَ دَجَّالونَ، كلّهم يزعم أنه رسول اللَّه، ويَفِيضُ المالُ فيكثر، وتظهَرُ الفِتَنُ، ويكثرُ الهَرْجُ" قال: قيل:

= محمد الفاتح سنة (857) هـ.

(1)

رواه مسلم (2923).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 345) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه البخاري (7121).

(4)

رواه مسلم (175) الذي بعد (2923).

ص: 70

أيُّمَا الهَرْجُ؟ قال: "القتلُ، القتل" ثلاثًا. تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مُسلم، وقد رواه أبو داود عن القَعْنَبيّ، عن الدّرَاورْدِيّ، عن العَلَاء به

(1)

.

ومن حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمَة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يَخْرُجَ ثلاثون دجّالًا كذَّابًا كلهم يكذبُ على اللَّه ورسوله"

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا يحيى، عن عوف، حدثنا خِلَاس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"بين يدي الساعة قريبٌ من ثلاثين دجّالين، كذابين، كلهم يقول: أنا نبيّ، أنا نبيّ". وهذا إسناد جيّد حسن، تفرّد به أحمد أيضًا

(3)

.

وقال أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا سَلَامَانُ بن عامر، عن أبي عُثْمانَ الأصْبَحِيّ: سمعتُ أَبا هريرة يقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي دَجّالونَ كذَّابُون، يأتونكم ببدْع من الحديث بما لم تَسْمَعُوا أنْتُم ولَا آباؤُكُمْ، فإياكُمْ وإيّاهُمْ لا يَفْتِنُونكُمْ"

(4)

.

وقال الحافظ أبو يَعْلَى الموصلي: حدثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا محمد بن الحَسَن الأَسْدِيّ، حدّثنا هارون بنُ صالح الهَمْدَانيّ، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي الجُلاس، قال: سمعتُ عليًّا يقول لعبد اللَّه السَّبئي: ويلك، واللَّه ما أفْضَى إليّ بشَيْءٍ كتمتهُ أحدًا من الناس، ولقد سمعتهُ يقول:"إنّ بين يدي الساعة ثلاثينَ كذَّابًا، وإنك لأحدُهم". ورواه أيضًا عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة عن محمد بن الحسن به

(5)

.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثَوْبانَ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّه سيكونُ في أُمتي ثلاثون كذّابُونَ، كلُّهم يزعمُ أنّه نبي، وأنا خَاتمُ النبيين، لا نبيّ بعدي. . . " الحديث بتمامه

(6)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا عُبيْدُ اللَّه بن إياد بن لَقيط، حدثنا إياد، عن عبد الرحمن بن نُعْم أو نُعَيْم الأعْرجيّ، شَكَّ أبو الوليد، قال: سأل رجل ابن عمر عن المُتْعَة، وأنا عنده، مُتْعَةِ النِّساءِ، فقال: واللَّه ما كُنّا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زانِينَ، ولا مُسَافِحينَ، ثم قال: واللَّه

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 457) وأبو داود (4333) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أبو داود (4334) وهو حديث حسن.

(3)

رواه أحمد (2/ 429) أقول: وفي سنده انقطاع، وهو حديث صحيح لغيره انظر مسند أحمد رقم (7228).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 349) وهو حديث حسن.

(5)

رواه أبو يعلى رقم (449) و (450) وإسناده ضعيف.

(6)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 278) وأبو داود رقم (4252) والترمذي (2219) وابن ماجه (3952) وأخرج مسلم (2889) أصله مطولًا بغير هذا اللفظ.

ص: 71

لقد سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونَنّ قبل يوم القيامة المسيحُ الدجال، وكذَّابُون ثلاثون، أو أكثر". ورواه الطبرانيّ من حديثِ مُوَرِّق العِجْليّ، عن ابن عمر، بنحوه، تفرد به أحمد

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حَمّادٌ، وهو ابن سَلَمة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مِهران، عن عبد اللَّه بن عمر: أنه كان عنده رجل من أهل الكوفة، فجعل يحدِّثه عن المختار، فقال ابن عمر: إنْ كان كما تقول فإني سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بينَ يدي الساعة ثلاثين دجالًا كذابًا". تفرّد به أحمد من هذا الوجه

(2)

.

وقد رواه سعيد بن عامر، عن ابن عمر، ولكن قال:"سبعون". قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا ابن فضيل، عن لَيْث، عن سعيد بن عامر، عن ابن عمر، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن في أمتي لنَيِّفًا وسبعين داعيًا، كلّهم دَاعٍ إلى النار، لو أشاء لأنبأتُكُمْ باسمائهم، وقبائِلهم". وهذا إسناد لا بأس به

(3)

، وقد روى ابن ماجه به حديثًا في الكَرْع والشُّرْب باليد

(4)

.

وقال أبو يعلى: حدثنا زُهَيْر، حَذثنا جَرِير، عن لَيْث، عن بِشْر، عن أنَس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون قبل خروج الدجّال نيّف على سبعين دجالًا". فيه كرابة، والذي في الصحاح أثبت، واللَّه أعلم

(5)

.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرزّاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزُّهريّ، عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف، عن أبي بَكْرةَ، قال: أكثَر الناسُ في مُسَيْلمةَ قبل أن يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال:"أمّا بعدُ، ففي شأن هذا الرجل الذي قد أكثرتُمْ فيه، وإنه كذاب من ثلاثين كذَّابًا، يخرجون بين يدي الساعة، وإنه ليس بلد إلا يبلغها رُعْبُ المسيح، إلا المدينة، على كل نقب من نقابها ملكان يَذُبّانِ عنها رُعْبَ المسيح".

وقد رواه أحمد أيضًا عن حجّاج، عن الليث بن سعد، عن عَقِيل، عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف، أنّ عياض بن مُسافِع أخبره عن أبي بَكْرةَ. . . فَذَكره، وقال فيه: "إنه كذاب، من ثلاثين كذابًا، يخرجون قبل الدجَّال، وإنّه ليس بلدٌ إلّا سَيَدْخُلها رُعْب المسيح الدجّال، إلّا المدينة،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 95) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 117 - 118) وإسناده ضعيف، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(3)

رواه أبو يعلى رقم (5701) أقول: فيه ليث بن أبي سليم، وهو صدوق اختلط لم يتميز حديثه فترك.

(4)

رواه ابن ماجه رقم (3433) وإسناده ضعيف كسابقه.

(5)

رواه أبو يعلى رقم (4055) وإسناده ضعيف.

ص: 72

على كلّ نَقْب من نِقَابها

(1)

يومئذ مَلَكَان يَذُبّان عنها رُعْبَ المسيح". تفرّد به أحمد من الوجهين

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو جعفر المدائنيّ، وهو محمد بن جعفر، حدثنا عبّاد بن العوّام، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمام الدجّال سنينَ خدّاعة، يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذب فيها الصَّادِقُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، ويُؤْتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويَتكلَّمُ فيها الرُّوَيبِضةُ" قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: "الفُوَيْسِقُ، يتكلم في أمر العامَّة". وهذا إسناد جيّد، قوي، تفرَّد به أحمد، من هذا الوجه

(3)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا عليُّ بن عبد اللَّه، قال: ثنا معاذٌ، يعني ابنَ هشام قال: وجَدْتُ في كتابِ أبي بخطِّ يده، ولم أسمَغه مِنه، عن قتادةَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ النّخَعيِّ، عن هَمَّامٍ، عن حُذَيفةَ، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم-قال:"فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لا نَبِيَّ بَعْدِي"

(4)

.

‌الكلام على أحاديث الدجال

قال مسلم: حدثني حَرْمَلةُ بن يحيى بن عبد اللَّه بن حَرْمَلة بن عِمْران التُّجِيبِي، أخبرني ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد اللَّه أخبره: أن عبد اللَّه بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رَهْطٍ قِبَل ابن صيّاد حتى وجده يلعبُ مع الصِّبيانِ عند أُطُمِ بني مَغالة، وقد قارب ابنُ صيَّاد يَوْمَئِذٍ الحُلُم، فلم يَشْعُر حتى ضَرَبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ظهْرَهُ بِيَدِهِ، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن صياد:"أتَشْهدُ أَنِّي رسول اللَّه؟ " فنظر إليه ابن صَيّاد فقال: أشهدُ أنّك رسول الأميِّين، فقال ابنُ صَيّاد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتشهدُ أنِّي رسول اللَّه؟ فرفضه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"آمنتُ باللَّه وبرُسُله" ثم قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ماذا ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادق، وكاذب، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خُلِّطَ عليك الأمرُ" ثم قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني قد خَبَأْتُ لك خبيئًا" فقال ابنُ صيّاد: هو الدُّخُّ

(5)

، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اخْسَأ فلن تَعْدُوَ قدرك" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذَرْني يا رسول اللَّه أضرِبْ عُنُقَهُ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنْ يَكُنْهُ فلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله". وقال سالم بن عبد اللَّه: سمعتُ عبد اللَّه بن عمر يقول:

(1)

النقاب: الطريق بين الجبلين.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 41 و 46) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20843) وهو حديث ضعيف، لكن جملة "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجَّال" صحيحة.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 220) أقول: فيه عنعنة ابن إسحاق، وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 396) وهو حديث صحيح.

(5)

هو الدخان.

ص: 73

انطلق بعد ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبَيُّ بنُ كعب الأنصاريّ إلى النخل التي فيها ابنُ صيّاد؛ حتى إذا دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النخلَ طَفِقَ يتَّقِي بجُذُوع النَّخْلِ وهو يَخْتِلُ

(1)

أن يسمع من ابن صيّاد شيئًا قبل أن يراه ابنُ صيّاد، فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة له، فيها زمزمة

(2)

، فرأت أم ابن صياد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صيّاد: يا صاف، وهو اسم ابن صيّاد، هذا محمد، فثار ابنُ صيّاد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو تَرَكَتْهُ بَيَّن"

(3)

. قال سالم: قال عبد اللَّه بن عمر: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثْنَى على اللَّه تعالى بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال:"إني لأنذركموه، ما من نبيّ إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبيّ لقومه: تَعَلَّمُوا أنه أعْوَرُ، وأن اللَّه تبارك وتعالى ليس بأعور" وقال ابن شهاب: وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاريّ: أنه أخبره بعضُ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يوم حذَّر الناس الدجّال: "إنّه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كَرِهَ عَمله، أو يقرؤه كلّ مؤمن" وقال: "تَعَلَّمُوا أنه لن يرى أحدٌ منكم رَبه عز وجل حتى يموت". وأصل الحديث عند البخاريّ من حديث الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه، بنحوه

(4)

.

وروى مسلم أيضًا من حديث عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجّال بين ظَهراني الناس فقال: "إنّ اللَّه تبارك وتعالى ليس بأعور، ألا وإنّ المسيح الدخال أعورُ العين اليُمْنَى، كأنّ عَينه عِنَبَةٌ طافئة"

(5)

.

ولمسلم من حديث شُعْبة، عن قَتَادَة، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمّته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه ك ف ر". رواه البخاريّ من حديث شُعْبَة بنَحْوِه

(6)

.

قال مسلم: وحدثني زُهَير بن حرب، حدثنا عَفّان، حدثنا عبد الوارث، عن شُعيب بن الحَبْحَابِ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدجّال مَمْسُوحُ العَيْنِ، مكتوب بين عينيه: كافر" ثم تَهَجّاهَا: ك ف ر "يقرؤه كل مسلم"

(7)

.

وقال أحمد: ثنا يزيدُ بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق، عن داودَ بن عامر بن سعدِ بن مالكٍ،

(1)

أي يحاول في استخفاء أن يسمع شيئًا.

(2)

الزمزمة: الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم.

(3)

أي لو تركته أمه بين أمره.

(4)

رواه مسلم رقم (2930) مع (2931) مع (169) الذي بعده. والبخاري رقم (6173 - 6174) و (6175).

(5)

رواه مسلم رقم (169) الذي بعد (2932).

(6)

رواه مسلم رقم (2933) والبخاري رقم (7131).

(7)

رواه مسلم رقم (2933)(103).

ص: 74

عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا وَصَفَ الدَّجَّالَ لأُمَّتِهِ، وَلأَصِفَنَّهُ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي؛ إنه أَعْوَرُ، واللَّهُ عز وجل لَيْسَ بِأَعْوَرَ". لم يُخْرِجوه، وإسناده جيِّدٌ

(1)

.

ولمسلم من حديث الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدجَّال أعور العين اليسرى، جُفال الشعر

(2)

، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار"

(3)

.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لأنا أعلم بما مع الدجّال منه، معه نهران يَجْريان، أحدهما رَأْيَ العَيْنِ ماءٌ أبيضُ، والآخرُ رَأْيَ العَيْنِ نارٌ تاجَّجُ، فإما أدركنَّ أحدٌ، فلْيَأْتِ النهرَ الذي يراه نارًا ولْيُغْمِضْ، ثم لْيُطأطئ رَأْسَهُ فيَشْرب منه، فإنه ماءٌ بارد، وإنّ الدخال مَمْسوح العَيْن، عليها ظَفَرَةٌ

(4)

غَلِيظَةٌ، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتبٍ وغير كاتبٍ".

ثم رواه من حديث شُعْبة، عن عبد الملك بن عُمَيْر، عن ربِعيّ، عن حُذْيفَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، قال ابن مسعود: وأنا سمعتُه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاريُّ من حديث شُعْبَة بنحوه

(5)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمدُ بن جعفر، ثنا شعبةُ، عن أبي التَّياحِ، سمِعتُ صخرًا يُحدِّثُ عن سُبَيْعٍ

(6)

قال: أرسَلوني من ماه

(7)

إلى الكوفةِ أشتري الدوابَّ، فأتينا الكُنَاسةَ، فإذا رجلٌ عليه جَمْعٌ، فأمَّا صاحبي فانطلقَ إلى الدوابِّ، وأمَّا أنا فأتَيتُه، فإذا حذيفةُ، فسمِعتُه يقولُ: كان أصحابُ رسول للَّه صلى الله عليه وسلم يسأَلونه عن الخير، وكنت أسأَلُه عن الشرِّ، قلت: يا رسولَ اللَّه، هل بعد هذا الخيرِ من شر؟ قال:"نَعَمْ". قلت: فما العصمةُ مِنه؟ قال: "السَّيْفُ". قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "ثُمَّ تكُونُ هُدْنَةٌ على دَخَنٍ". قال: قلتُ: ثم ماذا؟ قال: "ثُمَّ تَكُونُ دُعَاةُ الضَّلَالَةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَالْزَمْهُ، وَإِنْ نَهَكَ جِسْمَكَ، وَأَخَذَ مَالَكَ، فإِنْ لَمْ تَرَهُ فَاهْرُبْ فِي الأَرْضِ، ولَوْ أَنْ تَمُوتَ وَأَنْتَ عاضٌّ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ". قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "ثمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ". قال: قلت: فَبِمَ يجيءُ به معَه؟ قال: "بِنَهَرٍ" -أو قال: "ماءٍ ونارٍ- فَمَنْ دَخَلَ نَهَرَهُ حَبِطَ أَجْرُهُ، وَوَجَبَ وِزْرُهُ، وَمَنْ دَخَلَ نَارَهُ وَجَبَ أَجْرُهُ، وَهَبَطَ وِزْرُهُ".

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 176) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(2)

أي كثيره. انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر"(1/ 280).

(3)

رواه مسلم رقم (2934)(104).

(4)

الظفرة: جلدة تغشي البصر.

(5)

رواه مسلم رقم (2934)(105) و (106) والبخاري رقم (7130).

(6)

في الأصل: سبيعة، وكتب فوقها: كذا. وفي الهامش: لعله ربيعة.

(7)

وهي مدينة في الدينور.

ص: 75

قال: قلتُ: ثم ماذا؟ قال: "لَوْ أَنْتَجْتَ فَرَسًا لَمْ تُرْكَبْ فُلُوُّهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"

(1)

.

وروى البخاري ومسلم، من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كَثِير، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم عن الدجّال حديثًا ما حَدَّثه نبيّ قومَه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه مثلُ الجَنّة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة، هي النار، وإني أنذرْتُكُم به، كما أنْذَرَ به نوح قَوْمه"

(2)

.

وروى مسلم من حديث محمد بن المُنْكَدِر قال: رأيت جابر بن عبد اللَّه يحلف باللَّه أنّ ابن صياد الدجّال، فقلت: أتحلف باللَّه تعالى؟ قال: إني سمعتُ عمر يحلف على ذلك عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وروى من حديث نافع، أن ابن عمر لقي ابن صيّاد في بعض طرق المدينة، فقال له ابن عمر قولًا أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السِّكّة. وفي رواية أن ابن صيّاد نَخَر كأشدّ نَخِيرِ حِمارٍ يكون، وأن ابن عمر ضربه حتى تكسّرت عصاه، ثم دخل على أخته حفصة، فقالت له: ما أردتَ من ابن صياد؟ أما علمتَ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنمّا يخرج من غضبةٍ يغضبُها"

(4)

.

قال بعض العلماء: ابن صيّاد كان بعضُ الصحابة يظنّه الدجّال الأكبر، وليس به، إنما كان دجّالًا من الدجاجلة صغيرًا، وقد ثبت في "الصحيح" أنه صحب أبا سعيد فيما بين مكة والمدينة، وأن ابن صيادٍ تَبرَّم إليه مما تقول الناس فيه: إنه الدجّال، ثم قال لأبي سعيد: ألم يقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يدخل المدينة" وقد وُلدْتُ بها، "وإنه لا يولد له" وقد وُلدَ لي، "وإنه كافر" وأنا قد أسلمت؟ قال: ومع هذا إني لأعلم الناس به، وأين مكانُه؟ ولو عُرِضَ عليّ أن أكون إياه لما كَرهْتُ ذلك

(5)

.

وقال أحمد: حدثنا عبد المتعال بن عبد الوهّاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد، عن أبي الوَدّاك، عن أبي سعيد، قال: ذُكر ابن صياد عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنه يَزْعُمُ أنه لا يمر بشيء إلَّا كلَّمه

(6)

.

وقال أحمد: ثنا أبو سعيد مولى بني هاشمٍ، حدَّثني مَهْدِيُّ بنُ عِمْرَانَ المازنِيُّ، سمِعتُ

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 403) وهو حديث حسن دون قوله: (لو أنتجت فرسًا لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة).

(2)

رواه مسلم رقم (2936) والبخاري (3338).

(3)

رواه مسلم (2929).

(4)

رواه مسلم رقم (2932).

(5)

رواه مسلم رقم (2947).

(6)

رواه أحمد في "المسند"(3/ 79) وإسناده ضعيف.

ص: 76

أبا الطُّفَيْلِ، وسُئِل هلْ رأَيتَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قيل: هل كلَّمتَه؟ قال: لا، ولكنِّي رأيتُه انطلقَ مكانَ كذَا وكذَا، ومعَه عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ وأُنَاسٌ مِن أصحابِه حتَّى أتَى دارًا قَوْرَاءَ، فقال:"افْتَحُوا هَذَا الْبَابَ". ففتحُوا، ودخَل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودخَلتُ معَه، فإذا قطيفةٌ في وسطِ البيتِ، فقال:"ارْفَعُوا هَذِهِ الْقَطِيفَةَ". فرفَعوها، فإذا غلامٌ أعوَرُ تحتَ القطيفَةِ، فقال:"قُمْ يا غُلَامُ". فقام الغلامُ. فقال: "يَا غُلامُ، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ". فقال الغلامُ: أشهَدُ أنِّي رسولُ اللَّه. قال: "أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ". فقال الغلام: أشهَدُ أنِّي رسولُ اللَّهِ. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا" مَرَّتَيْنِ

(1)

.

والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجّال الذي يخرجُ في آخر الزمان قطعًا، لحديث فاطمة بنت قَيْس الفِهْرية، فإنه فَيْصَلٌ في هذا المقام، واللَّه أعلم.

‌حديث فاطمة بنت قيس في الدجَّال:

قال مسلم: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر، كلاهما عن عبد الصمد، واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد؛ حدثني أبي عن جدّي؛ عن الحسين بن ذَكْوانَ؛ حدثنا ابن بُرْيدة؛ حدثني عامر بن شَراحِيل السعبيّ، شعب هَمْدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس أختَ الضحّاك بن قَيْس؛ وكانت من المُهاجرات الأُول؛ فقال: حدِّثيني حديثًا سمعتِيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تُسْنِديه إلى أحدٍ غيرِه، فقالت: لئن شِئْتَ لأَفْعلَنّ، فقال لها: أجَلْ، حدّثيني، فقالت: نَكَحْتُ ابنَ المُغِيرة، وهو من خيار شباب قُرَيْش يومئذٍ، فأُصيب في أولّ الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما تأَيَّمتُ

(2)

خطبني عبد الرحمن بن عَوف، في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وخطبني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على مَوْلَاهُ أسامة بن زيد، وكنتُ قد حُدِّثْتُ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أسامة" فلمّا كلّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلت: أمري بيدك فأنكِحْنِي مَنْ شِئْتَ، فقال:"انتقلي إلى أمّ شَرِيك" وأُمُّ شريك امرأةٌ غَنِيَّةٌ من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل اللَّه، ينزل عليها الضِّيفَانُ، فقلت: سأفعل، فقال:"لا تفعلي، إن أُمّ شَرِيك امرأة كثيرةُ الضِّيفَان، وإني أكرهُ أن يَسْقُط عنكِ خِمارُك أو ينكشِفَ الثوبُ عن سَاقَيك، فيرى القوم منك بعضَ ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابنِ عَمِّكِ عبد اللَّه بن عمرو بن أم مَكْتومٍ" وهو رجل من بني فِهْر، فهرِ قريش وهو من البطن الذي هي منه، فانتقلتُ إليه، فلَمّا انقضت عِدَّتي سمعتُ نِداء المنادي مُنَادي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يُنادي: الصلاةُ جامعة، فخرجتُ إلى المسجد، فصلّيتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكنت في النساء اللاتي يلين ظهور القوم، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 454) وإسناده ضعيف.

(2)

أي مكثتُ زمانًا لم أتزوج بعد موته.

ص: 77

جلس على الْمِنبر وهو يَضْحَكُ، فقال:"ليلْزم كلُّ إنسانٍ مُصلاه" ثم قال: "أتدرون لِمَ جمعتكم؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: "إني واللَّه ما جمعتُكم لرغبة، ولا لِرَهْبةٍ، ولكن جمعتكم لأنّ تميمًا الدارِيَّ كان رجلًا نصرانيًا، فجاء، فبايَع، وأسلم، وحدَّثني حديثًا وافق الذي كنتُ أحدثكم عن مَسيح الدّجَّال.

حدثني أنه ركب في سفينة بَحْريَّة مع ثلاثين رجلًا من لَخْمٍ، وجُذامٍ، فَلعِبتْ بهم المَوْجُ شَهْرًا في البحر، ثم أرفؤوا

(1)

إلى جزيرة في البحر حين مَغْربِ الشمس، فجلسوا في أقرُب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فَلَقِيَتْهُمْ دابة أهلبُ كثير الشعر، لا يدرون ما قُبله من دُبره، من كثرة الشعر، فقالوا: وَيلكِ، ما أنت؟ فقالت: أنا الجسَّاسَة، قالوا: وما الجسَّاسَة؟ قلت: أَيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خَبَرِكم بالأَشْواق، قال: لمّا سَمَّتْ لنا رَجُلًا فَرِقْنَا منها أنْ تكون شَيْطَانَةً، قال: فانطلقنا سِرَاعًا حتى دَخَلْنا الدَّيْرَ، فإذا فيه أعظمُ إنسان رَأَيْناهُ قَطُ خَلْقًا، وأشده وَثاقًا، مجموعةٌ يداهُ إلى عنقِه، ما بين رُكبتيهِ إلى كَعْبَيْهِ بالحديد، قلنا: ويلك، ما أنت؟ قال: قد قَدَرْتُمْ على خبري، فأخبروني، ما أنتم؟ قالوا: نحن أُناس من العَرَب، ركبنا في سفينةٍ بَحْرِيّة، فصادفنا البحرَ حِينَ اغتلم

(2)

فلعب بنا الموج شهرًا، ثم أرفأنا

(3)

إلى جَزِيرَتِكَ هذه، فجلسنا في أقرُبها، فدخلنا الجزيرة، فلقِيتنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعْرِ، لا ندري ما قُبُلُه من دُبُرِه، من كثرة الشعر، فقلنا: وَيْلكِ، ما أنتِ؟ فقالت: أنا الجسّاسَة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمِدُوا إلى هذا الرجل في الدَّيْر، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليكَ سِرَاعًا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانَة.

فقال: أخبروني عن نَخْل بَيْسَان، قلنا: عن أي شأنها تَسْخَبِرُ؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يُثْمِرُ؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنَّه يُوشك ألّا يُثْمِرَ، قال: أخبروني عن بُحَيْرة الطَّبَريَّة، قلنا: عن أي شأنها تَسْتَخْبِرُ؟ قال: هل فيها ماءٌ؟ قلنا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زُغَر

(4)

قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماءٌ؟ وهل يَزْرَعُ أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها.

قال: أخبروني عن نبيّ الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة، ونزل يَثْرِبَ، قال: أقَاتَلهُ العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يَلِيه من العرب، وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذلك خيرٌ لهم أن يطيعوه، وإني

(1)

أرفأتُ السفينة: إذا قربتها من الشط.

(2)

هاج واضطربت أمواجه.

(3)

أي قربنا ودنونا.

(4)

زغر: قرية بالشام، سميت بابنة لوط لأنها نزلت بها، وبهذه القرية عين ماءٍ.

ص: 78

مخبركم عني: إني أنا المسيح، وإني يوشكُ أنْ يُؤذنَ لي في الخروج، فأخرجَ، فأسير في الأرض، فلا أدعَ قرْيةً إلّا هَبَطْتُها، في أربعين ليلةً، غير مكة، وطَيْبَة، فهما مُحَرّمتان عليّ كِلْتَاهُما، كُلَّما أرَدْتُ أن أدخل واحدةً أو واحدًا منهما استقبلني مَلَك بيده السيفُ صَلْتًا، يصدّني عنها، وإن على كل نَقْبٍ منها ملائكة يَحْرُسُونهَا" قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وطعن بِمخْصرَتهِ في المِنْبر: "هذه طَيْبَةُ، هذه طَيْبَةُ، هذه طَيْبَةُ" يعني المدينةَ "ألا هَلْ كنتُ حَدَّثتكُمْ عن ذلك؟ " فقال الناس: نعم، قال:"فإنه أعجبني حديثُ تميم، أنّه وافق الذي كنتُ أحَدّثكم عنه، وعن المدينة، ومكة، ألا إنّه في بحر الشام، أو في بحر اليمن، لا بل من قِبَلِ المشرق ما هو، من قِبَلِ المشرقِ ما هو" وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فَحَفِظْتُ هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ثم رواه مسلم من حديث سيّار عن الشعبي، عن فاطمة، قالت: فسمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطبُ، فقال:"إنّ بني عَمٍّ لتميمٍ الداريّ ركبوا في البحر. . . " وساق الحديث. ومن حديث غَيْلانَ بن جرير، عن الشعبيّ، عنها. . . فذكرتْهُ: أن تميمًا الداريّ ركب في البحر فتاهت به السفينة، فسقط إلى الجزيرة، فخرج إليها يلتمسُ الماءَ، فلَقِي إنسَانًا يَجُرّ شعرَهُ. . . واقتصَّ الحديث، وفيه: فأخرجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فحدّثهم، قال:"هذه طَيبةُ، وذاك الدجّال".

حدثني أبو بكر بن إسحاق، حدثنا يحيى بنُ بُكير، حدثنا المُغيرة، يعني الحزاميّ، عن أبي الزناد، عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قعد على المنبر، فقال:"أيّها الناس، حدثني تميم الداريّ: أن أُناسًا من قومه كانوا في البحر، في سفينةٍ لهم، فانكسرت بهم، فركب بعضهم على لَوْح من ألواح السفينة، فخرجوا إلى جزيرة في البحر. . . " وساق الحديث.

وقد رواه أبو داود وابن ماجه من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن مجالد، عن الشعبي، عنها، بنحوه. ورواه الترمذيّ من حديث قَتَادةَ، عن الشعبي، عنها، وقال: حسن صحيح غريب من حديث قتادة عن الشعبيّ. ورواه النَّسائي من حديث حَمّاد بن سَلَمة، عن داود بن أبي هِنْد، عن الشعبيّ، عنها، بنحوه. وكذلك رواه الإمام أحمد عن عَفَّان، وعن يونس بن محمد المؤدّب، كلٌّ منهما عن حمّاد بن سَلَمة به

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، عن عامر، قال: قدمتُ المدينةَ فأتيتُ فاطمةَ بنتَ قيس، فحدّثتني أن زوجها طَلَّقهَا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سَرِيّةٍ، فقال لي أخوه: اخرُجِي من الدار، فقلت: إنّ لي نَفَقَة، وسُكْنَى، حتّى يَحِلّ الأجَلُ، قال: لا، قالت: فأتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن فُلانًا طلقّني وإنّ أخاه أخرجني، ومنعني السكنى

(1)

رواه مسلم رقم (2942) وأبو داود رقم (4327) وابن ماجه رقم (4074) والترمذي رقم (2253) والنسائي في الكبرى رقم (4258) وأحمد في المسند (6/ 412 - 413 و 418).

ص: 79

والنفقة، فأرسَلَ إليه، فقال:"ما لك، ولابنةِ آلِ قَيْس؟ " قال: يا رسول اللَّه إنّ أخي طَلّقها ثلاثًا جميعًا، قالت: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "انظري يا ابنة آل قيس، إنما النفقة والسُّكْنَى للمرأة على زوجها، ما كانت له عليها رَجْعَة، فإذا لم يكن له عليها رجعة، فلا نفقة، ولا سُكْنى، اخرجي، فانزلي على فُلانَة" ثم قال: "إنّه يُتحدّث إليها، انزلي على ابن أم مَكْتوم فإنّه أعمَى لا يراك" ثم قال "لا تنكْحِي حتى أكونَ أنا أُنْكحكِ". قالت: فخطبني رجل من قُريش، فأتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسْتأْمِرهُ، فقال:"ألا تَنْكِحينَ مَنْ هُوَ أحَبُّ إليّ منه؟ " فقلت: بلى، يا رسول اللَّه، فأنْكِحْنِي مَنْ أحْبَبْتَ، قالت: فأنكحَني مِنْ أسامةَ بنِ زَيْد

(1)

.

قال: فلمّا أردتُ أن أخرج، قالت: اجلس حتى أحَدّثك حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قالت:

خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فصلّى صلاة الهَاجِرةِ، ثم قَعَد، ففزِع الناسُ، فقال: "اجلسوا أيّها الناس، فإنّي لم أقُم مَقَامِي هذا لِفزع، ولكنّ تميمًا الداريَّ أتاني، فاخبرني خبرًا منعني من القَيْلُولةِ من الفَرح، وقُرّةِ العَيْن، فأحببتُ أن أنْشُر عليكم فرح نبيكم، أخبرني أن رهطًا من بني عمِّه ركبوا البحر، فأصابتهم ريحٌ عاصفٌ فألجأتهم الريحُ إلى جزيرة لا يعرفونها، فقعدوا في قُوَيْرب سفينة، حتى خرجوا إلى الجزيرة، فإذا هم بشيء أهْلَبَ كثيرِ الشعر، لا يدرون، أرجلٌ هو أو امرأة؟ فسلّموا عليه، فردّ عليهم السلام، فقالوا: ألا تُخبرنا؟ فقال: ما أنا بمُخبركم، ولا بمُستخبركم، ولكن هذا الدَّير الذي قد رَهِقْتمُوه

(2)

فيه مَنْ هو إلى خبركم بالأشواق أن يخبركم، ويستخبركم، قالوا: قلنا: ما أنت؟ قالت: أنا الجَسّاسة، فانطلقوا حتى أتوا الدير، فإذا هم برجل مُوثَقٍ شَدِيدِ الوَثاق، مُظْهِرِ الحُزْن، كثيرِ التّشَكِّي، فسلّموا عليه، فرّد عليهم، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: من العرب، قال: ما فعلت العرب؟ أخرَجَ نَبِيُّهُمْ بَعْدُ؟

(3)

قالوا: نعم، قال: فما فعلوا؟ قالوا: خيرًا، آمنوا به، وصدقوه، قال: ذلك خير لهم، قال: فكان له عدوّ فأظهره اللَّه عليهم؟ قال: فالعرب اليوم إلههُمْ واحد، ونَبِيّهُمْ واحد، وكلمتهم واحدة؟ قالوا: نعم، قال: فما فعلت عين زغر؟ قالوا: صالحة، يشرب منها أهلها، تسقيهم ويَسْقُونَ منها زَرْعَهُمْ. قال: فما فعل نخل بين عَمَّانَ وَبيْسان؟ قالوا: صالح، يُطْعِمُ جَنَاهُ كُلَّ عامٍ، قال: فما فعلت بُحَيْرة طَبرِية؟ قالوا: ملأى، قال: فَزَفَر، ثُمّ زفر، ثم زفر، ثم حلف: لو خَرَجْتُ من مكاني هذا ما تركتُ أرضًا من أرض اللَّه إلّا وطِئْتُها، غيرَ طَيْبَةَ، ليس لي عليها سُلْطان، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إلى هذا انتهى فرحي"

(1)

وإسناده ضعيف بهذا السياق، صحيح المتن بالجملة بطرقه وشواهده، دون قوله:"إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت عليه رجعة".

(2)

أي دنوتم منه. انظر "تاج العروس"(رهق).

(3)

كذا في هذه الرواية: "أخَرَجَ نبيُّهم بعد؟ " وفي رواية أخرى عند أحمد في "المسند"(4/ 413 و 418): "هل بعث فيكم النبي؟ " وهي توضح معنى رواية كتابنا.

ص: 80

ثلاثَ مرّات، "إن طَيْبَةَ المَدينة، إنّ اللَّه عز وجل حرّمَ حَرَمَها على الدجّال أن يدخلهَا" ثم حلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "واللَّه الذي لا إله إلّا هو ما لها طريق ضَيّق ولا واسع، في سهل، ولا جَبَل، إلّا عليه ملَك، شاهرٌ بالسيف، إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجّال أن يدخلها على أهلها". قال عامر: فلقيتُ المحرَّر ابن أبي هُرَيرة، فحدّثته بحديث فاطمةَ بنتِ قيس، فقال: أشهد على أبي أنّه حدّثني كما حَدّثَتْكَ فاطمةُ، غيرَ أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّه في نحو المَشْرِق" قال: ثم لَقِيتُ القاسمَ بن محمد، فذكرت له حديث فاطمة، فقال: أشهد على عائشةَ أنّها حدّثتني كما حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ، غير أنها قالت: الحَرَمان عليه حَرَام، مكة، والمدينة. وقد رواه أبو داود وابن ماجه، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن مُجَالد، عن عامر الشعبيّ، عن فاطمةَ بنتِ قَيْس، بَسَطَهُ ابن ماجه، وأحاله أبو داود على الحديث الذي رواه قبله، ولم يَذْكُر مُتابعةَ أبي هريرة، وعائشة، كما ذكر ذلك الإمامُ أحمد

(1)

.

وقال أبو داود: حدثنا النُّفَيْلِيّ، حدثنا عُثمان بن عبد الرحمن، حدثنا ابن أبي ذِئْب، عن الزُّهريّ، عن أبي سَلَمة، عن فاطمة بنت قيس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخّر العِشاء الآخرة ذات ليلة، ثم خرج فقال: "إنّه حبسني حديثٌ كان يُحَدِّثُنيهُ تَمِيمٌ الداريّ، عن رجل في جزيرة من جزائر البحر، فإذا أنا بامرأةٍ تَجُرّ شعرها، قال: ما أنت؟ قالت: أنا الجَسّاسَةُ، اذهبْ إلى ذلك القصر، فأَتَيْتهُ، فإذا رجل يَجُرّ شعره، مُسَلْسَل في الأغلال ينزو فيما بين السماء والأرض، فقلت: من أنتَ؟ قال: أنا الدجّال؟ خرج نبيّ الأميّين بعد؟ قلت: نعم، قال: أطاعوه أم عَصَوْه؟ قلت: بل أطاعوه، قال: ذاك خير لهم. فهذه متابعة للشعبي عن فاطمة بنت قيس ببعضه، ثم أورد أبو داود حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن عامر الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، بطوله، كنحوٍ مما تقدّم

(2)

.

ثم قال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن عبد اللَّه بن جُمَيع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر: "إنه بينما أُنَاسٌ يسيرون في البحر، فَنفِدَ طعامهم، فرُفِعَتْ لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخُبْزَ، فلقيتْهم الجَسّاسَةُ" قلت لأبي سلَمة: وما الجساسة؟ قال: امرأة تجرّ شعر جلدها ورأسها "وقالت: في هذا القصر. . . " وذكر الحديث، وسأل عن نخل بَيْسان، وعين زغَر، قال: هو المسيح، فقال لي ابنُ أبي سَلَمة: إنّ في هذا الحديث شيئًا ما حفظتهُ، قال: شهد جابر أنّه ابن صيّاد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 416 - 418) وأبو داود رقم (4327) وابن ماجه رقم (4074) وإسناده ضعيف بهذا السياق صحيح المتن بالجملة، بطرقه وشواهده.

(2)

رواه أبو داود رقم (4325) و (4326) وهما صحيحان.

ص: 81

أسلم، قلت: فإنه قد دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة. تفرد به أبو داود وهو غريب جدًا

(1)

.

وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا أبو عاصم، سعد بن زياد، حدثني نافع مولاي، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استوى على المنبر، فقال:"حدثني تميم" فرأى تميمًا في ناحية المسجد، فقال:"يا تميم حدِّثِ الناس ما حَدَّثْتَني" فقال: كنّا في جزيرة، فإذا نحنُ بدابّةٍ لا يُدْرى قُبُلها مِنْ دُبُرِهَا، فقالت: تعجبون من خَلْقي، وفي الدَّيْر من يَشْتَهي كلامكم، فدخلنا الدَّيْر، فإذا نحنُ برجُل مُوثَقٍ في الحديد، من كعبه إلى أذنه، فإذا أحدُ مَنْخِرَيْهِ مسدودٌ، وإحدى عَيْنَيْهِ مَطْمُوسَةٌ، قال: من أنتم؟ فأخبرناه، فقال: ما فَعَلَتْ بُحَيْرَةُ طَبَرِيّة؟ قلنا: كعهدها، قال: فما فعل نَخْلُ بَيْسانَ؟ قلنا: بعهده، قال: لأطَأَنّ الأرضَ بِقَدميّ هاتين، إلّا بَلدةَ إبراهيم، وطابة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"طابة، هي المدينة". وهذا حديث غريب جدًّا. وقد قال أبو حاتم: أبو عاصم هذا ليس بالمتين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طَهْمان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه أنه قال: إن امرأة من اليهود بالمدينة، ولَدَتْ غُلامًا مَمسْوحَةً عينه طالعة ناتئة فأشفق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يكون الدجال، فوجده تحت قَطِيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فآذَنتهُ أمه، فقالت: يا عبد اللَّه، هذا أبو القاسم قد جاء فأخْرج إلَيْه، فخَرجَ مِن القَطيفة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما لها قاتلها اللَّه؟ لو تركتْه لبَيَّن". ثم قال: "يا ابن صياد ما ترى؟ " قال: أرى حقًّا، وأرى باطلًا، وأرى عَرْشًا على الماء، قال: فَلُبِّسَ عليه

(2)

، قال:"أتشهد أني رسولُ اللَّه؟ " فقال هو: أَتَشْهَدُ أني رسولُ اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آمنتُ باللَّه، ورُسله" ثم خرج، وتركه، ثم أتاه مَرّةً أخرى فوجده في نَخْلٍ لهم، يُهمهِمُ، فآذنَتْه أمُّه، فقالت: يا عبد اللَّه، هذا أبُو القاسم قد جاء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما لها قاتلها اللَّه؟ لو تَرَكَتْهُ لبَيَّنَ" قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطمع أن يسمع من كلامه شيئًا، ليعلم أهو هو أم لا؟ قال:"يا ابن صياد، ما ترى؟ " قال: أرى حقًّا، وأرى باطلًا، وأرى عَرْشًا على الماء، قال:"أتشهد أنِّي رسولُ اللَّه؟ " قال هو: أتشهدُ أنِّي رسولُ اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آمنتُ باللَّه، ورسله" فلبّس عليه، ثم خرج وتركه. ثم جاء في الثالثة أو الرابعة، ومعه أبو بكر، وعمر بن الخطاب في نَفَرٍ من المهاجرين والأنصار، وأنا معه، قال: فبادر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْن أيدينا، ورجا أن يسمع من كلامه شيئًا، فسَبَقَتْهُ أمّه إلَيْه، فقالت: يا عبد اللَّه، هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما لها قاتلها اللَّه؟ لو تركته لبَيَّن" فقال: "يا ابن صياد ما ترى؟ " قال: أرى حقًّا، وأرى

(1)

رواه أبو داود رقم (4328).

(2)

في الأصل: فلبس ويحك عليك، والتصحيح من مسند أحمد.

ص: 82

باطلًا، وأرى عرشًا على الماء، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؟ " قال: أتشهد أنت أنِّي رسول اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آمنت باللَّه، ورسله" فلبّس عليه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا ابن صياد إنا قد خَبَأنا لك خبيئًا، فما هو؟ "قال: الدخّ، الدخّ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اخْسأْ، اخْسَأْ" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذَنْ لي فأقتله يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنْ يكنْ هُوَ، فلستَ بصاحبه، إنّما صاحبُه عِيسَى ابنُ مَرْيَم، وإن لا يكنْ هُوَ، فليس لك أن تَقْتُلَ رَجُلًا من أهْلِ العَهْدِ" قال، يعني جابرًا: فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُشْفِقًا أنه الدَّجال. وهذا سياق غريب جدًا

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن سُلَيمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: بينما نحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نمشي إذ مرّ بصِبْيانٍ يلعبون، فيهم ابنُ صَيّاد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تربت يداك. أتشهدُ أني رسولُ اللَّه؟ " فقال هو: أتشهد أني رسول اللَّه؟ قال: فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: دَعْنِي فلأضربْ عنقه، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن يكن الذي تخافُ فلن تَسْتطيعه"

(2)

.

والأحاديث الواردة في ابن صيّاد كثيرة، وفي بعضها التوقف في أمره، هل هو الدجّال أم لا، فاللَّه أعلم؟ ويحتمل أن يكون هذا قبل أن يوحى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال، وتعيينه، وقد تقدّم حديثُ تميم الداريّ في ذلك، وهو فاصل في هذا المقام، وسنورد من الأحاديث ما يدل على أن الدجال ليس بابن صيّاد، واللَّه أعلم، وأحكم.

فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد اللَّه بنِ عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدمُ سَبْطُ الشعر، ينطفُ أو يُهرَاقُ رأسه ماءً، قلت: من هذا؟ قالوا: ابنُ مريم، ثم ذهبتُ ألتفتُ، فإذا رجل جَسيمٌ أحَمْرُ، جَعْدُ الرأس، أعْوَرُ العَيْن، كان عينه عِنَبةٌ طَافِيَةٌ، قالوا: هذا الدجّال، أقرب الناس به شبهًا ابنُ قَطَن رجل من خُزاعَةَ"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَانَ، عن أبي الزبير، عن جابر ابن عبد اللَّه، أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرُج الدجّال في خِفَّةٍ

(4)

من الدِّين وإدبار من العلم، فله أربعون ليلةً يسيحها في الأرض، اليومُ منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 368).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 457) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه البخاري رقم (7128).

(4)

كذا في أصول الكتاب: "في خِفَّة" وفي المسند: في "خَفْقَة" وهو الصواب. قال ابن الأثير في "النهاية"(2/ 56): "أي في حالِ ضعف من الدِّين وقلَّة أهله".

ص: 83

سائر أيامه كأيّامكم هذه، وله حمار يركبه، عَرْضُ ما بين أُذُنَيْه أربعون ذِرَاعًا، فيقول للناس: أنا ربُّكم، وهو أعْوَرُ، وإنّ رَبّكم ليس بأعْور، ومكتوب بين عينيه كافر "ك ف ر" مُهَجَّاة يقرؤه كلُّ مؤمن، من كاتب، وغير كاتب، يَرِدُ كلِّ ماء ومَنْهَلٍ، إلا المدينة، ومكة، حرّمهما اللَّه عليه، وقامت الملائكة بأبوابها، ومعه جبال من خبز، والناس في جَهْد إلا من اتبعه، ومعه نهران، أنا أعلم بهما منه، نهر يقول: الجنة. ونهر يقول: النار، فمن أُدْخِلَ الذي يُسَمّيه الجنّة فهو النار، ومن أُدْخِلَ الذي يُسَمّيه النار فهو الجنة" قال:"وتُبعثُ معه شياطين تُكَلِّم الناس، ومعه فِتْنَةٌ عظيمة، يأمر السماء فتُمْطِرُ، فيما يرى الناس، ويقتل نَفْسًا، ثم يحييها، فيما يرى الناس، لا يسلط على غيرها، ويقول للناس: هل يفعلُ مثلَ هذا إلا الربُّ؛ عز وجل؟ " قال: "فيفرُّ المسلمون إلى جبل الدخان بالشام، فيأتيهم، فيحاصرهم، فيشتدّ حصارُهم، ويجهَدُهم جَهْدًا شديدًا، ثم ينزل عيسى ابنُ مريم، فينادي من السّحَرِ، فيقول: يا أيّها الناس، ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذّاب الخبيث؟ فيقولون: هذا رجل جِنّي فينطلقون، فإذا هم بعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فتقام الصلاة، فيقال له: تقدم، يا رُوحَ اللَّه، فيقول: ليتقدّم إمامُكم فَلْيُصَلِّ بكم، فإذا صلى صلاة الصبح، خرجوا إليه". قال: "فحين يراه الكذّاب يَنْماثُ

(1)

كما يَنْماثُ المِلْحُ في الماء، فيَمْشي إليه فيَقْتُلهُ، حتى إن الشَّجَرة والحَجَر ينادي: يا رُوحَ اللَّه، هذا يَهُودِيّ، فلا يَتْرُك مِمَّنْ كان يَتْبَعُهُ أحدًا إلّا قَتله". تفرّد به أحمد أيضًا، وقد رواه غيرُ واحد عن إبراهيم بن طَهْمان، وهو ثقة

(2)

.

حديث النوّاس بن سِمعان الكلابيّ في معناه، وأبسط منه:

قال مسلم: حدثني أبو خَيْثمة زهيرُ بن حرب، حدّثنا الوليد بن مُسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائيّ، قاضي حِمْص، حدثني عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن أبيه جُبَيْر بن نُفَيْر الحَضْرمي أنّه سمع النواس بن سِمْعان الكلابى، "ح" وحدثني محمد بن مِهْرانَ الرازيّ، واللفظ له، حدّثنا الوليد بن مُسلم، حدثنا عبدُ الرحمن بن يزيد بن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَيْر، عن أبيه جُبَيْر بن نُفَيْر، عن النّواس بن سمعان، قال: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدجّال ذات غَدَاةٍ، فخفَّض فيه، ورفَّع، حتى ظَنَنّاهُ في طائفة النخل، فلما رُحْنا إلَيْه، عرفَ ذلك فينا، فقال:"ما شأنكم؟ " قلنا: يا رسول اللَّه، ذكرتَ الدجّال غداةً فَخَفَّضت فيه، ورفَّعْتَ، حتى ظَنَنّاه في طائفة النخل، فقال: "غير الدجّال أخْوَفُنِي عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حَجيجه دونكم، وإنْ يخْرُجْ ولَسْتُ فيكم فامرؤٌ حَجِيجُ نَفْسِه، واللَّهُ خليفتي على كلّ مُسلم، إنه شابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبّهُهُ بعَبْد العُزَّى بن قَطَن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة

(1)

جاء في "لسان العرب"(ميث): ماث الملح في الماء أذابه وكذلك الطين. وقد انماث. . ووردت في (موث) ماث يموث.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 367 - 368) وقد قال المصنف عنه في أول باب صفة الدجال: إن فيه نظرًا، لأنه من رواية أبي الزبير عن جابر ولم يصرح بسماعه من جابر.

ص: 84

الكهف، إنّه خارجٌ خَلَّةً بين الشام والعراق، فعاثَ يَمِينًا وعاثَ شِمَالًا، يا عباد اللَّه فاثْبُتُوا" قلنا: يا رسول اللَّه، وما لُبْثهُ في الأرض؟ قال:"أربعون يومًا، يومٌ كسَنَةٍ، ويومٌ كشَهْرٍ، ويومٌ كجُمعة، وسائر أيامه كأيامكم" قلنا: يا رسول اللَّه فذلك اليومُ الذي كَسَنةٍ أتكفينا فيه صَلَاةُ يوم؟ قال: "لا، اقدُروا له قدرَه" قلنا: يا رسول اللَّه وما إسراعهُ في الأرض؟ قال: "كالغيث اسْتَدْبَرَتْه الرِّيحُ، فيأتي على القوم، فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمرُ السماءَ فتُمطر، والأرضَ فتُنْبِتُ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرًى وأسبغَهُ ضُرُوعًا، وأمدّه خَواصِرَ، ثم يأتي القومَ، فيدعوهم، فيردّون عليه قولَه، فينصرف عنهم، فيُصبحون مُمْحِلين ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم، ويمر بالخَرِبة فيقول لها: أخرِجي كنوزك، فَتَتْبَعُهُ كنوزُها، كيعَاسِيبِ النَّحْل، ثم يدعو رجلًا ممْتلئًا شبابًا، فيَضْرِبه بالسيف، فيقْطَعُهُ جَزْلتَيْن، رَمْيَةَ الغَرَض، ثم يدعوه فيُقبل ويتَهلل وجههُ، ويَضْحَك، فبينما هو كذلك، إذ بَعَث اللَّه المسيحَ ابنَ مريم، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقيّ دِمشْق، بين مَهرودتين

(1)

واضعًا كفيه على أجنحة مَلكَيْنِ، إذا طَأْطأَ رأسَه قَطَر، وإذا رفعه تحَدّر مِنْهُ جُمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نَفَسِه إلّا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طَرْفه، فيطلُبه حتى يُدركه بباب لُدّ فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم اللَّه منه، فيمسح عن وجوههم ويُحَدّثهم بدرجاتهم في الجنّة، فبينما هو كذلك إذ أوحى اللَّه إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عبادًا لي لا يَدانِ

(2)

لأحدٍ بقتالهم، فحرّزْ عبادي إلى الطور، ويبعث اللَّه يأجُوجَ ومأجوج، وهم من كل حدَبٍ يَنْسلون، فيمرّ أوائلهم على بحيرة الطبَرِيّة، فيشرَبُونَ ما فيها، ويَمُرّ آخرُهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماءٌ، ويُحصر نبيّ اللَّه وأصحابُه، حتى يكون رأسُ الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي اللَّه عيسى وأصحابه إلى اللَّه، فيرسل اللَّه عليهم النغَف

(3)

في رقابهم، فيصبحون فَرْسى

(4)

كموْتِ نفس واحدة، ثم يهبط اللَّه عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شِبْر إلّا ملأه زَهْمهُم

(5)

ونَتْنهُم، فيرغبُ نبيّ اللَّه عيسى وأصحابه إلى اللَّه، فيرسل اللَّه طيرًا كأعناق البُخْتِ فتحملهم، فتطرحُهم حيثُ شاء اللَّه تعالى، ثم يُرسل اللَّه مطرًا لا يَكُنّ

(6)

منه بيت مدر، ولا وبر، فيغسل اللَّه الأرض حتى يتركها كالزَّلقَة

(7)

، ثم يقال للأرض: أنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وردّي بَرَكَتَكِ، فيومئذٍ

(1)

أي بين قطعتين من الثياب مصبوغتين بالهرد، بين الحمرة والصفرة.

(2)

قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم"(5/ 2769)(طبعة دار العلوم بدمشق): فقوله [صلى الله عليه وسلم]: "لا يدان" بكسر النون، تثنية يد. قال العلماء: معناه: لا قدرة ولا طاقة، يقال: مالي بهذا الأمر يد، ومالي به يدان، لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد، وكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه" وقد وردت الجملة في الرواية الأخرى عند مسلم رقم (2937) (111) بلفظ "لا يَدَيْ" وفيها توجيه للنص.

(3)

دود في أنف الإبل والغنم.

(4)

فرسى: أي قتلى.

(5)

الزّهومة في اللحم: كراهية رائحته من غير تغيير ولا نتن، والزهومة أيضًا لريح المنتنة. "لسان العرب"(زهق) و (زهم).

(6)

قوله: لا يَكُنّ، أي لا يستره. "لسان العرب"(كنن).

(7)

الزلقة: الصخرة الملساء.

ص: 85

تأكل العصابة من الرمّانةِ، ويستظلّون بقِحْفِها

(1)

ويُبارَكُ في الرِّسل

(2)

حتى إن اللِّقْحَةَ من الإبل لتكفي الفِئام من الناس، واللِّقْحَةَ من البقر لتكفي القَبِيلَة من الناس، واللِّقْحةَ من الغنم لتكفي الفَخْذ من الناس، فبينما هم كذلك، إذ بعث اللَّه ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقْبَضُ روحُ كلّ مؤمن، وكلّ مسلم، ويبَقْى شِرَارُ الناس، يتَهارَجُونَ فيها، تهارُج الحُمُر

(3)

، فعليهم تقوم الساعة". حدثني عليّ بن حُجْر السعدي، حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والوليد بن مُسلم، قال ابن حُجر: دخل حديث أحدهما في حديث الآخر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا، وزاد بعد قوله: "لقد كان بهذه مرة ماءٌ": "ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخَمَر

(4)

وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قَتلنا من في الأرض، هلُمّ فلنقتل مَنْ في السماء، فيرمون بنُشّابِهِمْ إلى السماء، فيَرُدّ اللَّه عليهم نُشابَهم مَخْضُوبَة دَمًا". وفي رواية ابن حُجر:"فإني قد أنزلتُ عبادًا لي لا يَدَيْ لأحدٍ بقتالهم" انتهى ما رواه مسلم إسنادًا ومَتْنًا. وقد تفردَ به عن البخاري.

ورواه الإمام أحمد بن حنبل في "مُسنده" عن الوليد بن مسلم، بإسناده نحوه، وزاد في سياقه بعد قوله:"فتطرحهم حيثُ شاء اللَّه". قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السَّكْسَكي، عن كعب أو غيره، قال: فتطرحهم بالمهبل

(5)

، قال ابن جابر: وأين المهبل؟ قال: مطلع الشمس.

ورواه أبو داود عن صفوان بن عمرو

(6)

عن الوليد بن مسلم ببعضه. ورواه الترمذي عن علي بن حُجر، وساقه بطوله، وقال: غريب حسن صحيح، لا نعرفه إلّا من حديث ابن جابر.

ورواه النّسائيّ في فضائل القرآن، عن علي بن حُجر، مختصرًا.

ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمَّار، عن يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده، قال:"يستوقد الناس من قسيّ يأجوج ومأجوج، ونُشَّابِهم، وأترستهم سبع سنين"، وذكره قبل ذلك بتمامه، عن هشام بن عمّار، ولم يذكر فيه هذه القصة، ولا ذكر في إسناده، يحيى بن جابر الطائيّ

(7)

.

‌حديث عن أبي أمامة الباهلي صدي بن عجْلَان في معنى حديث النوّاس بن سِمْعان

قال ابن ماجه: حدثنا علي بن محمد

(8)

، حدثنا عبد الرحمن المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع

(1)

أي بقشرها.

(2)

الرِّسل: اللبن.

(3)

أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كجماع الحمير. وجاء في "لسان العرب"(هرج) و (سفد) في هذا المعنى: "يتهارجون تهارج البهائم، أي يتسافدون، والسفاد نزو الذكر على الأنثى". أي يكون ذلك جهارًا دون استتار أو خجل.

(4)

الخَمَر: الشجر الملتف.

(5)

المهبل: الهوة العميقة.

(6)

الصحيح أنه صفوان بن صالح، كما عند أبي داود.

(7)

رواه مسلم رقم (2937)(110) وأحمد في المسند (4/ 181 - 182) وأبو داود رقم (4321) والترمذي (2240) والنسائي في "الكبرى"(8024) وابن ماجه (4076) و (4075).

(8)

في الأصل: علي بن حجر، وهو خطأ.

ص: 86

عن أبي رافع، عن أبي زُرْعة السَّيْبانيّ

(1)

يحيى بن أبي عمرو، عن أبي أمامَةَ الباهليّ، قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان أكثرُ خطبته حديثًا حَدَّثنَاهُ عن الدجّال، وحذّرنَاه، فكان من قوله أنْ قَال: "إنّه لم تكن فِتْنَةٌ في الأرض منذ ذَرأ اللَّه ذُرّية آدم أعظمَ من فتنة الدجّال، وإن اللَّه لم يبعث نبيًّا إلا حَذَّر [أمته] من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأُمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإنْ يخرج، وأنا بين ظَهْرَانَيكم، فأنا حجيج لكلّ مسلم، وإن يخرج من بعدي فكلٌّ حجيجُ نَفْسه، واللَّه خليفتي على كلّ مسلم، وإنه يخرج من خَلَّة بين الشام والعراق، فَيعيثُ يمينًا، ويعيثُ شِمالًا. يا عباد اللَّه أيّها الناس فاثبتوا، وإني سأصفه لكم صفةً لم يصفها إيّاه نبيّ قبلي، إثه يبدأ فيقول: أنا نبيٌّ، ولا نبي بعدي، ثم يُثني فيقول: أنا ربُّكم الأعلى، ولا ترونَ ربَّكُمْ حتى تَمُوتوا، وإنه أعور، وإن رَبّكم عز وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أنّ معه جَنّةً ونارًا، فنارُه جَنّة، وجنّتُه نار، فمن ابتليَ بناره، فليستغث باللَّه، وليقرأ فواتح سورة الكهف، فتكونَ عليه بردًا وسلامًا كما كانت النارُ على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثتُ لك أباك وأُمك؟ أتشهدُ أني ربّك؟ فيقول: نعم، فيتَمَثّلُ له شيطانان في صورة أبيه، وأمّه، فيقولان: يا بُني اتّبعه، فإنّه رَبُّك، وإنّ من فتنته أن يُسَلَّط على نَفْس واحدَة فيقتُلهَا، ويَنشُرَها بالمنشار، حتى تُلقى شِقَّتينِ، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإنّي أبعثُهُ الآن، ثم يزعُم أنّ له رَبًّا غَيْري، فيبعَثه اللَّه، فيقول له الخبيثُ: من ربّك؟ فيقول: ربي اللَّه، وأنت عدو اللَّه، أنت الدجال، واللَّه ما كنتُ بعدُ أشدّ بصيرة بك مني اليوم. وقال أبو الحسن [الطنافسيّ] يعني علي بن محمد: فحدثنا المحاربي، حدثنا عبيد اللَّه بن الوليد الوصّافيّ

(2)

عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة". قال: قال أبو سعيد: واللَّه ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب، حتى مضى لسبيله. قال المحاربي: ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع، قال:"وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تُنبت، فتُنبت، وإنّ من فتنته أن يَمُرّ بالحي فيكذّبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلّا هلكت، وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحي فيصدّقونه فيأمرُ السماءَ أن تُمطر فتُمطر، ويأمُرُ الأرض أن تُنْبِت فتُنْبِتَ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمنَ ما كانت، وأعظمه، وأمدّه خَواصر وأدرّه ضُروعًا، وإنه لا يَبْقَى شيء من الأرض إلّا وَطِئَه، وظهر عليه، إلّا مكة، والمدينة، فإنّه لا يأتيهما من نَقْبٍ من نِقَابِهمَا إلّا لَقِيته الملائكة بالسيوف صَلْتةً حتى ينزل عند الظُّرَيْبِ الأحمرِ، عند منقطع السَّبَخَة، فتَرجُف المدينة بأهلها، ثلاثَ رَجَفاتٍ، فلا يبقى مُنافق، ولا مُنافقة إلّا خرج إليه، فتَنْفِي الخَبَث منها، كما يَنْفِي الكيرُ خبَثَ الحديد، ويُدْعَى ذَلِكَ اليومُ يومَ الخلاصِ" فقالت أم شَرِيك بنتُ أبي العَكَر:

(1)

في الأصل: الشيباني، وهو خطأ.

(2)

في الأصول: "الرصافي" وهو خطأ. والتصحيح من "سنن ابن ماجه" وانظر "خلاصة تذهيب تهذيب الكمال" للخزرجي (2/ 200) بتحقيق الشيخ محمود عبد الوهاب فايد.

ص: 87

يا رسول اللَّه، فأين العربُ يومئذٍ؟ قال:، هم يومئذ قليلٌ وجُلّهم ببيت المقدس، وإمامُهم رجل صالح، فبينما إمامُهم قد تقدّمَ يصلّي بهم الصُّبْحَ، إذ نزل عليهم عيسى ابنُ مريم، فيرجع ذلك الإمام فيمشي القهقرى، ليتقدم بهم عيسى يُصلّي، فيضع عيسى عليه الصلاة والسلام يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم، فصلّ، فإنَّها لك أُقيمت، فيُصلّي بهم إمامُهم، فإذا انصرف، قال عيسى عليه السلام: أقيموا الباب، فيفتح ووراءه الدجّال، معه سبعون ألف يهوديّ، كلّهم ذو سيف مُحَلّى وتاجٍ، فإذا نظر إليه الدجّال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربًا، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربةً لن تَسْبقني بها، فيُدركه عند باب اللُّدّ الشرقيّ، فيقتله، فيَهْزم اللَّه اليهودَ، فلا يبقى شيء ممّا خَلَق اللَّه يتوارَى به يهودي إلّا أنطق اللَّه ذلك الشيء، لا حَجَر، ولا شَجَر، ولا حائط، ولا دَابّة -إلا الغَرْقدةَ، فإنها من شَجَرِهم لَا تَنْطِق- إلّا قال: يا عبد اللَّه المسلمَ، هذا يهوديّ، فتعال اقتلْهُ". قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"وإنّ أيّامه أربعون سنةً، السنةُ كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخِرُ أيامه كالشَّرَرة، يُصْبحُ أحَدُكم على باب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر حتى يُمْسِي، قيل له: يا رسول اللَّه، كيف نُصلّي في تلك الأيام القِصَار؟ قال: تَقْدُرُون فيها الصلاة، كما تَقْدُرونها في هذه الأيّام الطوال، ثم صَلُّوا" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فيكون عيسى ابنُ مريمَ في أمّتي حَكَمًا عَدْلًا، وإمامًا مُقْسطًا، يدقّ الصليبَ، ويذبَحُ الخِنْزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يُسعَى على شاة، ولا بعير، وتُرْفَعُ الشَّحْناء والتباغُض، وتُنْزعُ حُمَةُ كلّ ذي حُمَةٍ

(1)

، حتى يُدْخِلَ الوليدُ يدَه في في الحَيّة، فلا تضرّه، ويُنفِر الوليدُ الأسدَ، فلَا يضرّه، ويكون الذئبُ في الغَنم كأنّه كَلْبُها، وتُملأ الأرض من السِّلْمِ، كما يُمْلأُ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدةً، فلا يُعْبد إلا اللَّه، وتضع الحرب أوزارها، وتُسلَبُ قُريشٌ ملكَها، وتكون الأرض كفاثور

(2)

الفِضَّة، تُنبت نبَاتهَا كعَهْد آدم، حتى يجتمع النَّفَرُ على القِطْفِ من العنب، فيُشبِعهُمْ، ويجتمع النَّفَرُ على الرُّمانة فتُشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدّريهمات". قيل: يا رسول اللَّه، وما يُرْخِص الفرس؟ قال:"لا يركب لحرب أبدًا". قيل له: فما يُغْلي الثور؟ قال: "تحرث الأرض كلّها. وإنّ قبل خروج الدجّال ثلاثَ سنوات شِدادٍ، يُصيب النَّاسَ فيها جوعٌ شديد، يأمر اللَّه السماء في السنة الأولى أن تَحْبِسَ ثُلُثَ مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثُلُثَ نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية، فتحبس ثُلُثَيْ مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثُلُثَيْ نباتها، ثم يأْمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كلّه، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كلّه، فلا تُنْبِت خضراء، فلا تبقى ذاتُ ظِلْفٍ إلّا هلكت، إلّا ما شاء اللَّه" فقيل: ما يُعِيشُ النَّاسَ في ذلك الزمان؟ قال: "التهليلُ، والتكبيرُ، والتسبيحُ، والتحميدُ، ويُجرى ذلك عليهم مُجْرَى الطعام".

(1)

أي السم.

(2)

الفاثور: الخِوان.

ص: 88

قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطَّنافِسيّ، يقول: سمعت عبد الرحمن المحاربيّ يقول: ينبغي أن يُدفع هذا الحديث إلى المؤدّب حتى يُعَلّمه الصبيانَ في الكُتَّاب. انتهى سياق ابن ماجه.

وقد وقع تخبيط في إسناده لهذا الحديث، فكما وجدته في نسخة كتبت إسناده، وقد سقط التابعي منه، وهو عمرو بن عبد اللَّه الحَضْرمِيّ، أبو عبد الجبار الشاميّ الرَّاوي له، عن أبي أمامة. قال شيخنا الحافظ المِزِّيّ في "الأطراف": ورواه ابن ماجه في الفتن، عن عليّ ابن محمد، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن أبي رافع إسماعيل بن رافع، عن أبي زرعة السَّيبانيّ يحيى بن أبي عمرو

(1)

عن أبي أُمامة به بتمامه، كذا قال. وكذا رواه سَهْل بن عثمان عن المحاربيّ، وهو وَهم فاحش

(2)

.

قلت: وقد جوّد إسناده أبو داود، فرواه عن عيسى بن محمد، عن ضَمْرة، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيْبانيِّ، عن عمرو بن عبد اللَّه، عن أبي أمامة، نحو حديث النّواس بن سِمْعان

(3)

.

وقد روَى الإمامُ أحمدُ بهذا الأسناد حديثًا واحدًا في "مُسنده"، فقال أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن الإمام أحمد: وجدتُ في كتاب أبي بخط يده: حدثني مهديّ بن جعفر الرمليّ، حدثنا ضمرةُ عن السَّيْبانيِّ، واسمه يحيى بن أبي عمرو، عن عمرو بن عبد اللَّه الحَضْرمي، عن أبي أمامة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدُوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلّا ما أصابهم من لأواءَ حتى يأتِيَهُم أمرُ اللَّه وهم كذلك" قالوا: يا رسول اللَّه: وأينَ هُمْ؟ قال: "بِبَيْت المَقْدِس، وأكْنَافِ بَيْتِ المَقْدِس"

(4)

.

وقال مسلم: حدثني عمرو الناقد، والحسن الحُلْوانيّ، وعبد بن حُمَيْد، وألفاظهم متقاربة والسّياق لعَبْدٍ، قال: حدثني، وقال الآخران: حدّثنا يعقوب، هو ابن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عُبَيْدُ اللَّه بنُ عَبْد اللَّه بن عُتْبة: أن أبا سعيد الخُدْرِيّ، قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا حَدِيثًا طويلًا عن الدجّال فكان فيما حدّثنا قال: "يأتي وهو مُحَرّمٌ عليه أنْ يدخل نِقَاب المدينة، فينتهي إلى بعض السِّباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجلٌ هو خيرُ الناس، أو مِنْ خَيْر الناس، فيقول له: أشهدُ أنّك الدجّال الذي حدّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثَه، فيقول الدجّال: أرأيتُمْ إن قَتَلْتُ هذا، ثم أحْيَيْتُه، أتَشُكُّونَ في الأمر؟ فيقولون: لا" قال: "فيقتله، ثم

(1)

في الأصل: عن أبي عمرو السيباني، واسمه زرعة، وهو خطأ.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4077) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود رقم (4322) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

رواه أحمد (5/ 269) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده، دون تعيين المكان. والسَّيباني، بالسين المهملة.

ص: 89

يُحْيِيه، فيقول حين يُحييه: واللَّه ما كنتُ فيك قَطُّ أشدَّ بَصِيرةً مِنَي الآن". قال: "فيُريد الدجّال أنْ يَقْتُلَه، فلا يُسَلَّطُ عليه". قال أبو إسحاق: يقال: إن هذا الرجل هو الخَضِر. قال مُسلم: وحدّثني عبدُ اللَّه بن عبد الرحمن الدّارمي، أنا أبو اليمان، أنا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريّ في هذا الإسناد بمثله

(1)

.

وقال مسلم: حدّثني محمد بن عبد اللَّه بن قُهْزاذ من أهل مرو، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان، عن أبي حمزة، عن قيس بن وهب، عن أبي الوَدَّاك، عن أبي سعيد الخُدرِيّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجّال فيتوجّه قِبَلَهُ رجل من المُؤمنين. فتلقاه مَسالِحُ الدجّال. فيقولون له: أين تَعْمِدُ؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج". قال: "فيقولون له: أوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبّنا؟ فيقول: ما بِرَبّنا خَفَاء، فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضُهم لبعض: أليس قد نهاكم رَبُّكُمْ أن تَقْتلُوا أحدًا دُونَه؟ " قال: "فينطلقون به إلى الدجّال. فإذا رآه المُؤمنُ قال: يا أيُّها الناسُ، هذا الدجّال الذي ذكرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" قال: "فيأمر الدجّال به فَيُشبَحّ، فيقول: خذوه وشُجُّوه، فيُوسَعُ ظَهْرهُ وبَطْنهُ ضَربًا" قال: "فيقول: أما تُؤْمِنُ بي؟ فيقول: أنت المسيحُ الكذاب". قال: "فيؤمر به فُيؤْشَرُ بالمِئشار، من مَفْرِقه حتّى يُفَرَّق بين رِجْليه". قال: "ثم يمشي الدجّال بين القِطْعَتَيْنِ، ثم يقول له: قُمْ، فَيسْتوِي قائِمًا" قال: "ثم يقولُ له: أتؤمنُ بي؟ فيقول: ما ازددتُ فيك إلّا بَصِيرةً". قال: "ثم يقول: يا أيّها الناس، إنّه لا يَفْعَلُ بَعْدِي بأحَدٍ من الناس" قال: فيأْخذه الدجّال ليذبحه، فيُجْعَلُ ما بين رقبته إلى تَرْقُوَتِه نُحاسًا، فلا يستطيع إليه سبيلًا" قال:"فيأخذُ بيديه ورجليه، فيقذف به، فيَحْسَبُ الناس أنّما قذف به في النار، وإنما أُلقي في الجنة" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هذا أعظم الناس شهادةً عند ربّ العالمين"

(2)

.

‌ذكر أحاديث منثورة في الدجال

‌حديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا سعيدُ بن أبي عَرُوبَةَ، عن أبي التيّاح، عن المغيرة بن سُبَيْع، عن عمرو بن حُرَيْث: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أفاق من مَرْضَةٍ له، فخرج إلى الناس، فاعتذر بشيء، وقال: ما أردنا إلا الخير، ثم قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الدجال يخرج في أرض بالمشرق يقال لها: خُراسانُ، يتبعه أقوام كأنَّ وجُوهَهُم المَجَانُّ المُطْرقَة. ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث رَوح بن عُبادة به، وقال الترمذيّ: حسن غريب. قلت: وقد رواه عُبَيدُ اللَّه بن موسى العَبْسِيّ، عن الحسن بن دينار، عن أبي التيّاح، فلم يتفرد به روحُ، كما زعمه بعضُهم، ولا سعيد بن

(1)

رواه مسلم رقم (2938)(112).

(2)

رواه مسلم (2938)(113).

ص: 90

أبي عَرُوبَة، فان يعقوب بن شَيْبة قال: لم يسمعه ابن أبي عَرُوبَة من أبي التيّاح، وإنّما سمعه من ابن شوذب عنه

(1)

.

‌حديث عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الأشجعيُّ، عن سفيان، عن جابر، عن عبد اللَّه بن نُجَيّ، عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، قال: ذكَرْنا الدجّال عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فاستيقظ مُحْمَرًا لَوْنُه، فقال:"غيرُ ذلك أخْوَفُ لي عليكم" ذكر كلمة. تفردّ به أحمد

(3)

.

‌حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن داود بن عامر بن سعد بن مالك، عن أبيه، عن جدّه سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّه لم يكن نبيّ إلّا وصف الدجّال لأمّته، ولأَصِفَنَّهُ صِفَةً لم يَصِفْهَا أحَدٌ كَانَ قَبْلِي: إنه أعْوَرُ، وإن اللَّه عز وجل ليس بأعْوَر". تفرّد به أحمد

(4)

.

‌حديثٌ عن الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ

قال عبد اللَّه بن أحمدَ: حدَّثني أبو حُمَيدٍ الحمْصيُّ، ثنا حَيْوَةُ، ثنا بَقِيَّةُ، عن صَفْوانَ بنِ عَمرو، عن راشدِ بنِ سعدٍ قال: لَمَّا فُتِحَتْ إصْطَخْرُ إذا مُنادٍ يُنادي: ألَا إنّ الدَّجّالَ قد خرَج. قال: فلَقِيَهم الصَّعْبُ بنُ جَثّامَةَ فقال: لولا ما تقولون لأَخْبَرْتُكم أنِّي سَمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لَا يَخْرُجُ الدَّجّالُ حَتَّى يذْهلَ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ، وحَتَّى يَتْرُكَ الأئِمَّةُ ذِكْرَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ". إسنادُه حسنٌ، ولم يُخْرِجوه

(5)

.

‌حديث عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

قال الترمذيّ: حدثنا عبد اللَّه بن مُعاوية الجُمَحِيّ، حدثنا حماد بن سَلَمة، عن خالد الحَذّاء، عن عبد اللَّه بن شَقِيق، عن عبد اللَّه بن سُرَاقة، عن أبي عُبَيْدَة بن الجَرّاح، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 4) والترمذي رقم (2237) وابن ماجه (4072) وإسناده ضعيف.

(2)

كذا بهذه الزيادة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في "المسند" والأصول، وهي زيادة مقحمة.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 98) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد (1/ 176) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه أحمد في المسند (4/ 71 - 72) وقد أعله الحافظ بن حجر في "الإصابة "بالإرسال، أقول: يعني بذلك أن راشد بن سعد لم يدرك الصعب بن جثامة.

ص: 91

يقول: "إنه لم يكن نبي [بعد نوح] إلا قد أنذر قومه الدجال، وأنا أُنذركموه، فوصفه لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلّه سيُدركه بعضُ مَنْ رآني، أو سمع كلامي" قالوا: يا رسول اللَّه، فكيف قلوبنا يومئذ؟ قال:"مثلُها" يعني اليومَ "أو خيرٌ"، ثم قال الترمذي: وفي الباب عن عبد اللَّه بن بُسْر، و [عبد اللَّه بن الحارث بن جُزَيّ]، وعبد اللَّه بن مُغَفّل، وأبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث خالد الحذاء. وفد رواه أحمد عن عفان وعبد الصمد، وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، كلهم عن حماد بن سَلَمة؛ به. وروى أحمد، عن غُنْدَر، عن شُعْبة، عن خالد الحَذاء ببعضه

(1)

.

‌حديث عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه

روى أحمد عن غُنْدَر، ورَوْح، وسُليْمانَ بن داود، ووهب بن جرير، كلهم عن شُعْبةَ، عن حبيب بن الزُّبَيْر، سمعتُ عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْل، سمع عبد الرحمن بن أَبْزَى، سمع عبد اللَّه بن خَبّاب، سمع أُبي بن كعب يُحَدِّث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذُكِر عنده الدجال فقال:"إحدى عَيْنَيْه كأنها زُجَاجَةٌ خَضْرَاءُ، وتَعوذُوا باللَّه من عذاب القبر". تفرد به أحمد

(2)

.

‌حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

قال عبد اللَّه بن الإمام أَحمد: وجدتُ هذا الحديث في كتاب أَبي بخط يده:

حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد، عن أبي الودَّاك، قال: قال لي أبو سعيد: هل تُقِرّ الخوارجُ بالدجال؟ فقلت: لا، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني خاتَمُ ألف نبي أو أَكثر، وما بُعث نبيٌّ يتبع إلا وقد حذَّر أَمته الدجال، وإني قد بُيِّن لي من أَمره ما لم يُبَيّنْ لأحد، فإنه أعوَرُ، وإِن رَبَّكُمْ ليس بأعْوَر، وعينهُ اليُمْنَى عَورَاء جاحِظَةٌ لا تخفى، كأنها نُخَامَةٌ في حائطٍ مُجَصَّص، وعَيْنُه اليُسْرى كأنها كوكب دُرّي، معه من كل لسان، ومعه سورة الجَنّة خضراء، يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء، تَدْخُن". تفرد به أحمد، وقد روى عَبْدُ بنُ حُمَيْد في "مُسنده"، عن حماد بن سَلَمة، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعًا نحوه

(3)

.

‌حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا بَهْز، وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سَلَمة، حدثنا إسحاق بن عبد اللَّه بن

(1)

رواه الترمذي رقم (2234) وأحمد في المسند (1/ 195) وأبو داود رقم (4756) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 123) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 79) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(895) وإسناده ضعيف.

ص: 92

أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يجيء الدجال فَيَطأُ الأرض إلا مكة، والمدينة، فيأتي المدينة فيَجِدُ بكل نَقْبٍ من أَنقابها صُفُوفًا من الملائكة، فيأتي سبخَةَ الجُرُفِ

(1)

، فيَضْرِبُ رِواقَه فترجُفُ المدينة ثلاثَ رَجَفَاتٍ، فيخرجُ إليه كل مُنافق، ومُنافقة". ورواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد المؤدِّب، عن حماد بن سَلَمة به نحوه

(2)

.

‌طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال أحمد: حدثني يحيى، عن حُمَيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الدجال أعْورُ العَيْنِ الشِّمالِ، عليها ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، مكتوب بين عَيْنَيْه كفر أو كافر". هذا حديث ثُلاثي الإسناد، وهو على شرط "الصحيحين"

(3)

.

‌طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا محمد بن مُصْعَب، حدثنا الأوزاعي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرجُ الدجال من يهودية أَصْبهان، معه سبعون أَلفًا من اليهود، عليهم السِّيجان". تفرد به أحمد

(4)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا شُعَيْبُ هو ابن الحبحاب، عن أَنس أَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الدجال مَمْسُوح العَيْن، بين عينيه مكتوب كافر، ثم تَهَجاها، يقرؤه كل مسلم ك ف ر".

حدثنا يونس، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، عن حُمَيْد، وشُعَيْب بن الحبحاب، عن أَنس بن مالك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الدجال أعورُ، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتبٍ وغير كاتب". ورواه مسلم عن زُهَيْر، عن عَفان، [عن عبد الوارث]، عن شُعَيْب بنحوه

(5)

.

(1)

الجرف: موضع قرب المدينة.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 191) ومسلم رقم (2943) ورواه البخاري (1881) من طريق إسحاق.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 115).

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 224) ورواه مسلم رقم (2944) من طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 211 و 228) ومسلم رقم (2933)(103).

ص: 93

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا عمرو بن الهَيْثَم، حدثنا شُعْبةُ، عن قَتَادة، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بُعِثَ نَبيٌّ إِلا أَنذَرَ أُمته الأعْورَ الكذَّابَ، ألَا إنه أَعْوَرُ، وإن رَبُّكُمْ لَيْسَ بِأَعْورَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ". ورواه البخاري ومسلم، من حديث شُعْبَة به

(1)

.

‌حديث عن سفينة رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا حَشْرَجٌ، حدثني سَعِيدُ بن جُمْهَان، عن سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: خَطَبنَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألَا إنهُ لَمْ يكُنْ نَبيٌّ قبلي إلا قد حذَّر الدجال أُمَّتَهُ، هو أعورُ عينه اليُسْرَى، بعينه اليمنى ظَفَرَةٌ غَليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يخرجُ معه واديان، أحدهما جَنَّةٌ، والآخر نار، فناره جنة، وجنته نار، معه مَلَكان من الملائكة، يُشْبِهان نَبِيَّيْن من الأنبياء، ولو شئتُ سَمَّيتُهما بأسمائهما، وأسماء آبائهما، أحدهما عن يمينه، والآخرُ عن شِماله، وذلك فتنة، فيقول الدجال: أَلَسْتُ بربكم؟ أَلَسْتُ أُحْيِى وأُميتُ؟ فيقول له أحد الملَكين: كَذَبْت، ما يَسْمَعهُ أَحد مِنَ الناس، إلا صَاحِبُه، فيقول له: صدقت، فيسمعُه الناسُ فيَظنُّونَ أَنما يُصَدِّق الدجال، وذلك فتنة، ثم يسير حتى يأتيَ المدينة، فَلَا يُؤذَنَ لَهُ فيها، فيقول: هذه قريةُ ذلك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام، فيُهلكه اللَّه عز وجل عند عَقَبَة أفيق

(2)

". تفرّد به أحمد، وإسنادُه لا بأس به، ولكن في مَتنه غرابة ونَكَارَةٌ، فاللَّه أَعلم

(3)

.

‌حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

قال يعقوب بن سفيان الفَسَوي في "مُسنده": حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدّثني خُنَيس بن عامر بن يحيى المعَافِرِيّ، عن أبي قَبِيْل، عن جُنَادَةَ بن أبي أُمَيَّة: أنّ قومًا دخلوا على مُعاذ بن جَبَلِ وهو مريض، فقالوا له: حدّثْنا حديثًا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم تَنْسَهُ، فقال: أَجْلِسُونِي، فَأَخَذ بَعْضُ القَوم بِيَدِهِ، وَجَلَسَ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، فقال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إلّا وقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجّالَ. وإِني أحَذِّرُكُمْ أمره، إنه أعور، وإنّ ربي، عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه الكاتب وغيرُ الكاتب، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار". قال شيخُنا الحافظ الذهبيّ: تفرّد به خُنَيْس، وما علمت فيه جَرْحًا، وإسنادُه صالح.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 103) والبخاري (7131) ومسلم (2923)(101).

(2)

هي قرية فيق من قرى حوران بأرض الشام تعرف الآن. وانظر خبرها في "معجم البلدان"(1/ 233).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 221 - 222).

ص: 94

‌حديث عن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدّثنا زُهَيْر، عن الأسود بن قَيْس، حدثني ثعلبة بن عِبَاد العَبْديّ، من أهل البصرة، قال: شَهِدْتُ يومًا خُطْبَةً لِسَمُرَةَ بن جُنْدُب، فذكر في خطبته حديثًا في صلاة الكسوف، وأنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بَعْد صلاة الكُسوف، فقال: "وإنه واللَّهِ لا تَقُومُ الساعةُ حتى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذابًا، آخرهم الأعْوَرُ الدجّال، مَمْسوحُ العَيْن اليُسْرَى، كأنَّها عَيْنُ أبي تِحْيى

(1)

وإِنه متى يخرُجْ" أو قال: "متى ما يخرج، فإنَّه سوف يَزعُمُ أنّه اللَّهُ، فمن آمن به وصدَّقه واتبعه، لم يَنْفَعْهُ صَالِحٌ منْ عَمَلِه سَلَفَ، ومَنْ كَفَر به وكَذَّبَهُ لَمْ يُعَاقَبْ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِه" وقال الحسن:"بِسَيِّئٍ من عمله سَلَفَ، وإنه سوف يظهر على الأرض كلِّها إلَّا الحرم، وبَيْتَ المَقْدِس، وإِنه يَحصر المؤمنين في بيت المقدس، ويزلزلون زلزالًا شديدًا، ثم يهلكه اللَّه، حتى إن جِذْمَ الحائِط، وأصلَ الشجرة ينادي: يا مؤمن، هذا يهوديّ" أو قال: "هذا كافر، تعال فاقتله، وليس يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورًا يَتَفَاقَمُ شَأنُها في العِلمِ، فتسألون بينكم: هل كان نَبيُّكم ذكَر لكم منها ذِكْرًا، وحتى تَزولَ جِبَالٌ عن مراتبها" ثم شهد خطبة سمرة مرة أخرى، فما قدَّم كلمة ولا أخَّرها عن موضعها، وأصل هذا الحديث في صلاة الكسوف عند أهل "السنن الأربعة" وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم في "مستدركه" أيضًا

(2)

.

وقال شيخنا الذهبي في كتابه في "نبأ الدجال"

(3)

: سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة مرفوعًا:"الدجالُ أعورُ عَيْنِ الشِّمال، عليها ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ". قلت: وليس هذا الحديث من هذا الوجه في "المسند"، ولا في شيء من الكتب الستة، وكان الأولى بشيخنا أن يُسنده، أو يعزُوَه إلى كتاب مشهور، واللَّه الموفق.

‌حديث آخر عن سمرة

قال أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا سعيد، وعبد الوهاب، حدثنا سعيدٌ، عن قَتَادَةَ، عن الحسن، عن سَمُرَة بن جُنْدُب، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن الدجال خارجٌ، وهو أعوَرُ عَيْنِ الشمال، عليها ظَفَرَة غليظة، وإنه يُبرئ الأكمه، والأبرص، ويُحيي الموتَى، ويقولُ للناس: أنا ربُّكم. فمن قال: أنت رَبّي، فقد فُتِنَ، ومن قال: رَبِّي اللَّهُ حتى يَمُوتَ، فقد عُصِم مِنْ فِتْنتِه، ولا فتنة [بعده] عليه، ولا عذاب، فيَلْبَث في الأرض ما شاء اللَّه، ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قِبَل

(1)

جاء تفسيره بعده في "المسند": لشيخ حِينئذ من الأنصار بينه وبين حجرة عائشة.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 16) وأخرج أصله أبو داود (1184) والنسائي (3/ 140 - 141) والترمذي رقم (562) وابن ماجه (1264) وابنِ حبان رقم (2851) والحاكم (1/ 329 - 331) وإسناده ضعيف، ولبعضه شواهد.

(3)

واسم الكتاب كاملًا: "الرَّوع والأوْجَال في نبأ المسيح الدَّجَّال، وهو مخطوط لم يطبع بعد فيما أعلم.

ص: 95

المَغْرب، مُصدِّقًا بمحمّد صلى الله عليه وسلم وعلى مِلّته، فيقْتُلُ الدجّال، ثم إنّما هو قيام الساعة"

(1)

.

وقال الطبرانيّ: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا مروان بن جعفر السَّمُريّ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان، ثنا جعفر بن سعد بن سَمُرة، عن خُبَيب

(2)

، عن أبيه، عن جدِّه سَمُرة: أَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن المسيح الدجال أعْوَرُ عَيْن الشِّمَال، عليها ظَفَرَةٌ غلِيظةٌ، وإنّه يُبرئ الأكْمَهَ، والأبْرصَ، ويُحيي الموتى، ويقول: أنا رَبكم. فمن اعتصم باللَّه، فقال: رَبِّي اللَّه، ثم أبى إلّا ذلك حتى يموت، فلا عذاب عليه، ولا فِتْنَة، ومن قال: أنْتَ ربِّي، فقد فُتِن، وإنه يَلْبَثُ في الأرض ما شاء اللَّه، ثم يجيء عيسى ابن مريم من المشرق مُصَدِّقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى مِلّته، ثم يقتُل الدجّال". حديث غريب

(3)

.

‌حديث عن جابر رضي الله عنه

قال الإمام أحمد بنُ حنبل: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا زُهَيْرُ، عن زيد، يعني ابن أسلم، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أشرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على فَلَق من أفلاق الحَرّة

(4)

، ونحنُ معه، فقال:"نِعْمَتِ الأرضُ المدينة، إذا خرج الدجّال، على كل نقب من أنقابها ملَكٌ، لا يَدْخُلُها، فإذا كان ذلك رَجَفتِ المدينةُ بأهلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، لا يَبْقَى مُنافِقٌ، ولا مُنَافِقةٌ إلّا خرج إلَيْه، وأَكثر يعني من يخرجُ إليه النِّساءُ، وذلك يوم التخليص، يوم تنفي المدينةُ الخَبَثَ كما ينفي الكيرُ خَبَثَ الحَديدِ، يكون معه سبعون ألفًا من اليهود، على كلّ رجل منهم تَاجٌ، وسيف مُحَلّى، فيَضْرِبُ رِواقَه بهذا الضرب الذي عند مجتمع السيول" ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما كانت فتنةٌ، ولا تكون، حتى تقومَ الساعةُ أكبرَ من فتنة الدجّال، وما من نَبِيٍّ إلّا وقد حَذّره أمته، ولأُخبرنكم بشيء ما أخبره نبيّ أُمته قبلي" ثم وضع يدَه على عينه

(5)

، ثم قال:"أشهد أن اللَّه ليس بأعور". تفرد به أحمد، وإسناده جيّد، وصححه الحاكم

(6)

.

‌طريق أخرى عن جابر

قال الحافظ أبو بكر البزّار: حدّثنا عمرو بن عليّ، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مُجالد، عن

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 13) وإسناده ضعيف.

(2)

في الأصول: "حبيب" والتصحيح من "المعجم الكبير".

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7082) و (6918 و 6919).

(4)

الفلق: المطمئن من الأرض بين ربوتين.

(5)

في الأصول: "عينيه" والمثبت من "مسند الإمام أحمد".

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 292) والحاكم (1/ 24) أقول: زيد بن أسلم لم يسمع من جابر، فهو منقطع، لكن الحديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 96

الشعبيّ، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّي لخَاتمُ ألْفِ نبيّ أو أكثر، وإنه ليس منهم نبيّ إلّا قد أنذر قومه الدجّال، وإنّه قد تَبَيّن لي ما لم يَتَبَيّن لأحدٍ منهم، وإنّه أعورُ، وإنّ ربكم لَيْس بأعْور". تفرّد به البزّار، وإسناده حسن، ولفظه غريب جدًا

(1)

.

وروى عبد اللَّه بن أحمد في "السُّنَّة"، من طريق مجالد، عن الشعبيّ، عن جابر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: "إنّه أعور، وإنّ ربكم ليس بأعور". ورواه ابن أبي شَيْبَة، عن عليّ بن مُسْهِر، عن مجالد، به أطولَ من هَذَا

(2)

.

‌طريق أخرى عن جابر رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزُّبَيْر، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدجّال أعور، وهو أشدُّ الكذّابين"

(3)

.

وروى مسلم من حديث ابن جُرَيج، عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي على الحق ظَاهِرِينَ حَتّى ينزل عيسى ابن مريَمَ"

(4)

. وتقدمت الطريقُ الأخرى، عن أبي الزُّبَيْر، عنه، وعن أبي سَلَمة، عنه، في الدجّال.

‌حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبةُ، عن سِماك بن حَرْب، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدجال: "أعورُ هِجَانٌ

(5)

، أزْهرُ، كأنّ رأسه أَصَلَةٌ

(6)

أشبهُ النّاس بعَبْد العُزَّى بن قَطَنٍ، فإمّا هَلَك الهُلّكُ، فإنّ رَبكم ليس بأعْور" وقال شُعْبة: فحدّثت به قَتَادَةَ، فحدّثني بنحوٍ من هذا. تفرد به أحمد من هذا الوجه

(7)

.

وروى أحمد، والحارث بن أبي أسامة، وأبو يعلى، من طريق هلال عن عكرمة عن ابن عباس في حديث الإسراء، قال: ورأى الدجالَ في صورته رؤيا عين، ليس رؤيا منام، وعيسى [وموسى] وإبراهيم، فَسُئِل [النبي صلى الله عليه وسلم]، عن الدجال فقال: "رأيته فَلْيَمَانِيًّا

(8)

أقمر هِجَانًا،

(1)

رواه البزار (3380)(كشف الأستار). أقول: وفي سنده مجالد بن سعيد وهو ضعيف.

(2)

رواه عبد اللَّه في "السنة"(1006) وابن أبي شيبة رقم (15/ 19301) وفي سنده ضعف.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 333) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (156).

(5)

الهجان: الأبيض.

(6)

الأفعى.

(7)

رواه أحمد في المسند (1/ 240) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(8)

الفيلم: العظيم الجثة.

ص: 97

إحدى عينيه قائمة، كأنّها كوكب دُرِّيّ، كأن شعره أغصانُ شجرة. . . " وذكر تمَام الحديث

(1)

.

‌حديث عن هشام بن عامر

قال أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد، يعني ابن هلال، عن هشام بن عامر الأنصاري قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بينَ خلق آدم إلى أن تقوم الساعةُ فِتْنَةٌ أكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدجّال".

وقال أحمد: حدثنا إسماعيل، حدّثنا أيوب، عن حُمَيْد بن هِلَال، في بعض أشياخهم، قال: قال هشام بنُ عامر لجيرانه: إنكم لتخطُون إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أوعى لحديثه منّي، وإني سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أَمْرٌ أكبرُ من الدجّال".

ورواه الإمام أحمد أيضًا، عن أحمد بن عبد الملك، عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أبي الدهماءِ، عن هشام بن عامر، أنه قال: إنكم لتجاوزُون

(2)

إلى رَهْط من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما كانوا أحصى ولا أحفظ لحديثه مني، وإني سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبرُ من الدجّال".

وقد رواه مسلم من حديث أيوب، عن حُمَيد بن هلال، عن رَهْطٍ، منهم أبو الدهماء، وأبو قتادة، عن هشام بن عامر، فذكر نحوه

(3)

.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرزّاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أبي قِلَابة، عن هشام بن عامر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن رأس الدجّال من ورائه حُبُك، حُبُك

(4)

فمن قال: أنت ربي افتتن، ومن قال: كذبتَ، ربي اللَّهُ، عليه توكلّتُ، فلا يَضُرّه" أو قال:"فلا فتنة عليه"

(5)

.

‌حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما

قال أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة، عن سالم؛ عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَنْزلُ الدجّال في هذه

(1)

رواه أحمد (1/ 374) والحارث بن أبي أسامة رقم (24 - بغية الباحث) وأبو يعلى رقم (2720) وهو حديث صحيح.

(2)

في (م): "لتجاوزونَّني" وفي (أ): "لتجاوزوني" والمثبت من "مسند الإمام أحمد" رقم (16267).

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 20 و 19 و 21) ومسلم رقم (2946).

(4)

الحبك: الطرق، والمعنى أن شعره متكسر من الجعودة.

(5)

رواه أحمد في المسند (4/ 20) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (20828) وإسناده منقطع.

ص: 98

السَّبَخَة، بمَرِّ قناة

(1)

، فيكون أكثر مَنْ يخرجُ إليه النساءُ، حتّى إنّ الرجل ليرجع إلى حَميه، وإلى أُمه، وابنته، وأخته، وعمّته، فيوثقها رباطًا، مخافة أن تخرجَ إِليه، ثم يُسلّط اللَّه المسلمين عليه، فيقتلونه، ويقتلون شيعته، حتى إن اليَهُوديَّ ليَخْتبئ تَحْتَ الشَّجَرةِ، أو الحَجَرِ، فيقول الحجر، أو الشجرةُ للمُسلم: هذا يهوديّ تحتي فاقتله". تفرد به أحمد من هذا الوجه

(2)

.

‌طريق أخرى عن سالم

قال أحمد: حدثنا عبد الرزّاق، حدثنا مَعْمَرُ، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على اللَّه تعالى بما هو أهله ثم ذكر الدجّال، فقال:"إنِّي لأُنْذِركُموهُ، وما من نبيّ إلّا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح صلى الله عليه وسلم قومه ولكن سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبيّ لقومه؛ تَعْلمُون أنّه أعْورُ، وأنّ اللَّه تبارك وتعالى ليس بأعور" وقد تقدّم هذا في "الصحيح" مع حديث ابن صيّاد

(3)

.

وبه عن ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"تقاتلكم اليهودُ، فتُسلَّطون عليهم، حتّى يقولَ الحجرُ: يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي، فاقتله". وأصله في "الصحيحين"، من حديث الزُّهريّ بنحوه

(4)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا عاصم بن محمد، عن أخيه عمر بن محمد، عن محمد بن زيد، يعني أبا عمر بن محمد، قال: قال عبدُ اللَّه بن عمر: كُنّا نُحدَّث بحَجَّة الوداعِ، ولا ندري أنّه الوداعُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان في حَجّة الوداع، خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر المسيح الدجّال، فأطنَبَ في ذِكره، ثم قال:"ما بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلّا فد أنذره أمته، لقد أنذر نوح أمته، والنبيُّون من بعده، ألَا ما خفي عليكم من شأنه فلا يَخْفَيَنَّ عَليكُم أنّ رَبّكم ليس بأعْور، ألا ما خفي عليكم من شأنه، فلا يخفينَّ عليكم، أن ربكم ليس بأعور". تفردّ به أحمد من هذا الوجه

(5)

.

(1)

قناة: موضع بالمدينة.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 67) وفي إسناده ضعف، ولآخره شاهد من حديث أبي هريرة عن مسلم رقم (2922).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 149) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (20820) وهو حديث صحيح انظر صفحة (74).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 149) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20837) وأخرج أصله البخاري رقم (3593) ومسلم رقم (2921).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 135) وهو حديث صحيح.

ص: 99

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنّه لم يكن نبيّ قبلي إلَّا وصفه لأمته، وَلأَصِفَنَّه صِفَةً لم يَصِفْهَا مَنْ كَانَ قَبْلي، إنّه أعْورُ، وإن اللَّه ليس بأعور، عينه اليمنى كأنها عِنَبة طَافِية". وهذا إسناد جيّد حسن

(1)

.

وقال الترمذيّ: حدّثنا محمد بن عبد الأَعلَى الصنْعَانيّ، حدثنا المعتمِرُ بن سُلَيْمانَ، عن عُبَيْد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سُئِل عن الدجّال، فقال:"ألا إنّ ربّكم ليس بأعور، ألا وإنه أعور، عينُه اليمنى كأنّها عِنَبةٌ طافية". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سعد، وحذيفة، وأبي هريرة، وأسماء، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي بكْرَةَ، وعائشةَ، وأنس، وابن عباس، والفَلتَان بن عاصم

(2)

.

‌حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما

قال أحمد: حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتَادَة، عن شَهْر بن حَوْشَب، قال: لمّا جاءتنا بَيْعَةُ يزيدَ بن معاوية، قدمْتُ الشامَ، فأُخْبِرتُ بمقَامٍ يَقُومُه نَوْفٌ، فجِئْتُه، إذْ جاء رجل، فاشتدّ الناس عليه خميصَة

(3)

، وإذا هو عبدُ اللَّه بنُ عمرو بن العاص، فلمّا رآه نَوْفٌ أمْسكَ عن الكلام، فقال عبد اللَّه: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، ينحاز الناسُ إلى مُهَاجَرِ إبراهيم، لا يبقى في الأرض إلّا شرارُ أهْلِها، تَلْفِظُهُمْ أرَضُوهمْ، تَقْذَرُهُم نَفْسُ الرحمن، تَحْشُرُهم النارُ مع القردَة، والخنازير، تبِيتُ معَهُمْ إذَا بَاتُوا، وتقِيلُ معهم إذا قالوا، وتأكلُ من تَخَلَّف" قال: وسمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج أناسٌ من أمّتي، مِنْ قِبَل المَشْرِق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تَراقِيَهم، كلّما خَرج مِنْهُم قرْنٌ قُطِع، [كلما خرج منهم قَرْنٌ قُطع] حتى عدَّها زيادة على عشر مرات، "كلما خرج منهم قرن قطع، حتّى يخرُج الدجّال في بَقيّتِهم".

ورواه أبو داود، من حديث قتادة، عن شَهْرٍ، عنه

(4)

.

‌طريق أخرى عنه

قال أبو القاسم الطبرانيّ: حدّثنا جعفر بن أحمد السامانيّ، حدثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا فِرْدَوْس

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 27) أقول: وفيه عنعنة ابن اسحاق، لكن له شواهد يقوى بها.

(2)

رواه الترمذي (2241) وهو حديث صحيح.

(3)

الخميصة: ثوب خز أو صوف معلم.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 198) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزق (20790) وأبو داود رقم (2482) وإسناده ضعيف.

ص: 100

الأشْعَرِيّ، عن مسعود بن سُلَيْمان، عن حَبِيبِ بن أبي ثابت، عن مُجاهد، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال في الدجال:"ما شُبِّه عليكم مِنْهُ، فإنّ اللَّه سبحانه ليس بأعور، يخرُج، فيكون في الأرض أربعين صباحًا، يرِدُ كلَّ مَنْهَلٍ، إلّا الكَعْبَةَ، وَبَيْتَ المَقْدِس، والمَدِينَةَ. الشهرُ كالجُمعة، والجمعةُ كاليوم، ومعه جنّة ونار، فنارُه جَنّة، وجنَّته نار، معه جبل من خُبْز، ونَهْرٌ مِنْ ماءٍ، يدعُو برجل لا يُسَلِّطُه اللَّهُ إلّا عَلَيْهِ، فيَقُول: ما تقولُ فيّ، فيقول: أنت عدو اللَّه، وأنت الدجّال الكذّابُ، فيدعو بمنشار، [فيضعه حَذْوَ رأسه] فيَشُقّه، ثم يُحْييه، فيقول له: ما تقول فيَّ: فيقول: واللَّهِ ما كنتُ أشَدَّ بصِيرةً مِنّي فِيكَ الآن، أنت عدوّ اللَّه، الدجّال الذي أخبرنا عنك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَهْوِي إليه بسَيْفِه، فلا يسْتطيعُه، فيقول: أخّروه عنّي". قال شيخنا الذهبيّ: هذا حديث غريب، ومسعود لا يُعرف.

وسيأتي حديث يعقوب بن عاصم عنه في مُكْث الدجّال في الأرض، ونزول عيسى ابن مريم.

‌حديث عن أسماء بنت يزيد بن السَّكَنِ الأنصارية

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن قتادة، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيدَ الأنصاريّة، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي، فذكر الدجّال، فقال:"إنّ بَيْنَ يَديهِ ثَلاثَ سِنِين، سَنةً تُمْسِكُ السَّماءُ ثُلُثَ قَطْرها، والأرضُ ثُلُثَ نَباتِها، والثانيةُ تُمْسِكُ السَّماءُ ثُلُثيْ قَطْرِهَا والأرضُ ثُلُثيْ نَباتها، والثالثة تُمسك السماء قَطْرهَا كُلَّه، والأرضُ نَباتها كلّه ولا يَبقَى ذاتُ ضرسٍ، ولا ذات ظِلْفٍ من البهائم إلّا هَلَكَتْ، وإن من أشَدِّ فتنته أن يَأتِيَ الأعرابي فيقول: أَرأيتَ إنْ أَحْيَيْتُ لك إبلَك؟ ألسَت تَعْلَم أنّي رَبُّك؟ " قال: "فيقول: بلَى، فتمثَّلُ له الشياطينُ نحو إبله، كأحسن ما تكون ضروعُها، وأعظمه أسْنِمَة" قال: "ويأتي الرجلُ قد مات أخوه، ومات أبوه، فيقول: أرأيت إنّ أحْيَيْتُ لك أباك، وأحييت لك أخاك، ألَسْتَ تَعلَمُ أنّي رَبُّكَ؟ فيقول: بلى، فتمثّلُ له الشياطين نحو أبيه ونحو أخيه" قالت: ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم رجع والقومُ في اهتمام، وَغمّ، مما حَدّثهم به، قالت: فأخذ بِلَجْفَتَي

(1)

الباب وقال: "مَهْيَمْ أسماءُ" قالتْ: قلتُ: يا رسول اللَّه، لقد خَلَعْتَ أفئدتَنا بذِكْرِ الدجّال، قال:"فإن يخْرُجْ وأنا حَيّ فأنا حَجِيجُه، وإلا فإنّ رَبيّ خلِيفَتي على كلّ مُؤْمن" قالت أسماء: يا رسول اللَّه، إنّا واللَّه لنَعْجِنُ عَجِينَتَنا فمَا نخْتَبِزُها حَتّى نَجُوعَ، فكيف بالمُؤمِنين يَوْمئذٍ؟ قال:"يجزئهم ما يُجزِئ أهْلَ السَّماءَ منَ التسبيح، والتَّقْدِيسِ". وكذلك رواه أحمد أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن شَهْر عنها

(1)

في (م): "لحمتي" وفي (أ): "لجفتي" والصواب ما أثبته. قال الفيروزابادي: ولجفتا الباب جنبتاه. "القاموس المحيط"(لجف).

ص: 101

بنحوه، وهذا إسناد لا بأس به، وقد تفرد به أحمد، وتقدم له شاهد في حديث أبي أمامةَ الطَّويلِ، وفي حديث عائشة بعده شاهدٌ له من وجه آخر أيضًا، واللَّه أعلم

(1)

.

وقال أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شَهْر، حدثتني أسماءُ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في حديث: "فَمنْ حَضَر مَجْلسي، وسَمِع قَوْلِي، فلْيُبَلِّغ الشاهدُ منكُم الغَائبَ، واعلموا أن اللَّه عز وجل صحيح ليس بأعور، وأنّ الدجّال أعورُ، ممسوحُ العَيْن، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كلّ مؤمن، كاتب وغير كاتب". وسيأتي عن أسماء بنت عُمَيْسٍ نحوُه، والمحفوظ هذا، واللَّه أعلم

(2)

.

‌حديث عائشة رضي الله عنها

قال الإمام أحمد: حدثنا عبدُ الصمد، حدّثنا حمّاد، حدّثنا عليّ بن زيد، عن الحسن، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر جَهْدًا يكون بين يدي الدجّال، فقالوا: أيُّ المال خَيْرٌ يومئذ؟ قال: "غلامٌ شديدٌ يَسْقِي أهْلَهُ الماءَ، وأمّا الطعامُ فَليْسَ" قالوا: فما طعامُ المؤمنين يومئذ؟ قال: "التسبيحُ والتكبير، والتحميد، والتهليل" قالت عائشة: فأينَ العربُ يومَئذ؟ قال: "العربُ يومئذ قليل". تفردّ بإسناده أحمد، وإسناده صحيح، فيه غرابة، وتقدّم في حديث أسماء، وأبي أمامة شاهدٌ له، واللَّه أعلم

(3)

.

‌طريق أخرى عنها

قال أحمد: حدّثنا سُليمانُ بن داود، حدّثنا حَرْب بن شدّاد، عن يحيى بن أبي كَثِير، حدّثني الحضرمي بن لاحق، أن ذَكْوانَ أبا صالح أخبره أن عائشةَ أخبرَتْهُ، قالت: دخَل عليّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:"ما يُبكيكِ؟ " قلت: يا رسول اللَّه، ذكرتُ الدجّال، فبكيت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنْ يَخْرج الدجّال وأنا حَيٌّ كفيْتكُموهُ، وإنْ يخْرُج الدجال بعدي فإنّ رَبّكم عز وجل ليس بأعور، إنّه يخرج في يَهُودِيّةِ أصْبهانَ، حتى يأتيَ المَدينَة، فينزلَ ناحيتَها، ولها يومئذ سَبْعَةُ أبواب، على كل نَقْبٍ منها ملَكان، فيخرُج إليه شِرارُ أهلها، حتى يأتيَ الشام، مدينة بِفلسْطِينَ ببَابِ لُدّ، فينزلُ عيسى ابنُ مَرْيمَ عليه السلام فيقتله، ثم يمكثُ عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا". تفرّد به أحمد

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 455 - 456 و 453) أقول: وفي سنده شهر بن حوشب، وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام، ولكن للحديث شواهد كما ذكر المصنف، انظر صفحة (86) و (101).

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 456) أقول: وفي إسناده ضعف.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 76) أقول: وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف وفيه عنعنة الحسن، لكن للحديث شواهد كما ذكر المصنف.

(4)

رواه أحمد في المسند (6/ 75) وإسناده حسن.

ص: 102

وقال أحمد أيضًا: حدثنا ابنُ أبي عدِيّ، عن داود، عن عامر، عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخلُ الدجّال مَكَّةَ، ولا المدينة". ورواه النَّسائيّ، عن قُتيْبةَ، عن محمد بن عبد اللَّه بن أبي عديّ به، والمحفوظ روايةُ عامر الشعبيّ عن فاطمة بنت قَيْس، كما تقدّم

(1)

.

وثبت في "الصحيح" من حديث هشام بن عُرْوة عن زوجته فاطمةَ بنت المُنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، أنها قالت في حديث صلاة الكسوف: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: "وإنّه قد أُوحِيَ إليّ أنكُم تُفْتنون في القبور قَريبًا" أوْ "مِثلَ فِتْنةِ المَسيح الدجّال" لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء. . . الحديث بطوله

(2)

.

وثبت في "صحيح مسلم" من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبَير، عن جابر، عن أم شَريك: أنّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَيفِرَّنَّ الناسُ منَ الدجّال حتى يلحقوا برؤوس الجبال" قلت: يا رسول اللَّه، أين العربُ يَومئذ؟ قال:"هم قليل"

(3)

.

‌حديث عن أم سلمة رضي الله عنها

قال ابنُ وَهْب: أخبرني مَخْرَمةُ بنُ بُكَيْر، عن أبيه، عن عُروة، قال: قالت أمّ سَلَمة: ذكرتُ المسيحَ الدجّال لَيْلةً، فَلم يأْتِني النَّوْمُ، فَلمَّا أصْبَحْتُ دَخَلْتُ على رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرتهُ فقال:"لا تَفْعلِي، فإنه إنْ يَخْرجْ وأَنا فيكُمْ يَكْفِكُمُ اللَّهُ بي، وإنْ يَخْرجْ بعد أن أموتَ يكْفِكُم اللَّهُ بالصالحين" ثم قام، فقال:"ما مِنْ نَبيّ إلّا حَذّر أمّته منهُ، وإني أحَذِّركُموهُ، إنه أعور، وإن اللَّه ليس بأعور". قال الذهبيّ: إسناده قويّ

(4)

.

‌حديث رافع بن خَديج

رواه الطبراني، من رواية عطية بن عطية، عن عطاء بن أبي رباح، عن عمرو بن شُعَيْب، عن سعيد بن المسيَّب، عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم القدريّة وأنهم زنادقةُ هذه الأمة، وفي زمانهم يكون ظلْمُ السلطان، وحَيْفٌ وأَثَرَةٌ؛ ثم يَبْعَثُ اللَّهُ طاعُونًا، فَيُفْني عامّتَهُم، ثم يكون الخَسْفُ، فما أقلّ من يَنْجو منهم، المؤمنُ يَوْمئذٍ قليلٌ فَرَحُهُ، شديد غَمُّهُ، ثم يكون المسخ، فيمسخُ

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 245) والنسائي في "الكبرى"(4257)، وانظر صفحة (77).

(2)

رواه البخاري رقم (86) ومسلم (905).

(3)

رواه مسلم رقم (2945).

(4)

رواه الطبراني في "الكبير"(23/ 569) قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 351) ورجاله ثقات، إلا أن شيخ الطبراني أحمد بن محمد بن نافع لم أعرفه.

ص: 103

اللَّهُ عامَّتهم، قردَةً، وخنَازيرَ، ثم يخرج الدجال على إثْرِ ذَلِكَ قريبًا" ثم بكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتّى بَكينا لبكائه، وقلنا: ما يبكيك؟ قال: "رحمة لأولئك القوم الأشقياء، لأن فيهم المُقتصد، وفيهم المجْتَهِد. . . " الحديث

(1)

.

‌حديث عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا يزيدُ بن هارون، حدثنا حمّاد بن سَلَمة، عن علي بن زيد، عن أبي نَضْرةَ، قال: أتينا عُثْمانَ بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مُصحَفًا لنا على مُصْحفِه، فلمّا حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا، ثم أُتِينا بِطِيبب فَتطيّبْنا، ثم جئْنَا المَسْجِدَ، فجَلسنَا إلى رجل، فحدَّثنا عن الدجال، ثم جاء عثمانُ بن أبي العاص، فقُمنا إليه فجلسنا، فقال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون للمسلمين ثلاثة أمصار، مصرٌ بمُلتَقى البَحْرين، ومصر بالحِيرةِ، ومصر بالشام، فيفزع الناسُ ثلاثَ فَزعَاتٍ، فيخرُج الدجال في أعراض الناس، فيَهْزِمُ مَنْ قِبَلَ المشرق، فأول مصر يرده المِصْرُ الذي بمُلْتَقَى البَحرَيْن، فيصير أهله ثلَاث فِرَق، فرقة تقيم تقول: نُشَامُّهُ

(2)

، ننظر ما هو؟ وفرقةٌ تلحقُ بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال سبعون ألفًا عليهم السِّيجان

(3)

، وأكثر تَبَعِهِ اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه، فيصير أهله ثلاث فرق، فرقة تقول: نشُامُّه، ننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغربي الشام، وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق

(4)

فيَبْعَثون سرحًا

(5)

لهم، فيصابُ سرحُهم فيشتد ذلك عليهم، وتُصيبهم مَجَاعَةٌ شَديدةٌ وجَهدٌ شديدٌ، حتّى إنّ أحدهم، لَيَحْرقُ وَتَر قوْسِهِ فيأكلُه، فبينما هم كذلك، إذ نادى مُنادٍ من السَّحَر، يا أيُّها الناسُ أتاكم الْغَوْثُ ثلاثًا، فيقول بعضُهم لبعض: إنّ هذا الصوتَ لصوتُ رجل شبعان، وينزل عيسى ابنُ مريم عليه الصلاة والسلام عند صلاة الصبح، فيقول له أميرُهم: يا رُوحَ اللَّه، تقدّم صَلِّ فيقول: هذه الأمة أمراءُ بعضُهم على بعْض، فيتقدم أميرُهم، فَيُصَلِّي، فإذا قضى صلاته، أخذ عيسى عليه السلام حَرْبَتَهُ، فَيذْهَبُ نحو الدجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حَرْبتَهُ بَيْن ثَندُوَتَيْهِ فيقتله، وينهزم أصحابُه، فليس يومئذ شيء يوارِي منهم أحدًا،

(1)

وواه الطبراني في "الكبير" رقم (4270)، قال الحافظ: عطية بن عطية لا يعرف، وأتى بخبر موضوع طويل.

(2)

أي نختبره.

(3)

"السِّيجَان": جمع ساج وهو الطّيلسان الأخضر، وقيل: هو الطّيلسان المقوّر ينسج كذلك. انظر "النهاية" لابن الأثير (2/ 432).

(4)

هي فيق في حوران من أرض الشام.

(5)

السرح: المال السائم متن الإبل والبقر والغنم.

ص: 104

حتَّى إن الشجرةَ لتقولُ: يا مؤمنُ، هذا كافر، ويقول الحَجَر: يا مؤمن هذا كافر". تفرد به أحمد

(1)

.

ولعلّ هذين المصرين هما البصرة والكوفة، بدليل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا الحشْرَجُ بن نُبَاتة القَيْسِيّ الكوفيّ، حدثني سعيدُ بن جُمْهَان، حدثنا عبد اللَّه بن أبي بَكْرَة، حدّثني أبي في هذا المسجد، يعني مسجد البصرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَتَنْزِلَنّ طائِفةٌ من أمّتي أرضًا يُقال لها: البصرة، يكثرُ بها عددهم، ويكثرُ بها نَخْلُهم، ثم يجيء بنو قَنْطُورَاء

(2)

صغار العيون حتى يَنْزلُوا على جِسْرٍ لَهُمْ، يقال له دِجْلة، فيتفرق المسلمون ثلاثَ فِرَق، فأمّا فرقةٌ فيأخذون بأذناب الإبل، وتلحق بالبادية، وهلكت، وأما فرقة فتأخُذُ على أنفسها فكفرت، فهذه وتلك سواء، وأما فرقة فيجعلون عِيَالَهُم خَلْفَ ظُهورِهمْ، ويقاتلون، فقتلاهم شهداء، ويفتَح اللَّه على بَقِيّتها".

ثم رواه أحمد عن يزيد بن هارون، وغيره، عن العوّام بن حَوْشَب، عن سعيد بن جُمْهَان، عن ابن أبي بَكْرَةَ، عن أبيه، فذكره، قال العوَّام: بنو قنطوراءَ هم الترك. ورواه أبو داود عن محمد بن يحيى بن فارس، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن سعيد بن جُمْهَان، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه. . . فذكر نحوه

(3)

.

وروى أبو داود من حديث بشير بن المهاجر، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث:"يُقاتلكم قومٌ صغار الأعين" يعني الترك، قال: "تسوقونهم ثلاث مرات، حتى تُلْحِقُوهم بجزيرة العرب، فأمّا في السياقة الأولى فينْجُو مَنْ هرب منهم، وأما في الثانية فينْجُو بعضٌ ويَهْلِك بعض، وأما في الثالثة فَيُصطَلَمونَ

(4)

" أو كما قال. لفظ أبي داود

(5)

.

وروى الثوريّ، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزَّعْراء، عن ابن مسعود، قال: يفترق الناسُ عند خروج الدجّال ثلاثَ فرق، فرقةٌ تتبعه، وفرقة تَلْحَقُ بأرض آبائها، بمنابت الشيحِ، وفرقة تأخذُ بِشَطّ الفُرات، يقاتلهم ويقاتلونه، حتى يجتمع المؤمنون بِقُرى الشام، ويَبْعَثُون طَلِيعةً فيهم فارس فرسه أشقر أو أبلق، فيُقْتَلون فلا يرجعُ منهم بشر

(6)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 216 - 217) وإسناده ضعيف بطوله، ولآخره شواهد.

(2)

"بنو قنطوراء": هم الترك، وذكرهم حذيفة فيما روي عنه في حديثه فقال: يوشك بنو قنطوراء أن يُخرجوا أهل العراق من عراقهم. . . كأني بهم خُرْز العيون، خنس الأنوف، عراض الوجوه، قال: ويقال: إن قنطوراء كانت جارية لإبراهيم على نبينا وعليه السلام، فولدت له أولادًا، والترك والصين من نسلها. عن "لسان العرب"(قنطر).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 44 - 45 و 40) وأبو داود رقم (4306) وإسناده ضعيف.

(4)

الصَّيلمْ: القطع المستأصل. انظر "النهاية"(3/ 49).

(5)

رواه أبو داود رقم (4305) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه الحاكم (4/ 496) وهو حديث صحيح موقوفًا.

ص: 105

‌حديث عن عبد اللَّه بن بُسْر رضي الله عنهما

قال حنبل بن إسحاق: حدثنا دُحَيم، حدثنا عبد اللَّه بن يحيى المعَافِريّ، هو البُرُلُّسِيُّ، أحدُ الثقات، عن معاوية بن صالح، حدثني أبو الوازع: أنه سمع عبد اللَّه بن بسر يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيُدرِكَنّ الدجّال مَن رآني" أو قال: "ليكُونن قريبًا مِنْ موتي". قال شيخنا الذهبي: أبو الوازع لا يُعرف، والحديث مُنكر، وتقدم في حديث أبي عُبَيْدة شاهدٌ له

(1)

.

‌حديث عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

قال الطبرانيّ: حدثنا العباس بن الفضل الأَسْفاطيّ، حدثنا زيد بن الحَرِيش، حدثنا أبو هَمَّام، محمد بن الزِّبْرقان، حدثنا موسى بن عُبَيدة، حدثني زيد بن عبد الرحمن

(2)

، عن سَلمة بن الأَكوع، قال: أقبلتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قِبل العَقِيق، حتى إذا كُنّا مع الثَّنيَّة، قال:"إني لأَنْظر إلى مَواقع عَدُوّ اللَّه المسيح، إنّه يُقْبِلُ حتَّى يَنْزِلَ من كذا، حتى يخرج إليه الغوغاء، ما من نَقْبٍ من أنقاب المدينة إلا عليه مَلَكٌ أو مَلَكَان يَحْرُسانِه، معه صُورَتان، صورةُ الجَنَّة، وصُورةُ النار، خضراء، ومعه شياطينُ يَتَشَبّهونَ بالأموات، يقول للحيّ: تَعْرِفُني؟ أنا أخوك، أنا أبوك، أنا ذو قرابةٍ منك، ألستُ قَدْ مِتُّ؟ هذا رَبُّنَا فاتَّبعْهُ، فيقضي اللَّه ما شاء منه، ويبعثُ اللَّه له رجلًا من المسلمين، فَيُسكِتُه، ويُبَكّته ويقول: هذا الكذّاب، يا أيها الناسِ، لا يغَرّنّكم، فإنه كذّاب، ويقول باطلًا، وليس ربُّكم بأعور، فيقول: هل أنتَ مُتّبعي؟ فيأبى، فيَشُقُّهُ شِقَّتين، ويَفْصِلُ ذلك، ويقول: أُعيده لكم؟ فيَبعْثهُ اللَّه أَشَدَّ ما كان تَكْذيبًا له، وأشد شَتْمًا، فيقول: أيُّها الناسُ، إن ما رأيْتم بلاءٌ ابتُلِيتُم به، وفِتْنَة افْتُتِنْتم بها، إنْ كانَ صَادقًا فلْيُعِدْني مَرَّةً أخْرَى، ألَا هُوَ كَذَّابٌ، فيأمر به إلى هذه النار، وهي صورة الجَنّة، ثم يخرج قِبلَ الشام".

موسى بن عُبَيِدَة الزَّبذي ضعيف، وهذا السياق فيه غرابة، واللَّه أعلم

(3)

.

‌حديث محجن بن الأدرع رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا يونس، حدثنا حماد، يعني ابن سَلمة، عن سعيد الجُرَيريّ، عن عبد اللَّه بن شَقيق، عن محْجَن بن الأَدْرَع: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال:"يومُ الخلاص وما يوم الخلاص؟! " ثلاثًا. فقيل له: وما يومُ الخلاص؟ قال: "يجيءُ الدجّال، فيَصْعَدُ أُحُدًا، فيَنظُرُ إلى

(1)

رواه حنبل بن إسحاق في كتاب "الفتن" رقم (21).

(2)

في الأصول: يزيد بن عبد الرحمن، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(3)

رواه الطبراني في "الكبير"(6305).

ص: 106

المدينة، فيقول لأصحابه: هل ترون هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة، فيجدُ بكلِّ نَقْبٍ من أنْقابها مَلَكًا مُصْلِتًا، فيأتي سبَخَةَ الجُرُف، فيَضْرِبُ رِواقَه، ثم ترْجُفُ المَدينَةُ ثلاثَ رَجَفَاتٍ، فلا يبقى مُنافِقٌ ولا مُنَافِقَةٌ، ولا فاسق، ولا فاسقة، إلا خرج إليه، فذلك يومُ الخلاص". تفرد به أحمد.

ثم رواه أحمد عن غُنْدر، عن شُعْبة، عن أبي بشْر، عن عبد اللَّه بن شَقيق، عن رَجَاء بن رجاء، عن محْجن بن الأَدْرع، قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيَدي فصعِد على أُحُدٍ، فأشرف على المدينة، فقال:"ويلُ أمِّها قريةً يَدَعُها أهلُها خير ما تكون" أو "كأخير ما تكون" فيأتيها الدجَّالُ، فيجدُ على كلِّ بابٍ مِنْ أبوابها مَلَكًا مُصْلِتًا بجَنَاحِهِ فلا يدخلُها" قال: ثم نزل وهو آخذٌ بيدي، فدَخل المسجدَ، فإذا رجل يُصَلِّي، فقال لي:"مَنْ هذا؟ " فأثْنَيتُ عليه خَيْرًا، فقال:"اسكتْ، لا تُسْمِعْهُ فتُهلِكَه" قال: ثم أتى حُجْرةَ امرأةٍ من نسائه، فنفضَ يدَهُ مِنْ يدي، وقال:"إنَّ خَيْر دينكم أيْسَرُهُ، إنَّ خَيْرَ دِينكم أيسره"

(1)

.

‌حديث آخر

قال مَعْمَرٌ في "جامعه"، عن الزُّهريّ: أخبرني عمرو بن [أبي] سُفْيانَ الثقفيّ، أخبرني رجل من الأنصار، عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدجّال، فقال: "يأتي سِباخَ المدينة، وهو مُحَرّم عليه أن يَدْخُلَها، فَتَنْتفِضُ بأهلها نَفْضَةً، أو نَفْضَتينِ، وهي الزلزلةُ، فيخرُج إليه منها كلُّ منافق، ومنافقة، ثم يُوَلِّي الدجّالُ قِبلَ الشام، حتَّى يأْتِيَ بعضَ جبَال الشام، وَبقيّةُ المسلمين يومَئِذ مُعتصمون بِذورة جَبَل، فيُحاصرهم نازلًا بأصله، حتى إذا طال عليهم البلاءُ، قال رجل: حتى متى أنتُمْ هكذا وعدّو اللَّه نازل بأصل جَبَلكم؟ هل أنتم إلّا بين إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ، بَينَ أَنْ يسْتَشهدَكُم، أو يظهركم اللَّه عليه، فيتبايعون على الموت بَيعْةً يَعْلَمُ اللَّه أنها الصدق من أنْفسهم، ثم تاخذهم ظُلْمَةٌ لَا يُبْصِرُ امرؤ كَفَّهُ، فيَنزِلُ ابنُ مريَم، فيَحْسِرُ عن أبصارهم وبين أظْهُرِهمْ رجلٌ عليه لأْمة فيقولون: من أنت؟ فيقول: أنا عبدُ اللَّه، ورسوله، ورُوحُه، وكَلِمتُه عيسى، اختارُوا إحدَى ثلاثٍ، بين أن يَبْعَثَ اللَّه على الدجّال وجُنوده عَذَابًا من السماء، أو يَخْسِفَ بهِمُ الأرض، أو يُسَلِّط عليهم سِلَاحَكُمْ، ويكفَّ سلاحهم عنكم، فيقولون: هذه يا رسول اللَّه أشْفَى لِصُدُورنا، فيومئذ يُرى اليهُودِيّ العظيمُ الطويل الأكُولَ الشَّرُوبَ، لا تُقِلُّ يَدُه سَيْفَه من الرِّعْدَةِ، فينزلون إليهم، فيُسلَّطُونَ عَلَيْهِم، وَيذُوبُ الدجّالُ،

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 338) وهو حديث ضعيف، دون جملة:"إن خير دينكم أيسره" فهي صحيحة.

ص: 107

حتّى يُدركه عيسى ابنُ مَريَم، فَيْقتُلَه". قال شيخنا الحافظ الذهبيّ: هذا حديث قويّ الإسناد

(1)

.

‌حديث نَهِيك بن صُرَيم رضي الله عنه

قال الحافظ أبو بكر البزّار: حدثنا أبو موسى الزَّمِن، حدّثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا محمد بن أَبَانَ، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عُبَيد اللَّه، عن أبي إدريس، عن نَهِيك بن صُريم السَّكُونيّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَتُقَاتِلُنَّ المُشركين، حتى يقاتل بقَيّتكُم الدجّالَ على نهر الأُرْدُنّ، أنتم شَرْقيَّهُ، وهو غَرْبيَّه" قال: وما أدري أيْنَ الأُرْدُن يوَمئِذ من الأرض؟ وكذا رواه سعيد بن سالم، وعبد الحميد بن صالح

(2)

.

‌حديث أبي هريرة رضي الله عنه

قال أحمد: حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا يعقوبُ، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتل المسلمونَ اليَهُودَ، فَيَقْتُلَهم المُسلِمُونَ، حتَّى يختبئ اليهوديّ من وراء الحَجَر، والشجر، فيقول الحجر، أو الشجر: يا مُسلم، يا عبد اللَّه، هذا اليهوديّ من خلفي، فتعال فاقتُلْه، إلا الغَرْقد، فإنّه من شجر اليهود"

(3)

.

وقد روى مسلم عن قُتَيبة، بهذا الإسناد:"لا تقومُ الساعةُ حتى تقاتلوا الترك. . . " الحديث

(4)

، وقد تقدّم الحديث بطرقه، وألفاظه، والظاهر واللَّه أعلم أن المراد بهؤلاء الترك أنصار الدجّال، كما تقدّم في حديث أبي بكر الصديق الذي رواه أحمد والترمذيّ وابن ماجه.

‌طريقٌ أخرى عن أبي هريرة

قال أحمد: حدَّثنا حُسين بن محمد، حدَّثنا جَريرٌ، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيمَ التَّيْميِّ، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَنْزِلَنَّ الدَّجَّالُ بِخُوزَ وَكَرْمَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُ الْمُطْرَقَةُ"

(5)

إسناده جيدٌ قويٌّ حسنٌ

(6)

.

(1)

رواه معمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20834).

(2)

رواه البزار (3387 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 417) ومسلم رقم (2922).

(4)

رواه مسلم رقم (2912)(65).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 337 - 338).

(6)

أقول: لكن فيه عنعنة ابن إسحاق.

ص: 108

‌طريقٌ أخرى عن أبي هريرة

قال حنبلُ بن إسحاق: حدَّثنا سُريجُ بنُ النعمان، حدَّثنا فُليحٌ، عن الحارث بن فُضيلٍ، عن زياد بن سعدٍ، عن أبي هريرةَ، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وذكَر الدَّجَّالَ، فقال:"إنّهُ لمْ يَكُنْ نَبِيٌّ [قبلي] إلَّا [قد] حَذَّرَهُ أُمَّتَهُ، وَسَأَصِفُهُ لَكُمْ مَا لَمْ يَصِفْهُ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ إِنَّهُ أَعْوَرُ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ. يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَكْتُبُ أَوْ لَا يَكْتُبُ". هذا إسنادٌ جيدٌ لَمْ يُخْرِجُوه

(1)

.

‌طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه

قال أحمد: حدّثنا سُرَيْجٌ، حدّثنا فُلَيْح، عن عمر بن العلاء الثقفيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"المدينةُ ومكة محفوفتان بالملائكة، على كلِّ نَقْبٍ منهما مَلَك، لا يدخلهما الدجّال ولا الطاعون". هذا غريب جدًا، وذِكْر مَكَّةَ في هذا ليس بمحفوظ، أو ذكر الطاعون

(2)

، واللَّه أعلم، والعلاء الثقفيّ هذا إن كان ابن زَيْدَلٍ فهو كذاب.

‌طريق أخرى عنه

قال البخاري ومسلم: حدّثنا زُهَيْرٌ، حدثنا جَرِير، عن عُمَارةَ، عن أبي زُرعة، عن أبي هريرة، قال: ما زِلْتُ أحِبُّ بني تَمِيمٍ، مُنذُ ثلاثٍ، سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"هم أَشَدُّ أمّتي على الدجّال" قال: وجاءت صَدَقَاتُهم، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذه صدقات قَومي" قال: وكانت سبِيّة منهم عند عائشة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَعتقيها فإنّها من ولدِ إسماعيل"

(3)

.

‌حديث عِمران بن حُصين رضي الله عنه

قال أبو داود: حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير، حدثنا حُمَيْدُ بنُ هلال، عن أبي الدّهماء، قال: سمعتُ عِمْرانَ بن حُصَيْن يُحَدّث قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِع بالدجّال فَلْينأ عَنْه، فواللَّه إن الرجل ليأتيه وهو يَحْسَبُ أنّه مؤمن فيَتَّبعه مما يُبْعث به من الشبهات، أو

(1)

رواه حنبل بن إسحاق في كتاب "الفتن"(28).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 483) وعصمة مكة من الدجال، رواه البخاري رقم (1881) ومسلم (2943) من حديث أنس، وعصمة المدينة من الطاعون أخرجه البخاري (1880) ومسلم (1379) من حديث المُجمر عن أبي هريرة، وأما عصمة مكة من الطاعون، فلا تصح، كما أشار إليها المصنف، وستأتي هذه الأحاديث قبيل ملخص سيرة الدجال.

(3)

أخرجه البخاري رقم (2543) ومسلم (2525).

ص: 109

لما يُبْعثُ به من الشبهات". هكذا قال. تفرّد به أبو داود

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا هشام بن حسّانَ، حدثنا حُمَيد بنُ هلال، عن أبي الدّهماء، عن عمران بن حُصَيْن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ سمع بالدجّال فلينأَ عنه، فإنّ الرجل يأتيه يَحْسَبُ أنّه مؤمنٌ، فما يزالُ به لما مَعَهُ من الشُّبَه حتّى يَتبعهُ". وكذلك رواه عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسّان، وهذا إسناد جيد، أبو الدهماء واسمه قِرْفَةُ بن بُهَيْس العدَوِيّ، ثِقَةٌ

(2)

.

وقال سُفيان بن عُيَيْنَة، عن عليّ بن زَيْد، عن الحسن، عن عمْران بن الحُصَيْن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد أكلَ الطَّعامَ، وَمشَى في الأسْواقِ" يعني الدجّال

(3)

.

‌حديث عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه

قال أبو داود: حدّثنا حَيْوةُ بنُ شُرَيح، حدّثنا بَقِيَّة، حدّثنا بَحِير، عن خالد، عن عمرو بن الأسود، عن جُنَادة بن أبي أميّة، عن عُبادة بن الصامت: أنّه حدّثهم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي قد حدّثتكم عن الدجال، حتى خَشيتُ ألّا تَعقلُوا، إنّ المسيح الدجّال رجل قصير، أفحَجٌ

(4)

، جعْدٌ، أعورُ، مطْمُوس العَيْن، ليس بنَاتئةٍ ولا جَحْراء

(5)

، فإن لُبِّس عَليكم، فاعلموا أن ربَّكُمْ ليس بأعور". ورواه أحمد عن حَيْوة بن شُرَيح، ويزيد بن عبد ربّه، والنسائيُّ عن إسحاق بن إبراهيم، كلّهم عن بَقِيّة بن الوليد به

(6)

.

‌حديثٌ عن أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ

رواه الطبرانيُّ مِن طريق أنس بن عياضٍ، عن عُبيدِ اللَّه

(7)

بن عمرَ، حدَّثني بعضُ أصحابِنا عن أسماءَ بنت عُمَيس، أنها شكَتْ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الحاجةَ، فقال:"كَيْفَ بِكُمْ إذَا ابْتُلِيتُمْ بِعَبْدٍ قَدْ سُخِّرَتْ لَهُ أنْهَارُ الأَرْضِ وَثِمَارُهَا، فَمَنِ اتَّبَعَهُ أَطْعَمَهُ وَأَكْفَرَهُ، وَمَنْ عَصَاهُ حَرَمَهُ وَمَنَعَهُ؟ " فقلتُ: يا رسول اللَّه، إنَّ الجارية لَتُخْلَفَنَّ

(8)

على التَّنُّورِ ساعةَ تَخْبِزُهَا، أكادُ أَفْتَتِنُ بِها في صلاتي، فكيف بِنا إذا كان ذلك؟ فقال: "إنَّ اللَّهَ لَيَعْصِمُ المُؤْمِنِينَ بِمَا يَعْصِمُ بِهِ الْمَلائِكَةَ

(1)

رواه أبو داود (4319) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 431).

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 444) وإسناده ضعيف.

(4)

أي بعيد ما بين الفخذين. انظر "النهاية"(3/ 415).

(5)

أي غائرة.

(6)

رواه أبو داود رقم (4320) وأحمد في المسند (5/ 324) والنسائي في "الكبرى" رقم (7764) وهو حديث حسن بشواهده.

(7)

في (م): عبد اللَّه، والتصحيح من كتب الرجال. .

(8)

في هامش (م): لتحتبسن.

ص: 110

مِنَ التَّسْبِيح، مكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ"

(1)

.

‌حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه

قال مسلم: حدثنا شهابُ بنُ عَبّاد العَبْدِيّ، حدثنا إبراهيم بن حُمَيْد الرؤاسي، عن إسماعيلَ بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شُعْبة، قال: ما سأل أحدٌ النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجّال أكثرَ مِمّا سألتُ، قال:"وما يُنْصِبُك منه، إنّه لا يضرك" قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّهم يقولون: إنّ معه الطعامَ، والأنهار، قال:"هو أهْوَنُ على اللَّه من ذلك".

حدثنا سُرَيْجُ بن يونس، حدثنا هُشَيم، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شُعْبة، قال: ما سأل أحدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الدجّال أكثرَ ممّا سألته، قال:"وما سُؤالك؟ " قال: قلت: إنّهم يقولون: معه جبَالٌ من خُبْز، وَلحْم، ونَهْرٌ من ماءً، قال:"هو أهْوَنُ على اللَّه من ذلك".

ورواه مسلم أيضًا في الاستئذان من طرق كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد، وأخرجه البخاري عن مُسدَّد، عن يحيى القَطّان، عن إسماعيل به

(2)

.

وقد تقدم في حديث حذيفة وغيره، أنّ ماءه نار، وناره ماء بارد، وإنما يُخَيَّل ذلك في رأي العين.

وقد تمسك بهذا الحديث طائفة من العلماء كابنِ حزم، والطحاويّ، وغيرهما، في أن الدجّال مُمَخْرِقٌ مُمَوِّه، لا حقيقة لما يُبْدِي للناس من الأمور التي تُشَاهَدُ في زَمانه، بل كُلُّها خَيَالَاتٌ عندَ هؤلاء، وقال الشيخ أبو عليّ الجُبّائي شيخُ المعتزلة: لَا يجُوز أن يكون لذلك حقيقة لئَلّا يشتبه خَارِقُ السَّاحِرِ بخَارِق النبيّ، وقد أجابه القاضي عياضٌ وغيرُه: بأنّ الدجّال إنّما يَدّعي الإلهيّةَ، وذلك منافٍ لبَشَريته، فلا يَمْتنِعُ إِجْراءُ الخَارق على يَدَيهِ والحالةُ هذه.

وقد أنكرت طوائفُ كثيرة من الخوارج، والجَهْمِيّة، وبعضُ المعتزلة، خروجَ الدجّال بالكلّية، وردّوا الأحاديث الواردة فيه، فلم يصنعوا شيئًا، وخرَجوا بذلك عن حيّز العلماء، لردّهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة، من غير وجهٍ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم ذلك، وإنما أوردنا بعض ما ورد في هذا الباب، وإن كان فيه كفايةٌ ومَقْنَع، وباللَّه المُستَعان.

والذي يظهر من الأحاديث المتقدّمة: أنّ الدجال يَمْتَحِنُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ، بما يَخْلُقه مَعَهُ من الخَوَارق المُشَاهَدةِ في زمانه، كما تقدّم أنّ من استجاب له يأمرُ السماءَ فتُمْطِرُهم، والأرضَ فتُنبِتُ لَهم زَرْعًا

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 402) وفي سنده جهالة.

(2)

رواه مسلم (2939) و (2152) والبخاري (7122).

ص: 111

تأكلُ مِنه أنْعَامُهُمْ وأنْفُسُهمْ، وَترجِعُ إليهم مواشيهم سِمانًا لُبْنًا، ومَنْ لَا يستجِيبُ لَهُ، وَيَردّ عليه أمْرَهُ تُصيِبُهم السَّنَةُ والجَدْبُ، والقَحْطُ، والغُلَّةُ، و [مَوْتُ] الأنعام، وَنَقصُ الأموال والأنفس والثَّمرات، وأنه يَتْبَعهُ كنُوز الأرض كيَعَاسِيب النّحْلِ، وأنه يَقْتلُ ذَلِك الشَّابّ، ثم يحييه، وهذا كلُّه ليس بمَخْرقَةٍ، بل له حقيقة امْتحَنَ اللَّهُ بِها عِبَادَه، في ذلك الزمان، فيُضِلّ به كثيرًا، ويَهْدِي به كثيرًا، يَكْفر المرتابون، ويزْدَادُ الذين آمنوا إيمانًا، وقد حمل القاضي عياضٌ وغيرُه على هذا المعنى معنى الحديث:"هو أهْوَنُ على اللَّه من ذلك"، أي هو أقلّ من أن يكون معه ما يُضِلّ به عباده المؤمنينِ، وما ذاك إلا لأنه ناقص، ظاهر النقص، والفجور، والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، فبينَ عينيه مكتوب: كافر، كتابةً ظاهرةً، وقد حقق ذلك الشارع في خبره بقوله: ك ف ر، فدلَّ ذلك على أنه كتابةٌ حِسية، لا معنوية، كما يقوله بعضُ الناس، وعينهُ الواحدةُ عوراءُ، شَنِيعَةُ المَنْظَرِ، ناتئة، وهو معنى قوله:"كأنّها عِنَبَةٌ طافِيَةٌ" أي على وجه الماء، ومن روى ذلك "طافئة": فمعناه لا ضوء فيها، وفي الحديث الآخر:"كأنّها نُخَامةٌ على حائط مُجَصّص"، أي بَشِعَةُ الشَّكْلِ.

وقد روي في بعض الأحاديث: أن عينه اليُمنى عوراء، وجاء في بعضها: اليُسرى، فإما أن تكون إحدى الروايتين غير محفوظة، أو أنّ العَوَر حاصلٌ في كل من العَيْنَيْنِ، ويكون معنى العَوَرِ النقصُ، والعَيْبُ، ويُقوي هذا الجواب ما رواه الطبراني: حدّثنا محمد بن محمد بن التمار، وأبو خليفة، قالا: حدثنا أبو الوليد، حدثنا زائدة، حدثنا سِمَاكٌ، عن عكْرمَة، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدجّال جَعْدٌ، هِجَانٌ، أقْمَرُ، كأن رأسه غُصْن شَجَرةٍ، مَطْمُوسُ عَينه اليُسْرَى، والأخرى كأنها عِنَبةٌ طَافِيَةٌ. . . " الحديث، وكذلك رواه سُفيان الثوريّ، عن سِماكٍ بنحوه

(1)

.

لكن قد جاء في الحديث المتقدّم: "وعينُه الأخرى كأنّها كوكب دُرّيّ":

وعلى هذا فتكون الرواية الواحدة غَلَطًا، ويحتمل أن يكون المرادُ: أن العين الواحدةَ عَوْراء في نفسها، والأخرى: عوراءُ باعتبار انفرادها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقد سأل سائل سؤالًا، فقال: ما الحكمة في أن الدجّال مع كثرة شَرّه وفجُوره، وانتشار أمره، ودعواه الربوبية، وهو في ذلك ظاهر الكذب، والافتراء، وقد حذّر منه جميعُ الأنبياء، كيف لم يُذكر في القرآن ويُحَذَّر منه، ويُصَرَّح باسمه، ويُنَوَّه بكَذِبه، وعِنَادِه؟ فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه قد أشير إلي ذِكره في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا. . .} الآية [الأنعام: 158]، قال أبو عيسى الترمذيّ عند تفسيرها: حدّثنا عبدُ بنُ حُمَيْد، حدثنا يَعْلَى بنُ عُبَيْد، عن فُضَيْل بن غَزْوانَ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11712) و (11713).

ص: 112

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَع نَفْسًا إيمانُها لم تكُن آمنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانِهما خَيْرًا، الدجّال، والدابّة، وطلوعُ الشمس من المغرب، أو من مَغْربها" ثم قال: هذا حديث حسن صحيح

(1)

.

الثاني: أنّ عيسى ابنَ مريم يَنْزلُ مِنَ السماء الدُّنْيَا، فيَقْتلُ الدجّال، كما تقدّم، وكما سيأتي، وقد ذُكر في القرآن نزولهُ في قوله تعالى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء].

وقد قرَّرنا في التفسير أنّ الضمير في قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائدٌ على عيسى، أي سينزل إلى الأرض، ويُؤمن به أهلُ الكتاب الذين اختلفوا فيه اختلافًا مُتَبايِنًا، فمِن مُدَّعِي الإلهية كالنصارَى، ومِن قائلٍ فيه قولًا عظيمًا، وهو أنّه وَلَدُ زَنْيةٍ، وهم اليهودُ، ومِن قائل: إنه قتل وصلب ومات، إلى غير ذلك، فإذا نزل إلى الأرض قبل يوم القيامة تحقّق كلٌّ من الفريقين كذبَ نفسه فيما يدَّعيه فيه من الافتراء، وسنقرر هذا قريبًا، وعلى هذا فيكون ذِكر نزول المسيح عيسى ابن مريم إشارَةً إلى ذكر المسيح الدجّال، مسيح الضَّلالَةِ، وهو ضِد مَسِيح الهُدَى، ومن عادة العرب أنّها تكتفي بذِكر أحد الضدّين عن ذِكر الآخر، كما هو مقررّ في موضعه.

الثالث: أنّ الدجال لم يُذكر بصريح اسمه في القرآن احتقارًا له، حيث إنه ادَّعى الإلهيةَ وهو بشر، وهو مع بشريَّته، ناقص الخَلْق، حقير، وذلك يُنافي جَلال الربّ وعظمته وكبريائه، وتَنْزيهه عن النَّقْص، فكان أمرُه عند الرَّب أحقر مِنْ أن يُذْكَرَ، وأصغر، وأَدْحَرَ مِنْ أن يُجَلَّى عَنْ أمْرِ دَعْواه، ويُحَذّرَ، ولكن انتصر الرسلُ لجَناب الربّ عز وجل فَجلَّوْا لأممهم عن أمره، وحذّروهم ما معه من الفتن المُضلّة، والخوَارِق المنقضية المضمحلَّة، فاكتفى بإخبار الأنبياء، وتواتُرِ ذلك عن سيّد ولد آدم إمام الأتقياء، عن أن يُذكَر أمرهُ الحقير بالنسبة إلى جلال اللَّه، في القرآن العظيم، ووَكل بيانَ أمره إلى كلّ نبيّ كريم.

فإن قلت: فقد ذُكِرَ فرعونُ في القرآن، وقد ادّعى ما ادّعاه من الإلهية والكذب، والبُهتان، حيثُ قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقال:{يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فالجواب أن أمر فرعون قد انقضى، وتبيّن كَذِبُه لِكل مؤمن، وعاقلٍ، وأمر الدجَّال سيأتي، وهو كائن فيما يُستَقبَلُ فِتْنةً واختبارًا للعباد، فتُرك ذِكرُه في القرآن احتقارًا له، وامتحانًا به، إذْ أمرُه وكذبه أظهر من أن يُنَبّه عليه، ويُحَذرَ منه، وقد يُترك ذِكرُ الشيء لوضُوحه، كما كان

(1)

رواه الترمذي رقم (3072).

ص: 113

رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضِ موْتِه قد عزم على أنْ يَكْتُبَ كتابًا بخلافة أبي بكر الصدّيق مِن بعده، ثم تركَ ذلك، وقال:"يأبى اللَّهُ والمُؤمنُونَ إلّا أبا بَكر"

(1)

فترك نَصَّهُ عَليه لوُضوح جلالته، وعظيم قدره عند الصحابة، وعلم عليه الصلاة والسلام أنّهم لا يَعْدلُون به أحدًا بَعْدَهُ، وكذلك وقع الأمرُ، ولهذا يُذكر هذا الحديث في دلائل النبوّة، كما تقدم ذِكْرُنَا له غيرَ مرة في مواضعَ من هذا الكتاب.

وهذا المقامُ الذي نحن فيه من هذا القَبيل، وهو أن الشيء قد يكون ظهوره كافيًا عن التنصيص عليه، وأن الأمر أظهرُ وأوضح وأجْلى من أن يُحْتاجَ معه إلى زيادةِ إيضاح على ما في القلوب مستقر، فالدجّال واضح الذمّ، ظاهر النقص، بالنسبة إلى المقام الذي يَدَّعيه، من الربُوبيّة، فتَركَ اللَّهُ ذِكْرهُ والنصَّ عَلَيه، لما يَعْلَمُ تعالى من عباده المُؤْمنين، من أن مثلَ الدجال لا يخفى ضلاله عليهم، ولا يَهيضُهُمْ ولا يزيدهم إلّا إيمانًا، وتسليمًا للَّه، ولرسوله، وتصديقًا للحق، وردًا للباطل.

ولهذا يقول ذلك المؤمن الذي يُسَلَّطُ عليه الدجّال، فيقتُلهُ، ثم يُحْييه: واللَّهِ ما ازدَدْتُ فِيك إِلا بصيرةً، أنت الأعور الكذَّاب الذي حدثنا عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من هذا أنه سمع خبر الدجال من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شِفاهًا.

وقد أخذ بظاهره إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي للصحيح، عن مسلم، فحكى عن بعضهم أنه الخَضِرُ عليه السلام

(2)

، وحكاه القاضي عياض عن معْمر في "جامعه"

(3)

.

وقد قال أحمد في "مسْنده"، وأبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه"، بإسنادهم إلى أبي عبيدة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لعله سيدركه من رآني، وسمع كلامي" وهذا مما قد يَتقوَّى به بعضُ من يقول بهذا، ولكن في إسناده غرابة

(4)

، ولعل هذا كان قبل أن يُبيَّن له صلى الله عليه وسلم من أمر الدجّال ما بُيِّن في ثاني الحال، واللَّه أعلم.

وقد ذكرنا في قصة الخضر كلام الناس في حياته، ودلَّلنا على وفاته بأدلة أسلفناها هنالك، فمن أراد الوقوف عليها فليتأمَّلها في قَصَص الأنبياء من كتابنا هذا واللَّه أعلم بالصواب.

‌ذكر ما يعصم من الدجَّال

فمن ذلك الاستعاذة من فتنته، فقد ثبت في الأحاديث الصحاح، من غير وجه أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم رقم (2387).

(2)

ذكره في صحيح مسلم بعد الحديث (2938).

(3)

"جامع معمر" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (20824).

(4)

رواه أحمد في المسند (1/ 195) وأبو داود رقم (4756) والترمذي (2234) وإسناده ضعيف، كما أشار المؤلف إلى ذلك.

ص: 114

كان يتعوّذ من فتنة الدجال في الصلاة، وأنه أمر أمته بذلك أيضًا:"اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن فتنة القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". وذلك من حديث أنس، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وسعد، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وغيرهم

(1)

. قال شيخنا الحافظ أبو عبد اللَّه الذهبي: والاستعاذة من الدجال متواترة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك حفظ آيات من سورة الكهف، كما قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هَمَّامٌ عن قتادة، حدثنا سالم بن أبي الجَعْد، عن معْدان، عن أبي الدرداء، يرويه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال: "من حَفِظَ عَشْر آياتٍ من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال"، قال أبو داود: وكذا قال هشام الدَّسْتوائي عن قتادة، إلا أنه قال:"من حفظ من خواتيم سورة الكهف"، وقال شعبة، عن قتَادة:"من آخر الكهف"

(2)

.

وقد رواه مسلم، من حديث هَمَّام، وهِشَام، وشُعْبة، عن قتادة به بألفاظٍ مُختلفةٍ، وقال الترمذيّ: حسن صحيح، وفي بعض رواياته:"الثلاث آيات من أوّل سورة الكهف". ورواه أحمد عن يزيد بن هارون، وعفّان، وعبد الصمد، عن هَمَّامٍ، عن قَتادَةَ به:"مَنْ حَفِظَ عَشْر آياتٍ مِنْ أول سُورَةِ الكَهْفِ عُصمَ مِنَ الدجّال"، وكذلك رواه عن رَوْح عن سعيد، عن قتادة، بمثله، ورواه عن حُسَيْن، عن شيبان، عن قَتَادةَ كذلك، وقد رواه عن غُنْدَر، وحَجّاج عن شُعْبةَ، عن قتادة، وقال:"مَنْ حفِظ عشر آيات من آخر سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال"

(3)

.

ومن ذلك الابتعادُ عنْهُ، فلا يراه فإن من رآه افتتن، كما تقدّم في حديث عمران بن حُصَيْن:"من سمع بالدجال فلْيَنْأَ عنه، فواللَّه إن المؤمن ليَأْتِيه وهو يَحْسبُ أنّه مُؤمن فيتبعه لما يبعث به مِنْ الشبهات"

(4)

.

ومما يعصم من فتنة الدجال سكنى المدينة النبوية ومكة، شرفهما اللَّه تعالى.

فقد روى البخاريّ، ومسلم، من حديث الإمام مالك رضي الله عنه عن نُعَيمٍ الْمُجْمِر عن

(1)

رواه البخاري رقم (4707) وأصله في مسلم رقم (2706) من حديث أنس، والبخاري (1377) ومسلم (588) من حديث أبي هريرة، والبخاري (832) ومسلم (587) من حديث عائشة، ومسلم (590) من حديث ابن عباس، والبخاري (6365) من حديث سعد، والنسائي (8/ 269) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عند مسلم الأمر بذلك.

(2)

هكذا في هذه الرواية: (من آخرها) وهي شاذة، والصواب (من أولها)، كما في صحيح مسلم (809).

(3)

رواه أبو داود (4323) ومسلم (809) والترمذي (2886) وأحمد (5/ 196) و (6/ 449 و 446).

(4)

رواه أحمد (4/ 431) و (441) وأبو داود (4319) وهو حديث صحيح.

ص: 115

أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "على أنقاب المدينة ملائكةٌ لا يدخلُها الطاعُون، ولا الدجال"

(1)

.

وقال البخاريّ: حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه، حدثني إبراهيمُ بن سعد، عن أبيه [عن جده] عن أبي بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخلُ المدينةَ رُعْبُ المسيح الدجّال، لها يومئذ سَبْعَةُ أبواب، على كلّ بابٍ مَلَكان"

(2)

. وقد روى هذا جماعةٌ من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسلمةُ بنُ الأكْوَع، ومِحْجَنُ بن الأدْرَع، كما تقدم.

وقال الترمذيّ: حدّثنا عَبْدَةُ بنُ عبد اللَّه الخُزَاعِيّ، حدثنا يزيدُ بنُ هارون، حدثنا شُعْبَةُ، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يأتي الدجّالُ المدينةَ، فيجدُ الملائكةَ يَحْرُسُونَها، فلا يدخلُها الطاعون، ولا الدجّال إن شاء اللَّه تعالى". وأخرجه البخاريّ عن يحيى بن موسى، وإسحاق بن أبي عيسى، عن يزيد بن هارون به، ثم قال الترمذيّ: هذا حديث صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة، وفاطمةَ بنتِ قيس، ومِحْجَن، وأسامةَ، وسَمُرةَ بن جُنْدُبٍ، رضي الله عنهم أجمعين

(3)

. وقد ثبت في "الصحيح" أنّه لا يدخُل مَكّةَ ولا المدينة، تمنعه الملائكة لشرف هاتين البُقْعَتيْن، فهما حَرَمانِ آمنانِ، وإنما إذا نزل عند سبخَةِ المَدينة تَرْجُف بأهلها ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، إمَّا حِسًّا وإما معنًى، على القولين، فيخرج إليه كلُّ منافق ومنافقة

(4)

، فيومئذ تنفي المدينةُ خَبَثَها وَينْصَعُ طِيبُها، كما تقدّم.

‌ملخص سيرة الدَّجَّال لعنه اللَّه تعالى

هو رجل من بني آدم، خلقه اللَّه تعالى ليكون مِحْنَةً واختبارًا للناس، في آخر الزمان، فيُضّل به كثيرًا، ويهدي به كثيرًا، وما يضِلُّ به إلَّا الفاسقين.

وقد روى الحافظ أحمدُ بن علي الأبّار، في "تاريخه"، من طريق مُجَالِد، عن الشعبي: أنّه قال: كُنْيَةُ الدجّال أبو يُوسف.

وقد رُوي عن عمر بن الخطّاب، وأبي ذَرّ، وجابر بن عبد اللَّه، وغيرهم من الصحابة، كما تقدّم: أنّه: ابنُ صيّاد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدّثنا حَمّاد بنُ سلَمة، عن عليّ بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يمكثُ أَبوا الدجّال ثلاثينَ عامًا لا يولَدُ لهما، ثم

(1)

رواه البخاري (1880) ومسلم رقم (1379).

(2)

رواه البخاري (1879).

(3)

رواه الترمذي رقم (2242) والبخاري (7134).

(4)

رواه أحمد (3/ 191) والبخاري (1881) ومسلم (2943) من حديث أنس، وأحمد (3/ 192) من حديث جابر.

ص: 116

يولد لهما غلام أعور أضرّ شيء، وأقَلُّه نَفْعًا، تنام عيناه، ولا ينام قلبه" ثم نعت أبويه، فقال: "أبوه رجل طويلٌ، مُضْطَرِبُ اللّحم، طويلُ الأنفِ، كأنّ أنْفَه مِنْقارٌ، وأمّه امرأة فِرضاخية

(1)

عظيمة الثديين" قال: فبلغنا أن مولودًا من اليهود وُلِد بالمدينة، فانطلقتُ أنا والزبيْرُ بنُ العوّام، حتى دخلنا على أبَويْه، فوجدنا فيهما نَعْتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإذا هو مُنجَدِلٌ في الشَّمْسِ في قَطِيفَةٍ، له هَمْهَمة، فسألنا أبَوَيه، فقالا: مكثنا ثلاثين عامًا لا يولد لنا، ثم ولِدَ لنا غُلامٌ أعور، أضَرّ شيء، وأقلُّه نفْعًا، فلما خرجنا مَرَرْنَا به، فقال: ما كُنتما فيه؟ قلنا: وسَمِعْتَ؟ قال: نعم، إنّه تَنامُ عَيْنَاي، ولا يَنامُ قَلْبِي، فإذا هو ابنُ صَيّاد. وأخرجه الترمذيّ من حديث حمّاد بن سلمة، وقال: حسن

(2)

. قلت: بل هو منكر جدًّا

(3)

واللَّه أعلم.

وقد كان ابنُ صيّاد من يهود المدينة، وقيل: كان من الأنصار، واسمه عبدُ اللَّه، ويل: صاف، وقد جاء هذا، وهذا، وقد يكون أصل اسمه صاف، ثم تَسَمّى لَمّا أسْلَمَ بَعْبد اللَّه، وكان ابنهُ عُمَارةُ بنُ عبد اللَّه من سادات التابعين، رَوى عنه مالك، وغيره، وقد قدمنا أنّ الصحيح أن الدجّال غيرُ ابن صيّاد، وأنّ ابن صيّاد كان دجّالًا من الدجَاجِلَة، ثم تِيب عَليْه بعد ذلك، فأظهرَ الإسلام، واللَّه أعلمُ بضميره، وسريرته

(4)

.

وأما الدجال الأكبرُ، فهو المذكور في حديث فاطمةَ بنت قيس، الذي روته عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تميم الداريّ، وفيه قصةُ الجَسّاسَةِ، ثم يُؤذَنُ له في الخروج في آخر الزمان، بعد فتح المسلمين مدينة الروم المسمّاة بقسطنطينية، فيكون بُدُوُّ ظهوره من أصْبهانَ، من حارة بها يقالُ لها: اليَهُودِيّة، وَينْصُرهُ مِنْ أهلها سَبْعونَ ألف يَهُودِيّ، عليهم الأسلحة، والسِّيجان، وهي الطيالسة الخُضْرُ، وكذلك ينصره سبعون ألفًا من التتَار، وخَلْقٌ من أهل خُراسَان، ومِن أهل البوادي، فَيظْهَرُ أولًا في صورة مَلِكٍ من الملوك الجبابرة، ثم يَدّعي النبوّة، ثم يدّعي الربُوبيّة، فيتبعه على ذلك الجَهَلةُ من بني آدَم، والطَّغَامُ

(5)

من الرّعاع والعوائم، ويخالفه، ويرُد عليه من هداه اللَّه من عباده الصالحين وحزب اللَّه المتّقين، وَيَتدَنَّى، فيأخذ البلاد بلدًا بلدًا، وحِصْنًا حِصْنًا، وإقليمًا إِقليمًا، وكُورة كُورة، ولا يبقى بلدٌ من البُلدان إلا وَطئهُ بِخَيْلِه، ورَجِلِهِ، غير مكّة، والمدينة، ومدّة مُقامِه في الأرض أربعون يَوْمًا، يوم كسنَة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيام الناس هذه، ومُعَدّل ذلك سنة وشهران ونصف، وقد خلق اللَّه على يديه خَوارق كثيرةً، يُضلّ بها مَنْ يَشاءُ من خَلْقِه، وَيثْبُتُ معها المُؤمنُونَ،

(1)

أي ضخمة. انظر "النهاية" لابن الأثير.

(2)

أقول: وفي بعض نسخ الترمذي: حسن غريب.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 40) والترمذي (2248).

(4)

انظر تفاصيل خبر ابن صياد في "شذرات الذهب"(1/ 142 - 150) تحقيق ولدي وتلميذي الأستاذ محمود الأرناؤوط، بإشرافي، طبع دار ابن كثير.

(5)

"الطغام": هم أوغاد الناس وأراذلهم. انظر "النهاية"(3/ 128).

ص: 117

فيزدَادونَ بها إيمانًا مع إيمانهم، وهُدًى إلى هُداهُمْ، ويكونُ نزول عيسى ابن مَرْيم عليه الصلاة والسلام مسيح الهُدَى في أيام المسيح الدجّال مَسيح الضَّلالة، على المنَارةِ الشَرقِيّة بدمَشْق، فيَجْتمع عليه المؤمنون، ويلْتَفُّ معه عباد اللَّه المتقون، فيسير بهم قاصدًا نحو الدجّال، وقد توجّه نحو بيت المقدس، فيدركه عند عَقبَةِ أفيق فينهزم منه الدجّال، فَيلحَقُه عند باب مدينة لُدّ فيقتُله بحربته وهو داخل إليْها، ويقول له: إنّ لي فيك ضَرْبَةً لن تفوتني، وإذا واجهه الدجّال انماع كما يَنْماعُ الملحُ في الماء فيقتله بالحربة، بباب لُدّ، فتكون وفاته هنالك، لعنه اللَّه، كما دلّت على ذلك الأحاديث الصحاح من غير وجه، كما تقدم وكما سيأتي.

وقد قال الترمذيّ: حدثنا قُتَيْبة بن سعيد، حدثنا الليثُ، عن ابن شهاب: أنّه سمع عبيد اللَّه

(1)

بن عبد اللَّه بن ثَعْلَبة الأنْصاريّ، يحدِّث عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، من بني عمرو بن عوف يقول: سمعتُ عمِّي مُجمّعَ بن جارية الأنصاري يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يَقْتُل ابنُ مريم الدجّال بباب لُدّ". وقد رواه أحمد، عن أبي النضر، عن الليث عن الزهري به، وعن سفْيان بن عيينة، عن الزُّهريّ به، وعن محمد بن مُصْعَبٍ عن الأوزَاعيّ، عن الزهري به، وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، فهو محفوظ من حديثه، وإسنادُه من بعده ثقات، ولهذا قال الترمذي بعد روايته له: وهذا حديث صحيح. قال: وفي الباب عن عمران بن حُصَيْن، ونافع بن عُتْبة، وأبي بَرْزَةَ، وحُذَيْفَة بن أَسِيد، وأبي هُريرة، وكَيْسانَ، وعُثمان بن أبي العاص، وجابر، وأبي أُمَامَة، وابن مسعود، وعبد اللَّه بن عمرو، وسَمُرة بن جُنْدُب، والنوّاس بن سِمْعان، وعمرو بن عَوْف، وحُذَيفة بن اليمان

(2)

.

وروى أبو بكر بنُ أبي شيبة، عن سفيان بن عُيَيْنَةَ، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه، أن عمر سأل يَهُودِيًّا عن الدجّال، فقال: وإلهِ يَهوُدَ لَيقْتُلَنَّه ابْنُ مَرْيَم بِفنَاءِ لُدّ

(3)

.

‌صفة الدجَّال قبحه اللَّه، ولعنه، وأخزاه، وأخسأه

قد تقدم في الأحاديث أنه أعور، وأنَّه أزْهَرُ هِجَانٌ فيْلَمانيّ، وهو كثير الشعر، وفي بعض الأحاديث أنه قصير أفحج

(4)

وفي حديث أنه طويل، وجاء أن ما بين أذُنَيْ حِمَارِه أربعون ذراعًا كما تقدم في حديث جابر.

ويُروى في حديثٍ آخرَ: سبعونَ باعًا، ولا يصحّ، وفي الأول نظر.

(1)

في (م): عبد اللَّه، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

رواه الترمذي (2244) وأحمد في المسند (3/ 420) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(15/ 19339) وهو صحيح.

(4)

أي متباعد ما بين الرجلين. انظر "النهاية"(3/ 415).

ص: 118

وقال عَبْدانُ في كتاب "مَعْرفة الصَّحابة": رَوى سُفْيان الثوريّ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة، عن حَوْط العَبْدِيّ، عن ابن مسعود، قال: أُذُنُ حِمَار الدجال تُظلُّ سبعين ألفًا.

قال شيخنا الحافظ الذهبيّ: حَوْطٌ مجهول، والخبرُ مُنْكَرٌ.

وأنّ بين عَيْنيه مكتوب: كافر، يقرؤه كلّ مُؤمن، وأن رأسه من ورائه كأنّه أَصَلَةٌ، أي حَيّةٌ؛ لعله طويل الرأس.

وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا حجَّاج، حدثنا حمَّاد، عن أيوبَ، عن أبي قِلَابةَ، قال: دخلتُ المسجد، فإذا الناس قد تَكَابُّوا على رجل، فسمعتُه يقول: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بعدي الكذّابَ المُضِلَّ، وإنَّ رأسَهُ مِنْ ورائه حُبُكٌ حُبُكٌ". وتقدّم له شاهد من وجه آخر

(1)

.

ومصْى حُبُكٌ، أي جَعْدٌ، خَشِنٌ، كقوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} [الذاريات].

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيدُ، حدثنا المسعوديّ. وأبو النضر، حدثنا المسعودي، المعنى، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن أبي هُرَيرَة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خرجتُ إلَيْكُمْ، وقد بُيِّنَتْ لي ليلةُ القدر، ومَسِيحُ الضَّلالةِ، فكان تلاحٍ بين رجلين، بسُدَّةِ المسجد، فأتيتُهما لأَحْجِزَ بَيْنَهُما، فَأُنْسِيتُهما، وسأشْدُو لكم منهما شَدْوًا، أما لَيلَةُ القَدْرِ، فالتمسوها في العَشْر الأواخر وِتْرًا، وأما مسيحُ الضّلَالةِ، فإنه أَعْوَرُ العين، أَجْلَى الجَبْهَةِ، عريض النَّخرِ، فيه دفًا

(2)

، كأنه قَطَنُ بنُ عبد العُزَّى" قال: يا رسول اللَّه، هل يَضُرُّني شَبَههُ؟ قال:"لا، أنْتَ امرؤ مسْلِمٌ، وهو امرؤ كَافِرٌ". تفرّد به أحمد، وإسناده حسن

(3)

.

وقال الطبرانيّ: حدثنا أبو شُعَيْب الحرانيّ، حدثنا إسحاق بنُ موسى، [ح] وحدثنا محمد بنُ شُعَيْب الأصبهانيّ، حدثنا سعيد بن عَنْبَسَة، قالا: حدثنا سعيدُ بنُ محمد الثقفيّ، حدثنا حَلّام بنُ صالح، أخبرني سُلَيمان بنُ شهاب العَبسي، قال: نزل عليّ عبد اللَّه بن مَغْنَم، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدجّال ليس به خَفاءٌ، إنه يجيءُ مِنْ قِبَل المَشْرق، فيدعُو إلى حَقّ؛ فيُتَّبع، ويَنْتَصِبُ للناس فيُقَاتِلُهُمْ، فَيَظْهَرُ عَلَيهم، فلا يزالُ على ذلك حتى يَقْدَمَ الكوفة، فيُظْهِرُ دينَ اللَّه، ويعمل به، فيُتَّبع، ويحبّ على ذلك، ثم يقول بعد ذلك: إنّي نَبِي، فَيَفْزَعُ مِنْ ذلك كلُّ ذي لُبّ ويُفَارقه، فيمكُثُ بعد ذلك، حتى يقول: أنا اللَّهُ، فتَعْمَشُ عَيْنُه اليُمْنى،

(1)

رواه حنبل بن إسحاق في كتاب "الفتن" رقم (7)، ورواه ابن عمه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (5/ 372) من طريق حماد به، وهو حديث صحيح.

(2)

أي الانحناء.

(3)

أخرجه أحمد في المسند (2/ 291). أقول: وفيه المسعودي وقد اختلط، ولكن الحديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 119

وتُقْطَع أُذنه، ويُكتَبُ بَيْن عَيْنَيْه: كافر، فلا يَخْفَى على كلِّ مسْلم، فيُفارقُه كلّ أحدٍ من الخَلْق في قَلْبه مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، ويكونُ أصحابُه وجنودُه المجوسَ واليهودَ والنصارى، وهذه الأعاجمَ من المشركين. ثم يدعو برجل فيما يرون، فَيُؤْمر به فَيُقَتلُ، ثمَ يُقَطَع أعضاءه، كلَّ عضُو علَى حِدَةٍ، فيُفَرّق بينها، حتّى يراه الناسُ، ثم يَجْمَعُ بَيْنَها، ثمَ يضربه بعصاهُ، فإذا هو قائمٌ، فيقول: أنا اللَّه، أُحْيي، وأميتُ، وذلك كُله سحْرٌ يسحر بِه أَعْيُنَ الناسِ، لَيْس يَصنع من ذلك شيئًا". قال شيخنا الذهبيّ: ورواه يحيى بنُ موسى خَتٌّ

(1)

، عن سعيد بن محمد الثقفي

(2)

وهو واهٍ.

وعن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنّه قال في الدجّال: هو صافي بنُ صائِد، يخرجُ من يَهُوديّة أَصْبهَانَ، على حِمار أبْتَرَ، ما بين أذُنَيْهِ أربعونَ ذِراعًا، وما بين حافره إلى الحافر الآخر أربعُ لَيالٍ، يتناولُ السماءَ بِيدِه، أمامَهُ جَبَلٌ مِنْ دُخانٍ، وخلْفَهُ جَبَلٌ آخَرُ، مكتوب بين عَيْنَيْه: كافر، يقول: أنا رَبُّكم الأعلى، أتْباعهُ أصحابُ الرِّبا، وأَولادُ الزِّنى. رواه أبو عمرو الداني في كتاب "أخبار الدجال"، ولا يصح إسنادُه.

‌خبر عجيب ونبأ غريب

قال نُعَيْمُ بنُ حَمّاد في كتاب "الفتن": حدثنا أبو عمر، عن عبد اللَّه بن لَهِيعَةَ، عن عبد الوهاب بن حُسَين، عن محمد بن ثابت، عن أبيه، عن الحارث، عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "بين أُذُنَي الدجّال أربعون ذِرَاعًا وخُطْوَةُ حماره مَسِيرَةُ ثَلَاثةِ أيَّام، يخوض البحر، كما يخوض أحدُكم الساقية، ويقول: أنا ربّ العالمين، وهذه الشمس تجري بإذْنِي، أفتريدونَ أنْ أَحْبِسَها، فَتُحْبَسُ الشمس، حتى يُجْعَلَ اليومُ كالشَّهْرِ، والجُمُعةِ، ويقول: أتريدون أن أسَيِّرها، فيقولون: نَعم، فيجعل اليوم كالساعة.

وتأتيه المرأةُ فتقول: يا ربّ، أحْيِ لي ابني، وأحْي لي زوجي، حتّى إنها تُعاين شياطين على صورهم، وبيوتُهم مملوءة شيَاطِينَ.

ويأتيه الأعرابُ فتقول: يا ربّنا أحْيِ لنَا إِبلَنَا، وغَنَمنا، فيعطِيهم شياطين أمثالَ إبلِهم، وغَنَمهِم، سواء بالسّن، والسِّمَة، فيقولون: لو لم يكن هذا ربَّنا لم يُحْيِ لنا مَوْتَانَا.

ومعه جبل من مَرَقٍ وعُراق

(3)

اللَّحم، حارّ لا يَبْرُد، ونهرٌ جارٍ، وجَبلٌ من جِنَانٍ وخُضْرةٍ، وَجَبَلٌ مِن نَارٍ ودُخَانٍ، يقول: هذه جَنّتي، وهذه ناري، وهذا طعامي، وهذا شرابي، واليَسَعُ، عليه الصلاة

(1)

هو يحيى بن موسى بن عبد ربّه بن سالم الحُدَّاني أبو زكريا البلخي السَّختياني، المعروف بخَتّ. انظر "تهذيب الكمال"(32/ 6 - 9) بتحقيق الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف، طبع مؤسسة الرسالة.

(2)

هو سعيد بن محمد الورَّاق الثقفي، ضعيف.

(3)

عُرَاق: جمع عَرْق، وهو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم، وهو جمع نادر. انظر "النهاية" لابن الأثير (3/ 220).

ص: 120

والسلام، معه، يُنْذِرُ النَّاسَ منه، يقول: هذا المسيح الكذّاب فاحذروه، لعنه اللَّه، ويُعطيه اللَّه من السرعة، والخِفّة ما لَا يلحَقُه الدجّال، فإذا قال: أنا ربّ العالمين، قال له الناسُ: كذبتَ، ويقول اليَسَعُ: صدق الناسُ، فيَمُرّ بمكة، فإذا هو بخَلقٍ عظيم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا ميكائيلُ، بعثني اللَّه أن أمْنَعَهُ مِنْ حَرَمِه.

ويَمُرّ بالمدينة، فإذا هو بخَلْقٍ عظيمٍ، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا جبريلُ، بعثني اللَّه لأمْنَعَه مِنْ حَرمِ رَسُولِهِ، فَيمُرّ الدجّال بمَكة، فإذا رأى مِيكَائيلَ ولّى هاربًا، ويصيح، فيخرُج إليه من مكة منافقوها ومن المدينة كذلك.

ويأتي النذير إلى الذين فَتَحوا القسطنطينية، ومن تألَّف من المسلمين ببيت المقدس أن الدجال قد خرج وخلَفكم في ذراريكم" قال: "فيتناول الدجّال ذلك الرجل، فيقول: هذا الذي يزعُم أني لا أقدِرُ عليه، فاقْتُلُوه، فيُنْشَرُ، ثمّ يقول: أنا أحْيِيه، قم بإذن اللَّه، ولا يأذن بإحياء نَفْسٍ غيرِها، فيقول: أَلَيْسَ قَدْ أَمتُّكَ، ثم أحْيَيْتُكَ، فيقول: الآن قد ازددتُ فِيكَ يَقِينًا، بَشّرنِي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنّك تَقتلني، ثم أُحْيَا بإذن اللَّه، لا بإذنك، فيُوضَعُ على جِلْدِه صَفائحُ من نُحَاسٍ، فلا يَحيكُ فيه سلاحُهم، فيقول: اطرحوه في ناري، فيحوّل اللَّهُ ذلك الجَبَل على النَّذِيرِ جنانًا، فيَشُكُّ الناسُ فيه، ويُبادر إلى بيت المَقدس، فإذا صعِد على عَقبَةِ أفِيقَ وقع ظُلْمُه على المسلمين، فيوتِّرون قِسيَّهم لقتاله، فأقواهم من يوتِّر وهو بارك أو جالس، من الجوع والضعف، ويسمعون النداء: جاءكم الغَوْثُ، فيقولون: هذا كلامُ رجلٍ شَبْعَان.

وتُشْرق الأرضُ بنُور رَبِّها، وَينْزلُ عِيسَى ابنُ مَرْيمَ، ويقول: يا معشر المسلمين، احمَدوا رَبَّكم وسَبِّحُوه، فيفعلون، ويُرِيدُون الفِرَارَ، فيُضَيّق اللَّهُ عليهم الأرض، فإذا أتوا بابَ لُدّ في نصف ساعةٍ، فيوافون عيسى ابنَ مريم، عليه الصلاة والسلام، فإذا نَظَرَ الدجال إلى عيسى قال: أقم الصلَاة، فيقول الدجّال: يا نَبيّ اللَّه، فد أُقِيمت الصلاة، فيقول عيسى: يا عدوّ اللَّه، زَعمتَ أنّك رَبُّ العَالمين فَلِمَنْ تُصلّي؟ فيضرِبُه بمقْرعةٍ في يده فَيقتُلُه، فلَا يبْقَى أَحدٌ من أنصاره خَلْف شَيءٍ إلّا نادى: يا مؤمن هذا دجّالِيّ فاقْتُلْهُ. . . " إلى أن قال: "فتَمَتَّعُوا أربعين سَنَة لا يموتُ أحَدٌ، ولا يمرَضَ أحدٌ.

ويقول الرجلُ لغنمه، ولدوابّه: اذهبُوا فارْعَوْا، وَتمُرّ الماشيةُ بين الزرعين لا تأكلُ منه سُنْبُلَةً والحياتُ والعقاربُ لا تُؤذي أحدًا، والسبعُ على أبواب الدُّور لا يُؤذي أحدًا، ويأخذ الرجلُ المُدَّ مِن القمح فيبذُره بلا حِراث، فيجيء منه سَبعمئة مُدّ، فيَمْكثُونَ في ذلك كذلك حتى يُكْسَرَ سدُّ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ، فيخرجون وَيُفْسدُون ما على الأرض، فيسْتغِيث الناسُ، فلا يُسْتجابُ لهم.

وأهْلُ طورِ سَيناء هُم الذين فَتحَ اللَّهُ عَلَيْهِم القُسْطَنْطِينيةَ، فيَدْعُونَ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عليهم دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ ذاتَ قَوائِمَ، فتدْخُل في آذانِهمْ فيُصْبحُون مَوْتى أجمعون، وتُنْتِنُ الأرضُ منهم، فيُؤْذُونَ الناس

ص: 121

بنَتْنِهمْ، أشَدّ من حَيَاتِهم، فيستغيثون باللَّه تعالى، فَيبْعثُ اللَّهُ رِيحًا يمانية غَبْراء، فتصيرُ على الناس غَمًّا، ودُخانًا، وتقع عليهم الزُّكْمة ويُكشَفُ ما بهم بعدَ ثلاث، وقد قُذفت جِيَفُهُم في البَحْر، ولا يَلْبَثُون إلَّا قَلِيلًا حتى تَطْلع الشمسُ مِنْ مَغْربِها، وجفَّت الأقلام، وطُويَت الصحفُ، ولا يُقْبَلُ من أَحدٍ تَوبةٌ، ويَخِرّ إبليسُ ساجِدًا يُنادي: إلهي، مُرْني أَنْ أسجُد لِمَنْ شِئْتَ، ويجتمع إليه الشياطينُ تقول: يا سَيِّدنا، إلى من تَفْزَعُ؟ فيقول: سألتُ رَبِّي أنْ يُنْظِرني إلى يَوْم البَعْثِ، وقَدْ طَلَعَت الشمسُ من مَغْربها، وهذا الوقتُ المعلومُ، وتصير الشياطينُ ظاهرةً في الأرض، حتى يقول الرجلُ: هذا قَرِيني الذي كان يُغْوِيني، فالحمد للَّه الذي أخزاه، ولا يزالُ إبليس ساجدًا باكيًا، حتى تَخْرُج الدابّة فتَقْتله وهو ساجد، ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنةً لا يتمَنَّوْنَ شيئًا إلا أُعْطوهُ، وبرز المؤمنون لا يموت مؤمن حتى تتم أربعون سنةً بعد الدابَّة، ثم يعود فيهم الموتُ، ويُسرع فلا يبقى مؤمن، ويقول الكافر: قد كنا مَرْعُوبينَ من المُؤْمنين، فلم يَبْقَ منهم أحد، وليس يُقْبَلُ مِنَّا تَوْبَةٌ، فيَتَهَارَجُونَ في الطُرُقِ كالبهائم، حتى يَنْكِحَ الرجلُ أمَّهُ في وَسط الطريق، يقوم واحدٌ عنها، وينزل عليها آخرُ، وأفضلُهم من يقول: لو تَنَحَّيْتُم عن الطريق كان أحْسَنَ، فيكونون على ذلك، حتى لا يولد أحدٌ من نكاح، ثم يُعْقِمُ اللَّه النساءَ ثلاثين سَنَةً، إلا الزواني والزانيات، فإنهن يحبلن ويلدن من الزنى، ويكونون كلُّهم أولادَ زِنًى، شرارَ الناس، فعليهم تقوم الساعة": كذا رواه الطبرانيّ، عن عبد الرحمن بن حاتم المراديّ، عن نُعَيم بن حَمَّاد. . . فذكره. قال شيخنا الحافظ الذهبي: وهذا الحديث شِبْهُ موضوع، وأبو عمر مجهول، وعبد الوهاب كذلك، وشيخه يقال له: البُنَانِي

(1)

.

وقد أنبأني شيخنا الذهبي إجازةً، إنْ لم يكن سَمَاعًا، أخبرنا أبو الحسين اليُونينيّ، أخبرنا البهاء عبد الرحمن حضورًا، أنبأنا عتيق بن صيلا، أنبأنا عبد الواحد بن عُلوان، أنبأنا أبو عمرو بن دوست، حدثنا أحمد بنُ سلمان النجَّاد، حدثنا محمد بن غابى، حدثنا أبو سلمة التَّبُوذَكي، حدثنا حماد بن سَلَمة، حدثنا علي بن زيد، عن الحسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدجّال يتناول السحاب، ويخوض البحر إلى رُكْبَتَيْه، ويسبق الشمس إلى مغربها، وتسير معه الآكامُ طعامًا، وفي جبهته قَرْنٌ مكسور الطَّرَفِ، يخرج منه الحَيّات، وقد صوّر في جسده السلاحُ كلُّه، حتى الرمح والسيف والدرّق" قلت للحسن: يا أبا سعيد ما الدرق؟ قال: الترس. ثم قال شيخنا: هذا من مراسيل الحسن، وهي ضعيفة.

وقال ابن مَنْدَه في "كتاب الإيمان": حدثنا محمد بن الحسين المديني، حدثنا أحمد بن مهديّ،

(1)

ورواه نعيم بن حماد في "الفتن" رقم (1527) ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" مختصرًا (4/ 521 - 522) وقال الذهبي كما هنا: (ذا موضوع، والسلام).

ص: 122

حدثنا سعيد بن سليمان سَعْدُويه، حدثنا خَلَفُ بن خَلِيفَة، عن أبي مالك الأشجعيّ، عن رِبْعِيّ، عن حُذَيفة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمُ بما مع الدجَّال منه، معه نهران، أحدهما نار تأجّج، في عين من يراه، والآخر ماءٌ أبيض، فمن أدركه منكم فليُغْمِضْ عينيه، وَلْيَشْرب من الذي يراه نارًا، فإنه ماء بارد، وإياكم والآخر، فإنه فِتْنَة، واعلموا أنه مكتوب بين عَيْنَيه كافر، يقرؤه من كتب، ومن لم يكتب، وأن إحدى عينيه ممسوحة، عليها ظَفَرَةٌ، وأنه يطلع من آخر عُمره على بطن الأُرْدُن على ثَنيّة فيقَ، وكلّ أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر بِبَطْن الأُرْدُنّ، وأنه يقتُلُ من المسلمين ثُلُثًا، ويَهْزِمُ ثلثًا، ويبقى ثلث، فيحجز بينهم الليل، فيقول بعض المؤمنين لبعض: ما تنتظرون أن تَلحقوا بإخوانكم في مرضاة ربّكم؟ من كان عنده فضل طعام فليعُدْ به على أخيه، وصَلُّوا حتى يَنْفَجِر الفجرُ، وعَجِّلُوا صَلاتكم، ثم أقبلوا على عَدوّكم. فلما قاموا يُصَلون، نزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وإمامهُم يُصَلي بهم. فلما انصرف، قال: هكذا فرِّجوا بيني وبين عدوِّ اللَّه" قال: "فيذوب كما يذوبُ المِلْحُ، فيُسلّط اللَّهُ عليهم المسلمين، فيقتلونهم، حتى إنّ الحجرَ، والشجرَ ليُنادي: يا عبد اللَّه، يا مسلم، هذا يهوديّ فاقتله، ويظهر المسلمون، فيَكْسِرُ الصليبَ، ويَقْتُل الخِنْزير، ويضعُ الجزْية.

فبينما هم كذلك، إذ أخرج اللَّه يأجُوجَ ومأجُوجَ، فيشرب أولهم البُحَيرة، ويجيء آخرُهم وقد انكشفوا، فما يَدَعُون فيها قَطْرَةً، فيقولون: كان هاهنا أثرُ ماءً مَرّةً، ونبيُّ اللَّه وأصحابه وراءهم، حتى يدخلوا مدينة مِن مدَائنِ فلسطين، يقال لها: باب لُدّ، فيقولون: ظَهَرْنا على من في الأرض، فتعالوا نُقاتل مَن في السماء، فيدعو اللَّهَ نبيُّه عليه السلام عند ذلك، فيبعثُ اللَّه عليهم قُرحَةً في حلُوقهم، فلا يبقى منهم بَشَرٌ، وتُؤْذي رِيحُهم المسلمين، فيدعو عيسى عليهم، فيُرسل اللَّه ريحًا عليهم تقذفهم في البحر أجمعين". قال شيخنا الحافظ أبو عبد اللَّه الذهبيُّ: هذا إسناد صالح. قلت: وفيه سياقٌ غريب وأشياءُ مُنكرة، واللَّه أعلم

(1)

.

وقال ابن عساكر

(2)

في ترجمة شيخٍ من أهل دمشق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هَذَا الأمر فِي قُرَيْشٍ يَليهِ بَرُّهم بِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ بِفَاجِرِهِمْ، حَتَّى يَدْفَعُوهُ إِلَى عِيسى ابنِ مَرْيَمَ" وفي لفظ: "بَرُّهُمْ بِبرِّهِ، وَفَاجِرُهُمْ بِفُجُورِهِ". قال ابنُ عساكر: وهو الأصحُّ.

(1)

رواه ابن منده في "كتاب الإيمان"(3/ 918 - 919).

(2)

يعني في "تاريخ مدينة دمشق".

ص: 123

‌ذكر نزول عيسى ابن مريم من السماء الدنيا إلى الأرض في آخر الزمان

قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء].

قال ابن جرير في "تفسيره": حدّثنا ابن بشار، حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا سُفيان، عن أبي حَصِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: قبل موت عيسى ابن مريم. وهذا إسناد صحيح، وكذا روى العَوفي، عن ابن عبّاس.

وقال أبو مالك: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلّا آمنَ به.

وقال الحسن البصريّ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: قبل موت عيسى، واللَّه إنّه الآن حيّ عند اللَّه، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. رواه ابن جَرير.

وروى ابن أبي حاتم عنه: أن رجُلًا سأل الحسن عن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فقال: قبل موت عيسى، إن اللَّه تعالى رفع إليه عيسى، وهو باعثهُ قبل يوم القيامة، مقامًا: يؤمن به البَرُّ والفاجِرُ. وهكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد، وهو ثابت في "الصحيحين"، عن أبي هريرة، كما سيأتي موقوفًا، وفي رواية مرفوعًا، واللَّه أعلم.

وهذا هو المقصود من السياق: الإخبار بحياته الآن في السماء، وليس الأمر كما يزعمُه أهلُ الكتاب الجهلة أنهم صَلَبوُه، بل رفعه اللَّه إليه، ثم يَنزل من السماء قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديثُ المُتَواترة كما سبق في أحاديث الدجّال، وكما سيأتي أيضًا، وباللَّه المستعان.

وقد رُوي عن ابن عباس وغيرِه أن الضمير في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائد على أهل الكتاب، أي يؤمن بعيسى قبل الموت، وذلك لو صحّ لما كان مخالفًا للأول، ولكن الصحيح في المعنى والإسناد ما ذكرناه، وقد قررناه في كتابنا "التفسير" بما فيه كفاية، وللَّه الحمد والمنة.

‌ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

قد تقدَّم في حديث النوَّاس بَن سِمعان عند مسلم أنَّ عيسى ينزِلُ على المنارةِ البيضاءَ شرقيّ

ص: 124

دمشق

(1)

وفي غيرِ روايةِ مسلمٍ: أنَّه ينزِلُ على المنارةِ البيضاءِ الشرقيَّةِ بدمشقَ. وهذا أشبهُ، فإنَّ في سياق الحديث:"فَيَنْزِلُ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لِلصُّبْحِ، فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ المُسْلِمِينَ: تَقَدَّم يَا رُوحَ اللَّه. فَيَقُولُ: لَا، إِنَّهَا إِنَّما أُقِيمتْ لَكَ"

(2)

ففيه من الدلالة الظاهرة أنَّه ينزِلُ على منارة المعبدِ الأعظمِ الذي يكون فيه إمام المسلمين إذ ذاك، وإمامُ المسلمين يومئذٍ هو المهديُّ فيما قيل، وهو جامعُ دمشقَ الأكبرُ، واللَّهُ أعلمُ.

وقد تقدَّم في حديثِ أبي أُمامةَ أنَّه ينزِلُ في غيرِ دمشقَ، وليس ذلك بمحفوظٍ.

وكذا الحديثُ الذي ساقَه ابنُ عساكرَ في "تاريخِه" من طريقِ محمدِ بن عائذٍ، ثنا الوليدُ، ثنا مَن سمِع عبدَ الرحمن بن ربيعة، يُحدِّثُ عن عبد الرحمن بن أيُّوبَ بنِ نافع بن كَيْسانَ، عن أبيه، عن جدِّه نافعِ بن كَيْسانَ صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عِنْدَ بَابِ دِمَشْقَ -قال نافعٌ: ولا أدري أيَّ بابِهَا يريدُ- عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءَ، لِسِتِّ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ فِي ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ، كَأَنَّمَا يَتَحَدَّرُ مِنْ رَأْسِهِ اللُّؤْلُؤُ". ففيه مُبهَمٌ لم يُسَمَّ، وهو منكرٌ؛ إذ هو مخالفٌ لما ثبت في الصحاح من أن نزوله وقتَ السَّحَرِ عند إضاءةِ الفجرِ وقد أُقيمتِ الصلاةُ، واللَّهُ أعلمُ.

قال مسلم: حدّثنا عُبَيْدُ اللَّه بن مُعاذ العَنْبريّ، حدثنا أبي، حدّثنا شُعبَةُ عن النعمان بن سالم، سمعتُ يعقوب بن عاصم بن عُرْوَة بن مسعود الثقفي يقول: سمعت عبد اللَّه بن عمرو، وجاء رجلٌ فقال: ما هذا الحديث الذي تُحَدّث به؟ تقول: إنّ الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان اللَّه! أو: لا إله إلّا اللَّه، أو كلمةً نحوهما، لقد هَممتُ ألّا أحَدِّثَ أحَدًا شيئًا أبدًا، إنما قلت: إنَّكم سَتَرْوَن بَعْدَ قليل أمرًا عَظِيمًا، يُحرَّقَ البَيْتُ، ويكون، ويكون، ثم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرُج الدجّال في أمتي، فيمكثُ أربعين -لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا- فيَبْعثُ اللَّه تعالى عيسى ابن مَريم كأنّه عُرْوَة بنُ مَسْعُود، فيَطْلبه فيُهْلكُه، ثم يمكث الناسُ سبع سنين، ليس بين اثنين عَداوة، ثم يُرسل اللَّه ريحًا باردة من قِبَل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقالُ ذرّة من خير، أو إيمان، إلا قَبضَتْهُ، حتى لو أنّ أحدكم دخل في كَبِد جَبلٍ لدخلتْه عليه، حتى تَقْبِضَه، قال: سَمِعْتُها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "فيبقى شِرار الناس في خِفّةِ الطير، وأحلام السِّباع لا يعرفون معروفًا، ولا يُنكرونُ منكرًا، فيتمثّل لَهُمُ الشيطانُ فيقول: ألا تَستجيبُون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزْقُهُم، حَسَنٌ عَيشهُم، ثم يُنْفَخُ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا

(1)

رواه مسلم (2937).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 367 - 368) من حديث جابر، ورواه أحمد أيضًا (4/ 216 - 217) من حديث عثمان بن أبي العاص، وابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 125

أصغَى لِيتًا

(1)

وَرفَع لِيتًا" قال: "وأول من يسمعه رجلٌ يلوط حَوْض إبله" قال: "فيَصْعَقُ، ويَصعق الناس، ثم يُرسل اللَّه" -أو قال:"يُنزل اللَّه- مَطرًا، كأنّه الطلُّ أو الظِّلّ" نعمان الشاكّ "فتَنْبت منه أجساد الناس، ثم يُنْفَخُ فيه أُخْرَى، فإذا هُمْ قيام ينْظُرون، ثم يقال: يا أيّها الناس، هَلُمّوا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات] ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: مِنْ كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعين" قال: "وذلك يومَ {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} و {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} "

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيجٌ، حدَّثنا فُلَيْحٌ، عن الحارث بن فُضَيْل، عن زياد بن سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ينزل ابنُ مريم إمامًا عادلًا، وحكَمًا مُقْسِطًا، فَيكْسِرُ الصليبَ، ويقْتُل الخنزيْرَ، ويرجع السِّلْمَ، وتتخذ السيوف مَناجل، وَتذْهَبُ حُمَةُ كلِّ ذات حُمة، وتُنزل السماءُ رزقها، وتُخْرِجُ الأرضُ بركتها، حتّى يَلْعَبَ الصبيُّ بالثُّعْبان ولا يضرُّه، ويُراعي الغَنَمَ الذِّئْبُ فلا يَضُرُّها، ويراعي الأسدُ البَقَر، فلا يَضُرّها". تفرد به أحمد، وإسناده جيّد قويّ صالح

(3)

.

وقال البخاريّ: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لَيُوشِكَنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مَرْيم حكَمًا عَدْلًا، فَيكْسِرَ الصليبَ، ويقْتُلَ الخنزير، ويَضَعَ الجزية، ويَفِيضُ المالُ، حتى لا يَقْبله أحَدٌ، حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إنْ شئْتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء].

وكذا رواه مسلم عن حسن الحُلْوانِيّ، وعبد بن حُمَيْد، كلاهما عن يعقوب بن إبراهيم به، وأخرجاه أيضًا من حديث سُفيان بن عُيَيْنَةَ، والليث بن سعد، عن الزُّهريّ به

(4)

.

وروى أبو بكر بن مَرْدَويهِ، عن طريق محمد بن أبي حَفْصةَ، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُوشك أن يكون فيكم ابنُ مَرْيم حَكَمًا عَدْلًا، يَقْتُلُ الدخال، ويَقْتلُ الخنزير، ويكْسِرُ الصليب، ويَضَعُ الْجِزْيَة، ويَفِيضُ المالُ، وتكون السجدة واحدةً للَّه ربِّ العالمين". قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} مَوْتِ عيسى ابن مريم، ثم يُعيدُه أبو هُرَيرة ثلاثَ مَرّات.

(1)

اللّيت: صفحة العنق، وهما ليتان، وأصْغَى: أمال. "النهاية"(4/ 284).

(2)

رواه مسلم رقم (2940).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 482 - 483) أقول: فليح وزياد، فيهما كلام، لكن الحديث حسن بطرقه وشواهده.

(4)

رواه البخاري (3448) و (2476) و (2222) ومسلم رقم (155)(242).

ص: 126

وقال الإمامُ أحمد: حدثنا يزيدُ، حدثنا سُفيان، وهو ابن حسين، عن الزُّهريّ، عن حَنْظَلَة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ينْزل عيسى ابن مَريم، فَيقْتُل الخنزير، ويمحو الصليب، وتُجمعُ له الصلاة، ويُعْطِي المَال حتى لا يُقْبلَ، ويضعُ الخراج، وينزل الرَّوْحاءَ فيحجّ منها، أو يَعتَمِر، أو يَجمَعُهُما" قال: وتلا أبو هريرة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء]، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قَبْل موت عيسى، فلا أدري؟ هذا كلّه حديثُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ قاله أبو هريرة

(1)

؟

وروى أحمد ومسلم من حديث الزُّهريّ، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيُهِلَّنَ عيسى ابن مَرْيم، من فَج الرَّوْحَاءَ بالحجِّ والعُمْرة، أو لَيُثَنِّيَنَّهما جميعًا"

(2)

.

وقال البخاريّ: حدثنا ابن بُكَيْر، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري: أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتُمْ إذا نزل فيكم ابنُ مَريم وإمامكم منكم؟ " ثم قال البخاريّ: تَابَعُه عُقَيلٌ، والأوزاعي. وقد رواه الإمام أحمدُ عن عبد الرزاق، عن معمر، وعن عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئب، كلاهما عن الزُّهريّ به. وأخرجه مسلم من حديث يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري به

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا هَمَّام، أنبأنا قتادة، عن عبد الرحمن، وهو ابن آدم مولى أمّ بُرثن صاحب السِّقَاية، عن أبي هُريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء إخْوةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمّهاتُهمْ شَتى، ودينُهُم واحدٌ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنّه نازل، فإذا رأيتموه، فاعرفوه، رجل مَرْبُوعٌ إلى الحُمْرَة والبَياضِ، عليه ثوبان مُمَصّران

(4)

، كأنّ رأسه يَقْطرُ وإنْ لم يُصِبْهُ بَلَل، فَيدُقّ الصليبَ، ويقتلُ الخنْزِيرَ، ويَضعُ الْجِزيَةَ، ويدعو النَّاسَ إلى الإسلام، ويُهلكُ اللَّهُ في زَمانهِ الأمم كلها إلا الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدخال، ثم تَقَع الأَمَنَةُ على الأرض، حتّى ترتع الأسُودُ مع الإبل، والنِّمارُ مع البقر، والذئابُ مع الغَنمَ، وَيلَعَبَ الصِّبيان بالحيَّات لا تضرُّهم، فَيمكُث أربعين سَنَةً، ثم يُتَوفي، ويُصَلِّي عليه المسلمون". وهكذا رواه أبو داود عن هُدْبَة بن خالد، عن هَمَّام بن يَحْيى، عن قتادة به. ورواه بن جرير، ولم يورد عند تفسيرها

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 290 - 291) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 240) ومسلم (1252).

(3)

رواه البخاري رقم (3449) وأحمد في المسند (2/ 272 و 336) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (20842) ومسلم رقم (155).

(4)

مصبوغان بحمرة خفيفة.

ص: 127

غيرَه، عن بشر بن مُعاذ، عن يزيد عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، بنحوه، وهذا إسناد جَيّد، قويّ

(1)

.

وروى البخاريّ عن أبي اليمان، عن شُعَيْبٍ عن الزُّهريّ، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُريرة: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أَوْلى الناس بابن مَرْيم، والأنبياءُ أولاد عَلّات، ليس بيني وبينه نبي". ثم روى عن محمد بن سِنان، عن فُلَيْح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخْوَةٌ لِعَلّاتٍ، أمّهاتُهم شَتى، ودينهم واحد". ثم قال: وقال إبراهيم بن طَهمان، عن موسى بن عُقْبةَ، عن صفوان بن سُلَيْم، عن عطاء بن يَسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

فهذه طُرق متعدّدة كالمتواترَة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

‌حديث عن ابن مسعود

وقال الإمام أحمد: حدّثنا هُشَيْم، عن العوّام بن حَوشَب، عن جَبَلَة بن سُحيم، عن مُؤثِر بن عَفَازةَ، عن ابن مسعود، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لقيتُ ليلة أُسرِي بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام" قال: "فتذاكروا أمر الساعة، فردُّوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا عِلْمَ لي بها، فردُّوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردّوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أمَّا وَجْبتُها

(3)

فلا يعلم بها أحدٌ إلَّا اللَّه، ولكن فيما عَهِدَ إليّ رَبِّي عز وجل: أنّ الدجَّال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذابَ كما يذوبُ الرّصَاصُ" قال:"فيُهلكه اللَّهُ [إذا رآني] حتى إن الشجر والحجر ليقول: يا مُسلم، إن تَحْتي كافِرًا، فتعالَ فاقْتُلْه" قال: "فيُهْلِكهم اللَّه، ثم يَرْجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرجُ يأجُوجُ ومأْجُوجُ وهم مِنْ كل حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَطَؤُونَ بلادهم لا يأتون على شيء إلا أكلوه، ولا يَمُرُّون على ماءٍ إلّا شَرِبُوه" قال: "ثُمَّ يَرْجِع الناسُ إليّ فيشكونهم، فادعو اللَّهَ عليهم، فيُهلكهم ويميتُهُمْ حتى تَجْوَى

(4)

الأرضُ من نَتْنِ ريحهم، ويُنزل اللَّه

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 406) وأبو داود رقم (4324). أقول: إسناده فيه انقطاع، فإن قتادة، لم يسمع من عبد الرحمن بن آدم مولى أم برثن، لكن الحديث صحيح بطرقه وشواهده، وفي الحديث أن عيسى يمكث أربعين سنة، وقد تقدم حديث عبد اللَّه بن عمرو عند مسلم (2940) أنه يمكث في الناس سبع سنين، وسيذكره المصنف بعد قليل.

(2)

رواه البخاري (3442) و (3443).

(3)

أي وقوعها.

(4)

أي تنتن.

ص: 128

المطر، فتجرُف أجسادَهم حتى يَقَذِفَهم في البحر، ففيما عَهِدَ إليّ ربيّ عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك، فإنّ الساعة كالحامل المُتِمِّ التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بِولَادَتها ليلًا أو نهارًا". ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حَوْشَب، به نحوَه

(1)

.

‌صفة المسيح عيسى ابن مريم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

-

ثبت في "الصحيحين" من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليلَةَ أُسْرِيَ بي لقيتُ موسى" قال: فنعَتَه، "فإذا رجل" حَسِبْتُه قال:"مضطربٌ" أي طويل، "رَجِلُ الرأس، كأنه من رجال شَنُوءة" قال: "ولقيتُ عيسى" فنعتَه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبْعَة، أحْمَرُ، كأنما خرج من ديماس" يعني الحمَّام

(2)

.

وللبخاريّ من حديث مُجاهد عن ابن عمر

(3)

، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رأيت عيسى، وموسى، وإبراهيم، فأمّا عيسى فأحْمَرُ جَعْدٌ عَريضُ الصدر، وأما موسى فآدمُ جَسيمٌ سَبْطٌ، كأنه من رجال الزُّطِّ"

(4)

.

ولهما من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا بين ظَهْرَانَي الناس المسيِح الدجَّال، فقال:"إنّ اللَّه ليس باعور، ألا إنّ المسيح الدجّال أعورُ العَين اليُمْنَى، كأن عيْنَه عِنبة طافية، وأَراني الليلة عند الكعبة في المنام، وإذا رجلٌ آدم كأحسن ما يُرى من أُدْم الرِّجال، تضرب لِمَّتُهُ بين مَنْكبَيْه، رَجِل الشَّعْرِ، يَقْطُر رَأسه ماءً، واضعًا يَديه على مَنْكبَي رَجُلَيْنِ، وهو يطوف بالبيت. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح ابن مريم، ثم رأيت رجلًا وراءه، جعدًا قَطَطًا، أعورَ عين اليمنى، كأشبه مَنْ رأيتُ بابن قطنٍ، واضعًا يَدَيْه على مَنكبَيْ رجلٍ، يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيحُ الدجَّال". تابعه عُبَيْد اللَّه، عن نافع

(5)

.

ثم روى البخاريّ، عن أحمد بت محمد المكى، عن إبراهيم بن سعد، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه، قال: لا واللَّه ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعيسى: أحمر، ولكن قال: " بَينما أنَا نائمٌ أطوف بالكعبة فإذا رجُل آدَمُ سَبْط الشعر، يُهَادَى بَيْن رَجُلَيْنِ يَنطُفُ رأسُه ماءً، أو يُهرَاقُ رَأسُه ماءً، فقلت: من

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 375) وابن ماجه رقم (4081) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البخاري رقم (3437) ومسلم رقم (168).

(3)

قال القسطلاني: (قوله: من حديث مجاهد عن ابن عمر) هو هكذا عند كل من روى عن الفربري، قال أبو ذر: والصواب ابن عباس بدل ابن عمر، انظر القسطلاني باب نزول عيسى بن مريم، وانظر "فتح الباري".

(4)

رواه البخاري رقم (3438) والزط: جنس من السودان أو من الهند، هم طوال الأجسام مع نحافة فيها.

(5)

رواه البخاري رقم (3439) ومسلم رقم (169).

ص: 129

هذا؟ قالوا: ابنُ مَرْيمَ، فذهبتُ ألتَفِتُ، فإذا رجلٌ أحْمَرُ جسيم جَعْدُ الرأس، أعْوَرُ عَيْنه اليُمنَى، كأن عينه عِنَبة طَافية، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا الدجال، وأقرب الناس به شبَهًا ابنُ قَطَنٍ" قال الزُّهريّ: رجلٌ من خُزَاعةَ هَلَكَ في الجاهلية

(1)

.

وتقدّم في حديث النَّوّاس بن سِمْعان: "فَينزلُ عند المنارة البَيْضاء، شَرِقيَّ دِمشْقَ، بين مَهْرُودَتين واضعًا كفيه على أجنحة مَلكَيْن، إذا طَاطَأ رأسَهُ قَطَرَ، وإذا رَفَعَه تحدّر منه مثل جُمَان اللؤلؤ. ولا يحلّ لكَافرٍ يجدُ رِيحَ نَفَسِه إلَّا مات، ونَفَسهُ ينتهي حيث ينتهي طَرْفُهُ"

(2)

.

هذا هو الأشهر في موضع نزوله، أنه على المنارة البيضاء الشرقيَّة بدمشق، وقد رأيتُ في بعض الكتب أنه ينزلُ غلى المنارة البيضاء شرقيّ جامع دمشق، فلعل هذا هو المحفوظ، وتكون الرواية:"فينزل على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق" فتصرّفَ الراوي في التعبير، بحسب ما فهم، وليس بدمشق منارة تُعرف بالشرقيّة سوى التي إلى جانب الجامع الأموي بِدمشقَ مِن شَرقيّهِ، وهذا هو الأنسبُ والأليق، لأنه ينْزلُ وقد أقيصت الصلاةُ، فيقول له إمامُ المسلمين:"يا رُوحَ اللَّه تقدّمْ، فيقول: تقدّمْ أنت، فإنها إنما أُقيمت لَكَ"

(3)

.

وفي روايةٍ: "بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ أمَراءُ، تكْرِمَةُ اللَّهِ هذه الأمّة"

(4)

.

وقد جُدّد بناءُ منارةٍ في زماننا في سنة إحدى وأربعين وسبعمئة، من حجارةٍ بيضٍ، [وكان بناؤها] من أموال النصارى الذين حَرَقُوا المنارةَ التي كانت مَكانَها، ولعل هذا يكونُ من دلائل النبوّة الظاهرة، حيث قَيَّضَ اللَّهُ بناءَ هذه المنارة البيضاء من أموال النصارى، لِيَنْزلَ عيسى ابنُ مريَم عليها، فيقتلَ الخنزيرَ، ويَكْسرَ الصليبَ، ولَا يقْبَلُ مِنْهُم جِزيةً، ومن لم يُسْلِمْ قَتَلَهُ، وكذلك يكون حُكْمُه في سائر كفّار أهل الأرض يَوْمئذٍ، فإنه لا يبقى حُكْمٌ في أهل الأرض إلا له، وهذا من باب الإخبار عن المسيح بذلك، فإن اللَّه قد سوَّغ له ذلك وشرعه له، فإنّه إنما يَحْكُم بمقْتَضَى هذهِ الشَّرِيعَة المُطَهَّرةِ.

وقد روي في بعض الأحاديث كما تقدّم أنه يَنْزِلُ بِبَيتِ المَقْدِس

(5)

، والأحاديث تقتضي أن الدجال يُقتَل بِلُدٍّ قبل أن يدخل بيت المقدس، فتدل على أنه لا يدخله الدجال كمكَّة والمدينة حماية له منه. وفي روايةٍ أن عيسى ينزل بالأُرْدُنّ، وفي رواية: بمُعَسكر المُسلمين، وهذا في بعض روايات مُسلم كما تقدّم، فاللَّه أعلم.

(1)

رواه البخاري رقم (3441).

(2)

رواه مسلم رقم (2937).

(3)

رواه ابن ماجه رقم (4077) من حديث أبي أمامة الباهلي وإسناده ضعيف بطوله، ولكن لهذه الجملة شواهد.

(4)

رواه مسلم رقم (156) من حديث جابر.

(5)

رواه ابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة الطويل، وإسناده ضعيف.

ص: 130

وتقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة:"وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلٌ مَربُوعٌ، إلى الحُمْرةِ والبياض، عليه ثوبان مُمَصَّران، كأنّ رأسه يَقْطُر، وإِنْ لم يُصِبْهُ بَلَلٌ، فيدقُّ الصليبَ، ويقْتُلُ الخِنْزيرَ، ويضعُ الجِزْيةَ، ويدْعُو النَّاسَ إلى الإسلام، ويُهلِكُ اللَّهُ تعالى في زمانه المِلَلَ كُلَّها إلّا الإسْلامَ، ويُهْلكُ اللَّهُ في زمانه المسيحَ الدجَّال، ثم تَقَعُ الأَمَنَةُ على الأرض، حتّى تَرتَع الأسودُ مع الإبل، والنِّمار مع البَقَر، والذِّئابُ مع الغَنَم، وَيلعَبُ الصبيانُ بالحَيّاتِ، لَا تضرّهم، فَيمكثُ أربعِينَ سَنَة. ثم يُتوفى، ويُصلِّي عليهِ المُسلِمون". رواه أحمد، وأبو داود

(1)

. وهكذا وقع في هذا الحديث أنه يمْكثُ في الأرض أربعين سنةً.

وثبت في "صحيح مسلم" عن عبد اللَّه بن عمرو أنه يمكث في الأرض سَبْعَ سنين

(2)

. فهذا مع هذا مُشكِلٌ، اللهمّ إلا أن تُحملَ هذه السبْعُ على مُدَّةِ إقامته بعد نزوله، ويكون ذلك محمولًا على مُكْثه فيها قبلَ رَفْعِه، مضافًا إليه، وكان عمره قبل رفعه ثلاثًا وثَلاثينَ سَنَةً على المشهور، وهذه السبع تكملة الأربعين، فيكون هذا مدة مقامه في الأرض قبل رفعه وبعد نزوله، وأما مقامه في السماء فبل نزوله فهو مدة طويلة، واللَّه أعلم.

وقد ثبت في الصحيح أن يأجوجَ ومأجوجَ، يخرجون في زمانه ويُهلكهم اللَّه ببَركه دُعائِه في ليْلةٍ واحدةٍ كما تقدّم، وكما سيأتي، وثبت أنه يَحُجّ في مُدّة إقامته في الأرض، بعد نزوله.

وقال محمد بن كعب القُرَظيّ: في الكتب المُنزَلةِ أنّ أصحاب الكهف يكونون في حَوارِيِّهِ، وأنهم يَحجّون معه، ذكره القرطبيّ في الملاحم، من آخر كتابه "التذكرة، في أحوال الآخرة"، وتكُون وفاته بالمدينة النبوية، فيُصلَّى عليه هنالك، ويُدفن بالحُجْرة النبوية.

وقد ذكر ذلك الحافظُ أبو القاسم ابنُ عساكر. ورواه أبو عيسى الترمذيّ في "جامعه"، عن عبد اللَّه ابن سَلَام، فقال في كتاب المناقب: حدثنا زيد بن أخزم الطائيّ البصريّ، حدّثنا أبو قُتَيْبَة سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حدّثنا أبو مودود المدنيّ، حدّثنا عُثمانُ بن الضحّاك، عن محمد بن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، عن أبيه، عن جدّه، قال: مكتوب في التوراة صفةُ محمد، وعيسى ابن مريم يُدفن معه. قال: فقال أبو مودود: وقد بقي في البيت موضع قبرٍ. ثم قال: هذا حديث حسن غريب، هكذا قال: عثمان بن الضحاك، والمعروف: الضحّاك بن عثمان المدني. انتهى ما ذكره الترمذي رحمه الله

(3)

.

وروى الطبراني من حديث عبد اللَّه بن نافع، عن عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 406) وأبو داود رقم (4324) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(2)

رواه مسلم رقم (2940).

(3)

رواه الترمذي رقم (3617) وهو من نقل عبد اللَّه بن سلام عن التوراة، وهو ضعيف.

ص: 131

عبد اللَّه بن سلام، عن أبيه، عن جده، قال: يُدفَنُ عيسى ابنُ مريمَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر فيكون قبره رابعًا

(1)

.

وقال أبو داود الطيالسيُّ عن علي بن مَسْعَدة، عن رِيَاحِ بن عَبِيدَة، حدثني يوسف بنُ عبد اللَّه بن سلَامٍ، عن أبيه، قال: يمكثُ الناس بعد الدجَّال يَعمُرون الأسواقَ، ويَغْرِسُونَ النَّخْلَ.

‌ذِكر خروج يأجوج ومأجوج، وذلك في أيام عيسى ابن مريم بعد قتله الدجال فيهلكهم اللَّه أجمعين في ليلةٍ واحدةٍ ببركة دعائه عليهم

قال اللَّه تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)} [الأنبياء]، وقال تعالى في قصة ذي القرنين:{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف].

وقد ذكرنا في "التفسير"، وفي قصة ذي القرنين، خبر بنائِه للسدّ من حَدِيدٍ ونُحاسٍ بَيْن جبلين، فصار رَدْمًا واحدًا، و {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي يَحْجُزُ به بين هؤلاء القوم المفسدين في الأرض، وبين الناس، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي الوقت الذي قَدَّر انْهدامَه فيه {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} ، أي مساويًا للأرض، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي هذا لا بدّ من كونه ووقوعه، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} إذا انهدم، يخرجون على الناس فيموجون فيهم، ويَنْسِلُون، أي يُسرعون المَشْيَ من كُلِّ حَدَبٍ، ثم يكون النفخُ في الصورِ للفَزع قريبًا من ذلك الوقت، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية [الأنبياء].

وقد ذكرنا في الأحاديث الواردة في خروج الدجّال ونزول المسيح طَرَفًا صالحًا من ذِكرهم، من رواية النوّاس بن سِمْعَان، وغيره.

وثبت في "الصحيحين" من حديث زينب بنتِ جَحْش أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نامَ عِنْدَها ثم استيقظَ

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(13/ 384) وإسناده ضعيف.

ص: 132

مُحْمَرًّا وَجْههُ، وهو يقول:"لَا إلهَ إلّا اللَّهُ، ويلٌ لِلعَرب مِنْ شَرٍّ قَد اقْتَرَبَ، فُتحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثلُ هذِه" وحلَّق بَيْن إصْبَعَيْهِ.

وفي رواية: وَعقَد سَبْعِينَ أوْ تِسْعِينَ، قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنَهْلِكُ وفِينَا الصالحُون؟ قال:"نَعَمْ إذَا كَثُر الخَبَثُ"

(1)

.

وفي "الصحيحين" أيضًا من حديث وُهَيْب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرةَ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "فُتحَ اليومَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثلُ هَذَا" وَعقَد تسعين

(2)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدثنا رَوْحٌ، حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبي عَروبَةَ، عن قتَادة، حدّثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ يأجُوجَ وَمأجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْم، حَتَّى إدَّا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قال الذي عَلَيْهِمْ: ارْجعُوا، فَسَتَحْفِرونَه غدًا، فيعودون إليه كأشدِّ مَا كانَ، حتّى إذا بلغت مُدَّتُهم، وأراد اللَّهُ أنْ يَبعَثَهُمْ على الناس، حفروا، حتى إذا كادوا يرون شُعاعَ الشمس قال الذي عليهم: اغدُوا فَسَتَحْفِرونَه غدًا إن شاء اللَّه، ويَسْتَثْني، فيعودون إليْه، وهو على هَيْئَتِه حِينَ تركوه، فيَحْفِرُونَه، ويَخْرُجُونَ على الناس، فيَنشُفُون

(3)

المِيَاه، ويتَحَصّنُ الناسُ مِنْهُمْ في حُصُونِهم، فيَرْمُونَ بِسهامِهِمْ إلى السماء، فترجعُ وعليها كَهَيْئَةِ الدَّم، فيقولون: قَهَرنَا أهْلَ الأرض، وعَلَوْنَا أَهْلَ السماء، فيَبْعثُ اللَّهُ عليهم نَغَفًا

(4)

في أقفائهم، فيقتُلهم بها" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والّذي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِه، إنّ دَوَابَّ الأَرْض لَتَسْمَنُ، وتَشْكَرُ

(5)

شَكَرًا مِنْ لحُومُهم ودِمَائِهِمْ".

ثم رواه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه: مِنْ غير وجه، عن قتادة به

(6)

.

وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن كعب الأحبار قريبًا من هذا. فاللَّه أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أَبي، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قَتَادَة

(7)

، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُفْتَحُ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ فَيَخْرجُونَ على الناس، كما قال اللَّه تعالى:{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} [الأنبياء] فيَغْشَوْنَ الناس، ويَنْحَازُ الناسُ عنهم إلى مَدَائِنهم وحُصُونِهم، ويَضُمُّونَ إلَيْهِمْ مَواشِيَهُمْ،

(1)

رواه البخاري رقم (3346) ومسلم رقم (2880).

(2)

رواه البخاري (3347) ومسلم (2881).

(3)

في ابن ماجه (فَيُنْشِفُون) وفي الترمذي (فَيَسْتَقُون).

(4)

دود يكون في أنوف الإبل والغنم.

(5)

أي تسمن وتمتلئ شحمًا.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 511) والترمذي (3153) وابن ماجه (4080) وهو حديث صحيح.

(7)

في الأصل: عن عاصم بن عمر عن قتادة.

ص: 133

فيَشْربُونَ مِياه الأرْضِ، حتّى إن بَعْضَهُم لَيَمُرّ بالنّهْرِ، فيَشْرَبُون مَا فيه، حتى يتركوه يَبَسًا، حتى إنّ مَنْ بَعدَهُمْ لَيَمُرّ بذلك النهر، فيقول: قَدْ كَانَ هاهنا ماءٌ مَرّةً، حتّى إذَا لم يبق من الناس أحد إلّا أحدٌ في حِصْنٍ، أو مَدينةٍ، قال قائلُهم: هؤلاء أهلُ الأرض، قَدْ فَرَغنا مِنْهُم، بقي أهل السماء" قال:"ثُمَّ يَهُزّ أحدُهم حَرْبَتَهُ، ثم يَرْمِي بهَا إلى السَّماءِ، فتَرْجِعُ إلَيْهِ مُخْتَضبَة دَمًا للبَلاءِ والفتنة، فبينما هم على ذلك بعثَ اللَّهُ دُودًا في أعناقهم كنغَفِ الجراد الذي يَخْرُج في أعناقه، فيُصبحون موتَى، لا يُسْمَعُ لَهُم حِسن، فَيَقول المسلمون: ألَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فيَنْظُرَ ما فَعَلَ هذا العدوّ؟ " قال: "فيتجرَّد رجل منهم مُحْتَسِبًا نفسه، قد أوطنها على أنه مقتولٌ، فينزل، فيجدهم موتَى بعضهم على بعض، فيُنادي: يا معشر المسلمين: ألا أبْشِرُوا، إن اللَّهَ تعالى قد كفاكم عَدُوَّكم، فيخْرُجُون مِنَ مدائِنهم، وحصُونهم، ويُسَرّحُونَ مَواشِيَهم، فما يكون لها رَعْيٌ إلَّا لحومُهم، فتشكَرُ عنه كأحسنِ ما شكَرتْ عن شيء من النباتِ أصابَتْه قَطّ". وهكذا أخرجه ابن ماجه من حديث يونس بن بُكَيْر عن محمد بن إسحاق به، وهو إسناد جيّد

(1)

.

وفي حديث النَّوّاس بن سِمْعان، بعد ذِكر قتلِ عيسى الدجّال عند باب لُدٍّ الشرقيّ، قال:"فبينما هم كذلك، إذ أوحَى اللَّه إلى عيسى ابن مَرْيَم عليه الصلاة والسلام: إني قَدْ أخْرَجْتُ عِبادًا لي، لَا يَدانِ لأحدٍ بقِتالِهمْ، فحَرِّزْ عِبادِي إلى الطُّورِ، فيَبْعَثُ اللَّهُ يأجُوجَ وَمأجُوجَ وهم كما قال اللَّه تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيَرْغَبُ عيسى وأصْحابُه إلى اللَّه عز وجل، فيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِم نَغَفًا في رِقابهم، فيُصْبِحُون فرْسى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فيَهْبِطُ عِيسَى وأصحابهُ فلا يجدون في الأرض بَيْتًا إلَّا مَلأَهُ زَهَمُهم ونَتْنُهم، فيرغَبُ عِيسَى وأصحابه إلى اللَّه عز وجل، فيُرسل اللَّه عليهم طَيْرًا كأعناق البُخْتِ فتَحْمِلُهم فتَطْرحُهم حيثُ شاء اللَّه تعالى"

(2)

.

قال كعبُ الأحبار بمكانٍ يُقالُ له: المَهْبِل عِنْد مَطْلَع الشمس. . . الحديث، إلى آخره، وقد تقدم.

كذلك حديث مُؤثرِ بن عَفَازَة عن ابن مسعود، في اجتماع الأنبياء لَيلَة الإسراء، وتذاكُرِهم أمْرَ الساعةِ، فرَدّوا أمرهم إلى عيسى. . . وذكر الحديث كما تقدم، وفي آخره:"فيَرْجِعُ النّاس إلى أوطانهم، فعند ذلك يخرُج يَأْجُوج ومأجوج وهم من كلّ حَدَبٍ يَنْسِلُون فَيَطَؤُون بِلَادهم، لا يَمرُّون على شَيْءٍ، إلَّا أهْلَكُوه، ولا يَمُرونَ على مَاءٍ إلَّا شَرِبُوه" ثم قال: "ثم يَرْجِعُ الناسُ إليّ يشكونَهُمُ، فَأَدْعُوِ اللَّهَ عز وجل عليهم فيُهلكهم، ويمِيتهُمُ حتى تَجْوَى الأرضُ منْ نتْنِ رِيحِهم، ويُنزل اللَّهُ المَطَر فَتَجْرُفُ أجْسَادَهم، حتى يَقذفهم في البحر، ففيما عهد إليَّ ربي أن ذلك إذا كان

(1)

رواه أحمد (3/ 77) وابن ماجه (4079).

(2)

رواه مسلم (2937) وقد تقدم.

ص: 134

كذلك، فإنّ الساعةَ كالحامل المُتِمّ لا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلادتها، ليلًا أو نهارًا؟ "

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا محمد بن بشر، حدَّثنا محمد بن عمرو، عن ابن حَرْمَلَةَ، عن خَالتِه، قالت: خطب رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو عَاصِبٌ إصْبَعَهُ مِنْ لَدْغَةِ عَقْرَبِ، فقال: "إنَّكم تقولون: لا عَدُوَّ لَكُم، وإنّكم لَا تَزالُونَ تُقاتِلُونَ عَدُوًّا حَتَّى يَأْتِيَ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ، عِراضُ الوُجوه، صِغارُ العُيون، صُهْبُ الشِّعاف

(2)

، من كلّ حَدَبِ ينسِلُون، كأن وُجُوهَهُم المَجَانُّ المُطْرَقَةُ"

(3)

.

قلت: يَأجُوجُ ومأجوج، طائفتان من التُرْكِ كبيرتان لا يعلم عددهم إلا اللَّه سبحانه، وهم مِنْ ذُرِّيةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام، كما ثَبت في الصحيح:"يقول اللَّه عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، فيقول: لَبّيْكَ وسَعْدَيْكَ، فيُنادي بِصْوتٍ: ابْعثْ بَعْثَ النار من ذريتك، فيقول: مِنْ كم؟ فيقول: من كُلّ ألفٍ تِسْعمئةٍ وتِسْعَةً وتسعين إلى النار، وواحدًا إلى الجَنّة، فيومئِذٍ يَشِيبُ الصغير، وتَضَعُ كلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، فيقال: أبْشِرُوا، فإنّ في يَأجوجَ ومأجُوجَ لكم فداءً"، وفي روايةٍ:"فيقال: إنّ فيكم أُمّتَيْنِ ما كَانتَا في شيءٍ إلَّا كَثَّرتَاهُ: يأجُوج وماجُوج"

(4)

وسيأتي هذا الحديث بطرقه وألفاظه.

ثم هم من حوَّاء، وقد قال بعضهم: إنهم من آدم لا من حواء، وذلك أنّ آدم احتلم، فاختلط منِيّه بالتراب، فخلق اللَّهُ من ذلك يأجوجَ ومأجوج، وهذا مما لا دليل عليه، ولم يرد عمن يجب قبول قوله في هذا، واللَّه أعلم.

وهم من ذرّية نُوح عليه السلام، من سُلالةِ يافِث بن نوح، وهو أبو التُّرك، وقد كانوا يُفْسِدُون في الأرض، ويُؤْذُونَ أهلها، فأمر اللَّه سبحانه ذا القرنين فحصرهم في مكانهم داخلَ السدِّ، إلى أن يأذنَ اللَّه تعالى في خروجهم على الناس، فيكون من أمرهم ما ذكرنا في الأحاديث.

وهم كالناس يشبهونهم، كأبناء جِنْسِهم من الترك الغُتْم

(5)

المَغُول، المُخَرْزَمةِ عُيُونُهم، الذُّلْفِ أنُوفُهم، الصُّهْبِ شُعُورهم، على أشكالهم وألوانهم، ومن زعم أنّ منهم الطويل كالنخلة السَّحوق

(6)

وأطول، ومنهم القصير كالشيء الحقير، ومنهم من له أُذنان يتَغَطَّى بإحداهما، ويَتَوطَّأ بالأخرى، فقد تكلّف ما لا علم له به، وقال ما لا دليل عليه، وقد ورد في حديثٍ أن أحدهم لا يموت حتى يرى مِن نَسْله ألف إنسان، فاللَّه أعلم بصحّته.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 375) وابن ماجه رقم (4081) وإسناده ضعيف.

(2)

أي حمرة الشعر مع السواد.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 271) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه البخاري رقم (3348) ومسلم رقم (222).

(5)

جمع أغتم، وهو الأعجمي الذي لا يفصح.

(6)

أي الطويلة.

ص: 135

قال الطبرانيّ: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن محمد بن العباس الأصفهاني، حدَّثنا أبو مسعود أحمد بن الفُراتِ، حدّثنا أبو داود الطيالسيّ، حدَّثنا المُغيرة بن مُسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنّ يأجوج ومأجوج مِنْ ولَد آدم، ولو أُرْسِلُوا لأَفْسَدُوا على الناس مَعايِشَهم، ولن يمُوتَ منهم رَجُلٌ إلا ترك مِنْ ذُرِّيتهِ ألفًا فصاعِدًا، وإنّ مِنْ ورَائِهم ثلاثَ أُمَم: تاوِيل، وتاريس، ومَنْسك". وهذا حديث غريب، وقد يكون من كلام عبد اللَّه بن عمرو من الزاملتين

(1)

، واللَّه أعلم.

وقال ابن جرير: حدَّثنا محمد بنُ المُثَنَّى، حدَّثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، عن عبد اللَّه بن أبي يزيد، قال: رأى ابنُ عبّاسٍ صِبْيانًا يَنْزُو يَعْضُهم على بعض، يلعبون، فقال ابنُ عبَّاس: هكذا تَخْرُجُ يأجوجُ وَمَأْجُوجُ.

‌ذكر تخريب الكعبة شرفها اللَّه تعالى على يدي ذي السُّوَيْقَتَيْن

(2)

الأفج الحَبَشيّ، قبّحه اللَّه

ورَوَينا عن كعب الأحبار في التفسير عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96]، أنّ أولّ ظهور ذي السُّوَيْقَتينِ في أيَّام عيسى ابن مَرْيمَ عليه الصلاة والسلام، وذلك بعد هلَاك يأجوج ومأجوج، فيَبْعَثُ اللَّه عيسى ابنَ مَريم طليعة ما بين السبعمئة إلى الثمانمئة، فبينما هم يسيرون إليه، إذ بعث اللَّهُ ريحًا يَمانِيَةً طيِّبة، فتُقْبضُ فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عَجَاجٌ

(3)

من الناس، يَتَسافَدُون كمَا تَتسَافدُ البهَائِم

(4)

، ثم قال كعب: وتكون الساعةُ قَرِيبةً حِينَئذٍ. قلت: وقد تقدّم في الحديثِ الصحيح: أنّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام يَحُجّ بعد نزوله إلى الأرض

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا سليمانُ بن داود الطيالسي، حدثنا عِمْرانُ، عن قتادةَ، عن عبد اللَّه بن

(1)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(2282) ورواه الطبراني في "الأوسط" رقم (8593) من طريق أبى إسحاق بنحوه، وقد أصاب عبد اللَّه بن عمرو في وقعة اليرموك زاملتين محملتين بكتب من أهل الكتاب، وكان يحدث بما فيهما.

(2)

ذو السويقتيت: القائد الحبشي الذي يغزو الكعبة ويخربها، وسمي ذا السويقتن لصغر ساقيه، والأفحج: المتباعد عقباه عند المشي.

(3)

عجاج من الناس: غوغاؤهم.

(4)

ورد في حديث مرفوع رواه البزار في "مسنده" رقم (3408) وابن حبان في "صحيحه"(6768) بلفظ "لا تقوم الساعة حشى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير" وهو حديث صحح بطرقه شواهده، وسبق في حديث النواس عند مسلم رقم (2937) بلفظ:"يتهارجون فيها تهارج الحمر" وهو بمعناه.

(5)

رواه مسلم رقم (1252).

ص: 136

أبي عُتْبَة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيُحَجَنَّ هذا البيتُ، وَليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج". انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن أحمد بن حفص بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن إبراهيم بن طَهْمَانَ، عن حَجّاج هو ابنُ حجاج

(1)

، عن قتادَةَ بن دِعَامة به، قال: تابعه أبانٌ، وعِمْرانُ، عن قتادَة، وقال عبد الرحمن، عن شعبة، عن قتادةَ:"لا تَقُومُ الساعةُ حتى لا يُحَجَّ البَيْتُ" قال أبو عبد اللَّه: والأول أكثر. انتهى ما ذكره البخاري. وقد رواه البزّار، عن محمد بن المُثَنّى، عن عبد الرحمن بن مَهدي، عن أبان بن يزيد العطّار، عن قتادة، كما ذكره البخاريّ، ورواية عِمْران بن داود القطّان قد أوردها الإمامُ أحمد، كما رَأَيْتَ

(2)

.

وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المُثَنَّى، حدَّثنا عبد العزيز، حدَّثنا شعبةُ، عن قتادة؛ سمعتُ عبد اللَّه بن أبي عُتْبةَ يُحَدّث، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حتى لا يُحَجَّ البَيْتُ". ثم قال: وهذا الحديث لا نَعْلمُه يُرْوى عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الإسناد.

قلت: ولا مُنافَاة في المعنى بين الروايتين، لأنّ الكعبة يَحُجُّها الناسُ ويَعْتَمِرون بها، بعد خروج يأجوج ومأجوج، وهلاكِهم، وطُمأنينة الناس، وكثرة أرزاقهم في زمان المسيح عليه الصلاة والسلام، ثم يَبْعَثُ اللَّه ريحًا طيِّبة فيقبْضُ بها رُوح كلِّ مُؤمن، ومؤمنة، ويُتَوَفَّى نبي اللَّه عيسَى ابنُ مَرْيمَ عليه الصلاة والسلام، ويصلّي عليه المسلمونُ، ويُدْفَنُ بالحُجْرةِ النبَوية، مع رسول اللَّه

(3)

، ثم يكون خَرَابُ الكَعْبةِ على يدي ذي السُّوَيْقَتَين، بعد هذا، وإن كان ظهورُه في زمان المسيح، كما قال كعبُ الأحبار.

‌صفة تخريبه إيَّاها قبحه اللَّه وشرفها

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا أحمد بن عبد الملك، وهو الحَرَّاني، حدَّثنا محمد بن سَلَمة، عن محمد ابن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مُجاهد، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: " يُخَربُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْن منَ الحَبَشَة، ويسْلُبُها حِلْيتَهَا، ويُجَرِّدُها من كُسْوتها، ولَكأنِّي أنظرُ إلَيْه أُصَيْلعَ أُفَيْدع

(4)

، يضرب عليها بِمسْحاته، ومِعْوَله". انفرد به أحمد، وهذا إسنادٌ جَيّد قَويّ

(5)

.

(1)

في الأصل: ابن منهال، والتصحيح من البخاري.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 27 - 28) والبخاري (1593) تعليقًا، قال الحافظ في "الفتح"(3/ 455) وصله الحاكم (4/ 453) من طريق أحمد بن حنبل.

(3)

تقدم أن الترمذي رواه رقم (3617) وهو من نقل عبد اللَّه بن سلام عن التوراة، وهو ضعيف.

(4)

الذي فيه زيغ في المفاصل حتى كأنها زالت عن مواضعها.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 220) أقول: فيه عنعنة بن إسحاق، لكن قد توبع، فالحديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 137

وقال أبو داود: (باب النهي عن تَهييج الحَبَشَةِ): حدّثنا القاسم بن أحمد، حدّثنا أبو عامر، حدَّثنا زُهَيرُ بن محمد، عن موسى بن جُبَيْر، عن أبي أمامةَ بن سَهْل بن حُنَيْف، عن عبد اللَّه بن عَمْرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اتركوا الحَبَشَةَ ما تَركُوكُمْ، فإنّه لا يَسْتَخْرِجُ كنز الكعبة إلا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبشة"

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا يحيى، عن عبيد اللَّه بن الأخْنَس، قال: أخبرني ابنُ أبي مُلَيْكةَ، وهو عبد اللَّه بن عُبَيْد اللَّه بن أبي مُلَيْكَة: أنّ ابن عباس أخبره: أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كأنِّي أنْظُر إليه أسْوَدَ أفْحَجَ، يَنْقُضُها حَجَرًا حَجَرًا، يعني الكَعْبَة". انفرد به البخاري، فرواه عن عمرو بن علي الفلّاس، عن يحيى، وهو ابن سعيد القَطّان به

(2)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزّار: حدَّثنا محمد بن المُثَنَّى، حدَّثنا أبو عامر، حدثنا عبدُ العزيز، عن ثَوْر، عن أبي الغَيْث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ذُو السُّوَيْقَتَيْن مِنْ الحَبَشَةِ، يُخربُ بيْتَ اللَّه". ورواه مسلم، عن قُتَيبةَ بن سعيد، عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدِيّ به

(3)

.

وبهذا الإسناد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تَقومُ الساعةُ حتى يَخْرُج رَجُلٌ مِنْ قَحْطانَ يَسُوقُ النَّاسَ بعَصَاهُ". ورواه البخاريّ، عن عبد العزيز بن عبد اللَّه، عن سُلَيمان بن بلال، ومُسلمٌ عن قُتَيْبة، عن عبد العزيز الدَّرَاوَرْدِيّ، كلاهما عن ثَوْر بن زَيْد الدِّيلي، عن أبي الغَيْث، سالم مولى ابن مُطِيع، عن أبي هُرَيرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. . . فذكر مثلَه سواءً بسواءٍ

(4)

.

وقد يكون هذا الرجلُ هو ذا السُّوَيْقَتيْن، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، فإن هذا من قَحْطانَ، وذاك من الحَبَشة، فاللَّه أعلم.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا أبو بكر الحَنَفيّ، حدّثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عُمَر بن الحَكَم الأنصاريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَذْهَبُ الليلُ والنهارُ حتى يملك رَجلٌ مِن المَوالي يقال له: جهجاه"، ورواه مسلم عن محمد بن بَشّار، عن أبي بكر الحنفي به

(5)

.

فيحتمل أن يكون هذا اسم ذي السُّوَيْقَتَيْنِ الحَبَشي، واللَّه أعلم.

(1)

رواه أبو داود رقم (4309) وهو حديث حسن بشواهده.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 228) والبخاري رقم (1595).

(3)

رواه مسلم رقم (2909) وأخرجه البخاري (1591) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

(4)

رواه البخاري (3517) ومسلم رقم (2910).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 329) ومسلم رقم (2911).

ص: 138

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهِيعَةَ، حدَّثنا أبو الزبير، عن جابر: أن عمر ابن الخطاب أخبره: أنّه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخْرُج أهل مَكَّة ثم لا يُعْبَرُ بها، أو لا يَعْبُر بها إلَّا قليل، ثم تمتَلئ وتُبْنَى، ثم يَخْرجُون منها، فلا يعودون فيها أبدًا". ورواه البزار

(1)

.

‌فصل

وأما المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فقد ثبت في الصحيح كما تقدّم: أن الدجَّال لا يدخلها ولا مكة، وأنه يكون على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها منه.

وفي "صحيح البخاريّ" من حديث مالك، عن نُعَيْمٍ المُجْمِرِ، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يدخُلُها المسيحُ الدجّال، ولا الطاعون"

(2)

.

وقد تقدّم أنه يُخَيِّم بظاهِرها، وأنها تَرْجُفُ بأهلها ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فيخرج إليه كلُّ منافق ومنافقَةٍ، وفاسق وفاسِقَةٍ، ويثبتُ فِيهَا كل مؤمن ومؤمنةٍ، ومسلم ومسلمة، ويُسَمَّى يومُئذٍ يومَ الخَلاصِ، وأكثُر مَنْ يَخْرج إليه النِّساءُ، وهي كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنها طَيْبَةُ، تَنْفي خَبَثَها وَيَنْصَعُ طِيبُها".

وقال اللَّه تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] والمقصود أن المدينةَ تكون عامرةً أيام الدجَّال، ثم تكون كذلك في زمان المسيح عيسى ابن مَرْيم رسول للَّه عليه الصلاة والسلام، حتى تكون وفاتُه بها، ودفْنُه بها، ثم تَخْرَبُ بعد ذلك، كما قال الإمامُ أحمد: حدّثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيسِيرَنَّ الرَّاكِبُ في جَنَباتِ المَدِينَةِ، ثم لَيَقُول: لَقَدْ كَانَ في هذَا حاضرٌ مِنَ المُؤمنينَ كَثيرٌ".

قال الإمام أحمد: ولم يَجُزْ به حسن الأشيب جابرًا، انفرد به أحمد

(3)

.

‌خروج الدابة من الأرض تُكلِّم الناس

قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82]، وقد تكلّمنا على ما يتعلّق بهذه الآية الكريمة، في كتابنا "التفسير"، وأوردنا هنالك من الأحاديث المتعلّقة بذلك ما فيه كفاية، ولو كتبت مجموعها هنا كان حسنًا كافيًا.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 23) والبزار رقم (233)، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البخاري رقم (1880) ومسلم رقم (1379).

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 20) و (3/ 341) وهو حديث حسن.

ص: 139

قال ابن عباس، والحسن، وقتادةُ: تُكلِّمُهُمْ، أي تخاطِبهُمْ مُخَاطَبةً، ورجّح ابنُ جرير: تخاطبهم فتَقُولُ لَهُمْ: {إن

(1)

النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]. وحكاه عن عليّ، وعطاءٍ، وفي هذا نظر. وعن ابن عبَّاس: تَكلِمُهم: تجرحهم، يعني تكتبُ على جبين الكافر:(كافر) وعلى جبين المؤمن: (مؤمن) وعنه: تخاطبهم وتجرحهم. وهذا القول ينتظم المذهبَين، وهو قويّ حسن، جامع لهما، واللَّه أعلم.

وقد تقدّم الحديثُ الذي رواه أحمد، ومسلم، وأهل السنن، عن أبي سَريحة، حُذَيْفَةَ بن أَسِيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حتَّى تَرَوا عَشْر آيات: طُلوعُ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبها، والدُّخَان، والدَّابّة، وخروج يأْجَوجَ ومأْجُوجَ، وخروج الدجّال، وخروج عيسى ابن مريم، وثلاثة خُسُوفٍ خَسْفٌ بالمغرب، وخسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بجزيرة العرب، ونارٌ تَخْرُج من قَعْرِ عَدَن، تَسُوقُ النَّاسَ أو تَحْشُر الناس، تَبيتُ مَعَهُم حَيْث باتوا، وتَقِيلُ مَعهُمْ حيْثُ قالُوا"

(2)

.

ولمسلم من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بادِروا بالأعمال ستًّا: طُلوعَ الشَّمْسِ من مَغَرِبها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابّة، أو خاصّة أحدكم، أو أمر العامة"

(3)

.

وله أيضًا من حديث قتادةَ، عن الحسن، عن زياد بن رِياح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال سِتًا: الدجَّال، والدُّخَان، ودابَّة الأرض، وطلوعَ الشَمس من مغربها، وأمر العامة، وخُوَيْصَّة أحدكم"

(4)

.

وروى ابنُ ماجه، عن حرملة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، وابن لَهيعَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سَعْد، عن أنس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال سِتًّا: طُلُوعَ الشّمْسِ مِنْ مَغْربها، والدُّخَان، ودابّة الأرض، والدجّال، وخُوَيْضَة أحدكم، وأمْرَ العامّة"

(5)

. تفرّد به ابن ماجه من هذا الوجه.

(1)

وهي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي جعفر، وانظر توجيهها في كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي (5/ 406)، ورواية حفص عن عاصم وغيره:(أن الناس).

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 6) ومسلم رقم (2901) وأبو داود رقم (4311) والترمذي (2183) والنسائي في الكبرى (11482) وابن ماجه (4041).

(3)

رواه مسلم (2947)(128).

(4)

رواه مسلم رقم (2947)(129).

(5)

رواه ابن ماجه رقم (4056) وهو حديث حسن.

ص: 140

وقال أبو داود الطّيالِسيّ، عن طلحة بن عمرو، وجرير بن حازم، فأما طلحة، فقال: أخبرني عبد اللَّه بن عُبَيْد بن عُمَيْر أن أبا الطُّفَيْلِ حدّثَهُ عن حُذَيْفَةَ بن أسِيد الغِفَارِيّ، أبي سريحة، وأما جرير، فقال: عن عبد اللَّه بن عُبَيْد، عن رجل من آل عبد اللَّه بن مسعود، وحَدِيثُ طَلْحة أتَمُّ وأَحسَنُ.

قال: ذكر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الدابَّة، فقال:"لها ثَلاثُ خَرَجَاتٍ في الدَّهْرِ، فتَخْرُج خَرْجَةً مَنْ أقْصى البَادية، ولا يَدْخُلُ ذِكرُهَا القَرْيةَ" يعني مَكَّة "ثم تَكْمُنُ زَمانًا طَوِيلًا، ثم تَخْرُج خرجةً أخْرى دون تِلْكَ، فَيعْلو ذِكْرُها في أهل البادية، وَيدْخُلُ ذِكرها القَريَةَ" يعني مَكَّة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ثم بينما الناسُ في أعظم المساجد على اللَّه حُرْمةً، وأكرمِها: المسجد الحرام، لم يَرُعْهُمْ إلَّا وَهي ترغو بين الرُّكن والمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِها التُّرَابَ، فارْفَضَّ الناسُ عَنْهَا شَتّى، ومعًا، وثَبَتَتْ عِصابَةٌ من المُؤْمِنينَ، وعرفوا أنّهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، فبدأت بِهِمْ، فجلت وجوهَهُمْ حتى جَعَلتها كالكوكب الدُّرِّيِّ، وولَّت في الأرض، لا يُدركها طالب، ولا يَنجُو منها هارب، حتّى إنّ الرجل ليتَعَوَّذُ مِنْها في الصلاة فَتأتِيهِ من خَلْفِهِ، فتقول: يا فُلانُ: آلآن تُصَلِّي؟! فيُقْبِلُ عَلَيْها، فَتسِمُه في وَجْهِهِ، ثم تَنْطَلِقُ، وَيَشْتَرِكُ الناسُ في الأموال، وَيَصْطَحِبُونَ في الأمصار، يُعْرَفُ المُؤْمنُ من الكافر، حتى إنّ المُؤْمِنَ ليَقُولُ: يا كافر، اقْضِنِي حَقّي، وحَتى إنَّ الكافر لَيَقُولُ: يا مؤمن، اقضِنِي حَقّي". هكذا رواه مرفوعًا من هذا الوجه بهذا السياق، وفيه غرابة. ورواه ابن جرير من طريقين، عن حُذَيفةَ بن أسِيد، موقوفًا، ورواه أيضًا عن حُذْيفَةَ بن اليمان مَرْفُوعًا، وفيه أنّ ذلك في زمان عيسى ابن مريم، وهو يطوف بالبَيْت، ولكن في إسناده نظر، فاللَّه أعلم

(1)

.

وقال ابن ماجه: حدَّثنا أبو غَسّان محمَّد بن عمرو، حدّثنا أبو تُمَيْلَة، حدّثنا خالد بن عُبَيد، حدثنا عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ، عن أبيه قال: ذهب بي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية قريبٍ من مكة، فإذا أرضٌ يابِسَةٌ حولَها رَمْلٌ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تخرُج الدابة من هذا الموضع، فإذا فِتْرٌ في شِبْرٍ" قال ابن بُرَيْدَة: فحَجَجْتُ بعد ذلك بِسِنِينَ، فأرانا عصًا له، فإذا هو بعَصَاي هذا كذا وكذا، يعني أنه كلما له يتسع حتى يكون وقت خروجها، واللَّه أعلم

(2)

.

وقال عبد الرزاق: عن مَعْمَر، عن قَتَادة، أنّ ابن عباس قال: هي دابّةٌ ذاتُ زَغَبٍ، لها أرْبَعُ قَوائمَ، ثم تخرجُ من بعض أوْدِيَة تِهَامَة. ورواه سعيد بن منصور، عن عثمان بن مَطَر، عن قتادة، عن ابن عباس بنحوه، وقال ابنُ أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا عبد اللَّه بن رجاء، حدثنا فُضَيْلُ بن

(1)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (1069).

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4067) وهو ضعيف.

ص: 141

مَرْزُوق، عن عَطِية، قال: قال عبد اللَّه: تخرجُ الدابّة من صَدْعٍ من الصَّفَا، كجَرْي الفرس، ثلاثةَ أيام، لا يَخْرجُ ثُلُثُها.

وعن عبد اللَّه بن عمرَو أنّه قال: تخرجُ الدابّة من تحت صَخْرةٍ بِشِعب أجياد، فتستقبل المَشْرقَ، فتصرخُ صَرْخةً تُنْفِذه، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل اليمن فتصرُخ صرخَةً تُنْفِذُه، ثم تروح من مكةَ فتُصْبحُ بعُسْفَانَ، قيل له: ثمّ ماذا؟ قال: ثم لا أعلم.

وعنه أنّه قال: تخرُج الدابّة ليلة جمع

(1)

.

وعن وهب بن منبه أنه حكى عن عُزَيرٍ النبيِّ أنه قال: تخرج الدابة من تحت سَدُومَ، يعني مدينةَ قوم لوط.

فهذه أقوال متعارضة، فاللَّه أعلم.

وعن أبي الطفَيْلِ أنّه قال: تخرُج الدابّة من الصَّفَا، أو المَرْوَةِ. رواه البَيْهَقِيّ، ثم ساق من حديث يحيى بن مَعِين: حدَّثنا هِشَامُ بنُ يوسف، حدثنا رَبَاحُ بن عُبَيْد اللَّه بن عُمر، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بِئْس الشِّعْبُ شِعْبُ جِيَادٍ" مرّتين، أو ثلاثة، قالوا: ولم ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "تخرجُ منه الدابّة، فتصرخُ ثلاثَ صَرَخاتٍ، فَيسْمَعُها مَنْ بَيْنَ الخَافِقينِ". ثم روى من حديث فَرْقَدِ بن الحجَّاج: سمعتُ عُقْبَةَ بن أبي الحسناء، سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تخرُج دابَّةُ الأرض من جِيَادٍ، فيَبْلُغُ صَدْرها الرُّكْنَ، ولمْ يخرُج ذَنَبُها بَعْدُ". قال: "وهي دَابَّةٌ ذات وبَرٍ وقَوائِمَ".

وقد روى الأمامُ أحمد، عن يزيد بن هارون، وبَهْزِ بن أَسَدٍ، وعَفّانَ بن مُسْلِم، عن حمّاد بن سَلَمةَ، عن عليّ بن زيد بن جُدْعانَ، عن أوْسِ بن خَالِدٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تخرجُ دابَّة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتمُ سُلَيْمان، فَتخْطِمُ أنْفَ الكافِر بالخاتَم، وتجلو وجهَ المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخِوَان الواحد ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبةَ، عن يونس بن محمد المُؤَدّب، عن حمّاد بن سَلَمةَ، به. ورواه أبو داود الطيالسِيُّ عن حمّاد بن سَلَمة، فذكره مِثْلَه، إلّا أنه قال:"فتَخْطِمُ أنْف الكافر بالعصا، وتجلو وجه المؤمن بالخَاتَم" وهذا أنسَبُ، واللَّه أعلم

(2)

.

(1)

الجمع: عَلَمٌ للمزدلفة.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 295) و (491) وابن ماجه (4066) وأبو داود الطيالسي في "مسنده" رقم (2564) وإسناده ضعيف.

ص: 142

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، كاتبُ الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي مَرْيَم: أنّه سمع أبا هريرة يقول: إن الدابة فيها من كُل لَوْنٍ، ما بين قرْنيها فرسخ للراكب.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: إنها دَابَّةٌ لهَا رِيشٌ وزَغَبٌ، وحافر، وما لَهَا ذَنبٌ، ولَها لِحْيَةٌ، وإنها لتَخرُجُ حُضْرَ

(1)

الفَرسِ الجَوادِ ثلاثًا، وما خرج ثُلُثاها. رواه ابن أبي حَاتِم.

وقال ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبَيْر: إنه وصف الدابّة، فقالَ: رأْسُها رَأْسُ ثَوْرٍ، وعينها عينُ خِنْزِيرٍ، وأذُنُها أُذنُ فِيلٍ، وَقْرْنُها قَرْنُ أَيِّل، وعُنقُها عُنُق نَعامَةٍ، وصدرها صَدْرُ أسَدِ، ولونُها لَوْنُ نَمِرٍ، وخاصِرَتُها خَاصِرَة هِرٍّ، وذَنَبُها ذَنَبُ كَبْشٍ، وقوائمُها قَوائمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كلِّ مَفْصِلَين اثنا عشر ذِرَاعًا، يَخْرُجِ مَعَها عَصا موسى، وخاتَمُ سُلَيْمان، ولا يبقى مؤمن إلّا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نُكْتةً بَيْضاءَ، فتفْشُو تِلكَ النُّكْتَةُ حتى يبيَضّ لها وَجْهُهُ، ولا يبْقَى كافرٌ إلّا نَكتَتْ في وجهه نُكْتَةً سَوْداءَ بخاتم سُلَيمان، فَتفْشُو تلك النُّكْتَةُ، حتى يَسْوَدّ لها وَجْهُه، حتّى إن الناس يَتَبايَعُونَ في الأسواق بكم ذا يا مؤمن؟ بكم ذا يا كافر؟ حتى إن أهل البيت ليَجْلِسُونَ على مَائِدَتِهم، فيَعْرِفُونَ مُؤْمِنَهُمْ مِنْ كافرِهِم، ثم تقول لهم الدابّة: يا فلان، أبْشِر، أنت من أهل الجنة، ويا فُلانُ، أَنْت من أَهْل النَّار، فذلك قوله تعالى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل].

وقد ذكرنا فيما تقدّم عن ابن مسعود أنّ الدابّة تَقْتُلُ إبليس الرَّجِيمَ، وذلك فيما رواه نُعَيْمُ بنُ حمّاد في كتاب "الفِتَن والمَلاحم"، تصنيفِه، واللَّه أعلم

(2)

.

وقال مسلم: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدَّثنا محمَّد بن بِشْر، عن أبي حَيّان، عن أبي زُرْعَة، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: حَفِظْتُ مِنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أَنْسَهُ بعدُ: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوَّلَ الآيات خروجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِها، وخروجُ الدابّة على الناس ضُحًى، فأيتُهما ما كانت قبلَ صاحبتها، فالأُخرى على إثْرِهَا قريبًا"

(3)

.

أي أول الآيات التي ليست مألوفةً، وإن كان الدجّالُ، ونزولُ عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء، قبلَ ذلك، وكذلك خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ، فكلّ ذلك أمور مألوفة، لأنّهم بَشَرٌ، مشَاهَدَتُهُم وأمثالهم مَعْروفَةٌ مَأْلُوفةٌ، فأما خروج الدابّة على شكل غيرِ مألوف، ومخاطبتُها النَّاسَ، ووَسْمُها إيَّاهمْ

(1)

الحضر: العدو.

(2)

وقد ذكرنا حكم الذهبي عليه بالوضع فيما سلف.

(3)

رواه مسلم رقم (2941).

ص: 143

بالإيمان والكفر، فأمر خارج عن مَجاري العاداتِ، وذلك أوّل الآيات الأَرضِيَّةِ، كما أن طلُوعَ الشمس من مَغْرِبها على خِلاف عَادتها المالوفة، أَوَّلُ الآياتِ السَّماوِيَّة، فإنها تطلع على خلاف عادتها المألوفة واللَّه سبحانه أعلم.

‌حديث عن أبي أُمَامةَ

قال الإمام أحمدُ: ثنا حُجَيْنُ بن المثنَّى، ثنا عبد العزيز -يعني ابن أبي سلمة- الماجشونُ، عن عمرَ بن عبد الرحمن بن عطية بن دِلافٍ

(1)

المزنيِّ، لا أعلمُ إلَّا أنَّه حدَّثه عن أبي أمامة يرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ النَّاسَ على خَرَاطِيمِهم، ثم يُغْمَرُون فيكم

(2)

حتَّى يَشْتَريَ الرَّجُلُ البَعيرَ فيقال -فيسأل

(3)

-: مِمَّنِ اشْتَرَيْتَه؟ فيقول: مِن أحد المُخَطَّمِينَ" وقال يونسُ يعني ابن محمدٍ: "ثم يُغَمَّرُون فيكم" ولم يَشُكَّ. قال: في رفعه. تفرَّد به أحمد

(4)

.

‌ذكر طلوع الشمس من مغربها

قال اللَّه تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} [الأنعام].

قال الإمامُ أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا ابنُ أبي لَيْلى، عَنْ عطِيّة العَوْفيّ، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} قال: "طلوعُ الشَمس مِنْ مَغْرِبها". ورواه الترمذيّ، عن سفيانَ بن وكيع، عن أبيه به، وقال:[حسن]

(5)

غريب، وقد رواه بعضهم فلم يَرْفَعْه

(6)

.

وقال البخاريّ عند تفسير هذه الآية: حدَّثنا موسى بنُ إسماعيلَ، حدّثنا عبدُ الواحد، حدثنا عُمَارَةُ، حدثنا أبو زُرْعةَ، حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغْرِبها، فإذا رآها الناسُ آمَنَ مَنْ عَليْها، فذاكَ حِينَ لا ينفعُ نَفْسًا إيمانُها لم تكن آمَنتْ مِن قَبْلُ". وقد أخرجه بَقِيّةُ الجَماعةِ، إلّا الترمذيّ، من طرق، عن عُمارَة بن القَعْقَاع بن

(1)

في الأصل: ابن كلاب.

(2)

في الأصل: فيه، وهو كذلك في "مجمع الزوائد".

(3)

كلمة: فيسأل، ليست في المسند.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 268)، وهو حديث صحيح.

(5)

زيادة من بعض نسخ الترمذي.

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 31) والترمذي (3071) وهو حديث صحيح بشواهده.

ص: 144

شُبْرُمةَ، عن أبي زُرْعةَ بن عمرو بن جَرير، عن أبي هريرة مرفوعًا مثلَه

(1)

.

ثم قال البخاريِّ: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزّاق، حدثنا معمر، عن هَمَّام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتّى تطلُع الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناسُ آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفعُ نَفْسًا إيمانُها" ثم قرأ هذه الآية. وكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق بن هَمَّامٍ الصنعانيّ، به. وانفرد مسلم بإخراجه من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة

(2)

.

وقال أحمد: حدّثنا وكيعٌ، عن فُضَيْلِ بن غَزْوانَ، عن أبي حازم، سَلْمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ إذا خَرجْنَ لَا ينْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْرًا: طلوعُ الشمس من مغربها، والدُّخَانُ، ودابّةُ الأرْضِ". ورواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شَيبَةَ، وزُهَيْر بنُ حَرْب، عن وكيع به، ورواه مسلم أيضًا، والترمذيّ، وابن جرير من غير وجه، عن فُضَيْل بن غَزْوانَ، به، نحوَه

(3)

.

وقد ورد هذا الحديث من طرق عن أبي هريرة، وعن جماعة من الصحابة أيضًا، فعن أبي سرِيحةَ حُذَيْفةَ بن أَسِيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حتى تَرَوْا عَشْر آياتٍ: طُلوعَ الشمس من مغربها. . . " وذكر الحديث. رواه أحمد، ومسلم، وأهل السُّنَنِ، كما تقدّم غيرَ مَرّةٍ

(4)

.

ولمسلم من حديث العَلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرة، ومن حديث قتادةَ، عن الحسن، عن زياد بن رَبَاح، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بادِرُوا بالأعمال سِتًا. . . " فذكر مِنهُنّ طُلوع الشمس من مغربها. كما تقدّم

(5)

.

وثبت في "الصحيحين" من حديث إبراهيم بن يزيد بن شَرِيك، عن أبيه، عن أبي ذَرّ قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أتدري أَين تَذْهَبُ هذه الشمسُ إذا غَرَبَتْ؟ قلت: لا أدري، قال: إنّها تَنْتَهِي، فتَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ، ثم تَسْتأذِنُ فيُوشِكُ أنْ يقَال لَهَا: ارْجِعِي من حَيْثُ جِئْتِ،

(1)

رواه البخاري (4635) ومسلم رقم (157) وأبو داود رقم (4312) والنسائي في "الكبرى"(11177) وابن ماجه (4068).

(2)

رواه البخاري (4636) ومسلم رقم (157).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 445 - 446) ومسلم رقم (158) والترمذي (3072).

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 6) ومسلم (2091) وأبو داود (4311) والترمذي (2183) والنسائي في "الكبرى"(11482) وابن ماجه (4041).

(5)

رواه مسلم رقم (2947)(128).

ص: 145

وذلك حين لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمنَتْ مِنْ قَبلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خيرًا"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أبو حيّان، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، قال: جلس ثلاثةُ نَفرٍ من المسلمين إلى مَرْوانَ بالمدينة، فسمعوه يقول وهو يُحدّث في الآيات: إن أوَّلها خروجُ الدجال، قال: فانصرف النَّفَرُ إلى عبد اللَّه بن عمرو، فحدّثوه بالذي سمعوه مِنْ مرْوانَ في الآيات، فقال عبد اللَّه: لم يَقُلْ مَرْوانُ شَيْئًا، قد حَفِظْتُ مِنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلكَ حديثًا لم أنسه بعدُ: سَمعتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أوَّل الآياتِ طلوعُ الشمس من مغربها، وخروجُ الدابة ضُحًى، فأيَّتهُما ما كانت قبلَ صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا، ثم قال عبد اللَّه، وكان يقرأ الكتب: وأظن أُولاهمَا خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غَرَبَتْ أَتَتْ تَحْتَ العَرْشِ، فسجَدَتْ، واسْتَأْذَنَت في الرُّجوع، فَأُذِن لهَا في الرجوع، حتّى إذا بَدا للَّه أنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبهَا فَعَلَتْ كما كانت تفْعَلُ، أتَتْ تَحْتَ العرْشِ، فسَجَدَت، فاسْتَأَذَنَتْ في الرُّجُوعِ، فلم يُرَدّ عليها شيء، ثم تستأذن في الرجوع فلا يُرَدّ عليها شيء، ثم تستأذن في الرجوع فلا يردّ عليها شيء، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء اللَّه أن يذهب، وعرفَتْ أنّه إن أُذن لها في الرجوع لم تُدْرِكِ المَشْرِقَ، قالت: ربِّ، ما أبْعَدَ المَشْرِقَ، من لي بالناس؟ حتى إذَا صار الأُفق كأنه طَوْقٌ، استأذنَتْ في الرُّجوع، فيقال لها: ارجعي من مكانك فاطلُعي، فطلعت على الناس من مغربها، ثم تلا عبد اللَّه هذه الآية {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].

وقد رواه مسلم في "صحيحه"، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث أبي حَيّان يحيى بن سعيد ابن حَيّان، عن أبي زُرعة، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: حَفِظتُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أَنْسَهُ بَعْدُ:. . . وذكره كما تقدم

(2)

.

وقد ذكرنا أن المراد بالآيات هاهنا، التي ليست مألوفةً، بل هي مُخَالفَةْ للعادَة، فخروج الدابة مخالف للعادة، لأنها تميز المؤمن من الكافر، وتُكلّمُ الناس، وهذا باهر مخالف للعادة، وطلوعُ الشمس من مغربها أمر باهر جدًّا، فالدابة أول الآيات الأرضِية، وطلوع الشمس من مغربها أول الآيات السماوية، وقد ظَنّ عبدُ اللَّه بن عمرو أنّ طلوع الشمس من مغربها مُتَقدِّمٌ على خروج الدابّة، وذلك مُحتمِل ومُناسب، فاللَّه أعلم.

وقد ورد في ذلك حديث غريب، رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في "مُعْجَمه"، فقاله: حدّثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرّقيّ، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم [بن] زبريق الحمصي، حدَّثنا

(1)

رواه البخاري رقم (4802) ومسلم (159).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 201) ومسلم (2941) وأبو داود رقم (4310) وابن ماجه رقم (4069).

ص: 146

عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا ابنُ لَهِيعَةً، عن حُيَيِّ بن عبد اللَّه، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا طلعت الشمسُ من مَغْربها خَرّ إبليسُ ساجِدًا يُنادي وَيجْهَرُ: إلهي مُرني أنْ أسْجُد لِمَنْ شِئْت" قال: "فتَجْتمِعُ إلَيْه زَبانيتهُ، فيقولون: يا سَيِّدَهُمْ، ما هذا التَضرُّع؟ فيقول: إنما سألتُ رَبي أَنْ يُنظِرني إلى الوَقْتِ المعلوم" قال: "ثم تخرُج دَابَّة الأرض مِنْ صَدْع في الصَّفَا" قال: "فأول خُطْوَةٍ تَضَعُها بأنطَاكِيةَ، فتأتى إبْليسَ فَتْلطِمُه". وهذا حديث غريب جدًّا، وَرفْعُه فيه نَكارة، ولَعَله من الزاملتَين اللتين أصابهما عبدُ اللَّه بن عمرو يوم اليَرْمُوك من كُتُب أهل الكتاب، فكان يُحَدِّث منهما أشياءَ غَرائِبَ

(1)

.

وقد تقدّم في خبر ابن مسعود الذي رواه نُعَيْمُ بنُ حماد في "الفتن": أنّ الدابّة تَقْتُل إبليسَ، وهذا من أغرب الأخبار

(2)

واللَّه أعلم.

وفي حديث طالوت بن عَبَّاد، عن فَضَّال بن جُبَير، عن أبي أُمامَةَ، صدي بن عَجْلَان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات طلوعُ الشمس من مَغْرِبها"

(3)

.

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدَوَيه في "تفسيره": حَدّثنا محمّد بن عليّ بنِ دُحَيم، حدَّثنا أحمدُ بن حازم بنِ أبي غرَزة، حدثنا ضِرَارُ بنُ صُرد، حدثنا ابن فُضَيْل، عن سُلَيمان بن يزيد، عن عبد اللَّه بن أبي أَوفَى، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليأتيَنّ على الناس ليْلَةٌ تَعْدل ثلاث لَيال من لَيالِيكم هذه، فإذا كان ذَلِكَ يَعْرِفُهَا المُتَنَفِّلُون، يَقُومُ أحدهم، فيقرأ حِزْبهُ، ثم ينام، ثم يقوم، فيقرأ حزبه، ثم ينام، فبينما هُمْ كذلك، صاحَ الناسُ بعضُهم في بَعْض، فقالوا: ما هذا؟ فيفزعون إلى المساجد، فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها، حتى إذا صارت في وسط السماء، رجَعَتْ، فطلعت من مَطْلعِها" قال: "فحينئذ لا ينفع نَفْسًا إيمانُها"

(4)

.

ثم ساق ابنُ مَرْدَوَيْه من طريق سُفْيَان الثوريّ، عن منصور، عن رِبْعيّ، عن حُذَيفَةَ، قال: سألتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما آيةُ طلوع الشمس من مغربها؟ فقال: "تَطُولُ تلك الليلةُ حَتّى تكونَ قَدْرَ لَيلَتَين، فينْتَبِهُ الذينَ كانوا يُصلُّون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها، والنجومُ لا تُرَى، قد باتَتْ مَكَانها، ثمَ يرْقُدونَ، ثم يقومون، فيصلون، ثم يرْقدون، ثم يقومون، فَتَكِلُّ عليهم جنوبهم حين يَتَطَاول اللَّيْل، فَيفْزَعُ الناسُ ولا يُصْبِحون، فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مَشْرِقها، إذ طلعت من مَغْربها، فإذا رآها الناسُ آمنوا، ولا يَنْفَعُهم إيمانُهم".

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (94).

(2)

وقد تقدم حكم الحافظ الذهبي عليه بالوضع.

(3)

أقول: فيه فضال بن جبير. قال ابن حبان عنه: يروي أحاديث لا أصل لها.

(4)

قال المصنف في "تفسيره": هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس هو في شيء من الكتب الستة.

ص: 147

وقال الحافظ أبو بكر البَيْهَقِيّ في "البعث والنشور": أنا أبو الحسن محمد بن الحُسَيْن بن داود العلوي، أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، حدثنا عبد اللَّه بن محمد الآمُلِيُّ، حدَّثنا محمد بن عمران، حدّثني أبي، حدّثني ابنُ أبي ليلى، عن إسماعيل بن رجاء، عن سعد بن إياس، عن عبد اللَّه بن مسعود: أنّه قال ذات يوم لجلسائه: أرأيْتم قول اللَّه تعالى: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] ماذا يَعني بها؟ قالوا: اللَّه ورسولُه أعلم، قال: إنها إذا غَرَبت سَجَدتْ له، وَسبَّحتْه، وعظمته، ثم كانت تحت العرش، فإذا حضر طلوعها سجدت له، وسبَّحته، وعظَّمته، ثم استأذنته، فيؤذن لها، فإذا كان اليوم الذي تحبس فيه سجدت له وسبَّحته وعظَّمته ثم استأذنته، فيقال لها: اثْبُتي، فإذا حضر طلوعها سجدت له، وسبَّحته وعظَّمته، ثم استأذنته فيقال لها: اثبتي فَتُحْبَس مقدار ليلَتَيْنِ. قال: ويَفْزَعُ المتهجِّدون، وينادي الرجلُ تلك الليلةَ جَارَه: يا فلان، ما شَأْنُنَا الليلةَ؟ لقَدْ نِمتُ حَتَّى شَبِعْتُ وصَلَّيْتُ حَتى أعيَيْتُ، ثم يقال لها: اطلُعي من حيث غَرَبْتِ، فذلك يوم {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا الحَكَم بنُ نافع، حدَّثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن ضمضم بن زرعة، عن شُريْح بن عُبَيْد، يَرُدُّه إلى مالك بن يُخَامِر، عن ابن السعديّ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهِجْرَةُ ما دام العدُو يقاتل"، فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الهجرة خَصْلَتان: إحداهما أنْ تَهْجُرَ السّيئات، والأخرى أن تُهاجر إلى اللَّه ورسوله، ولا تنْقَطعُ [الهجرة] ما تُقُبِّلَتِ التَّوْبةُ، ولا تزال التوبةُ مَقْبُولة حتى تَطلُع الشمسُ من المَغْرِبِ، فإذا طلعت طُبعَ على كل قلب بمَا فيه، وكُفِيَ الناسُ العَمَلَ" وهذا إسناد جَيد قويّ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب

(2)

.

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه، من طريق عاصم بن أبي النجودِ، عن زِرّ بن حُبَيْشٍ، عن صَفوانَ بن عَسَّال: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه فتح بابًا قِبَل المَغْرب عرْضه سَبْعونَ" -أو قال: "أرْبعون- عامًا للتوبة، لا يُغَلقُ حَتى تَطلُع الشمسُ منه"

(3)

.

فهذه الأحاديثُ المتواترة، مع الآية الكريمة: دليل على أنّ مَنْ أحدث إيمانًا، أو تَوْبة بعد طلُوع الشمس من مَغْربها لا تُقْبَلُ مِنْهُ، وإنما كان كذلك واللَّه أعلم، لأن ذلك من أكبر أشراط الساعة، وعلاماتِها

(1)

في إسناده ضعف وما بين الحاصرتين تكملة منه.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 192).

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 240) والترمذي رقم (3535) والنسائي في "الكبرى"(11178) وابن ماجه (4070) وهو حديث حسن.

ص: 148

الدالّة على اقترابها، ودُنُوِّها، فعُومل ذلك الوقتُ مُعاملَةَ يوم القيامة، كما قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158].

وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85].

وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18].

وقد حكى البَيْهَقِيُّ، عن الحاكم أنّه قال: أوّل الآيات ظُهورًا خروجُ الدجّال، ثم نزول عيسى ابن مَرْيَم، ثم فتحُ يَأْجُوجَ ومأجوج، ثم خروجُ الدابّة، ثم طلوعُ الشمس من مغربها، قال: لأنها إذا طلعت من مغربها آمن مَنْ عَليْهَا، فلو كان نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعدَها، لم يلق كافرًا. وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنّ إيمانَ أهل الأرض يَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُمْ، فإنه لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمنَتْ مِنْ قَبْلُ، فمن أحدث إيمانًا، أو تَوْبةً يوْمئِذٍ، لم تُقبل منه، إلا أن يكون مؤْمِنًا، أو تائبًا قبلَ ذلك، وكذلك قوله تعالى في قصة نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان:{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ليُؤمِنن بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أي قَبْل مَوْتِ عيسى، وبعد نزوله يؤمِنُ جميعُ أهل الكتاب به إيمانًا ضروريًا، بمعنى أنّهم يَتَحَقّقون أنّه عبدُ اللَّه ورسوله، فالنصرانيُّ يَعلَمُ كَذِبَ نَفسِه في دَعْواه فيه الربُوبيةَ والبُنُوّة، واليهوديّ يعلم أنه نَبِيّ رسول من اللَّه، لا وَلَدُ زَنية، كما كان المُجرمون منهم يَزْعمونَ ذلك، عليهم لعائن اللَّه وغضبه المُتَدارِكُ.

‌ذكر الدُّخَان الذي يكون قبل يوم القيامة

قال اللَّه تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 10 - 16].

وقد تكلّمنا على تفسير هذه الآيات في سورة الدخان بما فيه كفاية ومَقْنَعٌ.

وقد نَقَل البخاريّ، عن ابن مسعود، أنّه فسّر ذلك بما كان يَحْصُل لقُرَيْشٍ مِنْ شِدّةِ الجُوع، بسبب القَحْط الذي دعا عليهم به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان أحدُهم يَرَى فيما بينه وبين السماء دُخَانًا من شدّة الجوع. وهذا التفسير غريب جدًّا، ولم يُنْقَلْ مِثلُه عن أَحَدٍ من الصحابة غيرِه

(1)

.

وقد حاول بعضُ العلماء المُتأخّرين ردّ ذلك، ومعارضَتَه بما ثَبَت في حديث أبي سَرِيحةَ، حُذَيفةَ بن أَسِيدِ:"لا تقومُ الساعةُ حتّى تَرَوْا عَشْر آياتٍ. . . " فذكر فيهنّ الدخّان. وكذلك في حديث

(1)

رواه البخاري رقم (4821).

ص: 149

أبي هريرة: "بادرُوا بالأعمال سِتًا. . . " فذكر فيهن الدخان. والحديثان في "صحيح مسلم" مرفوعان

(1)

، والمرفوع مقدّم على كلّ موقوف، وفي ظاهر القرآن ما يدلّ على وجود دُخان من السماء يَغْشى النَّاسَ، وهذا أمر محقّق عامّ، وليس كما رُوِي عن ابن مسعود أنّه خَيال في أعين قُرَيْش من شِدّة الجوع.

قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي ظاهر بَيِّن واضح جَلِيّ، ليس خيالًا من شِدّة الجوع، {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي يُنادي أهلُ ذلك الزمان رَبهم بهذا الدعاء يسألون كشْفَ هذه الشدّة عنهم، فإنّهم قد آمنوا، وأيقنُوا بما وعِدُوا به من الأمور الغَيْبِيَّة الكائِنَة بعد ذلك يوم القيامة، وهذا دليل على أن هذا أمر يكون قبل يوم القيامة، حيث يمكن رفعه، ويُمكن استدراكُ التوبة والإنابة، واللَّه أعلم.

وقد روى البخاريّ، عن محمّد بن كَثِير، عن سُفيانَ الثَّوْريّ، عن الأعْمَشِ، ومنصور، عن أبي الضحَى، عن مَسرُوقٍ قال: بينما رجل يُحَدّث في كِنْدةَ قال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخُذُ بأسماع المُنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنَ كهَيْئةِ الزُّكَامِ، فَفزِعْنَا، فأَتينا ابن مسعود، قال: وكان مُتّكئًا، فغَضِبَ فَجَلس، فقال: يا أيُّها الناسُ، من عَلِم شَيْئًا فلْيَقُل، ومن لم يعلم فلْيَقُل: اللَّهُ أعلم، فإن مِنَ العلمِ أن يقول لما لا يعلم: اللَّهُ أعلم.

قال اللَّه تعالى لنبيِّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وإن قُرَيشًا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهم أعنِّي عليهم بِسْبعٍ كسَبْعِ يوسف" فأخذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتى هَلَكُوا فيها، وأكَلُوا المَيْتَةَ والعِظام، ويرَى الرجلُ ما بين السماء والأرض كَهْيئَةِ الدُّخَان، فجاءه أبو سُفْيان، فقال: يا محمد، جِئْتَ تأمرُ بصِلةِ الرَّحمِ، وقَوْمُك قد هَلَكُوا، فادعُ اللَّه، فقرأ هذه الآية {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. . .} إلى قوله:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} : أفَيُكْشَفُ عَنْهُم عذابُ الآخرة إذَا جاء؟! ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان] فذاك يوم بدر، {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا (77)} [الفرقان] فذاك يومُ بدر، {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم] والرُّوم قد مَضَى، فقد مضت الأرْبَعُ. وقد أخرجه البخاري أيضًا، ومُسلم من حديث الأعمش، ومنصور، به، نحوه، وفي روايةٍ: فقد مضى القمر، والدخان، والرُّوم، واللِّزامُ.

وقد ساقه البخاري من طرق كثيرةٍ بألفاظٍ مُتعددةٍ

(2)

.

وقول هذا القاصّ: إن هذا الدخانَ يكونُ يومَ القيامة؛ ليس بِجيد، ومن هاهنا تَسلَّط عليه

(1)

رواهما مسلم رقم (2947)(128) ورقم (2947)(129).

(2)

رواه البخاري رقم (4774) و (4822) و (4824) ورواه مسلم رقم (2798).

ص: 150

ابنُ مسعود بالردّ، بل قبل يوم القيامة يكون وجودُ هذا الدخان، كما يكون وجودُ الآيات، من الدابة والدجّال، ويأجوج ومأجوج، كما دلت عليه الأحاديثُ عن أبي سَرِيحةَ وأبي هريرة، وغيرهما من الصحابة، وكما جاء مُصرَّحًا به فيها، وأما النار التي تكون قبل يوم القيامة، فقد تقدم في الصحيح أنها:"تخرُج من قَعْر عدَن، تسوف الناس إلى المَحْشر، تبيتُ معهم حيثُ باتُوا، وتَقيلُ معهم حيث قالُوا، وتأكلُ مَنْ تَخَلّف منهم"

(1)

.

‌ذكر الصواعق التي تكون عند اقتراب الساعة

قال الإمامُ أحمد: حدثنا محمد بن مُصْعَب، حدثنا عُمَارَةُ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سعيد، الخُدرِي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "تكثُر الصواعقُ عند اقتراب الساعة حتى يأتِيَ الرجلُ القومَ فيقول من صَعِق قِبَلكُم الغَدَاةَ؟ فيقولون: صُعِقَ فلان، وفلان"

(2)

.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا أرطاةُ -يعنى ابنَ المنذر-: سمعت ضَمْرةَ بنَ حبيب، سمعت سلمة بن نُفَيْلٍ السَّكُونيَّ قال: كُنَّا جُلُوسًا عندَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذْ قال قائلٌ: يا رسول اللَّه، هل أُتِيتَ بطعامٍ مِن السماء؟ قال:"نَعَمْ". قال: وبماذا؟ قال: "بِسَخِينَةٍ

(3)

" قال: فهل كان فيها فضلٌ عنك؟ قال: "نَعَمْ". قال: فما فُعِلَ به؟ قال: "رُفِعَ، وهو يُوحى إليَّ أنِّي مَكْفُوتٌ غيرُ لابثٍ فيكم، ولَسْتُم لابِثينَ بَعْدي إلَّا قليلًا، بلْ تَلْبَثُونَ حتَّى تَقُولُوا: متى؟ وسَتَأْتُونَ أَفْنَادًا يُفْني بَعْضُكم بعضًا، وبين يدي الساعةِ مُوتانٌ شَدِيدٌ، وبَعْدَه سَنَواتُ الزَّلَازِلِ"

(4)

.

‌ذكر وقوع المطر الشديد قبل يوم القيامة

قال الحافظ أبو بكر البزّار في "مُسنده": حدثنا إسحاقُ، حدثنا خالدٌ، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى تُمْطِرَ السماءُ مَطَرًا لا تُكِنُّ منه بُيُوتُ المَدَر، ولا تُكِنُّ منه إلَّا بُيوت الشعر"

(5)

.

(1)

رواه مسلم رقم (2901).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 64 - 65) وهو حديث صحيح.

(3)

كذا في الأصل، وهو طعام حار يتخذ من دقيق وسمن، وكانت قريش تكثر من أكلها. والذي في طبعة المسند: بمِسْخَنَةٍ، أي جاء حارًّا، وقد ضبطها ابن الأثير في النهاية: بِمِسْخنَةٍ، ثم قال: وهي قِدر كالتور يسخن فيه الطعام، أقول: وهي كذلك في "مجمع الزوائد"(7/ 306) والبزار رقم (2422 - كشف الأستار) وأبي يعلى (6861) وغيرها من المصادر.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 104) وهو حديث حسن، على غرابة في متنه، ويشهد لآخره حديث واثلة بن الأسقع عند أحمد (4/ 106) وأبي يعلى عن معاوية رقم (7366).

(5)

وأخرجه أحمد في المسند (2/ 262) وابن حبان (6770) من طريق حماد به، وهو حديث صحيح.

ص: 151

وقال الإمام أحمد: حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حَمَّادٌ، حدثنا عليّ بن زَيْد، عن خالد بن الحُوْيَرث، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الآياتُ، خرَزَاتٌ مَنْظُوماتٌ في سِلْكٍ، فإن يُقطعِ السلكُ يَتْبَعْ بَعْضُها بَعْضًا". انفرد به أحمد

(1)

.

‌باب ذكر أمور لا تقوم الساعة حتى تكون منها ما قد وقع ومنها ما لم يقع بعدُ

قد تقدّم من ذلك شيء كثير، ولنذكر أشياء أُخَرَ من ذلك، وإيراد شيء من أشراط الساعة، وما يدل على اقترابها، وباللَّه المستعان.

تقدّم ما رواه البخاريّ عن أبي اليمان، عن شُعَيْب، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حَتّى يَتَطاولَ الناسُ في البُنْيانِ، ولا تقومُ الساعةُ حتى تقتتِلَ فِئَتانِ عَظِيمتَانِ يكون بينهما مَقْتَلةٌ عظيمةٌ، دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتكْثر الزلازلُ، وَيتَقارَبَ الزَّمَانُ، وتكثُرَ الفِتَنُ، ويكثُرَ الهَرْج، ولا تقوم الساعةُ حتى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كذّابُون قَرِيبٌ مِن ثَلاثِين، كلُّهمْ يزْعُم أنّه رسول اللَّه، ولا تقوم الساعة حتى يَمرّ الرجُلُ بقَبْرِ الرَّجُلِ فيقول: ليتني مكَانكَ، ولا تقوم الساعةُ حتّى تطلُع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناسُ آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ولا تقوم الساعة حتى يكثُر فيكم المالُ، حتَّى يُهِمّ رَبَّ المالِ مَنْ يقْبَلُه منه". ورواه مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة

(2)

.

وتقدّم الحديث عن أبي هريرة، وبُرَيْدةَ، وأبي بَكْرَةَ، رضي الله عنهم، وغيرهم:"لا تقومِ الساعةُ حَتّى تُقاتلُوا التُّرْكَ عِراضَ الوجُوه، ذُلْفَ الأنُوف، كأن وجُوهَهُمُ المَجانُ المُطْرَقَةُ يَنْتَعِلُون الشّعَرَ. . . " الحديث

(3)

وهم بنو قَنْطُوراء، وهي جارية الخليل عليه الصلاة والسلام.

وفي "الصحيحين" من حديث شُعْبة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أشراط الساعة، أن يَقِلّ العِلْمُ، ويظْهَرَ الجَهْلُ والزِّنى، وتُشرَبَ الخَمْرُ، وتقِلَّ الرِّجالُ،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 219) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البخاري رقم (7121) ومسلم (157).

(3)

رواه البخاري (3587) ومسلم رقم (2912) من حديث أبي هريرة، وأحمد في المسند (5/ 348) وأبو داود رقم (4305) من حديث بريدة، وأحمد في المسند (5/ 44) وأبو داود (4306) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 152

ويكْثُرَ النِّساءُ، حَتى يكونَ لخَمسِين امرأةً القَيِّمُ الوَاحِدُ"

(1)

.

وروى سفيان الثوري، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تذهبُ الأيَّامُ والليالي حتى تعودَ أرضُ العَربِ مُرُوجًا وأنهارًا، أو حتى يحسِر الفُراتُ عَنْ جَبَل مِنْ ذَهَبٍ، فيَقْتَتلُونَ عَلَيهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مئةٍ تِسعَةٌ وتِسْعون، وَيَنجُو واحد". وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سُهْيَل

(2)

.

ورَوى البخاريّ، عن أبي اليمان، عن شُعَيْب، وأخرج مسلم من حديث مَعْمَر، كلاهما عن الزُّهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعةُ حتى تضطرب أَلَيَاتُ نِساءِ دَوْسٍ حول ذِي الخَلَصَة طاغِيةِ دَوْس التي كانوا يَعْبُدونَ في الجاهلية"

(3)

.

وفي "صحيح مسلم"، من حديث الأسود بن العَلاء، عن أبي سَلَمة، عن عائشة، قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار، حتَّى تُعْبَد اللاتُ، والعُزَّى" فقلت: يا رسول اللَّه، إن كنتُ لأَظُنُّ حِين أنزل اللَّه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة] أن ذَلك تامًّا، فقال:"إنّه سيكون من ذلك ما شاء اللَّه، ثم يَبْعَثُ اللَّه رِيحًا طيبة، فتَوفى كل مَنْ كانَ في قلبه مثْقالُ حبة خردلٍ من إيمان، فيَبقَى مَنْ لَا خَيْرَ فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم"

(4)

.

وفي "جزء الأنصاري"، عن حُمَيْد، عن أنس: أن عبد اللَّه بن سَلَام سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما أوّلُ أشراطِ الساعة؟ قال: "نارٌ تَحْشُر النَّاسَ من المشرق إلى المَغْرِب. . . " الحديث بتمامه، ورواه البخاريّ من حديث حُمَيْد، عن أنس

(5)

.

وفي حديث أبي زُرْعة، عن أبي هريرة: أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يومًا بارزًا للناس، إذ أتاه أعرابيّ، فسأله عن الإيمان. . . الحديث. إلى أن قال: يا رسول اللَّه، فمتى الساعة؟ فقال:"ما المَسْؤولُ عَنْها بأعْلَمَ من السائل، ولكن سأحدّثك عن أَشْرَاطها: إذا وَلَدتِ الأَمَةُ رَبَّتَها فذاك من أشراطها، واذا كان الحفاةُ العراة رؤوسَ الناس فذاك من أشراطها، في خمس لا يَعْلمُهن إلا اللَّه" ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان] ثم انصرف الرحلُ، فقال:"رُدُّوه عَليّ"

(1)

رواه البخاري رقم (81) ومسلم رقم (2671)(9).

(2)

رواه الحاكم في المستدرك (4/ 477) ومسلم رقم (2894)(29).

(3)

رواه البخاري (7116) ومسلم رقم (2906).

(4)

رواه مسلم (2907).

(5)

رواه البخاري (3329).

ص: 153

فلم يَرَوا شيئًا، فقال:"هذا جبريلُ جاء ليُعَلِّم النَّاسَ دِينَهم" أخرجاه في "الصحيحين"

(1)

.

وعند مسلم عن عمر بن الخطاب نحو هذا بأبسط منه

(2)

فقوله عليه السلام: "أن تلد الأمة رَبَّتها" يعني به أن الإماء يكنَ في آخر الزمان هن المشَارُ إليهن بالحِشْمةِ، تكون الأمة تحت الرجل الكبير دون غيرها مِنَ الحرائر، ولذلك قَرَن ذلك بقوله:"وأَنْ ترى الحُفَاةَ العُراةَ العَالة يتطاولون في البُنْيانِ" يعني بذلك أنّهم يكونون رؤوس الناس، قد كَثُرتْ أموالُهم، وامتدّت وجَاهتُهم، فليس لهم دَأب ولا هِمّة إلّا التطاول في البناء، وهذا كما في الحديث المتقدّم:"لا تقومُ الساعةُ حتى يكون أحظَى الناس بالدُّنيا لُكَعُ ابن لُكَع"

(3)

. وفي الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يَسُودَ كلَّ قبيلة رُذَالُها"

(4)

وفي الحديث الآخر: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"

(5)

ومَنْ فَسّر هذا بكثرة السراري لكثرةِ الفُتوحات، فقد كان هذا في صدر هذه الأمة كثيرًا جِدًّا، وليس هذا بهذه الصفة من أشراط الساعة المتاخمة لوقتها، واللَّه أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البَيْهَقيّ في كتابه "البعث والنشور": أنبأنا أبو عبد اللَّه الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق قالا: حدَّثنا عبد الباقي بن قانع الحافظ، حدثنا عبد الوراث بن إبراهيم العسكريّ، حدثنا سيف بن مِسكين، حدَّثنا المبارك بن فَضالة، عن الحسن، قال: قال عُتَيّ: خرجتُ في طَلب العلم، فقدمتُ الكوفة، فإذا أنا بعبد اللَّه بن مسعود، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، هل للساعة مِن عَلَم تُعرَفُ به؟ فقال: سألتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "إن من أشراط الساعة أن يكون الولدُ غَيْظًا والمطرُ قَيْظًا، وتَفيض الأشرار فَيْضًا، وتغيض الأخيار غيضًا، ويُصَدَّق الكاذبُ، ويكذَّب الصادق، ويُؤتَمن الخَائن، ويُخوّنُ الأمين، ويَسودُ كلَّ قبيلة مُنافقُوها، وكلّ سوق فُخارها، وتُزخْرفُ المحاريبُ، وتَخْرَبُ القُلوبُ، ويكْتفِي الرَّجالُ بالرجال، والنِّساءُ بالنِّساء، ويَخْرَبُ عُمرانُ الدُّنيا، ويَعْمُرُ خَرابُها، وتَظْهَرُ الْفِتنَةُ، وأكلُ الرِّبا، وتَظْهَرُ المَعازف، والكُبور

(6)

، وشُرْب الخَمْرِ، وتكثر الشُّرَط، والغَمَّازُونَ والهمَّازون". ثم قال البَيهَقِيّ: هذا إسناد فيه ضعف، إلّا أن أكثر ألفاظه، قد رُويت بأسانيد أُخَر مُتَفَرِّقَة.

(1)

رواه البخاري رقم (4777) ومسلم (9).

(2)

رواه مسلم رقم (8).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 389) والترمذي (2209) وهو حديث حسن.

(4)

رواه الطبراني في الكبير (9771) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه البخاري رقم (59) وسيأتي بعد قليل.

(6)

أي الطبول.

ص: 154

قلت: قد تقدّم في أولّ هذا الكتاب فصلٌ فيه ما يقع من الشرور في آخر الزمان، وفيه شواهد كثيرة لهذا الحديث.

وفي "صحيح البخاريّ" من حديث عطاء بن يَسار، عن أبي هريرة: أنّ أعرابيًا سألَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة؟ فقال: "إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة" قال: يا رسول اللَّه، كيف إضَاعتُها؟ فقال:"إذا وُسّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبةُ، عن واصل، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه قال: وأحْسَبه رَفَعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بين يَدَي الساعة أيّام الهَرْج، أيام يزولُ فيها العلم، ويَظْهَرُ فيها الجَهْلُ" فقال أبو موسى: الهرج بلسان الحبش القتل

(2)

.

ورَوى الإمام أحمد، عن أبي اليَمانِ، عن شُعَيْب، عن عبد اللَّه بن أبي حُسَيْن، عن شَهْرٍ، عن أبي سعيد: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعةُ حتّى يَخْرُج الرجل من أهله، فيخبره نعلُه، أو سَوْطه، أو عصاه، بما أحدث أهْلُه بَعْدَه"

(3)

، وروى أيضًا عن يزيد بن هارون، عن القاسم بن الفضل الحُدّانِيّ، عن أبي نَضْرةَ، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لا تقومُ الساعةُ حتى يكلِّم السِّباعُ الإنسّ، ويكلم الرَّجُلَ عَذَبةُ سَوْطَه وشِرَاك نَعْلِهِ، ويُخْبِرَه فخذُه بما أحْدَثَ أهْلُه بعدَه"

(4)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفّان، حدثنا حمّاد، هو ابن سَلَمَة، عن ثابت، عن أنس، قال: كنا نتحدّثُ: أنه لا تَقومُ الساعةُ حتّى تمطر السماءُ ولا تُنبِتَ الأرض، وحتّى يكُون لِخَمْسِينَ امرأةً القيِّمُ الواحِدُ، وحتى إنّ المرأةَ لتَمُرّ بالبَعلِ فينظرُ إلَيْهَا، فيقول: لَقَدْ كان لِهَذِهِ مَرَّة رجلٌ"، قال أحمد: ذكرَه حمّادٌ مَرّة هكذا، وقد ذكره عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشكُّ فيه، وقد قال أيضًا: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَحْسبُ. إسنادُه جيّد ولم يُخْرِجُوه من هذا الوجه

(5)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا هُشَيْم، حدَّثنا شُعْبةُ، عن قتادة، عن أنس بن مالك يرفع الحديث، قال:"لا تقوم الساعةُ حتى يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهْلُ، ويَقِل الرِّجالُ، ويَكْثُرَ النِّساء، حتى يَكُونَ قَيمَ خَمْسِينَ امْرَأَةً رَجَلٌ واحد"

(6)

. تقدّم له شاهد في الصحيح.

(1)

رواه البخاري (59).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 439) ورواه البخاري رقم (7066) ورواه مسلم رقم (2672) من طريق أبي وائل به.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 88 - 89) ورواه الترمذي رقم (2181) وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 83 - 84) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 286).

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 98) ورواه البخاري من طريق شعبة رقم (81) ومسلم رقم (2671) من طريق شعبة.

ص: 155

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمَر، عن الزُّهريّ، أخبرني أنس بن مالك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلَّى الظهر، فلمَّا سلّم قام على المِنْبر، فذكر الساعة، وذكر أن بَيْن يَدَيْها أمورًا عِظَامًا. . . وذكر تمام الحديث

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا هاشم، وأبو كامل، قالا: حدّثنَا زُهَيْر، حدّثنا سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى يَتَقاربَ الزَّمانُ، فتكونَ السنَةُ كالشهْر، ويكونَ الشهْرُ كالجُمعَةِ، وتكون الجُمُعة كاليوم، ويكونَ اليومُ كالساعة، وتكون الساعة كإحرَاقِ السَّعَفَة". (والسَّعَفَة الخوصة، زعم سهيل). وهذا الإسناد على شَرْط مُسْلِمٍ

(2)

.

وقال أحمد: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه، حدّثنا كامل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لن تذهب الدنيا حتى تَصِير لِلُكَعَ بنِ لُكَع". إسناد جيد قوي

(3)

.

وقال أحمد: حدثنا يونس وسُرَيْجٌ قالا: حدثنا فُلَيْح، عن سعيد بن عبيد بن السَّبَّاق، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قَبْلَ الساعة سِنُون خَدَّاعةٌ، يُكَذَّبُ فيهَا الصَّادقُ، ويُصَدّقُ فِيهَا الكَاذِبُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، ويُؤْتَمَنُ فيها الخَائن، ويَنْطِقُ فيهَا الرُّوَيْبِضَةُ" قال سُرَيج: "ويُنظَر فيها للرُّويبضة"

(4)

. وهذا إسناد جيّد، ولم يخرجوه من هذا الوجه

(5)

.

وقال أحمد: حدّثنا هَوْذَةُ، حدَّثنا عَوف، عن شَهْر بن حَوْشَبٍ، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أشراط الساعةِ أنْ يُرَى رُعَاةُ الشاء رُؤوُسَ الناس، وأن يُرى الحُفَاةُ العُراةُ الجُوَّعُ يتَبَارَوْنَ في البناء، وأَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، أو رَبَّهَا". وهذا إسناد حسن، ولم يخرجوه من هذا الوجه

(6)

.

وقال أحمد: حدّثنا عمار بن محمد، عن الصَّلت بن قُوَيْد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقومُ الساعة حتى لا تَنْطَحَ ذَاتُ قَرْنٍ جَمّاءَ" تفرد به أحمد، ولا بأس بإسناده

(7)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 162) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (20796) ومن طريقه البخاري (7294) ومسلم (2359) إلا أنه لم يسق لفظه.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 537 - 538).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 358) أقول: وفي سنده أبو صالح مولى ضباعة وهو مجهول، لكن له شاهد من حديث حذيفة رواه أحمد (5/ 389) والترمذي رقم (2209) فهو حديث حسن.

(4)

هكذا الرواية في "جامع المسانيد"، وهو الصواب، وفي الأصل وطبعة "المسند"(وينطق فيها الرويبضة).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 338) ورواه ابن ماجه (4036) من وجه آخر عن أبي هريرة والحاكم (4/ 465) بزيادة (قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) وهو حديث حسن.

(6)

رواه أحمد (2/ 394) أقول: وفيه شهر، وهو ضعيف، ولكن له شواهد، فهو حديث حسن.

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 442) أقول: وفيه الصلت، وهو مجهول، وقال النسائي في حديثه هذا: حديث منكر.

ص: 156

وقال أحمد: حدَّثنا يحيى، عن ابن عَجْلان، قال: سمعت أبي يحدّث، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يُقْبَضَ العِلْمُ، ويَظْهَر الجَهْلُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ" قيل: وما الهَرْجُ؟ قال: "القتل". تفرد به أحمد، وهو على شرط مسلم

(1)

.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرزّاق، أنا مَعْمَر، عن هَمَّامٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ فَيفِيضَ، حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ صدقةَ ماله، ويُقْبَضَ العِلْمُ، ويقترب الزمان، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ" قالوا: الهرج أيّما هو يا رسول اللَّه؟ قال: "القتل، القتل". وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعةُ حتى تَقتَتل فِئتَانِ عَظِيمتَان دعواهما واحدة، وتكون بينهم مَقْتَلة عظيمة". وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يُبعَث دَجَّالُونَ كذَّابُون قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثَين كُلُّهم يَزْعُم أنه رسول اللَّه". وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تقُوم الساعةُ حتَّى تَطْلُع الشمسُ من مَغْرِبها، فإِذَا طَلَعت ورآها الناسُ آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] " وهذا ثابت في الصحيح

(2)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: حدّثنا أحمد بن محمد، حدّثنا القاسمُ بن الحَكَم، عن سليمان بن داود اليماميّ، عن يحيى بن أبي كَثِير، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي بَعَثَنِي بالحَق لَا تنْقَضِي هَذِه الدُّنيَا حَتّى يقَعَ بهم الخَسفُ والقَذْفُ والمَسْخِ" قالوا: ومتَى ذَلِكَ يا رسول اللَّه؟ قال: "إذَا رَأَيْتَ النِّساءَ رَكِبْنَ السُّرُوجَ، وكَثُرَتِ القَيْناتُ، وفشَتْ شَهَادَاتُ الزُّور، واستَغْنَى الرِّجَالُ بالرِّجَال، والنِّساءُ بالنِّساءِ"

(3)

.

وروى الطبرانيّ من حديث كثير بنُ مرّة، عن عبد اللَّه بن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن مِنْ أشراط الساعة أنْ تَعْزُبَ العُقُولُ

(4)

وتَنْقُصَ الأحلامُ"

(5)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا أبو أحمد الزبيريُّ، حدّثنا بَشِيرُ بن سَلْمان، وهو أبو إسماعيل، عن سَيّار أبي الحَكَم، عن طارق بن شَهاب، قال: كُنّا عِنْد عبد اللَّه بن مسعود جُلُوسًا، فجاء رجل،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 428).

(2)

رواه أحمد (2/ 313) وهو عند مسلم رقم (157) الذي بعد (2888) و (157) الذي بعد (2923) و (157) الذي بعد (2672).

(3)

أخرجه البزار رقم (3405 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

(4)

أي تغيب، فلا يفكرون بها تفكيرًا سليمًا.

(5)

ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 329) وعزاه للطبراني من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولفظه عنده:"إن من علامات البلاء وأشراط الساعة. . . " وقال: وفيه عافية بن أيوب وهو ضعيف.

ص: 157

فقال: قد أُقيمتِ الصلاة، فقام، وقُمنا معه، فلما دخلنا المسجدَ رأينا النَّاسَ رُكوعًا في مقدَّم المسجد، فكبّر ورَكَع، وركَعْنَا، ثم مَشَيْنَا، وصَنَعْنَا مِثْلَ الَّذي صَنَع، فمرَّ رَجُل يُسْرعُ، فقال: عَلَيْكَ السلامُ يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق اللَّه ورسوله، فلمَّا صَلّينا ورَجعنَا دَخَل إلى أهله وجلَسْنَا، فقال بعضُنا لبَعض: أما سمعتم رَدَّه على الرجل: صَدَق اللَّهُ ورسوله، أو قال: وبلَّغَت رُسُلُه؟ أيُّكمُ يَسْألُه؟ فقال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج، فذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنّ بَيْنَ يدي الساعة تَسْلِيمَ الخاصة، وفشُوَّ التّجارة، حتى تُعين المرأة زَوْجَها على التِّجَارَة، وقَطْعَ الأرحام، وشهادَة الزور، وكتمانَ شَهَادة الحق، وظهور القلم". ثم روى أحمد عن عبد الرزاق عن سفيان عن بشير عن سيّار أبي حمزة، قال أحمد: وهذا هو الصواب، وسيّار أبو الحَكَم لم يَرو عن طَارق شيئًا

(1)

.

‌صفة أهل آخر الزَّمان

قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا هَمَّام، حدَّثنا قتَادَةُ، عن الحسن، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى يأخُدَّ اللَّه شَرِيطته

(2)

من أهل الأرض، فيبقى فيها عَجَاجةٌ لا يعرفون معروفًا، ولا يُنكِرون مُنكرًا"، وحدّثناه عفان، حدّثنا هَمَّامٌ، عن قتادَة، عن الحسن، عن عبد اللَّه بن عمرو، ولم يرفعه، وقال: حتَّى يأْخُذَ اللَّه عز وجل شريطته من الناس

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفان، حدَّثنا قيس، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبِيدَة السَّلْمَاني، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ من البيَان سِحْرًا، وشِرارُ الناس الذينَ تُدْرِكُهُمُ الساعة وهم أحياء، والذينَ يَتَخِذُون قُبورَهُم مساجدَ". وهذا إسناد صحيح. ولم يخرجوه من هذا الوجه

(4)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا بَهْز، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا علي بن الأقمر، سمعتُ أبا الأحوص يُحَدّث عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعةُ إلَّا على شِرَار الناس". ورواه مسلم عن زُهَير بن حَرْب، عن عبد الرحمن بن مَهدِيّ، عن شعبة

(5)

، عن علي بن الأقمر به

(6)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 407 - 408) و (442) وهو حديث صحيح بشواهده.

(2)

أي يأخذ اللَّه أهل الخير والدِّين.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 210) وفيه عنعنة الحسن، وقد روي مرفوعًا وموقوفًا والأشبه وقفه.

(4)

رواه أحمد في المسند (1/ 454) أقول: في سنده قيس بن الربيع وهو ضعيف، ولكن هو حديث حسن بشواهده.

(5)

في الأصول: سفيان الثوري، وهو خطأ.

(6)

رواه أحمد في المسند (1/ 394) ومسلم رقم (2949).

ص: 158

وقد تقدّم في الأحاديث السابقة: أنّه يَقِلُّ الرجالُ، وتكْثُرُ النِّساءُ، حَتّى يكونَ لِخَمْسِينَ امرأةً القَيِّمُ الواحدُ، يَلُذْنَ به، وأنّهم يَتسَافَدُونَ في الطُّرقات، كما تتسافد البهائم. وقد أوردناها بأسانيدها، وألفاظها بما أغنى عن إعادتها، وللَّه الحمد.

وقال أحمد: حدّثنا عفان، حدّثنا حمّاد، أخبرنا ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقوم الساعةُ حتى لا يُقال في الأرض: لا إله إلّا اللَّه". ورواه مُسْلم، عن زُهَير بن حَرْب، عن عفّان، به، ولفظه:"لا تقومُ الساعةُ حتى لا يقَال في الأرض: اللَّه، اللَّه"

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ على أحد يقولُ: اللَّه، اللَّه" ورواه مسلم عن عَبْدِ بن حُمَيْد، عن عبد الرزاق، به

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا ابن أبي عديّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى لا يُقَالَ في الأَرْض: اللَّه، اللَّه" وهذا الإسناد ثلاثي على شرط "الصحيحين"، وإنّما رواه الترمذيّ، عن بُنْدار، عن محمد بن عبد اللَّه ابن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، وقال: حسن، ثم رواه عن محمد بن المُثَنَّى، عن خالد بن الحارث عن حُمَيْد عن أنس موقوفًا، ثم قال: وهذا أصحّ مِنَ الأول

(3)

.

وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى لا يقال في الأرض: اللَّه، اللَّه" قولان؛ أحدهما: أنّ معناه: أنّ أحدًا لا يُنكرُ مُنكرًا، ولا يَزْجُر أحدٌ أحدًا إذا رآهُ قَدْ تعَاطَى مُنكرًا، وعبر عن ذلك بقوله:"حتى لا يقالَ: اللَّه، اللَّه"، كما تقدّم في حديث عبد اللَّه بن عمرو: "فيبقى فِيهَا عَجَاجَةٌ لا يَعْرفُونَ مَعْرُوفًا، ولا يُنكرُونَ مُنْكرًا

(4)

والقول الثاني: حتى لا يُذْكَرَ اللَّه في الأرض، ولا يُعْرَفَ اسمه فيها، وذلك عند فساد الزمان، ودَمَار نوع الإنسان، وكثرة الكفْر والفسوق والعِصْيان، يتواكلون الخير بينهم، حتى لا يقول أحد لأحد: اتق اللَّه، خف اللَّه، وهذا كما في الحديث الآخر:"لا تَقُومُ السَّاعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلّا اللَّه"، وكما تقدم في الحديث الآخر أنّ الشَّيخَ الكَبِيرَ والعجوز الكبيرة يَقُولان: أَدَركْنا الناس وَهُمْ يقولون: لَا إله إلّا اللَّه

(5)

ثم يَتفَاقمُ الأمْرُ وَيتزَايَدُ الحالُ، حتى يُتْرَكَ ذِكْرُ اللَّه جُملةً

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 268) ومسلم رقم (148).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 162) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20847) ومسلم (148) وعبد بن حميد في "المنتخب من مسنده"(1247).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 107) والترمذي (2207).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 210) وفيه عنعنة الحسن، وقد روي مرفوعًا وموقوفًا، والأشبه وقفه.

(5)

رواه ابن ماجه (4049) وهو حديث صحيح.

ص: 159

في الأرض، ويُنْسَى بالكُلِّية، فلا يُعْرَفُ فيها، وأولئك هم ضرارُ الناس، وعَليْهِم تَقُومُ الساعة، كما تقدم في الحديث:"وَلا تَقومُ السَّاعَةُ إلَّا على شِرار النَّاس"

(1)

وفي لفظ: "شِرارُ الناس: الذين تُدْرِكُهُمُ الساعةُ وهم أحياءٌ"

(2)

.

وفي حديث عبد العزيز بن صُهَيْب، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يَزدَادُ الناسُ إلَّا شُحًّا ولا يزداد الزَّمانُ إلَّا شِدَّةً، ولا تقومُ السَّاعةُ إلَّا على شِرَار الناس"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: دخلَ عليَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يا عائشة، قَوْمُكِ أَسْرَعُ أُمتي لَحَاقًا بي"، قالت: فَلما جلَس قلت: يا رسول اللَّه، جَعَلني اللَّه فِدَاكَ، لَقَدْ دخلتَ وأنتَ تقول كلامًا أذعرني، قال:"وما هو؟ " قالت: تزِعم أنَّ قومي أسرع أمَّتِكَ بِكَ لَحَاقًا، قال:"نعم" قالت: وعمَّ ذاك؟ قال: "تَسْتحلُّهم المنايا، فَتْنفِس

(4)

عَلَيْهم أُمَّتُهُم" قالت: فقلت: وكيف الناس بعد ذلك؟ قال: "دَبًى، يأكلُ شِدَادُه ضِعَافَه، حتى تَقُوم عليهم الساعة"، والدَّبى: الجنادب التي لم تَنْبُتْ أَجْنحَتُها. تفرد به أحمد

(5)

.

وقال أحمد: حدَّثنا علي بن ثابت، حدّثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن علباء السُّلَمِيِّ، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقومُ الساعةُ إلّا على حُثَالَةٍ مِن النَّاسِ". تفرّد به، وقد رواه أبو خَيْثمة، عن عليّ بن ثابت به

(6)

.

ولأبي نُعَيْم من طريقه، بإسناده:"لا تقومُ الساعةُ حتى يَمْلِك رَجُلٌ مِنَ المَوالي يُقالُ لَهُ: جَهْجَاهُ"

(7)

.

(1)

رواه مسلم (2949).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 454) وهو حديث حسن.

(3)

رواه الحاكم في "المستدرك"(4/ 441 - 442) وإسناده ضعيف، والجملة الأخيرة منه:"ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" صحيحة.

(4)

أي يحسدونهم.

(5)

رواه أحمد في المسند (6/ 81) وهو حديث صحيح.

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 499) ورواه الطبراني في "الكبير"(18/ 156) من طريق أبي خيثمة به، وهو حديث صحيح.

(7)

ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 246) وقال: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه. أقول: لكن أخرجه مسلم بمعناه رقم (2911) من حديث أبي هريرة، فهو به حسن.

ص: 160

‌ذكر طرق الحديث الذي روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلَّ طرفة عين، أنه قال صلى الله عليه وسلم:"بُعِثْتُ أنَا والساعةَ كهَاتيْنِ" رواية أنسِ بنِ مالك، رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعيّ، حدثنا إسماعيل بن عُبَيْد اللَّه، يعني ابن أبي المهاجر الدمشقي، قال: قدم أنس بن مالك رضي الله عنه على الوليد بن عبد الملك، فسأله: ماذا سَمِعْتَ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَذْكُر به الساعة؟ قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أنْتُمْ والساعةُ كَتَيْنِ"

(1)

، تفرد به أحمد من هذا الوجه

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا شُعْبَةُ، عن أبي التّيّاح، وقتَادَةَ، وحَمْزةَ، وهو ابن عمرو الضَّبيُّ: أنّهم سَمعُوا أنس بنَ مالكِ يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أنا والساعة هكذا" وأشارَ بالسبابةِ والوُسْطَى، وكان قتادة يقول: كفَضْلِ إِحداهما على الأخرى. وأخرجه مسلم من حديث شُعْبَةَ عن حمزة الضبيّ هذا، وأبي التياح، كلاهما عن أنس، به

(3)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا يَزيدُ، حدّثنا شُعْبةُ، عن قتادةَ، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبّابة والوسْطَى. وأخرجه البخاريّ، ومُسلم، والترمذيّ من حديث شُعْبة به، وفي رواية لمسلم عن شُعْبَة، عن قتادة، وأبي التيّاح، كلاهمَا عن أنس به، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(4)

.

‌طريق أخرى عنه

روَى الإمامُ أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن زياد بن أبي زياد المدني، عن أنس بن مالك قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعثتُ

(1)

وفي بعض النسخ: كهاتين، وهما بمعنى واحد، وأراد بهما الإصبعين، كما في الحديث المشهور.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 223) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 222) ومسلم رقم (2951)(134).

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 124) والبخاري (6504) ومسلم (2951)(133)(134) والترمذي (2214).

ص: 161

وَالساعة كهَاتين" ومدَّ إصبَعَيه السبّابة والوُسْطَى. تفرّد به أحمد، وإسناده لا بأس به

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

قال مسلم في "صحيحه": حدَّثنا أبو غَسّانَ، مالك بن عبد الواحد، حدّثنا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمانَ، عن أبيه، عن مَعْبد بن هِلَال العَنَزِيّ، عن أنس بن مالك أنّ رَسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"بُعثتُ أنا والساعة كهَاتينِ". تفرد به مُسلم

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبةُ، عن أبي التياح، سمعت أنس بن مالك يقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بُعِثْتُ أنا والساعة كهَاتينِ، وبَسطَ إصْبَعَيْهِ السبّابةَ والوُسطَى. وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث شُعْبَةَ، عن أبي التياح يَزيدَ بن حُميد -وزاد مسلم: وحمزةَ الضبي- عن أنسٍ، به

(3)

.

‌رواية جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدثنا مُصْعَب بن سَلَّام، حدَّثنا جعفر، هو ابن محمد بن علي بن الحُسَيْن، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: خَطَبنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَحمِدَ اللَّه وَأثْنَى عليه بما هو أهله، ثم قال:"أما بَعْدُ، فإنّ أصْدَق الحَدِيث كتابُ اللَّه، وإنّ أَفْضَل الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدثَاتُها، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالةٌ" ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتهُ وَتَحْمَرُّ وَجْنَتاهُ، وَيَشْتَدُّ غَضَبُه إذَا ذَكَرَ الساعةَ كأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، ثم يقول:"أتَتْكُم الساعةُ، بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة هكَذَا" وأشار بأصْبَعَيْهِ السَّبَابةِ وَالوُسْطَى، "صَبَّحَتْكُمُ السَّاعَةُ ومسَّتْكم، من ترك مالًا فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَركَ دَينًا أو ضَياعًا فإليَّ، وعليّ" وَالضَّيَاعُ: وَلَدُه المسَاكِينُ. وقد رواه مُسلم، والنَّسائيّ، وابن ماجه، من طرق، عن جعفر بن محمد، به، وعند مسلم قال:"بُعِثْتُ أنا والساعة كهَاتين"

(4)

.

‌رواية سهل بن سعد، رضي الله عنه

قال مسلم: حدّثنا سعيد بن منصور، قال: وحدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعيد، واللفظ له، حدَّثنا يعقوب،

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 237).

(2)

رواه مسلم (2951)(135).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 131) والبخاري (6504) ومسلم (2951)(134).

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 310 - 311) ومسلم رقم (867) والنسائي في "الكبرى"(1786) وابن ماجه (45).

ص: 162

هو ابن عبد الرحمن، عن أبي حازم: أنّه سَمعَ سَهْلًا يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بإصْبَعهِ التي تَلِي الإبْهامَ، والوُسْطَى، وهو يقول:"بُعِثْتُ أنا والساعة هكذا". تفرّد به مسلم

(1)

.

‌رواية أبي هريرة رضي الله عنه

قال الحافظ أبو يَعْلَى الموصلي: حدثنا أبو هشام، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو حَصِينٍ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهَاتَيْنِ" وضَمَّ إِصْبَعَيْه. وقد رواه البخاري، عن يحيى بن يوسف، عن أبي بكر بن عَيّاش، عن أبي حَصِين، عُثْمانَ بن عَاصِم، عن أبي صالح، ذَكْوَان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"بُعِثْتُ أنا والساعة كَهَاتَيْن". ثم قال البخاري: وتابعه إسرائيل. ورواه ابن ماجه، عن هَنّاد بن السَّرِيِّ، وأبي هشام الرفاعي، عن أبي بكر بن عَيّاش به، وقال: وجمع بين إصبعيه

(2)

.

[رواية أبي جبيرة بن الضحاك]

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنْيَا: حَدثنا أبو مسلم، عبد الرحمن بن يونس، حدثنا سُفْيانُ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قَيْس بن أبي حازم، عن أبي جَبِيرةَ بن الضّحّاك، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ في نسمِ الساعة" يقول: حين بَدَتْ في أوّل وَقْتِها. وهذا إسنادٌ جَيّد، وليس هو في شيء من الكتُب، ولا رواه أحمد بن حَنْبَل

(3)

وإنّما رَوى لأبي جَبِيرةَ حَديثًا آخر في النهي عن التَّنابُز بالألقاب

(4)

.

‌حديث في تقريب يوم القيامة بالنسبة إلى ما سلف من الأزمنة

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا أبو اليَمانِ، حدّثنا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريّ، أخبرني سالم بن عبد اللَّه، أنّ عبد اللَّه بن عَمُرَ قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المِنبَر، يقول: "إنما بقاؤكم فيما سَلَفَ قَبْلَكُمْ من الأُمم، كما بَيْنَ صلَاةِ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُعطيَ أَهْلُ التَّورَاةِ التَّورَاةَ فعملوا بها، حتَّى إذا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثم أُعْطِي أَهْلُ الإِنْجِيل الإِنْجِيلَ فعَمِلُوا به حَتَّى صَلاةِ العَصْرِ [ثم عجزوا]، فأُعْطُوا قِيراطًا قِيرَاطًا، ثُمّ أُعْطِيتُم القرْآنَ فعَمِلتُمْ بِه حَتَّى غَرَبَت الشَّمْسُ

(1)

رواه مسلم (2950).

(2)

رواه البخاري (6505) وابن ماجه (4040).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(5) والدولابي في "الكنى"(1/ 23) وهو حديث صحيح، ونسم الساعة من النسيم، وهو أول هبوب الريح الضعيفة، أي بعثت في أول أشراط الساعة وضعف مجيئها.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 260) والحاكم (2/ 463) والترمذي رقم (3268) وهو حديث صحيح.

ص: 163

فأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْن قِيرَاطَيْن، فقال أهْلُ التَّوْراةِ والإنْجِيل: رَبّنا، هَؤُلَاءِ أَقَلُّ عَمَلًا، وأَكْثَرُ أَجْرًا؟ فقال: هَلْ ظَلَمْتكُمْ مِنْ أجْرِكُمْ مِنْ شَيْء؟ قالوا: لا، فقال: فذاك فضلي أوتِيه مَنْ أَشاءُ". وهكذا رواه البخاريّ عن أبي اليمانِ

(1)

.

وللبخاريّ من حديث سُفْيانَ الثوريّ، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّما أَجَلُكُمْ في أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ، كمَا بَيْن صَلَاةِ العَصْرِ ومَغْرِبِ الشّمْسِ، ومَثَلُكُمْ ومَثَلُ اليَهُودِ والنّصَارَى. . . " فذكر الحديث بتمامه، وطولِه

(2)

.

‌طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما

قال الإمامُ أحمد: حدَّثنا الْفَضلُ بنُ دُكَيْنٍ، حدَّثنا شَرِيكٌ، سمعتُ سلَمَةَ بنَ كُهَيلٍ، يُحَدّث عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: كُنَّا جُلُوسًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والشمسُ على قُعَيْقِعانَ

(3)

، بعدَ العَصْرِ، فقال:"ما أعمارُكُمْ في أعْمارِ مَنْ مَضَى إلّا كمَا بَقِيَ مِنَ النَّهارِ، فيما مَضَى مِنْهُ". تفرّد به أحمد. وهذا إسناد حسن، لا بأس به

(4)

.

‌طريق أخرى عنه

قال أحمد: حدَّثنا إسماعيل بن عمر، حدّثني كَثِير بن زيد، عن المطلب بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر: أنّه كان واقفًا بعَرَفاتٍ، فنظر إلى الشمس، حين تدنَّت مثلَ التُّرْس للغُروب، فَبَكَى، واشتدّ بكاؤه، فقال له رجل عنده: يا أبا عبد الرحمن، قد وقفتَ معي مرارًا فلم تصنع هذا؟! فقال: ذَكَرْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بمكاني هذا، فقال:"أَيُّها الناس إنّه لم يَبْقَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى مِنْهَا إلّا كمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا، فيما مضى منه". تفرّد به أحمدٌ

(5)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمامُ أحمد: حَدّثنا يُونُس، حدثنا حماد، يعني ابن زَيْد

(6)

، عن أيوبَ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألَا إنّ مَثل آجالكم في آجال الأُممِ قَبْلَكُمْ، كما بَيْنَ صلاة

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 121) والبخاري (7467).

(2)

رواه البخاري (5021).

(3)

قعيقعان: جبل بمكة.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 115 - 116) أقول: شريك النخعي ضعيف، ولكن الحديث صحيح بطرقه.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 133) وإسناده ضعيف، وهو حسن لغيره.

(6)

في الأصول: يعني ابن عمر، وهو خطأ.

ص: 164

العصر إلى مُغَيرِبان

(1)

الشَّمْس". ورواه البخاريّ عن سُلَيمانَ بن حَرْب عن حمّاد بن زَيْد، به، نحوَه، بأبْسَط مِنْهُ

(2)

.

وروى الحافظ أبو القاسم الطَّبرَانيُّ، من حديث عَطِيّة العَوْفِيّ، ووَهْب بن كيسان، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك

(3)

.

وهذا كلُّه يَدُلّ على أنّ ما بقي من الدنيا بالنِّسْبةِ إلى ما مَضَى منها شيءٌ يَسِيرٌ، لكن لا يَعْلَمُ مِقْدَارَ ما مَضَى منها إلّا اللَّهُ تعالى، ولا ما بقي إلا اللَّه تعالى، ولكن لها أشراط إذا وُجدت كانت قريبة واللَّه أعلم، ولَمْ يَجِئ في حديث تَحْدِيدٌ يَصِحّ سَنَدُه عن المعصوم، حتى يُصَارَ إليه، ويُعْلَمَ نِسْبَةُ ما بَقِي بالنِّسْبة إليه، ولكنَّه قلِيلٌ جِدًا بالنِّسْبةِ إلى الماضي، وتعيينُ وقت الساعة، لم يأت به حديث صَحِيح، بل الآياتُ والأحاديثُ دالَّةٌ على أن عِلْمَ ذَلِك ممّا استأثَر اللَّهُ تعالى به، دون خَلْقه، كما سيأتي تقريرُه في أول الجزء الآتي بعد هذا، إن شاء اللَّه تعالى، وبه الثقة وعليه التكْلانُ.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حَنْبَل، رحمه الله في "مُسْنَدِه" قائلًا: حدثنا أبو اليمان، أنبأَنا شُعَيبٌ، عن الزُّهريّ، حدّثني سالم بن عبد اللَّه، وأبو بكر بن أبي حَثْمة

(4)

أن عبد اللَّه بن عمر قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العِشَاءِ في آخرِ حَياتِه، فلَمّا سلم قام، فقال:"أَرَأَيتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِه؟ فإنّ على رأسِ مئةِ سنةٍ منها لا يبقَى مِمَّنْ هو اليومَ على ظَهْرِ الأرض أَحَدٌ" قال عبد اللَّه: فَوَهَلَ

(5)

الناسُ في مَقَالةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تِلْك، إلى ما يُحَدِّثُون مِنْ هَذِه الأحاديث، عن مئةِ سَنَةٍ. وَإِنّما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَومَ على ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ" يريد بذلك أنّه يَنْخَرِمُ ذَلِكَ القرْنُ. وهكذا رواه البخاريّ عن أبي اليمَانِ بسنده ولفظه سواء. ورواه مسلم عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارمي، عن أبي اليمان الحَكَم بن نَافعٍ عن شُعَيْبٍ، به

(6)

. فقد فسّر الصحابيُّ المرادَ من هذا الحديث بما فهِمَهُ، وهو أولى بالفَهْم من كُلِّ أحَدٍ، مِنْ أنّه يُريدُ عليه الصلاة والسلام بذلك أنْ يَنْخَرِم قَرْنُه ذَلِكَ، فلا يَبْقَى أحد مِمَّنْ هُوَ كَائِنٌ على وَجْهِ الأرض مِنْ أهْلِ ذلك الزَّمانِ من حين قال هذه المقالة إلى مِئَةِ سَنةٍ. وقد اختلف العلماءُ، هل ذلك خاصٌّ بذلك القرن، أو عامّ في كلّ قَرْنٍ أنه لا يبقى أحَدٌ أكْثَرَ مِنْ مئةِ سَنَةٍ؟ على قولين، والتخصيص بذلك القرن المُعَيّن الأوّلِ أوْلَى، فإنّه قد

(1)

وقت غروبها.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 124) والبخاري (2268).

(3)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (498) من طريق وهب به، وهو حديث حسن.

(4)

في الأصول: أبو بكر بن أبي خيثمة، وهو خطأ، والتصحيح من مصادر التخريج.

(5)

أي غلطوا.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 121) والبخاري رقم (601) ومسلم (2537).

ص: 165

شُوهِدَ أن بعضَ الناس قد جاوز مئةَ سَنَةٍ، وذلك طائفة كثيرة من الناس، كما قد ذكرنا هذا في كتابنا هذا في وفيات الأعيان، فاللَّه أعلم. ولهذا الحديث طرق أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

‌رواية جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما

قال أحمد: حدثنا أبو النّضْر، حدثنا المباركُ، حدّثنا الحَسَن، عن جابر بن عبد اللَّه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الساعة قَبْلَ أن يَمُوتَ بشَهْرٍ، فقال:"تَسْأَلُوني عن الساعة، وإنّما عِلْمُها عند اللَّه، فوالّذِي نَفْسِي بِيَدِه، ما أعْلَمُ اليومَ نَفْسًا يَأتِي عَلَيْها مئَةُ سَنَةٍ". تفرّد به أحمدُ، وهو إسناد جيّد حسن، رجالُه ثقات، أبو النّضْر هاشمُ بن القاسم، من رجال "الصحيحين"، ومبارَكُ بن فَضَالَةَ، حديثُه عند أهل السُّنَن، والحسنُ بن أبي الحَسن البَصْرِيّ من الأئمّة الثِّقَاتِ الكِبارِ، وروايتُه مُخَرَّجَةٌ في الصِّحاح كُلِّها، وَغيرِها

(1)

.

‌طريق أخرى عن جابر رضي الله عنه

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا حَجّاج، قال ابن جريج، أخبرني أبو الزُّبَيْر: أنّه سمع جابرَ بن عبد اللَّه يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بشَهْرٍ: "تَسْألُونِي عَنِ السَّاعةِ وإنّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وأُقْسِمُ باللَّهِ ما على الأرض نفسٌ منفوسةٌ اليوم يأتي عليها مئةُ سنةٍ".

وكذا رواه مسلم، عن هارون بن عبد اللَّه، وحجّاج بن الشاعر، عن حَجّاج بن محمد الأعور، وعن محمد بن حاتم، عن محمد بن بكر، كلاهما عن ابن جُرَيْج، به

(2)

.

وقال مسلم في "الصحيح": باب تقريب قيام الساعةِ. حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ وأبو كُرَيب، قالا: حَدّثنا أبو أسامَةَ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: كان الأعرابُ إذَا قَدِمُوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة، فنَظر إلى أحْدَث إنسانٍ مِنْهُم، فقال:"إنْ يعشْ هذا لم يُدْرِكْه الهَرَمُ، قامت عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ". تفرّد به الإمام مُسلم رحمه الله

(3)

.

ثم قال مسلم: حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبة، حدّثنا يونس بن محمد، عن حمّادِ بن سَلَمة، عن ثابت، عن أنس: أنّ رَجُلًا سأل رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: متى تقومُ الساعة؟ وعنده غُلَامٌ من الأنصار، يقال له: محمد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يَعِشْ هذا الغلامُ، فعسى أَلّا يُدْرِكَهُ الهَرَمُ حتّى تَقُومَ الساعة". تفرّد به مسلم من هذا الوجه.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 326) أقول: فيه سنده ضعف، وهو حديث صحيح بطرقه.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 384 - 385) ومسلم (2538).

(3)

رواه مسلم (2952).

ص: 166

ثم قال مسلم: وحدّثني حَجّاجُ بنُ الشاعر، حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْب، حدثنا حمّادٌ، يعني ابنَ زَيْدٍ، حدثنا مَعْبَدُ بنُ هِلَالٍ العنَزِي، عن أنس بن مالك: أنّ رَجُلًا سأل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: متَى تقُومُ الساعة؟ قال: فسكت النبيُّ صلى الله عليه وسلم هُنَيهَةً، ثمّ نظرَ إلى غُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أزْدِ شَنُوءَةَ، فقال:"إنْ عُمِّرَ هذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الهَرَمُ، حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ" قال أنس: ذاك الغُلَامُ من أتْرابِي يومئذ. تفرّد به مسلم أيضًا، من هذا الوجه.

ثم قال مسلم: حدّثنا هارونُ بنُ عبد اللَّه، حدثنا عَفانُ بنُ مُسْلم، حدّثنا هَمَّامٌ، حدَّثنا قَتَادَةُ، عن أنس قال: مَرَّ غُلامٌ لِلمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَكَان مِنْ أَقْراني، فقالَ رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يُؤَخَّرْ هذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الهَرَمُ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". ورواه البخاري، عن عمرو بن عاصم، عن هَمَّام، به

(1)

.

وهذه الرواياتُ تدلّ على تَعْدادِ هذا السؤال، وهذا الجواب، وليس المراد بذلك تحديدَ وَقْتِ الساعة العُظْمَى إلى وَقْتِ هَرَمِ هذا الغلام المُشارِ إلَيه، وإنّما المراد سَاعَتَهُمْ، وهو انْقِراضُ قَرْنِهِمْ، وَعصْرِهِم، وأن قُصَارَاهُ تتَناهَى في مُدَّةِ عُمُرِ دَّلك الغُلام، كما تقدّم في الحديث:"تَسْألونِي عَنِ السَّاعَةِ وإنّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وأُقْسِمُ باللَّهِ مَا على الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ يَأتِي عَلَيْها مِئَةُ سنةٍ" وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوايةُ عَائِشةَ رضي الله عنها: قَامَتْ عَلَيْكُمْ ساعتكم؟ وذلك أنَّهُ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ في حُكْمِ القيَامَةِ، فإنَّ عَالَم البَرْزَخِ قَرِيبٌ مِنْ عَالَمِ يَومِ القِيَامةِ، وفيه شَبَهٌ مِنَ الدُّنيَا أيضًا، ولكنْ هُوَ أشْبَهُ بِالآخِرة، ثُمَّ إذا تَنَاهَتِ المُدَّةُ المَضْرُوبَةُ لِلدُّنْيَا، أَمَر اللَّهُ بِقِيام السَّاعَةِ، فَجُمِعَ الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ لِميقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، كما سيأتي بيانُ ذلك من الكتاب والسنَّة، واللَّه سبحانه المستعان

(2)

.

‌ذِكر دُنوِّ الساعة واقترابها وأَنها آتيةٌ لا ريب فيها، وأنها لَا تأْتي إلّا بَغْتَةً، ولا يعْلَم وقتَها على التعيين إلّا اللَّهُ تعالى

قال اللَّه تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]. وقال تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب]. وقال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج]. وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ

(1)

رواه مسلم رقم (2953) والبخاري رقم (6167).

(2)

في النسخة (م) في هذا الموضع: آخر الجزء الأول من خط المصنف، أول الثاني.

ص: 167

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس]. وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات]. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)} [الشورى]. وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} [طه]. وقال تعالى {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} [المؤمنون]. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف]. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)} [النازعات]. وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه]. وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان].

ولهذا لمّا سَأَلَ جبريلُ عليه السلام رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال له:"مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل" -يعني قد استوى فيها عِلْمُ كُلّ مسؤولٍ وسائل بطريق الأولى والأَحْرَى، لأنّه إنْ كانَت الأَلف واللَّامُ في المَسْؤول والسائل للعَهْدِ عائدة عليه وعلى جبريل، فكل أحدٍ ممّن سواهُما لا يَعْلَمُ ذَلِكَ بطريق الأَوْلَى والأَحْرَى، وإنْ كانت للجِنْسِ عَضتْ بطريق اللفظِ واللَّهُ أعلم-. ثم ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا مِنْ أشراط الساعة، ثم قال: "في خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُن إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . .} الآية [لقمان: 34]

(1)

، وقال تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)} [سبأ]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن].

فهذه ثلاثُ آياتٍ، أمر اللَّهُ سبحانه رسولَه أن يُقْسِمَ به فيهن على إتيان المَعَادِ، وإعادة الخلق،

(1)

رواه البخاري رقم (50) ومسلم رقم (9).

ص: 168

وجمعهم ليوم لا ريب فيه، ولا رابع لهن مِثْلُهنَّ، ولكن في مَعناهُنّ كثير، قال اللَّه تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل].

وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان]. وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)} [غافر]. وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} إلى آخر السورة [النازعات: 27 - 46].

وقال تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} [الإسراء]. وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)} [الإسراء]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77). . .} إلى آخر السورة [يس: 77 - 83].

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف].

وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} [المؤمنون].

فيَسْتَدِلّ تعالى بإحياء الأرض الميتة على إحياء الأجساد بعد موتها وفنائها، وتمزّقها، وصيروتها

ص: 169

تُرابًا وعظامًا، ورُفاتًا، وكذلك يَسْتَدِل بِبَدْأَة الخلق على إعادة النشأة الآخرة، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت]. وقال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)} [الزخرف]. وقال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر] فاطر، وفي الأعراف:{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف].

وكذلك سورة {ق} من أولها إلى آخرها، فيها ذِكر بعث ونشور، وكذلك سورة الواقعة، والقرآن كُلُّه طافح بهذا، ولا تبديل لكلمات اللَّه.

وقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} [الإنسان] وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج]. وقال تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات].

وسورة الصافات فيها آيات كثيرة تدل على المعاد، وكذلك سورة الكهف وغيرها.

وقد ذكر اللَّه سبحانه إحياء الموتى وأنه أحيا قومًا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا في سورة البقرة في خمسة مواضع منها: في قضة بني إسرائيل، حين قَتل بعضُهم بعضًا لمّا عبدُوا العجل، في أول السورة فقال تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} [البقرة] وفي قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة] البقرة، فإنه أحيا ذلك الميت لما ضربوه ببعضها، وفي قصة:{الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] وفي قصة الذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} ثم أحيا حماره، والقصة معروفة {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} [البقرة] والخامسة قصة إبراهيم عليه السلام والطير {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة].

وذكر تعالى قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم في نومهم ثلاثمئة سنة شمسية، وهي ثلاثمئة وتسعُ سنين قمرية، وقال فيها:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21].

ص: 170

فجعل سبحانه ذلك دلالة على إحياء الموتى، وإتيان الساعة لا ريب فيها، واللَّه سبحانه أعلم.

‌ذِكر زوال الدنيا وإقبال الآخرة

أوّل شيء يطرق أهلَ الدنيا بعد وقوع أشراط الساعة نَفْخَةُ الفَزَع، وذلك أن اللَّهَ سبحانه وتعالى يأمر إسرافيلَ فينفُخ في الصور نفخةَ الفَزع، فُيطَوّلها، فلا يبقى أحد من أهل الأرض ولا السماوات إلَّا فزع، إلّا مَنْ شاء اللَّه، ولا يَسمعُها أحدٌ من أهل الأرض إلّا أصْغَى لِيتًا ورَفَع لِيتًا، أي رفع صَفْحَةَ عُنقِه، وأمالَ الأخرى، يستمع هذا الأمر العظيم الذي قد قال الناس، وأزعجهم عما كانوا فيه من أمرِ الدنيا، وشغلِهم بها، ووقوع هذا الأمر العظيم.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا يفعلون

(1)

(88)} [النمل].

وقال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} [ص]. وقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر]. وقال تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام]. ثم بعد ذلك بمدَّة يأمرُ اللَّه تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فيَصْعَقُ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض، إلَّا مَنْ شاء اللَّه، ثم يأْمرُهُ فيَنْفخ فيه أخرى فيقومُ الناسُ لربّ العالمين. كما قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} [الزمر]. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} الآيات، إلى قوله تعالى:{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)} [يس: 48 - 67].

وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات] وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر] وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)} [الكهف].

وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون] وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)} إلى قوله: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة].

(1)

هي بالياء على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وشعبة -بِخُلْفٍ عنهما- ويعقوب. ورواية حفص عن عاصم: تفعلون بالتاء.

ص: 171

وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)} الآية [النبأ: 18].

وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)} [طه: 102] الآيات.

وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيلُ، حدثنا سُلَيمان التيمي عن أسْلم العِجْليّ، عن بِشر بن شَغَاف، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال أعرابى: يا رسول اللَّه، ما الصُّور؟ قال:"قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه". ثمّ رواه عن يَحْيى بن سَعِيد القَطَّان، عن سُلَيْمانَ بن طَرْخَانَ التَّيميّ، به، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنَّسائيّ، من طُرق، عن سُلَيْمانَ التيمي، عن أَسْلمَ العِجلي به، وقال الترمذيّ: حسن، ولا نعرفه إلّا من حديث أسَلم العجلي

(1)

(2)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا أَسْبَاط، حدثنا مُطَرِّف، عن عَطِيَّة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8]، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنعم وَصَاحِبُ القَرْد قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيْنفُخُ؟! " فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه، كيف نَقُول؟ قال:"قُولُوا: حَسْبُنا اللَّه ونِعْمَ الوكيلُ، على اللَّه تَوكلْنَا". انفرد به أحمد، وقد رواه أبو كُدَيْنَةَ، يحيى بن المُهَلَّب، عن مُطَرِّف به

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا سُفْيانُ، عن مُطرِّف، عن عَطِية، عن أبي سَعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كيف أَنْعَمُ وقد التقم صاحبُ القَرْنِ القَرْنَ، وحنى جَبْهَتَه، وأصْغَى سَمْعَهُ ينظر متى يؤمر؟! " قال المسلمون: يا رسول اللَّه، فما نقول؟ قال:"قولُوا: حَسْبُنا اللَّه ونعْمَ الوكيلُ، على اللَّه تَوَكَّلنا". وأخرجه الترمذيّ، عن ابن أبي عمر، عن سُفْيان بن عُيَيْنَةَ، وقال: حسن، ثم رواه من حديث خالد بن طَهْمَانَ، عن عَطِيّة، عن أبي سعيد به، وحَسَّنه أيضًا.

وقال شيخنا أبو الحجاج المِزِّيّ في "الأطراف": ورواه إسماعيل بن إبراهيم أبو يَحْيَى التيمي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد. هكذا قال رحمه الله، وكذا رواه أبو بكر بن أبي الدُّنيا، في كتاب "الأهوال"، فقال: حدثنا عُثمانُ بن أبي شَيْبَةَ، حدَّثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحِبُ الصُّورِ قد الْتَقَم الصُّورَ، وحَنَى جَبْهَتَهُ ينتظر مَتَى يؤْمر أنْ يَنْفُخَ فينفخ؟! " قلنا:

(1)

كذا قال المصنف هنا، وفي "جامع المسانيد" له. والذي في نسخ الترمذي المطبوعة: لا نعرفه إلا من حديث سليمان التيمي.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 162 و 192) وأبو داود (4742) والترمذي (2430) و (3244) والنسائي في الكبرى (11456) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 326) وهو حديث حسن.

ص: 172

يا رسول اللَّه، ما نقول؟ قال:"قولوا: حَسْبُنا اللَّه، ونِعْمَ الوَكِيلُ"

(1)

.

وقد قال أبو يَعْلَى الموْصِليّ في مُسْندِ أبي هريرة -أبو صالح عن أبي هريرة-: حدثنا أبو طالب، عبد الجبار بن عاصم

(2)

، حدّثني موسى بن أعْينَ الحرّانيّ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وعن عمران عن عَطِية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم، أو كيف أنْتُمْ، (شَكّ أبو طالب)، وصاحبُ الصُّورِ قَد الْتَقَم القَرْنَ بفيه وأصْغَى سَمْعَهُ، وَحَنَى جبينه ينتظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَينفخُ؟! " قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نقول؟ قال:! قولوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، على اللَّهِ تَوكلنا".

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن سعد الطائي، عن عَطِيّة العَوْفيّ، عن أبي سَعِيد الخُدْرِيّ، قال: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاحبَ الصُّور، فقال:"عَنْ يَمِينه جِبريل، وعن يساره مِيكَائيلُ، عليهم السلام"

(3)

.

وقال ابنُ ماجه: حَدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، حدّثنا عَبّاد بن العوّام، عن حجَّاج، عن عَطِية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه: "إنّ صاحِبَي الصُّورِ بأيْدِيهِمَا" -أَوْ "في أيْدِيهِما- قَرْنَانِ، يُلَاحِظان النَّظَر: مَتَى يُؤْمرانِ"

(4)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا يحيى بنُ سعيد، عن التيميّ، عن أسلم عن أبي مُرَيَّة

(5)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"النّفاخان في السماء الثانية، رأْسُ أحدهما بالمَشْرِق ورِجْلَاهُ بالمَغْرب" -أو قال: "رأسُ أحدهما بالمغرب، ورجلاه بالمشرق- ينْتَظران مَتَى يُؤْمران يَنْفُخَانِ في الصُّورِ فَيْنفخان". تفرّد به أحمد، وأبو مُرَيَّةَ هذا اسمه عبدُ اللَّه بن عمرو العِجْلِيّ، وليس بالمشهور

(6)

ولعل هذين الملَكين، أحدهما إسرافيل وهو الذي ينفخ في الصُّور كما سيأتي بيانه في حديث الصُّور بطوله، والآخر هو الذي يَنْقُرُ فِي النَّاقُورِ، وقد يكونُ الصُّور والنّاقُور اسم جِنْسٍ يَعُمُّ أفرادًا كثيرةً، أو الألف واللام فيهما للعَهْد، ويكون لكلِّ واحدٍ منهما أَتْباعٌ يفعلون كفِعْلِه، واللَّه أعلم بالصواب.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 7) والترمذي (3243) و (2431) وابن أبي الدنيا في "الأهوال"(50) وهو حديث صحيح.

(2)

في الأصول: عبد الجبار بن صالح.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 9) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه ابن ماجه رقم (4273) وهو منكر، والمحفوظ بلفظ "صاحب القرن".

(5)

ويقال: أبو مراية، وهو الأكثر.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 192) وهو ضعيف للشك في إرساله واتصاله، ولجهالة أبي مرية، كما أومأ إليه المصنف.

ص: 173

وقال ابن أبي الدُّنيا: أخبرنا عُبَيدُ اللَّه بنُ جرير، حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا عبد الواحد بن زياد، حدَّثنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصم

(1)

عن يزيد بن الأصَمّ، قال: قال ابنُ عبّاس: إن صاحِبَ الصورِ لَمْ يَطْرِفْ مُنْذُ وُكِّل به، كَأنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيّانِ يَنْظُر تُجَاهَ العَرْشِ مَخَافة أَنْ يُؤْمَر أَنْ يَنْفُخَ فيه، قَبْلَ أَنْ يَرْتَدّ إلَيْه طَرْفُه

(2)

.

وحَدّثنا أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن عمر مُشْكُدانه

(3)

حدثنا مروانُ بنُ معاوية، عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصَمّ، عن يَزِيدَ بن الأصَمّ، عن أبي هريرة، قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أطْرَفَ صاحبُ الصُّورِ مْنذُ وُكِّل به، مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ العَرْشِ مَخَافة أنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْه طَرْفُه، كان عَيْنيه كَوكَبانِ دُرِّيَّانِ"

(4)

.

‌حديث الصور بطوله

قال الحافظ أبو يَعْلَى المَوْصِليّ في "مُسْندِه": حدّثنا عمرو [بن] الضحَّاك بن مَخْلَد، حدّثنا أبو عاصم الضحّاك بن مَخْلد، حدَّثنا أبو رافع، إسماعيلُ بن رافع، عن محمد بن [يزيد بن أبي] زياد، عن محمد بن كعب القُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: حدّثنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في طائفةٍ من أصحابه، قال:"إن اللَّهَ تَعالَى لَمّا فَرغَ مِنْ خَلْق السَّماواتِ وَالأَرض خَلقَ الصُّورَ، فأعطاهُ إسْرَافيل، فَهُو واضِعُه على فيه شَاخصًا إلى العَرْشِ بِبَصرِه، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فينفخ"، قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، ما الصُّور؟ قال:"قَرْنٌ"، قلت: كيفَ هُوَ؟ قال: "عَظِيمٌ"، قال: "والذي بعثني بالحقّ، إنَّ عِظَم دَائرَةٍ فيه كعَرْض السَّماواتِ والأَرضِ، يُنْفَخُ فيه ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ، الأولى نَفْخَةُ الفَزَع، والثَّانيَةُ نَفْخَةُ الصّعْقٍ، والثالثةُ نَفْخَةُ القِيامِ لربّ العالمين، يأمرُ اللَّهُ إسرافيلَ بالنّفْخة الأولى، فيقول: انفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعَ، فينفُخُ نَفْخَةَ الفَزَع، فَيفْزَعُ أهْلُ السَّماواتِ والأَرضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ويأمره تعالى، فَيمُدُّها ويُطيلها، ولا يَفْتُرُ، وهِيَ التي يقول اللَّهُ:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} [ص]، فتَسِيرُ الجبالُ سَيْر السَّحَاب، فتكونُ سَرَابًا، وَترتَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رَجًّا، فتكونُ كالسَّفَينِةِ المُوبَقَةِ

(5)

في البَحْر، تضرِبُها الأمواجُ تُكْفَأُ بأهلِها، كالقِنْديل المُعَلَّق بالعَرْش تُرجِّحُه الأَرواحُ، ألَا وهو الذي

(1)

اختلفت الأصول في اسمه، والصواب ما أثبتنا.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(51) وهو حديث حسن.

(3)

هو لقب عبد اللَّه بن عمر بن أبان الجعفي، وهي كلمة فارسية معناها: وعاء المسك.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(46) وهو حديث حسن.

(5)

الموبقة: أي المحبوسة.

ص: 174

يقول اللَّه تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)} [النازعات].

فَتَمِيدُ بالناس على وجهها، وَتَذْهَلُ المَراضِعُ، وَتضَعُ الحَوامِلُ، وَيَشِيبُ الوِلْدَانُ، وتَطيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبةً مِنَ الفَزَع، حتّى تَأْتِيَ الأَقْطَارَ، فَتلقَاهَا الملائكة تَضْرِبُ وُجوهَهَا، فتَرْجِعُ، ثم توَلُّونَ مُدبِرِينَ: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصمٍ، ينادي بعضهم بعضًا، وهو الذي يقول اللَّه تعالى:{يَوْمَ التَّنَادِ (32)} [غافر] فبينما هم على ذلك، إذ تصدّعت الأرضُ تَصَدُّعَيْنِ من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، فَرأَوْا أمرًا عَظِيمًا لم يَروا مِثْلَهُ، وأَخَذهمْ لِذَلِك من الكَرْبِ والهَوْلِ ما اللَّهُ بِه عَلِيمٌ، ثم تُطْوَى السَّماءُ، فإذا هِيَ كالمُهْلِ، ثم انْشَفتِ السَّماءُ فانْتَثَرتْ نُجُومُها، وخَسَفَتْ شَمْسُها، وقَمرُهَا.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الأمواتُ لا يَعْلَمونَ بشَيْءٍ مِنْ ذلك" قال أبو هريرة: يا رسول اللَّه، مَنِ استَثْنى اللَّهُ حِينَ يقول:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] قال: "أولئِكَ الشُّهَداءُ، إنّما يَصِلُ الفَزَع إلى الأحياء وهم أحياءٌ عِنْدَ رَبِّهم يُرْزَقُونَ، فوقاهُمُ اللَّهُ فَزَع ذلك اليومِ، وأمنهم منه، وهو عذاب اللَّه يَبْعثُه على شِرار خَلْقه، وهو الذي يقول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1 - 2].

فيمكثون في ذلك العذاب ما شاء اللَّه سبحانه، إلا أنه يطولُ، ثم يأمر اللَّه إسرافيلَ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فيَصعق أهل السماوات، والأرض، إلا مَنْ شاء اللَّه، فإذا هم خَمَدُوا، جاء ملكُ الموت إلى الجبّار تعالى، فيقول: يا رَبِّ، مات أهلُ السماوات، والأرض، إلا مَنْ شِئْتَ، فيقول اللَّه تعالى له، وهو أعلم بمن بقي: مَن بقي؟ فيقول: يا رَبِّ، بقيتَ أنْتَ الحَيُّ الّذِي لَا يموت، وبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشك، وبقي جِبْرِيلُ، ومِيكَائِيلُ، وبَقِيتُ أنا، فيقول اللَّهُ عز وجل: لِيَمُتْ جبريلُ، وميكائيلُ، فيُنْطِقُ سبحانه العرشَ فيقول: يا رب يموتُ جبريلُ، وميكائيل؟!، فيقول اللَّه سبحانه للعرش: اسكتْ، إني كتبْتُ الموتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كان تَحْتَ عَرْشي، فيموتان، ثم يأتي مَلكُ الموت إلى الجبّار عز وجل فيقول: يا رَبِّ، قد مات جبريلُ، وميكائيلُ، فيقول، وهو أعلم بمن بقي: فَمَن بقي؟، فَيقُولُ: يَا رَبِّ، بَقِيتَ أنت الحَيِّ الذي لا يمُوتُ، وبقِيَ حَمَلةُ عَرْشِكَ، وبقَيِتُ أنا، فيقول اللَّهُ تعالى: فَلْيَمُتْ حَمَلةُ عَرْشي، فيَمُوتُونَ، ثم يأمرُ اللَّهُ سبحانه العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إسرافيلَ، وإسرافيل من جملة حملة العرش، ثم يأتي ملَكُ الموت إلى الجَبَّار عز وجل، فيقول: يا رب قد مات حمَلةُ عَرشِك، فيقول تبارك وتعالى وهو أعلمُ بِمَن بقِي: فمن بقي؟ فيقول: يا ربّ، بقيتَ أَنْتَ الحي الذي لا يموت، وبقيتُ أنا، فيقول اللَّه له: أنْتَ خَلْق مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فَمتْ، فيموتُ، فإذَا لم يبْقَ إلا اللَّهُ-

قال ابن أبي الدنيا: ثنا محمدُ بن الحسين، ثنا يونس بن يحيى الأمويُّ أبو نباتة، ثنا إسماعيلُ بن

ص: 175

رافع، عن محمد بن كعبٍ القُرَظيِّ قال: بَلغني أنَّ آخرَ مَن يموتُ مِنَ الخلقِ ملَكُ [الموتِ]، يقال له: يا ملَك الموت، مُتْ مَوْتًا لا تَحْيا بعدَه أبدًا. قال: فيَصْرُخُ عندَ ذلك صرخةً لو سمِعها أهل السماوات والأرض، لماتوا فزعًا، ثم يقول تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر]

(1)

.

وقد رواه ابنُ أبي الدنيا أيضًا عن إسحاقَ بن إسماعيل، عن إبراهيم بن عُيَينةَ، عن إسماعيلَ بن رافع، [عن محمد بن يزيدَ بن أبي زيادٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِيِّ]، عن رجلٍ، عن أبي هريرةَ، مرفوعًا بهذا

(2)

.

ورواه الحافظ أبو موسى المدينيُّ من طريق محمد بن شعيب بن شَابُورَ، عن إسماعيلَ بن رافع، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرِة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث، وفيه:"يَا ملَكُ، أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي، خَلْقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فمُتْ، ثُمَّ لا تَحْيَا أَبَدًا". قال أبو موسى: لم يُتَابَعْ إسماعيلُ على هذه اللفظةِ، ولم يقلْها أكثر الرواةِ-

قال: "فَإِذَا مَاتَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الواحدُ الأحدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ الذي لم يَلِدْ وَلَمْ يُولدْ ولم يكن له كفوًا أحد، كان آخرًا كما كَانَ أَوّلًا، طَوَى السماواتِ والأرضَ، كطَيِّ السِّجِلّ للكتاب، ثم دحاهُمَا، ثم تَلَقَّفَهُمَا ثَلاثَ مَرّاتٍ، وقال: أنَا الجَبّار، ثلاثًا، ثم يَهتِفُ بصَوْته:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ ثلاثَ مَرّاتٍ، فلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، ثم يقول لنفسه تعالى:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، ويُبَدِّلُ اللَّهُ الأرْضَ غَيْرَ الأرضِ والسَّماواتِ، فَيَبْسُطها، ويَسْطَحُهَا، ويَمُدُّها مَدَّ الأديم العُكَاظِيِّ، لا تَرى فيها عِوجًا ولا أمْتًا، ثم يَزْجُرُ اللَّهُ الخَلْقَ زَجْرَةً وَاحِدَةً، فإذا هُم في مثل هذه المُبدَّلَةِ في مثل ما كانوا فيه من الأولى، مَنْ كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم يُنزل اللَّه عليهم ماءً من تحت العرش، ثم يأْمر اللَّه السَّمَاء أن تُمطرَ، فتُمْطر أربعين يومًا، حتى يكون الماءُ فوقهم اثني عشر ذراعًا، ثم يأمرُ اللَّه الأجْسَاد أن تنْبُت كَنبات الطَراثيت

(3)

، أو كَنبات البَقْل، حتّى إذا تكاملت أجسادهم، فكانت كما كانت قبل الموت، قال اللَّه تعالى: لِتَحْيَ حَمَلةُ عَرشي، فيَحْيَون ويأمر اللَّه إسرافيلَ فَيأخذ الصُّورَ، فَيَضَعُه على فيه، ثم يقول: لِيَحْيَ جبريل، وميكَائيل، فيحيَيَان، ثم يدْعو اللَّه بالأرْواح فَيؤْتى بها تَتَوَهَّجُ أرواحُ المسلمين نُورًا، والأخرى ظُلمَةً، فَيقْبضُها جَمِيعًا، ثم يُلقيها في الصُّور، ثم يأمر اللَّه إسرافيلَ أن ينْفُخ فيه نفخَةَ البَعْثِ، فينفخ نفخة البعث فَتخْرُج الأرواحُ من الصور كأنها النَّحْلُ، قد مَلأَتْ ما بَيْنَ السماءَ والأرض. فيقول اللَّه تعالى: وعِزَّتي وجَلَالي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ روح

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(58).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(55) وإسناده ضعيف.

(3)

الطراثيت: جمع طرثوث، وهو نبت طري ضعيف كأول ما ينبت من الأرض.

ص: 176

إلى جَسدها. فتدخُل الأرواحُ في الأرض إلى الأجساد. فتدخُل في الخَيَاشيم، ثم تمْشِي في الأجساد مَشْيَ السُّمِّ في اللَّدِيغ، ثم تنشَقّ الأرض عنكم، وأنا أوّل مَنْ تَنْشَق الأرض عنه، فتَخْرُجُون منها سراعًا إلى رَبكم تَنْسلون {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر: 8] حُفاةً عراة غُلفًا غُرلًا، ثم تقفون مَوْقفًا واحدًا مقدار سَبْعِينَ عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقْضَى بينكم، فتبكون حتّى تَنْقَطع الدموع، ثم تدمَعُون دمًا، وتَعْرَقُون حتى يَبْلُغَ ذلك منكم أن يُلْجمكُمْ أو يبلغ الأذْقان، فَتَضِجُّون وتقولون: مَنْ يَشْفَعُ لنَا إلى رَبِّنا ليَقْضي بَيْننَا؟

فيقولون: مَنْ أَحَقُّ بِذَلك من أَبيكم آدم؟ خَلَقه اللَّه بِيَدِه، وَنفَخ فيهِ مِنْ رُوحه، وكلَّمَهُ قِبَلًا

(1)

، فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه، فيأبى، فيقول: ما أنا بصاحب ذلك، ثم يَستَقْرُونَ الأنبياءَ نبِيًّا نبِيًّا، كلما جاؤوا نبِيًّا أبى عليهم" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"حتّى يأتوني، فأنْطلِقُ، حتّى آتيَ الفَحْصَ، فأخرُّ ساجدًا" قال أبو هرِيرة: يا رسول اللَّه، ما الفحص؟ قال:"قُدّام العَرْش، حتّى يَبْعَثَ اللَّه إليّ مَلكًا، فَيأخُذَ بِعَضُدي فَيرْفعُنِي، فيقول لي: يا محمد، فأقول: نعم، لبَّيْكَ يا رب، فقال: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا ربّ، وَعدتني الشَّفَاعة، فشَقعني في خَلْقِك، فاقْضِ بَيْنهُمْ، فيقول: شَفَّعتكَ، أنا آتيكم فأقضي بينكم" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فارْجع، فأقفُ مع الناس، فبينما نحنُ وقوف، إذْ سَمِعْنَا حِسًّا من السماء شديدًا، فنزل أهْلُ السماء الدنيا مِثلَ مَنْ في الأرض من الجنّ والإنس، حتّى إذا دَنَوْا من الأرض أَشرَقَتِ الأرضُ بِنُورهم، وأخَذُوا مَصافَّهم، قلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا، وهو آتٍ، ثم ينزل أهل السماء الثانية، بمثل مَنْ نَزل من الملائكة، من أهل السماء الدنيا، ومِثْلِ مَنْ فيها من الجنّ، والإنس، حتى إذا دَنَوْا منَ الأرض أشْرَقتِ الأرض بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، وقلنا لهم: أفيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا، وهو آتٍ، ثم ينزل أهل كل سماءٍ على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزلَ الجبّار تبارك وتعالى في ظُلَل من الغَمام والملائكة، وَيَحْمِلُ عَرْشَه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تُخوم الأرض السُّفْلَى، والسمواتُ إلى حُجَزِهم، والعَرْش على مَنَاكبهم، لهم زَجَلٌ

(2)

من تَسْبِيحهم، يقولون: سُبْحانَ ذي العِزَّة والجَبَروت، سُبْحَان ذي المُلك والمَلكُوت، سبحان الحيّ الذي لا يموت، سبحان الذي يميتُ الخلائقَ، ولا يموتُ، سبُّوح قُدُّوس، سبحان ربنا الأعلى، رب الملائكة والروح، الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع اللَّه تعالى كُرْسيَّهُ حَيْثُ يشاءُ من أرضه، ثم يَهتِف بِصَوْتِه فيقول تعالى: يا مَعْشَر الجنِّ والإنس، إني قَدْ أنْصَتُّ لكُمْ مِنْ يومِ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسْمَعُ قولكم، وأرى أعمالكم، فأَنْصتُوا لي اليوم، إنّما هي أعْمالُكُم وصُحُفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خَيْرًا فليحمد اللَّه، ومَنْ وجَدَ غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلّا

(1)

أي مقابلة.

(2)

أي صوت رفيع عال.

ص: 177

نَفْسَه، ثم يأمر اللَّه جَهَنَّم فَيخْرج مِنها عُنُق سَاطِعٌ، مُظْلِمٌ، ثم يقول:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} [يس] أو بها تكذبون (شك أبو عاصم){وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} [يس] فيَمِيزُ اللَّهُ النَّاسَ وتَجثُو الأمم، يقول اللَّه تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} [الجاثية] فيقضي اللَّهُ بين خلقه، إلّا الثَّقَلَيْن -الإنس، والجِنّ- فيقضي بين الوحوش، والبهائم، حتّى إنّه لَيُقِيدُ الجَفاءَ من ذَاتِ القَرْن، فإذا فرغ اللَّهُ من ذلك، فلم تَبْقَ تَبِعةٌ عِنْدَ واحدةٍ لأُخْرى، قال اللَّهُ لهَا: كُوني تُرابًا، فعند ذلك يقول الكافرُ:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ] ثم يَقْضِي اللَّهُ تعالى بَيْنَ العِبادِ، فيكونُ أوَّلَ ما يَقْضي فيهِ الدِّماءُ، ويَأتِي كُلُّ قَتِيلٍ قُتل في سَبِيلِ اللَّهِ، فيأْمر اللَّهُ مَنْ قُتِلَ فَيَحمِلُ رَأْسَهُ تَشْخُبُ أَوْدَاجُه دمًا، فيقول: يا ربّ سَلْ هذا فِيمَ قَتَلنِي؟ فيقول تعالى وهو أعلم: فِيمَ قَتَلْتَهُ؟ فيقول: يا رَبّ قَتلْتُه لِتكُونَ العِزَّةُ لَكَ، فيقول اللَّه: صَدَقْتَ، فيَجْعَلُ اللَّهُ تعالى وَجْهَهُ مِثْلَ نُورِ السَّمَواتِ، ثمّ تَسوقه المَلائِكَةُ إلى الجَنَّةِ، ثم يَأْتِي كُل مَنْ كَانَ قُتل عَلَى غَيْرِ ذَلِك، فيأْمُرُ مَنْ قُتِلَ فَيَحْمِلُ رَأْسَهُ تَشْخُبُ أَوْدَاجُه دمًا، فيقول: يا رَبّ، سل هذا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فيقول وهو أعلم: فِيمَ قَتَلْتَهُ، فيقول: يا رَبّ، قَتَلْتُه لِتَكُون العِزَّةُ لِي، فيقول له: تَعِسْتَ، ثم ما تَبْقَى نَفْسٌ قَتَلَهَا إلّا قُتِلَ بِهَا، ولا مَظْلِمَةٌ إلّا أُخِذَ بِهَا، وكان في مَشِيئةِ اللَّه، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وإنْ شَاءَ رَحِمهُ، ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِهِ حتّى لَا تَبْقَى مَظلِمَةٌ لأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إلّا أَخَذَها اللَّهُ لِلْمَظَلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، حتَّى إنَّهُ لَيُكَلِّفُ شَائِبَ اللَّبَنِ بالمَاءِ ثُمَّ يَبِيعُه أَنْ يُخَلِّصَ اللبَن مِنَ المَاءِ، فَإذَا فَرَغ اللَّهُ مِن ذَلِكَ، نادَى مُنَادٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ كُلَّهُمْ: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بآلِهَتِهمْ وَما كَانُوا يَعْبُدُونَ من دون اللَّهِ، فَلَا يبْقَى أَحَدٌ عَبدَ شيئًا مِنْ دَونِ اللَّهِ، إلّا مُثِّلَتْ لَهُ آلِهَتُه بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُجْعَلُ يَومئِذٍ ملَك مِنَ المَلائِكَةِ على صورَةِ عُزَيرٍ، ومَلَكٌ على صورةِ المسيح عِيسَى ابن مريم، فَيتْبَعُ هَذَا اليَهُودُ، وَيتْبَعُ هذَا النَّصَارى، ثم تقودهم آلِهَتُهُمْ إلى النَّارِ، فهذا الذي يقولُ اللَّهُ تَعَالى:{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)} [الأنبياء] فإذَا لم يَبْقَ إلّا المُؤْمِنون فِيهمُ المُنَافِقُونَ، جَاءَهُمُ اللَّهُ فيمَا شَاءَ مِنْ هيئته، فقال: يا أيُّها النَّاسُ، ذَهَب النَّاسُ فَالْحَقُوا بآلِهتِكُمْ، وما كُنْتُم تَعْبدُونَ، فيقولون: واللَّهِ مالنَا إله إلّا اللَّهُ، ما كُنَّا نَعْبُد غَيْرَهُ، فَينْصَرِفُ عَنْهُمْ وهو اللَّه الذي يَأْتِيهِمْ، فَيمكثُ عنهم ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يمْكُثَ ثمّ يَأْتِيهِمْ، فيَقُولُ: يا أيها الناس ذَهَبَ الناسُ، فالحَقُوا بآلِهتِكُمْ، وما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فيقولون: واللَّه مالَنا إله إلّا اللَّهُ، وَما كُنّا نَعْبُدَ غَيْرَهُ، فينصرف عنهم، وهو اللَّه الذي يأتيهم، فيمكث عنهم ما شاء اللَّه أن يمكث، ثم يأتيهم فيقول: يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: واللَّه ما لنا إله إلا اللَّه وما كنا نعبد غيره، فَيكْشِفُ عَنْ سَاقِه وَيتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمتِه مَا يَعْرِفُونَ أنّه رَبُّهُمْ، فيَخِرُّونَ سُجَّدًا له على وجُوهِهمْ، ويَخرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ على قَفَاهُ، وَيجعَلُ اللَّهُ سبحانه أصْلَابَ المنافقين

ص: 178

كَصَياصي

(1)

البَقَر، ثم يَأذنُ اللَّهُ لَهُمْ فَيْرفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ بالصِّرَاطِ بَيْنَ ظَهْرانَيْ جَهَنَم كَقدِّ الشَّعر، أو كعقْدِ الشَّعْرِ، وكحَدِّ السَّيْف، عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وخَطَاطِيفُ، وحسكٌ كحسك السعدان، دُونَهُ جِسْرٌ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، فَيمُرّونَ كَطَرْف البَصَر، أَو كَلَمْحِ البَرْقِ، أَو كَمرّ الرِّيحِ، أَوْ كَجِيَادِ الْخَيلِ، أَوْ كَجِيادِ الرِّكَابِ، أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ، فَنَاجٍ سَالِمٌ، ونَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ

(2)

على وَجْهِهِ في جَهَنَّم، فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الجَنَّةِ إلى الجنَّةِ، حُبسوا دونها، قالوا: مَنْ يَشْفَعُ لنَا إِلَى رَبِّنَا فَندْخُلَ الجَنَّةَ؟ فيقولون: مَنْ أَحَقّ بِذَلِك مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ، خَلَقه اللَّهُ بِيدِهِ، وَنَفَخ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا، فَيأْتُونَ آدمَ، فَيُطلَبُ ذَلِك إليه، فَيذْكُرُ ذَنْبًا وَيقُولُ: ما أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ، فإِنه أول رُسُلِ اللَّهِ، فَيُؤْتَى نُوحٌ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَيذْكُرُ ذَنْبًا، ويقول: ما أنا بِصَاحِب ذَلِك، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بإِبرَاهِيمَ، فيأتون إبراهيم فَيَطْلُبونَ ذَلِك إلَيْه، فَيذْكُر ذَنْبًا، ويقول: ما أنا بِصَاحِبكُمْ، ولكن عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فيأتون موسى فَيذْكُرُ ذَنْبًا، وَيقُول: ما أنا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عليكُمْ بِرُوحِ اللَّهِ وَكَلِمتهِ عيسَى ابْن مَرْيَم، فيأتون عيسى فيطلبون ذلك إلَيْهِ، فيقول: ما أنا بِصَاحِبِ ذَلِك، وَلَكِنْ عَلَيكُمْ بِمُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فَيأَتُونِيِ وَلي عِنْد رَبيِّ ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ وَعَدنِيهِنَّ، فأَنطَلِقُ فآتي الجَنَّةَ، فاَخُذُ بَحلْقَةِ الباب، فَأَسْتَفْتِحُ، فيُفْتَحُ لِي، فأُحَيَّا، ويُرَحَّبُ بِي، فإذا دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلى رَبيِّ عز وجل خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيأْذَنُ اللَّهُ لي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدهِ بشَيْءٍ ما أَذِنَ بِه لأَحدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يقول اللَّه لي: ارْفَعْ رأسَك يا مُحَمّد، وَاشْفَعْ تُشفَّع، وَسَلْ تُعْطَهْ، فإذا رَفَعْتُ رَأْسي قال اللَّه وهو أعلم: مَا شَأْنُكَ؟ فأقول: يا ربِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعةَ، فشَفعنِي في أهل الجَنَّةِ يَدْخُلون الجَنَّةَ، فيقول اللَّه عز وجل: قَدْ شَفَّعْتُك، وَأَذِنْتُ لَهُم في دخول الجنة" فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي بعثني بالحَقّ ما أَنْتُمْ في الدُّنيَا بأَعْرَفَ بأَزْواجِكُمْ وَمساكِنكُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنّةِ بِأَزْوَاجِهِمْ وَمسَاكِنهِمْ، فَيدْخُلُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، سبعين مِمَّا يُنْشِئُ اللَّهُ، وَثِنْتَيْنِ آدَمِيَّتَيْنِ مِنْ بَنَاتِ آدَم، لَهُمَا فضْلٌ على مَنْ أَنْشأ اللَّهُ، بِعِبَادتِهما اللَّهَ في الدُّنْيَا، يَدْخُلُ على الأولى منهما في غُرْفَةٍ مِنْ ياقُوتَةٍ، على سَرِير مِنْ ذَهَب مُكَلَّلٍ باللُّؤْلُؤ، عَلَيْهِ سَبْعُونَ زَوْجًا منْ سُنْدُسٍ، وَإِسْتَبْرقٍ، وَإنَّه لَيَضَع يَدَهُ بَيْن كَتفيها، ثُمّ يَنْظُرُ إِلى يده مِنْ صَدْرِهَا مِنْ وَراءِ ثِيَابِهَا، وَجِلْدِهَا، ولَحْمِها، وَإِنّه لَينْظُرُ إِلى مُخّ ساقها كما يَنْظُر أَحَدُكُمْ إلى السِّلْكِ في قَصَبَةِ اليَاقُوتَةِ، كَبِدُه لَهَا مِرْآةٌ، وَكَبِدُهَا لَهُ مِرْآةٌ، فبَيْنمَا هُوَ عِنْدَهَا لَا يَملُّهَا وَلَا تَمَلُّه، لَا يَأْتيهَا مَرَّةً إِلَّا وَجَدَهَا عَذْرَاءَ مَا يَفْتُرُ ذَكَرُهُ، وَلا يَشْتكي قُبُلُهَا، إِلّا أَنَّهُ لَا مَنِيّ وَلا مَنِية، فَبَيْنمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ نُودِي: إِنَا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لا تَمَلُّ، وَلَا تُمَلّ، إِلّا أَنّ لَكَ أَزْواجًا غَيْرَها، فيَخْرُجُ فَيأْتِيهِنَّ وَاحِدَةً، وَاحِدَةً، كلّما جَاءَ

(1)

صياصي البقر، أي قرونها واحدتها صيصِيَة. "النهاية"(3/ 67).

(2)

أي مدفوع.

ص: 179

وَاحِدَةً قالت: واللَّه ما في الجَنَّةِ شيء أَحْسَنُ مِنْكَ، وَما في الجَنَّةِ شَيْءٌ أَحَبُّ إِليَّ مِنْكَ".

قال: "وإذا وَفَعَ أهْل النَّار في النار، وقد وقَعَ فِيهَا خَلْقٌ كثير مِنْ خَلْقِ رَبِّكَ أَوْبَقَتْهمْ أعْمالُهُمْ، فمِنْهُمْ مَنْ تَأَخُذُه النار إلى قَدَمَيْهِ لَا تُجَاوزُ ذَلِكَ، ومِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ جَسَدَهُ كُلَّهُ إلّا وَجْهَهُ، وحَرَّمَ اللَّهُ صُورَتَهُ على النار" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فأقول: يا رَبِّ، شَفّعِنِي فِي مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي، فيقولُ اللَّهُ عز وجل: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فيَخْرُجُ أولئَكَ حَتى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أحد، ثم يَأْذَنُ اللَّهُ في الشَّفاعة، فلا يَبْقَى نبِيٌّ، ولا شَهِيدٌ، إلّا شُفِّعَ، فيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَخْرجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ زِنةَ الدِّينَارِ إيمَانًا، فيَخْرُجُ أولئِكَ حَتّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أحَدٌ، ثُمَّ يَشْفَعُ من شاء اللَّهُ فيقول: أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ في قَلْبِه إيمانًا ثُلُثَيْ دِينَارٍ، ونصف دينار، وثُلُثَ دِينَارٍ، وربع دينار، ثم يقول: وَسُدُسَ دينَارٍ، ثمَّ يقولُ: وقيراطًا. ثم يقول: حَبّةً مِنْ خَردَل، فيَخْرُجُ أَولئكَ حَتَّى لا يَبْقى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وحَتَّى لا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ عَملِ للَّه خَيْرًا قَطّ، وحَتَّى لَا يَبْقَى أحَدٌ لَهُ شَفَاعَةٌ إلّا شُفِّعَ، حَتّى إنّ إِبليس لَيَتَطَاوَلُ لِمَا يَرَى مِن رَحْمةِ اللَّهِ سبحانه، رجاء أَنْ يُشْفَعَ لَه، ثمّ يقول اللَّه عز وجل: بَقِيتُ أنا، وأَنَا أرْحَمُ الرّاحمِين، فيُدْخلُ اللَّهُ يَدَهُ فِي جَهَنّمَ، فَيُخْرِجُ مِنْها مَا لَا يُحْصِيهِ غَيْرُهُ، كأنَّهُمْ خَشَبٌ مُحْتَرِقٌ، فَيَبُثُّهم اللَّهُ على نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الحَيَوان، فَيَنْبُتُون كمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ

(1)

فِي حَمِيل

(2)

السَّيْلِ، فمَا يَلي الشمس مِنْها أُخَيْضِرٌ، ومَا يلي الظِّل مِنْها أُصَيْفِرٌ، فيَنْبُتون نَباتَ الطَّرَاثِيثِ، حَتَّى يكُونوا أمْثالَ الدَّرْمَكِ

(3)

، مكْتوبٌ فِي رِقَابِهمُ: الجَهَنَّميُّونَ، عُتَقاءُ الرَّحْمَنِ عز وجل، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الجَنّة بذلك الكتاب، ما عملوا خَيْرًا قط، فيبقون في الجَنَّة".

فذِكره إلى هُنَا كانَ في أصْل أبي بَكْر بن المقرئ، عن أبي يَعْلَى، رحمه اللَّه تعالى، هذا حديث مشهور، رواه جماعة من الأئمة في كتبهم، كابن جرير في "تفسيره"، والطبرانيّ في "الطِّوالات"، وغيرها، والبَيهَقيّ في كتاب "البَعْث والنشور"، والحافظ أبي موسى المدينيّ في "الطِّوالات" أيضًا، من طرق متعدّدة، عن إسماعيل بن رافع قاصّ أَهْلِ المدينَةِ، وقد تُكُلِّم فيه بسببه، وفي بعض سياقاته نَكَارَةٌ، واختلاف، وقد بَيَّنتُ طُرقَه في جُزْءٍ مُفْرَدٍ.

قلت: وإسماعيل بن رافع المديني ليس من الوضّاعين، وكأنّه جمع هذا الحديث من طرق، وأماكن متفرّقة، وساقه سياقةً واحدةً، فكان يقصُّ به على أَهْلِ المدينة، وقد حضره جماعةٌ من أعيان الناس في عصره، ورواه عنه جماعة من الكبار، كأبي عاصم النّبيل، والوليد بن مُسلم، ومكي بن

(1)

الحِبَّة، بكسر الحاء: بزر ما لا يقتات، مثل بزور الرياحين.

(2)

الحميل: ما يحمله السيل من الطين ونحوه.

(3)

الدرمك: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق. وكل ما بُيِّض من طعام.

ص: 180

إبراهيم، ومحمد بن شُعَيب بن شابور، وعَبْدَةَ بنِ سلَيْمانَ، وغيرِهم، واختلف عليه فيه قتادَةُ، يقول: عن محمّد بن [يزيد بن أبي] زياد، عن محمد بن كعب، عن رجلٍ، عن أبي هريرة، عن النبي، وتارة يُسْقِطُ الرَّجُل.

وقد رواه إسحاق بن رَاهَوَيهِ، عن عَبْدَةَ بنِ سُلَيْمانَ، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن يزيد ابن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أسقط الرجُلَ الأول.

قال شيخنا الحافظُ المِزِّيّ: وهذا أقربُ، قال: وقد رواه عن إسماعيل بن رافع الوليدُ بنُ مسلم، وله عليه مُصَنَّف بَيّن شَواهِدَه من الأحاديث الصحيحة، وقال الحافظ أبو موسى المدينيّ بعد إيراده له بتمامه: وهذا الحديثُ وإن كان في إسناده من تُكُلِّمَ فيه، فعامّة ما فيه يُرْوَى مُفَرَّقًا بأسانيد ثَابتة، ثم تَكَلَّم على غَرِيبه، قلت: ونحنُ نَتَكلّم عليه فصْلا فَصْلًا، وباللَّه المُسْتَعانُ

(1)

:

‌فصل

فأما النَّفَخَاتُ في الصُّور، فثلاث: نفخةُ الفزَع، ثم نفخة الصَّعْقِ، ثم نَفْخَة البَعْث، كما تقدّم بيانُ ذلك في حديث الصُّور بطوله.

وقد قال مسلم في "صحيحه": حدّثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بَيْن النَّفْخَتَيْن أربعون" قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال: أَبيتُ

(2)

، قالوا: أربعوِن شهرًا؟ قال: أَبَيْتُ، قالوا: أربعون سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ، قال:"ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّه مِنَ السَّماءَ ماءً، فيْنبُتُونَ كما يَنْبتُ البَقْلُ". قال: "وليس مِنَ الإنسان شَيْءٌ إلا يَبْلَى إلّا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنَبِ

(3)

ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامة". ورواه البخاري من حديث الأعمش

(4)

.

وحديثُ عجب الذَّنَب وأنَّهُ لَا يَبْلَى وأنّ الخَلق يَبْدَأ منه، ومنه يركَّب يوم القيامة، ثابثٌ من رواية أحمد، عن عبد الرزّاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّامٍ، عن أبي هريرة، ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق، ورواه أحمد أيضًا عن يحيى القطّان، عن محمد بن عَجْلان، [عن أبي الزِّناد] عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كُلّ ابن آدَمَ يَبْلَى وَيَأْكُلُهُ

(1)

أخرجه الطبراني في "الأحاديث الطوال"(48) والبيهقي في "البعث والنشور"(669) وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(3029 - المطالب العالية من النسخة المسندة).

(2)

هي على تقدير محذوف: أي أبَيْتُ أن أجزم أن المراد أربعون يومًا أو شهرًا أو سنة.

(3)

وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز. انظر "النهاية"(3/ 184).

(4)

رواه مسلم (2955) والبخاري (4814).

ص: 181

التُّرَابُ إلّا عَجْبَ الذَّنَبِ، منه خُلِقَ، ومِنْهُ يُركَّب". انفرد به أحمد، وهو على شرط مسلم، ورواه أحمد أيضًا، من حديث إبراهيم

(1)

الهَجَرِيّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة مرفوعًا، بنحوه

(2)

.

وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعَةَ، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يأْكُلُ التُّرَابُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الإنسان إلّا عَجْبَ ذنبه" قيل: ومثلُ ما هو يا رسول اللَّه؟ قال: "مِثْلُ حَبَّة خَرْدَلٍ، منه تَنْبتون"

(3)

، والمقصود هنا إنما هو ذِكر النَّفْخَتَيْنِ، وأنّ بينهما أربعينَ: إمّا أربعين يوْمًا، أو شَهْرًا، أو سَنَةً، وهاتان النفختان هما واللَّه أعلمُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، ونَفْخَةُ القِيام للبَعْثِ والنشور، بدليل إنزال الماء بينهما، وذِكر عَجْبِ الذّنب الذي منه يُخْلَقُ الإنسان، وفيه يُرَكّب عند بعثه يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المراد منهما ما بين نفخة الفزع ونفخة الصَّعق، وهو الذي يريد ذِكره في هذا المقام، وعلى كلّ تقدير فلا بد من مدة بين نفختي الفزع، والصعق.

وقد ذُكِر في حديث الصور أنه يكون فيها أمور عظام، من ذلك زلزلة الأرض، وارتجاجها، ومَيَدَانِها بأهلها، وتَكَفِّيها يمينًا وشِمَالًا، قال اللَّه تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 1 - 5]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج].

وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} الآيات كلها إلى قوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 1 - 56].

ولما كانت هذه النفخة -أعني نفخة الفزَع- أولَ مبادئ القيامة، كان اسم يوم القيامة صادقًا على ذلك كُلِّه، كما ثبت في "صحيح البُخاري" عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وَلتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرّجُلَانِ ثَوْبَهُما فَلَا يَتَبَايَعَانِه، وَلَا يَطْوِيَانِه، وَلتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَد انْصَرَف الرَّجُلَ بِلَبَنِ لِقْحَتهِ، فلَا يَطْعَمُه، وَلتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقدْ رَفَع أُكْلَتَه إلى فيه فَلَا يَطْعَمُها"

(4)

، وهذا إنما يتجه على ما قبل نفخة الفزع، وعبَّر عن نفخة الفزع بأنها الساعة لمَّا كانت أول مبادئِها، وتقدم في الحديث في صفة أهل آخر الزمان: أنهم شِرَارُ الناس، وعليهم تقوم الساعة

(5)

.

(1)

في (م): "بن هشيم" وفي (أ): "أبي هشيم" وهما خطأ، والصواب ما أثبته، وهو إبراهيم بن مسلم الهجري، لين الحديث، لكن الحديث صحيح بطرقه.

(2)

رواه أحمد في المسندء (2/ 315 و 428 و 499) ومسلم رقم (2955)(143).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 28) وهو حديث حسن.

(4)

رواه البخاري (6506).

(5)

رواه مسلم رقم (2949).

ص: 182

وقد ذُكِر في حديث إسماعيل بن رافع في حديث الصُّور المتقدم: أن السماء تَنْشَقُّ فيما بين نفختي الفزع، والصَّعْقِ، وأن نُجُومَها تَتناثَرُ، ويَخْسِفُ شَمْسُها وقمَرُها، والظاهر واللَّه أعلم أن هذا إنما يكون بعد نفخة الصَّعْق حين {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم] وقال تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} الآيات [الإنشقاق] وقال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة].

وسيأتى تقرير هذا كُلِّه، وأنه إنما يكون بعد نفخة الصَّعْق، وأما زلزال الأرض وانشقاقها بسبب تلك الزلزلة وفِرارُ الناس إلى أقطارها وأرجائها، فمُناسِبٌ أنه بَعْدَ نفخة الفزع، وقبل الصَّعْق، قال اللَّه تعالى إخبارًا عن مُؤْمِن آل فرعون أنه قال:{وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 32 - 33]. وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} [الرحمن: 33 - 36].

وقد تقدم الحديث في "مُسند أحمد" و"صحيح مُسلم" والسنن الأربعة، عن أبي سَريحةَ حُذَيْفَة بن أَسِيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ السَّاعةَ لَنْ تَقْومَ حَتَّى تَروْا عشر آياتٍ. . . " فذكرهُنَّ، إلى أن قال:"وآخِرُ ذلك نارٌ تَخرُج من قعر عَدَن، تسوقُ الناس إلى المَحْشر"

(1)

وهذه النار تسوق الموجودين في آخر الزمان في سائر أقطار الأرض إلى أرض الشام منها، وهي بقعة المحشر والمنشر.

‌ذِكر أمر هذه النار وحشرها الناس إلى أرض الشام

ثبت في "الصحيحين" من حديث وهيب، عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَر الناس على ثلاثِ طرائقَ: راغبينَ، ورَاهبينَ، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير [وأربعةٌ على بعيرٍ] وعشرةٌ على بعير، وتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قالوا، وتبيتُ مَعَهمْ حَيْثُ بَاتُوا، وتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْث أَصْبَحُوا، وتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا"

(2)

.

وروى أحمد عن عفان، عن حماد، عن ثابت، عن أنس: أن عبد اللَّه بن سَلَام سأل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 6) ومسلم (2901) وأبو داود (4311) والترمذي (2183) والنسائي في "الكبرى"(11482) وابن ماجه (4041).

(2)

رواه البخاري رقم (6522) ومسلم رقم (2861).

ص: 183

عن أول أشراط السَّاعَةِ؟ فقال: "نارٌ تَحْشُرُ النَّاس منَ الْمشرِق إلى المَغْرب. . . " الحديث بطوله، وهو في "الصحيح"

(1)

.

وروى الإمامُ أحمد، عن حسن، وعفّان، عن حمّاد بن سَلَمة، عن علي بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْم القِيَامةِ ثلاثة أصنافٍ، صِنْفٌ مُشَاةٌ، وصِنْفٌ رُكْبَانٌ، وصِنْفٌ على وُجُوهِهمْ" قالوا: يا رسول اللَّه، وَكَيْفَ يَمْشُون على وجُوهِهم؟ قال:"إنّ الذي أَمْشاهُمْ على أَرْجُلِهمْ قَادِرٌ على أَنْ يُمْشِيَهُمْ على وُجُوهِهِمْ، أَمَا إنَّهُمْ يَتَقُونَ بِوُجُوهِهم كُلَّ حَدَبٍ وشوكٍ".

وقد رواه أبو داود الطيالِسى في "مُسنده"، عن حماد بن سَلمةَ، بنحوٍ من هذا السياق

(2)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدثنا عبد الرَّزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قَتَادةَ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّها ستَكُونُ هِجْرَةٌ بعد هجرة، ينْحَازُ النَّاس إلى مُهَاجَرِ إبراهيم، لَا يبْقَى في الأرض إلّا شِرَارُ أهْلِهَا، تَلفظُهُم أَرَضُوهُمْ، وتَقْذَرُهُم نَفْسُ الرحمن، تَحْشُرُهُم النَّارُ مَعَ القِردَةِ والخَنازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إذَا باتوا، وتَقيل معهم إذا قَالُوا، وتَأْكُلُ مَنْ تخلّف" ورواه الطبرانيّ من حديث المُهَلّب بن أبي صُفْرَةَ، عن عبد اللَّه بن عمرو، بنحوه

(3)

.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ في كتابه "البعث والنُّشور": أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عُبَيد اللَّه الحُرْفي بِبَغْدَادَ، حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القُرَشِيّ، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني الوليد بن جُمَيع القرشي. ح وأخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثنا أبو العبّاس محمد بن أحمد المحبوبيّ، حدّثنا سعيد بن مسعود، حدّثنا يزيدُ بن هارون، أخبرنا الوليدُ بن عبد اللَّه بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْل، عامر بن واثِلَةَ، عن أبي سريحَةَ حُذَيْفَةَ بن أَسِيد الغفاريّ، سمعت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وتلا هذه الآية {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] فقال أبو ذرّ: حدّثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إنّ النَّاسَ يُحْشَرُون يوم القيامة على ثلاثة أفْواجٍ، فوج طاعِمِين كاسِين راكبِين، وفوج يَمْشُونَ وَيسْعَوْن، وفوج تَسْحَبُهُم الملائكةُ على وُجوههم" قلنا: قد عرفنا هذين، فما بال الذين يمشون وَيسْعَوْن؟ قال: "يُلْقي اللَّهُ الآفَةَ على الظَّهْر

(4)

حَتى لَا يبْقَى ذَاتُ ظَهْرٍ، حتّى إن الرَّجُلَ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 271) والبخاري (3329).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 354) وأبو داود الطيالسي في "مسنده"(2566) وهو حديث حسن.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 198 - 199)، وهو في "جامع معمر" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20790) وإسناده ضعيف، ولبعضه شواهد.

(4)

أي الإبل التي يحمل عليها وتركب.

ص: 184

لَيُعْطِي الحديقَةَ المُعْجِبةَ بالشارف

(1)

ذاتِ القَتَبِ" لفظ الحاكم.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، ولم يذكر تلاوة أبي ذرّ للآية، وزاد في آخره:"فلا يقدر عليها"

(2)

.

وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث بَهْز، وغيره، عن أبيه حكيم بن معاوية، عن جدّه معاوية بن حَيْدة القُشَيْرِيّ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تُحْشَرُونَ هاهُنَا" وأومأ بِيَده إلى نَحْو الشام "مشاةً ورُكْبَانًا، وتُجَرّونَ على وجوهكم، وتُعْرَضُون على اللَّه تعالى وعلى أفواهكم الفِدَام

(3)

فأوّلُ ما يُعْرِبُ عن أحدكم فَخِذهُ وكفُّه". وقد رواه الترمذي، عن أحمد بن مَنِيع، عن يزيد بن هارون، عن بَهْزِ بن حَكِيم، عن أبيه، عن جدّه بنحوه، وقال: حسن صحيح

(4)

.

وقال أحمد: ثنا عثمانُ بن عمرَ، ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا أبو جعفر محمد بن عليٍّ، عن رافع بن بِشْرٍ السَّلَميِّ، عن أبيهِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ حِبْسِ سَيَلٍ

(5)

تَسِيرُ سَيْرَ مَطِيَّةِ الإبِلِ

(6)

، تَسِيرُ النَّهارَ وتُقِيمُ اللَّيْلَ، تَغْدُو وَتَرُوحُ، يُقَالُ: غَدَتِ النَّارُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَاغْدُوا، قَالَتِ النَّارُ، يا أَيُّهَا النَّاسُ فَقِيلُوا، رَاحَتِ النَّارُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَرُوحُوا، مَنْ أَدْرَكَتْهُ أَكَلَتْهُ". تفرد به. ورواه أبو نُعَيْمٍ في ترجمةِ بِشْرٍ أبي رافعٍ السَّلَمِيِّ، وفيه: "تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الإبِلِ بِبُصْرَى"

(7)

.

فهذه السياقاتُ تدلّ على أن هذا الحشر هو حشرُ الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى مَحَلّة المَحْشر، وهي أرضُ الشام، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة، فقسمٍ طاعمين كاسين راكبين، وقسم يمشون تارةً ويركبون أخرى، وهم يَعْتَقِبُون

(8)

على البعير الواحد، كما تقدّم في "الصحيحين":"اثنانِ على بعير، وثلاثةٌ على بعير" إلى أن قال: "وعَشَرةٌ على بعير، يَعْتَقِبُونَه مِن قِلّة الظَّهر" كما تقدّم في الحديث، وكما جاء مفَسَّرًا في الحديث الآخر:"وتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النارُ". وهي التي تخرج من قَعْرِ عدَنَ، فتُحيط بالناس من ورائهم، تسوقهم من كلّ جانب، إلى أرض المحشر، ومن تخلّف منهم أَكَلَتْهُ النار.

(1)

أي الناقة المسنة.

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(2/ 367) وأحمد في المسند (5/ 164 - 165) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

أي تسكت ألسنتهم، وتنطق أعضاؤهم.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 3) والترمذي رقم (2424) وهو حديث حسن.

(5)

في الأصل: حبشي سيل، وهو خطأ. وحِبْس سيل، اسم موضع.

(6)

في مسند أحمد: تسير سَيْرَ بطيئة الإبل.

(7)

رواه أحمد في المسند (3/ 443) وهو حديث حسن.

(8)

أي يركبونه بالتعاقب، هذا يعقب هذا، وهذا يعقب هذا، أي بعده.

ص: 185

وهذا كلّه مما يدل على أن هذا إنما يكون في آخر الزمان آخرِ الدنيا، حيثُ يكون الأكلُ والشربُ والركوبُ موجودًا والمشترى وغيرُه، وحيثُ تُهْلِكُ المُتخلّفين منهم النارُ، ولو كان هذا بعد نفخة البعث، لم يبق موتٌ، ولا ظَهْرٌ يُشْتَرى، ولا أكلٌ، ولا شُرْبٌ، ولا لُبْس في العَرَصَاتِ، والعجبُ كلُّ العجَبِ أن الحافظ أبا بكر البيهقيّ بعدَ روايته لأكثر هذه الأحاديث، حمَلَ هذا الركوب على أنّه يوم القيامة، وصحّح ذلك، وضعّف ما قلناه، واستدل على ما قاله بقوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم].

وكيف يصحّ ما ادّعاه في تفسير الآية بالحديث، وفيه أنّ: منهم اثنان على بعير، وثلاثةٌ على بعير، وعشرة على بعير، وقد جاء التصريح بأن ذلك من قلة الظهر، هذا لا يلتئم مع هذا، واللَّه أعلم، فإنَّ نَجائِبَ المتقين من الجَنَّةِ يركَبُها المتقون إذا خرجوا من قبورهم إلى العَرَصات، ومن العرصات إلى الجَنّات، على غير هذه الصفة، كما سيأتي تقريرُ ذلك في موضعه.

فأما الحديث الآخر الوارد من طرق أُخَر، عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس وابن مسعود وعائشة، وغيرهم:"إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى اللَّه حُفَاة عُراةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} [الأنبياء: 104] "

(1)

فذلك حَشْرٌ غيرُ هذا، ذاك في يوم القيامة بَعْد نَفْخَة البَعْث، يوم يقوم الناسُ من قبورهم حُفَاةً عُراة غُرْلًا، أي غير مُخْتَتَنينَ، وكذلك حَشْرُ الكافِرين إلَى جَهنَّم وِرْدًا، أي عِطَاشًا.

وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء]، فذلك يحصل لهم حين يُؤْمر بهم إلى النار من مقام المَحْشَرِ، كما سيأتي بيان ذلك كلّه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد ذُكِر في حديث الصُّور: أن الأَمْواتَ لا يَشْعُرونُ بشيْءٍ مِمّا يقَعَ من ذلك بسبب نَفْخةِ الفَزَع، وأنّ الذين استثنى اللَّهُ تعالى، إنما هُم الشهداء، لأنّهم أحياءٌ عِند رَبّهم يُرزَقُون، فهم يشعرون بذلك ولَا يفْزَعُون منها، وكذلك لا يصْعَقُون بسبب نَفْخَة الصَّعْق.

وقد اختلف المفسرون في المستثْنَيْنَ منها على أقوال: أحدها هذا كما جاء مُصَرّحًا به فيه، وقيل: بل هم جبريلُ، وميكائيلُ، وإسرافيل، وَمَلَكُ الموت، وقيل: وحَمَلةُ العَرْش أيضًا، وقيل غير ذلك، فاللَّه أعلم.

وقد ذكر في حديث الصُّورِ، أنّه يَطُولُ على أهل الدنيا مُدَّةُ ما بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق، وهم يشاهدون تلك الأهوال، والأمور العظام.

(1)

رواه البخاري رقم (6526) ومسلم رقم (2860) من حديث ابن عباس. والبخاري (6527) ومسلم (2859) من حديث عائشة.

ص: 186

‌نفخة الصَّعق

يموت بسببها جميع الموجودين من أهل السماوات والأرض، من الإنس، والجِنّ، والملائكة، إلّا مَنْ شاء اللَّه، فقيل: هم حَمَلةُ العرش، وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت، وقيل: هم الشهداء، وقيل غير ذلك.

قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]، وقال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 13 - 18] وتقدّم في حديث الصُّور أنّ اللَّه تعالى يأمر إسرافيل فيقول له: انفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فينفُخ، فيَصْعَقُ من في السماوات والأرض إلّا من شاء اللَّهُ، فيقول اللَّه تعالى لملَك الموت، وهو أعلم بمن بَقِيَ: فمن بقي؟ فيقول: بقيتَ أنتَ الحَيّ الذي لا يموت، وبَقيَتْ حَملةُ عَرْشِك، وبقي جبريلُ وميكائيل، فيأمره اللَّه بقبض روح جبريل وميكائيل، ثم يأمره بقبض أرواح حملة العرش، ثم يأمره أن يموت، وهو آخِرُ من يموت من الخلائق.

وقد تقدم ما رواه ابنُ أبي الدُّنْيا من طريق إسماعيل بن رافع، عن محمد بن كعب، من قوله فيما بلغه، وعنه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللَّه تعالى يقول لملَك الموت: أنتَ خَلْقٌ من خلقي، خلقتك لِمَا رأيتَ، فمُتْ، ثم لا تَحْيَا. وقال محمد بن كعب فيما بلغه: فيقول له: مُتْ مَوْتًا لا تَحيا بعده أبدًا، فيَصْرُخ عند ذلك صَرْخَةً لَوْ سَمِعَها أَهْلُ السماوات والأرض لمَاتُوا فزَعًا. قال الحافظ أبو موسى المديني: لم يُتابَع إسماعيل بن رافع على هذه اللفظة، ولم يَقُلْها أكثر الرواة.

قلت: وقد قال بعضُهم في معنى هذا: مُت موتًا لا تحيا بعده أبدًا، يعني: لا تكون بعد هذا مَلَكَ مَوْتٍ أبدًا، لأنّه لا موتَ بَعد هذا اليوم، كما ثبت في "الصحيح":"يُؤْتَى بالْمَوْتِ يَوم القِيامة في صورة كَبْشٍ أمْلَحَ، فَيُذْبَحُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ثم يقال: يا أهْل النّارِ خُلُودٌ ولَا مَوْت، ويا أَهْلَ الْجَنّة خُلُودٌ وَلَا موت"

(1)

، فمَلَك الموت وإن حَيِيَ بعد ذلك لا يكون مَلَكَ موْتٍ بعدَها أبدًا، واللَّه أعلم، بل ينشئه اللَّه خلقًا آخر غير ذلك كالملائكة.

وبثقدير صحة هذا اللفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فظاهر ذلك أنه لا يَحْيا بعدَ موته أبدًا، فيكون التأويل المتقدم بعيدَ الصحة، واللَّه أعلم.

(1)

رواه البخاري رقم (6548) ومسلم (2850).

ص: 187

‌فصل

قال في حديث الصور: فإذَا لم يبقَ إلا اللَّهُ الواحد الأحدُ الفردُ الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحَدٌ، كان آخِرًا كما كان أوّلًا، طَوَى السماوات والأرض، كَطّي السِّجِلِّ لِلْكتاب، ثم دَحَاهُما، ثم تَلَقَّفَهُمَا ثلاثَ مَرّاتٍ، وقال: أنا الجبّار، ثلاثًا، ثم يُنادِي: لِمَن المُلكُ اليَوْمَ؟ ثلاث مرات، فلا يُجيبه أحد، ثم يقول تعالى مُجِيبًا لِنَفْسِه: للَّه الواحدِ القَهّار.

وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر] وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ

(1)

كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء] وقال تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر].

وثَبت في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْبِضُ اللَّهُ تعالى الأَرْضَ، ويطْوِي السَّماءَ بيمينِه، ثم يقول: أنا المَلِكُ، أنَا الجَبّار، أيْنَ مُلُوكُ الأرض؟ أيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ"

(2)

.

وفيهما، عن ابن عمر: أنّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ اللَّهَ يَقْبضُ يَوْمَ القِيَامةِ الأرَضِينَ، وَتكُونُ السَّمَاواتُ بِيَميِنِه ثُمَّ يَقُولُ: أنَا المَلِكُ"

(3)

.

وفي "مُسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، من حديث عُبَيْد اللَّه بن مِقْسَم، عن ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذاتَ يَوْمٍ على المِنْبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر]. ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بِيَدهِ، يُحَرّكُها، يُقْبِلُ بِها وَيُدْبِرُ:"يُمَجِّدُ الرَّبُّ سُبحانَه نَفْسَه: أنَا الجَبّارُ، أنا المُتَكَبِّرُ أنا الملك، أنا العزيزُ، أنا الكريم" فرجف برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المنبرُ حتى قُلْنَا: لَيَخِرَّنَّ به. وهذا لفظ أحمد

(4)

وقد ذكرنا الأحاديث المتعلّقة بهذا المقام عند تفسير هذه الآية من كتابنا "التفسير"، بأسانيدها وألفاظها بما فيه كفاية وللَّه الحمد.

(1)

قرأها "للكتب" أي بالجمع، حفص وحمزة والكسائي وخلف. وقرأها بقية العشرة بالإفراد "للكتاب".

(2)

رواه البخاري (6519) ومسلم (2787).

(3)

رواه البخاري رقم (7412) وسيأتي من رواية مسلم في الحديث التالي.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 72) ومسلم (2788).

ص: 188

‌فصل

قال في حديث الصُّور: "وَيُبدِّلُ اللَّهُ الأَرْضَ غَيْرَ الأَرْضِ فَيبْسُطُها، وَيسْطَحُهاِ، وَيمُدُّها مدّ الأديم العُكَاظِيّ. . . " إلى آخر الكلام كما تقدم. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم].

وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّ رسول اللَّه سُئِل: أينَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْم تُبَدَّلُ الأَرْضُ والسماوات؟ فقال: "هم في الظُّلْمةِ دون الجسر"

(1)

، وقد يكون المراد بذلك تبديلٌ آخرُ غيرُ هذا المذكور في هذا الحديث، وهو أن تُبَدَّلَ مَعَالمُ الأرض فيما بين النفختين، نفخةِ الصَّعْقِ، وَنفْخةِ البَعْث، فتسِيرُ الجبال وتُمَدُّ الأَرْضُ، وَيبْقَى الجمِيعُ صَعِيدًا واحِدًا لا اعْوِجَاج فيهِ ولا روَابِيَ ولا أوْدِيَة، كما قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه] أي لا انخفاض فيها ولا ارتفاع. وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] وقال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ] وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} [القارعة] وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة] وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)} [الكهف].

‌فصل

قال في حديث الصور: "ثم يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ تَحتِ العَرْشِ ماءً، فتُمْطِر السَّماءُ أربعينَ يَوْمًا حَتّى يكون الماءُ فَوْقَكُمُ اثْنَي عَشَر ذِرَاعًا، ثمّ يأمر اللَّه الأجسادَ أنْ تَنْبُتَ كَنبَاتِ الطَّرَاثيثِ، وهي صِغَارُ القِثَّاء، أو كَنبَاتِ البَقْل".

وتقدّم في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمدُ ومسلم: "ثم يُرسل مطرًا كأنَّه الطَّلُّ، أو الظِّلّ، فتنْبتُ مِنْهُ أجساد الناسِ، ثم يُنْفَخُ فيه أخرى، فإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون، ثم يقال: يا أيُّها الناسُ هَلُمُّوا إلى ربكم. . . " إلى آخر الحديث، وقد تقدم بطوله من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص

(2)

.

وروى مسلم عن أَبي كُرَيْب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. . . وذكر الحديث، ثم قال في الثالثة بعد قوله: أبيتُ، قال: "ثمّ يُنْزِلُ اللَّه منَ السَّماءِ مَاءً

(1)

هذا اللفظ في مسلم (315) من حديث ثوبان، ورواه مسلم (2791) بنحوه من حديث عائشة بلفظ "على الصراط".

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 166) ومسلم رقم (2940).

ص: 189

فَتَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ" قال: "وليس من الإنسان شيءٌ إلّا يَبْلَى، إلّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْب الذَّنَبِ، ومنه يُرَكَّب الخَلْق يَوم القيامة". وقد تقدم هذا الحديث من رواية البخاري ومسلم، وليس عند البخاري ما ذكرنا من هذه الزيادة، وهي ذكر نزول الماء. . . إلى آخره

(1)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنْيا في كتاب "أهوال يوم القيامة": حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حُرَيْث المَرْوَزِيّ، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، حدّثني أُبَي بن كَعْبٍ قال: سِتُّ آياتٍ قَبْل يَوْمِ القيامةِ: بينَما الناسُ في أَسْوَاقِهِمْ إذ ذهب ضوءُ الشمس، فبينما هم كذلك إذْ وقعت الجبالُ على وَجْه الأرض، فتحرَّكَتْ، واضْطَرَبَتْ، واختلطت، وفَزِعَتِ الجِنّ إلى الإِنْس، والإنس إلى الجِنّ، واخْتَلَطَتِ الدّوابُّ والطير والوَحْشُ، فماجوا بعضُهم في بعض، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير] قال: انْطَلَقَتْ {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير] قال: أهملها أهْلُها، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} [التكوير] قال الجن للإنس: نحنُ نأتيكم بالخَبر، فانطلقوا إلى البَحْر، فإذَا هو نَارٌ تَأَجَّحُ، فبينما هُمْ كذلك إذ تَصَدَّعَتِ الأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدةً، إلى الأَرْض السابعة السُّفْلَى، وإلى السَّماءَ السابعة العُلْيَا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم رِيحٌ فأمَاتَتْهُم

(2)

.

وقال ابن أبي الدّنيا: حدّثنا هارون بن عُمَر القُرَشِيّ، حدثنا الوليد بن مُسْلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عطاء بن يزيد السَّكْسَكِيّ، قال: يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طيِّبَةً بَعْدَ قَبْض عِيسَى ابن مَرْيم، عليه الصلاة والسلام، وعند دُنُوٍّ من الساعة، فتقْبضُ روح كُلّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَةٍ، ويَبقى شِرارُ النَّاسِ يَتهَارَجَونَ تَهَارُجَ الحُمُر، عليهم تقوم الساعة، فبينما هم على ذلك إذ بعث اللَّه على أهل الأرض الخوف، فتَرْجُفُ بهم أقدامُهم ومساكنُهم، فتخرجُ الجِن والإنس والشياطينُ إلى سِيف

(3)

البَحْرِ، فيمكثون كذلك ما شاء اللَّهُ، ثم تقول الجِنُّ والشياطين: هَلُمَّ نلتمس المَخْرَج، فيأتون خَافِقَ المَغْرِب

(4)

، فيَجِدُونَه قَدْ سُدَّ، وعليه الحَفَظَةُ، ثم يرجعون إلى الناس، فبينما هُمْ على ذلك، إذ أَشْرَفتْ عليهم الساعةُ، ويسمعون مُنادِيًا يُنادِي: يا أيُّها الناسُ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] قال: فما المرأةُ بأشَدّ استماعًا من الوليد في حَجْرِها، ثمّ يُنْفَخُ في الصُّورِ فيَصْعَقُ مَنْ فِي السّموات، ومن في الأرض، إلّا من شاء اللَّه

(5)

.

وقال أيضًا: حدّثنا هارون بن سفيان، حدّثنا محمد بن عمر، حدّثنا معاوية بن صالح، عن

(1)

رواه البخاري رقم (4814) ومسلم (2955).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(23) وفي إسناده ضعف.

(3)

أي ساحِله.

(4)

أي منتهى جهته.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(26).

ص: 190

عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، عن أبيه، عن فضالة بن عُبَيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ح وحدّثنا هِشامُ بن سَعْد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ابن حُجَيْرَة، عن عُقْبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تَطْلعُ الساعةُ عليكم سحابةً سوداءَ مثلَ التُّرْسِ من قِبَل المَغْرِب، فما تزال ترتفع وترتفع، حتى تملأ السماء، ويُنادي مناب: أيُّها الناسُ، إنّ أَمْرَ اللَّهِ قد أتى، فوالذي نفسي بِيَدِه، إنّ الرجلين لَيَنْشُرانِ الثَّوْبَ فَمَا يَطْوِيانه، وإنّ الرَّجلَ لَيَلُوطُ حَوْضَه فَما يَشْرَب منه، وإنّ الرَّجُلَ ليَحْلِبُ لِقْحَتَهُ، فما يَشْرَبُ مِنْها شَيْئًا"

(1)

.

وقال محارب بن دِثَار: وإنَّ الطَّيْر يَوْمَ القِيامَةِ لَتَضْرِبُ بأَذْنَابِها، وتَرْمِي بما في حَواصِلها من هول ما تَرى، ليس عندها طَلِبَةٌ. رواه ابن أبي الدُّنْيَا في "الأهوال"

(2)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا الحسن بن يحيى العَبْدِيّ، حدّثنا عبد الرزّاق، حدّثنا عبد اللَّه بن بَحِير، سمعت عبد الرحمن بن يزيد الصَّنْعانِيّ، سمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرّه أَنْ يَنْظُرَ إلى يَوْم القيامة رأي العين فلْيقْرأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". ورواه أحمدُ، والترمذيّ، من حديث عبد اللَّه بن بَحير

(3)

.

‌نفخة البعث

قال اللَّه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} [الزمر: 68 - 70] وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ: 18 - 20]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} [الإسراء: 52]. وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: 13 - 14]. وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} [يس: 51 - 54].

وذُكِرَ في حديث الصُّورِ بعد نَفْخَةِ الصَّعق، وفناء الخلق، وبقاء الحَيّ القَيّوم الذي لا يموتُ، الذي

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(25) وفي سنده ضعف، ولبعضه شواهد.

(2)

هو في "الأهوال"(39).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(19) وأحمد في المسند (2/ 27) والترمذي رقم (3333) وهو حديث حسن.

ص: 191

كان قبل كلِّ شيء، وهو الآخِرُ بَعْدَ كلّ شيء، وأنّهُ يُبَدِّل السماواتِ والأرضَ بين النفختين، ثم يأمر بإنزال الماء على الأرض، الذي تُخْلَق منه الأجساد في قبورها، وتتركب في أجداثها، كما كانت في حياتها، في هذه الدنيا، ثم يدعو اللَّهُ بالأَرْواحِ فيُؤْتَى بِهَا، تَتَوَهَّجُ أرْواحُ المُؤْمِنين نُورًا، والأُخْرى ظُلْمةً، فتوضع في الصُّور، ويَأْمُرُ اللَّه تعالى إسرافيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ البَعْثِ، فتَخْرجُ الأَرْواحُ كأنّها النَّحْلُ، قد مَلأَتْ ما بَيْن السَّماءِ وَالأَرضِ، فتدخل كل روح على جسدها التي كانت فيه في هذه الدار، فتمشي الأرواح في الأجساد مَشْيَ السُّم في اللَّدِيغ، ثمّ تنشق الأرضُ عنهم، كما تنشق عن نباثها، فيخْرجُونَ مِنها سِراعًا إِلَى رَبّهمْ ينْسِلُون {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر] حُفاةً عُراةً غُرْلًا.

وقد قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44). . .} إلى آخر السورة [المعارج]، وقال تعالى:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42). . .} إلى آخر السورة [ق: 41 - 45]، وقال تعالى:{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر] وقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر] وقال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه] وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح].

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على البعث والنشور.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدثنا [حمزة بن العباس،، حدّثنا عبد اللَّه بن عثمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا سفيان، عن سَلمةَ بن كُهَيْل، عن أبي الزَّعْراء، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: يُرْسِلُ اللَّه قبل يوم القيامة ريحًا فِيهَا صِرُّ

(1)

بارِدَة وزَمْهَرِيرًا باردًا، فلا تذَرُ على الأرض مُؤْمِنًا إلّا كُفِتَ بتلْكَ الريح، ثم تقوم الساعةُ على الناس، فيقوم ملَكٌ بَيْن السَّماء والأَرضِ بالصُّور، فينفخُ فيه، فلا يبقى خلق في السماء والأرض إلّا مات، ثم يكون بين النفختين ما شاء اللَّه أن يكون، فيُرسل اللَّه ماءً من تحت العَرْش فَتنْبُتُ جُسْمَانُهم ولُحْمانُهمْ من ذلك الماء، كما تَنْبُت الأرض من الثَّرى، ثم قرأ ابن مسعود:{كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر] ثم يقوم ملَك بين السماء والأرض بالصُّور، فينفخُ فيه، فَتنْطَلِقُ كُلُّ نَفْس إلى جَسَدها، فتَدْخُل فِيهِ، وَيقُومُونَ، فيجيئون قيامًا لربّ العَالمِينَ

(2)

.

وعن وهب بن منبه، قال: يَبْلَوْنَ في القُبور، فإذَا سَمِعُوا الصَّرْخَةَ عادتِ الأرواحُ في الأبدان،

(1)

الصِّرُّ: البرد.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(82).

ص: 192

والمفاصلُ بعضها إلى بعض، فإذا سمعوا الصرخة الثانية وثب القومُ قيامًا على أرْجُلِهِم، يَنْفُضُون التُّرابَ عن رؤوسهم، يقول المؤمنون: سُبْحَانَك ما عَبَدْناك حَقَّ عِبَادَتِكَ

(1)

.

‌ذكر أحاديث في البعث

قال سفيان الثوريّ، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزَّعْراء، عن عبد اللَّه قال: يُرْسِلُ اللَّه رِيحًا فيهَا صِرٌّ باردةً، وزمهَرِيرًا بَارِدَةً، فلا يبقى على الأرض مُؤْمِنٌ إلّا كُفِتَ

(2)

بِتلكَ الرِّيح، ثم تقوم الساعة. . . وذكر الحديث كما تقدم في المقال قبله.

وقال ابن أبي الدُّنيا: أخبرنا أبو خيثمة، حدثنا يزيدُ بن هارون، حدثنا حمّاد بنُ سَلمة، عن يعلى ابن عطاء، عن وَكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رَزِين، قال: قلت: يا رسول اللَّه، كيف يُحْيي اللَّهُ المَوْتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ قال: "يا أبا رَزِين، أَما مَرْرتَ، بِوَادِي أهْلِكَ مَحْلًا

(3)

ثُمَّ مَرَرْتَ بِه يهْتَزّ خَضِرًا؟ " قلت: بَلَى، قال: "فكذلك يُحْيي اللَّهُ المَوْتَى، وذلك آيتُه في خَلْقِه".

وقد رواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، وغُنْدَر، كلاهما عن شُعْبةَ، عن يعلى بن عطاء، به نحوه، أو مثْلَه

(4)

.

وقد رواه أحمد من وجه آخر، فقال: حَدّثنا عليّ بن إسحاق، حدثنا عبد اللَّه بن المُبارك، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سليمان بن موسى، عن أبي رَزِين العُقَيْلِيّ، قال: أَتَيْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه، كَيْفَ يُحْيي اللَّه المَوْتَى؟ قال:"أَمَررْتَ بأَرْضٍ مِنْ أرْضِكَ مُجْدِبَةً، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهَا مُخْصِبةً؟ " قال: قلت: نعم، قال:"كذلك النُّشُور"، وقال: قلت: يا رسول اللَّه، ما الإيمان؟ قال:"أنْ تَشْهَد أنْ لَا إله إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن يكون اللَّهُ ورسولُه أحَبّ إلَيْكَ مما سِواهُمَا، وَأَنْ تُحْرَق بالنار أحَبُّ إلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ باللَّهِ، وأنْ تُحِبَّ غَيْر ذِي نَسَب لا تُحِبُّه إلا للَّه عز وجل، فإذا كنتَ كذَلِك، فَقْد دَخَل حُبُّ الإيمانِ في قَلْبِك، كما دَخَل حُبُّ المَاء قلبَ الظمآن في الْيَوْمِ القَائِظِ". قلت: يا رسول اللَّه، كيف لي بأن أعلمَ أنِّي مُؤمن؟ قال:"ما من أمَّتي أو هذه الأمة عبدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً، فيَعْلَمُ أنّها حَسَنةٌ، وأن اللَّه عز وجل جازيه بها خيرًا، ولَا يعْمَلُ سَيِّئَةً فَيْعلَم أنّها سَيِّئة، ويستغفر اللَّه عز وجل منها، وَيعلَم أنّه لَا يغْفِرُ إلّا هُوَ، إلا وَهُوَ مؤْمِن" تفرّد به أحمد

(5)

.

(1)

"الأهوال"(85).

(2)

أي ضم في بطن الأرض بتلك الريح. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} أي ضامة، تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها.

(3)

أي جَدْبًا.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(83) وأحمد في المسند (4/ 12) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (4/ 11 - 12) وإسناده ضعيف.

ص: 193

‌حديث أبي رزين في البعث والنشور

أخبرني شيخُنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المِزِّيّ، تغمّده اللَّه برحمته، وغيرُ واحدٍ من المشايخ، قراءةً عليهم وأنا أسمع، قالوا: أخبرنا فخرُ الدين عليّ بن عبد الواحد، ابن البخاريّ، وغيرُ واحدٍ، قالوا: أخبرنا حنبل بن عبد اللَّه المكبِّر، أخبرنا أبو القاسم هبةُ اللَّه بن الحُصَين الشيبانيّ، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي ابن المُذْهِب التميميّ، أخبرنا أبو بكر، أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعيّ، أخبرنا عبد اللَّه ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في "مُسند أبيه"، قال: كتب إليّ إبراهيمُ بنُ حمزة بن محمد بن حمزة بن مُصْعَب بن الزُّبَيْر الزُّبَيْرِيّ: كتبتُ إلَيكَ بهذا الحديث، وقد عَرَضْتُهُ، وسمعته على ما كتبتُ به إليكَ، فحدِّث بذلك عنِّي، قال: حدثني عبد الرحمن بن المُغيرة الحِزامي، قال: حدّثني عبد الرحمن بن عيّاش السَّمعي الأنْصارِيّ القُبَائِيّ، من بني عمرو بن عَوف، عن دَلْهَم بنِ الأَسْودِ بن عبد اللَّه بن حاجب بن عامر بن المُنْتَفِق العُقَيْلِيّ، عن أبيه، عن عمّه لَقِيطِ بن عامر، قال دَلْهَم: وحدّثنيه أبي الأسودُ، عن عاصم بن لَقِيط، أنّ لَقِيطًا خرج وافدًا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبٌ له، يقال له: نَهِيك بن عاصم بن مالك بن المُنْتَفِق، قال لقيط: فخرجتُ أنا وصاحبي حتّى قَدِمْنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم[لانسلاخ رجب، فأتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوافيناه]

(1)

حين انصرف من صلاة الغَدَاةِ، فقام في الناس خطيبًا فقال:"أيُّها الناس، ألَا إني قَدْ خَبأْتُ لَكُمْ صَوْتِي منذ أَرْبعَةِ أيام، ألَا لأُسمِعَنَّكُمْ، ألَا فَهَلْ مِن امْرئٍ بعَثَهُ قَوْمُه؟ " فقالوا: اعلمْ لنَا ما يَقُولُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، "ألَا ثُمَّ لَعلّه أن يُلْهِيَهُ حَدِيثُ نَفْسِه، أو حديث صَاحِبه، أو يُلْهيه الضّلال، ألَا إني مسؤول: هلْ بَلَّغْتَ؟ ألا اسْمَعُوا تعيشوا، ألَا اجْلِسُوا، ألَا اجْلسُوا"، قال: فجلس الناس، وقُمْتُ أنا وصاحبي، حتَّى إذَا فَرَغ لنَا فُؤادُه وبَصَرُه. قلت: يا رسول اللَّه، ما عِنْدَكَ مِنْ عِلْم الغَيْبِ؟ فضحك لَعَمْرُ اللَّه، وهَزْ رَأسَهُ، وعلم أني أبْتَغي لِسَقْطِهِ، فقال:"ضَنَّ رَبُّك عز وجل بمفاتيح خَمْسٍ مِنَ الغَيْب، لَا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ"، وأشار بيَدهِ، قلت: وما هن؟ قال: "عِلْمُ المَنيَّةِ، قد علم متى مَنِيَّةُ أحدكم، ولا تعلمونه، وعِلمُ المنيّ حِينَ يكونُ في الرَّحِم قَدْ علِمَه ولا تعلمون، وعِلمُ ما في غد وما أنت طَاعِمٌ غدًا، ولا تعلمه، وعِلْمُ يومِ الغَيْثِ يُشْرِفُ عليكم آزِلِينَ

(2)

مُسنتين، فَيظَلُّ يَضْحَك قد علم أنّ غَيْرَكُمْ

(3)

إلى قَريبٍ".

قال لقيط: قلت: لن نَعْدَمَ من ربٍّ يَضْحَكُ خيرًا، "وعِلْمُ يَوْمِ الساعة". قلت: يا رسول اللَّه، عَلِّمْنَا مِمّا تُعَلِّم النَّاسَ، وَمَا تَعْلَم، فإنّا مِنْ قَبِيلٍ لَا يُصَدِّقُونَ تصديقنا أَحَدٌ مِنْ مذْحِجٍ التي

(1)

ما بين الحاصرتين تكملة من "مسند الإمام أحمد".

(2)

آزلين، أي في شدةٍ وضيق. ومُسنتين: أي أصابتهم السنة وهو القحط.

(3)

أي غيئكم وسقياكم بالمطر.

ص: 194

تربو

(1)

عَلَيْنَا، وَخَثْعَم التي تُوالينا

(2)

، وَعَشِيرَتِنا التي نَحْنُ منها، قال: "تَلْبَثُونَ ما لَبِثْتُمْ ثم يُتوفى نَبِيّكم، ثم تَلْبَثُونَ ما لَبِثْتُم، ثم تُبْعَثُ الصَّائِحَةُ، لَعَمْرُ إلهِكَ ما تَدَعُ على ظَهْرِهَا مِنْ شَيْءٍ إلّا ماتَ، والملائكةُ الذين مع ربك عز وجل، فأصبْحَ رَبُّك عز وجل يطوف في البلاد وخَلَتْ عَلَيْه البلاد، فأرسلَ ربُّك عز وجل السماءَ، تَهْضِبُ

(3)

مِنْ عِنْد العرش، فلَعَمْرُ إلهك ما تدعُ على ظهرها من مَصْرَع قتيل، ولا مَدْفَنِ مَيِّت إلّا شَقَّت القَبْر عنهُ حَتّى تُخْلِفَه

(4)

مِنْ عند رأسه، فيستوي جالسًا، يقول ربك: مَهْيَمْ

(5)

لما كان فيه، فيقول: يا رب، أمسِ، اليومَ، فلِعهده بالحياة يَحْسَبُه حَدِيثًا بأهْلِه"، فقلت: يا رسول اللَّه كيف يَجْمَعُنا بعد ما تُمَزِّقُنا الرياحُ، والبِلَى، والسِّباعُ؟ قال: "أُنبِّئُك بمثل ذلك في آلاء اللَّهِ، الأَرْضُ أَشْرَفْتَ عَلَيْها وهي مَدَرةٌ

(6)

باليةٌ، فقلت: لا تحيا أبدًا، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء، فلم تَلْبَثْ عليك إلّا أيامًا حَتّى أَشْرَفْتَ عَلْيها، وهي شَربة واحدة، ولعمر إلهك لَهُو أَقْدَرُ على أَنْ يَجْمَعكُمْ من الماء، على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأَصْوَاءِ

(7)

ومِن مصارعكم، فتنظرون إليه، ويَنْظُرُ إليكم".

قال: قلت: يا رسول اللَّه، كيف ونحن مِلْءُ الأرض، وهو شخص واحد يَنْظُر إلينا، ونَنْظُر إِلَيْه؟ قال: "أنبِّئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه عز وجل؟ الشمس، والقمر، آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعةً واحدةً، لا تضامون

(8)

في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: "تُعْرَضُون عليه باديةً له صَفَحَاتكُمْ، لا تَخْفَى عليه منكم خافية، فيأْخُذُ ربُّك عز وجل بيده غَرْفةً من الماءَ، فيَنْضَحُ قَبِيلَكُمْ بها، فلعَمْرُ إلهك ما تُخطئ وَجْهَ أحدكم منها قطرة، فأما المؤمن فتَدَعُ وَجْهَهُ، مِثْل الرَّيْطَةِ

(9)

البَيْضَاءِ، وأما الكافِرُ فتَخْطِمُه

(10)

بمثل الحُمَم

(11)

الأسود، أَلا ثُمَّ ينصرف نَبِيُّكم، وينصرف الصالحون على أثَرِه، فتسلكون جِسْرًا من النار، فيَطَأُ أحَدُكُم الجَمْرَ ويقول: حَسّ

(12)

فيقول ربك عز وجل: أَوَانُهُ.

(1)

أي ترتفع.

(2)

أي تجاورنا.

(3)

أي تمطر.

(4)

أي تحييه.

(5)

كلمة استفهام، معناها: ما حالك وما شأنك.

(6)

المدرة: قطعة الحجر.

(7)

أي القبور.

(8)

أي لا يحصل لكم ضيم.

(9)

كل ملاءة غير ذات لِفْقَيْنِ.

(10)

أي تصيب أنفه.

(11)

في "مسند الإمام أحمد": "بمثل الحميم" والحمم: مفردها الحممة، وهي الفحمة. "النهاية"(1/ 444).

(12)

حَسّ: صوت التوجع من ألم الجمرة حين وطئها.

ص: 195

[ألا] فتَطَّلِعُون

(1)

على حَوْض الرسول على أظمإِ -واللَّه- ناهِلةٍ

(2)

قطُّ رأيتها، فلعَمْرُ إلهك ما يَبْسطُ واحدٌ مِنْكُم يَدَه إلا وقع عليها قَدَحٌ يُطهِّرُهُ مِنَ الطَّوْف

(3)

والبَوْل والأذَى، وتُحْبَسُ الشَّمْسُ والقَمَرُ ولا ترون منهما واحدًا"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، فبم نُبْصِر؟ قال: "بمثلِ بصركَ ساعتَك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقَتْ فِيه الأرْضُ وواجَهَتْه الجبَالُ".

قال: قلت: يا رسول اللَّه، فبم نُجْزَى مِنْ سيئاتِنا، وحَسنَاتِنَا؟ قال:"الحَسَنَةُ بِعَشر أمثالها، والسيئةُ بمثلها، إلا أنْ يَعْفُوَ" قال: قلت: يا رسول اللَّه، ما الجنة؟ وما النار؟ قال:"لَعَمْرُ إلهك إن للنار لَسَبْعَةَ أبواب، ما مِنْهن بابان إلا يَسِيرُ الراكب بينهما سبعين عامًا، وإن للجنة لثمانية أبواب، ما مِنْهُنَّ بابَان إلا يسيرُ الراكب بينهما سبْعين عامًا"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، فعلامَ نطَّلِع من الجَنّة؟ قال:"على أنْهَارٍ منْ عَسَلٍ مُصَفّى، وَأَنْهارٍ مِنْ كَأْسٍ ما بِهَا مِنْ صُدَاعٍ، وَلا نَدامَةٍ، وأنهارٍ من لَبَن لم يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وفاكهةٍ لَعَمْرُ إلهك ما تَعْلَمُون، وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ مَعَه، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ" قلت: يا رسول اللَّه، ولنا فيها أزواج؟ أوَ مِنْهُنّ مُصْلِحَاتٌ، قال:"الصالحاتُ للصالحين، تَلَذُّونَهُن مِثْل لَذاتِكُمْ في الدُّنيا وَيَلْذَذْن بكم، غير أنْ لا توالُدَ".

قال لقيط: فقلت: يا رسول اللَّه أقصى ما نحنُ بالغونَ ومُنْتهون إليه؟ فلم يجبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول اللَّه، علامَ أُبَايِعُكَ؟ فبسط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده، وقال: "على إقام الصَّلاة، وإيتاءِ الزَّكاة، وزِيالِ المشْركِ

(4)

، وألّا تُشْرِك باللَّه غيرَه".

قال: قالت: وإنَّ لَنَا مَا بَيْنَ المشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وبسط أصابعه، وظَنّ أنِّي مُشْترط شيئًا لا يُعْطِينِيهِ، قال: قلت: نَحِلُّ مِنْها حَيْثُ شِئْنا، ولا يجْني على امْرئٍ إلا نَفْسُهُ، فبسط يده وقال:"ذلك لك، تَحِلّ حَيْثُ شِئْتَ، ولا يَجْنِي عَليكَ إلَّا نَفْسُك"، قال: فانصرفنا، فقال:"إنَّ هذين لَعَمْرُ إلهك مِنْ أتقى الناس في الأولى والأخرى"، فقال له كعبُ بنُ الخُداريَّة، أحدُ بني بَكْر بن كِلاب: مَنْ هم يا رسول اللَّه؟ قال: "بنو المنتفق أهل ذلك" قال: فانصرفنا، وأقبلتُ عليه، فقلت:"يا رسول اللَّه، هل لأحَدٍ مِمَّن مضى خيرٌ في جَاهِلِيَّتِهمْ؟ ".

قال: فقال رجل من عُرْضِ

(5)

قرَيْشٍ: واللَّه إن أباك المنتفق لفِي النارِ، قال: فلكأنَّهُ وقع حَرٌّ بَيْن جِلْدِي وَوَجْهِي ولَحْمِي مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهَمَمْتُ أن أقول: وأبوك يا رسول اللَّه، ثم إذا الأخرى أجْمَلُ، فقلت: يا رسول اللَّه، وأهلك؟ قال: "وأهلي، لَعَمْرُ اللَّه ما أتَيْتَ عليه من قَبْر

(1)

ما بين الحاصرتين مستدرك من "مسند الإمام أحمد" لإكمال معنى الكلام.

(2)

الناهلة: الذاهبة إلى المنهل للشرب.

(3)

أي من الخائط.

(4)

أي مفارقته.

(5)

أي من عامة قريش، وليس من خاصتهم.

ص: 196

عامِريّ، أو قُرَشيّ من مُشركٍ، فَقُلْ: أرْسَلنِي إلَيْك مُحَمد فأُبَشِّرُك بما يَسُوءُك: تُجَرّ على وجهك وبَطْنِك في النَّار".

قال: قلت: يا رسول اللَّه، ما فَعل بهم ذلك؟ وقد كانوا على عَمَل لا يُحْسِنُون إلَّا إيَّاه، وقد كانوا يحسَبون أنهم مصلِحون؟ قال:"ذلك بأن اللَّه بعث في آخر كل سَبْع أممٍ" يعني نبيًّا "فمن عصى نَبِيَّه كان من الضالِّين، ومن أطاع نبيَّه كان من الْمُهتدين".

وقد رواه أبو داود في رواية أبي سعيد بن الأعرابي، عن أبي داود، عن الحسن بن علي، عن إبراهيم بن حمزة، به، قال شيخنا: لعله من زيادات ابن الأعرابي

(1)

.

وقال الوليد بن مسلم وقد جمع أحاديثَ وآثارًا في مجلد تشهد لحديث الصور في مُتَفّرقاته: أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، في قوله:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (4)} [ق] قال: ملَك قائم على صخرة بيت المقدس، ينادي: أيَّتُها العظامُ البالية، والأوصال المُتَقَطِّعة، إنّ اللَّه يَأْمُرُكُنَّ أن تَجْتَمعن لفَصْل القَضاءِ.

وبه عن قتادة قال: لا يُفَتَّرُ عن أهل القبور عَذابُ القَبْر إلا فيما بَيْنَ نفخة الصعق، ونفخة البعث، فلذلك يقول الكافر حين يُبَعثُ:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} يعني تلك الفترة، فيقول له المؤمن:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} [يس]

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنى علي بن الحسين بن أبي مريم، عن محمد بن الحسين، حدثني صَدَقةُ بن بكر السعدي، حدثني معدي بن سُلَيمان، قال: كان أبو مُحَلِّم

(3)

الجَسْري يجتمع إليه إخوانُه، وكان حكيمًا، وكان إذا تلا هذه الآية:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} [يس] بكى، ثم قال: إن في القيامة لمعاريض، صفة ذهبت فظاعَتُها بأوهام العقول، أما واللَّه لَئِن كان القومُ في رَقْدَةٍ مثل ظاهرِ قولهم، لمَا دَعَوْا بالوَيْل عند أول وَهْلَةٍ مِنْ بَعْثِهِم، ولم يُوقَفوا بَعْدُ مَوْقِف عَرْضٍ، ولا مُسَاءَلةٍ، إِلّا وَقَدْ عَايَنُوا خَطرًا عَظِيمًا، وحُقِّقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها، ولَئِنْ كانُوا في طُوْل الإقامةِ في البَرْزَخ كانوا يَأْلَمُونَ وَيُعَذَّبون في قبورهم، فما دَعَوْا بالويل عند انقطاع ذلك عنهم إلا وقد نُقِلُوا إلى طَامَّةٍ هي أعظمُ مِنْه، ولولا أن الأمر على ذلك، لما استصغر القوم ما كانوا فيه فسَمَّوهُ رُقادًا، بالنسبة

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 13 - 14) وأبو داود رقم (6266) وهو حديث ضعيف مسلسل بالمجاهيل بطوله، ولبعضه شواهد.

(2)

"الأهوال"(89).

(3)

في الأصول: أبو محكم، وهو خطأ.

ص: 197

إلى ما يستقبلون من أهوال يوم القيامة، كما يقال: هذا الشيء عند هذا الشيء رقادًا، وإن كان في الأول شدائد وأهوال، لكنَّه بالنسبة إلى ما هو أشد منه وأدهى وأمرُّ كأنه رقاد، وإن في القرآن لَدلِيلًا على ذلك، حين يقول:{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)} [النازعات] قال: ثم يَبْكي حتى يَبلّ لِحْيَتَه

(1)

.

وقال الوليد بن مسلم: حدثني عبد اللَّه بن العلاء، حدثني بُسر بن عُبيد اللَّه الحَضْرمي: سمعت أبا إدريس الْخَولَانِيَّ يقول: اجتمع الناسُ إلى سائع بينَ العراق والشام في الجاهِليَّة، فقام فيهم، فقال: أيُّها الناسُ، إنكم مَيّتون ثم مَبْعوثون إلى الإدانة والحساب، فقام رجل، فقال: واللَّه لقد رأيتُ رجُلًا لا يَبْعَثُه اللَّهُ أبدًا، رأيته وقع عن راحِلَتِه في مَوْسمٍ من مواسم العرب، فَوطِئَتْهُ الإِبلُ بأَخْفَافها، والدَّوابُّ بحوَافرِها، والرجّالَةُ بأرْجُلِها، حتى رمَّ فلم يبق منه أُنْمُلَةٌ، فقال السائح: بَيْد أنّك من قوم سَخِيفةٍ أحلامُهم، ضعيفٍ يقينُهم، قليلٍ عِلْمُهُمْ، لو أَنَّ الضَّبُعَ بَيَّتت

(2)

تلك الرِّمةَ فأكلتها، ثم ثلطتْهَا

(3)

ثم غدت عليه الناب

(4)

فأكَلَتْهُ وَبَعَرَتْهُ، ثم غدت عليه الجَلَّالَةُ فالْتَقَطته، ثم أَوقَدَتْه تَحْتَ قِدْرِ أَهْلِهَا، ثم نَسَفَتِ الرِّياحُ رَمَادَهُ، لأَمرَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كُلَّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَرُدَّهُ فَردَّهُ، ثم بعثه اللَّه للإدانة والثواب

(5)

.

وقال الوليد بن مسلم: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر؛ أن شيخًا من شيوخ الجاهلية القُسَاةِ قال: يا محمد، ثَلَاثٌ بَلَغني أَنَّكَ تَقُولُهُنّ، لا يَنْبغي لذي عَقل أنْ يُصَدِّقك فِيهنَّ؛ بلغني أنك تقولُ: إن العربَ تاركةٌ ما كانت تَعْبُدُ هي وآباؤها، وإنا سنظهر على كُنوز كِسْرَى وقَيْصَرَ، وإنَّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ أَنْ نَرِمَّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَجْل، والذي نَفْسي بيده، لَتَترُكَنَّ العرَبُ ما كانت تَعْبُد هي وآباؤُهَا، وَلتَظهَرنّ على كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَر، وَلتَمُوتَن ثم لتُبْعثَن، ثُمّ لآخُذن بِيَدِكَ يَوْمَ القِيَامة فلأذَكِّرَنَّكَ مَقَالَتكَ هَذِه" قال: وَلا تَضِلَّنِي في الْمَوتَى، وَلَا تَنْسَانِي؟ قال:"ولا أَضِلُّكَ في الْمَوتَى، ولا أَنْساكَ" قال: فبقي ذلك الشيخُ حتى قُبِضَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورأى ظهور المسلمين على كنوز كِسْرى وقَيْصر، فأسْلم، وحَسُن إسلامُه، وكان كثيرًا ما يسمع عُمَرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه نحيبه وبكاءه في مسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لإعظامه ما كان واجهَ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان عُمر يأتيه، وَيُسَكِّن منه، ويقول له: قد أسلمتَ، ووعدكَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بيدك، ولا يأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيد أحدٍ إلا أفْلَح وسعد إن شاءَ اللَّهُ

(6)

.

(1)

رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في "الأهوال"(88).

(2)

أي أتت عليها ليلا.

(3)

أي أخرجتها غائطًا بعد هضمها.

(4)

الناقة الهرمة التي طال نابها.

(5)

"الأهوال"(92).

(6)

"الأهوال"(91) وهو مرسل.

ص: 198

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدثنا فُضَيْل بن عبد الوهاب، أخبرنا هُشَيم، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر، قال: جاء العاصُ بنُ وائلٍ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ حَائِلٍ

(1)

، ففَتَّهُ، وقال: يا محمد، أيبْعَثُ اللَّهُ هذا؟ قال:"نعم، يُمِيتُك اللَّهُ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُك نار جَهَنَّمَ" فنَزلَتْ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس]

(2)

.

وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62] قال: خَلْقُ آدَمَ وخَلْقُكُم {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)} [الواقعة] قال: فهلَّا تُصَدِّقون

(3)

؟

وعن أبي جعفر البافر، قال: كان يقال: عجبًا لمن يكذب بالنشأة الآخرة، وهو يرى النشأة الأولى، يا عجبًا كل العجب لِمَنْ يُكَذِّبُ بالنّشر بعد الموت، وَهُو يُنشر في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. رواه ابن أبي الدنيا

(4)

.

وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] قال: إعادته أهْوَنُ عليه من ابتدائه، وكُلٌّ عليه يسيرٌ. رواه ابن أبي الدُّنيا

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزّاق، حدّثنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه تعالى: كَذَّبَنِي عَبْدِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمنِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِك، أَمّا تَكْذِيبُه إِيّايَ فَقولُه: لن يُعيدني كمَا بَدَأَني. وَأَمّا شَتْمُهُ إِيّايَ فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ الّذِي لَم يلِد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحَدٌ" وهو ثابت في "الصحيحين"

(6)

.

وفيهما قصة الذي عهد إلى بنيه إذا مات أن يَحْرِقُوه، ثم يَذْرُوا يوم ريح نِصْف رَمَادِهِ في البَرِّ، وَيصْفَهُ في البَحْرِ، وقال: وَاللَّهِ لَئِن قَدَرَ اللَّهُ عَلَي لَيُعَذبَنِّي عَذَابًا لَا يُعَذّبُه أحدًا مِن العَالَمِين. وذلك أنه لم يَدَّخر له عند اللَّه حَسنةً واحدةً. فلَمّا مات فَعل به بَنُوهُ ما أمرهم به، فأمر اللَّه البَرَّ، فجَمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو رجلٌ قائمٌ بين يدي ربِّه. فقال له: مَا حَملكَ

(1)

بال رميم.

(2)

"الأهوال"(90) والطبري مرسلًا، ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 429) من طريق هشيم به مسندًا وصححه.

(3)

"الأهوال"(95).

(4)

"الأهوال"(96).

(5)

"الأهوال"(97).

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 317) والبخاري رقم (4975).

ص: 199

على هذا؟ قال: خشْيَتُك وَأَنْتَ أعْلَمُ. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فما تَلَافاهُ أَنْ غَفَرَ لَه

(1)

"

(2)

.

وعن صالح المُرِّي قال: دَخَلتُ المقابرَ نِصْفَ النهار، فنظرتُ إلى القبور كأنّهُمْ قوم صُمُوتٌ. فقلت: سُبحانَ مَنْ يُحْييكُم وَيَنْشُركُمْ مِنْ بَعْد طُول البِلَى، فهَتفَ بي هاتفٌ من بَعْضِ تِلكَ الحُفَرِ: يا صالح {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم] قال: فخَرَرْتُ وَاللَّهِ مَغْشِيًّا عَلَيّ.

‌ذكر أسماء يوم القيامة

قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة": يوم القيامة، وما أدراك ما يومُ القيامة؟ يَومُ الحَسْرةِ والندامة، يوم يَجد كُل عَاملٍ عَمَلَهُ أمامهُ، يوم الدَّمْدَمةِ، يوم الزّلزلة، يَوْمُ الصاعقة، يوم الواقعة، يوم الرَّاجفة، يوم الواجفة، يوم الرَّادفة، يوم الغاشية، يوم الدَّاهية، يوم الآزفة، يوم الحاقة، يوم الطامة، يَوْمُ الصاخّة، يوم التَّلاق، يوم الفراق، يوم المساق، يوم الإشفاق، يوم الإشتاق، يوم القِصَاص، يوم لاتَ حينَ مَناصٍ، يوم التَّنادِ، يوم الأَشْهاد، يوم المَعادِ، يوم المِرْصادِ، يوم المساءلة، يومُ المناقشة، يوم الحساب، يوم المآب، يوم العذاب، يوم الثواب، يوم الفرار لو وُجِدَ الفرار، يوم القَرارِ إمّا في الجنة وإما في النار، يومُ القضاء، يوم الجزاء، يوم البُكَاء، يوم البَلَاء، يوم تَمُورُ السَّماءِ مَوْرًا وتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا، يَومُ الحَشْرِ، يومُ النّشر، يوم الجَمْع، يوم البَعْث، يوم العَرْض، يوم الوَزْن، يومُ الحَق، يومُ الحُكْم، يوم الفَصْل، يَومٌ عَقِيمٌ، يوم عَسِيرٌ، يَوْم قَمْطَرِير

(3)

، يَوْمٌ عَصِيبٌ، يومُ النُّشُور، يومُ المَصِير، يومُ الدِّين، يومُ اليَقِين، يومُ النَّفْخَةِ، يومُ الصَّيْحَةِ، يوم الرَّجْفةِ، يوم السَّكْرةِ، يوم الرَّجَّة، يَومُ الفَزَعِ، يومُ الجَزَع، يومُ القَلَق، يومُ الفَرَق، يوم العَرَق، يَوْمُ المِيقَاتِ، يَوْم تَخْرُج الأمواتُ وَتَظْهَرُ العَوْراتُ، يومُ الانْشِقَاقِ، يومُ الانْكِدَارِ، يومُ الانْفِطَار، يومُ الانتشار، يومُ الافْتِقار، يوم الوقوف، يومُ الخُروج، يومُ الانْصِدَاع، يومُ الانقطاع، يومٌ معلومٌ، يومٌ مَوْعُودٌ، يَوْمٌ مَشْهُودٌ، يَوْم تُبْلَى السرائر، يوم يظهر ما في الضَّمائِر، {يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19] يومٌ يُدْعَى فيه إلى النار، يوم لا سجن إلا النار، يَوْلم تَتَقَلّبُ فيه القلوب والأبصار، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر]، يوم تُقَلّب فيه الوجوهُ في النار، يوم البُرُوزِ، يومُ الورود، يومُ الصُّدُور من القبور إلى اللَّه، يومُ لا ينفَعُ مال ولا بنون، يوم لا تنفع المعذرة، يومٌ لا يُرتَجَى فِيه إلَّا المَغْفرة.

(1)

انظر ما قاله الحافظ ابن حجر حول معناه في "الفتح"(11/ 315).

(2)

رواه البخاري (3452) ومسلم (2756).

(3)

القمطرير: الشديد.

ص: 200

قال: وأهولُ أسمائه، وأبشع ألقابه: يومُ الخلود، وما أدراك ما يومُ الخلود، يوم لا انقطاع لِعقَابِه، ولا يُكْشَفُ فيه عن كَافرٍ ما بِهِ، فنعوذُ باللَّه، ثم نعوذ باللَّه من غضبه وعقابه وبلائه، وسوء قضائه، برحمته وكرمه وجوده وإحسانه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.

‌ذكر أن يوم القيامة، هو يوم النفخ في الصور لبعث الأجساد من قبورها، وأن ذلك يكون في يوم الجمعة

وقد ورد في ذلك أحاديث. قال الإمام مالك بن أنس، عن يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلعَتْ فِيه الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيه خُلقَ آدَمُ، وفِيهِ أُهْبِطَ، وفيه تِيب عليه، وفيه مات، وفيه تقومُ الساعة، وما من دابّة إلّا وهي مُصِيخَةٌ

(1)

يوم الجمعة من حين تُصبحُ حتّى تَطْلُعَ الشمس، شَفقًا مِنَ السَّاعَةِ، إلّا الجنّ، والإنس، وفيها ساعة لا يُصَادِفُها عَبْدٌ مسلم، وهو يصَلّي يَسْألُ اللَّه شيئًا إلّا أعطاه إياه". ورواه أبو داود واللفظ له، والترمذيّ من حديث مالك، وأخرجه النسائيّ عن قُتَيْبَةَ، عن بكر بن مُضر، عن ابن الهاد، به نَحوه وهو أتم

(2)

.

وقد روى الطبرانيُّ في "مُعْجَمه الكبير" من طريق آدم بن عليّ، عن ابن عمر مرفوعًا:"ولا تَقُومُ الساعَةُ إلّا في الأذانِ" قال الطبراني: يعني أذانَ الفَجْرِ يوم الجمعة.

وقال الإمام محمد بن إدريسَ الشافعيّ في "مُسْنَدِه": حدّثنا إبراهيمُ بن محمد، حدثني موسى بن عُبَيْدة، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبيد اللَّه بن عُمَيْر: أنّه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبريلُ بمرآةٍ بَيْضَاءَ فيها نُكْتَةٌ سوداء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النبي:"ما هذه؟ " قال: "هذه الجُمُعَة فُضِّلْتَ بِهَا أنْتَ وأُمَّتُكَ، فالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ، اليَهُودُ، والنصارى، ولكم فيها خَيْرٌ، وفيها ساعةٌ لا يُوافقُها عَبْدٌ مُؤْمِن يدعو اللَّه بخَيرٍ إلا استُجيبَ له، وهو عندنا يومُ المَزِيد". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل وما يومُ المَزِيد؟ " فقال: "إنّ رَبَّك اتَّخذَ في الفِرْدَوْسِ وَادِيًا أفْيَحَ

(3)

فيه كثُبُ المِسْك، فإذا كانَ يومُ الجُمعة أنْزَل اللَّهُ ما شَاءَ مِنْ الملائكة، ونزل على كرسيِّه وحفَّ حَوْلَهُ مَنابِرَ مِنْ نُورٍ، عَليهَا مَقاعِدُ النّبِيِّينَ، وحَفَّ تِلْكَ المَنابِرَ بمَنابِرَ منْ ذهبٍ مُكَلَّلةٍ بالياقوتِ والزبرجد، عليها الشُّهَدَاءُ،

(1)

أي مصغية مستمعة.

(2)

"الموطأ"(1/ 108) وأبو داود رقم (1046) والترمذي (491) والنسائي (3/ 113 - 115) وهو حديث صحيح.

(3)

أَفْيَح، أي واسع.

ص: 201

والصّدِّيقُونَ، فجَلَسُوا مِنْ ورائهم، على تلك الكُثُب، فيقول اللَّه تعالى: أنا رَبُّكُمْ، قد صَدَقْتكم وعدي، فَسَلُوني أُعْطِكُمْ، فيقولون: رَبّنا، نسألك رِضوَانك، فيقول: قد رَضيتُ عنكم ولكم عليّ ما تَمنَّيْتُمْ، ولدَيَّ مَزِيدٌ، فهمْ يُحِبُّونَ يومَ الجُمُعة لما يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ من الخير، وهو اليومُ الذي استوى فيه رَبُّكُم على العرْشِ، وفيه خَلَقَ اللَّه آدمَ، وفيه تقوم الساعة.

ثم رواه الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد أيضًا: حدّثني أبو عِمْران إبراهيم بن الجَعْد، عن أنس شبيِهًا به، قال: وزاد فيه أشياءَ، قلت: وسيأتي ذِكرُ هذا الحديث إن شاء اللَّهُ تعالى في صِفَة الجَنَّةِ بِشَواهِده وأسانِيدِه، وباللَّه المُسْتعَان

(1)

.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدّثنا حُسَيْنُ بن علي الجُعْفِيّ، عن عبد الرحمن بن يزيدَ بن جابر، عن أبي الأشعث الصَّنْعانيّ، عن أوس بن أوس الثَّقَفيّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مِن أفضل أيّامكم يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه قُبِضَ، وفيه النَّفْخَةُ، وفيه الصَّعْقَةُ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم مَعْروضَةٌ عليّ" فقالوا: يا رسول اللَّه، وكيف تُعْرَض عليك صلاتنا وقد أرَمْتَ -يعني بَليتَ-؟ قال:"إنَّ اللَّه حَرّمَ على الأرض أنْ تَأْكُلَ أجْسادَ الأَنْبياءِ". ورواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث الحسين بن علي الجُعْفِيّ مثله، وفي رواية لابن ماجه: عن شدّاد بن أوس، بدل "أوس بن أوس" قال شيخنا: وذلك وَهْم

(2)

.

وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زُهيْر، يعني ابن محمد، عن عبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاريّ، عن أبي لُبَابة

(3)

بن عبد المُنْذِر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الأيّامِ يوم الجُمُعةِ، وأعظمُها عِنْدَهُ، وأعظمُ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل مِنْ يَوْم الفِطْر، ويَوْم الأَضْحَى، وفيه خمسُ خِلَال: خَلَق اللَّهُ فيه آدَم، وأهْبَطَ اللَّه فيه آدَم إلى الأرض، وفيه توفّى اللَّهُ آدَمَ، وفيه سَاعة لا يَسْأل العَبْدُ فِيهَا شيئًا إلّا آتاه اللَّهُ إيّاه، ما لم يَسْأَل حَرامًا، وفيه تقومُ الساعةُ، ما مِنْ ملَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا سَماءٍ، ولا أرْضٍ، ولا رياح، ولَا جِبَال، ولا بحر، إلا وهُنّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ". ورواه بن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، عن يحيى بن أبي بُكَيْرٍ، عن زهير، به

(4)

.

(1)

رواه الشافعي في مسنده (374 و 375) - "ترتيب مسند الإمام الشافعي"، ورواه أيضًا ابن أبي الدنيا، والطبراني في "الأوسط" رقم (6717) والبزار (3519)، وإسناده ضعيف، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 8) وأبو داود (1047) والنسائي (3/ 91 - 92) وابن ماجه (1636) و (1085) وهو حديث صحيح.

(3)

في الأصول: عن أبي أمامة، وهو خطأ.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 430) وابن ماجه (1084) وابن أبي شيبة (2/ 150) وهو حديث حسن.

ص: 202

وقد روى الطبرانيّ، عن ابن عمر مرفوعًا:"إنّ الساعةَ تَقُوم وَقْتَ الأذانِ لِلْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ".

وقد حكى أبو عبد اللَّه القُرْطبيُّ في "التذكرة": أن قيام الساعة يوم جمعةٍ للنصف من شهر رمضانَ. وهذا غريبٌ يحتاجُ إلى دليل.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدثنا أحمد بن كثير، حدّثنا قُرْط بن حُرَيْث؛ أبو سَهْل، عن رجلٍ من أصحاب الحسن، قال: قال الحسنُ: يومان وَلَيْلَتانِ لم يَسْمَعِ الخَلائِقُ بِمِثْلِهنّ قطُ، لَيْلَةٌ تبيتُ مع أهل القبور، ولم تَبِتْ لَيلةً قَبْلَها مثلها، وَليْلةٌ صَبِيحَتُها تُسْفِرُ عن يَوم القِيامة، وَيوم يَأْتِيك البَشِيرُ من اللَّه تعالى: إمّا بالجَنَّةِ وإمّا بالنار، ويومُ تُعْطى كِتَابك إمّا بِيَمينك، وإمّا بِشمالِك. وكذا رُوي عن عامر بن قَيْس، وهَرِم بن حَيَان، وغيرهما: أنّهم كانوا يستعظمون اليلة التي يُسْفِرُ صبيحتُها عَنْ يَوْم القِيَامةِ.

وقال ابن أبي الدُّنْيا: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير العَبْدِيّ، حدّثني محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مِغْوَل، عن جُنَيد، قال: بينما الحسن في يوم من رجبٍ في المسجد، وفي يده قُلَيْلَةٌ، وهُوَ يَمَصُّ ماءَها؛ ثمَّ يَمُجُّه في الحصا، إذ تَنَفّس تَنَفُّسًا شَديدًا، ثم بكى، حتّى أُرْعِدَ مَنْكِباهُ، ثمّ قال: لو أن بالقلوب حياة؟ لو أنّ بالقلوب صَلاحًا؟ لأبكيتكم من ليلةٍ صَبِيحَتُها يومُ القيامة، أي ليلة تمخَّضُ عَنْ صَبِيحَة يوم القيامة، ما سمع الخلائقُ بِيومٍ قَطُّ أكثرَ حزنًا ولا أكثر نادمًا ولا أكثر باكيًا، ولا أكثر متحسِّرًا من يوم القيامة.

‌ذِكر أن أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

-

قال مُسلم بن الحجّاج: حدثني الحكَمُ بن موسى، أبو صالح، حدثنا هِقْلٌ، يعني ابن زياد، عن الأوزاعيِّ، حدثني أبو عمّار، حدثني عبد اللَّه بن فَرُّوخ، حدثني أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول مَنْ يَنَشقّ عَنْهُ القَبْر، وأول شافِعٍ، وأول مُشَفّع"

(1)

.

وقال هُشَيْم، عن علي بِن زَيْد، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا سَيِّد ولد آدَم يومَ القيامة ولا فَخْر، وأنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَق عَنْهُ الأَرْضُ يَوْم القِيَامة ولا فَخْر، وأنَا أول شَافع يَوْمَ القِيامة ولا فَخْر"

(2)

.

(1)

رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2278).

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4358) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولكنه حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 203

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا حُجَيْن بن المُثنَّى، حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سَلمة، عن عبد اللَّه بن الفَضْل الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُنْفَخُ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه، ثم يُنفخ فيه أخرى، فأكونُ أَول مَنْ بُعِثَ، فإذا موسَى آخِذٌ بالعَرْش، فلا أدْرِي أَحُوسِبَ بصَعْقَتِهِ يَوْم الطُّورِ، أو بُعِثَ قَبْلِي؟ ". وهو في "الصحيح" بقريب من هذا السياق

(1)

.

والحديث في "صحيح مسلم": "أنا أوّل مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا

(2)

بِقَائِمةِ العَرْشِ، فلا أَدْرِي أَفاقَ قبلي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّور؟ "

(3)

. فذِكْرُ مُوسى في هذا السياق فيه نظر، ولعله من بعض الرواة، دَخَل عليه حديثٌ في حديث. فإن الترديد هاهنا فيه لا يظهر. لا سِيَّما قوله:"أم جُوزِي بَصَعْقة الطُّور".

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سُفْيانُ، هو ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرو، هو ابن دينار، عن عطاءٍ وابنِ جُدْعَانَ، عن سعيد بن المُسَيَّب، قال: كَانَ بين أبي بكر، وبين يَهُودِيّ مُنَازَعةٌ، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على البَشَر، فَلَطَمَه أبو بكر، فأتى اليهوديُّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا يَهُوديّ، أنا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، فأجِدُ مُوسَى مُتَعلِّقًا بِالْعَرْشِ، فلا أَدْرِي هَلْ كَانَ قَبْلِي، أَوْ جُوزِي بالصَّعْقَة". وهذا مرسل من هذا الوجه، والحديث في "الصحيحين"

(4)

من غير وجه، بألفاظ مختلفة، وفي بعضها

(5)

: أن اللاطم لهذا اليَهُودي إنما هو رجلٌ من الأنصار، لا الصدِّيقُ، فاللَّه أعلم.

ومن أحسنها سياقًا: "إذا كان يَوْمُ القِيَامة فإن النَّاس يَصْعَقُونَ، فأكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فأجِدُ مُوسى بَاطِشًا بِقَائِمةٍ مِنْ قَوائِم العَرْشِ، فلا أدْرِي أَصَعِقَ فأفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزي بَصعقة الطُّور"

(6)

، وهذا كما سيأتي بيانه يقتضي أن هذا الصَّعْقَ يكونُ في عَرَصَات القِيامةِ، وهو صَعْقٌ آخرُ غيرُ المذكور في القرآن، وكأنّ سَبَبَ هذا الصعق في هذا الحديث، يعني تَجَلِّي الرب

(1)

رواه بنحوه البخاري رقم (2411) من حديث أبي هريرة، وبنحوه رقم (2412) و (3398) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

أي متعلقًا بقوة.

(3)

انظر "صحيح مسلم" رقم (2278) ورقم (2373)(160) وانظر البخاري رقم (2411) و (3408) ورقم (6517) فالحديث ملفق من حديثين كما ذكر المؤلف رحمه الله.

(4)

انظر تخريج الحديث الذي قبله.

(5)

انظر "صحيح مسلم" رقم (2373)(159).

(6)

هو بمعنى الأحاديث التي قبله.

ص: 204

تعالى، إذا جاء لفَصْل القَضَاءِ فَيَصْعَقُ النَّاسُ كما خرَّ موسى صَعِقًا يوم الطُّور، واللَّه أعلم.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن الحسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كأَنِّي أَراني أَنْفُضُ رأْسىِ من التُّرابِ، فألتَفِتُ، فلا أرى أحدًا إلا مُوسى مُتَعَلِّقًا بالْعَرْش، فلا أدري أممن استَثْنى اللَّهُ أَلّا تُصيبهُ النَّفْخَةُ، أم بُعِثَ قبلي؟ ". وهذا مرسل أيضًا، وهو أضعف.

وقال الحافظ أبو بكر البَيهَقِي: حدثنا أبو عبد اللَّه الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصَّغَانيُّ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا موسى بن أعْين، عن مَعْمَر بن راشد، عن محمد بن عبد اللَّه ابن أبي يعقوب، عن بشر بن شَغَاف، عن عبد اللَّه بن سَلَام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا سَيِّدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع ومشفَّع، بيدي لواء الحمد، تحتي آدم، فمن دُونَه". لم يخرجوه، وإسناده لا بأس به.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبو سلمةَ المَخْزُومي، حدثنا عبد اللَّه بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد اللَّه. وقال غير أبي سلمة: عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أولُ مَنْ تَنْشَقِ عنه الأرضُ، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم أذْهَبُ إلى أهل البَقِيع، فَيُحْشَرونُ مَعِي ثم أنْتظرُ أهْلَ مكَّةَ فيُحْشَرون معي، فأُحْشَرُ بين الحَرَمَيْن"

(1)

.

وقال أيضًا: حدثنا الحكمُ بن موسى، حدثنا سعيدُ بن مَسْلَمة، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وهو مُتَّكِئٌ عليهما، قال:"هكذا نُبْعَثُ يَوْمَ القيامةِ"

(2)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدثني محمد بنُ الحُسَيْن، حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا الليثُ بن سَعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نُبيه بنِ وَهْب: أن كَعْب الأحبار قال: مَا مِنْ فَجْرٍ يطْلُعُ إلا نَزَل سَبْعُون ألْفًا من الملائكة، حتى يحفُّوا بالقَبْر، يضْربون بأجنِحَتهمْ، ويُصَلُّون على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أمسوا عَرَجُوا، وَهَبَط مِثْلُهُمْ فصَنَعُوا مِثْل ذلك، حتى إذا انشقت الأرضُ خرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفًا من الملائكة يُوقِّرونه صلى الله عليه وسلم.

وأخبرنا هارون بن عمر القرشي، حدثنا الوليد بنُ مسلم، حدثنا مروان بن سالم، عن

(1)

أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1527) من طريق ابن نافع، وضعفه بابن نافع وعاصم بن عمر.

(2)

ورواه الترمذي (3669) وابن ماجه (99) من طريق ابن مسلمة به، وهو حديث ضعيف.

ص: 205

يونس

(1)

بن سيف، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُحْشر الناس رِجالًا، وأُحشرُ راكبًا على البُراقِ، وبلال بَيْن يَدَيَّ على نَاقةٍ حمراءَ، فإذا بَلَغْنَا مَجْمَع الناس، نَادَى بلال بالأذان، فإذا قال: أشهدُ أن لا إله إلا اللَّهُ، أشهدُ أن محمدًا رسول اللَّه، صدّقه الأولُون والآخرون". وهذا مرسل من هذا الوجه.

‌ذكر بعث الناس حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا

(2)

، وذكر أول من يُكْسَى يومئذ من الناس

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّةُ، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عُروة، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يُبْعَثُ الناس يوم القِيامة حُفَاةً عُراةً غُرْلًا" قال: فقالت عائشة: يا رسول اللَّه، فكيف بالعَوْرَات؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:" {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس] ".

وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث حاتم بن أبي صغيرة، عن عبد اللَّه بن أبي مُلَيْكة، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة بنحوه

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شُعْبةُ، حدثنا المُغيرةُ بن النُّعْمان شَيْخٌ من النَّخَع، قال: سمعتُ سعيد بن جُبَير يحدِّث، قال: سمعتُ ابنَ عباس، قال: قام فينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال:"يا أَيُّها الناس، إنكم محشورون إلى اللَّه حُفَاةً عُراةً غُزلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء] ألا وإنّ أَوَّل الخَلْق يُكْسَى يَوْم القِيامة إبراهيمُ، وَإِنه سَيُجَاءَ بأُناسٍ مِنْ أُمَّتي، فيؤخذ بِهِمْ ذات الشمال فَلأَقُولَنَّ: أصحابي، فَلَيُقالنَّ لي: إنك لا تَدْرِي ما أَحْدَثوا بَعْدَك، فلأقُولَنَّ كما قال العَبْدُ الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117). . .} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة]، فيقال: إن هؤُلاءِ لم يزالوا مُرْتَدين على أعقابهم مُنْذُ فارقتَهُم" أخرجاه في "الصحيحين" من حديث شُعْبةَ.

ورواه أحمد، عن سفيان بن عيينةَ -وهو في "الصحيحين" من حديثه- عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، مرفوعًا:"إنكم محشورون إلى اللَّه عز وجل حُفَاةً عُراةً غُرْلًا".

ورواه البيهقي من حديث هلال بن خبَّاب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تُحْشَرُون حُفَاة عُراةً غُرلًا" فقالت زوجته: أَيَنْظُر بَعْضُنَا إلى عَوْرَة بعْضٍ؟ فقال:

(1)

في الأصول: يوسف.

(2)

جمع أغرل، وهو الأقلف الذي لم يختتن.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 89 - 90) والبخاري (6527) ومسلم (2859).

ص: 206

"يا فُلانةُ، لكُلِّ امْرئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شأْنٌ يُغنيه"

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر البَيْهقِيّ: حدّثنا أبو بكر أحمد بن الحَسن القاضي، وأبو سعيد محمد بن موسى، قالا: حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدُّوريّ، حدثنا مالك بنُ إسماعيل، حدّثنا عبد السلام بن حرب، عن أبي خالد الدَّالَانِيّ، عن المِنْهال بن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن أبي هريرة، قال: يُحْشَرُ الناسُ حُفَاةً عُراةً غُرلًا قيامًا أربعين سَنَة شَاخِصةً أبصارُهُمْ إلى السماء، قال: فيُلْجِمُهم العَرَقُ مِنْ شِدَّةِ الكَربِ، ثم يقال: اكسوا إبراهيمَ، فَيُكْسى قُبْطِيّتَيْنِ

(2)

مِن قَباطِيِّ الجَنَّةِ، قال: ثم ينادى لمُحمّد صلى الله عليه وسلم فيفجرُ له الحوض، وهو ما بين أيلة إلى مكة. قال: فيشربُ وَيغتَسِلُ، وقد تقطّعت أعناقُ الخلائق يَوْمئذٍ من العَطَش، قال: ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فأُكْسَى من حُلَلِ الجَنَّةِ فأَقُوم عن" -أو "على- يَمِين الكُرْسِيِّ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الخَلائِق يَقُومُ ذَلِك المَقَامَ يَوْمئذٍ غيري، فيُقال: سَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع"، فقام رجل، فقال: أتَرْجُو لِوَالدَيْك شيئًا؟ فقال: "إني شافع لهما، أُعْطِيتُ أو مُنِعتُ، ولا أرجو لهما شيئًا". قال البَيْهقِيّ: قد يكون هذا قبل نزول النهي عن الاستغفار للمشركين، والصلاة على المنافقين

(3)

.

وقال القُرطبيّ: وروى ابن المبارك، عن سُفيان، عن عمرو بن قيس، عن المِنْهال بن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عليّ قال: أوَّلُ مَنْ يُكْسَى الخَليل قُبطيتين، ثم محمد حُلَّةَ حِبَرَةٍ، عن يمين العرش

(4)

.

وقال أبو عبد اللَّه القُرطبيّ في كتاب "التذكرة": وروى أبو نُعَيْم الحافظ، يعني الأصبهانيّ، من حديث الأسود، وعَلْقَمةَ، وأبي وائل، عن عبد اللَّه بن مسعود، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إبراهيم عليه السلام، يقول اللَّه تعالى: اكسُوا خَلِيلِي، فُيؤتَى بِرَيْطَتَيْن

(5)

بَيْضَاوَيْن، فَيلبَسُهمَا، ثم يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ العَرْش، ثم أُوتَى بكُسْوَتِي، فألْبَسُها فأقومُ عن يمينه قيامًا لَا يقُومُه أحَدٌ غَيْرِي يَغْبِطُني فيه الأولون والآخِرون"

(6)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 253 و 223) والبخاري رقم (4625) و (6524) ومسلم (2860).

(2)

قبطيتين: تثنية قبطية: بضم القاف، نسبة إلى قبط مصر على غير قياس وقد تكسر، وهي ثياب مصرية، كانت مشهورة بجودتها وحسنها عند العرب، والمراد يلبس على هيئة القبطيَّتين من ثياب الجنة، أو يلبس ثوبين جميلين من ثياب الجنة.

(3)

وفي إسناده ضعف.

(4)

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(364 - زوائد نعيم).

(5)

الريطة: الملاءة.

(6)

رواه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 238 - 239).

ص: 207

قال القرطبيّ: وقال الحَلِيْمِي في "منهاج الدين" له: ورَوى عبَّاد بن كَثِيرٍ عن أبي الزُّبَيْرِ عن جابر قال: إنّ المؤذِّنِينَ والملبِّين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ، ويلَبِّي المُلَبِّي، وأوَّل مَنْ يُكْسَى مِنْ حُلَل الجَنَّةِ إبراهيمُ، ثم محمد، ثم النَّبِيُّونَ، ثم المُؤَذِّنُونَ. . . " وذَكَر تمامه

(1)

.

ثم شرع القُرْطُبيّ يذكر المناسبة في تقديم إبراهيمَ الخليل عليه السلام في الكسوة يومئذ: من ذلك أنه أوّل من لَبِس السَّرَاويِلَ مُبَالَغَةً في شدة الحياء والسِّتر، وأنّه جُرِّد يَوْم أُلْقِيَ في النَّارِ، واللَّه أعلم.

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أُوَيْس: حدّثني أبي، عن محمد بن أبي عَيّاش، عن عطاء بن يَسارٍ، عن سَوْدَةَ زَوْج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، قَدْ أَلْجَمَهُمُ العَرَقُ، فبَلَغ شُحُومَ الآذان"، قلت: يا رسول اللَّه واسوءتاه ينَظُر بَعْضُنا إلى بَعْض؟! قال: "يُشْغَلُ الناسُ عَنْ ذَلِك، لكلِّ امرئٍ مِنْهُمْ يَوْمئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ". إسناده جَيّد، وليس هو في "المُسنَد" ولا في الكتب

(2)

.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا سَعِيدُ بنُ سليْمان، عن عبد الحميد بن سليمان، حدّثني محمد بن أبي موسى، عن عطاء بن يسار، عن أُمّ سَلَمة، قالت: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُحْشَر النَّاسُ حُفَاةً عُراةً، كما بدؤوا" قالت أمّ سلَمة: يا رسول اللَّه، هل ينظُرُ بعضُنَا إلى بَعْض؟! قال:"شُغِلَ النَّاسُ"، قلت: وما شَغَلَهُمْ؟ قال: "نَشْرُ الصُّحُفِ فِيها مَثَاقِيلُ الذَّرّ، وَمَثاقِيلُ الخردَلِ"

(3)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدّثنا عمر بن شبَّة، حدّثنا الحُسين بن حَفْص، حدثنا سفيان، يعني الثوريّ، عن زُبَيدٍ، عن مُرَّةَ، عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم محشورون حُفَاةً عُراةً غُرلًا"، قال البزار: أحْسَبُ أن عمر بن شبة غَلِط فيه، فدخل عليه متن حديث في إسناد حديث، وإنما هذا الحديث عن سفيان الثَّوْرِيِّ، عن مُغِيرة بن النُّعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، قال: وليس لسفيان الثوري عن زُبَيدٍ، عن مرَّةَ، عن عبد اللَّه بن مسعود حديث مُسْنَدٌ، وهكذا رواه ابن أبي الدُّنيا، عن عمر بن شبَّة به، مثله، وزاد:"وأول مَنْ يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام"

(4)

.

(1)

وإسناده ضعيف.

(2)

ورواه الحاكم من طريق إسماعيل بن أبي أويس به في "المستدرك"(2/ 514 - 515) وصححه، ووافقه الذهبي.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(119) ورواه الطبراني في "الأوسط"(837) عن طريق سعيد بن سليمان به، وإسناده ضعيف.

(4)

رواه البزار رقم (3428 - كشف الأستار) وابن أبي الدنيا في "الأهوال"(118).

ص: 208

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبو عمارٍ الحُسينُ بن حُرَيْث، حدثنا الفضل بن موسى، عن عائذ بن شُرَيْح، عن أنس قال: سألتْ عائشةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، كيف يُحْشَرُ الرِّجالُ؟ فقال:"حُفَاة عُراةً" ثم انتظرت سَاعَةً، ثمّ قالت: يا رسول اللَّه، كيف يُحْشَرُ النِّسَاءُ؟ قال:"كذلك حُفَاةً عُراةً". قالت: واسوأتاه من يوم القيامة، قال:"وعن أيِّ ذلك تسألين؟ إنه قد نزلت عليَّ آيةٌ لَا يضرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثيابٌ أَمْ لا"، قالت: أي آيةٍ يا رسول اللَّه؟ قال: " {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37] "

(1)

.

وقال الحافظ أبو يَعْلَى الموْصِليّ: حدثنا رَوْحُ بن حاتم، حدثنا هُشَيْم، عن الكوثر، وهو ابن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ الناسُ كما وَلَدَتْهُمْ أُمَّهاتُهُمْ حُفَاةً عُراة غُرلًا" فقالت عائشة: والنساءُ بأَبِي أنْتَ وأُمِّي؟ فقال: "نعم" فقالت: واستوأتاه! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْ أيِّ شيْء عَجِبْت يَا بِنْتَ أَبِي بكر"؟ فقالت: عَجِبْتُ من حديثك: يُحْشَرُ الرِّجالُ والنِّساءُ حُفَاةً عُراة غُرلًا يَنْظُر بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، قال: فَضربَ على منكبِها، فقال: "يا بِنْتَ أبي قُحَافَةَ، شُغِلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّظر، وسمَوا بأبصارهم إلى السماء موقوفون أربعينَ سَنَة لا يأكلون، ولا يشربون، شاخصين بأبصارهم إلى السماء أرْبعينَ سنةً، فمنهم من يبلع العرقُ قَدَمَيْه، ومنهم من يبلغ ساقيه، ومنهم من يبلغ بَطْنَه، ومنهم من يُلْجِمُه العَرَقُ من طُول الوقوف، ثم يترحم اللَّه من بعد ذلك على العباد، فيأمر الملائكة المقرَّبين، فيحملون عرشه من السماوات إلى الأرض حتى يوضع عرشه في أرض بَيْضاءَ لم يُسْفَكْ عليها دم، ولم تُعْمل فيها خطيئة، كأنها الفِضَّةُ البَيْضَاءُ، ثم تقوم الملائكة حافِّين مِنْ حَوْل العَرْش، وذلك أوَّل يوم نظَرتْ فيه عين إلى اللَّه تعالى، فيأمرُ منادِيًا فينادِىِ بِصَوْتٍ يسمعُه الثَّقَلان الجِنُّ والإنس: أيْنَ فُلَانُ ابنُ فُلانِ، أين فُلَانُ ابنُ فُلانِ، فَيشْرَئِبُّ النَّاسُ لذلك الصوت، ويخرج ذلك المنادى من الموقف، فَيُعرّفُه اللَّهُ النَّاسَ، ثمَّ يقال: تُخْرَجُ مَعَهُ حَسناته، فُيَعرِّفُ اللَّهُ أهلَ الموقف تلْكَ الحَسَنَاتِ، فإذا وقف بين يدي ربّ العالمين، قيل: أيْنَ أصحابُ المظالم؟ فيجيؤون رَجُلًا رَجُلًا، فيقال له: أظَلَمْتَ فُلانًا كذَا وكذَا، فيقول: نعم، يا رَبّ، فذلك اليومُ الذي تَشْهَدُ عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وأَيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون، فتؤخَذُ حَسَناتُه، فُتدْفَعُ إلى مَنْ ظلمه، يوم لا دِينارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إلّا أَخْذٌ مِنَ الحَسَنَاتِ، ورَدٌّ من السَّيئات، فلا يزالُ أهل المظالم يَسْتَوْفُونَ مِن حَسَنَاتِه حَتّى لا تَبْقَى لَهُ حَسنَةٌ، ثم يقومُ مَنْ بقي، مِمَّنْ لم يأْخُذْ شَيْئًا، فيقولون: ما بَالُ غَيْرِنا استوفى، وبَقِينَا؟ فيقال لهم: لا تَعْجَلُوا، فيؤخذُ من سَيِّئاتهم فُترَدّ عليه، حتّى لا يبقى أحد ظَلَمَهُ بِمَظلِمَةٍ، فيُعَرِّفُ اللَّهُ أهلَ الموقف أجمعين ذلك، فإذا فرغ من حسابه قيل: ارجع إلى أُمِّكَ

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(116)، وإسناده ضعيف.

ص: 209

الهَاويةِ، فإنه لا ظُلْمَ اليوم، إنّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَاب، ولا يَبقى يومئذ مَلَكٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، ولَا صِدِّيقٌ، ولا شَهيدٌ، ولَا بَشرٌ، إلّا ظَنَّ بما رَأى من شِدّة الحساب أنّه لا يَنْجُو، إلّا منَ عَصمهُ اللَّهُ تعالى.

هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شاهد في "الصحيح"، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.

وقال الطبرانيُّ: ثنا الحسينُ بن إسحاقَ التُّستَريُّ، ثنا محمد بن أبانٍ الواسطيُّ، ثنا محمدُ بن الحسنِ المُزَنِيُّ، عن سعيدِ بنِ المَرْزُبان أبي سعدٍ، عن عطاء بن أبي رباح، عن الحسن بنِ عليٍّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيامَةِ حُفَاة عُرَاةً". فقالت امرأةٌ: يا رسول اللَّه، فكيفَ يرَى بعضُنا بعضًا؟ قال:"إِنَّ الأَبْصَارَ شَاخِصَةٌ". ورفع رأسَه إلى السماءِ، فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يستُرَ عَوْرَتِي. [قال]:"اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَهَا"

(1)

.

قال البيهقي: فأما الحديث الذي حدّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو محمد عبد اللَّه بن إسحاق ابن الخراسانيّ العَدْلُ، حدّثنا محمدُ بن الهيثَم القاضي، حدّثنا ابن أبي مَرْيم، حدّثنا يحيى بن أيُّوبَ، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سَلَمَة، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: أنّه لما حضره الموت دعا بثِيابٍ جُدُدٍ، فَلبِسَها، ثم قال: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ المسلمَ يُبْعَثُ في ثيابه التي يَمُوت فيها". فهذا حديث رواه أبو داود في كتاب "السنن"، عن الحسن بن عليّ، عن ابن أبي مريم

(2)

.

ثم شرع البيهقيّ يُجيب عن هذا الحديث لمعارضته الأحاديثَ المتقدّمة في بعث الناس حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، بثلاثةِ أجْوِبةٍ:

أحدها: أيُّها تَبْلى بعد قيامهم من قبورهم، فإذا وافَوُا الموقف يكونون عُرَاةً، ثم يُكْسَوْنَ منِ ثيَاب الجَنّة.

الثاني: أنّه إذا كُسِيَ الأنبياءُ ثم الصدِّيقُونَ، ثم مَنْ بعدهم على مراتبهم، فتكونُ كُسْوَةُ كُلِّ إنسانٍ من جِنْس ما يَمُوتُ فيه، ثم إذا دَخَلُوا الجَنَّة أُلْبِسُوا من ثِيَابِ الجَنّة.

الثالثُ: أن المراد بالثياب هاهنا الأعمال، أي يُبْعَثُ في أعماله التي مات فيها من خير أو شَرٍّ.

قال اللَّه تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر] قال قتادة: عَمَلَكَ فَأَخْلِصْهُ.

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(2755) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أبو داود (3114) بنفس سند البيهقي، وليس عن الحسن بن علي عن ابن أبي مريم كما ذكر المصنف والحاكم (1/ 340) وهو حديث حسن، ولفظه في أوله:"إن الميت يبعث. . . ".

ص: 210

ثم اسْتَشْهَدَ البَيهَقِيّ على هذا الجواب الأخير بما رواه مسلم، من حديث الأعمش، عن أبي سُفْيانَ، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على مَا مَاتَ عَلَيهِ"

(1)

.

قال: وروينا عن فَضالةَ بنِ عُبَيْد عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "مَنْ ماتَ على مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِه المراتِب بعثَ عَلَيْهَا يَوم القِيامَة"

(2)

.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا: أخبرنا أحمدُ بنُ إبراهيم بن كثير، حدثنا زيدُ بن الحُبَابِ، عن معاوية بن صالح، أخبرني سعيد بن هانئ، عن عمرو بن الأسود، قال: أوصاني مُعاذ بامرأته، وخرج، فماتت، فدفَنّاها، فجاءنا وقد رفَعْنَا أَيْدِيَنا مِن دَفْنِها، فقال: في أيّ شَيْءٍ كَفَّنْتُموها؟ قلنا: في ثيابِها، فأمر بها فَنُبِشَتْ، وكَفَّنهَا في ثيابٍ جُدُدٍ، وقال: أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتاكُمْ فإنّهم يُحْشَرُون فِيهَا

(3)

.

وقال أيضًا: حدّثني محمد بن الحُسَيْن، حدّثنا يحيى بن إسحاق، [أخبرنا إسحاق] بنُ سيّار بن نصر، عن الوليد بن أبي مروان

(4)

، عن ابن عباس، قال: يُحْشَرُ الموتَى في أكفانهم

(5)

.

وكذا روي عن أبي العَالية

(6)

.

وعن صالح المُرِّيّ، قال: بلغني أنّهم يخرجون من قبورهم في أكفانٍ دَسِمَةٍ، وأبدَانٍ بَالِيَةٍ، مُتَغَيِّرَةٌ وجوهُهم، شعَثةٌ رؤوسُهُم، نَهِكَةٌ أجْسامُهُمْ، طائرة قلوبهم من صدورهم وحناجرهم، لا يَدْرِي القوم ما مَوْئِلُهُمْ إلا عِنْد انصرافهم من الموقف، فمُنْصَرَفٌ بِه إلى الجنة، ومنصرَف به إلى النَّارِ، ثم صاح بأعلى صوته: يا سوء مُنْصَرَفَاهُ إنْ أنْتَ لَمْ تَغَمَّدْنَا مِنْك بِرَحْمَةٍ واسعةٍ، لِما قَدْ ضاقَتْ صدُورنا من الذُّنُوب العِظام، والجرائم التي لا غافر لها غَيْرُك.

‌ذكر شيء من أهوال يوم القيامة

قال اللَّه تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ

(1)

رواه مسلم رقم (2878).

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 19) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(109) ويغني عن هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه إن استطاع" رواه مسلم رقم (943).

(4)

في الأصول: ابن أبي ثروان.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(110).

(6)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(111).

ص: 211

فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 15 - 18]. وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} [ق].

وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14). . .} إلى قوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} [المزمل].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45] قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف 47 - 49].

وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} [الزمر: 67 - 70]. وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون: 101 - 103].

وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} [المعارج: 8 - 18].

وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 33 - 42]. وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 34 - 46].

وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

ص: 212

يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 21 - 30]. وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 1 - 16]. وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12). . .} إلى قوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 1 - 56]. ثُمَّ ذَكَر فيها سبحانه جزاء كل من هذه الأصناف الثلاثة، كما ذكر ما يُبَشَّرُون به عند موتهم واحتضارهم في آخرها، كأن الإنسان يشاهد ذلك مشاهدة.

وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6). . .} الآيات، وقال في آخرها {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}. . . إلى آخر السورة [القمر: 6 - 55].

وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} [إبراهيم: 48 - 51].

وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 15 - 19].

وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102). . .} الآيات إلى قوله {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 99 - 112].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254].

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281].

وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ. . .} الآية [آل عمران: 106].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .} الآية [آل عمران: 161].

ص: 213

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)} [القصص: 65 - 66].

وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)} [المرسلات: 35 - 37]. قال ابن عباس: أي لا ينطقون بحجة تنفعهم.

فأما قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} [الأنعام: 23 - 24].

وكذا قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} [المجادلة: 18].

فهذا يكون في حال آخر، كما قال ابن عباس في جواب من سأله عن ذلك، كما ذكره البخاري عنه، وكذلك قوله تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37). . .} الآيات إلى قوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} [الصافات: 27 - 75].

والآيات في ذكرِ يوم القيامة وأهواله كثيرة جدًا، مثل الآيات التي في آخر سورة هود:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 103 - 108] أي غير مقطوع، وكذلك سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وسورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وسورة {المطففين} بكمالها، وسورة {المرسلات} و {النازعات} وسورة {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} وسورة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ} وآخر {العاديات} و ({القارعة}) وآخر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} و {الهمزة} .

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا عبد اللَّه بن بَحير

(1)

الصنعاني القاصُّ: أن عبد الرحمن ابن يزيد الصنعاني أخبره أنه سَمِع ابن عمر يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَنْظُرَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ [كأنه] رأي عين، فليَقْرأْ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}

(1)

في الأصول: يحيى.

ص: 214

وأحْسَبُه قال: وسورة هود، وكذا رواه الترمذي عن عباس العنبري عن عبد الرزاق، به.

ورواه أحمد، عن إبراهيم بن خالد، عن عبد اللَّه بن بحير، عن عبد الرحمن بن يزيد، من أهل صنعاء، وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب بن مُنَبِّه، عن ابن عمر. . . فذكر نحوه

(1)

.

وفي الحديث الآخر: "شَيَّبَتْني هُودٌ وَأَخَوَاتُها"

(2)

.

والآيات في هذا كثيرة جدًا في أكثر سور القرآن العظيم، وقد ذكرنا في كتابنا "التفسير". ما يتعلق بكُلِّ آيةٍ مِنْ هَذِه الآيات الدّالّةِ على صِفَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ مِنَ الأَحادِيثِ والآثارِ المُفَسِّرةِ لِذَلك.

‌ذكر الأحاديث والآثار الدَّالَّة على أهوال يوم القيامة وما يكون في ذلك اليوم من الأمور الكبار والشدائد وما فيه من المغفرة والرحمة والرضوان والجِنان والنِّيران

قال الإمام أحمد: حدّثنا أحمد بن عبد الملك، حدّثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدّثنا نافع أبو غالب الباهليّ، حدّثني أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُبعثُ الناسُ يوْمَ القيامة والسماء تَطُشُّ عليهم". تفرّد به أحمد، وإسناده لا بأس به

(3)

.

وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "تَطِشُّ عليهم" احتمالان: أحدهما أن يكون ذلك من المطر، أي: تمطر عليهم، كما يقال: أصابهم طَشٌّ من مَطَر، وهو الخفيف منه، والثاني: أن يكون ذلك من شدّة الحرّ، وهو الأقرب، واللَّه أعلم، وقد قال اللَّه تعالى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 4 - 6]، وقد ثبت في "الصحيح""أنهم يقومون في الرشح، أي في العَرَق إلى أنصاف آذانهم"

(4)

. وفي الحديث الآخر أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم، كما تقدم، وفي حديث الشفاعة كما سيأتي: أن الشمس تُدْنَى من العباد يوم القيامة، فتكون منهم على مسافة ميل، فعند ذلك يَعْرَقُونَ بحسب أعمالهم.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا قُتَيْبةُ، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ العَرَقَ يَوْمَ القيامة لَيَذْهبُ في الأرض سبعين باعًا، وإنّه لَيبْلغ

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 27) و (37) والترمذي رقم (3333) وهو حديث حسن.

(2)

رواه بهذا اللفظ الطبراني (17/ 790) من حديث عقبة بن عامر، ورواه الترمذي في "الشمائل"(42) والبغوي في "شرح السنة" رقم (4176) من حديث أبي جحيفة وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده، ورواه الترمذي رقم (3297) بلفظ:"شيبتني هود، والواقعة، والمسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كُوِّرت" والبغوي في "شرح السنة" رقم (4175) من حديث ابن عباس، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 266 - 267) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

رواه البخاري رقم (6531) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 215

إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم" شكّ ثَوْرٌ أيَّهُما قال، وكذا رواه مسلم عن قُتَيبة، وأخرجه البخاري عن عبد العزيز بن عبد اللَّه، عن سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغَيْث، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثله

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا الضحّاك بن مَخْلد، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي، عن سعيد بن عُمَير الأنصاريّ، قال: جلستُ إلى عبد اللَّه بن عمر، وأبي سعيد الخدريّ، فقال أحدهما لصاحبه: أيَّ شَيءٍ سَمِعْتَ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكرُ أنّه يبلُغ العَرقُ من الناس يَوْمَ القيامة؟ فقال أحدهما: إلى شَحْمَتِه، وقال الآخر: يُلْجِمُه، فخَطّ ابنُ عُمَر، وأشار أبو عاصم بإصْبَعِه من [أسفل] شَحْمَةِ أذنيه إلى فيه، فقال: ما أرى ذلك إلا سواء؛ تفرَّد به أحمد، وإسناده جيّد قويّ

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا الحسنُ بن عيسى، حدّثنا ابن المبارك، حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدّثني سُلَيْم بن عامر، حدّثني المِقْدَادُ بن الأسْوَدِ: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة أُدنِيَتِ الشمسُ من العِبَادِ، حتّى تكونَ قِيد مِيل، أو مِيلَيْن" قال سُليم: لا أدري أيَّ الميلين أراد، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تُكْحلُ به العين؟ قال: "فتَصْهَرُهم الشمسُ، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذُه العرق إلى عَقِبَيْه، ومنهم من يأخذه إلى رُكْبَتَيْهِ، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيْهِ

(3)

ومنهم من يُلْجمُه إلْجامًا"، قال: فرأيْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُشيرُ إلى فيه، قال: "يُلْجمُه إلجامًا"، وكذا رواه الترمذي عن سُوَيْد بن نصر عن ابن المبارك وقال: حسن صحيح، وأخرجه مسلم عن الْحَكَم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن ابن جابر، به، نحوه

(4)

.

وقال ابن المبارك عن مالك بن مِغْوَل عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن العَيْزَارِ، قال: إنّ الأقْدَامَ يوم القيامة مثل النَّبلِ في القَرْنِ، والسعيدُ الذي يجد لِقَدَمَيْهِ موضعًا يَضَعُهُما فيه، وإنَّ الشَّمْسَ لَتُدْنَى من رؤوسهم، حتى يكون بينها وبين رؤوسهم إمَّا قال: مِيلًا، أو مِيلَيْن، ويُزَادُ في حَرّها تِسْعَة وستين ضِعْفًا

(5)

.

وقال الوليد بن مُسلم، عن أبي بكر بن سعيد، عن مُغيث بن سُمَيّ، قال: تَرْكُد

(6)

الشّمْسُ فوقَ رؤوسهم على أذْرعٍ، وتُفْتح أبوابُ جهنم فتهُبّ عليهم رياحُها، وسَمُومُها، ويخرج عليهم نَفَحَاتُها

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 418) ومسلم رقم (2863) والبخاري رقم (6532).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 90).

(3)

الحقو: الخاصرة.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(191) وأحمد في المسند (6/ 3) والترمذي رقم (2421) ومسلم (2864).

(5)

روه ابن المبارك في الزهد (372 - زوائد نعيم).

(6)

أي: تثبت.

ص: 216

حتّى تَجْري الأنْهَارُ مِنْ عَرَقِهم، أنْتَنَ من الجِيَفِ، والصائمون في جنَّاتِهم في ظِلِّ العَرْش

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدّثنا محمد بن منصور الطُّوسي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدّثنا الفضل بن عيسى الرَّقَاشيُّ، حدّثنا محمد بن المُنْكَدر، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العَرَق ليَلْزَمُ المَرْءَ في المَوْقِفِ حتّى يقولَ: يا رَبّ إرسالك بي إلى النار أهْون عليّ ممّا أجدُ، وهو يَعْلمُ مَا فِيها من شِدّة العذاب" إسناده ضعيف

(2)

.

وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سَبْعَةٌ يُظلُّهُمُ اللَّهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلّا ظِلُّه" -وفي رواية:، إلَّا ظلّ عَرْشه-: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة اللَّه، ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسْجد إذا خرج منهُ حتى يَعودَ إليه، ورجل دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنْصبٍ وجمالٍ، فقال: إنّي أخافُ اللَّهَ، ورجلان تحابَّا في اللَّه اجْتَمعا عليه، وتَفَرَّقا عليه، ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تَعْلَمَ شِمَالُه ما أنْفقتْ يَمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن، ويحيى بن إسحاق، قالا: حدّثنا ابنُ لَهِيعَةَ، قال: حدّثنا خالد

(4)

بن أبي عِمران، عن القاسم [بن محمد]، عن عائشة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"أتَدْرُونَ من السابقون إلى ظلّ اللَّه عز وجل يوم القيامة؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"الذين إذا أُعْطُوا الحَقَّ قَبلُوه، وإذا سُئلوهُ بذلوه، وحَكَمُوا للنّاس كحُكْمِهمْ لأنفسهم". تفرّد به أحمد، وإسناده مقارب، فيه ابن لَهِيعَة، وقد تكلَّموا فيه، وشيخهُ ليس بالمشهور

(5)

.

هذا كلّه والناس موقوفون في مقام ضَنْكٍ ضَيِّق، حَرجٍ شديدٍ صعب إلا على من يَسَّرَهُ اللَّهُ عليه، فنسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يُهَوّن علينا ذلك المقام، وأن يجعله علينا يسيرًا، بردًا وسلامًا، ونعوذ باللَّه من ضيق يوم القيامة. اللهم اجعل لنا مخرجًا من ذلك، ونسألك أن توسِّع علينا في الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا مع الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، أخبرنا الأصْبَغُ هو ابن زيد، عن ثَوْر بن يزيد، عن خالد بن مَعْدانَ، حدثني ربيعة هو ابن عمرو الجُرَشِيّ الشاميّ، قال: سألتُ عائشة فقلت: ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من الليل؟ وَبِمَ كان يَسْتَفْتحُ الصلاة؟ قالت: كان يُكبِّر عَشرًا، ويحمد عشرًا، ويهللُ عشرًا، ويستغفر عشرًا، ويقول:"اللهُمّ اغفر لي، واهدني وارْزُقْني" عشرًا، ويقول: "اللهُمّ إني

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(190).

(2)

رواه البزار رقم (3423 - كشف الأستار).

(3)

رواه البخاري رقم (660) ومسلم (131) بقلب في لفظ الشمال.

(4)

في الأصل: قال حسن حدثنا خالد، وهو خطأ.

(5)

رواه أحمد في المسند (6/ 67)، وإسناده ضعيف.

ص: 217

أعوذُ بك من الضيق يوم الحساب" عشرًا. وكذا رواه النسائيُّ في "اليوم والليلة" عن أبي داود الحَرَّانيّ، عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، وعنده: "من ضيق المَقَام يوم القيامة"

(1)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثني محمد بنُ قدَامة، حدّثني يعقوب بن سَلمَةَ الأحمرُ، سمعتُ ابنَ السَّمَّاك يقول: سَمعْتُ أبا واعظٍ الزاهدَ يقول: يخرجون من قبورهم يتسكَّعونَ

(2)

في الظلمات ألفَ عام، والأرض يومئذٍ نار كلُّها

(3)

، إن أسْعَدَ الناسِ يَومَئذٍ منْ وَجَد لِقَدَميْه مَوْضِعًا

(4)

.

وقال أيضًا: حدثني هارون بن سُفْيَان، حدّثنا ابنُ نُفَيْلٍ، عن النَّضْر بن عَربيّ قال: بلغني أنّ الناس إذا خَرجوا من قبورهم كان شعارُهم لا إله إلا اللَّهُ، وكانت أوّل كلمةٍ يقولها بَرُّهم، وفاجرُهم: ربَّنا ارْحمْنا

(5)

.

وحدثتي حمزة بن العباس، أخبرنا عبد اللَّه بن عثمان، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا سفيان، عن سليمان، عن أبي صالح، قال: بلغني أن الناس يُحشرون هكذا، ونكس رأسه ووضع يده اليمنى على كوعه اليسرى

(6)

.

وحدثني عصمة بن الفضل، حدّثني يحيى بن يحيى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: سمعتُ سيَّارًا

(7)

الشاميَّ قال: يخرجون من قبورهم وكلُّهم مذعورون، فيناديهم مُنادٍ:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] فيطمعُ فيها الخلق فيُتْبِعُها: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 69] فَييأسُ منها الخلقُ غيرُ أهلِ الإسلام

(8)

.

ورَوى من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر؛ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل لا إله إلا اللَّه وَحْشةٌ في قبورهم، ولا يَوْمَ نُشُورِهم، وكأنِّي بأهْل لا إله إلا اللَّه يَنْفُضُون التُّرَاب عن رؤوسهم" ويقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]

(9)

. قلت: وله شاهد من القرآن العظيم، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 143) والنسائي في "الكبرى"(10706) وهو حديث صحيح.

(2)

في هامش (أ): فيتمعكون.

(3)

في (أ) ماء كلها.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(114).

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(103).

(6)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(104).

(7)

في (أ) يسار.

(8)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(105).

(9)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(170) ورواه الطبراني في "الأوسط"(9478) وإسناده ضعيف.

ص: 218

وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

(1)

[الأنبياء].

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: أخبرنا أبو حفص الصفّار، حدّثنا جعفر بن سليمان، حدثنا إبراهيم بن عيسى اليشكري: بلغنا أنّ المؤمن إذا بُعث من قبره تَلَقّاه ملكان، مع أحدهما دِيباجَةٌ، فيها بَرَدٌ ومِسْك، ومع الآخر كوبٌ من أكواب الجنَّةِ فيه شراب، فإذا خرج من قبره خَلَط المَلَك ذلك البرَدَ بالمِسْكِ فرَشّهُ علَيْهِ وصَبَّ لهُ الآخرُ شَرْبةً، فيناوله إيّاها، فيَشْرَبُها، فلا يَظْمأ بَعْدَها أبدًا، حتَّى يَدخُلَ الجَنَّةَ، فأما الأشقياءُ، والعياذ باللَّه، فقال اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف].

وذكرنا في "التفسير": أنّ الكافر إذا قام من قبره أخذ بيده شيطانُه، ويلزمَهُ فلا يفارقه، حتى يُرْمى بهما في النَّار، وهكذا كل فاجر وفاسق غافل عن ذِكر اللَّه مضيِّع لأمره، وقال تعالى:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] أي مَلَكٌ يَسُوقُه إلى الْمَحْشَرِ، وآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بأعمالِه، وهذا عامّ في الأبرار والفُجَّار، وكلٌّ بِحَسَبَه {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي: أيها الإنسان الغافل عما خلق له {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] أي: نافذٌ قويّ حادٌّ {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] أي: هذا الذي جئتُ به هو الذي وُكِّلْتُ به، فيقول اللَّه تعالى عند ذلك للسائق والشهيد:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق: 24 - 25] أي: ليس فيه خير ويمنع غيره من الخير، ومع ذلك هو مُريب، أي: هو في شك ورَيْب. ثم انتقل إلى من هو متلبِّس بأعظم من ذلك، وقد تجتمع في العبد هذه الأربعة المذمومة المقبوحة التي هي أقبح الخصال، وأعظمها وأقبحها الشرك باللَّه، فقال تعالى:{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. . .} الآيات، إلى قوله تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. . .} الآيات [ق: 26 - 31].

وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى هو ابن سعيد القَطّان، عن ابن عَجْلان، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القيامةِ أمْثَالَ الدَّرِّ في صُوَر الناس، يعلوهمِ كلُّ شيءٍ مِن الضَغَارِ، حَتَّى يَدْخُلوا سِجْنًا في جَهَنَّمَ، يقال له: بُولَس فتعلوهم نار الأنْيارِ

(2)

، فيُسْقَون من طينةِ الْخَبَالِ عُصَار أهْلِ النَّارِ". ورواه الترمذي والنسائي جميعًا، عن سُوَيْد بن

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(107) ورواه الطبراني في "الأوسط"(9478) وإسناده ضعيف.

(2)

أي نار النيران.

ص: 219

نصر، عن عبد اللَّه بن المُبَارَك، عن محمد بن عَجْلان، به، وقال الترمذيّ: حسن

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزّار: حدّثنا محمد بن عُثْمان العُقَيْليّ، حدّثنا محمد بن راشد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ الْمُتكَبِّرُونَ في صُور الذَّرّ، يوْمَ القيامَةِ" ثم قال: تفرّد به محمد بن عثمان، عن شيخه

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "أهوال القيامة": حدّثنا عبدُ اللَّه بن عمر الجُشَمِيُّ، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، أبنا قَتَادةُ، عن الحسن، عن عمران بن الحُصَيْن: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، وقد تفاوت

(3)

بين أصحابه السيرُ، فرفع بهاتين الآيتين صوته:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج] فلما سمع ذلك أصحابُه حَثُّوا

(4)

المَطيَّ، وعلموا أنّه عند قولٍ يقولُه، فلمّا تَأشَّبُوا

(5)

حَوْلَه، قال:"أتدرُونَ أيَّ يوْمٍ ذاك؟ يومَ يُنادَى آدم، يُنَاديهِ رَبُّه، يقولُ: يا آدمُ، ابْعَثْ بَعْثَ النَّار، قال: يا رَبِّ، ومَا بَعْثُ النَّارِ؟ قال: منْ كلِّ ألف تِسْعُمئةٍ وتِسْعةٌ وتِسْعُونَ إلى النار، وواحدٌ إلى الجَنَّة" قال: فأُبلس

(6)

أصحابه، حتى ما أوضحُوا بِضَاحِكةٍ، فلما رأى ذلك قال:"اعملوا، وأبشروا، فوَالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه إنَّكم لَمَع خَلِيقَتَيْن ما كانتَا مع شيء إلّا كَثَّرَتاهُ: يأجُوجَ ومأجوجَ، ومن هلَك من بني آدم، ومنْ بَني إبليس" قال: فَسُرِّي عنهم، ثم قال:"اعملوا، وأبشروا، فوالذي نفسُ محمد بيده ما أنْتُم في الناس إلّا كالشامَةِ في جَنْبِ البَعير، أو كالرَّقْمَةِ في ذراع الدَّابة" وقد رواه الترمذيّ والنسائيّ جميعًا، عن محمد بن بَشّار (بُنْدار)، عن يحيى بن سعيد القطّان، به، وقال الترمذي: هذا حسن صحيح

(7)

.

‌فصل

فإذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض غير صِفَةِ الأرض التي كانوا فيها وفارقوها، قد دُكَّتْ جبالُها، وزالت تِلالُها، وتغيّرتْ أحوالها، وانقطعت أنْهارها، وبادتْ أشجارُها ومساكنها ومدنها

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 179) والترمذي رقم (2492) وهو حديث حسن.

(2)

رواه البزار (3430 - كشف الأستار) وهو حديث حسن.

(3)

في الأصل: تقارب.

(4)

حثوا المطي، حملوها على الإسراع في السير.

(5)

أي تجمعوا واختلطوا.

(6)

أي: أسكتوا، والمُبْلس: الساكت من الحزن أو الخوف، والإبلاس: الحيرة.

(7)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(22) والترمذي (3169) والنسائي في "الكبرى"(11340) وهو حديث صحيح.

ص: 220

وبلادها، وسُجِّرَت بحارُها، وتساوَتْ وهادها ورُبَاها، وخَرِبَتْ مدائنُها وقُرَاها، وزالت قصورها وبيوتها وأسواقها، وزُلْزِلتْ زِلْزالَها، وأخْرَجَتْ أثْقَالها، وقال الإنسانُ: ما لَها؟ يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها. وكذلك يجدون السماوات قد بُدِّلَتْ، ونُجُومُها قد انْكَدَرَت وانتثرَثْ، ونواحيها قد تشقّقَتْ، وأرجَاؤُها قد تَفَطّرَتْ، والملائكة على أرجائها قد أحدَقت. وشمسها وقمرها مكسوفان، بل مخسوفان، وفي مكان واحدٍ مجموعان، ثم يُكوَّرَان بعد ذلك ثم يُلْقَيان في النار. كما في الحديث الذي سَنُورده في "النَّيِّران" يُكوَّران كأنهما ثَوْرانِ عَقِيرانِ.

قال أبو بكر بن عيَّاش: قال ابن عبَّاس: يخرجون من قبورهم فينظرون إلى الأرض غيرَ الأرض التي عَهِدُوها. وإلى الناس غيرَ الناس الذين كانوا يعرفون ويعهدون. قال: ثم تمثل ابنُ عبَّاس:

فمَا النَّاسُ بالنَّاس الّذِين عَهِدْتَهُمْ

وَلا الدَّارُ بِالدَّار التي كُنْتَ تَعْرِفُ

وقد قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم: 48]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور: 9 - 10]. وقال تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} [الرحمن]، وقال تعالى:{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14). . .} الآيات [الحاقة: 14]. وقال اللَّه تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4). . .} الآيات [التكوير: 1 - 4].

وثبت في "الصحيحين" من حديث أبي حازم، عن سَهْل بن سعد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُحْشرُ الناسُ يوم القيامة على أرضٍ بيْضَاءَ عَفْراءَ

(1)

كقُرْصَةٍ النَّقِيِّ

(2)

ليس فيها مَعْلَم لأحَدٍ"

(3)

.

وقال محمد بن قيس، وسعيد بن جُبَيْرٍ: تُبَدَّلُ الأرْضُ خُبْزةً بَيْضَاءَ، يَأْكُلُ مِنْها الْمُؤْمنُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ.

وقال الأعمش، عن خَيْثمة، عن ابن مسعود، قال: الأرْضُ كُلُّها يومَ القيامة نار، والْجَنَّةُ منْ ورائها يُرَى كواعبُها، وأكوابُها، ويُلْجمُهُم العَرَقُ، ويبلغ منهم كل مبلغ، ولم يَبْلُغُوا الحِسَابَ. وكذا رواه الأعمش، عن الْمِنْهالِ، عنْ قَيْس بن السَّكَن، عن ابن مسعود. . . فذكره.

وقال إسرائيل وشعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود قال:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: أرض بيضاء كالفضة البيضاء، نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة، ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، حفاة عراة كما خلقوا، أراه قال: قيامًا حتى يلجمهم العرق.

(1)

العفراء: البيضاء إلى حمرة.

(2)

النقي: خبز الدقيق الأبيض.

(3)

رواه البخاري رقم (6521) ومسلم (2790).

ص: 221

وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا عفان، حدّثنا القاسمِ بن الفضل، قال: قال الحسن: قالت عائشة: يا رسول اللَّه، أرأيت قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أيْن يكون النَّاسُ يومئذ؟ قال: "إن هذا لشيء ما سألني عنه أحدٌ منْ أُمَّتي قبلَكِ، النَّاسُ على الصراط"، تفرَّد به أحمد. ورواه أبو بكر بن أبي الدّنيا، حدّثنا علي بن الجَعد، حدّثنا القاسم بن الفضل، سمعتُ الحسن قال: قالت عائشة:. . . فذكره، ورواه قتادةُ، عن حَسّان بن بلال المزني، عن عائشة بمثل هذا سواءً

(1)

.

وقال ابن أبي الدنيا: أبنا عُبَيْد بن جرير العَتكيّ، حدّثنا محمد بن بكَّار الصَّيْرَفيّ، حدّثنا الفضل بن معروف القُطَعيّ، حدثنا بشرُ بن حرب، عن أبي سعيد، عن عائشة، قالت: بينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه في حِجْري بَكيْتُ، فرفع رأْسهُ، فِقال:"ما أبكاكِ؟ " قلت: بأبي أنتَ وأُمِّي، ذكرْتُ قولَ اللَّه عز وجل:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أين الناس يومئذ؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الناس يومئذ على جسر جهنم. والملائكة وقوف تقول: رب سلم، سلم؛ فمن بَيْنِ زَالّ وزَالةٍ". هذا حديث كريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحمد ولا أحد من أصحاب الكتب الستة

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: أنا أوَّلُ النّاسِ سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قالت: قلت: أين الناسُ يومئذٍ يا رسول اللَّه؟ قال: "على الصراط". وأخرجه مسلم بن الحجاج في "صحيحه" والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن أبي هِنْد. وقال الترمذيّ: حسن صحيح. ورواه أحمد أيضًا، عن عفان، عن وُهَيْب، عنْ داود، عن الشعبيّ، عنها، ولم يذكر مسروقًا

(3)

.

وروى أحمد أيضًا من حديث حبيب بن أبي عَمْرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن عائشة: أنَّها سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، ثمّ قالت: أين الناسُ يومئذ يا رسول اللَّه؟ قال: "هم على مَتْن جَهنّم"

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 101) وابن أبي الدنيا في "الأهوال"(69) وهو حديث حسن.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(72).

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 35 و 134) ومسلم رقم (2791) والترمذي رقم (3121) وابن ماجه (4279).

(4)

رواه أحمد في المسند (6/ 116، 117) لكن فيه أنها سألت عن آية {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

ص: 222

وروى مسلم من حديث أبي سَلَّام، عن أبي أسْمَاءَ الرحَبيّ، عن ثَوْبَان أن حَبْرًا من اليهود سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: أيْنَ يكونُ الناسُ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلْمةِ دون الجِسْر"

(1)

.

وقال ابن جرير: حدثني ابن عوف، حدّثنا أبو المُغيرة، حدّثنا ابنُ أبي مَرْيم، حدّثنا سعيد بن ثَوْبان الكَلاعيّ، عن أبي أيُّوبَ الأنصاريّ قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَبْرٌ منَ اليهود، قال: أرأيتَ إذْ يقولُ اللَّه في كتابه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأيْنَ الخَلْقُ عِنْدَ ذلكَ؟ فقال: "أضْيافُ اللَّهِ، فلن يُعْجزَهُمْ مَا لَدَيْهِ"، وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن أبي مَرْيَم.

وقد يكون هذا التبديل بعد المَحْشر، ويكون تبديلًا ثانيًا إلى صِفَةٍ أُخْرى غير الأولى وبعدها، واللَّه أعلم، كما قال ابن أبي الدنيا: حدّثنا يوسف بن موسى، حدّثنا وَكيع، حدّثنا شُعْبة، عن المُغيرة بن مالك، عن رجل من بني مُجَاشع، يقال له: عبد الكريم، أو يكنى بأبي عبد الكريم، قال: أقامني على رجل بخِراسان، فقال: حدّثني هذا أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال: ذُكر لنا أنّ الأرض تُبدّل فِضَّةً والسَّماوات ذهبًا

(2)

، وكذا رُوي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبر، وغيرهم، واللَّه سبحانه أعلم.

‌ذكر طول يوم القيامة وما ورد في مقداره

قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الجج] قال بعض المفسرين: هو يوم القيامة. وقال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} [المعارج: 1 - 5].

وقد ذكرنا في "التفسير" اختلاف السلف، والخلف، في معنى هذه الآية، فروى ليث بن أبي سُليم وغيرُه، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: ذلك هو مقدارُ ما بين العرش إلى الأرض السابعة.

وقال ابن عبَّاس في قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] يعني بذلك: أن الأمْر ينزل من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى

(1)

رواه مسلم رقم (315).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في الأهوال (68).

ص: 223

السماء، لأنّ ما بين السماء والأرْض مَسِيرةُ خَمْسمئةِ عام، ومن كل أرض إلى التي تحتها خمسمئة عام. رواه ابن أبي حاتم.

ورواه ابن جرير عن مجاهد أيضًا، وذهب إليه الفَرّاء، وقاله أبو عبد اللَّه الحَلِيميُّ، فيما حكاه عنه الحافظ أبو بكر البَيْهقيّ، في كتاب "البعث والنشور"، قال الْحَلِيميّ: فالمَلَكُ يَقطع هذه المسافة في بعض يوم، ولو أنها مسافة يمكن البشر قطعها، لم يتمكَّن أحدٌ من قطعها، إلا في مقدار خمسين ألف سنة، قال: وليس هذا مقدار يوم القيامة بسبيل، بل هذا مقدار ما بين العرش إلى الأرض السابعة، ورجّح الحَلِيمي هذا بقوله تعالى:{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج]، وذو المعارج، أي: العلو والعظمة. كما قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] ثم فسر ذلك بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} أي: مَسافَةٍ كان مقدارُها {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي بُعْدها، واتِّسَاعها هذه المدة. فعلى هذا القول المراد بذلك مسافةُ المكان، هذا قول، وقد حاول البيهقي الجمع بين هذه الآية، وبين قوله:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} بأن الملائكة تقطع هذه المسافة في الدنيا في ألف سنة، فإذا كان يوم القيامة لا تقطعها إلا في خمسين ألف سنة، لما يشاهدون من هول ذلك اليوم وعظمته وغضب الرب عز وجل، واللَّه أعلم

(1)

.

والقول الثاني: إن المراد بذلك مُدّة عمر الدُّنيا، قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره": حدّثنا أبو زُرْعَة، حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا ابن أبي زائدة، عن ابن جُريج، عن مجاهد، في قوله تعالى:{كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: الدنيا عُمرها خمسون ألف سنة، ذلك عمرها يوم سَمَّاها اللَّهُ تعالى يومًا {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: اليومُ الدُّنيا.

وقال عبد الرزّاق: حدّثنا مَعْمر، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، وعن الحكم بن أبانَ، عن عِكْرمةَ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قالا

(2)

: الدُّنيا من أوَّلها إلى آخرها خمسون ألف سنةً، لا يَدْري أحدٌ كمْ مَضَى، ولا كم تقي؟ ولا يدري ذلك إلَّا اللَّه عز وجل، وذكره البَيْهَقيّ من طريق محمد بن ثَوْر، عن مَعْمرٍ، به، وهذا قول غريب جدًّا، لا يوجد في كثير من الكتب المشهورة، واللَّه أعلم.

القول الثالث: أن المراد بذلك فصل ما بين الدنيا ويوم القيامة، وهو مدة المقام في البرزخ، رواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظيِّ، وهو غريب أيضًا.

(1)

انظر "تفسير الطبري"(21/ 91).

(2)

في الأصول: قال.

ص: 224

القول الرابع: إن المراد بذلك مقدار الفصل بين العباد يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أحمد بن سِنَان الواسطيّ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاكٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاس {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. قال: يوم القيامة. إسناده صحيح، ورواه الثوريُّ عن سمَاكٍ، عن عِكْرِمة من قوله، وبه قال الضحَّاك، والحسن، وابن زيد.

وقال ابن أبي الدّنيا: حدّثنا محمد بن إدريس، حدّثنا الحسن بن واقع، حدّثنا ضَمْرَة، عن ابن شَوْذَب، عن يزيد الرِّشْك قال: يقوم الناس يوم القيامة أربعين ألف سنة، ويُقْضَى بينهم في مقدار عَشَرةِ آلاف سنةٍ.

وقال علي بن أبي طَلْحة عن ابن عباس قال: يوم القيامة جعله اللَّه على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

وقال الكَلْبيّ في "تفسيره" وهو يرويه عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لو وَليَ مُحاسبَةَ العباد غيرُ اللَّهِ تعالى لم يَفْرُغ في خمسين ألف سنة.

قال البيهقيّ: وفيما ذكر حَمّاد بن زَيْد، عن أيُّوب، قال: قال الحسن: ما ظنُّك بيَوْمٍ قام العباد فيه على أقدامهم مقدارَ خمسين ألف سنة، لم يأكلُوا فيها أكْلَة، ولم يشربوا فيها شَرْبةً، حتى تَقَطَّعَتْ أعْنَاقُهُمْ عَطَشًا، واحْتَرَقَتْ أجوافهم جُوعًا، ثم انْصُرِفَ بهم إلى النار فسُقُوا من عَيْن آنيةٍ، قد أنى حَرُّها

(1)

، واشتدّ نُضْجُها؟ وقد ورد هذا في أحاديث متعدّدة، فاللَّه أعلم.

قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن موسى، حدّثنا ابن لَهيعة، حدّثنا دَرَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد، قال: قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، ما أطول هذا اليوم! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إنّه لَيُخَفّفُ على المؤمن، حتّى يكون أخَفّ عليه من صلاة مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا".

ورواه ابن جرير في "تفسيره" عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرّاج، به. ودرّاج أبو السمح، وشيخه أبو الهَيْثم، سليمان بن عمرو العُتْوَاريّ، ضعيفان. على أنّه قد رواه البيهقي بلفظ آخر فقال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، حدّثنا محمد بن إسحاق الصَّغاني، حدّثنا أبو سَلمةَ الخُزَاعيّ، حدّثنا خلّاد بن سُلَيْمَان الحَضْرَميُّ، وكان رجلًا من الخائفين، قال: سمعتُ دَرَّاجًا أبا السمح يُخْبرُ عمّنْ حَدّثه، عن أبي سعيد الخدري: أنّه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

يعني أن هذه العين قد بلغ حرها غاية في الشدة.

ص: 225

فقال: أخْبِرني بمنْ يَقْوى على القيام يوم القيامة، الذي قال اللَّه تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين] فقال: "يخَفّف على المُؤمن حَتّى يكونَ عليه كالصلاة المكتوبة"

(1)

.

وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: إنَّ للمؤمنين يوم القيامة كراسيَّ من نور، يجْلسون عليها، ويُظَلِّلُ عليهم الغَمامُ، ويكون يومُ القيامة عليهم كساعةٍ من نهار، أو كأحد طَرفيه. رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال".

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو كامل، حدّثنا حمَّاد، عن سهيل بن أبي صالح، [عن أبيه]، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كَنْزٍ لا يُؤَدي حَقّه إلّا جُعل كنُزه صَفَائحَ يُحْمى عَلَيها في نارِ جهنَّم، فتكوى بها جَبْهَتُه، وجَنبُه، وظَهْرُه، حتَّى يَحْكُم اللَّه عز وجل بين عباده، في يوم كان مقدارُه خمسينَ ألف سنة ممَّا تَعُدُّون، ثم يُرى سبيله إمَّا إلى الجنَّة، وإمَّا إلى النار. . . " وذكر بقية الحديث في مانع زكاة الغنم، والبقر، والإبل، أنَّه يُبْطحُ لها بقاعٍ قَرْقرٍ تَطؤُهُ بأخفْافِها، وأظلافها، وتَنْطَحُه بقرونها، كلّما مرَّت عليه أُخْرَاها أُعيدتَ علَيْهِ أولاها، حتى يُقضى بَيْنَ العباد، في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة مما تعدُّون، ثم يَرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة، وإما إلى النار

(2)

.

وهكذا رواه أبو داود الطَّيالسي، في "مسنده": أخبرنا وهيب بن خالد، وكان ثقةً، حدّثنا سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . فذكر نحوَه. وأخرجه مسلم من حديث رَوْح بن القاسم، وعبد العزيز بن المختار، كلاهما عن سُهَيْل به مثلَه. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا في الذهب والفضة، والإبل، والبقر، والغنم

(3)

.

وقد رواه الإمامُ أحمد وأبو داود من حديث شُعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قَتادَةَ، عن أبي عمر الغُدَانِيّ، عن أبي هريرة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ كانت له إبل، لا يُعْطي حَقَّها في نَجْدَتِها وَرِسْلها" -يعني في عُسْرِها ويُسْرِها- "فإنها تأتي يوم القيامة كأغَذِّ ما كانت وأسْمَنِه، وأكبره، وآشره

(4)

، حتَّى يُبْطحَ لها، بقاعٍ قَرقرٍ، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أُخْرَاها أُعيدَتْ عليه أُولاها، في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين الناس، فَيُرَى سبيلَه. وإذا كانت له بقر، لا يُعطي حَقّها في نَجْدتها ورِسْلها، فإنها تَأتي يومَ القيامة كَأَغذّ ما كانت، وأكبره وأَسمَنِه وآشَرِه، ثم يُبطحُ لها بقاع قَرْقرٍ، فتطؤه كلُّ ذاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفها، وتَنْطَحُه كلُّ ذات قَرْنٍ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 75) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في مسنده (2/ 262) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (2440) ومسلم رقم (987).

(4)

أي: أبطره وأنشطه.

ص: 226

بقرْنها، ليس فيها عَقْصَاءُ، ولا عَضْباء

(1)

، إذا جاوَزَتْه أُخْرَاهَا أعِيدتْ عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين الناس، فيُرى سَبيله. وإذا كانتْ له غنمٌ لا يُعْطي حَقّها في نَجدتها وَرِسْلها، فإنّها تأتي يوم القيامة كأغَذّ ما كانتْ، وأكبره، وأسْمَنِه، وآشرِه، حتى يُبْطَحَ لها بقاع قَرْقَرٍ فتطؤه كلُّ ذاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفها، وتَنْطحُه كلُّ ذاتِ قرنٍ بقرنها، [ليس فيها عقصاء ولا عضباء]، إذا جاوزَتْهُ أُخراها أعيدتْ عليه أُولاها، في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة، حتّى يُقْضى بين الناس، فيُرى سبيلَهُ"

(2)

.

قال البيهقيّ: وهذا لا يحتمل إلا تقدير ذلك اليوم بخمسين ألف سنة مما تَعدُّون، واللَّه أعلم، ثم لا يكون ذلك كذلك إلا على الهالك الذي لا يُغْفَرُ له [ذَنْبُه] فأمَّا من غُفِر له ذنبه من المؤمنين، فقد أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثنا الحسن بن محمد بن حَلِيم، حدّثنا أبو الموجِّه، حدّثنا عَبْدان، حدّثنا عبد اللَّه هو ابن المبارك، عن مَعْمر، عن قتادةَ، عن زُرَارةَ بن أوْفى، عن أبي هريرة، قال: يوم القيامة على المؤمنين كقَدْرِ ما بين الظهر والعصر. ثم قال: هذا هو المحفوظ.

وقد رُوي مرفوعًا، أخبرناه أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثني عبد اللَّه بن عمرَ بن عليّ الجوهريّ بمَرْوَ، حدّثنا يحيى بن ساسُويه بن عبد الكريم، حدّثنا سُوَيد بن نصر، حدّثنا ابن المبارك. . .، فذكره بإسناده مرفوعًا

(3)

.

قال يعقوب بن سفيان: حدّثنا حرملة بن يحيى، حدّثنا ابن وهب، حدّثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة، عن أبي هانئ، عن أبي عبد الرحمن الْحُبُليِّ، عن عبد اللَّه بن عمرو، تلا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، هذه الآية:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] قال: "كيف بكم إذا جمعكم اللَّه كما يُجْمَعُ النَّبلُ في الكِنَانة، خمسينَ ألف سنةٍ لا ينظر إليكم؟ "

(4)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثنا حمزة بن العباس، حدّثنا عبد اللَّه بن عثمان، حدّثنا ابن المبارك، حدّثنا سُفيان، عن مَيْسَرة، عن المِنْهال بن عمرو، عن أبي عُبيدة، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال:"لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتَّى يقيلَ هؤلاءَ وَهؤلاء" ثم قرأ: {إنَّ مَقيلَهم لَإِلَى الْجَحِيمِ} قال ابن المبارك: هكذا في قراءة ابن مسعود. ثم قال: حدّثنا إسحاق بن إسماعيل، حدّثنا وَكيع، حدّثنا سُفيانُ، عن مَيْسرةَ النَّهْدي، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عُبَيدة، عن عبد اللَّه بن

(1)

العقصاء: الملتوية القرن، والعضباء: المكسورة القرن.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 490) وأبو داود رقم (1660) والنسائي (5/ 12 و 13) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

أخرجهما الحاكم في المستدرك (1/ 84).

(4)

رواه الحاكم في المستدرك (4/ 572) من طريق ابن وهب، به، وهو صحيح.

ص: 227

مسعود، في قوله:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24] قال: لا ينتصفُ النهارُ يوم القيامة حتى يَقيلَ هؤلاء وهؤلاء.

‌ذكر المقام المحمود الذي خص به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ذلك الشفاعة العُظْمى في أهل الموقف ليجيءَ الربُّ عز وجل فيَفْصِلَ بينهم ويُريحَ المؤمنين من ذلك الحال إلى حسن المآب والمآل

قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79].

قال البخاريّ: حدّثنا علي بن عيَّاش، حدّثنا شُعَيْبُ بن أبي حَمزة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد اللَّه، أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"منْ قالَ حينَ يَسْمعُ النِّدَاءَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِه الدَّعْوةِ التامَّة، والصلاة القائمة، آتِ محمَّدًا الوسيلةَ، والفضيلةَ، وابْعَثْهُ مَقامًا مَحْمودًا الَّذي وَعَدْتَهُ، حَلّتْ لهُ شفاعَتي يوم القيامة" انفرد به دون مسلم

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا داود، وهو [ابن] يزيد بن عبد الرحمن الزعافري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: "الشفاعة" إسناده حسن

(2)

.

وثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث جابر وغيره، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"أُعطيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أحَدٌ من الأنبياء قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعْب مَسيرة شَهْرٍ، وأحِلّتْ لي الغَنائمُ، ولمْ تحلّ لأحَدٍ قَبْلي، وَجُعلتْ لي الأرْضُ مَسْجدًا، وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ منْ أُمتي أدْرَكتْهُ الصَّلاة فَلْيُصَلِّ، وأعْطيتُ الشَّفاعةَ، [وكان النبيُّ يُبْعثُ إلى قومه خاصة، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً"

(3)

.

فقوَله: "وأعطيتُ الشفاعة"] يعني بذلك الشفاعةَ التي تُطلب من آدم، فيقول: لستُ بصاحب ذاكُمْ، اذهبوا إلى نوح، فيقول لهم كذلك ويُرشدهم إلى إبراهيم، فيُرشدهم إلى موسى، ويرشدهم موسى إلى عيسى، فيرشدهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، فيقول:"أنا لها. أنا لها"، وسيأتي ذلك مبسوطًا في أحاديث الشفاعة، في إخراج العصاة من النار، وقد ذكرنا طرق هذا الحديث بطوله عن جماعة من الصحابة عند تفسير هذه الآية الكريمة من كتابنا "التفسير" بما فيه كفاية.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (614).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 444) أقول: داود الزعافري، ضعيف، ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (335) ومسلم رقم (521) من حديث جابر.

ص: 228

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ يَوْمَ القِيَامةِ، وَأوَّلُ منْ يَنْشَق عنه القبْرُ، وأولُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشفّع"

(1)

.

ولمسلم أيضًا، عن أُبى بن كعب رضي الله عنه؛ في حديث قراءة القرآن على سبعة أحرف؛ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فقلت: اللهمَّ اغفر لأمَّتي. اللهمَ اغفر لأمَّتي. وأخَّرتُ الثالثة ليوم يَرغب إليَّ فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام"

(2)

.

وقال أحمد: حدّثنا أبو عامر الأزديُّ، حدّثنا زهير بن محمد، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن الطُّفيل بن أبيّ بن كعب، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كانَ يَوْم القيامَةِ كنتُ إمامَ الأنبياء، وخَطيبَهم، وصاحبَ شفاعَتِهم غَيْرَ فَخْر". ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربّه، حدّثني محمد بن حرب، حدّثنا الزبيديّ، عن الزُّهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك؛ عن كعب بن مالك أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يُبْعثُ الناسُ يَومَ القيامةِ فأكون أنا وأمَّتي على تلٍّ. ويَكْسُوني ربّي عز وجل حُلّةً خَضْرَاءَ. ثم يُؤْذَنُ لي فأقولُ ما شاء اللَّه أن أقول، فذلك المقامُ المحمود"

(4)

.

وقال أحمد: حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن أبي الدرداء: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أوَّلُ منْ يُؤْذَنُ له بالسجود يوم القيامة، وأنا أوَّل من يُؤذن له برفع رأسِه. فأنظر إلى بين يَدَيَّ، فأعرِفُ أمَّتي من بين الأمم؛ ومِنْ خَلْفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك" فقال رجل: يا رسولَ اللَّه، كيف تعرفُ أمَّتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: "هم غُرٌّ مُحَجَّلُون منْ أثَرِ الوضوء؛ ليس أحدٌ كذلك غيرُهم، وأعرفهم أنهُمْ يُؤتَونَ كُتُبَهُمْ بأيْمَانِهم

(5)

، وأعْرِفُهُمْ يَسْعَى بَيْن أيْدِيهم ذُرَّيَّتُهُمْ"

(6)

.

وقال أحمد: حدّثنا يونس بن محمد؛ حدّثنا حرب بن ميمون، أبو الخطَّاب الأنصاريّ، عن

(1)

رواه مسلم رقم (2278).

(2)

رواه مسلم رقم (820).

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 137) والترمذي رقم (3613) وابن ماجه رقم (4314) وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 456) وهو حديث صحيح.

(5)

كذا الرواية هنا عن ابن لهيعة. وهي من أغاليطه، رقم (21737) والصحيح عنه بلفظ "وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم" رقم (21739) ويؤيده ظاهر الآية (12) من سورة الحديد.

(6)

رواه أحمد في المسند (5/ 199) وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف. ولكن للحديث شواهد بمعناه، فهو حديث حسن بشواهده.

ص: 229

النّضْر بن أنسَ، عن أنس، قال: حدّثني نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي لقائمٌ أنتظِرُ أُمَّتي حتى تَعْبُرَ الصِّراطَ، إذ جاءني عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: هذه الأنبياء قد جاءتْكَ يا محمد، يسألونك، أو قال: يجتمعون إليك، يدعون اللَّه عز وجل أن يفرِّق بين جميع الأمم إلى حيثُ يشاء اللَّهُ، لِغَمِّ ما هُمْ فيه، فالخلقُ مُلْجَمُونَ بالعرق، فأمَّا المؤمن فهو عليه كالزُّكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت، فقال: انتظر حتى أرْجِعَ إليك، فذهب نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش. فَيلْقى ما لم يَلْقَ ملَكٌ مُقرَّب

(1)

، ولا نبيٌّ مُرْسلٌ. فأوحى اللَّه عز وجل إلى جبريل: أن اذْهَبْ إلى محمَّد، وقل له: ارفع رأسَك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفع. فشفعت في أمُّتي، فقال: أخرِجْ من كلِّ تسعةٍ وتسعينَ إنسانًا واحدًا، فما زلت أتردَّد إلى ربِّي عز وجل فما أقوم منه مقامًا إلَّا شفِّعْتُ، حتى أعطاني اللَّه عز وجل من ذلك أن قال: يا محمَّد، أدْخِلْ من خلق اللَّه منْ أُمَّتك من قال: لا إله إلَّا اللَّهُ يومًا واحدًا مُخْلصًا، ومات على ذلك"

(2)

.

وروى الإمام أحمد من حديث عليّ بن الحكم البناني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود. . .، فذكر حديثًا طويلًا وفيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"وإنّي لأقُومُ المقامَ المَحْمُودَ يوم القيامة"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول اللَّه، وما ذلك المقامُ المحمودُ؟ قال:"ذاك إذا جيءَ بِكُمْ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، فيكون أوَّل من يُكْسَى إبراهيم، يقول اللَّه عز وجل: اكْسُوا خليلي، فيُؤْتَى برَيْطَتَيْن بَيْضاوَيْن، فيلبَسُهما ثم يَقْعُد مسْتقبلَ العَرْش، ثم أُوتى بكسْوتي، فألْبَسُها، فأقومُ عن يمينه مقامًا لا يقومُه أحدٌ، فيَغْبطُني به الأوَّلُون والآخِرُونَ" قال: "ويُفْتَح لهم من الكوثر إلى الحوض. . . " وذكر تمام الحديث في صفة الحوض، كما سيأتي قريبًا

(3)

.

وذكرنا في "المسند الكبير" عن حيدة الصحابي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "تحشرون يوم القيامة حُفَاةً عُراةً غُرلًا، وأول من يُكسى إبراهيم الخليل، يقول اللَّه تعالى: اكسوا خليلي ليعلم الناس فضله ثم يُكسى الناس على قدر الأعمال"

(4)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عَفَّان، حدّثنا حمَّاد بن سَلمة، حدّثنا ثابت، عن أنس بن مالك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يَطُولُ على الناس يومُ القيامة، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشَر، فليشفع لنا إلى رَبّنا عز وجل فلْيَقضِ بيننا، [فيأتون آدم، فيقولون: يا آدمُ، أنتَ الذي خلقك اللَّه بيده، وأسكنك جنته، فاشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا، فيقول:] إنّي لستُ هُناكم،

(1)

وفي بعض نسخ الكتاب: "ملك مصطفى".

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 178) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 398 - 399) وفي إسناده ضعف.

(4)

رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" بإسناد ضعيف. "جامع المسانيد" للمصنف (3/ 2345).

ص: 230

ولكِن ائتُوا نُوحًا رَأْسَ النبيِّين، فيأتونه، فيقولون: يا نوح، اشفعْ لنا إلى ربّك فليقض بيننا، فيقول: إني لَسْتُ هُناكُمْ، ولكن ائتوا إبراهيمَ خليلَ اللَّه عز وجل" قال:"فيأتونه، فيقولون: يا إبراهيم اشفع لنا إلى رَبّك، فليقض بيننا، فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه اللَّه عز وجل برسالاته، وبكلامه" قال: "فيأتونه، فيقولون: يا موسى، اشفع لنا إلى ربك عز وجل فليقض بيننا، فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا عيسى رُوحَ اللَّهِ وكَلِمَتَه، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا، فيقول: إنّي لست هناكم ولكن ائتوا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم فإنَّه خاتم النبيين وإنّه قد حضر اليوم وهو قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ويقول عيسى: أرأيتُمْ لو كان متاعٌ في وِعَاءٍ قد خُتِمَ عليه، هل كان يُقْدَرُ على ما في ذلك الوعاء حتى يُفَضَّ الخاتم؟ فيقولون: لا، قال: فإنّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم خاتمُ النبيين". قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني، فيقولون: يا محمد، اشفعْ لنا إلى رَبِّك، فلْيَقْضِ بيننا، فأقول: نعم، فآتي باب الْجنَّة، فآخذُ بحَلْقَةِ الباب، فأسْتَفْتِح، فيقال: منْ أنْتَ؟ فأقولُ: محمد، فيُفْتَحُ لي، فأخِرُّ ساجدًا، فأحمد رَبّي عز وجل بمَحامِدَ لم يَحْمَدْهُ بها أحد كان قبْلي، ولا يَحْمدُه بها أحدٌ كان بعدي، فيقول: ارفع رأْسَك، وقُلْ يُسْمعْ منْكَ، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: أيْ رَبِّ أمَّتي، أمَّتي، فيقال: أخْرِجْ منْ كان في قلبه مثقالُ شعيرةٍ من إيمان" قال: " [فأُخرجُهم، ثم أخِرُّ ساجدًا. . . " فذكر مثل ذلك "فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال بُرَّةٍ من إيمان، قال: "فأخرجهم، ثم أخِرُّ ساجدًا. . . " فذكر مثل ذلك "فيقال: أخرج من كان في قلبه مِثقالُ ذرَةٍ من إيمان" قال:] "فأخرجهم". وقد رواه البخاري ومسلم، من حديث سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنس، نحوَه

(1)

.

‌رواية أبي هريرة رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا أبو حيّان، حدّثنا أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: أُتيَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بلحم، فرُفع إليه الذراع، وكانت تُعْجبُه، فنَهَسَ منْهَا نَهْسَة، ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممَّ ذلك؟ يجمع اللَّه الأوَّلين والآخرين في صعيد واحدٍ، يُسْمِعُهم الداعي، ويَنفُذُهم البَصَر، وتدنو الشمس، فيَبْلُغ النَّاسَ من الغَمِّ، والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقول بعضُ الناس لبعض: ألا تَرَونَ ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تَنْظرون من يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدمُ، فيأتون آدم فيقولون: يا آدمُ، أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيكَ من رُوحه، وأمر الملائكة فسَجَدُوا

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 247 - 248) والبخاري رقم (4476) ومسلم رقم (193).

ص: 231

لك، فاشفع لنا إلى رَبِّك، ألا ترى ما نحنُ فيه؟ ألا ترى ما قد بَلَغَنا؟ فيقول آدم: إنّ رَبِّي قد غضب اليوم غضبًا لم يَغْضَبْ قبلَه مثلَه ولن يغضب بعده مثلَه، وإنّه نهاني عن الشجرة، فعصيْتُ، نفسي، نفسي، نفسي، [اذهبوا إلى غيري]، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أوَّلُ الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك اللَّهُ عبدًا شكورًا، فاشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بَلَغنا؟ فيقول نوح: إنَّ رَبِّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضبَ بعده مثله، وإنّه كانت لي دَعْوةٌ على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيمُ، أنت نبىّ اللَّه وخليله من أهل الأرض، [اشفع لنا إلى ربك] ألا ترى ما نحنُ فيه؟ ألا ترى ما قد بَلَغَنَا؟ فيقول: إنَّ رَبِّي قد غضب اليوم غضبًا لم يَغْضبْ قبله مثلهُ ولن يغضبَ بعده مثله، وذكر كَذَباتِه، نفسي، نفسي، نفسي [اذهبوا إلى غيري]، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللَّه، اصطفاك اللَّه برسالاته وبتكْلِيمه على الناس، اشفع لنا إلى ربِّكَ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بَلَغنا؟ فيقول لهم موسى: إنَّ ربِّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثلَه، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلتُ نفسًا لم أُومَرْ بقتْلِها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسولُ اللَّه، وكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيم ورُوحٌ منْه" قال: هكذا هو "وكلّمتَ الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ فيقول لهم عيسى: إنّ ربِّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبلَه مثله، ولن يغضبَ بعده مثله -ولم يذكر ذنبًا- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول اللَّه، وخاتمُ الأنبياء، وقد غَفر اللَّهُ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بَلَغنا؟ فأقوم فآتي تحتَ العرش، فأقَعُ ساجدًا لربِّي عز وجل، ثم يَفْتحُ اللَّهُ عليَّ ويُلْهِمُني من مَحامِدِه، وحُسْن الثناء عليه ما لم يَفْتَحهُ على أحدٍ قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسَك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشفع تَشفّعْ، فأقول: ربِّ أمَّتي أمَّتي، يا ربِّ أمَّتي أمَّتي، يا رب أمَّتي أمَّتي، فيقال: يا محمد، أدْخِلْ من أُمَّتِكَ منْ لا حساب عليه من الباب الأيْمن من أبواب الجنَّة، وهم شُركاءُ الناس فيما سِوَاه من الأبواب" ثم قال: "والذي نفس محمد بيده لَما بَيْن مِصْرَاعَيْنِ من مصاريع الجَنَّة لكما بين مكة، وهَجَر، أو كما بَيْنَ مكَّة وبُصْرى" أخرجاه في "الصحيحين" من حديث أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان، به

(1)

.

ورواه أبو بكر بن أبي الدُّنيا في "الأهوال" عن أبي خَيثَمَة، عن جَرير عن عُمَارَةَ بن القَعْقَاع، عن

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 435) والبخاري رقم (4712) ومسلم رقم (194).

ص: 232

أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . فذكر الحديث بطوله، وزاد في السياق:"وإنّي أخافُ أن يَطْرَحني في النار، انطلقوا إلى غيري" في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. وهي زيادة غريبة جدًّا، ليست في "الصحيحين"، ولا في أحدهما، بل ولا في شيء من بقيّة "السنن" وهي منكَرةٌ جدًّا، فاللَّه أعلم

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفَّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أبي نَضْرة المنذر بن مالك بن قِطْعة قال: خَطَبنا ابنُ عبّاس على منبر البَصرة، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن نبيٌّ إلَّا له دعوةٌ قد تَنَجَّزها في الدُّنيا وإنِّي قد اختبأْتُ دعوتي شفاعةً لأمّتي، وأنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة، ولا فَخْر، وأنا أوَّلُ من تَنْشَقُّ عنه الأرض، ولا فَخْر، وبيدي لواءُ الْحَمْد، ولا فخر، آدمُ فمن دونَهُ تحتَ لوائي ولا فخر، ويطولُ يومُ القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبينا فليشفعْ لنا إلى ربّنا عز وجل فليَقْض بَيْننا. فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا آدمُ، أنت الذي خلقك اللَّه بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته؛ اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا، فيقول: إنِّي لستُ هناكم، إنِّي قد أُخْرِجْتُ من الجنة [بخطيئتي] وإنه لا يُهمُّني اليوم إلَّا نفسي، ولكن ائتوا نُوحًا رأس النبيّين. . . " فذكر الحديث، كنحو ما تقدَّم إلى أن قال:"فيأتوني، فيقولون: يا محمد، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا، فأقول: أنا لها، حتى يأذن اللَّه لمن يشاءُ ويَرْضَى، فإذا أراد اللَّه تبارك وتعالى أن يصدع بين خلقه، نادى مُنادٍ: أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخِرون الأوّلون، آخرُ الأمم، وأوَّلُ من يُحاسب، فتُفْرِج لنا الأممُ طريقًا فنمضي غرًّا مُحَجَّلينَ من أثر الوضوء، فتقول الأمم: كادت هذه الأمّة أن تكون أنبياء كلُّها، فآتي بابَ الْجَنَّةِ. . . " وذكر تمام الحديث في الشفاعة، في عُصاةِ هذه الأمَّة

(2)

.

وقد ورد هذا الحديث هكذا عن جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه من رواية حذيفة بن اليمامة عنه، وسيأتي في أحاديث الشفاعة. والعجب كلُّ العجب من إيراد الأئمّة لهذا الحديث في أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في إتيانِ الرب لفَصْل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصُّور، كما تقدَّم، وهو المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أوَّل الحديث، فإنَّ الناس إنَّما يستشفعون إلى آدم فمنْ بعده من الأنبياء في أنْ يفْصل بين الناس، ليستريحوا من مَقامِهم ذلك، كما دلَّت عليه سياقاتُه من سائر طرقه، فإذا وصلُوا إلى المَحَزّ إنَّما يذكرون الشفاعة في عُصاة

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(197).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 281، 282). أقول: في سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولكن الحديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 233

الأمّة، وإخراجهم من النار، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث، هو الردّ على الخوارج ومنْ تابعهم من المُعتزلة؛ الذين يُنكرون خروج أحدٍ من النار؛ بعد أن يدخلها؛ فيذكرون هذا القَدْر من الحديث الذي فيه النصَّ الصريح في الردّ عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث؛ وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصُّور كما تقدّم أنَّ الناس يذهبون إلى آدم، ثمَّ إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى. ثم يأتون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيذهبُ فيسجدُ للَّه تحت العرش، في مكان يُقالُ له: الفَحْص، فيقول اللَّه عز وجل: ما شأنك؟ "فأقول: يا ربِّ، وعدتني الشفاعةَ فشفّعني في خَلْقِك، فاقْض بينهُمْ، فيقول: شَفَّعْتُك، أنا آتيكم فأقضي بينكم" قال: "فأرجع، فأقفُ مع الناس. . . " إلى أن قال: "فيضع اللَّه كرسيَّه حيث شاء من أرضه. . . " وذكر الحديث كما تقدم.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمرٌ، عن الزهريِّ، عن علي بن الحسين زين العابدين، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ القيامة مَدَّ اللَّهُ الأرضَ مَدَّ الأديم حتى لا يكون لبشرٍ من الناس إلا موضع قَدَمَيْهِ" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فأكونُ أوَّلَ من يُدْعَى، وجبريلُ عن يمين الرحمن عز وجل، واللَّه ما رآه قبلها، فأقول: أيْ ربِّ، إنّ هذا أخْبَرَني أنَّكَ أرْسَلْتَهُ إليّ؛ فيقول اللَّه: صدق. ثم أشْفعُ، فأقول: يا ربِّ، عبادُك عبدوك في أطراف الأرض" قال: "فهو المَقامَ المحمود". هذا مرسل من هذا الوجه

(1)

.

وعندي أن معنى قوله: "عبادُك عبدُوك في أطراف الأرض"، أي وقوف في أطراف الأرض، أي الناس مجتمعون في صعيد واحد، مؤمنهم وكافرهم، فيشفع فيهم عند اللَّه ليأتي لِفَصْل القضاء بين عباده، ويميزَ مؤمنهم من كافرهم في الموقف والمصير في الحال والمآل، ولهذا قال ابن جرير: قال أكثرُ أهل التأويل في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] هو المقامُ الذي يقومه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليُريحهم ربُّهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.

وقال البخاريُّ: حدّثنا إسماعيل بن أبان، حدّثنا أبو الأحْوص، عن آدم بن عليّ قال: سمعتُ ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا

(2)

كل أمَّةٍ تَتْبعُ نَبيَّها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعةُ إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فذلك يومَ يبعَثُه اللَّهُ مقامًا محمودًا. قال: ورواه حمزة بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أسند ما علقه هاهنا في موضع آخر من "الصحيح"

(1)

رواه عبد الرزاق عند تفسير الآية (79) من سورة الإسراء، والآية (3) من سورة الانشقاق، وهو مرسل كما قال المصنف.

(2)

جُثًا: جالسين على ركبهم.

ص: 234

فقال في كتاب الزكاة: حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن عُبيد اللَّه بن أبي جعفر، سمعتُ حمزةَ بن عبد اللَّه بن عمر، سمعتُ عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ العبدُ يَسْأل الناس حتى يأتيَ يوْم القِيَامة لَيْسَ في وَجْهه مُزْعةُ لَحْمٍ"، وقال:"إن الشمس تدنُو يومَ القيامة حتى يَبْلُغَ العرقُ نِصْفَ الأذن، فبينما هم كذلك إذِ استغاثوا بآدمِ، ثم بموسى، ثم بمحمّد صلى الله عليه وسلم" زاد عبد اللَّه بن يوسف

(1)

: حدّثني الليثُ، عن ابن أبي جعفر:"فيَشْفع ليقضي بين الخلق؛ فيَمْشي حتّى يأخُذَ بحلْقة الباب؛ فيومئذٍ يَبْعَثُه اللَّه مقامًا محمودًا يحمَدُه فيه أهلُ الجمع كلُّهم".

وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم، عن شُعَيْب بن الليث، عن أبيه، به بنحوه

(2)

.

‌ذكر ما ورد في الحوض النبويّ المحمديّ سقانا اللَّه منه يوم القيامة

من الأحاديث المتواترة المتعدّدة من الطرق الكثيرة المتضافرة، وإن رَغِمَتْ أنوف [كثير من المُبْتَدِعَة النافرة، المُكابرة] القائلين بجُحوده، المُنكرين لوجوده، وأخلِقْ بهم أن يحال بينهم وبين وروده، كما قال بعض السلف: من كَذَّبَ بكرامة لم يَنَلْها. ولو اطَّلع المُنْكِرُ للحوض على ما سنُورده من الأحاديث قبلَ مَقَالَتِهِ لم يَقُلْها.

روى أحاديث الحوض جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أُبيُّ بنُ كعب، وأنس بن مالك، والحسن بن عليّ، وحمزة بن عبد المطَّلب، والبراءُ بن عازب، وبُريدة بن الحُصيب، وثَوْبانُ مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجابرُ بن سَمُرة، وجابر بنُ عبد اللَّه، وجرير بن عبد اللَّه البَجَليّ، وحارثةُ بن وَهْب، وحُذَيفةُ بن أسيد، وحُذيفة بن اليمان، وزيدُ بن أرقم، وعبدُ اللَّه بن عبَّاس، وعبدُ اللَّه بن عمر، وعبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص، وعبدُ اللَّه بن مسعود، وعُتْبةُ بن عَبْدٍ السّلمىّ، وعثمانُ بن مظعون، والمسْتَوْرِدُ، وعُقْبةُ بن عامر الجُهَنيّ، والنّوّاسُ بنُ سِمعان، وأبو أُمامةَ الباهِليّ، وأبو بَرْزةَ الأسْلَميّ، وأبو بَكْرَةَ، وأبو ذرٍّ الغِفَاريّ، وأبو سعيد الخُدْريّ، وخَوْلة بنتُ قَيس، وأبو هريرة الدّوْسيّ، وأسماءُ بنتُ أبي بكر، وعائشةُ، وأُمُّ سلمةَ، وامرأةُ حمزة عمَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي من بني النجَّار رضي الله عنهم أجمعين.

(1)

كذا في النسخ: عبد اللَّه بن يوسف، والصحيح: عبد اللَّه بن صالح.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4718) وبعد (4719) معلقًا و (1475) مسندًا.

ص: 235

‌رواية أُبي بن كعب الأنصاري

قال أبو القاسم الطبرانيّ: حدّثنا أبو زُرْعة الدمشقىّ، حدّثنا محمد بن الصَّلت، حدّثنا عبدُ الغفَّار ابن القاسم، عن عديّ بن ثابت، عن زِرّ بن حُبَيْشٍ، عن أُبيّ بن كعب: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الحوض، فقالوا: يا رسول اللَّه، وما الحوض؟ فقال:"ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأبردُ من الثلج، وأحْلى منَ العَسَل، وأطْيَبُ رِيحًا منَ المِسْكِ، منْ شَرِبَ منه شَرْبَة لَم يَظْمأ أبدًا، ومن صُرف عنه لم يَرْوَ أبدًا". ورواه أبو بكر بن أبي عاصم، في كتاب "السنة": حدّثنا عُقْبةُ بن مُكْرَم، حدّثنا يونس بن بُكَيْر، حدّثنا عبد الغفار بن القاسم. . .، فذكره بإسناده، نحوَه، ولفظُه: قيل: يا رسول اللَّه، وما الحوض؟ قال:"والذي نفسي بيده، إنَّ شَرَابهُ أبيضُ من اللبن، وأحلى من العَسل، وأبرَدُ من الثّلْجِ، وأطيَبُ ريحًا من المِسْك، وآنِيَتُه أكثرُ عددًا من النجوم، لا يَشْرَب منْهُ إنسان فيَظْمأ أبدًا، ولا يُصرف عنه إنسان فيَرْوَى أبدًا". لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب ولا الإمام أحمد

(1)

.

‌رواية أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه

قال البخاري: حدّثنا سعيد بن عُفَير، حدّثنا ابنُ وهب، عن يونس، قال ابن شهاب: حدّثني أنس بن مالك: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ قَدْرَ حَوْضي كما بين أيْلَة

(2)

وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نُجُوم السماء". وكذا رواه مسلم، عن حرْملة، عن ابن وهب، به

(3)

.

‌طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال البخاري: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا وُهَيْب، حدّثنا عبد العزيز، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "لَيردَنَّ عليَّ ناسٌ منْ أصحابي الحوض حتى إذا عَرَفْتُهم اخْتُلِجُوا

(4)

دُوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تَدْري ما أحْدثُوا بَعْدك". ورواه مسلم، عن محمد بن حاتم، عن عفّان، عن وهيب بن خالد، عن عبد العزيز بن صُهَيْب، به

(5)

.

(1)

مدار الحديث على عبد الغفار بن القاسم، وكان يضع الحديث، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (717) وأبو يعلى في "الكبير" رقم (4557 - المطالب العالية) ولكن له شواهد يقوى بها، منها في السنة لابن أبي عاصم (716) و (718) وعند أحمد (1/ 399).

(2)

تُسامِتُ الآن مدينة العقبة في الأردن.

(3)

رواه البخاري رقم (6580) ومسلم (2303)(39).

(4)

أي انتزعوا وأبعدوا.

(5)

رواه البخاري في صحيحه (6582) ومسلم (2304)(40).

ص: 236

‌طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا محمدُ بن فُضَيْل، عن المختار بن فُلْفُل، عن أنس بن مالك، قال: أغفى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، فرفع رأسه مُتَبَسِّمًا، إمَّا قال لهُمْ، وإمَّا قالوا له: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُنزلتْ عليَّ آنِفًا سورةٌ" فقرأ: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر]، ثمَّ قال: "هل تدرون ما الكوثرُ؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: "هو نهر أعْطانِيه رَبِّي عز وجل في الْجَنَّة، عليه خَيْرٌ كَثيرٌ، تَرِدُ عليه أمَّتي يومَ القيامة، آنيتُه عَدَدُ الكَواكِب، يُخْتَلجُ العَبْدُ منهم، فأقول: يا ربِّ، إنّه من أمَّتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بَعْدَك". هذا ثلاثيّ الإسناد. ورواه مسلم، وأبو داود، والنّسائي، من حديث ابن فُضَيْل، وعليّ بن مُسْهِر، كلاهما عن المختار بن فُلْفُل، عن أنس، به، ولفظ مسلم: "هو نهر وَعدنيه رَبِّي عز وجل، عليه خيْرٌ كثير، هو حوضٌ، تَرِدُ عليه أُمَّتي يومَ القيامةِ" والباقي مثله

(1)

ومعنى ذلك أنّه يَشْخُبُ من الكوثر

(2)

ميزابانِ إلى الحَوْضِ، والحوض موقف القيامة قبل الصراط، لأنه يُخْتلج منه، ويُمْنَعُ منه أقوامٌ قد ارتدُّوا على أعقابهم ومثلُ هؤلاء لا يُجاوزون الصراط، كما سَيَردُ هذا من طرق متعدّدة، وجاء مُصرَّحًا به أنه في العَرَصاتِ كما سَتراهُ قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.

‌طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال أحمد: حدّثنا أبو عامر، وأزهر بن القاسم، حدّثنا هشام، عن قتادةَ، عن أنس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ ما بَيْنَ نَاحِيَتي حَوْضي، مَثَلُ ما بَيْنَ المَدينةِ وَصَنْعاءَ، أو مَثَلُ ما بَيْنَ المَدِينة وعمَّانَ". وقد رواه مسلم، عن هارون الحمَّال، عن أبي عامر، عبد الملك بن عمرو

(3)

. وأخرجه مسلم أيضًا عن عاصم بن النَّضْر الأحول، عن المُعْتمر بن سُلَيْمان، عن أبيه، عن قتادةَ، عن أنس بنحوِه

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 102) ومسلم رقم (400) وأبو داود رقم (4747) والنسائي في "الكبرى"(11702).

(2)

وهو في الجنة.

(3)

كذا في النسخ هارون عن أبي عامر، والصواب هارون عن عبد الصمد، كما عند مسلم.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 133) ومسلم رقم (2303)(42) و (41).

ص: 237

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال أحمد: حدّثنا يونُس، وحسن بن موسى، قالا: أنبأنا حمَّادُ بن سلَمة. ورواه أحمد أيضًا عن عفّان، عن حمّاد بن سَلَمة، عن عليّ بن زيد، عن الحسن، عن أنس، أنّ قومًا ذَكَروا عند عُبيد اللَّهِ بن زياد الْحَوضَ، فأنكره [وقال: ما الحوض؟ فبلغ ذلك أنس بن مالك، فقال: لا جرم، واللَّه لأفعلنَّ، فأتاه فقال: ذكرتم الحوض؟] فقال عُبَيْدُ اللَّه: هل سمعتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكره؟ فقال: نعم، أكثر من كذا وكذا مرَّة يقول:"إنّ ما بَيْنَ طَرَفيْهِ كما بَيْنَ أيْلة إلى مكَّة، أو بَيْن صَنْعاء ومكَّةَ، وإن اَنيته أكثر من عدد نجوم السماء. . . " انفرد به أحمد

(1)

.

وقد رواه يحيى بن محمد بن صاعِد، عن سوَّار بن عبد اللَّه القاضي العَنْبريّ، عن مُعاذِ بن مُعاذٍ العَنْبريّ، عن أشعثَ بن عبد الملك الحُمْرانيّ، عن الحسن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حَوْضي ما بَيْنَ كذَا إلى كذا، فيه من الآنيةِ عددُ نجُوم السماء، أحْلَى من العَسل، وأبْرَدُ منَ الثَّلْجِ، وأبيضُ من اللَّبن، منْ شَربَ منه لم يظمأ أبدًا، ومن لم يشربْ منه لم يَرْوَ أبدًا"

(2)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال أبو يَعْلى: حدّثنا عبد الرحمن، هو ابن سَلَّامِ، حدّثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابت، عن أنس: أنّ عُبَيْدَ اللَّه بن زياد قال: يا أبا حمزة، هل سمعتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكُر الحوض؟ فقال: لقد تركتُ بالمدينة عَجَائزَ يُكْثرْنَ أنْ يَسْألْنَ اللَّهَ أن يُوردَهنَّ حَوْضَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال أبو يعلى أيضًا: حدّثنا أبو خيثَمة، حدّثنا عمر بن يونس الحنفيّ، حدّثنا عِكْرمةُ، هو ابنَ عمار، عن يزيد الرَّقَاشيّ، قال: قلت: يا أبا حمزة، إنّ قومًا يشهدون علينا بالكُفْر، والشِّرْك. فقال أنس: أولئك شرُّ الخَلْق، والخَليقةِ، قلت: ويُكَذِّبُون بالحَوْض، فقال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 230) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وفيه عنعنة الحسن أيضًا ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(2)

فيه عنعنة الحسن، ولكن له شواهد يقوى بها.

(3)

رواه أبو يعلى في مسنده رقم (3355) وهو موقوف صحيح.

ص: 238

يقول: "إنّ لي حوضًا عرضهُ كما بيْن أيلة إلى الكَعْبَةِ-" أو قال: "صنعاءَ- أشَدَّ بياضًا من اللبن، وأحلَى من العَسَل، فيه آنيةٌ عَدَدُ نجوم السماء، يَمُدُّه مِيزَابانِ منَ الجنَّةِ، منْ كذَّبَ بهِ لم يُصِبْ منه الشُّرْبَ"

(1)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال الحافظ أبو بكر، أحمدُ بن عبد الخالق البزّار في "مسنده": حدّثنا محمد بن معمر، حدّثنا أبو داود، حدّثنا المسعوديّ، عن عديّ بن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حوضي من كذا إلى كذا، فيه من الآنِيَة عددُ النُّجومِ، أطْيبُ ريحًا من المِسْك، وأحلَى من العَسل، وأبردُ من الثَّلْجِ، وأبْيضُ من اللّبَنِ، منْ شَرِب منه شَرْبةً لم يَظْمأْ أبدًا، ومَنْ لم يَشْرَبْ منه لم يَرْوَ أبدًا" ثم قال: لا نعلمُه يُروى بهذا اللفظ إلّا عن أنس بهذا الإسناد، ولم يَرْوِ عديّ بنُ ثابت عن أنس سواه، ولا رواه عنه إلّا المسعوديّ. وهذا إسناد جيِّد، ولم يَرْوِه أحدٌ من أصحاب الكتب، ولا أحمد بنُ حَنْبل

(2)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال ابن أبي الدنيا: حدّثني الحسن بن الصبّاح، حدّثني مكي بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن عُبَيْدَةَ، عن أبي بكر بن عُبَيْد اللَّه بن أنس، عن جَدّه أنس بن مالك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أُريت حوضي، فإذا على حافَتيه آنيةٌ مثلُ نجوم السماء، فأدْخَلْتُ يدي، فإذا عَنْبر أذفرُ"

(3)

.

‌رواية بريدة بن الحُصيب الأسلمي

قال أبو يعلى الموصلي: حدّثنا يحيى بن مَعين، حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن عائذ بن نُسَيْر

(4)

العِجْليّ، عن علقمة بن مَرْثَد، عن ابن بُرَيْدةَ، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حوضي كما بين عَمَّانَ إلى اليمن، فيه آنية عدد نجوم السماء، من شرب منه شَرْبةً لم يظمأ بعدها أبدًا". وهكذا رواه ابن صاعد، وابن أبي الدنيا، عن عبد اللَّه بن الوَضّاح الأزديّ اللؤلؤيّ، عن يحيى بن يَمانٍ، به،

(1)

رواه أبو يعلى رقم (4099) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البزار رقم (3484 - كشف الأستار) أقول: وفي إسناده المسعودي وقد اختلط، لكن للحديث شواهد يقوى بها.

(3)

وإسناده ضعيف.

(4)

في (أ): عائذ بن بشير. والتصحيح من كتب المشتبه.

ص: 239

ولفظه: "حوضي ما بين عمّان واليمن، فيه آنيةٌ عددُ نجوم السماء، أحلى من العسل، وأبيضُ من اللبن، وألْيَنُ من الزُّبْد، منْ شرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا". لم يخرجوه

(1)

.

‌رواية ثوبان رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا همَّامٌ، حدّثنا قَتادةُ، عن سالم، عن مَعْدان، عن ثَوْبان: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بعُقْرِ

(2)

حَوْضي يوم القيامة، أذُودُ عنه النَّاسَ لأهل اليمن وأَضْرِبُهم بعَصَاي، حتى يَرْفَضّ عنهم" قال: قيل: يا رسول اللَّه، ما سَعَتُه؟ قال: "من مَقامي إلى عمّان، يَغُتُّ

(3)

، فيه ميزابان يمُدّانِه". ورواه أحمد أيضًا عن عبد الصمد، عن هشام، عن قتادة، وعن عبد الوهاب، عن سعيد بن أبي عَرُوبةَ، عن قتادةَ، وعن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قَتادة، به، فسئل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عَرضه، فقال: "من مَقامِي إلى عَمّان". وقال عبد الرزاق: "ما بين بُصْرَى وَصَنْعاء، أو مَا بَيْن أيْلَة ومكّة" أو قال:"من مقامي هذا إلى عَمّان" وسُئل عن شرابه، فقال:"أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يَغُتُّ، فيه مِيزابانِ، يَمُدّانه من الجنّة، أحدهما من ذَهَبٍ، والآخَرُ منْ وَرِق".

وقال أبو يعلى: حدّثنا أبو بكر، هو ابن أبي شَيْبَة، حدّثنا محمد بن بِشْر العبديّ، حدّثنا سعيدُ بن أبي عَرُوبة، عن قتادةَ، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعْدان بن أبي طَلْحة، عن ثَوْبان أنَّ نَبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أنا عِنْدَ عُقْرِ حَوْضي أذودُ عنْهُ النَّاسَ لأهْلِ اليَمن، إنّي لأضْرِبُهُمْ بعَصايَ حتّى يَرْفضَّ الناس" قال: وسُئلَ صلى الله عليه وسلم عن سَعَةِ الحوض، قال:"مثلُ مَقامي هذا إلى عمّان، ما بينهما شهر، أو نحو ذلك" فسئل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شرابه، فقال:"أشدُّ بياضًا منِ اللبن، وأحلى من العسل، يَغُتُّ فيه ميزابان، مِدَادُه أو مِدَادُهما من الجَنّة، أحدهما وَرِقٌ، والآخرُ ذهبٌ".

وهكذا رواه مسلم، عن أبي غَسّان مالك بن إسماعيل، ومحمد بن المُثنَّى، ومحمد بن بَشّار، ثلاثتهم عن مُعاذِ بن هشام، عن أبيه، عن قتادةَ، بنحوه

(4)

.

(1)

ورواه البزار بنحوه مختصرًا من حديث بريدة رقم (3487 - كشف الأستار)، ونسبه المصنف في "جامع المسانيد"(2/ 826) وابن حجر في "إتحاف المهرة" رقم (2356) إلى أبي يعلى، وفي سندهم عائذ بن نسير، وهو ضعيف.

(2)

العُقْر: موضع الشاربة منه.

(3)

يَغُتّ: قال ابن الأثير في النهاية: يدفق فيه الماء دفقًا دائمًا متتابعًا.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 280 و 281 و 283) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20853) وابن أبي شيبة رقم (11718) ومسلم رقم (2301).

ص: 240

‌طريق أخرى عن ثوبان

قال أحمد: حدّثنا حُسَيْن بن محمد، حدّثنا ابن عَيَّاش، عن محمد بن المُهاجِر، عن العبَّاس بن سالم اللَّخْميّ، قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سَلّام الْحَبَشيّ، فَحُملَ إليه على البريد ليسأله عن الحوض، فقُدِمَ به عليه، فسأله فقال: سمعتُ ثوبانَ يقول: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ حوضي من عَدَنَ إلى عَمّانَ البَلْقَاء، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكاويبه عدد النجوم، من شرب منه شَرْبةً لم يظمأ بعدها أبدًا، أوَّل الناس ورودًا عليه فُقراءُ المهاجرين" فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: من هم يا رسول اللَّه؟ قال: "هم الشُّعْثُ رُؤوسًا، الدُّنْسُ ثِيابًا، الذين لا يَنْكِحُون المُتنَعِّماتِ، ولا تُفْتّح لهم أبواب السُّدَدِ". فقال عمر بن عبد العزيز: لقد نَكَحْتُ المُتَنَعِّماتِ، وفُتِحتْ لي أبواب السُّدَد، إلّا أنْ يَرْحَمني اللَّهُ، واللَّه لا أدْهُنُ رَأْسي حتى يشْعثَ، ولا أغْسِلُ ثوبي الذي يَلي جَسَدي حتّى يَتَّسِخَ. ورواه الترمذي في الزُّهد عن محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن صالح. وابنُ ماجه فيه، عن محمود بن خالد الدمشقيّ، عن مروان بن محمد الطَّاطريّ، كلاهما عن محمد بن المُهاجِر، عن العبَّاس بن سالم، عن أبي سلّام، به. قال شيخنا المزِّيّ في "أطرافه": ورواه الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث، وشيبة بن الأحنف، وغيرهما، عن أبي سلَّام.

وقال أبو بكر بن أبي عاصم: حدّثنا هشام بن عمّار، حدّثنا صَدَقةُ، حدّثنا زيد بن واقد، حدّثني بُسْر بن عُبَيْد اللَّه، حدّثنا أبو سلّام الأسود، عن ثَوْبان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حوضي كما بَيْنَ عَدَن إلى عَمّان، أشَدُّ بيَاضًا من اللبن، وأحْلَى من العسل، وأطيبُ رائحةً من المسك، أكاوِيبُهُ كنُجوم السَّماء، منْ شرب منه شَرْبةً لم يظمأ بعدها أبدًا، وأكثرُ الناسِ عليَّ وَاردةً فقراءُ المهاجرين" قلنا: ومنْ هُم يا رسول اللَّه؟ قال: "الشُّعْثُ رُؤوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المُتَنَعِّمات، ولا تُفتح لهم أبواب السُّدد، الذين يُعْطُونَ الذي عليهم، ولا يُعْطَون الذي لهم". وهذه طريق جيِّدة، وللَّه الحمد والمِنّة

(1)

.

‌رواية جابر بن سمرة رضي الله عنهما

قال أبو يعلى [الموصلي]: حدّثنا أبو هَمَّامٍ، الوليدُ بن شَجاع، [حدّثنا أبي]، حدّثنا زياد بنُ

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 275) والترمذي رقم (2444) وابن ماجه (4303) وابن أبي عاصم في السنة رقم (706) مع (749) والمرفوع منه صحيح.

ص: 241

خَيْثَمة، عن سِمَاك بن حَرْب، عن جابر بن سَمُرَة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنّي فَرَطُكُم على الحَوْض، وإنّ بُعْدَ ما بَيْنَ طَرَفَيْه كما بَيْنَ صَنْعاء وأيْلةَ، كَأنَّ الأباريقَ فيه النجوم". وهكذا رواه مسلم، عن أبي همَّامٍ، به، وقال:"أنا فرَط لكم. . . " والباقي مِثْلهُ

(1)

.

‌طريق أخرى عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما

قال مسلم: وحدّثنا قُتَيْبة بنُ سَعيد، وأبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، قالا: حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، قال: كتبتُ إلى جابر بن سَمُرة مع غُلامي نافع: أخْبِرني بشيء سَمِعْتَه مِنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكتب إليَّ: إنِّي سمعتُه يقول: "أنا الفَرَطُ على الحوض"

(2)

.

‌رواية جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا زكريّا بن إسحاق، حدّثنا أبو الزبير: أنّه سمع جابرَ بن عبد اللَّه يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا على الحوض أنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَليّ" قال: "فيؤخذُ ناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ، منِّي، ومنْ أمّتي، فيقال: وما يُدريك ما عَمِلوا بعدك؟ ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" قال جابر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحوضُ مَسيرةُ شَهْرٍ، وزواياه سواءٌ" يعني عَرْضُه مثلُ طوله "وكيزانُه مثلُ نُجوم السماء، وهو أطيبُ ريحًا من المسك، وأشدُّ بياضًا من اللبن، منْ شرب منه لم يظمأ أبدًا". هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، ولم يروه

(3)

، وقد رَوَى من طريق زكريَّا عن أبي الزُّبير، عن جابر، ستة أحاديث، ليس هذا منها

(4)

.

‌طريق أخرى عن جابر رضي الله عنهما

قال أبو بكر البزَّار: حدّثنا محمد بن عمر بن هَيّاج، حدّثنا يحيى بن عبد الرحمن الأرْحَبيّ، حدّثنا عُبَيْدةُ بن الأسود، عن مُجالد، عن عامر، هو الشعبيّ، عن جابر بن عبد اللَّه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي فَرَطُكُمْ على الحوض؛ وإنّي مُكاثرٌ بكُمُ الأممَ، فلا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا" فقال رجل: يا رسول اللَّه، ما عَرْضُه؟ قال:"ما بين أيْلَة" -أحْسِبُه قال:-

(1)

رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده رقم (7478) ومسلم رقم (2305)(44).

(2)

رواه مسلم (2305)(45) وابن أبي شيبة (11/ 438).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 384).

(4)

انظرها في تكملة "جامع المسانيد"(25/ 124 - 130).

ص: 242

"إلى مكّة، فيه مكاكي

(1)

أكثرُ من عدد النجوم، لا يتناول مؤمن منها واحدًا فيضعه من يده حتّى يتناوله آخر" ثم قال: لا يُروى عن جابر إلّا من هذا الوجه، ورواه ابن أبي الدّنيا عن أبي عبد الرحمن القُرَشيّ، عن عُبَيْدةَ بنِ الأسود، به

(2)

.

‌رواية جندب بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه

قال البخاريُّ: حدّثنا عَبْدانُ، أخبرني أبي، عن شُعبة، عن عبد الملك، سمعتُ جُنْدُبًا، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا فَرَطُكُمْ على الحوض". ورواه مسلم، من حديث شُعبة وزائدة ومِسْعَر، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عُمَيْر، به. ورواه الإمام أحمد، من حديث هؤلاء، عنه، وعن سُفيان بن عُيَيْنة، عنه، ثمَّ قال سفيانُ: الفَرَطُ الذي يسبق

(3)

.

‌رواية حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه

قال البخاريّ: حدّثنا علي بن عبد اللَّه، حدّثنا حَرَميُّ بنُ عُمارة، حدّثنا شُعْبةُ، عن معبد بن خالد: سمع حارثةَ بنَ وَهْب، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذكر الحوضَ، فقال:"كما بَيْنَ المَدِينةِ وصَنْعاء" وزاد ابنُ أبي عَديّ، عن شُعْبة، عن معبد بن خالد، عن حارثةَ بنِ وَهْب، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"حوضُه ما بَيْن صنْعاءَ والمَدينة" فقال له المُسْتَورِدُ: ألم تسمعه قال الأواني؟ قال: لا، قال المستورد: تُرَى فيه الآنيةُ مثلَ الكواكب. وقد رواه مسلم، عن [إبراهيم بن] محمد بن عَرْعَرة، عن حَرَمِيّ بن عُمَارَة، عن شُعْبَة، كما ساقه البُخاريّ. ورواه، عن محمد بن عبد اللَّه بن بَزيْع، عن محمد بن عبد اللَّه، وهو ابن أبي عديّ، عن شُعْبة، كما ذكره البخاريّ سواء

(4)

. والمستورد هذا هو ابن شَدّاد بن عمرو الفِهْريّ، صَحَابيٌّ جليل، عَلّق له البخاريّ، وأسند ذلك مسلم. وروى له أهل السنن الأربعة، وله أحاديث

(5)

.

(1)

مكاكي، جمع مكوك، وهو المُد.

(2)

رواه البزار قم (3482 - كشف الأستار) وفي إسناده ضعف، ولأكثره شواهد.

(3)

رواه البخاري رقم (6589) ومسلم رقم (2289) وأحمد في المسند (4/ 313) وانظر "إتحاف المهرة" رقم (3981) و"جامع المسانيد" للمصنف (3/ 1686).

(4)

رواه البخاري رقم (6591) ومسلم رقم (2298).

(5)

انظرها في "جامع المسانيد" للمصنف (11/ 8388 - 8405).

ص: 243

‌رواية حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري

أُنبئنا عن الحافظ الضِّياء، محمد بن عبد الواحد المقدِسيّ، رحمه الله أنه قال في الجزء الذي جمعه في أحاديث الحَوْض: أخبرنا محمد بن أحمد بن نَصْر الأصفهانيّ بها، أنّ الحسن بن أحمد الحدَّاد أخبرهم قراءةً عليه وهو حاضر، حدثنا أحمد بن عبد اللَّه، يعني أبا نُعَيْم الأصبهانيّ، أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا إسماعيلِ بن عبد اللَّه بن سَمُّوْيَهْ، حدّثنا سعيدُ بن سُلَيْمانَ، حدّثنا زيد بن الحسن، حدّثنا معروف بنُ خرَّبُوذَ، حدّثنا أبو الطُّفَيْل، عن حُذَيْفَةَ بنِ أسيدٍ رضي الله عنه، قال: لمّا صدَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن حَجَّة الوداع قال: "أيُّها الناس، إنِّي فَرَطُكُمْ على الْحَوْض، وإنَّكمْ وارِدُونَ على حوضٍ عرضُه ما بين بُصْرَى وصَنْعاءَ، فيه آنية عدد النجوم". لم يروه من أصحاب الكتب أحد، ولا أحمد

(1)

.

‌رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لَهِيعَةَ، حدّثنا ابن هُبَيْرَةَ: أنّه سمع أبا تَميم الْجَيْشانيّ، يقول: أخبرني سعيد: أنّه سمع حُذَيْفة يقول: غاب عنّا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا، فلم يخرج إلينا، حتى ظَنّنَّا أنّه لن يخرج، فلمَّا خرج سَجد سَجْدةً فَظَنَنَّا أن نفسه قد قُبضتْ فيها، فلما رفع رأسه قال:"إنَّ ربِّي تبارك وتعالى استشارني في أمَّتي: ماذا أفعلُ بهم؟ فقلت: ما شئت أيْ ربِّ، هم خَلْقُك وعِبَادُك، فاستشارني الثانيةَ، فقلت له كذلك، فقال: لن أُخْزيَكَ في أمَّتك يا محمد، وبَشَّرني أنّ أوَّل منْ يدخُلُ من أمتي سبعون ألفًا، مع كل ألف سبعون ألفًا، ليس عليهم حساب، ثم أرسلَ إليّ، فقال: ادعُ تُجبْ، وسل تعْطَ، فقلت لرسوله: أوَمُعْطيَّ [ربِّي] سُؤْلي؟ فقال: ما أرسلني إليكَ إلّا لِيُعْطيك، ولقد أعطاني رَبّي عز وجل ولا فخر، وغَفَر لي ما تقدَّم من ذنبي وما تأخّر، وأنا أمشي حَيًّا صحيحًا، وأعطاني ألّا تَجُوعَ أمّتي، ولا تُغلَب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة، يسيلُ في حوضي، وأعطاني العِزّ والنصر، والرُّعْبَ يسعى بين يَدَيْ أمَّتي شهرًا، وأعطاني أنِّي أوَّلُ الأنْبياء أدْخُلُ الْجَنَّة، وطَيَّب لي ولأُمَّتي الغَنيمةَ، وَأَحلَّ لنا كثيرًا ممَّا شدَّد على منْ قَبْلنا، ولم يَجعلْ علينا من حرَج". هذا حديث حسن الإسناد والمتن

(2)

.

رواه الطبراني من حديث مُبارك بن فَضَالةَ، عن خالد بن أبي الصَّلْت، عن عبد الملك بن عُمَيْر، عن رِبعيّ، عن حُذيفة، مرفوعًا: "ستكونُ أمراءُ يَكْذبُونَ، ويَظْلمُونَ، فمن صدَّقَهُمْ بِكَذِبهم، وأعانهُمْ على ظُلْمهم، فليس منِّي، ولَسْتُ منه، (ولن يرد عليَّ الحوض) ومن لم يُصَدّقهم

(1)

ورواه الطبراني في "الكبير" رقم (2683) و (3052) وفي سنده: زيد بن الحسن صاحب الأنماط، وهو ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 393). أقول: وإسناده ضعيف، ولكن لبعض فقراته شواهد.

ص: 244

بكَذِبهم، ولم يُعِنْهُمْ على ظُلْمهم، فهو منّي وأنا منه، وسَيردُ عليَّ الْحَوْضَ غدًا إن شاء اللَّهُ"

(1)

.

قال أبو القاسم البَغَويّ: حدّثنا عثمان بن أبي شَيْبَةَ، حدّثنا عليّ بنُ مُسْهِرٍ، عن سعد بن طارق، عن ربْعِيّ بن خِرَاش، عن حُذيْفَة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ حوضي لأبعدُ منْ أيْلةَ وَعَدنَ، والذي نفسي بيده لآنيته أكثرُ من عدد النجوم، ولَهُوَ أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده، إنّي لأذود عَنْهُ الرِّجالَ كما يذودُ الراعي الإبلَ الغَريبةَ عنْ حَوْضِهِ" قال: قيل يا رسول اللَّه، تَعْرِفُنا يَوْمئذٍ؟ قال:"نَعَمْ، تردُونَ عليّ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثار الوضوء، ولَيْستْ لأحَدٍ غيركم". [ورواه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة، بنحوه. وعلقه البخاريّ، فقال: وقال حُصَيْنٌ، عن أبي وائلٍ، عن حُذَيْفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم]

(2)

.

‌حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

قال الطبرانيّ: حدّثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حَنْبل، وعبدُ الرحمن بن سلْم الرازي، قالا: حدّثنا عبَّاد بن يعقوب الأسديُّ، حدّثنا علي بن عابس

(3)

، عن بدر بن الخليل أبي الخليل، عن أبي كَثير، قال: كنتُ جالسًا عند الحسن بن عليّ، فجاءه رجل فقال: لقد سبَّ عِنْدَ مُعاويةَ عَليًّا سَبًّا قَبِيحًا رَجُلٌ يقال له: مُعاويةُ بنُ حُدَيْجٍ، فقال: تعرفه؟ [قال: نعم]، قال: فإذَا رَأَيْتَهُ فَأْتِني به. قال: فرآه عند عمرو بن حُرَيْث؛ فأراه إيَّاه؛ فقال: أنت معاويةُ بن حُدَيْج؟ فسكت؛ فلم يُجِبْه ثلاثًا، ثم قال: أنتَ السابُّ عليًّا عِنْد ابن آكِلَةِ الأكْباد

(4)

؟ أمَا إنَّك إنْ ورَدت عَلَيْهِ الْحَوْضَ، وما أراك تَرِدُه، لتَجدَنَّهُ مُشمِّرًا حَاسرًا عن ذِراعَيْه، يذودُ الكفّارَ والمُنافقينَ عن حوض رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كما تُذادُ غَريبةُ الإبل عنْ صاحبها؛ قولَ الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. ورواه من طريق أخرى عن علي بن أبي طَلْحة، عن الحسن مرفوعًا

(5)

.

‌حديث أبي عُمارة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

قال الطبرانيّ: حدّثنا يحيى بن أيُّوبَ العَلَّاف المصريّ، حدّثنا سعيدُ بن أبي مَرْيَم، حدّثنا

(1)

رواه الطبراني في الكبير رقم (3020) وفي إسناده ضعف، ولكن رواه أحمد في المسند (5/ 384) بإسناد آخر، فهو حديث صحيح وله شواهد.

(2)

ورواه ابن ماجه (4302) عن عثمان بن أبي شيبة به، ورواه مسلم رقم (248) وعلقه البخاري بعد (6576) ووصله مسلم رقم (2297)(32).

(3)

في الأصل علي بن عباس، والتصحيح من كتب الرجال.

(4)

يشير بذلك إلى ما حدث من هند أم معاوية من أكلها كبد حمزة رضي الله عنه بعد قتله.

(5)

الطبراني في الكبير (2727) و (2758) وإسناده ضعيف.

ص: 245

محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حَرَامُ بنُ عثمان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أسَامةَ بنِ زَيْد: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى حَمْزَةَ بنَ عبد المطلب يومًا، فلم يَجده، فسأل امرأته عنه، وكانت من بني النَّجار، فقالت: خرج بأبي أنتَ وأمي آنفًا عامدًا نَحْوَكَ، فأظُنُّه أخْطأكَ في بعضِ أزِقَّةِ بَني النَّجار، أفلا تَدْخل يا رسول اللَّه؟ فدخل، فقدَّمَتْ إليه حَيْسًا فأكل منه، فقالت: يا رسول اللَّه هَنيئًا لَكَ، ومَريئًا، فقد جئتَ وأنا أُريدُ أنْ آتيكَ أُهَنئك وأُمَرُّئُكَ، أخبرني أبو عُمارة أنّك أُعْطيتَ نَهرًا في الْجنَّةَ يُدْعَى الكوثَرَ؟ فقال:"أجَلْ، وعرصَتُهُ ياقوتٌ ومَرْجانٌ، وزَبَرْجَد، ولؤلؤ" قالت: أحْبَبْتُ أن تَصِفَ لي حوضكَ بِصِفَةٍ أسمَعُها منك، فقال: "هو ما بين أيْلَةَ وَصَنْعاء، فيه أباريقُ مثلُ عدد النجوم، وأحبُّ وَارِدِه عَلَيَّ قَوْمُكِ، يا بنتَ قَهْدٍ

(1)

الأنْصاريّ".

هذا حديث عزيز جدًّا، من رواية حمزة بن عبد المطلب، عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم من رواية زَوْجَتِه هذه رضي الله عنه، وعنها، وروايةُ عبد الرحمن بن هُزمُز الأعرج، عن أُسَامةَ بن زيد مُنْقَطِعةٌ، وذَكَرَ أبو بَكر الشافعيّ في "فوائده": أنّ بينهما المِسْوَرَ بن مَخْرَمة

(2)

.

‌رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه

قال أحمد: حدّثنا عفَّان، حدّثنا شُعْبةُ، قال: عمرو بن مُرَّة أخبرني، قال: سمعتُ أبا حمزة أنّه سمع زيدَ بنَ أرقم، قال: كُنَّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في سفَرٍ، فنزل مَنْزلًا، فسمعْتُه يقول:"ما أنتم بجزءٍ من مئةِ ألفِ جُزْءٍ ممَّن يَرِدُ عليَّ الحوضَ من أُمَّتي" قلت لزيد: كم كنتم يَوْمئذٍ؟ قال: سبعمئةٍ، أو ثمانمئة. وكذا رواه عن هاشم

(3)

، عن شُعْبَةَ، ورواه أبو داود الطيالسيّ، عن شُعْبَةَ، ورواه أحمد، عن أبي معاوية عن الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرَّة، به، ورواه أبو داود، عن حفص بن عمر، عن شُعْبة

(4)

.

قلت: وأبو حمزة هذا طَلْحة بن يَزيد الأنصاريّ، الكوفيّ مولى قَرَظة بن كَعْب.

‌طريق أخرى عن زيد بن أرقم رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا [إسماعيل بن] إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حيان التَّيْميُّ، وقال الحافظ البيهقيُّ، رحمه الله: حدّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثنا الحسن بن يعقوب العدل، حدّثنا محمد بن

(1)

في (أ) و (م): فهد. والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

رواه الطبراني في الكبير (2959) أقول: وفي سنده أيضًا حرام بن عثمان، وهو متروك.

(3)

في الأصل: عن أبي هاشم، وهو خطأ.

(4)

أحمد في المسند (4/ 371) و (369) و (367) والطيالسي رقم (677) وأبو داود رقم (4746) وإسناده ضعيف.

ص: 246

عبد الوهاب، أخبرنا جعفر بن عَوْن، أخبرنا أبو حيَّان يحيى بنُ سعيد التيميّ تَيم الرَّباب، حدّثنا يزيدُ بن حَيَّان التيمىّ، قال: شهدتُ زيدَ بن أرقم، وبَعَثَ إليه عُبَيْدُ اللَّه بنُ زياد، فقال: ما أحاديثُ بلَغَني عنك تُحدِّثُ بها عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ تَزْعُمُ أنَّ لَه حَوْضًا في الجنة؟ فقال: حدّثنا ذاك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ووعَدَناه، فقال: كذبتَ، ولكنّك شيخٌ قد خَرِفْتَ، قال: أمَا إنّه سَمِعَتْهُ أُذنايَ منْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسَمِعْتُه يقول:"منْ كَذَبَ عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيَتَبؤَأْ مَقْعده من النار"، وما كَذَبْتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وستأتي روايته عن أخٍ له.

‌وأمَّا رواية سلمان الفارسي رضي الله عنه

فروى الإمام أبو بكر بن خُزَيْمةَ رحمه الله، من حديث عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن سَلْمَانَ رضي الله عنه، قال: خَطَبَنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان، فقال:"أيُّها الناسُ، قد أظلّكمُ شهرٌ عظيمٌ مُبارك. . . " وذَكرَ تَمامَ الحديث بطوله في فَضْلِ شهر رَمَضان، إلى أن قال:"ومَنْ أشْبَع فيهِ صائمًا، سقاهُ اللَّهُ من حوضي شَرْبةً لا يَظْمأُ حتّى يدْخُل الجَنّة"

(2)

.

‌رواية سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه

قال أبو بكر بن أبي عاصم: حدّثنا إبراهيم بن المستمرّ، حدّثنا محمد بن بَكَّار بن بلال، حدّثنا سَعيد هو ابن بَشير، عن قتادةَ، عن الحسن، عن سمُرة بنِ جُنْدُب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ لِكُلِّ نَبيٍّ حَوْضًا يتباهون أيُّهمْ أكْثَر وارِدةً، وإنّي لأرجُو أنْ أكونَ أكثرَهم وارِدَةً". وكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن نَيْزَك، عن محمد بن بَكَّار بن بلال، عن سعيد بن بَشير، وقال: هذا حديث غريب. قال: ورواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن مرسلًا، وهو أصح

(3)

.

‌رواية سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه

قال البخاريُّ: حدّثنا سعيد بن أبي مَرْيم، حدّثنا محمد بن مُطَرِّف، حدّثنا أبو حازم، عن سهل بن سَعْد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي فَرَطُكُمْ على الحَوْض، من مرَّ عليّ شرِب، ومَنْ شرِب لم يظْمأ أبدًا، لَيَرِدَنّ عليَّ أقوامٌ أعْرفُهم ويَعْرِفُوني، ثم يُحالُ بيني وبينهم" قال أبو حازم: فسمعني النعمانُ بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعتَ من سَهْل؟ فقلت: نعم، فقال: أشْهَدُ على

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 367) رقم (19266) والبيهقي في "البعث والنشور" صفحة (170) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه ابن خزيمة رقم (1887) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم (734) والترمذي رقم (2443) وهو حديث حسن بشواهده.

ص: 247

أبي سعيد الخُدْريّ لَسَمِعْتُهُ وهو يزيد فيها: "فأقول: إنَّهم منّي، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحْدَثوا بعدك، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَير بَعْدي" فقال ابن عباس: سُحْقًا: بُعْدًا. ويقال: سحيق بعيد، سَحَقهُ، وأسْحَقَهُ: أبْعَدَه. تفرَّد به منْ هذا الوجه

(1)

.

وأما رواية عبد اللَّه الصُّنابحي كما ذكره عياض أيضًا وكذلك رواية سويد بن جبلة [فـ]ــذكرها القاضي عياض أيضًا.

‌رواية عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه

ثبت في "الصحيحين" عنه، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا قَسَم غنائم حُنَيْن، فأعطَى منْ أعْطَى من صناديد قُريش، والعرب، فتَغَضَّبَ بعضُ الأنصار، فخَطبهُمْ فقال لهم فيما قال:"إنَّكُمْ سَتجدُونَ بَعْدي أثرَةً فاصْبِرُوا حتى تلقوني على الحوض"

(2)

.

‌رواية عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنها

قال أبو بكر البزار: حدّثنا يوسف بن موسى، حدّثنا جرير، حدّثنا ليْث، هو ابن أبي سُلَيم، عن عبد الملك بن سَعِيد بن جُبَيْر، عن أبيه، عن ابن عبَّاس: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنِّي آخذٌ بِحُجَزِكُمْ أقولُ: إيَّاكمْ وَجَهنَّم، إيَّاكُمْ والحُدودَ، إيَّاكُمْ وَجَهنَّم، إيَّاكُمْ والْحُدودَ، ثلاثَ مرَّات، وإذا أنا متُّ تَرْكتكُمْ على البيضاء، وأنا فَرَطُكُمْ عَلى الحَوْضِ، فمنْ وَرَدَ أفْلَحَ، ويُؤْتى بأقوامٍ فَيُؤْخَذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ، فأقول: يا ربِّ-" أحسبُه قال: أصحابي.- فيقال: ما زَالُوا بَعْدَكَ يَرْتَدُّونَ على أعْقَابهمْ" ثمَّ قال: تفرَّد به لَيْثٌ عن عبد الملك بن سعيد بن جُبَير

(3)

.

وقال البخاري في باب الحوض من "صحيحه": حدّثنا عمرو بن محمد، حدّثنا هُشَيْم، حدّثنا أبو بِشْر، وعطاء بن السَّائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبَّاس، قال:"الكوثرُ: الخَيْرُ الكثير، الذي أعطاه اللَّهُ إيَّاه"، قال أبو بِشْر: قلت لسعيد بن جُبَيْر: إنَّ أناسًا يَزْعمُون أنَّه نَهرٌ في الْجَنَّة، فقال سعيد: النهرُ الذي في الْجنَّة من الخير الذي أعطاه اللَّه إياه

(4)

.

قلت: وقد تقدَّم أنه يَشْخُبُ من الكوثر الذي في الجنة إلى الحوض الذي في الموقف مِيزَابَانِ منْ ذَهَب وفِضَّةٍ.

(1)

رواه البخاري رقم (6583 و 6584) أقول: ورواه مسلم رقم (2290 و 2291) من طريق أبي حازم، به.

(2)

رواه البخاري (4330) ومسلم رقم (1061).

(3)

ورواه البزار رقم (3480 - كشف الأستار) من طريق ليث عن طاوس عن ابن عباس نحوه، وهو ضعيف، ولبعضه شواهد.

(4)

رواه البخاري (6578).

ص: 248

‌طريق أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال الطبرانيّ: حدّثنا إبراهيم بن هاشم البَغَويّ، حدّثنا محمد بن عبد الوهَّاب الحارثيّ، حدّثنا عبد اللَّه بن عُبَيْد بن عُمَيْر، عن ابن أبي مُلَيكةَ، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حوضي مَسيرةُ شَهْرٍ زواياه سواء، أكوابُه عددُ نجوم السماء، ماؤه أبيضُ من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيبُ-" يعني ريحًا "من المسك، من شرب منه شَرْبةً لم يَظْمأ بعدَها أبدًا"

(1)

.

‌طريق أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال ابن أبي الدنيا: حدّثنا العبَّاس بن محمد، حدّثنا حسين بن محمد المرُّوذي، حدّثنا مِحْصَن بن عُقْبَة اليَمانيّ، عن الزُّبَيْر بن شَبيب، عن عُثْمان بن حاضر، عن ابن عباس قال: سُئِلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي ربِّ العالمين، هل فيه ماءٌ؟ قال:"إي، والذي نفسي بيده، إنَّ فيه لماءً، إنّ أولياء اللَّه ليردون حياض الأنبياء، ويَبْعَث اللَّهُ سبعين ألف ملَك في أيديهم عصيٌّ من نارٍ يَذُودونَ الكفَّارَ عن حياض الأنبياء"

(2)

.

‌رواية عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما

قال البخاريُّ: حدّثنا مُسدَّد، حدّثنا يحيى، عن عُبَيْد اللَّه، حدّثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أمامكم حوضٌ، كما بَيْنَ جَرْباء، وأذْرُح".

ورواه أحمد عن يحيى القطَّان، ورواه مسلم من حديث عُبَيْد اللَّه، وأيُّوب، وموسى بن عُقْبَة، وغيرهم، عن نافع.

وفي بعض الروايات: "أمامَكمْ حوض كما بين جَرْباء وأذْرُح، وهما قريتان بالشام، فيه أباريقُ عددُ نجوم السماء، من وَرَدهُ فشرب منه لم يَظْمأ بعدها أبدًا

(3)

.

‌طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا عمر بن عمرو، أبو عثمان بن عمرو الأُحموسِيّ

(4)

،

(1)

رواه الطبراني (11249) وهو حديث صحيح.

(2)

وإسناده ضعيف.

(3)

رواه البخاري رقم (6577) وأحمد في المسند (2/ 21) ومسلم (2299).

(4)

في (أ): أو عثمان بن عمرو.

ص: 249

حدّثني المخارق [بن أبي المخارق]، عن عبد اللَّه بن عمر: أنَّه سمعه يقول: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حوضي كما بين عَدَن وعمَّان، أبردُ من الثلج، وأحلى من العَسَل، وأطيبُ ريحًا من المسك، أكوابُه مثلُ نجُوم السماء، منْ شَرِب منه شَرْبةً لم يظمأ بعدَها أبدًا، أوَّلُ الناس عليه ورُودًا صَعالِيكُ المُهاجرينَ" قال قائل: ومَنْ هُمْ يا رسول اللَّه؟ قال: "الشَّعِثَةُ رؤوسُهم، الشَّحِبَةُ وجوهُهُمُ، الدَّنِسَةُ ثيَابُهُم، لا يُفْتح لهم أبواب السُّدد ولا ينكحون المُتَنعِّمات، الذين يُعْطونَ كلَّ الذي عليهم؛ ولا يأخذون الذي لهم". تفرَّد به أحمد

(1)

.

‌طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما

قال أبو داود الطَّيالسىّ: حدّثنا أبو عَوانةَ، حدّثنا عطاء بن السائب، قال: قال لي محارب بن دِثَار: ما كان سعيد بنُ جُبَيْر يقول في الكَوْثر؟ قلت: كان سعيدُ بن جُبَيْر يُحدِّث عن ابن عباس، قال: هو الخيرُ الكثير، فقال محارب: أين يَقَع رأيُ ابن عباس؟ ثم قال محارب: حدّثنا عبد اللَّه بن عمر، قال: لمَّا نزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هُوَ نَهْرٌ في الجَنَّة، حافَتَاهُ منْ ذَهَبٍ، يَجْري على الدُّرّ، والياقوت، تُرْبَتُه أطْيَبُ رِيحًا منَ المِسْكِ، وطَعْمُهُ أحْلَى منَ العَسَل، وماؤُه أشدُّ بَيَاضًا من الثلج". ورواه البيهقي من حديث حماد بن زيد عن عطاء بن السائب، بنحوه، وأخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب، به، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(2)

.

‌رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

قال البخاري: حدّثنا سعيد بن أبي مَرْيم، حدّثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مُليكة، قال: قال عبدُ اللَّه بنُ عمرو: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حَوْضي مَسيرةُ شَهْرٍ، ماؤه أبْيضُ من اللبن، وريحُه أطيب من المسك، وكيزانُهُ كنجوم السماء، من شرب منه فلا يَظْمأ أبدًا". ورواه مسلم عن داود بن عمرو، عن نافع بن عمر، به

(3)

.

‌طريق أخرى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى، حدّثنا حُسَيْن المُعلِّم، حدّثنا عبد اللَّه بن بُريدَة، عن أبي سَبْرَة،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 132) وإسناده ضعيف، ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(2)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (1933) والبيهقي في "البعث والنشور"(140) والترمذي (3361) وابن ماجه (4334) وهو حديث حسن.

(3)

رواه البخاري رقم (6579) ومسلم رقم (2292).

ص: 250

واسمه سالم بن سَبْرَة، قال: كان عُبَيْدُ اللَّه بنُ زياد يسألُ عن الحوض، حَوْضِ محمّد صلى الله عليه وسلم، وكان يُكذِّبُ به بَعْدَ ما سَأل أبا بَرْزَة، والبَرَاء بن عازب، وعائِذَ بن عمرو، ورجلًا آخر، وكان يُكذِّب به.

فقال أبو سبرة لِعُبَيْد اللَّه بن زياد: أنا أحدِّثك بحديثٍ فيه شفاءٌ مِنْ هذا، إنّ أباك بَعَثَ معي بمالٍ إلى معاوية، فلقيت عبد اللَّه بن عمرو، فحدّثني بما سمع مِنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأملى عليَّ، فكتبتُ بيَدي، فلم أزِدْ حَرْفًا، ولم أنْقُصْ حَرْفًا. حدّثني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ اللَّهَ لا يُحبّ الفُحْشَ، -أوْ يُبْغضُ- الفَاحشَ والمُتَفَحِّشَ". قال: "ولا تقوم الساعة حتى يَظْهَر الفحش، والتفاحشُ، وقطيعةُ الرحم، وسوء المُجاوَرة، وحتى يؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمينُ" وقال: "ألا إنّ موعدَكم حَوْضي، عَرْضُه وطوله واحد، وهو كما بين أيْلَة ومكة، وهو مَسيرَةُ شَهْر، فيه مثلُ النجوم أباريقُ، شرابُه أشدُّ بياضًا من الفِضَّة، من شَرِبَ منه مَشْربًا لم يظمأ بَعْدهُ أبدًا" فقال عُبَيْدُ اللَّه: ما سَمِعتُ في الحوض حديثًا أثْبَتَ من هذا، وصدّق به، وأخذ الصحيفة، فحبسها عنده

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

قال أبو بكر البزار في "مسنده": حدّثنا محمود بن بَكْر بن عبد الرحمن، حدّثنا أبي، حدّثنا عيسى بن المختار، عن محمد بن أبي ليلى، عن عبد اللَّه بن عُبَيْد اللَّه بن أبي مُلَيْكة، عن عُبَيْد بن عُمَيْر الليثيّ، عن عبد اللَّه بن عمرو: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ لي حَوْضًا في الجَنَّةِ، مَسيرَتُهُ شهر، وزواياه سواءٌ، ريحُهُ أطْيبُ منَ المِسْك، ماؤه كالوَرِقِ، أقداحُه كنجوم السماء، من شرب منه شَرْبَةً لم يَظْمأ بعدها أبدًا" ثم قال: لا نَعْلمُ روَى عُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ عن عبد اللَّه بن عمرو غيرَ هذا الحديث

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

رواها الطبرانيُّ من حديث مُسلم بن رئاب

(3)

عن عبد اللَّه بن عمرو، رضي الله عنهما.

‌رواية عبد اللَّه بن مسعود الهذلي رضي الله عنه

قال البخاريّ: حدّثنا يحيى بن حَمَّاد، حدّثنا أبو عَوانة، عن سُلَيْمانَ، عن شَقيقٍ، عن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أنا فَرَطُكُمْ على الحوض" قال البخاريّ: وحدّثنا عمرو بن عليّ،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 162) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد وطرق يقوى بها.

(2)

ورواه البزار في مسنده رقم (2462) من طريق نافع بن عمر كالطريق الأولى.

(3)

في (أ): رباب.

ص: 251

حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شُعْبَةُ، عنِ المغيرةِ: سمعتُ أبا وائل، عن عبد اللَّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أنا فَرَطكُمْ على الحوض، ولَيُرْفَعنَّ رجالٌ منكم، ثم لَيُخْتَلَجُنَّ دوني، فأقول: يا ربّ، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بَعْدَك" تابعه عاصم، عن أبي وائل، وقال حصين: عن أبي وائل، عن حُذيفة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

‌طريق أخرى عنه في الحوض وغيره

قال الإمام أحمد: حدّثنا عارمُ بن الفَضْل، حدّثنا سعيد بن زيد

(2)

، حدّثنا عليُّ بن الحكَمِ البُنَانيُّ، عن عثمان، عن إبراهيم، عن عَلْقَمة والأسْود، عن ابن مسعود، قال: جاء ابنا مُلَيْكةَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: إنّ أُمَّنا ماتت وكانت تُكْرِمُ الزوج، وَتَعْطِفُ على الولد -قال: وَذَكَر الضَّيْفَ- غير أنها كانت وأدَتْ في الجاهليَّة، فقال:"أُمُّكما في النار" قال: فأدْبرَا والسُّوءُ يُرى في وجوههما، فأمر بهما فرُدَّا، فرجَعَا والسرور يُرَى في وجوههما رجاءَ أن يكون قد حدث شيء، فقال:"أُمي معَ أُمكما" فقال رجل من المنافقين: وما يُغني هذا عن أمِّه شيئًا، ونحن نطأ عَقِبَيْه؟ فقال رجل من الأنصار -ولم أرَ رَجُلًا أكثر سؤالًا منه-: يا رسول اللَّه، هل وعدك ربك [فيها أو] فيهما. قال: فظنَّ أنّه من شيءٍ قدْ سَمِعَهُ، فقال: "ما شاء اللَّه ربِّي

(3)

، وما أطعمني فيه، وإنّي لأقوم المقامَ المحمودَ يومَ القيامة" فقال الأنصاريّ: وما ذلكَ المقامُ المحمودُ؟ قال: "ذاك إذا جيء بكمْ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، فيكون أوَّل من يُكْسى إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام فيقول: اكْسُوا خَليلي، فيُؤْتى بِرَيْطَتَيْنِ بيضاوَيْن، فيَلْبَسُهما، ثم يَقْعُد مُسْتَقْبل العَرْش، ثم أُوتى بكسوتي، فألبَسُها، فأقومُ عن يَمينه، مَقامًا لا يقومُه أحد [غيري] يَغْبِطُني به الأولون، والآخِرُونَ، ويُفْتحُ نهرٌ من الكوثر. إلى الحوض" فقال المنافق: إنّه ما جرى ماءٌ قطُ إلآ على حالٍ أو رَضْراضٍ. فقال الأنصاريُّ: يا رسول اللَّه، هل له حالٌ أو رَضْراضٌ

(4)

؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حالُه المِسْكُ وَرَضْرَاضُه التُّوم

(5)

" فقال المنافق: لم أسمع كاليوم، قلَّما جرى ماء قطّ على حالٍ أو رَضْراضٍ إلّا كان له نَبْتٌ، فقال الأنصاريّ: يا رسول اللَّه، هل له نَبْتٌ؟ فقال: "نعم، قُضبان الذهب" قال [المنافق]: لم أسمع كاليوم، فإنه قلَّما نبت قضيب

(1)

رواه البخاري (6575 - 6576) وأخرجه مسلم رقم (2297) من طريق الأعمش، ومحمد بن جعفر، به.

(2)

في (أ): حدثنا عارم بن الفضل، حدّثنا سعيد بن الفضل، حدّثنا سعيد بن زيد، وهو خطأ.

(3)

في المسند: ما سألته ربي.

(4)

"الحال": الطين الأسود كالحماة، والرضراض: الحصى الصغار.

(5)

"التُّوم": اللؤلؤ.

ص: 252

إلا أورق، وإلا كان له ثمر. فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه، هل له ثمر؟ فقال:"نعم، ألوان الجوهر، وماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه مَشْربًا لم يظمأ بعده، ومن حُرِمَه لم يَرْوَ بعدَهُ". تفرَّد به أحمد، وهو غريب جدًّا

(1)

.

‌رواية عتبة بن عَبْدٍ السُّلَمي رضي الله عنه

قال الطبرانيّ: حدّثنا أحمد بن خُلَيْد الحلبيُّ، حدّثنا أبو تَوْبَةَ الرَّبيع بن نافع، حدّثنا معاوية بن سَلّام، عن زيد بن سلّام، أنّه سمع أبا سلّام يقول: حدّثني عامر بنُ زَيْد البكاليُّ، أنّه سمع عُتْبَة بن عُبْدٍ السُّلَميَّ، يقول: جاء أعرابيٌّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حَوْضكَ هذا الذي تُحَدِّثُ عَنْه؟ فقال: "كما بَيْنَ البَيْضاء

(2)

إلى بُصْرَى، يَمُدّني اللَّه فيه بكُراعٍ لا يَدْري إنسانٌ ممّن خَلَق اللَّه أين طَرَفاه"

(3)

.

قال أبو عبد اللَّه القُرطبيّ: وخرّج الحكيم الترمذيّ، في "نوادر الأصول" من حديث عُثْمان بن مظعون، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا عثمان، لا تَرْغَبْ عن سنَّتي، فإنّه مَن رَغِبَ عن سنَّتي، ثمَّ مات قبل أن يَتُوبَ، ضرَبتِ الملائكة وَجْههُ عن حَوْضي يومَ القيامة"

(4)

.

‌رواية عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه

قال البخاريّ: حدّثنا عمرو بن خالد، حدّثنا الليثُ، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلَّى على أهل أُحُدٍ صَلاته على المَيِّت، ثم انصرف فقعد على المِنْبر، فقال:"إنّي فَرَطُكُمْ على الحوض، وأنا شَهيدٌ عليكم، وإنّي واللَّه لأنظُرُ إلى حوضي الآن، وإنّي أُعْطيتُ مَفاتيح خَزائن [الأرض] أو مفاتيح الأرض، وإنّي واللَّه ما أخافُ عليكم أن تُشْرِكُوا بَعْدي ولكن أخافُ عليكم أن تَنَافسُوا فيها".

ورواه مسلم، عن قُتَيْبَةَ، عن الليث، به، ومن حديث يحيى بن أيُّوب، عن يزيد بن أبي حَبيب، به، وعنده: "إنِّي فرَطُكمْ على الحوض، وإنّ عَرْضَهُ كما بَيْنَ أيْلَة إلى الجُحْفَة، وإنِّي لَستُ أخشى عليكم أن تُشْركُوا بَعْدي، ولكنِّي أخْشَى عليكم الدُّنيا أنْ تَنافسُوا فيها وتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا،

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 398 - 399).

(2)

البيضاء: ثنية التنعيم بمكة.

(3)

رواه الطبراني في الكبير (17/ 312).

(4)

أخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" في الرد على الصوفية، فصل في ذكر أحاديث تبين خطأهم في أفعالهم، عن سعيد بن المسيب مرسلًا، وهو ضعيف.

ص: 253

كَما هلَكَ منْ كانَ قبلكم" قال عُقْبَةُ: فكانت آخِرَ ما رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم[على المنْبر]

(1)

.

‌ذكر ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك

أسند البيهقيُّ من طريق عليّ بن المدينيِّ، حدّثنا عفّان، حدّثنا حمَّاد بنُ سلمَةَ، عن علي بن زيد، عن يُوسُفَ بنِ مِهْران، عن ابن عبَّاس، قال: سمعتُ عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه يقول: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رجَمَ، ورَجمَ أبو بكر، ورَجمْتُ، وسيكونُ قومٌ يُكذِّبونَ بالرَّجْم، والدَّجال، والحوض، والشفاعة، وبعذاب القَبْر، وبِقَوْمٍ يَخْرجُون منَ النَّارِ.

وأما رواية المستورد [فـ]ـــذكرها القاضي عياض

(2)

.

‌رواية النواس بن سِمعان الكلابي رضي الله عنه

قال عمر بن محمد بن بجير البجيري

(3)

: حدّثنا سليمان بن سلمةَ، حدّثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا ابن جُرَيج، عن مجاهد، عن النواس بن سِمْعان، سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ حوْضي عَرْضُه وطولُه كما بَيْنَ أيْلةَ إلى عمَّان، فيه أقداحٌ كنُجوم السماء، أوَّلُ منْ يَرِدُه من أُمَّتي منْ يَسْقي كل عَطْشانٍ".

أورده الضياء من هذا الوجه، ثم قال: أرى أن هذا الحديث من صحيح البجيري، واللَّه أعلم

(4)

.

‌رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه

قال أبو بكر بن أبي عاصم: حدّثنا دُحَيم، حدّثنا الوليدُ بن مسلم، حدّثنا صفوان، عن سُلَيم بن عامر، عن أبي اليمان الهَوْزَنيِّ، عن أبي أُمامة أنّ يزيد بن الأخنس

(5)

قال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما سَعَةُ

(1)

رواه البخاري رقم (6590) ومسلم (2296).

(2)

ذكرها القاضي عياض في الشفاء (1/ 191 - بتحقيقي) وهي جزء من رواية حارثة بن وهب المتقدمة وهي في الصحيحين انظر صفحة (243).

(3)

في (أ): عمر بن محمد بن بحر البحرّي، وهو خطأ. والبجيري هذا. هو حافظ ثبت جوال، مصنف المسند أبو حفص توفي (311 هـ).

(4)

أقول: فيه عنعنة ابن جريج.

(5)

في (أ): صفوان بن مسلم عن عامر أبي اليمان الهوزني عن أبي أمامة أن زيد بن أرقم، وهو خطأ، والتصحيح من السنة لابن أبي عاصم.

ص: 254

حَوْضِك؟ قال: "كما بين عَدَن إلى عمَّان، فأوْسَع، وأوسَع" يُشير بيَدِه "فيه مثعبان

(1)

منْ ذَهَبٍ، وفِضة" قال: فما [ماءُ] حوضك؟ فقال: "أشدُّ بياضًا من اللّبن، وأحلى من العَسَل، وأطيبُ رائحةً من المسك، منْ شَرِب منه لم يظمأ بعده أبدًا، ولم يَسْوَدَّ وجهُه أبدًا"

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

قال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا محمد بن يوسف بن الصبَّاح، حدّثنا عبد اللَّه بن وَهْب، عن معاوية بن صالح، عن أبي يحيى، عن أبي أُمامةَ الباهلي، قال: قيل: يا رسول اللَّه، ما سَعَةُ حَوْضِكَ؟ قال:"ما بَيْنَ عَدَنَ، وعَمَّان" وأشار بيده، وأوسع، وأَوْسَع "وفيه مثعبان من ذَهَبٍ، وفِضةٍ" قيل: يا رسول اللَّه، فما شَرَابُه؟ قال:"أبيضُ من اللبن، وأحلى مَذاقًا من العسل، وأطْيبُ رِيحًا من المِسْك، من شرب منه شَرْبةً لم يَظْمأ بعدها، ولم يَسْوَدَّ وجهه بَعْدَها أبدًا"

(3)

.

‌رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه

قال أبو داود: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا عبد السلام بن أبي حازم، أبو طالوت، قال: شهدتُ أبا بَرْزة الأسلمي دخَل على عُبَيْد اللَّه بن زياد، فحدّثني فلانٌ -سمّاه مسلم- وكان في السِّماط، فلمّا رآه عُبَيْدُ اللَّه، قال: إن مُحمَّدِيَّكمُ هذا لدَّحْداح

(4)

ففهمها الشيخ فقال: ما كنتُ أحسبُ أني أبقى في قوم يُعيِّروني بصُحْبةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فقال له عُبَيْدُ اللَّه: إنَّ صُحْبَة محمد لك زَيْنٌ غَيْرُ شَيْن، ثم قال: إنَّما بَعَثْتُ إلَيْك لأسألكَ عن الحوض، هل سَمِعْتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئًا؟ فقال أبو برزة: نعم، لا مَرَّة، ولا ثِنْتَيْنِ، ولا ثلاثًا، ولا أربعًا، ولا خمسًا:"فمن كذَّب به فلا سقاهُ اللَّهُ مِنْهُ" ثمَّ خرج عنه مُغْضبًا.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا أبو خَيْثمة، حدّثنا يزيدُ بن هارون، حدّثنا محمد بن مِهْزم

(5)

العبديّ، عن أبي طالوت العبدي، سمعتُ أبا برْزة يقول [: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول] في الحوض: "فمن كذَّب به فلا سقاهُ اللَّهُ مِنْهُ".

(1)

المثعب: مجرى الماء من الحوض.

(2)

رواه ابن عاصم في السنة (729) وأحمد في المسند (5/ 251) وهو حديث حسن.

(3)

ورواه أحمد في المسند (5/ 251). وهو حديث حسن.

(4)

الدحداح: القصير السمين.

(5)

في (أ): بهرام، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 255

وقد رواه البيهقيّ من طريق أخرى عن محمد بن يحيى

(1)

الذُّهْليِّ، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن قُرَّة بن خالد، عن أبي حمزة، طلحة بن يزيد موْلى الأنصار، عن أبي بَرْزةَ، في دخوله على عُبَيْد اللَّه بن زياد بنحو ما تقدَّم

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا عَبْدَةُ بن عبد الرحيم، حدّثنا النضر بن شُمَيْل، حدّثنا شدَّادُ بن سعيد، سمعتُ أبا الوَازع، وهو جابر بن عمرو، سمع أبا بَرْزَةَ الأسلميَّ يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بَين نَاحِيَتي حَوضي كما بين أيْلَة إلى صنعاء، مَسيرةُ شَهْر، عَرْضُه كَطُولِه، فيه ميزابان يَغُتّانِ

(3)

من الجنَّة من وَرِق وذهب، أبيضُ من اللبن، وأحلى من العَسَل، فيه أباريقُ عددُ نجوم السماء"

(4)

.

‌طريق أخرى

قال ابن أبي عاصم: حدّثنا عُقْبَةُ بن مُكْرَمُ، حدّثنا محمد بن موسى الشَّيْبانيّ، عن صالح، عن سيَّار بن سلامةَ الرِّياحيّ، عن أبيه، عن أبي بَرْزةَ، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ لي حَوْضًا يوم القيامة عرضُه ما بَيْنَ أيْلةَ إلى صنعاء، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلَى من العسل، فيه من الأباريق عددُ نجوم السماء، من شرب منه شَرْبةً لم يَظْمأْ بعدها أبدًا، ومن كذَّبَ به فلا سَقاهُ اللَّه" يعني منه

(5)

‌رواية أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه

(6)

قال أبو بكر بن أبي الدُّنيا في "الأهوال": حدّثنا أحمد بن إبراهيم، حدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا حمَّاد بن زَيْد، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن أبي بَكْرَة: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فَرَطكُمْ على الحَوْض"

(7)

.

(1)

في (أ): بجير، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

رواه أبو داود رقم (4749) والبيهقي في "البعث والنشور"(171) وهو حديث صحيح.

(3)

أي يدفقان فيه الماء دفقًا.

(4)

رواه ابن أبي عاصم في السنة (722) وهو حديث حسن.

(5)

رواه ابن أبي عاصم في السنة (720) وهو حديث حسن.

(6)

في الفاسية: رواية أبي بكرة من طريق حذيفة عنه، تأتي في أحاديث الشفاعة.

(7)

في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولكن الحديث حسن بشواهده وطرقه.

ص: 256

‌رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

قال مسلم بن الْحَجَّاج في "صحيحه": حدّثنا أبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ، وإسحاقُ بن إبراهيم، وابن أبي عمر المَكيّ، واللفظ لأبي بكْر بن أبي شَيْبَة، (قال إسحاق: أنبأنا وقال الآخران: حدّثنا) عبدُ العزيز بن عبد الصمد، عن أبي عِمْرَان الْجَونيّ، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ما آنيةُ الحَوْض؟ قال:"والذي نفسُ محمدٍ بِيَدِهِ، لآنيتهُ أكْثَرُ من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المُظْلمةِ الْمُصْحية، آنِيَةُ الْجنَّة من شَربِ منها لم يَظْمأْ آخِرَ ما عليه، يَشْخُبُ فيه مِيزَابان من الْجنَّة، من شرب منه، لم يظما، عَرْضه مثلُ طُوله، ما بين عَمَّان إلى أيْلَةَ، ماؤه أشدُّ بَياضًا من اللّبن، وأحْلَى من العسل". هذا لفظه إسنادًا، ومَتْنًا

(1)

.

‌رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

قال ابن أبي عاصم: حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، حدّثنا محمد بن بِشْر، حدّثنا زكريّا، عن عَطيَّةَ العَوْفيّ، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنّ لي حَوْضًا، طولُه ما بَيْنَ الكَعْبةِ إلى بيت المَقْدِس، أبيضَ مثلَ اللبن، آنيَتُه عددُ النجوم، وإنّي لأكْثرُ الأنْبياء تَبَعًا يوم القيامة". ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة

(2)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا محمد بن سُليْمان الأسَديّ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن زكَريّا، عن عَطيَّة، عن أبي سعيد: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لي حوضًا طولُه من الكَعْبَة إلى بَيْت المَقْدِس، أشدّ بياضًا من اللبن، آنِيَته عددُ النجوم، وكلّ نبيٍّ يدعُو أمَّته إلى حوضه، ولكلّ نبيٍّ حوضٌ، فمنهم من يأتيه الفِئَام، ومنهم من يَأْتيه العصبة، ومنهم من يأتيه النَّفَرُ، ومنهم من يأتيه الرجل والرَّجُلان، ومنهم من لا يأتيه أحد، فيقال: قد بلّغت، وإني لأكثرُ الأنبياء تبعًا يوم القيامة"

(3)

.

وروى البَيْهقيُّ من طريق رَوْح بن عُبَادة، عن مالك، عن خُبيب

(4)

بن عبد الرحمن، عن حَفْص بن عاصم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بَيْتي ومِنْبري رَوْضةٌ منْ رِيَاضِ الجنَّة" ثم قال: ورواه البخاريّ من وجهٍ آخر، عن مالك، وأخرجاه

(1)

رواه مسلم رقم (2300) وابن أبي شيبة (11/ 11717) و (13/ 15949).

(2)

رواه ابن أبي عاصم في السنة (723) وابن ماجه (4301) وابن أبي شيبة (13/ 15951) وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف. ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(3)

وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، ولبعضه شواهد.

(4)

في (أ): حبيب، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 257

من حديث عبَيْد اللَّه بن عمر، عن خُبيب، بدون ذكر أبي سعيد، واللَّه أعلم

(1)

.

‌رواية أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه

قال البخاريُّ: حدّثنا إبراهيم بن المُنْذِر، حدّثنا أنس بن عِياض، عن عُبَيْد اللَّه، عن خُبَيْبٍ، عن حَفْص بن عاصم، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما بَين بَيْتي ومِنْبَري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حَوْضي". ورواه البخاري أيضًا، ومسلم من طرق عن عبيد اللَّه بن عمر. وأخرجه البخاري أيضًا من حديث مالك، كلاهما عن خبيب بن عبد الرحمن، به

(2)

.

‌طريق أخرى عنه رضي الله عنه

قال البخاريُّ: حدّثنا إبراهيم بن المُنذر، حدّثنا محمد بن فُلَيْح، حدّثنا أبي، حدّثني هلال، عن عطاء بن يَسارٍ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "بَيْنما أنا قائم على الحوض إذا زُمْرَةٌ، حتَّى إذَا عَرَفْتُهم خَرج رجلٌ من بَيْني وَبيْنِهمْ، فقال: هَلُمَّ، فقلت: أيْنَ؟ قال: إلى النار واللَّهِ، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القَهْقَرَى، ثم إذا [زُمْرة] حتى إذا عَرْفتُهُمْ خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلُمّ، قلت: أين؟ قال: إلى النارِ واللَّهِ. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القَهْقَرَى، فلا أُراه يَخْلُصُ منهم إلّا مثل هَمَلِ النَّعَم

(3)

". انفرد به البخاري

(4)

.

‌طريق أخرى عنه رضي الله عنه

قال مسلم: حدّثنا عبد الرحمن بن سَلّام الجُمَحيّ، حدّثنا الربيعُ يعني ابنَ مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لأذُودَنَّ عنْ حَوْضي رجالًا كما تُذادُ الغَريبةُ من الإبل" وحدّثنيهِ عُبَيْدُ [اللَّه] بنُ معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شُعْبةُ، عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . بمثله

(5)

.

(1)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(177) والبخاري رقم (7335) و (6588) ومسلم رقم (1391) وهو الآتي بعده.

(2)

رواه البخاري (6588) و (7335) ومسلم (1391).

(3)

همل النعم: ضوال الإيل.

(4)

رواه البخاري (6587).

(5)

رواه مسلم (2302)(38).

ص: 258

‌طريق أخرى عنه رضي الله عنه

قال مسلم: حدّثنا سُوَيْدُ بن سعيد، وابن أبي عمر جميعًا، عن مَرْوانَ الفَزَاريّ [قال ابنُ أبي عمر: حدّثنا مَرْوانُ الفَزاريّ] عن أبي مالك الأشْجَعي، سعد بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ حوضي أبْعدُ من أيْلة منْ عَدَن، لهو أشدُّ بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنِيتهُ أكْثَرُ من عدد النجوم، وإنّي لأصُدُّ الناس عنه، كما يَصد الرَّجُلُ إبل الناس عن حَوْضِه" قالوا: يا رسول اللَّه، أتَعْرِفُنا يَومئذٍ؟ قال:"نعم، لكم سيما لَيْسَت لأحَدٍ من الأمم، تَرِدُون عليَّ غُرًّا مُحجَّلينَ من أثرِ الوُضوء" هذا لفظه

(1)

.

‌طريق أخرى عنه رضي الله عنه

أخرجه مسلم، من حديث إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، به

(2)

.

‌طريق أخرى عنه رضي الله عنه

روى الحافظ الضياء من حديث يحيى بن صالح، حدّثنا سُليمان بنُ بلال، حدّثنا إبراهيمُ بن أبي أَسيد، عن جَدّه، عن أبي هُرَيْرَةَ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنا هَلَكْتُ فإنّي فَرَطُكُمْ على الحوض" قيل: يا رسول اللَّه، [وما الحوض؟] قال: "عَرْضُه مِثْلُ ما وبيْنَ جَرْباء وأذْرُح، بياضُه بياضُ اللبن، وهو أحلى من العسل والسُّكَّرِ

(3)

آنيتُهُ مثل نجوم [السماء]، من ورد عليّ شرب، ومن شرب منه لم يَظْمأ أبدًا، وإيَّاكُمْ أن ترِد عليّ أقوامٌ أعْرِفُهم ويعرفوني، فيُحالُ بيني وبينهم، فأقول: إنَّهُمْ من أمّتي، فيقال: إنّك لا تَدْري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بُعْدًا، وسُحْقًا لمنْ بدّل بعدي"

(4)

.

ثم قال الحافظ الضياء: لا أعلم أنِّي سمعتُ بلفظ السّكّر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث. قلت: [بلى]، قد ورد لفظُ السكَّر في حديث رواه البيهقي في باب الوليمة والنِّثارِ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حضر عَقْدًا، فأُتي بأطْباقِ اللَّوْز، والسّكّر، فنُثر، فجَعَل يُخَاطِفهم، ويُخاطِفُونهُ. . . الحديث بتمامه، وهو غريب جدًّا

(5)

.

(1)

رواه مسلم رقم (247)(36).

(2)

رواه مسلم رقم (249)(39).

(3)

الأغلب المقصود من السكر في الحديث أنه رطب طيب.

(4)

وخبر إبراهيم بن أبي أَسيد هو عن جده، وجده لا يعرف اسمه.

(5)

رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 288) وقال البيهقي: وفي إسناده مجاهيل وانقطاع.

ص: 259

‌طريق أخرى عنه

قال البخاريّ: وقال أحمد بن شَبيب بن سعيد الحَبطيّ

(1)

: حدّثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المُسيَّب، عن أبي هريرة: أنّه كان يُحَدّث أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يَرِدُ عليَّ يومَ القيامة رَهْطٌ منْ أصحابي، فَيُحلَّؤون

(2)

عن الحوض، فأقول: يا ربّ، أصحابي، فيُقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القَهْقَرى"

(3)

. قال: وقال شُعَيْبٌ عن الزُّهريّ: كان أبو هريرة يُحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فيُجلَون" وقال عُقيل: "فَيُحلَّؤون"

(4)

.

وقال الزُّبَيْديّ، عن الزُّهريّ، عن محمد بن عليّ، عن عُبَيد اللَّه بن أبي رافع

(5)

، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(6)

.

وهذا كله تعْليق، ولم أر أحدًا أسنده في شيء من هذه الوجوه عن أبي هريرة إلا أن البخاري قال بعد هذا: حدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المُسيب: أنّه كان يُحدّث عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَرِدُ عليّ الحوضَ رجالٌ من أصحابي، فَيُحَلَّؤون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى"

(7)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدّثني يعقوب بن عُبَيْد، وغيرُه، عن سُلَيمان بن حرب

(8)

، عن حماد بن زَيد، عن كلثومٍ إمام مَسْجد بني قشَيْر

(9)

، عن الفضل بن عيسى، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أبي هريرة: قال: كأني بكم صادرين على الحوض، يلْقَى الرجلُ الرَّجلَ، فيقول: أشَربْتَ؟ فيقول: نعم، ويَلْقَى الرجُلُ الرَّجلَ، فيقول: أشَرِبْتَ؟ فيقول: لا، واعَطَشاه

(10)

.

(1)

في (أ): الحنظلي.

(2)

في (أ): فيختلسون، وهو خطأ.

(3)

رواه البخاري معلقًا (6585) ووصله أبو عوانة.

(4)

رواه البخاري معلقًا بعد الحديث (6586) وقد وصله الذهلي في الزهريات.

(5)

في (أ): عبد اللَّه بن رافع، والتصحيح من البخاري.

(6)

وضعفه الدارقطني في الأفراد.

(7)

رواه البخاري (6586).

(8)

في (أ): سليمان بن زيد، وهو خطأ.

(9)

في (أ): إمام مسجد بني بشير.

(10)

وفي إسناده ضعف.

ص: 260

‌رواية أسماء بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما

قال البخاريُّ: حدّثنا سعيدُ بن أبي مَرْيم، عن نافع بن عمر، حدّثني ابن أبي مُلَيْكة، عن أسماء بنتِ أبي بكر، قالت: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني على الحوض حتّى أنْظُر منْ يَرِدُ عليّ منكم، وسَيُؤْخَذُ أُناسٌ دُونِي، فأقول: يا ربّ، منِّي ومن أمَّتِي، فيُقال: هَلْ شَعَرتَ ما عَمِلُوا بعدك؟ واللَّه ما بَرِحوا يَرْجِعُون على أعقابهما" فكان ابنُ أبي مُليْكةَ يقول: اللّهم إنا نعوذُ بك أن نَرْجِعَ على أعقابنا، أو نُفْتَن عن دِيننا. ورواه مسلم عن داود بن عمرو، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن أسماء، مثلَه

(1)

.

‌رواية أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما

قال البيهقي: حدّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدّثنا عبد الرحمن بن الْحَسَن القاضي، حدّثنا إبراهيمُ بن الْحُسَيْن، حدّثنا آدمُ، حدّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبَيْدَةَ، قال: سألتُ عائشةَ أمّ المؤمنين عن الكوثر، فقالت: هو نَهْرٌ أُعْطيهُ نَبيكمْ صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، حافتاه دُرّ مُجَوَّف، عليه من الآنية عددُ النجوم". ورواه البخاري عن خالد بن يَزِيْد الكاهِليّ عن إسرائيل، واستشهد برواية مُطَرّف

(2)

.

وقال مسلم: حدّثنا ابن أبي عُمر، حدّثنا يحيى بن سُلَيْم، عن ابن خُثَيْم، عن عبد اللَّه بن عُبَيْد اللَّه بن أبي مُلَيْكة أنه سمع عائشةَ تقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظَهْرَانيْ أصحابه: "إنّي على الحوض أنْتَظرُ منْ يَرِدُ عليَّ منكم، فواللَّه لَيُقتطعنَّ دوني رجالٌ، فَلأقولَنّ: أيْ رَبّ، مني، ومِنْ أمَّتي، فيقول: إنّك لا تدري ما عَمِلوا بَعْدَك، ما زالوا يَرْجعُون على أعقابِهم". انفرد به مسلم

(3)

.

‌رواية أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها

قال مسلم: حدّثني يونُس بن عَبدِ الأعلى الصَّدَفيّ، حدّثنا عبدُ اللَّه بنُ وَهْب، أخبرني عمرو، وهو ابن الحارث، أن بُكَيْرًا حَدَّثه، عن القاسم بن عبَّاس الهاشميّ، عن عبد اللَّه بن رافع، مولى

(1)

رواه البخاري (6593) ومسلم (2293).

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(136) والبخاري (4965).

(3)

رواه مسلم رقم (2294)(28).

ص: 261

أمِّ سَلَمة، عن أمّ سَلَمة زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنتُ أسمعُ النَّاسَ يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان يومًا من ذلك، والجاريَةُ تَمْشُطني، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"أيُّها الناسُ" فقلت للجارية: اسْتأْخري عَنِّي، فقالت: إنَّما دعا الرجالَ، ولم يدعُ النِّساءَ، فقلت: إنّي من الناس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لكُمْ فَرَطٌ عَلَى الحَوْض، فإياي لا يَأْتِين أحدُكم، فَيُذَبَّ عنِّي كما يذَبُّ البَعيرُ الضَّالُّ، فأقول: فبم هذا؟ فيُقال: إنّك لا تدري ما أحْدَثُوا بعدك، فأقول: سُحْقًا".

ثم رواه مسلم والنسائيّ من حديث أفلح بن سعيد، عن عبد اللَّه بن رافع، عنها

(1)

.

‌رواية أخٍ لزيد بن أرقم

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن مطر، عن عبد اللَّه بن بُريدة، قال: شكَّ عبيد اللَّه بن زياد في الحوض، فأرسل إلى زيد بن أرقم، فسأله عن الحوض، فحدثه به حديثًا مُونِقًا، فأعجبه، فقال له: سمعتَ هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ [قال: لا] ولكن حدثنيه أخي

(2)

.

فقد تلخّص من مجموع هذه الأحاديث المُتواتِرَة صِفَةُ هذا الحوض العظيم، والمَوْرِد الكريم، المُمَدّ من شراب الْجَنّة، من نهر الكوثر، الذي هو أشدُّ بياضًا من اللبن، وأبردُ من الثلج، وأحلى من العسل، وأطْيَبُ ريحًا من المسك، وهو في غاية الاتّساع، عَرْضُه وطوله سَواءٌ، كل زاوية من زواياه مَسيرَةُ شَهْرٍ.

وفي بعض الأحاديث المتقدِّمة أن كل ما لهُ في زيادةٍ واتّساع، وأنه ينبت في حاله أي في طينه من المسك، وأن رضراضه، من اللؤلؤ، وأنه ينبت على جوانبه قُضْبانُ الذّهب، ويُثْمرُ ألوان الجواهر، فسبحان اللَّه الخالق الذي لا يُعْجزُه شيء، و [أشهد أن] لا إله إلّا اللَّه [وأن] محمَّدًا عبده ورسوله.

‌ذكر أن لكل نبي حوضًا

وأن حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين أعظمها وأجلها، وأكثرها واردًا جعلنا اللَّه تعالى من وُرَّاده، وسقانا منه شربة لا نظمأ بعدها، ونعوذ باللَّه سبحانه أن نذاد عنه

قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "الأهوال": حدّثنا محمد بن سُلَيْمانَ الأسَديّ، حدّثنا

(1)

رواه مسلم رقم (2295)(29) والنسائي في الكبرى (11460).

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 374) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20852)، وفي إسناده ضعف.

ص: 262

عيسى بن يونس، عن زكريّا، عن عطيَّة، عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لي حوضًا طوله ما بين الكَعْبةِ إلى بَيْت المَقْدِس، أشدّ بياضًا من اللبن، آنيتُه عددُ النجوم، وكلُّ نبيٍّ يدعُو أمَّتَه؛ ولكُلّ نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفِئَامُ، ومنهم من يأتيه العُصْبةُ، ومنهم من يأتيه النَّفَر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد، فيقال: لقد بلّغتَ، وإنّي لأكثرُ الأنبياء تبعًا يوم القيامة".

ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، عن محمد بن بِشْر، عن زكريّا بن أبي زائدة، عن عَطِيَّة بن سعد العَوْفيّ، عن أبي سعيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنحوه

(1)

.

‌حديث آخر

قال ابن أبي الدنيا: حدّثنا العبَّاس بن محمد، حدّثنا الْحُسَينُ بن محمد المَرُّوذي، حدّثنا مِحْصنُ بن عُقْبَة اليَمَاميّ، عن الزُّبَيْر بن شَبيب، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عباس، قال: سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي ربّ العالمين: هل فيه ماء؟ فقال: " [إيْ] والذي نَفْسي بِيَدِه، إنَّ فيه لَماءً، إنّ أولياء اللَّه لَيَرِدُون حيَاضَ الأنبياء، ويَبْعثُ اللَّه سبعين ألف ملَكٍ، في أيديهم عِصيٌّ من نار، يذُودونَ الكُفَّارَ عن حياض الأنبياء". هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس هو في شيء من الكتب الستة، وتقدم.

وتقدَّم ما رواه الترمذيّ، والطبرانيّ، وغيرُهما، من حديث سعيد بن بَشِير، عن قتادةَ، عن الحسن، عن سَمُرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ لِكلّ نبيّ حَوْضًا [وإنهم] يتباهَوْنَ أيُّهم أكْثَرُ وَارِدةً، وإنّي لأرْجو أن أكون أكثرَهم وارِدةً" ثم قال الترمذيّ: هذا حديث غريب.

وقد رواه أشْعَثُ بن عبد الملك، عن الحسن مُرْسلًا، وهو أصحّ، ورواه الطبرانيّ أيضًا من طريق خُبَيب بن سُلَيْمان، عن سَمُرَة بن جُنْدُب: أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء يتَبَاهَوْنَ يوم القيامة أيُّهم أكْثَرُ أصحابًا، وإنّي أرجو أن أكون [يومئذ] أكثرَهم كُلَّهم وَارِدةً، وإنَّ كلّ رجل منهم [يومئذ] قائمٌ على حَوْضٍ، ملآنَ، معه عَصًا يدعو منْ عَرَف من أمته، ولكلّ أمَّةٍ سِيمَا يَعْرِفُهُمْ بها نَبيُّهم"

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا خالد بن خِدَاشِ، حدّثنا حَزْمُ بن أبي حَزْم، سمعتُ الحسن البَصْريّ يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا فَقَدْتُموني فأنا فرَطُكُم على الحوض، إنّ لِكُلّ نبيّ حوضًا، قائمٌ على

(1)

رواه ابن ماجه (4301) أقول: في إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، ولكن لبعضه شواهد.

(2)

رواه الترمذي (2443) والطبراني في الكبير (6881) و (7053) وإسناده ضعيف.

ص: 263

حوضه، بيَدِهِ عَصًا، يدعو من عرف من أمّته، ألا وإنّهم يَتباهَوْنَ أيُّهم أكثرُ تبَعًا، والذي نفسي بيده إنّيْ لأرْجُو أنْ أكونَ أكثرَهُم تبَعًا. . . " وذكر تمام الحديث، وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن صَحَّحهُ يحيى بن سعيد القَطَّان، وغيرُهم، وقد أفتى شيخُنا الحافظ المِزيُّ بصِحَّةِ هذا الحديث، بهذه الطُّرق.

‌فصل

إن قال قائل: فهل يكون الحوضُ قبلَ الجَواز على الصراط أو بعده؟ فالجواب أنّ ظاهر ما تقدَّم من الأحاديث يقتضي كونَه قبلَ الصِّراط، لأنه يُذادُ عنه أقوامٌ، يقال عنهم: إنهم لم يَزالُوا يَرْتَدُّون على أدبارهم وأعقابهم، منذ فارقْتَهُمْ، فإنْ كان هؤلاء كفّارًا، فالكافرُ لا يُجَاوِزُ الصِّرَاطَ، بل يُكَبُّ على وجهه في النار قبلَ أن يُجَاوزَه، وقيل: إن الصراط طريق ومَعْبَر إلى الجنة، فهو إنما ينصب للمؤمن والعصاة والفُسَّاق والظلمة، تحفظهم عليه الكلاليب، فمنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم من يأخذ الكَلُّوب، فيهوى في النار على وجهه، وان كان المشار إليهم بالردة عُصاةً من المسلمين فيَبعُدُ حَجبُهمْ عن الحوض، لا سيَّما وعليهم سِيمَا الوضوء، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أعرفكم غُرًّا مُحَجّلينَ من آثارِ الوُضوء" ثم من جاوز الصراط لا يكون إلّا ناجيًا مُسْلِمًا، فمثل هذا لا يُحْجَبُ عن الحوض، فالأشبَهُ واللَّه أعلم أنّ الحوضَ قبلَ الصراط.

فأمَّا الحديثُ الذي قال الإمامُ أحمد: حدّثنا يونُس، حدّثنا حَرْب بنُ مَيْمونٍ، عن النَّضْر بن أنس، عن أنس قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يَشْفَع لي يومَ القيامة، قال:"أنا فاعل" قال: فأين أطلُبك يوم القيامة يا نبيَّ اللَّهِ؟ قال: "اطْلُبْني أوَّلَ ما تَطْلُبني على الصراط" قلت: فإنْ لم ألْقَكَ [على الصراط؟] قال: "فأنا عند الميزان"، قال: قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه الثَّلاثة مَواطِنَ يوم القيامة". ورواه الترمذيّ من حديث بَدَل بن المُحَبَّر، وابن ماجه في "تفسيره" من حديث عبد الصمد، كلاهما عن حَرْب بن مَيْمُون أبي الخَطَّاب الأنصاريّ البصريّ من رجال مُسْلم، وقد وَثّقه علي بنُ المَدينيّ، وعمرو بن على الفَلّاس، وفرَّقا بينه وبين حَرْب بن [ميمون] أبي عبد الرحمن العَبْديّ [البصري] أيضًا صاحب الأغميَة، وضعّفا هذا، وأمَّا البُخاريّ فجعلهما واحدًا، وحَكَى عن سُلَيْمان بن حرب أنَّه قال: كان هذا أكْذَبَ الخلق، وأنكر الدارقطنيّ على البخاريّ ومسلم في جعلهما هذين واحدًا، وقال شيخنا الحافظ المِزّيّ: جَمَعَهُما غيرُ واحدٍ، وفرق بينهما غيرُ واحدٍ، وهو الصحيح، إن شاء اللَّه تعالى. قلت: وقد حرَّرت هذا في "التكميل" بما فيه كفاية.

ص: 264

وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه

(1)

.

والمقصود أنّ ظاهر هذا الحديث يقتضي أنّ الحوض بعد الصراط، وكذلك الميزان أيضًا، وهذا لا أعلم به قائلًا، اللهمَّ إلّا أن يكون المراد به حوضًا آخرَ، يكون بعد قطع الصراط، كما جاء في بعض الأحاديث، ويكون ذلك حوضًا ثانيًا لا يذادُ عنه أحد، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

‌فصل

وإذا كان الظاهر كونَه قبلَ الصراط، فهل يكون ذلك قبل وضع الكرسيّ لفصل القضاء، أو بعد ذلك. هذا ممّا يحتمل كُلًّا من الأمرين، ولم أر في ذلك شيئًا فاصلًا، فاللَّه أعلم أيّ ذلك يكون.

وقال القُرْطبيّ في "التَّذكرة": واختُلف في الميزان، والحوض: أيُّهما يكون قبلَ الآخر؟ فقيل: الميزانُ قبلُ [وقيل: الحوض]، قال أبو الحسن القابسيّ: والصحيح أن الحوض قبلُ. قال القرطبيّ: والمعنى يقتضيه، فإنّ الناس يَخْرجون عِطاشًا من قبورهم، كما تقدَّم، فيُقدَّم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزاليّ في كتاب "كشْفِ علوم الآخرة": حَكى بعضُ السَّلف من أهل التصنيف: أنّ الحوض يُوردُ بعد الصراط، وهو غلَطٌ من قائله. قال القرطبيّ: هو كما قال، ثم أورد حديثَ منع المُرْتدِّينَ على أعقابهم عن الحوض، ثم قال: وهذا الحديث مع صحّته أدَلّ دليل على أنَّ الحوض يكون في الموقف قبلَ الصراط، لأن الصراط منْ جاز عليه سَلِمَ، كما سيأتي. قلت: وهذا التوجيه قد أسلفناه وللَّه الحمد.

قال القُرْطبىّ: وقد ظنّ بعضُ الناس أنّ في تحديد الحوض تارةً بجَربَاءَ وأذرُح، وتارةً كما بَيْن الكَعْبةِ إلى كذا، وتارةً بغير ذلك اضطرابًا، قال: وليس الأمر كذلك، فإنّه صلى الله عليه وسلم حدَّث أصحابه به مَرَّاتٍ مُتعدِّدَةً، فخاطب في كلّ مرّةٍ لكل قوم بما يعرفون من الأماكن، وقد جاء في الصحيح تحديدُه بشَهْرٍ في شَهْرٍ، قال: ولا يخطُر ببالِك أنَّه في هذه الأرض، بل في الأرض المُبَدَّلةِ، وهي أرضٌ بيضاءُ كالفِضَّةِ، لم يُسْفَك فيها دم، ولم يُظْلمْ على ظهرها أحد قطّ، تُطهَّرُ لِنُزول الْجَبَّار جل جلاله لِفَصْل القضاء.

قال: وقد روي أنّ على كلِّ زاوية من زوايا الحوض واحدًا من الخلفاء الأربعة، فعلى الركن الأوَّل أبو بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع عليّ، رضي الله عنهم، قلت: وقد رَوَيْناه في "الغَيْلانِيَّات"، ولا يصح إسناده، لضعف بعض رجاله

(2)

، واللَّه أعلم بالصواب.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 178) والترمذي (2433) وهو حديث حسن.

(2)

هو في "الغيلانيات" برقم (64 - الزهراني).

ص: 265

‌فصل في مجيء الرَّبِّ سبحانه وتعالى كما يشاء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه

ذُكر في حديث الصور المتقدّم أنّه إذا ذهب رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فشفع عند اللَّه ليَفْصِل بَيْن العباد، فيقول الرب تعالى: أنا آتيكم فأقضي بينكم، ثم يَرْجِعُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيقف مع الناس في مقامِه الأوَّل، فحينئذ تَنْشقُّ السَّماوتُ بغَمامِ النُّور وتَتَنزَّلُ المَلائكةُ تَنْزيلًا، فيَنْزلُ أهْلُ السَّماءِ الدُّنْيَا، وهم قَدْرُ أهل الأرض من الجن والإنس، فيُحيطونَ بهم دَائرةً، ثمَّ تنشق السماءُ الثانية، فتنزل ملائكتها وهم قدر الجن والإنس، وقدر ملائكة سماء الدنيا، فيحيطون بمن هناك من الملائكة والجن والإنس دائرة، ثم كذلك أهل السماء الثالثة، والرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فكلّ أهل سماءٍ يُحيط بمنْ قبلهم دائرةً، ثم تنْزلُ الملائكة الكَرُوبيُّونَ وحَمَلةُ العَرْش، ومن حولهم من المُقَرَّبين، ولهم زَجَلٌ بالتسبيح، والتقديس، والتعظيم، يقولون: سبحانَ ذي العِزَّة والجَبَرُوت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الْحَىّ الذي لا يموت، سُبْحانَ الذي يُميتُ الْخَلائق ولا يَمُوت، ثم يأتيهم اللَّه لفصل القضاء.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في "الأهوال": حدّثنا حمزة بن العبَّاس، حدّثنا عبد اللَّه بن عُثمانَ، حدّثنا ابن المبارك، حدّثنا عَوْفٌ، عن أبي المِنْهال، سيَّار بن سَلامة الرَّياحيِّ، حدّثنا شَهْرُ بن حَوْشَب، حدّثني ابنُ عبَّاس، قال: إذا كان يومُ القيامة مُدَّتِ الأرضُ مَدَّ الأدِيم، وزِيدَ في سَعتها كذا وكذا وجُمعَ الخَلائقُ بصعيدٍ واحدٍ، جِنُّهم وإنْسُهُمْ، فإذا كان كذلك قِيضَت

(1)

هذه السماء الدنيا عن أهلها، فنُثِر مَنْ فيها على وجْهِ الأرْضِ، وأهْلُ هَذِهِ السَّماءَ الدُّنْيا وَحْدَهُمْ أكْثَرُ منْ جَميع أهلِ الأرض، جنِّهم، وإنْسهم بالضِّعْفِ، فإذا رآهم أهلُ الأرض فَزِعُوا إلَيْهم، ويقولون: أفيكُمْ رَبنا؟ فيفْزَعُون منْ قولهم، ويقولون: سُبْحانَ رَبِّنا، [لَيس فينا]، وهو آتٍ، [ثم تُقاضُ السَّماءُ الثانية، ولأهْلُ السماء الثانية أكْثَرُ من أهْلِ هذه السماء الدُّنيا، ومنْ جميع أهل الأرض بالضِّعْف، فإذا نُثرُوا على وجْه الأرض فَزِعَ إليهم أهْلُ الأرض، ويقولون: أفيكمُ رَبُّنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سُبْحان رَبِّنا [ليس فينا] وهو آتٍ، ثم تُقَاضُ السماوات، سماءً، سماءً، كلّما قِيضت سماءٌ كانت أكثْرَ منْ أهل السماوات التي تَحْتَها، ومن جميع أهل الأرض بالضِّعْف، جنِّهم، وإنْسِهم، كلّما نُثرُوا على وجْه الأرض فَزِع إليهم أهْلُ الأرض، ويقولون لهم مثل ذلك ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى تُقاضَ السَّماءُ السَّابعةُ، ولأهلُها وحدَهم أكْثرُ منْ أهلِ ستِّ سمواتٍ، ومن أهل الأرض من الجن والإنس بالضِّعْف، ويجيء اللَّهُ فيهم،

(1)

أي شقت.

ص: 266

والأمم جثًا صُفُوف، فينادي منادٍ: سَتَعْلَمون اليومَ منْ أصحابُ الكَرم، ليَقُم الْحمَّادُون للَّه على كلّ حال، فيقومون، فيُسَرَّحُون إلى الجنَّة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون منْ أصحاب الكرم اليوم، ليَقُم الذين كانتْ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16]، فيقومون، فيُسَرَّحُونَ إلى الْجَنَّة، ثم ينادي ثالثة: ستعلمون من أصحابُ الكرم اليوم، ليَقُم الذين كانُوا {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، فيقومون، فيسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، فإذا لمْ يبق أحد من هؤلاء الثلاثة خَرج عُنقٌ من النار، فأشْرَف على الخلائق، له عَيْنانِ بصيرتان، ولسانٌ فصيحِ، فيقول: إنِّي وكَّلْتُ بثلاثة، وكلت بكُلِّ جبّارٍ عنيد، فيَلْقُطُهم منَ الصُّفوفِ لَقْطَ الطَّيْر حَبَّ السِّمْسِم، فيَخْنسُ بهم في جهنَّم ثم يَخْرجُ الثانية، فيقول: إنِّي وُكِّلتُ بمن آذى اللَّهَ ورَسُولَه، فيَلْقُطُهم من الصفوف لَقْط الطَّيْر حَبَّ السِّمْسِم فيخنسُ بهم في جَهَنَّم ثم يخرج الثالثة، فيقول: إنِّي وُكِّلْتُ بأصحاب التَّصاوير، فيلقُطُهم مِنَ الصفوف لَقْطَ الطَّيرِ حَبَّ السِّمْسِم فيخنسُ بهم في جهنَّم، قال: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثةً، ومن هؤلاء ثلاثة، نُشِرَت الصُّحف، ووضِعَت الموازين، ودُعيتِ الْخَلائِقُ للحساب

(1)

وقد قال اللَّه تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 21 - 23]. وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]. وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} [الزمر: 69 - 70]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26].

وقال في حديث الصور: فيضَعُ اللَّهُ كُرْسيَّهُ حَيْثُ شاء من أرضه، يعني بذلك كُرْسيَّ فَصْل القَضاء، وليس هذا بالكرسيّ المذكور في آية الكرسي، ولا المذكور في "صحيح ابن حِبَّان":"ما السماواتُ السبعُ والأرَضُونَ السَّبْعُ وما فِيهنَّ، وما بَيْنَهُنّ في الكُرْسيّ إلّا كَحَلْقَةٍ مُلْقاةٍ بأرْضِ فَلاةٍ، وما الكُرْسيُّ في العَرْش إلا كتِلك الْحَلْقةِ بِتلكَ الفَلاةِ، والعَرْشُ لا يَقْدُرُ قدره إلّا اللَّهُ عز وجل"

(2)

. وقد يُطلق على هذا الكرسيّ اسمُ العرش، فقد ورد ذلك في بعض الأحاديث، كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة:"سَبْعَةٌ يُظلُّهم اللَّهُ في ظله" -وفي رواية

(3)

: "في ظل عرشه- يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّه. . . " الحديث بتمامه

(4)

.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(215) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل مختصرًا رقم (361) وهو صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

ذكرها الحافظ في "الفتح"(2/ 144) وعزاها إلى سعيد بن منصور من حديث سلمان بإسناد حسن.

(4)

رواه البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031).

ص: 267

وثبت في "صحيح البخاريّ" من حديث الزُّهريّ، عن أبي سلَمَةَ، وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانَ يومُ القيامة فإنّ الناس يَصْعَقُونَ، فأكونُ أوَّلَ منْ يُفيقُ، فأجِدُ مُوسى باطِشًا بقائمةٍ من قوائم العَرْش، فلا أدري أَصَعِق فأفاقَ قَبْلِي، أم جُوزي بصَعْقَةِ الطُّور؟ "

(1)

فقوله: "أم جُوزي بصَعْقة الطور": يَدُلُّ على أن هذا الصَّعْق الذي يَحْصُل للناس يوم القيامة سَبَبُه تَجَلِّي الربّ تعالى لعباده، لفَصْل القضاء، فيَصْعَقُ الناسُ من تجلي العَظَمة، والجلال، كما صَعِقَ موسى يَوْم الطُّورِ حينَ سَأله الرُّؤْيَة {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] فموسى عليه الصلاة والسلام إذا صَعقَ الناسُ يوم القيامة، إمَّا أن يكون جُوزي بصعقة الطور، فلا يصعق يومئذ، وإمّا أن يكون صعق فأفاق، أي صعق صعقة خفيفة، فأفاقَ قبلَ الناس كُلّهِمْ، واللَّه أعلم.

وقد ورد في بعض الأحاديث: أنَّ المؤمنينَ يَرون اللَّهَ في عَرَصاتِ القيامة، كما ثَبتَ في "الصحيحين" -واللفظ للبُخَاريّ- من طريق قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه، قال: خَرَج عَلَيْنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة البدْر، فقال:"إنّكم سَتَرونَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامةِ كما تَرَوْنَ هذا لا تُضامُونُ في رُؤْيتهِ".

وفي رواية للبخاريّ: "إنّكم سترون ربكم عِيانًا"

(2)

.

وجاء: أنّهم يسجدون له تعالى، كما قال ابن ماجه: حدّثنا جبَارة بن المغلِّس الْحِمَّانىّ، حدّثنا عبد الأعلى بن أبي المُسَاور، عن أبي بُرْدَةَ، عن أبي موسى، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع اللَّه الخلائقَ يوم القيامة أُذِنَ لأمَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم في السجود، فيَسْجدون له طويلًا ثم يقال: ارفعوا رُؤوسكم، فقد جَعْلنا عدَّتكم فداءكم من النار". وله شواهد من وجوه أُخر، كما سيأتي

(3)

.

وقال البزَّار: حدّثنا محمد بن المُثَنّى، حدّثنا يحيى بن حماد، حدّثنا أبو عَوَانَةَ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"حتَّى إنَّ أحدهُمْ لَيَلْتَفتُ فَيُكْشَفُ عن ساقٍ، فيَقَعونَ سُجودًا، وتَرْجعُ أصلابُ المنافقين حتى تكون عَظْمًا، كأنها صَياصي البَقَر" ثم قال: لا نعلم حَدَّث به عن الأعمش إلّا أبا عَوانةَ. قلت: وسيأتي له شاهد من وجه آخر.

وذكر في حديث الصُّور: "إنّ اللَّه يُنادي العِبَاد يوم القيامة فيقول: إنّي قد أنْصَتُّ لكم مُنْذُ خَلَقْتكُمْ إلى يومكم هذا، أرى أعمالَكم، وأسمع أقوالكم، فأنصتوا لي، فإنما هي أعمالُكم،

(1)

رواه بنحوه البخاري رقم (6517).

(2)

رواه البخاري (7436 و 7435) ومسلم رقم (633).

(3)

رواه ابن ماجه رقم (4291) وإسناده ضعيف.

ص: 268

وصُحُفكم تُقْرأ عليكم، فمنْ وَجَدَ خَيْرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنّ إلّا نفسه".

وروى الإمام أحمد، من حديث عبد اللَّه بن محمد بن عَقيل، عن جابر بن عبد اللَّه: أنّه اشترى رَاحِلَةً، وسار إلى عبد اللَّه بن أُنَيْس شهرًا ليَسْمع منه حديثًا بلَغَهُ عَنْهُ، فلمّا سأله عنه، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُحْشَرُ الناسُ يَوْمَ القيامةِ" -أو قال: "العِبادُ- حُفاةً عُراةً غُرْلًا [بهمًا] " قلنا: وما بُهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يُناديهم بصوت يسمعُه منْ [بَعُد كما يسمعه] من قَرُبَ: أنا المَلِكُ، أنَا الديّانُ، لا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أنْ يدخُل النار، وله عند أحَدٍ من أهل الْجَنّة حقّ حتّى أُقِصَّهُ مِنْهُ، ولا يَنْبغي لأحَدٍ من أهل الْجَنَّةِ أن يدخلُ الْجَنَةَ ولأحدٍ من أهل النَّار عِندهُ حقّ حَتَّى أُقصَّه منه، حتى اللطْمة" قال: قلنا: وكيف، وإنّا إنّما نأتي اللَّهَ بُهْمًا؟ قال:"بالْحَسَناتِ، والسّيئات"

(1)

.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذَرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي الطويل: "يا عبادي إنّما هي أعمالكم أُحْصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلّا نفسه"

(2)

.

وقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} [هود: 103 - 105].

ثم ذكر سبحانه ما أعدَّه للأشقياء، وما أعدَّهُ للسُّعداء، فقال تعالى:{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} [النبأ: 37 - 38].

وثبت في "الصحيحين": "ولا يتكلم يَوْمئذ إلّا الرُّسُل"

(3)

.

وقد عقد البخاريّ رحمه الله بابًا في ذلك، فقال في باب التوحيد من "صحيحه": بابُ كلام الرَّبّ سبحانه وتعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ثم أورد فيه حديث أنس في الشفاعة بتمامه.

[وحديث عدي: "ما منكم من أحد إلا سيكلّمه ربه. . . "] الحديث، وحديث ابن عمر في النَّجْوَى

(4)

.

ونحن نورد في هذه الترجمة أحاديث أُخر، مناسبةً لهذا الباب. وقد قال اللَّه تعالى:

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 495) وإسناده حسن. وجملة "بَعُد كما يسمعه" ليست في نسخ المسند وهي مثبتة في "مجمع الزوائد"(10/ 345) وجامع المسانيد للمصنف (7/ 5076).

(2)

رواه مسلم رقم (2577)(55).

(3)

رواه البخاري رقم (7437) ومسلم (182)(299).

(4)

البخاري (7510) و (7514).

ص: 269

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة: 109]. وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6 - 7]. وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف: 8 - 9]. وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92 - 93].

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا حمزةُ بن العبَّاس، حدَّثنا عبد اللَّه بن عُثْمانَ، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا رِشْدين بنُ سعد، أخبرني ابن أنْعُم المَعَافِريّ، عن حبان بن أبي جَبَلَة، يُسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جَمَعَ اللَّهُ عِبَادَهُ يَوْمَ القيامةِ كان أوَّلُ منْ يُدْعَى إسرافيل؛ فيقول له رَبُّه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بَلَّغْتَ عَهْدي؟ فيقول: نعم، يا ربّ، قد بلّغته جبريلَ، فيُدعى جبريل، فيقال له: هل بلّغك إسرافيلُ عَهْدي؟ فيقول: نعم، قد بلّغني، فيخلَّى عن إسرافيل، ويقال لجبريل: هل بلَّغت عهدي، فيقول: نعم قد بَلغْت الرُّسُل، فيُدْعَى الرسل فيقولُ لهم: هل بَلَّغكم جِبْريلُ عَهْدي؟ فيقولون: نعم، فيخلَّى عنْ جِبْريل، ويقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بَلَّغْنا أُمَمنا، فتُدْعى الأُممُ، فيُقال لهم: هل بلَّغَكمُ الرُّسُل عَهدي؟ فمنهم المُكَذّب، ومنهم المُصَدِّق، فيقول الرُّسُل: إنّ لنا عليهم شهداء يَشْهَدُون لنا أنا قدْ بَلّغْنا عهدَك، فيقول: منْ يشهدُ لكم؟ فيقولون: أُمَّةُ أحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أتشهدون أنّ رُسُلي هؤلاء قدْ بَلّغُوا عَهْدي إلى منْ أُرْسِلُوا إلَيْه؟ فيقولون: نعم رَبِّ شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلَّغُوا، فتقولُ تلك الأمم: كيفَ يَشْهدُ عَلَيْنا منْ لمْ يُدرِكْنا؟ فيقول لهمُ الربُّ تعالى: كيف تَشْهَدُونَ على منْ لم تُدْرِكُوا؟ فيقولون: رَبَّنا، بَعَثْتَ إلينا رَسُولًا، وأنْزلتَ إليْنا عَهْدَكَ وكِتابَك، وقصصت عَلينا فيه أنّهم قد بَلّغوا، فشَهِدْنا بما عَهِدت إلَيْنا، فيقول الربُّ: صَدَقُوا، فذلكَ قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ". قال ابن أنْعُم: فبلغني أن أمة محمد تشهد، إلّا منْ كانَ في قلبه حِنَةٌ

(1)

على أخيه

(2)

.

‌ذكر كلام الرب تعالى مع آدم عليه السلام

قال الإمام أحمد: حدّثنا قُتَيْبةُ بن سعيد، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن ثَوْر، عن أبي الغَيْث، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل من يُدْعى يومَ القيامة آدمُ، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: يا رَبِّ لَبَّيْكَ وَسَعْديكَ، فيقول له ربُّنا تعالى: أخْرِجْ نَصيبَ جَهَنم منْ ذُرِّيتكَ، فيقول: يا رَبِّ وكم؟ فيقول: من كلّ مئةٍ تِسْعة وتسعين" فقلنا: يا رسول اللَّه، أرأيتَ إذا أخَذَ منّا منْ

(1)

أي عداوة. انظر "النهاية"(1/ 453).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(237) وابن المبارك في "الزهد"(1598) وفي إسناده ضعف.

ص: 270

كل مئةِ تسعةً وتسعين، فماذا يَبْقَى مِنَّا؟ قال:"إن أُمتي في الأمم، كالشعْرَةِ البَيْضاءِ في الثَّوْرِ الأسود".

ورواه البخاريُّ، عن إسماعيل بن عبد اللَّه، عن أخيه، عن سُلَيْمانَ بن بلال، عن ثور بن زيد الدِّيليِّ، عن سالم أبي الغَيْث، مولى ابن مُطيع، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل من يُدْعَى يومَ القيامة آدم، فتتراءى ذُريتُه، فيقال: هذا أبوكم آدمُ، فيقول: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، فيقول: أخْرج بَعْثَ جَهنَّم من ذُرِّيتك. . . وذكر تمامه كما تقدم

(1)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يقولُ اللَّه يوم القيامة: يا آدم، قُمْ فابْعَثْ بَعْثَ النار، فيقول: لَبَّيْكَ وَسَعْديكَ، وَالْخَيْرُ في يَدَيْك، يا رَبِّ، وما بَعْثُ النَّار؟ فيقول: من كلِّ ألفٍ تِسْعَمئةٍ وتِسْعةً وتسعين" قال: "فيَوْمئذٍ يَشيبُ المَوْلُود، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] " قال: فيقولون: أيُّنا ذلك الواحد. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تِسْعُمئة وتِسْعةٌ وتسعون منْ يأْجُوج ومأْجُوجَ، ومنكم واحد" قال: فقال الناس: اللَّه أكبر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"واللَّه إني لأرْجُو أنْ تَكُونوا رُبُعَ أهلِ الجَنّة، واللَّهِ إنِّي لأرْجُو أنْ تكونوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّة، واللَّهِ إنّي لأرْجُو أنْ تكونوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّة" قال: فكَبَّرَ الناس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما أنْتُمْ في النَّاسِ إلا كالشَّعْرةِ البَيْضاءِ في الثَّوْرِ الأسْوَدِ؛ أو كالشَّعْرَةِ السَّوْداءِ في الثّوْرِ الأبيض". ورواه البخاريّ، عن عمر بن حَفْص بن غِياث، عن أبيه، عن الأعمش، به. ورواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، عن وَكيع، به، وأخرجاه من طرق أُخَر، عن الأعمش، به

(2)

.

وفي "صحيح البخاريّ" عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شُعْبة، عن أبي إسحاقَ، عن عمرو بن مَيْمون، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: كُنَّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قُبَّةٍ من أدم، فقال:"أتَرْضَوْنَ أنْ تكُونوا رُبُع أهْل الجَنّة؟ " قلنا: نعم، فقال:"والذي نفس محمد بِيَده، إنّي لأرجُو أن تكونوا نِصْفَ أهْلِ الجنّة، وذلك أنَّ الجنّة لا يدخُلها إلا نفسٌ مُسْلِمة، وما أنتم في أهل الشِّرْكِ إلَّا كالشَّعرة البيضاء في جِلْد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"

(3)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 378) والبخاري (6529).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 32) والبخاري (4741 و 3348) ومسلم رقم (222)(380).

(3)

رواه البخاري (6528) ومسلم (221)(377).

ص: 271

‌كلام الرَّبِّ تعالى مع نوح عليه السلام وسؤاله إياه عن البلاغ

كما قال اللَّه تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6].

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَى نوح يومَ القيامة، فيُقال له: هل بَلَّغْتَ؟ فيقول: نعم، فيُدْعى قَومُه، فيُقال: هل بَلَّغَكُمْ؟ فيقولون: ما أتانا مِنْ نذير، أو ما أتانا من أحدٍ، قال: فيُقال لنوح: منْ يشْهدُ لَكَ؟ فيقول: محمد، وأُمَّتُه، وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] " قال: "والوَسَطُ: العَدل الخيار"، قال:"فيُدْعَوْن، فيشْهدُون له بالبلاغ" قال: "ثم أشْهدُ عليكم". وهكذا رواه البخاري، والترمذيّ، والنسائيّ، من طرق عن الأعمش، به، وقال الترمذيّ: حسن صحيح

(1)

.

وقد رواه الإمام أحمد، بلفظ أعمَّ من هذا، فقال: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَجيءُ النبيُّ يوم القيامة ومعه الرجل، والنبيُّ ومعه الرجلان، وأكثرُ من ذلك، فيدعى قومُه، فيقول لهم: هل بَلّغكم هذا؟ فيقولون: [لا]، فيُقال له: هل بَلّغْتَ قَوْمَك؟ فيقول: نعم، فيُقال له: منْ يَشْهدُ لك؟ فيقول: محمد، وأمّته، فيُدْعى محمد، وأمته، فيُقال لهم: هل بَلّغ هذا قَوْمَه؟ فيقولون: نعم، فيُقال: وما عِلْمُكُم؟ فيقولون: جاءنا نَبيُّنا، وأخبرنا: أنّ الرُّسُل قد بَلَّغُوا" قال: "فذلك قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} " قال: "يقول: عَدْلًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] " وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي كُرَيْب، وأحمد بن سِنَان، كلاهما عن أبي معاوية

(2)

.

قلت: ومضمون هذا أنّ هذه الأمّة يوم القيامة تكون عدولًا عند سائر الأمم والأنبياء، ولهذا يَسْتَشهدُ بهم سائر الأنبياء على أُمَمِهِم، ولولا اعترافُ أممهم بشرف هذه الأمة لما حصل إلزامُهم بشهادتهم.

وفي حديث بَهْز بن حَكِيم، عن أبيه، عن جَدّه معاوية بن حَيْدَةَ، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أنتم تُوَفُّونَ سبْعين أمَّةً أنتم خَيْرُها، وأكرمُها على اللَّه سبحانه وتعالى"

(3)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 32) والبخاري (4487) والترمذي (2961) والنسائي في "الكبرى"(11007).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 58) وابن ماجه رقم (4284) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 3) وإسناده حسن.

ص: 272

‌ذِكر تشريف إبراهيم الخليل عليه السلام يوم القيامة على رؤوس الأشهاد

قال اللَّه تعالى {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27].

وقال البخاريّ: حدّثنا محمد بن بَشار، حدّثنا غُنْدَر، حدّثنا شُعْبةُ، عن المغيرة بن النُّعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبَّاس، قال: قام فينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ، فقال:"إنّكم محشورون إلى اللَّه حُفاة عُراةً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] وإنّ أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيُؤْخذُ بهم ذاتَ الشِّمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك" قال: "فأقول كما قال العبدُ الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي. . .} إلى قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118] " قال: " [فيقال]: إنهم لم يزالوا مُرْتَدَّينَ على أعقابهم"

(1)

.

‌ذكر موسى عليه السلام وظهور شرفه وجلالته [وكرامته] يوم القيامة ووجاهته [عند اللَّه] وكثرة أتباعه وانتشار أمته

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51 - 53]. وقال تعالى: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]. وقال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي. . .} إلى قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 39 - 41] والقرآن مملوء بذكر موسى والثناء عليه من اللَّه عز وجل حتى كاد القرآن أن يكون كُلُّه فيه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بالعرش"

(2)

وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. وثبت في الصحيح في الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بموسى ليلة الإسراء وهو قائم يصلي في قبره، ورآه في السماء السابعة [وفي رواية] في السادسة ليلة الإسراء، وكانت شريعة موسى عظيمة جدًا، وأمته كثيرة جدًا، وكان فيهم الأنبياء والعلماء والربانيون والأحبار والعبَّاد والزُّهاد، والصالحون والمؤمنون والمسلمون والملوك والسادات والكبراء. وطالت أيامهم في أرغد

(1)

رواه البخاري رقم (6526) ومسلم رقم (2860)(58) بالسند نفسه.

(2)

رواه بنحوه البخاري رقم (2411) و (6517).

ص: 273

عيش وأطيبه، مع القهر والغلبة لأهل الأرض قاطبة، ولا سيما في زمن داود وسليمان عليهما السلام. وقد مدح اللَّه بعضهم، وأثنى عليه في القرآن. فقال تعالى:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف] وقال: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 16 - 17] وقد ذكرهم اللَّه كثيرًا في القرآن.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سوادًا عظيمًا قد سدَّ الأفق، فظنها أمته، فقيل: هذا موسى وقومه. والآيات والأحاديث في فضل موسى في الدنيا والآخرة كثيرة جدًا.

‌ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام وكلام الرَّبِّ معه يوم القيامة

[قال اللَّه تعالى]: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. . .} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116 - 118] وهذا السؤال من اللَّه تعالى يوم القيامة لعيسى ابن مَرْيم مع علمه تعالى أنّه لم يَقُلْ شيئًا من ذلك ولا خطر ذلك بنفسه قط، ولا حدثته به نفسه، إنّما هو على سبيل التَّقْريع، والتَّوْبيخ لمن اعتقد فيه ذلك، من ضُلّالِ النَّصارى، وكَفَرَةِ أهْلِ الكِتابِ، فيَتبرَّأُ إلى اللَّه تعالى من هذه المقالة، وممن قالها فيه وفي أمه، كما تتبَرأ الملائكة ممَّن اعتقد فيهم شيئًا من ذلك، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نحشرهم (1) جَمِيعًا ثُمَّ تقول

(1)

لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40 - 41]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نحشرهم

(2)

وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ. . .} إلى قوله {نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 17 - 19]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28). . .} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 28 - 30].

(1)

هي قراءة ما سوى حفص ويعقوب.

(2)

هي بالنون قراءة نافع، وأبي عمرو، وشعبة عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف.

ص: 274

‌وأما المقام المحمود المحمَّدي يوم القيامة، فلا يساويه بل ولا يدانيه أحد فيه، ويحصل له من التشريفات ما يغبطه بها الخلائق كلهم

وقد تقدَّم ما ورد من الأحاديث في المقام المحمود، وأنه صلى الله عليه وسلم أول من يسجُد بين يدي اللَّه تعالى يوم القيامة، وأوَّل من يَشْفَعُ [فيُشفَّعُ]، وأوَّل من يُكْسَى بَعْد الخليل صلى الله عليه وسلم حُلَّتين خَضْرَاوَيْنِ، وَيَجْلسُ الْخَليلُ [عليه الصلاة والسلام] بين يدي العرش، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم عن يَمِين العرش، فيقول: يا ربّ، إنّ هذا -ويُشير إلى جبريلَ [عليه السلام]- أخبرني عَنْكَ أنّك أرْسَلْتَه إليّ، فيقول اللَّه تعالى: صدق جبريلُ.

وقد روى لَيْثُ بن أبي سُلَيْم، وأبو يحيى القَتات، وعطاء بن السائب، وجابر الجُعْفيّ، عن مجاهد، أنّه قال في تفسير المقام المحمود: إنّه يُجْلسُه معه على العَرْش. ورُوي نحوه عن عبد اللَّه بن سَلام، وجمع فيه أبو بكر المَرُّوذي جُزءًا كبيرًا، وحكاه هو وغيرُه عن غير واحد من السلف، وأهل الحديث، كأحمدَ، وإسحاقَ بن راهَوَيْه، وخَلْقٍ، وقال ابنُ جرير: وهذا شيء لا يُنكرهُ مثْبتٌ ولا نافٍ، وقد نَظمَه الْحَافِظُ [أبو الحسن] الدارقُطْنيّ في قصيدةٍ له.

قلت: ومثلُ هذا لا ينبغي قَبُولُه إلّا عن معصوم، ولم يَثْبُتْ في هذا حديثٌ يُعَوَّلُ عليه، ولا يُصارُ بسببهِ إليه، وقولُ مجاهدٍ وغيره في هذا:(إنَّه المقام المحمود) ليس بحُجَّة بمُجَرَّدِهِ، وكذلك ما روي عن عبد اللَّه بن سلام لا يصح. ولكن قد تلقاه جماعة من أهل الحديث بالقبول، ولم يصحّ إسنادُه إلى ابن سلام، واللَّه سبحانه أعلم بالصواب.

وقال [أبو بكر] بن أبي الدُّنيا: حدّثنا سُرَيْج

(1)

بن يونس، حدّثنا أبو سُفْيانَ المَعْمَريّ، عن مَعْمَر، عن الزّهريّ، عن عليّ بن الحُسَيْن: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يومُ القيامة مُدَّت الأرضُ مَدَّ الأديم، حتى لا يكون للإنسان إلّا مَوْضِعُ قَدَمَيْه"، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فأكونُ أوّلَ من يُدْعى، وجبريلُ عن يَمين الرحمن، واللَّهِ ما رآه قَبْلَها، فأقول: يا ربّ، إنّ هذا أخبرني أنّك أرسلته إليّ، فيقول اللَّه تعالى: صدق، ثم أشْفَعُ فأقول: يا رَبّ عبادُك عبدوك في أطراف الأرض، فهو المقام المحمود".

قلت: قد ورد في المقام المحمود أنه الشفاعة العظمى في الخلق ليقضى بينهم حين يأتون آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى فإذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أنا لها، أنا لها" فهذا هو المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون، كما روي في الأحاديث الصحيحة.

(1)

في (أ): شريح، وهو خطأ.

ص: 275

‌ذكر ما ورد في كلام الرَّبِّ تعالى مع العلماء يوم فصل القضاء

قال الطبرانيّ: حدَّثنا أحمد بن زُهَيْرٍ، حدَّثنا العلاء بن مسلمة

(1)

، حدَّثنا إبراهيم الطَّالقانيّ، حدَّثنا ابنُ المبارك، عن سُفْيانَ، عن سِمَاك بن حَرْبٍ، عن ثَعْلبةَ بن الحكم، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يقول اللَّه تعالى للعلماء إذا جَلَس على كُرْسيِّه لِفَصْل القَضاءِ: إِنِّي لم أجْعَل

(2)

عِلْمي وحِكْمتي فيكُمْ إلَّا وأنا أريدُ أنْ أغْفِرَ لَكُمْ على ما كانَ مِنْكُمْ، ولا أبالي". [قلت]: ولا يصح، ولو صح كان المراد به العلماء العاملون، واللَّه أعلم

(3)

.

‌ذِكْر أولِ كلامه عز وجل مع المؤمنين

قال أبو داود الطَّيالسيّ: حدَّثنا عبد اللَّه بن المُبارك، حدّثني يحيى بن أيوب، عن عُبيد اللَّه بن زَحْر، عن خالد بن أبي عِمْران، عن أبي عياش

(4)

، عن مُعاذ بن جَبَل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنْ شِئْتم أنْباتكُمْ بأوَّل ما يقول اللَّه عز وجل للمؤمنين يوم القيامة، وبأوَّل ما يقولون له" قالوا: نعم، يا رسول اللَّه، قال:"فإنّ اللَّهَ تعالى يقول للمؤمنين يوم القيامة: هل أحْببتُم لقائي؟ فيقولون: نعم، يا رَبَّنا، فيقول: ما حملكم على ذلك؟ فيقولون: عَفْوك وَرَحْمتُك، وَرِضْوانُك، فيقول: إني قد أوْجَبْتُ لكم رحمتي"

(5)

.

‌فصل

وأما الكفار فقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174 - 175]. والمراد من هذا أنه لا يكلِّمهم، ولا ينظر إليهم؛

(1)

في الأصول: العلاء بن سالم.

(2)

وفي نسخة على حاشية الفاسية: لم أضع.

(3)

رواه الطَّبراني في المعجم الكبير رقم (1381).

(4)

في (أ): ابن عباس، وفي الفاسية ابن عياش، والتصحيح من "تهذيب الكمال".

(5)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (564) وإسناده ضعيف.

ص: 276

كلامًا ينتفعون به، ونظرًا يَرْحَمُهم به، كما أنهم عن رَبَّهم يَومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ، لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ

(1)

جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]. [وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 38 - 40]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]. وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 63 - 66] وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 74 - 75]]، والآيات في هذا كثيرة جدًّا.

وثبت في "الصحيحين"[كما سيأتي] من حديث [خَيثمة، عن] عَدِيِّ بن حاتم؛ أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلّا سَيُكلِّمُهُ رَبُّه لَيْسَ بينه وبينَه تَرْجُمان"

(2)

، "فيَلْقَى الرَّجُلَ فيقول: ألَمْ أُكْرِمْك؟ ألم أزوِّجْكَ، ألم أسَخِّر لكَ الخَيْلَ والإبل، وأذَرْكَ تَرأسُ وَتَربعُ؟ فيقول: بلَى، فيقول: أظننْتَ أنّكَ مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: الْيَوم أنساكَ كما نسيتني"

(3)

، فهذا فيه التصريح العظيم في تكليم اللَّه تعالى، ومخاطبته لعَبْده الكافر.

وأما العُصاةُ، ففي حديث ابن عمر [الذي في "الصحيحين"] حديث النجوى كما سيأتي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يُدْني اللَّهُ العَبْد يوم القيامة حتّى يَضع عليهِ كَنَفهُ، ثم يُقرِّرُه بذُنُوبه، فيقول: عَمِلْتَ في يوم كذا كذا وكذا [وفي يوم كذا كذا وكذا]، فيقول: نعم، يا ربّ، حتى إذا ظَنَّ أنّه قد هلك، قال اللَّه تعالى: إني قد سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدُّنْيا، وأنا أغْفرُها لَكَ اليوم"

(4)

.

‌فصل في إبراز النِّيران، [والجنَان]، ونصب الميزان، ومحاسبة الدَّيَّان

قال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 90 - 91]. وقال:

(1)

هي قراءة ما سوى حفص عن عاصم، وروح عن يعقوب.

(2)

رواه مسلم رقم (2968) من حديث أبي هريرة.

(3)

رواه البخاري (6539) ومسلم (1016)(67).

(4)

رواه البخاري رقم (2441) ومسلم رقم (2768).

ص: 277

{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 12 - 14]. وقال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31). . .} [ق: 30 - 31]. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. . .} الآية [الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .} الآية [النساء: 40]. وقال لُقْمان لابنه فيما أخبر اللَّه عنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] والآيات في هذا كثيرة جدًّا.

‌ذِكْر إبداء عنق من النار إلى المحشر فيطّلع على الناس

قال اللَّه تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 23].

وقال مسلم في "صحيحه": حدَّثنا عمر بن حفص بن غِياث، حدَّثنا أبي، عن العلاء بن خالد الكاهِلي، عن شَقيق، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتى بِجَهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زِمام، مع كلّ زمام سبعون ألفَ مَلَك، يَجُرُّونها". وهكذا رواه الترمذي مرفوعًا، ومن وجه آخر هو وابن جرير مَوْقوفًا

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا معاوية، حدَّثنا شَيبانُ، عن فِرَاس، عن عَطيَّة، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يَخْرُجُ عُنُقٌ منَ النار فيتكلّم يقولُ: وُكِّلْتُ اليومَ بِثلاثةٍ: بكُلّ جَبَّارٍ، ومن جَعَل مع اللَّه إلهًا آخر، ومن قتل نَفْسًا بغير نفس، فيَنْطوي عليهم، فيقذِفُهم في غَمَراتِ جَهنّم". تفرَّد به من هذا الوجه

(2)

. وسيأتي في باب الميزان عن خالد، عن القاسم، عن عائشةَ، نحوُه

(3)

.

وقال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 13 - 14].

قال السُّدِّيّ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، قال: من مسيرة مئةِ عامٍ {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} أي عليهم {وَزَفِيرًا} أي من شِدّة حَنَقِها وبُغْضهَا لمن أشرك باللَّه، واتَّخَذ معَه إلهًا آخَر.

وفي الحديث: "من كَذَب عليَّ، أو ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمَى إلى غير مَوالِيه، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْن عَيْني جَهَنَّم مَقْعَدًا" قالوا: يا رسول اللَّه، وهَلْ لَها مِنْ عَيْنَيْن؟ قال: "أمَا سَمِعْتُم اللَّهَ

(1)

رواه مسلم رقم (2842) والترمذي (2573).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 40) وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، وللحديث دون قوله:(ومن قتل نفسًا بغير نفس" شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 336) والترمذي رقم (2574) وآخر من حديث عائشة الآتي بعده.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 110) وبعضه صحيح لغيره.

ص: 278

يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} [الفرقان: 12] رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير: حدَّثنا أحمد بنُ إبراهيم الدّوْرقيّ، حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّه بنُ موسى، حدَّثنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مُجاهد، عن ابن عبَّاس، قال: إنّ الرَّجُلَ ليُجَرُّ إلى النار، فَتَنْزَوي ويَنْقَبضُ بَعْضُها إلى بَعْض، فيقول الرحمنُ: مالكِ؟ فتقول: إنه يَسْتَجيرُ بك منِّي، فيقول: أرْسلُوا عَبْدي، وإنّ الرَّجُل لَيُجَرُّ إلى النار فيقول: يا رَبّ، ما كان هذا الظنَّ بِكَ، فيقول: فما كانَ ظنُّك؟ فيقول: أنْ تَسَعَني رَحْمتُك، فيقول: أرْسلُوا عَبدي، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُجرُّ إلى النّار، فَتَشْهقُ إلَيْهِ النّارُ شُهُوقَ البَغْلَةِ إلى الشَّعير، وتَزْفِرُ زَفْرَة لا يَبْقَى أحَدٌ إلَّا خافَ. إسناده صحيح.

وقال عبد الرزاق: حدَّثنا مَعْمرٌ، عن منصور، عن مجاهد، عن عُبَيْد بن عُمَيْر، قال: إنّ جَهنَّمَ تَزْفِرُ زَفْرَةً لا يَبْقَى مَلَكٌ، ولا نَبيٌّ إِلَّا خَرَّ، تُرْعَدُ فَرَائصه، حتَّى إنَّ إبراهيم لَيَجْثُو على رُكْبَتَيْهِ، ويقول: يا رَبّ، لا أسْألُكَ اليومَ إلّا نَفْسي.

وقال في حديث الصُّور: ثم يأمر اللَّهُ جَهنَم فيَخْرُج مِنْها عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلم، ثم يقول تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 60 - 64]. وقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] فيَميزُ اللَّهُ بين الخلائق، وتجْثُو الأمم، وذلك قوله تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28 - 29].

‌ذكر الميزان

قال اللَّه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103]. وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9]. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 6 - 11]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105].

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ: قال العلماء: إذا انقضى الحسابُ يوم القيامة كان بعده وَزْنُ الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار

ص: 279

مقاديرها، ليكون الجَزاءُ بِحَسبها، قال: وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يحتمل أن يكون ثَمَّ مَوَازينُ مُتعدّدة، توزنُ فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد المَوْزونات، فجُمع باعتبار تَنَوّع الأعمال الموزونة، واللَّه أعلم.

‌بيان كون الميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان

قال الإمام أحمد: حدَّثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالقَانيّ، حدَّثنا ابنُ المبارك، عن لَيْث بن سَعْد، حدّثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، واسمه عبد اللَّه بن يَزيد، سمعتُ عبد اللَّه بن عمرو، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه تعالى يستخلص رجلًا من أُمَّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيَنْشُر اللَّهُ عليه تِسعةً وتسعين سِجلًّا، كلُّ سِجِلٍّ مَدُّ البَصرِ، ثم يقول له: أتنكرُ مِنْ هذا شَيْئًا؟ أظلمكَ كَتَبتي الحافظون؟ قال: لا، يا رَبِّ، فيقول اللَّه: ألَكَ عُذْرٌ أوْ حَسَنةٌ؟ فيُبْهتُ الرَّجُل، فيقول: لا، يا رَبِّ، فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة واحدة، إنك لا تظلم، أو قال: لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إِلَّا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحْضِرُوه، فيقول: يا رَبّ، ما هذه البطاقةُ مع هذه السِّجلات؟ فيقول: إنّك لا تُظْلم" قال: "فتوضع السِّجلاتُ في كِفَّةٍ، والبطاقةُ في كِفَّةٍ" قال: "فَطَاشَت السِّجِلَاتُ، وَثَقُلتْ البطاقة، ولا يَثْقُلُ شَيْءٌ [مع] اسم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم" وهكذا رواه الترمذيّ وابن ماجه وابن أبي الدنيا، من حديث الليثِ، زاد الترمذي: وابن لهيعة -كلاهما- عن عامر بن يحيى، به، وقال الترمذيّ: حسن غريب

(1)

.

‌سياق آخر [لهذا الحديث]

قال أحمد: حدَّثنا قُتيبةُ، حدَّثنا ابنُ لهيعة، عن عمرو بن يحيى

(2)

، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازينُ يوم القيامة، فيُؤْتى بالرَّجُلِ فيُوضَع في كِفَّةٍ، فيوضع ما أُحصي عليه من أعماله فيَتَمايل به الميزان" قال:

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 213) والترمذي رقم (2639) وابن ماجه رقم (4300) وهو حديث صحيح.

أقول: وفي هذا الحديث الشريف بشارة عظمى وفائدة كبرى، وهي أن البطاقة التي فيها (لا إله إِلَّا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله) ثقلت في الميزان، ورجحت على سائر السجلات، وهذا يدل على مدى قيمة هذه الكلمة الطيبة، وأنها تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة، وأن توحيد اللَّه عز وجل والاعتراف له بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، هو الأصل الذي عليه تبنى جميع الأعمال، نسأل اللَّه تعالى أن يختم حياتنا بهذه الكلمة الطيبة والإيمان بها والعمل بمدلولها.

(2)

كذا في الأصول: عمرو بن يحيى، والصواب عامر بن يحيى.

ص: 280

"فيَبْعثُ اللَّه به إلى النار" قال: "فإذا أُدْبرَ بِه إذا صائحٌ منْ عِنْد الرحمن تبارك وتعالى يقول: لا تَعْجَلُوا، لا تَعْجَلُوا، لا تَعْجَلُوا، فإنه قد بَقي له، فيُؤْتى ببطَاقةٍ فيها: لا إله إِلَّا اللَّهُ، فتوضعُ مع الرجل في كِفّةٍ، حتى يَميل به الميزانُ". وهذا السياق فيه غرابة

(1)

فيه فائدة جليلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا أحمد بن محمد بن البَراءَ المُقْرئ، حدَّثنا يَعْلَى بن عُبَيْد، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عمرو، رفعه، قال:"يُؤْتى برجل يوم القيامة إلى الميزان، فيُخْرَج لَهُ تسعةٌ وتسعون سِجلًّا، كلُّ سِجِلّ منها مدُّ البَصرِ، فيها ذُنوبه، وخَطَاياهُ، فتُوضَعُ في كِفَّةٍ، ثم يُخْرَجُ لَهُ قِرْطاس مثل الأُنْملةِ، فيها شهادةُ أنْ لا إله إِلَّا اللَّهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ، فتوضَعُ في الكِفّةِ الأخرى، فتَرْجحُ بخطاياه".

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا أبو عُبَيْدٍ القاسمُ بن سَلّام، حدَّثنا حجّاجٌ، عن فِطْرِ بن خَليفَةَ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن سابط، قال: لمَّا حضر أبا بكر الموتُ أرْسَل إلى عمر، فقال: إنَّما ثَقُلتْ مَوازينُ منْ ثَقُلَتْ مَوَازينُه يَوْمَ القيامةِ باتِّباعِهمُ الْحَقَّ في الدُّنيا، وثِقله عليهم، وحُقّ لِميزانٍ إذا وُضِعَ فيه الحَقُّ غدًا أنْ يكونَ ثَقيلًا، وإنَّما خَفتْ موازينُ مَنْ خَفّت مَوازينهُ يَوم القيامةِ باتّباعهم البَاطِل [في الدنيا]، وخِفّته علَيْهم، وحُقَّ لِميزانٍ إذا وُضع فيه الباطلُ غَدًا أنْ يَكُونَ خَفيفًا.

وقال أحمد: عن سفيان بن عُيَيْنةَ، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن يعلى بن مَمْلَك، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أثْقَلُ شيء يوضع في الميزان خُلُقٌ حسن"

(2)

.

وقد وردت الأحاديثُ بوزن الأعمال أنْفسها كما في "صحيح مسلم"، من طريق أبي سَلّام، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شَطْرُ الإيمان، والحَمدُ للَّه تَملأ الميزان، وسُبْحان اللَّه، والحمدُ للَّه تملآن [أو تملأ] ما بَيْن السماواتِ والأرض، والصلاةُ نور، والصدقة بُرْهانٌ، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْك، كلُّ الناسِ يَغْدو فبائعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها، أو مُوبقُها"

(3)

.

فقوله: "والحمد للَّه تملأ الميزان"، فيه دلالةٌ على أن العمل نفسه يوزن، وذلك بأحد شيئين، إما أن العمل نفسه، وإن كان عَرَضًا قَد قام بالفاعل، يُحيلُه اللَّه يوم القيامة فيجعلُه ذاتًا، تُوضعُ في

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 221 - 222) وهو حديث حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 451 - 452)، ورواه من طريق سفيان الترمذي (2002) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه مسلم رقم (223).

ص: 281

الميزان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا أبو خيثمَةَ، ومحمَّد بن سُلَيمان، وغيرُهما، قالوا: حدَّثنا سُفْيانُ بن عُيَيْنةَ، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مُلَيْكةَ، عن يَعْلى بن مَمْلكٍ، عن أمّ الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أثْقَلُ شيء يُوضَعُ في الميزان خُلُقٌ حَسن".

وكذا رواه أحمد عن سُفيان بن عُيَيْنةَ، به، ورواه أحمد، عن غُنْدَر، ويحيى بن سعيد، عن شُعْبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن عَطاء الكَيخارانيّ، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من شيء أثْقَلَ في الميزان من خُلُقٍ حسن". وقد رواه أحمد أيضًا، من حديث الحسن بن مُسلم، عن عطاء، وأخرجه أبو داود من حديث شُعبَةَ، به، والترمذيّ من حديث مُطَرِّف، عن عطاء الكَيخارانيّ، به

(1)

.

وقال أحمد: حدَّثنا عفان، حدَّثنا أبانٌ، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد، عن أبي سَلَّام، [عن] مولى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بَخٍ بَخٍ لخمْسٍ، ما أثقلهُنَّ في الميزان: لا إله إِلَّا اللَّه، واللَّهُ أكبرُ، وسُبْحانَ اللَّه، والحمدُ له، والوَلدُ الصَّالحُ ويُتَوَفّى فيَحْتَسبُه وَالِدُه" وقال: "بَخٍ بَخٍ لخَمْسٍ: من لَقيَ اللَّه مُسْتَيْقنًا بهنَّ دَخلَ الْجنَّة: يؤمن باللَّه، واليوم الآخر، وبالْجنَّة، والنَّار، وبالبعث بعد الموت، والحساب". انفرد به أحمد

(2)

.

وكما ثبت في الحديث الآخر: "تأتي البقرةُ وآلُ عمرانَ يوم القيامة كأنّهُما غَمَامَتانِ، أو غيايتان، أو فِرقان من طَيْر صَوافَّ، يُحَاجَّانِ عن صاحبهما"

(3)

.

والمراد من ذلك ثوابُ تِلاوتهما، يَصيرُ يوم القيامة كذلك، وقيل: إنهما بذاتهما يحاجان عنه لا ثوابهما. الأمر الثاني: أنّه يوزنُ العمل نفسه يوزن بوضع الصحيفة التي كُتبَ فيها العمل فيوزن العمل بالصحيفة كما في حديث البِطَاقة، واللَّه أعلم.

وقد جاء أنّ العاملَ نفسه يوزن، كما قال البخاريّ: حدَّثنا محمد بن عبد اللَّه، حدَّثنا سعيدُ بن أبي مَرْيم، حدَّثنا المُغيرة، حدّثني أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنّه ليأتي الرجُل العَظيمُ السمين يوم القيامة لا يزنُ عند اللَّهَ جَناح بعوضَةٍ" وقال: "اقرؤوا إنْ شِئْتُمْ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ".

قال البخاريّ: وعن يحيى بن بُكَيْر، عن المُغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله. وقد

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 446 و 442 و 448) وأبو داود رقم (4799) والترمذي (2003) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 443) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

رواه مسلم رقم (804).

ص: 282

أسند مسلم ما علّقه البخاريّ عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بُكيْر. . . فذكره

(1)

.

وقد رُوي من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، فقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا أبو الوليد، حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن صالح، مَوْلى التَّوأمَة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُؤتى بالرَّجُل الأُكولِ الشَّرُوبِ العَظيم، فَيُوزنُ بحَبَّةٍ فلا يَزِنُها" قال: "وقرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ". ورواه ابن جرير، عن أبي كُريب، عن ابن الصّلت

(2)

، عن ابن أبي الزّناد، [عن صالح]، عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ البُخاريّ سواءً.

وقد قال البزَّار: حدَّثنا العباس بن محمد، حدَّثنا عَوْنُ بن عُمارة، حدَّثنا هشامُ بن حَسّان، عن واصل، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ، عن أبيه، قال: كُنَّا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجلٌ من قُرَيْش يَخْطِرُ في حُلَّةٍ له، فلمّا قام على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا بُريدةُ؟ هذا ممَّنْ لا يُقيمُ اللَّه لهُ يومَ القِيامةِ وَزْنًا" ثم قال: تفرَّد به عون بن عُمَارة، وليس بالحافظ، ولمْ يُتابعْ عليه

(3)

.

قال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الصمد، وحسن بن موسى، قالا: حدَّثنا حمّاد، عن عاصم، عن زرّ بن حُبَيْشٍ، عن ابن مسعود: أنَّه كان يَجْتَني سِوَاكًا من الأراك، وكان دَقيق الساقين، فجعلت الريح تَكْفَؤُه، فضحك القوم منه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مِمَّ تَضْحكون؟ " قالوا: يا رسول اللَّه من دِقَّةِ سَاقَيه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لَهُمَا أثْقَلُ في الميزان من أُحدٍ". تفرّد به أحمد، وإسنادُه جيِّد قويّ، فقد جاءت الروايات بهذه الصفات

(4)

.

وفي "مسند الإمام أحمد" في بعض طرق حديث البطاقة -من طريق ابن لهيعة-: أن العامل يوزنُ مع عمله وصحيفته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفّان، حدَّثنا القاسم بن الفَضْل، قال: قال الحسنُ: قالت عائشةُ: يا رسول اللَّه هل تذكرون أهليكم يومَ القيامة؟ قال: "أمَّا في مَوَاطنَ ثلاثةٍ فلا: الكتاب، والميزان، والصراط"

(6)

فقوله: "الكتاب" يحتمل أن يكون كتابَ الأعمال ليَشَهْد على الأنفس بأعمالها، ويحتمل أن يكون ذلك عند تَطَاير الصحف في أيدي الناس فآخذ بيمينه وآخذ بشمالِهِ، كما قال

(1)

رواه البخاري رقم (4729) ومسلم رقم (2785).

(2)

في الأصول: ابن أبي الصلت، وهو خطأ.

(3)

رواه البزار رقم (2956) كشف الأستار، وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (1/ 420 - 421).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 221 - 222). أقول: وإسناده حسن، لأن الراوي عن ابن لهيعة قتيبة بن سعيد.

(6)

رواه أحمد في المسند (6/ 101) وهو مرسل، ولكن للحديث شاهد من حديث أنس بمعناه، فهو به حسن، وقد تقدم صفحة (264) وسيأتي صفحة (284).

ص: 283

البيهقيّ: حدَّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عليّ المُقْرئ، أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدَّثنا يوسف بن يعقوب القاضي، حدَّثنا محمد بن مِنْهال، حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيع، حدَّثنا يونُس بن عُبَيْد، عن الحسن، أنَّ عائشةَ ذكرت النار فبكَتْ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما يُبْكيك يا عائشة؟ " قالت: ذَكَرْتُ النارَ فبَكَيْتُ، هل تذكُرون أهليكم يوم القيامة؟ قال:"أما في ثلاثِة مواطنَ فلا يذكُر أحدٌ أحدًا؛ حَيثُ يُوضعُ العمل في الميزان، حتى يعلم أيثْقُلُ ميزانه أمْ يَخِفّ، وحيثُ يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حيث تَطَايَرُ الصُّحُفُ، حتى يَعْلمَ كِتابَهُ في يَمينه، أو في شِمالِهِ، أو من وراء ظَهْرِه، وحيثُ يوضَعُ الصِّراطُ على جِسْرِ جَهنَّم" قال يونس: أشُكُّ هل قال الحسن: حافتاه كَلاليب، وحَسَكٌ يَحْبسُ اللَّهُ بِهِ منْ يشاءُ من خَلْقِه، حتّى يَعلمَ أينجو أمْ لا يَنْجُو، ثم قال البيهقيّ: حدَّثنا الرُّوذَبَاريّ: حدَّثنا ابن دَاسةَ، حدَّثنا أبو داود، حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، وحُمَيْدُ بن مَسْعدةَ، أن إسماعيل بن إبراهيم حدّثهم، قال: حدَّثنا يونُس، عن الحسن، عن عائشة: أنّها ذكرت النارَ فبَكَتْ. . . وذكر الحديث بنحوه، إلّا أنَّه قال:"وعند الكتاب، حين يقال {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حتى يَعْلَم أيْنَ يَقعُ كتابُه، أفي يَمينه أمْ في شِمالِه، أمْ منْ وَراءَ ظَهْرِه، وعنْدَ الصراط، إذا وُضعَ بَيْنَ ظَهْرانَي جَهَنّم" قال يعقوب عن يونس: وهذا لفظ حديثه

(1)

.

‌طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها

قال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابنُ لَهِيعةَ، عن خالد بن أبي عِمْران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللَّه، هل يذكر الْحَبيبُ حَبيبهُ يَومَ القيامةَ؟ قال:"يا عائشة، أمَّا عند ثلاثٍ، فلا، [أما] عِنْدَ الميزان حتى يَثْقُلَ، أو يَخفّ فلا، وأمّا عند تَطاير الكُتب، فإمَّا أنْ يُعْطَى بِيَمينه، أو يُعْطَى بِشمَالِه، فلا، ثمَّ حين يَخرج عُنُقٌ من النار فيَنْطَوي عليهم، ويَتغيَّظُ عليهم، ويقول ذلك العُنق: وُكِّلْتُ بثلاثة، وكلت بمن ادَّعَى مع اللَّه إلهًا آخَر، ووُكِّلْتُ بمن لا يؤمِنُ بيَوْمِ الحِساب، ووكِّلْتُ بكلِّ جبَّارٍ عَنيدٍ" قال: "فيَنْطوي عليهم، ويَرْمي بهم في غَمراتٍ، ولجَهَنَّم جسر أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف، عليه كَلاليب، وحَسَك، تأخذ منْ شاء اللَّه، والناسُ عليه كالطرْف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخَيْل والرِّكابِ، والملائكةُ يقولون: ربِّ سلّم، ربّ سلّم، فناجٍ مُسلَّم، ومَخْدُوش مُسلَّم، ومُكوَّرٌ في النار على وجهه"

(2)

.

وتقدم من رواية حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس، أنَّه قال: اشفعْ لي يا رسول اللَّه، قال:"أنا فاعل" قال: فأيْنَ أطْلُبُكَ؟ قال: "اطلبني أَوَّلَ ما تَطْلُبُني عند الصراط"

(1)

ورواه أيضًا البيهقي في "الاعتقاد"(274) وأبو داود (4755) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 110) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 284

قال: فإنْ لم ألْقَكَ؟ قال: "فعند الحوض"، قال: فإن لم ألقك؟ قال: "فعند الميزانِ، فإنِّي لا أخطئ هذه الثَّلاثةَ مَواطن يَوْمَ القيامة". رواه أحمد والترمذيّ

(1)

.

وقال الحافظ [أبو بكر] البَيْهقيّ: أخبرنا أبو سَهْل، أحمد بن محمد بن إبراهيم المِهْرَانيّ، حدَّثنا أحمد بنُ سَلْمان الفقيهُ بِبَغدادَ، حدَّثنا الحارث بن محمَّد، حدَّثنا داود بن المُحَبَّر، حدَّثنا صالح المُرِّيّ، عن جعفر بن زيد، عن أنس بن مالك، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُؤْتَى بابن آدمَ يومَ القيامة، فيُوقفُ بين كِفَّتَي المِيزانِ، ويُوكَّل به مَلَك، فإنْ ثَقُل ميزانُهُ نادى المَلكُ بصوتٍ يُسْمعُ الخلائقَ: ألا إن فلانًا سَعد سعادةً لا يَشْقَى بَعْدَها أبدًا، وإنْ خف ميزانُه نادَى المَلكُ بصَوْتٍ يُسْمعُ الْخَلائقَ: شَقيَ فُلانٌ شقاوة لا يَسْعد بعدَها أبدًا" ثم قال البيهقيّ: إسنادُه ضعيف بمرة.

وقد رواه الحافظان البزار، وابن أبي الدنيا، عن إسماعيل بن أبي الحارث، عن داود بن المُحَبَّر، حدَّثنا صالح المُرِّيّ، عن ثابت البُنَانيّ، وجعفر بن زَيْد -زاد البزَّار: ومنصور بن زاذان-، عن أنس بن مالك، يرفعه، بنَحْوه

(2)

.

وقال عبد اللَّه بن المُبارك: حدَّثنا مالك بن مِغْوَل، عن عُبَيْد اللَّه بن العَيْزَار

(3)

، قال: عند الميزان ملَكٌ إذا وُزِنَ العَبدُ نادى: ألا إنَّ فلانَ ابنَ فُلانٍ ثَقُلَتْ موازينه، وسَعِدَ سَعادَةً لا يَشْقَى بَعْدها أبدًا، ألا إنَّ فُلان ابنَ فلانٍ خَفَّتْ مَوازينُه، وشَقيَ شَقاوةً لا يَسْعدُ بَعْدها أبدًا

(4)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا يوسفُ بن موسى، حدَّثنا الفَضْل بن دُكَيْن، حدَّثنا يوسُف بن صُهَيْبٍ، حدَّثنا موسى بن أبي المُخْتارِ، عن بلالٍ العَبْسيّ، عن حُذَيْفَةَ، قال: صاحبُ الميزان يوم القيامة جبريلُ يَرُدُّ بعضُهم على بعض، ولا ذَهَب يَوْمئذٍ ولا فِضَّة، قال: فيُؤخذُ من حَسَنات الظّالِم، فإنْ لم يكن له حسناتٌ أخِذَ من سيئَاتِ المظلوم، فرُدّت على الظالم.

وقال أبو بكر بن أبي الدّنيا: حدَّثنا محمد بن العبَّاس بن محمد، حدَّثنا عبد اللَّه بن صالح العِجْليّ، حدَّثنا أبو الأحوص، قال: افتخَرتْ قريشٌ عند سَلْمان، فقال سلمان: لكنِّي خُلِقْتُ منْ نُطْفَةٍ قذرَةٍ، ثم أعود جيفةً مُنْتنةً، ثم يُؤتى بي إلى الميزان، فإن ثَقُلَتْ فأنا كريم، وإن خَفَّتْ فأنا لَئيمٌ، وقال أبو الأحوص: تدري من أيِّ شيء يُخافُ؟ إذا ثَقُلتْ ميزانُ عَبْدٍ نُودي في مَجْمع فيه الأولون والآخرُون: ألّا إنّ فلانَ ابن فلان قد سَعِد سعادةً لا يَشْقَى بعدها أبدًا، وإذا خَفَّت ميزانُه نودي على رؤوس الخلائق: ألا إنّ فلانَ ابن فلانٍ قد شَقيَ شقاوة لا يَسْعدُ بَعدها أبدًا.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 178) والترمذي رقم (2433) وهو حديث حسن.

(2)

رواه البزار (3445 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

(3)

في الأصول: عبيد اللَّه بن أبي العيزار، والتصحيح من كتب الرجال.

(4)

رواه ابن المبارك في الزهد (372 - زوائد نعيم).

ص: 285

وقال البيهقيّ: حدَّثنا أبو الحسن عليّ بن أبي عليّ [السَّقاء]، حدَّثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن عبيد اللَّه المنادي، حدَّثنا يونس بن محمد، حدَّثنا المُعْتمرُ بنُ سُلَيْمانَ، عن أبيه، عن يحيى بن يَعْمر، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حديث الإيمان، قال: يا محمَّد، ما الإيمان؟ قال:"الإيمانُ أن تُؤمنَ باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسُله، وتؤمن بالجَنَّةِ والنار، والميزان، وتُؤمن بالبَعْثِ بعد الموت، وتؤمن بالقدر خَيْرِه وشَرِّه" قال: فإذا فعلتُ هذا فأنا مؤمن؟ قال: "نعم"، قال: صدَقْتَ.

وقال شُعبة: عن الأعمش، عن شَمِر بن عَطيَّة: عن أبي الأحْوَص، عن عبد اللَّه، هو ابن مسعود، قال: للناس عند الميزان تَجادُلٌ وزِحامٌ.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا أبو نصر التَّمَّارُ، حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابتٍ البُنَانيّ، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن سَلْمانَ الفَارسيّ، قال: يوضع الميزانُ وله كِفتانِ، لو وُضع في إحداهما السماواتُ والأرضُ، وما فيهن لوَسعَتْها، فتقول الملائكة: يا رَبَّنَا، من يزن بهذا، فيقول تعالى: مَن شئتُ من خلقي، فيقولون: ربنا مَا عَبَدنَاكَ حقّ عِبَادَتِكَ.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا حمَّاد بنُ زيد، حدَّثنا أبو حنيفة، [عن حمَّاد]، عن إبراهيم، في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] قال: يجاء بعملِ الرجل فيوضعُ في كِفةِ ميزانه، ويُجاءُ بشَيْء مثل الغَمامةِ، أو مِثْلِ السحاب كَثرة فيوضَعُ في كِفَّةٍ أخرى في ميزانه، فيَرْجحُ، فيقال: أتدري ما هذا؟ فيقال: هذا العلمُ الذي تَعَلَّمْتَه، وعلَّمْتهُ النَّاسَ، فعلِموه، وعَمِلُوا به بَعْدَك.

وقال ابن أبي الدُّنْيَا: حدَّثنا أحمد بن محمَّد، حدَّثنا علي بن إسحاق، حدَّثنا ابن المبارك، عن أبي بَكْر الهُذلي، قال: قال سعيد بن جُبير، وهو يُحدّث ذاك عن ابن مسعود، قال: يُحاسبُ الناسُ يوم القيامة، فمن كانت حسناتُه أكثر من سَيئاتهِ بوَاحدةٍ دخلَ الجنَّة، ومن كانت سيئاتُه أكثر من حَسنَاتِه بواحدةٍ دَخَلَ النار، ثم قرأ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [المؤمنون: 102 - 103]، ثم قال: إن الميزانَ يَخفُّ بمثقالِ حَبَّةٍ من خردل أوْ يَرْجَحُ

(1)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا هارون بن سفْيَان، [حدَّثنا] السهميّ، حدَّثنا عبَّاد بن شَيْبَة

(2)

، عن سعيد بن أنس، عن الحسن قال: يعتذر اللَّه يوم القيامة إلى آدم ثلاثَ معاذيرَ، يقول: يا آدم، لولا أَنِّي لَعَنْتُ الكاذبينَ، وأُبغضُ الكذب والْخُلْفَ، لرحمتُ ذُرِّيتكَ اليومَ من شدَّةِ ما أعدَدْتُ لهم من

(1)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (411 - زوائد نعيم).

(2)

في جميع النسخ: عمار بن شيبة، وهو خطأ، والمثبت في الميزان (عباد بن شيبة).

ص: 286

العذاب، ولكنْ حَقّ القولُ مِنِّي لمن كَذَّب رُسُلي، وعَصَى أمري، لأمْلأنَّ جهنَّم منهم أجمعين، ويا آدم، اعلم أني لا أُعذّب بالنار أحدًا من ذُرِّيَّتك وأدخل النار أحدًا منهم إِلَّا من قد عَلِمْتُ في علمي أنه لو رددتُه إلى الدُّنيا لعادَ إلى شز مما كان عليه، ولم يرجع، ويا آدم، أنت اليومَ عَدْلٌ بَيْني وبين ذُرِّيَّتك، قم عند الميزان، فانظر ما يَرْجِعُ إليكَ من أعمالهم، فمن رَجَحَ خيرُه على شرِّه مِثْقَال ذرَّةٍ فله الْجنَّة، حتَّى تَعْلمَ أَنِّي لا أُعذِّب إلَّا كلّ ظالم

(1)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا محمد بن يوسف بن الصبَّاح، حدَّثنا عبد اللَّه بن وَهْب، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي أُمامة: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يومُ القيامة قامت ثُلَّة من الناس، يَسُدُّون الأفق، نورُهم كنور الشمس، فيقال: لمن هذه؟ فيقال: للنبي الأمي، فيتحسَّس لها أُمَّةُ كلِّ نبيّ، فيقال: هذا محمد وأُمَّته، ثم تقوم ثُلَّة أخرى تَسُدّ ما بين الأفق، نورهم كنور القمر ليلة البَدْر، فيقال: للنبيّ الأُمّي، فيتحسَّس لها كل نبيّ، فيقال: محمَّد وأُمَّته. ثم تقوم ثُلَّةٌ أخرى، نورهم مثلُ كُلِّ كوكب في السماء، فيقال: للنبيّ الأُمِّيّ، فيتحسَّس لها كلُّ نبيّ، فيقال: محمد وأُمَّته، ثم يَجيءُ الربُّ تعالى، فيقول: هذا لكَ منِّي يا محمد، وهذا لك منِّي يا محمد، ثم يوضعُ الميزانُ، ويُؤخذُ في الحساب"

(2)

.

‌فصل

وقد نقل الطبري عن بعضهم: أنَّ الميزان له كِفَّتان عَظِيمتانِ، لو وضعت السماواتُ والأرضُ في كلِّ واحدةٍ منهما لَوَسِعَتْها، فأمَّا كِفَّةُ الْحَسَناتِ فنور، وأَمَّا الأُخرى فظُلْمةٌ، وهو منصوب بَيْن يدي العَرْش، وعن يمينه الْجنَّةُ، وكِفَّةُ [النور] من ناحيتها، وعن يساره جَهَنَّمُ، وكِفَّةُ الظلمة من ناحيتها، قال: وقد أنكرت المُعْتزلةُ الميزانَ، وقالوا: الأعمال أعراض، لا جِرم لها، فكيف تُوزن؟ قال: وقد رُوي عن ابن عبَّاس: أنَّ اللَّه يَخْلُق الأعراض أجسامًا، فتوزنُ، قال: والصحيح أنّه توزنُ كُتُبُ الأعمال. قلت: فد تقدَّم ما يَدُلّ على الأوَّل، وعلى الثاني، وعلى أن العامل نفسه يُوزنُ مع عمله. قال القرطبيّ: وقد رُوي عن مجاهد، والضَّحَّاك، والأعمش: أنَّ الميزان هُنا بمعنى العَدْل، والقضاء، وذِكْرُ الوزن والميزان ضَرْب مثل كما يُقال: هذا الكلام في وزن هذا. قلت: لعلَّ هؤلاء إنّما فسروا هذا عند قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 7 - 9]، فهاهنا المراد بالميزان أنه تعالى وضع العدل بين عباده، وأمر عبادَه، أنْ يَتعاملُوا به فيما بينهم، فأما الميزانُ الموضوع يوم القيامة، فقد تواترت بذكره

(1)

وإسناده ضعيف.

(2)

وأخرجه الطَّبراني في الكبير (7780) من طريق ابن وهب.

ص: 287

الأحاديثُ كما رأيتَ، وهو ظاهر القرآن العظيم {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. . . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8 - 9]، وهذا إنما يكون لشيء محْسُوس.

قال القرطبيّ: فالميزانُ حَقّ، وليس هو في حق كلِّ أحدٍ، بدليل قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيقول اللَّه: يا محمد، أدْخِلْ منْ أُمَّتِك منْ لا حِسَابَ عليه من الباب الأيْمن، وهم شركاءُ الناس فيما سواه من الأبواب"

(1)

. قل: وقد تواترت الأخبارُ في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حساب، لكن يلزمُ من هذا ألّا تُوزن أعمالهم، وفي هذا نظر، واللَّه أعلم.

وقد توزن أعمال السعداء، وإن كانت رَاجحةً، لإظْهار شَرَفِهم وفضلهم على رؤوس الأشهاد، والتنويه بسعادتهم، ونجاتهم وإن كانوا لا حساب عليهم، وأما الكفَّار فتُوزنُ أعمالهم، وإن لم يكن لهم حَسناتٌ تنفعهم، يُقابل بها كفرُهم، فإن حسناتهم ولو بلغت ما بلغت لا تقابل كفرهم ولا توازنه، وهي غير نافعة لهم. فتوزن لإظهار شَقائهم، وفَضيحتهم على رؤوس الأشهاد.

وقد جاء في الحديث: "إنَّ اللَّه لا يظلمُ أحَدًا حَسَنَةً، أما الكافِر فيُطْعمُه بحسَناتِه في الدُّنيا حتى يُوافي اللَّهَ، وليس له حَسنةٌ يَجزيه بها"

(2)

.

وقد ذكر القرطبيّ في "التذكرة" أنّ الكافر قد يوافَى يوم القيامة بصدَقةٍ، وصِلة رحم، وعِتْقٍ، فيُخَفِّفُ اللَّه عنه بذلك من عذابه، واستشهد بقَضيةِ أبي طالب حين جعله اللَّه في ضَحْضاح من نارٍ يَغْلي منهُ دِمَاغُه

(3)

. وفي هذا نظر، إذ قد يكون هذا خاصًّا به، لأجل حياطةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونُصْرته له، أو لأجل شفاعة فيه، أن يجعل في ذلك المكان، وكما سُقي أبو لهب في النُّقرة التي هي في ظهر الإبهام، بسبَبِ عتاقته ثُوَيْبَةَ التي أرضعَتْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

، واستدلَّ القُرطبيّ على ذلك بعموم قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء]. قلت: وقُصارى هذه الآية العمومُ، فيُخصُّ من ذلك الكافرون؛ وقد سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عبد اللَّه بن جُدْعانَ، وذُكرَ له أنَّه كان يَقْري الضَّيْفَ، ويطعم الجائع، ويَصِلُ الرِّحِمَ، وَيُعْتِقُ، فهل نفعه ذلك؟ قال:"لا، إنَّه لم يَقُلْ يومًا من الدَّهر: لا إله إِلَّا اللَّه" [وفي

(1)

رواه البخاري رقم (4712) ومسلم (194).

(2)

رواه بمعناه مسلم رقم (2808).

(3)

رواه مسلم رقم (210).

(4)

هو في البخاري رقم (5101) مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به. قال الحافظ في "الفتح": وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به.

ص: 288

رواية: "لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"]

(1)

وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]، وقال تعالى عن أعمال الكفار:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39].

‌فصل

قال القُرْطبيّ وغيره: من ثَقُلَتْ حَسَناتُه على سَيِّئاته ولو بِصُؤابةٍ دخل الجنَّة، ومن كانت سيئاتُه أثْقَلَ ولو بصؤابة

(2)

دخل النار، إلَّا أنْ يَعْفُو اللَّه عنه، ومن استوت حسناتُه وسيئاته فهو من أهل الأعْرَافِ. وروي مثل هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه. قلت: يشهدُ له قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء] لكن ما الحكم في من ثَقُلت حسناتُه على سيِّئاته بحَسَنةٍ أو بحسناتٍ؟ هل يدخل الجنَّة، فيرتفع في درجَاتها بجميع حَسَناتِه، وتكون قد أحبطت السيئات التي وازنتها وقابلَتها؟ أو يرتفع بما بقي له من الحسنات الراجحة على السِّيئات، وتكون السيئاتُ قد أسقطت ما وازنها من الحسنات فأبطلتها، وكذا إذا رجحت سيئاته على حسناته بسيئة أو بسيئات، هل يُعذب في النار بجميع سيئاته، أو بما رجح على حسناته من سيئاته.

‌ذكر العرض على اللَّه عز وجل يوم القيامة، وتطاير الصحف ومحاسبة الربِّ عز وجل عباده

قال اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 47 - 49]. وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70). . .} إلى آخر السورة [الزمر: 69 - 75]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} [الأنعام: 94]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (214).

(2)

الصؤابة: بيضة القمل والبرغوث.

ص: 289

اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 28 - 30]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ

(1)

جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ. . .} إلى قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا .. . .} الآية [الأنعام: 128 - 130]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]، والآيات في هذا كثيرة جدًّا، وسيأتي في كلّ موطن ما يتعلَّق به من آيات القرآن.

وتقدَّم في "صحيح البخاري"، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّكم مُلاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، كما بَدَأْنا أوَّل خَلْقٍ نُعيده"

(2)

، وعن عائشة

(3)

وأُمّ سلمةَ

(4)

وغيرهما نحو ما تقدم

(5)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدَّثنا أبو نصر التمَّار، حدَّثنا عُقبةُ الأصَمُّ، عن الحسن، قال: سمعتُ أبا موسى الأشعريّ، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُعْرضُ الناسُ يوم القيامة ثَلاثَ عَرَضَاتٍ، فعَرْضَتانِ جِدالٌ ومَعاذيرُ، وعَرْضَةٌ تَطَايَرُ الصُّحُفُ، فمن أُوتي كتابَهُ بيمينه، وحُوسب حسابًا يسيرًا دخل الجنَّة، ومن أوتي كتابه بشِمَالِه دخَل النار"

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيعٌ، حدَّثنا علي بن علي بن رِفَاعةَ، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُعرض الناسُ يوم القيامة ثَلاثَ عَرَضَاتٍ، فأمَّا عَرْضَتانِ فجِدَالٌ ومعاذيرُ، وأَمَّا الثالثة فعندَها تَطيرُ الصُّحُف في الأيْدي، فآخِذٌ بيَمينهِ وآخذٌ بشِماله". وكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، عن وَكيعٌ، به

(7)

. والعجب أن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي غريب، عن وكيع، عن عليّ بن عليّ، عن الحسن، عن أبي هريرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. . .، فذكر مثله

(8)

. ثمَّ قال الترمذيّ: ولا يصحّ هذا من قِبَل أن الحسن لم يَسْمَعْ من أبي هريرة، قال: وقد رواه بعضُهم عن عليّ بن عليّ، عن الحسن، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قلت: الحسن قد روى له البخاري عن أبي هريرة مقرونًا بغيره.

(1)

هي بالنون قراءة ما سوى حفص عن عاصم، وروح عن يعقوب.

(2)

رواه البخاري رقم (6524) ومسلم (2860).

(3)

رواه البخاري (6527) ومسلم (2859).

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"119.

(5)

رواه البخاري (6527) ومسلم (2859).

(6)

وإسناده ضعيف.

(7)

رواه أحمد في المسند (4/ 414) وابن ماجه (4277) وإسناده ضعيف.

(8)

رواه الترمذي (2425) وإسناده ضعيف.

ص: 290

وقد وقع في "مسند الإمام أحمد" التصريحُ بسمَاعِه منه، فاللَّه أعلم

(1)

. وقد يكون الحديث عنده عن أبي موسى، وأبي هريرة، واللَّه أعلم.

وأما الحافظُ البَيْهقيّ، فرواه من طريق مَرْوانَ الأصفر، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه بن مسعود من قوله، مثله سواءً.

وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك: أنَّه أنشد في ذلك شعرًا:

وَطَارَتِ الصُّحْفُ في الأيْدِي مُنَشَّرَةً

فِيهَا السَّرَائرُ والجَبَّارُ مُطلعُ

فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ

عَمَّا قَلِيلٍ، وَلَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ

إِمَّا الْجِنَانُ وَفَوْزٌ لَا انْقِضَاءَ لَهُ

أَو الْجَحِيمُ فَلَا تُبْقِي وَلَا تَدَعُ

تَهْوِي بِسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُ

إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا

لِيَنْفَعِ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ

قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا

وقد قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} [الانشقاق: 6 - 15].

قال البخاريّ في "صحيحه": حدَّثنا إسحاق بن منصور، حدَّثنا رَوحُ بن عُبادةَ، حدَّثنا حاتم بن أبي صَغيرة، حدَّثنا عبد اللَّه بن أبي مُلَيْكةَ، حدّثني القاسمُ بن محمد، حدّثَتْني عائشةُ رضي الله عنها: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحدٌ يُحاسبُ يَوْمَ القِيَامةِ إلَّا هَلَكَ" فقلت: يا رسول اللَّه، ألَيْسَ قَدْ قال اللَّه تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 7 - 8] فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّما ذلك العرض، وليس أحَدٌ يُنافَشُ الْحِسابَ يَومَ القِيامَةِ إلَّا عُذِّب"

(2)

. أشار إلى أن اللَّه تعالى لو ناقش في حسابه لهم لعذّبهم كلهم وهو غيرُ ظالم لهم، ولكنَّه تعالى يعفو، ويصفح، ويغفِر، ويستر في الدُّنيا والآخرة، كما في حديث ابن عمر في النجوى:"يُدْني اللَّهُ العَبْدَ يوم القيامة حتّى يَضَع عليه كَنفهُ، ثُمَّ يُقرِّره بذُنُوبِهِ، حتى إذا ظَنَ أنه قد هلَك، قال اللَّه تعالى: إنِّي قد سَتَرْتُها عَلَيْك في الدُّنيا، وأنا أغْفِرُها لك اليوم"

(3)

.

(1)

رواه أحمد (2/ 362) رقم (8742) وإسنادها ضعيف.

(2)

رواه البخاري رقم (6537).

(3)

رواه البخاري رقم (2441) ومسلم (2768).

ص: 291

‌فصل

قال اللَّه تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. . .} الآيات [الواقعة: 6 - 12]. فإذا نُصِب كرسيُّ فَصْل القضاء، انْمازَ الكافرُون عن المُؤْمنين في المَوْقفِ إلى ناحية الشِّمال، وبقي المؤمنون عن يمين العرش، ومنهم من يكون بين يديه. قال اللَّه تعالى:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} [يس: 59]. وقال تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ. . .} الآية [يونس: 28]. وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] فالخلق كلهم قيامٌ لرَبِّ العالمين بين يديه، والعَرَقُ قد غَمَر أكثرهم، وبلغ الجهد منهم كلَّ مَبْلَغ، والناسُ فيه بحَسب الأعمال كما تقدّم في الأحاديث، خاضعينَ صامتين، لا يتكلّم أحدٌ إِلَّا بإذنه تعالى، ولا يتكلَّم يومئذِ إلَّا الأنبياءُ والرُّسل، حولهم أُمَمهُم، وكِتابُ الأعمال قد اشتمل على عمل الأَوَّلين، والآخرين، موضوعٌ لا يغادر صغيرةً، ولا كبيرةً إلَّا أحصاها، مما كان يعمل الخلق، وأحصاه اللَّه ونَسُوه، وكتبتْه عليهم الحَفظةُ كما قال اللَّه تعالى:{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 13 - 15]. وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14].

قال الحسن البصريّ: لقد أنصفك يا ابن آدم من جعلك حسيب نفسك، والميزانُ منصوب لوزْن أعمال الخير والشرّ، والصراط قد مُدَّ على متن جهنم، والملائكة مُحْدقونَ ببني آدم وبالجنِّ، وقد بُرِّزَت الجحيمُ، وأزلفت دارُ النعيم، وتجلى الربُّ تعالى لفصل القضاء [بين عباده]، وأشرقت الأرضُ بنُور رَبِّها، وقرئت الصحف، وشَهِدَت على بني آدم الملائكةُ بما فعلوا، والأرضُ بما عملوا على ظهرها، فمن اعترف منهم، وإلا خُتِمَ على فِيهِ، ونَطَقَتْ جوارِحُه بما عَمِل بها في أوقات عمله، من لَيْلٍ أو نَهار، وقال اللَّه تعالى عن الأرض:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 19 - 23]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 24 - 25]. وقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} [يس: 65 - 67]. وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ

ص: 292

الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 111 - 112]. أي لا ينقص من حسناته شيء، وهو الهَضْمُ، ولا يُحمل عليه من سيِّئات غيره، وهو الظُّلم.

‌فصل

فأول ما يقضي اللَّه تعالى بينهم من المخلوقات الحيواناتُ، قبل الْجِنّ، والإنس، وهما الثَّقَلانِ، فالإنس ثَقَل، والجن ثقل. والدليل على حَشْر بقيّة الحيوانات يوم القيامة قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38] وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5].

وقال عبدُ اللَّه بن أحمد: حدَّثنا عباسُ بن محمد، وأبو يحيى البزاز، قالا: حدَّثنا حجَّاجُ بن نُصير، حدَّثنا شُعبَةُ، عن العوَّام بن مراجم

(1)

، من بني قيس بن ثَعْلبةَ، عن أبي عُثْمانَ النَّهْديّ، عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الْجَمَّاءَ لَتُقَصُّ من القَرْنَاءَ يَوْم القِيَامَةِ"

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا ابنُ أبي عدِيّ، ومحمد بن جعفر، عن شُعبَةَ: سمعتُ العَلاء يُحَدِّثُ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَتُؤدَنَّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقَصَّ للشاة الْجَمَّاءِ من الشاةِ القَرْناءِ تنطِحُها". وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجوه

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا حمَّاد، عن واصل، عن يحيى بن عُقَيل، عن أبي هريرة: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْتصُّ للْخَلْقِ بعضِهم من بعْضٍ، حتى للْجَمَّاءَ من القرْناء، وحتّى للذرَّةِ من الذرَّة". تفرد به أحمد

(4)

.

وقال عبد اللَّه بن أحمد: وجدتُ هذَا الحديث في كتاب أبي بخَطّ يده: حدَّثنا عُبيد اللَّه

(5)

بن محمد، حدَّثنا حمّاد بن سَلَمة، حدَّثنا لَيْثٌ، عن عبد الرحمن بن ثَرْوانَ، عن الهُزَيْل بن شُرَحْبيل، عن أبي ذرّ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان جالسًا وشاتان تعْتلِفان فنطَحتْ إحداهما الأخرى، فأجْهَضتْها، قال: فضحِك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما يُضحِكُكَ يا رسول اللَّه؟ قال: "عَجِبْتُ لها، والذي نفسي بيده لَيُقَادَنَّ لها يوم القيامة"

(6)

.

(1)

في الأصول: مزاحم.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 72) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد يقوى بها.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 235) وأخرجه مسلم من طريق أخرى عن العلاء به رقم (2552).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 363) وإسناده حسن.

(5)

في النسخ: عبد اللَّه.

(6)

رواه عبد اللَّه عن أحمد في المسند (5/ 172 - 173) وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، ولكن لبعضه شواهد يقوى بها.

ص: 293

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شُعْبَةُ، عن سُلَيْمان، هو الأعمش، عن مُنْذرٍ الثَّوْريّ، عن أشياخٍ لهم، عن أبي ذَرٍّ: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (ح). وأبو معاويةَ، حدَّثنا الأعمش، عن منذر بن يعلى، عن أشياخه، عن أبي ذرٍّ، فذكر معناه: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تَنْتَطِحَانِ، فقال:"يا أبا ذرّ، هل تدري فيم تَنْتَطحان؟ " قال: لا، قال:"لكنَّ اللَّهَ يَدْري، وسيقضي بَيْنَهُما" وهذا إسناد جيد حسن

(1)

قال القرطبيّ: رواه شُعْبةُ، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن أبي ذرّ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بمثله.

قال القرطبيُّ: وروى لَيْثُ بن أبي سُلَيْم، عن عبد الرحمن بن ثَرْوان، عن الهُزيْل، عن أبي ذَرٍّ: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بشاتَيْن تَنْتطِحان، فقال:"لَيَقْتصنَ اللَّهُ يوم القيامة لهذه الْجَلْحاء من هذه القَرْناء"

(2)

قال: وذكر ابنُ وَهْبٍ عن ابن لَهِيعَةَ، وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سَوادة: أن أبا سالم الْجَيْشانيّ حدّثه أنَّ ثابت بن طَرِيف استأذن على أبي ذَرّ فسمعه رافعًا صوتَه، فقال: أما واللَّه لولا يوم الخصومة لَسوَّأتكِ. فدخلتُ، فقلت: ما شأنُك يا أبا ذَرّ؟ فقال: هذه، قلت: وما عليك ألَّا تَضْربها؟ فقال: أما والذي نفسي بيده -أو قال: والذي نفس محمَّدٍ بيَدِهٍ-: لَتُسْألَنَّ الشاةُ فيمَ نطحَتْ صاحبتها، وليُسْألَنَّ الْجمادُ فيمَ نَكَبَ إصْبع الرَّجُل.

وقال أحمد: حدَّثنا حسن، حدَّثنا ابن لَهيعةَ، حدَّثنا دَرَّاج، عن أبي الهَيْثم، عن أبي سعيد: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، إنّه لَيَخْتَصمُ الخلق يوم القيامة حتَّى الشَّاتانِ فيما انْتَطَحتا"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل بن عُلَيَّةَ، حدَّثنا أبو حيَّان، عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا، فذكر الغُلُولَ، فعَظَّمَه، وعَظَّمَ أمره، ثمّ قال: "لا أُلفِيَنَ أحَدَكُمْ يَجيءُ يَوْمَ القِيَامةِ على رَقَبَته بَعيرٌ له رُغاءٌ، فيقول: يا رسول اللَّه أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبْلَغْتُكَ. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاءٌ، فيقول: يا رِسول اللَّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك. لا ألفِيَنَّ أحدكم يجيءُ يومِ القيامة على رَقَبته فرسٌ لها حَمْحَمةٌ، فيقول: يا رسول اللَّه أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبْلغتكَ. لا أُلفينَ أحدكم يجيء يوم القيامة على رَقَبتهِ نَفْسٌ لَها صِياحٌ فيقول: يا رسول اللَّه، أغِثْني، فأقول:

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 162) أقول: وفي إسناده جهالة الأشياخ، لكن له شواهد يقوى بها.

(2)

وإسناده ضعيف، ولبعضه شواهد.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 29) وإسناده ضعيف، وله شواهد.

ص: 294

لا أملك لك شيئًا، قد أبلَغْتُك. [لا أُلْفين أحدكم يَجيءُ يَوْم القيامة على رَقبته رفاع تخفِق، فيقول: يا رسول اللَّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك]. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صَامتٌ

(1)

، فيقول: يا رسول اللَّه، أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا فد أبْلَغتكَ". وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث أبي حيَّان، واسمه يحيى بن سعيد بن حيَّان التَّيْميّ، به

(2)

.

وتقدَّم في حديث أبي هريرة: "ما مِنْ صاحب إبل لا يُؤدّي زَكاتَها إِلَّا بُطِحَ لها يوم القيامة بِقاعٍ قَرْقَرٍ، فَتَطَؤُهُ بأخْفافِهَا، كلَّما مرَّت عليه أُخْراها رُدَّتْ عليه أُولاها. . . " وذكَرَ تمام الحديث في البقر، والغنم

(3)

. فهذه الأحاديثُ مع الآيات فيها دلالة على حَشْر الْحَيواناتِ كُلّها.

وتقدَّم في حديث الصُّور: [فيقضي اللَّه تعالى بين خلقه إلّا الثَّقَلَيْن، الإنسِ، والجِنّ] فيقضي بين البهائم والوحوش، حتَّى إنَّه ليُقيدُ الْجَمَّاءَ من ذات القرن، حتَّى إذا فرغ اللِّه من ذلك، فلم يبق لواحدة تَبعَةٌ عند أخرى، قال لها اللَّه: كوني تُرابًا، فعند ذلك يقول {الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ].

وقد قال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا هارون بن عبد اللَّه، أنبأنا سيَّار، أنبأنا جعفر بنُ سليمان: سمعت أبا عِمْرَانَ الْجَوْني يقول: حُدِّثْتُ أن البهائمَ إذا رأت بني آدم يوم القيامة وقد تَصَدّعُوا من بينِ يدي اللَّه عز وجل، صِنْفًا إلى الجنَّةِ، وصِنْفًا إلى النار؛ أنَّ البهائم تُناديهم: الْحَمْدُ للَّه يا بني آدم، الذي لم يَجْعلنا اليوم مِثْلَكُمْ، فلا جَنَّةَ نرجُو، ولا عِقابَ نخافُ

(4)

.

وذكر القرطبيّ عن أبي القاسم القُشَيْريّ في "شرح الأسماء الْحُسْنى" عند قوله: المُقْسطُ الجامِعُ، قال: وفي خبر: أن الوحوش، والبهائم، تُحْشرُ يوم القيامة فتَسْجُد للَّه سجدة فتقول الملائكة: ليس هذا يوم سجود، هذا يوم الثواب والعقاب، فتقول البهائم: هذا سجود شكر للَّه، حيث لم يجعلنا اللَّهُ من بني آدم، قال: ويقال: إنَّ الملائكةَ تقول للبهائم: إنّ اللَّه لم يحشركم لثوابٍ ولا لعقابٍ، وإنّما حشركم لتَشْهَدُوا فضَاِئحَ بني آدم.

وحكى القرطبي أنَّ البهائم إذا حُوسِبَتْ وحُشِرْت تعود ثُرابًا، ثم يَحْثي بها اللَّه في وجوه فَجَرَةِ بني آدم، قال: وذلك قوله {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40].

واللَّه سبحانه أعلم، وفيما ذكره نظر.

(1)

هو الذهب والفضة.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 426) والبخاري رقم (3073) ومسلم (1831).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 262) ومسلم (687).

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في الأهوال (227).

ص: 295

‌فصل

قال في حديث الصور: ثم يَقْضي اللَّهُ بين العباد، فيكون أوَّلَ ما يقضي فيه الدماءُ. وهذا هو الواقع يوم القيامة، وهو أنه بعد أن يَفرُغ اللَّه سبحانه من الفصل بين البهائم، يَشْرَعُ في القضاء بين العباد، كما قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} [يونس: 47] ويكون أولَ الأمم يُقْضى بينهم هذه الأفة، لشرف نَبيّها صلى الله عليه وسلم وفضلها، كما أنهم أولُ من يجوز على الصِّراط، وأول من يدخلُ الجنّة، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عبد الرزّاق، عن مَعْمر، عن هَمَّامٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نحنُ الآخرُونَ السَّابقُونَ يوم القيامة"

(1)

، وفي رواية:"المقْضيُّ لهم قبلَ الخلائق"

(2)

.

وقال ابن ماجه: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدْثنا أبو سَلَمة، حدَّثنا حماد بن سَلَمة

(3)

، عن سعيد بن إياس الْجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن ابن عبَّاس: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ آخرُ الأمم، وأوَّلُ منْ يُحاسَب، يقال: أين الأُمَّة الأُمِّيةُ ونَبيُّها؟ فنحن الآخِرُون الأولون"

(4)

.

‌ذكر أول ما يُقضى بين الناس فيه يوم القيامة ومن يناقَش في الحساب، ومن يُسامَح فيه

قد تقدَّم في الحديث: "لَتُؤدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقْتصَّ للشاةِ الْجَمَّاءَ من الشاة القَرْناءِ"

(5)

. وفي حديث [يحيى بن عقيل، عن] أبي هريرة: "وحتَّى للذَّرَّةِ من الذَّرَّةِ"

(6)

والمراد بالذرَّة هنا النملةُ، واللَّه أعلم.

وإذا كان هذا حكم الحيوانات التي ليست مُكلَّفةً، فَلتَخليصُ الْحُقوقِ من الآدميّين والجانّ بعضِهم من بعضٍ يوم القيامة أولى وأحْرى، وقد ثبت في "الصحيحين"، و"مُسند أحمد"، و"سنن

(1)

رواه البخاري رقم (6624) ومسلم (855).

(2)

رواه مسلم رقم (856) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة.

(3)

في الأصول: عمار بن سلمة، والتصحيح من ابن ماجه.

(4)

رواه ابن ماجه رقم (4290) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 235) ومسلم رقم (2552).

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 363) وإسناده حسن.

ص: 296

التِّرْمذيّ"، و"النَّسائيّ"، "وابن ماجه"، من حديث سليمان بن مِهْرانَ الأعْمَش، عن أبي وائل، شَقيقِ بن سَلَمةَ، عن عبد اللَّه بن مسعود: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ ما يُقْضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدِّماء"

(1)

.

وقد تقدَّم في حديث الصُّور؛ أنَّ المقتول يأتي يوم القيامة تَشْخُبُ أوْدَاجُه دَمًا -وفي بعض الأحاديث: ورأسهُ في يَدِه

(2)

- فيتعلّق بالقاتل، حتّى ولو كان قَتَلهُ في سبيل اللَّه، فيقول: يا رَبّ، سَلْ هذا فِيمَ قَتلني؟ فيقول اللَّه تعالى: لم قتلته؟ فيقول: يا ربِّ قتلته لتكونَ العِزَّةُ لك، فيقول اللَّه تعالى: صدقت، ويقول المقتول ظُلْمًا: يا رب سَلْ هذا: فبمَ قتلني؟ فيقول اللَّه: فيم قتلته؟ فيقول: لِتكونَ العِزَّةُ لي -وفي رواية: [لتكون العزة] لفلانٍ

(3)

- فيقول اللَّه تعالى: تَعِسْتَ، ثم يَقْتَصُّ مِنه لِكُلّ منْ قتله ظُلْمًا، ثمّ يَبْقَى في مشيئة اللَّه تعالى، إن شاء عذّبه، وإن شاء رحمه. وهذا دليل على أن القاتل لا يَتَعين عَذابهُ في نار جَهنّم، [فضلًا عن خلوده فيها أبدًا] كما يُنْقَلُ عن ابن عباس، وغيرِه من السلف، حتّى نَقلَ بعضهم عنه: أنَّ القاتل لا تَوْبةَ له

(4)

، وهذا إذا حُمل على أن القتل من حقوق الآدَميّين، -وهي لا تَسْقُط بالتوبة- صحيح، وإن حُمل على أنّه لا بدّ من عِقابِه، فليس بلازمٍ، بدليل حديث الذي قتل تِسعةً وتسعِين، ثم أكمل المئةَ، ثم سأل عالِمًا منْ بني إسرائيل: هل له من توبة؟ فقال: ومنْ يَحُول بَيْنَك وبين التوبة، ائتِ بَلَد كذا وكذا، فإنه يُعْبدُ اللَّهُ بها، فاعبد اللَّه معهم، فلمَّا توجّه نحوها، وتوسّطَ بَيْنها وبين التي خرج منها أدركه الموت، فنأى بصَدْرِه نحو التي هاجر إليها، فتَوفَّتْهُ ملائكة الرحمة. . . الحديث بطوله

(5)

. وفي سورة الفرقان نصّ على قبول تَوْبةِ القاتل، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ. . . .} الآية والتي بعدها [الفرقان: 68 - 70]. وموضع تقرير هذا في كتاب "الأحكام"، وباللَّه المستعان.

وقال الأعمش: عن شَمِر بن عَطيّة، عن شَهْر بن حَوْشَبٍ، [عن أم الدرداء]، عن أبي الدّرداء، قال: يَجيءُ المَقتولُ يوم القيامة، فيجلسُ على الجادةِ، فإذا مَرَّ به القاتلُ قام إليه،

(1)

رواه البخاري (6533) ومسلم (1678) وأحمد (1/ 388) والترمذي (1396) والنسائي (7/ 83) وابن ماجه (2615).

(2)

رواه الترمذي (3029) من حديث ابن عباس، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه النسائي (7/ 84) من حديث ابن مسعود، وهو حديث صحيح.

(4)

رواه مسلم (3023)(19)، وهذا محمول على التغليظ والتحذير من القتل.

(5)

رواه البخاري (3470) ومسلم (2766).

ص: 297

فأخذ بتَلابيبه فقال: يا ربّ، سلْ هذا: فيم قتلني؟ فيقول: أمرني فلان، فيؤخذ الآمِرُ، والقاتل، فيُلْقيانِ في النار

(1)

.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لخراب السماوات والأرض -" وفي رواية: "لزوال الدنيا- أهون على اللَّه من قتل مؤمن"

(2)

.

وقال في حديث الصور: ثم يقضي اللَّهُ بين خلقه، [حتى لا يبْقى مَظْلِمةٌ لأحدٍ عند أحدٍ إِلَّا أخذها منه]، حتَّى إنَّه ليُكَلِّفُ شَائب اللَّبَنِ بالماء ثُمَّ يَبيعُه، أنْ يُخَلِّصَ اللبنَ من الماء، وقد قال اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].

وفي "الصحيحين" عن سعيد بن زيد، وغيره، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من ظلم قِيدَ شِبْر من أرض طُوِّقَه منْ سَبْعِ أرضين يوم القيامة"

(3)

.

وفي "الصحيحين": مَنْ صَوَّرَ صُورةً [في الدنيا] كُلِّفَ يوم القيامة أنْ يَنْفُخَ فيها الرُّوح، وليس بنافِخٍ

(4)

، وفي روايةٍ: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون، ويُقالُ لهم: أحْيُوا ما خلَقْتُمْ

(5)

.

وفي الصحيح: "منْ تحَلّم بحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ يومَ القيامة أن يَعْقِدَ بَيْنَ شَعيرَتَيْنِ، وليس بفاعل"

(6)

. وتقدَّم حديثُ أبي زُرْعةَ عن أبي هريرة في أمر الغُلول، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا أُلْفينَّ أحدَكم يجيءُ يوم القيامة، وعلى رقبته بعيرٌ له رُغاء، أو بقرةٌ لها خُوارٌ، أو شاةٌ تَيْعرُ، أو فرس له حَمْحمةٌ، فيقول: يا محمد، أغثني، فاقول: لا أملكُ لك شيئًا، قد أبْلَغْتُك". وهو في "الصحيحين" بطوله

(7)

.

وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدَّثنا محمد بن بَكَّار البَصْريّ، حدَّثنا أبو مِحْصن، حُصَيْن بن نُمَيْر، عن حُسَيْن بن قَيْس، عن عطاءٍ، عن ابن عمر، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّه لا تزولُ قدما ابنِ آدمَ يوم القيامة حتى يُسْألَ عن خَمْس: عن عُمْرِكَ فيما أفْنَيْتَ؟ وعن شَبابِك

(1)

رواه البيهقيّ في "شعب الإيمان"(5329) وفي سنده شهر بن حوشب وهو ضعيف يعتبر به.

(2)

روى الرواية الثانية "لزوال الدنيا. . " الترمذي (1395) والنسائي (7/ 82) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

رواه البخاري (2452) ومسلم (1610).

(4)

رواه البخاري (5963) ومسلم (2110).

(5)

رواه البخاري (5181) ومسلم (2107)(96) من حديث عائشة، والبخاري (7558) ومسلم (2108) من حديث ابن عمر.

(6)

رواه البخاري (7042).

(7)

رواه البخاري رقم (3073) ومسلم (1831).

ص: 298

فيما أبْلَيْتَ؟ وعن مالك من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ وما عملتَ فيما علمت؟ "

(1)

.

وروى البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن المُبارك، عن شريك بن عبد اللَّه، عن هلال، عن عبد اللَّه بن عُكَيم، قال: كان عبد اللَّه بن مسعود إذا حدّث بهذا الحديث قال: ما منكم من أحدٍ إلَّا سيخلو اللَّه به، كما يَخْلُو أحدُكم بالقمر ليلةَ البَدْر، فيقول الربُّ تعالى: يا عبدي ما غَرَّكَ بي؟ يا عبدي ماذا عمِلْتَ فيما علمت؟ ماذا أجَبْتَ المُرْسلين؟

هكذا أورده البيهقيّ بعد الحديث الذي رواه من طريق مُحلِّ بن خَلِيفةَ، عن عديّ بن حاتم، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "وَلَيقفَنَّ أحدُكم بين يدَي اللَّه تعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبُ، ولا تَرْجمانٌ يُتَرْجِمُ له، فيقول: ألم أُوتِكَ مالًا؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُرسل إليك رسولًا؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا النار، وينظُر عن شِماله فلا يرى إِلَّا النار، فليتّقِ أحدُكم النَّارَ ولو بشق تَمرةٍ. فإنْ لم يجد فبِكلمةٍ طيِّبَةٍ". وقد رواه البخاريّ في "صحيحه"

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا بَهْزٌ، وعفّان، قالا: حدَّثنا هَمَّامٌ، عن قَتادةَ، عن صفْوانَ بن مُحْرِز، قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر، فجاء رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعثُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه يُدْني المُؤْمنَ، فيَضَعُ عليه كنَفه، ويَسْتُرهُ من الناس، ويُقَرِّرُه بذُنُوبه، فيقول له: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتّى إذا قررّه بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإنِّي سَتَرْتُها عليكَ في الدُّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعْطَى كتاب حَسَناتِه بِيَمينهِ. وأَمَّا الكفّار، والمُنافقون، فيقول الأشهادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]. وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث قَتَادَةَ

(3)

.

وقال أحمد: حدَّثنا بَهْزٌ وعَفَّان، حدَّثنا حمَّاد، حدَّثنا إسحاق بن عبد اللَّه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقول اللَّه يوم القيامة: يا ابن آدمَ حَمَلْتُكَ على الْخَيْل، والإبل، وزوّجْتُك النساء، وجعلتُك تَرْبَعُ وَتَرْأس فأين شكرُ ذلك؟ "

(4)

.

وروى مسلم من حديث سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث

(1)

رواه أبو يعلى في "مسنده" رقم (5275) وأخرجه الترمذي رقم (2418) من حديث ابن مسعود، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

ورواه البيهقيّ في "الأسماء والصفات" رقم (470) وهو في البخاري بغير هذا الإسناد رقم (1413) من حديث عدي بن حاتم.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 74) والبخاري (2441) ومسلم (2768).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 492) وهو حديث صحيح.

ص: 299

طويل قال فيه: "فيَلْقَى اللَّهُ العبدَ فيقول: أيْ فُلُ

(1)

ألم أُكرمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ، والإبل، وأذَرْكَ تَرْأَسُ وَترْبَع؟ فيقول: بلى، أيْ رَبّ، فيقول: أَفَظَنَنْتَ أنَك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساكَ، كما نسيتني، ثم يَلْقَى الثانيَ، فيقول: أيْ فُلُ ألَمْ أُكْرمْكَ، وأُزَوَّجْكَ، وأسَوِّدْكَ، وأسَخَرْ لكَ الْخَيْلَ، والإبلَ، وأذَرْكَ تَرْأس وَتَرْبع؟ فيقول: بلى، أيْ رَبّ، فيقول: أفظننتَ أنّك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنْساكَ، كما نَسِيتنيَ، ثم يَلْقَى الثالثَ، فيقول له مثلَ ذلك، فيقول:[يا ربّ] آمنتُ بكَ، وبِكتابِك، وبرسولك، وصلَّيْتُ، وصُمْتُ، وَتَصدَّقْتُ، ويُثْنِي بخيْرٍ ما استطاع، فيقول: فهاهُنا إذًا" قال: "ثُمَّ يُقال: الآن نَبْعثُ عليك شاهدًا، فيذكر في نفسه: من الذي يشهد عليّ؟ فيُخْتمُ على فيهِ، ويقال لِفَخذِه ولَحْمهِ وعِظامه: انطقي، فتنطِق فَخِذُه، ولحمه، وعظامه، بعَمَلِه كائنأ ما كان، ذلك لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِه، وذلك المُنافِقُ، وذلك [الذي] يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ. ثم ينادي منادٍ: تتبع كُلُّ أمَّة ما كانتْ تَعْبُدُ"

(2)

وسيأتي الحديث بطوله.

وقد روى البزَّار عن عبد اللَّه بن محمد الزّهريّ، عن مالك بن سُعَيْرِ بن الخِمْس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عنِ أبي هريرة، وأبي سعيد، رفعاه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . .، فذكرا مثله إلى قوله:"فاليومَ أنساكَ كما نسيتني".

وروى مسلم، والبيهقيّ واللفظ له، من حديث سُفْيان الثوريّ، عن عُبَيْدٍ المُكْتِب، عن فُضَيْل بن عمرو، عن عامر الشعبيّ، عن أنس بن مالك، قال: كُنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فضَحِكَ، وقال:"هل تدرون مِمَّ أضْحَك؟ " قال: قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"من مُخَاطبَة العبد ربه" -يعني يوم القيامة- "يقول: يا ربّ، ألم تُجِرْني من الظلم، قال: يقول: بلى" قال: "فيقول: فإني لا أُجيزُ على نَفْسي إلَّا شاهدًا منِّي" قال: "فيقول: كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عليك حَسيبًا، وبالكِرامِ الكاتبين شُهودًا" قال: "فيُختمُ على فِيه، ويُقال لأرْكانِه: انطقي" قال: "فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينَه وبين الكلام" قال: "فيقول: بُعْدًا لَكُنَّ، وسُحْقًا، فعَنْكُنَّ كُنْتُ أُناضِلُ"

(3)

.

وقال أبو يَعْلى: حدَّثنا زُهير، حدَّثنا الحسن، حدَّثنا ابن لَهيعَة، عن دَرَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يومُ القيامة عُرِّف الكافرُ بعَملِه، فجَحَد، وخاصم، فيقال: هَؤلاء جِيرانُك يَشْهَدُون عَليك، فيقول: كَذَبُوا، فيقول: أهْلُكَ وعشيرتُكَ، فيقول: كَذَبُوا، فيقول: احلِفُوا، فيحلفون، ثم يُصْمِتهُم اللَّهُ وتَشْهَدُ ألسِنتُهم، ويُدخلهم النَّارَ"

(4)

.

(1)

أي فلان.

(2)

رواه مسلم رقم (2968).

(3)

رواه مسلم رقم (2969) ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات"(467).

(4)

رواه أبو يعلى في مسنده رقم (1392) وإسناده ضعيف.

ص: 300

وروى أحمد، والبيهقيّ، من حديث يَزيدَ بن هارون، عن الجُريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "تَجيئونَ يوم القيامة على أفواهكم الفِدَامُ

(1)

فأَوَّل ما يَتكلّم من ابن آدم فَخِذُه، وكفُّه"

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا أحمد بن الوليد بن أبَان، حدَّثنا محمَّد بن الحسن المخزوميّ، حدَّثنا عبد اللَّه بن عبد العزيز اللّيْثيّ، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثيِّ، عن أبي أيّوب، رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّل ما يَخْتِصمُ يوم القيامةِ الرجلُ وامرأته، واللَّهِ ما يَتَكلَّمُ لسانُها، ولكن يَدَاهَا، وَرِجْلاها، يَشْهَدانِ عليها بما كانت تُغيِّبُ لِزَوْجها، وتشهد يداه ورجلاه بما كان يُوليها، ثم يُدْعى بالرجل وخَدَمِهِ مثلَ ذلك، ثم يُدعى بأهل الأسواق، فما يُؤخذُ منهم دَوانيقُ، ولا قَراريطُ، ولكن حَسَناتُ هذا تُدْفع إلى هذا الذي ظُلِمَ، وتُدْفعُ سَيِّئاتُ هذا إلى الذي ظَلَمهُ، ثم يُؤْتى بالجبَّارين في مَقَامِعَ من حديد، فيقال: سوقوهم إلى النار، فواللَّه ما أدري أيدخلونها، أم كما قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم] "

(3)

.

ثم قال البَيْهقيّ: حدَّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدَّثنا محمد بن صالح، والحسن بن يعقوب، حدَّثنا السَّريّ بنُ خُزَيمة، حدَّثنا عبد اللَّه بن يَزيد المُقْرئ، حدَّثنا سعيد بن أبي أيّوب، حدَّثنا يحيى بن أبي سُلَيْمان، عن سعيد المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة] قال: "أتدرون ما أخبارُها؟ " قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلم، قال:"فإنَّ أخبارَها أنْ تَشهَدَ على كُل عبد وأمة بكل ما عمل على ظهرها، أن تقول: عَمِل كذا وكذا، في يوم كَذا وكَذا، فذلك أخبارُها". وقد رواه الترمذي والنسائى، من حديث عبد اللَّه بن المُبارك، عن سعيد بن أبي أيّوب، به، وقال الترمذيّ: حسن غريب صحيح

(4)

.

وروى البَيْهقيُّ من حديث الحسن البصريّ، حدَّثنا صعصعة عمّ الفرزدق، أنّه قال: قدمتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسمعتُه يقرأ هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة] فقال: واللَّه لا أبالي ألّا أسمع غيرَها، حَسْبي حَسْبي

(5)

.

(1)

الفدام: ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذي فيه، أي أنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم، شبه ذلك بالفدام "النهاية"(3/ 421).

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 3) وإسناده حسن.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(239) وفي إسناده عبد اللَّه بن عبد العزيز الليثي وهو ضعيف.

(4)

أخرجه الحاكم (2/ 532) والترمذي رقم (2429) و (3353) والنسائي في "الكبرى"(11693) وفي إسناده ضعف.

(5)

وأخرجه أحمد في المسند (5/ 59) والنسائي في "الكبرى"(11694) من طريق الحسن، وهو حديث صحيح.

ص: 301

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدَّثنا الحسن بن عيسى، حدَّثنا عبدُ اللَّه بن المُبارك، حدَّثنا حَيْوةُ بن شُرَيْح، حدَّثنا الوليد بن أبي الوليد، أبو عثمان المَدينيّ: أنَّ عقبةَ بن مُسلم حدّثه: أنَّ شُفَيًّا

(1)

حدّثه: أنّه دخل المدينة، فإذَا هو بِرَجُل قد اجتمع عليه الناس. فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوتُ منه، حتى قَعَدْتُ بين يَديْه، وهو يُحدّث الناس، فلما سكت وَخَلا قلت له: أنْشُدُكَ بحَقِّ وحَقِّ لما حَدَّثْثَني حديثًا سَمِعْتَهُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدِّثنك حديثًا حدثنيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وعَلِمْتُهُ، ثم نَشَغَ

(2)

أبو هريرة نَشْغةَ، فمكث طويلًا، ثم أفاق، ثم قال: لأحَدِّثَنَّكَ حديثًا حَدَّثَنيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا البَيْت، ما مَعَنا أحدٌ غيري، وغيرُه، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغةً أخرى، فمكث طويلًا كذلك، ثم أفاق، ثم مسح وجهه، ثم قال: أفعلُ، لأُحَدِّثَنَّكَ حَديثًا حَدَّثَنِيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيرُه، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغةً شَديدةً، ثم مال خارًّا على وجهه، وأسندته طويلًا، ثم أفاق، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّ اللَّه تعالى إذا كانَ يَوْمُ القيامة نَزَل إلى العباد لِيقْضيَ بينهم، وكل أُمَّةٍ جَاثيةٌ، فأوَّل من يُدْعَى رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتِلَ في سبيل اللَّه، ورجلٌ كثيرُ المال، فيقول اللَّه تعالى للقارئ: ألَمْ أُعَلِّمْك ما أَنْزَلْتُ على رسولي؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملتَ فيما عَلِمتَ؟ قال: كنتُ أقوم به آناء الليل، وآناء النهار، فيقول اللَّه له: كذبْتَ، وتقول الملائكةُ: كذَبْتَ، ويقول اللَّه تعالى: إنّما أردْتَ أنْ يُقَالَ: فلانٌ قارئ، فقد قيل ذلك، ويُؤتى بصاحب المال، فيقول اللَّه تعالى له: ألم أوَسِّعْ عَلَيكَ حتَّى لم أدَعْكَ تَحتاجُ إلى أحدٍ، قال: بلى، يا رَبِّ، قال: فماذا عملت فيما آتَيْتُكَ؟ قال: كنتُ أصلُ الرَّحِم، وأتَصَدَّق، فيقول اللَّه له: كذَبْتَ، وتقول الملائكة: كذبتَ، ويقول اللَّهُ تعالى له: بل أردتَ أن يقال: فلان جَوادٌ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قُتِلَ في سبيل اللَّه، فيقال له: فيما قُتِلْتَ؟ فيقول: يا رب أَمرتَ بالجهاد في سبيلك، فقاتلتُ حتى قُتِلت، فيقول اللَّه له: كذبت، وتقول الملائكة: كذَبْتَ، ويقول اللَّه تعالى: بَلْ أردت أن يُقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك" قال أبو هريرة: ثم ضربَ رسول اللَّه على منكبي فقال: "يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أوَّلُ خَلق اللَّه تُسعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامة". قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عُقْبةُ أن شُفَيًّا وكان سيَّافًا لمُعاويةَ دخل على معاوية فأخبره بحديث أبي هريرة هذا، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاويةُ بكاءً شديدًا، حتى ظَنَنَّا أنّه هالك، ثم أفاق، ومسح عن وجهه، وقال: صدق اللَّه ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود].

(1)

في النسخ: سيفًا، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

أي شهق وغُشِيَ عليه.

ص: 302

وهذا الحديث له شاهد صحيح في "صحيح مسلم" من طريق أخرى عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أول ما تُسعَّر النار يوم القيامة بثلاثة، بالعالم، والمتصدق، والمجاهد، الذين أرادوا بأعمالهم الدنيا"

(1)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا [محمد بن] عثمان بن معبد، حدَّثنا محمد بن بكَّار بن بلال، قاضي دمشق، حدَّثنا سعيدُ بن بشير، عن قتادةَ، عن الحسن، عن حريث بن قبيصة، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"أول ما يُحاسب به الرجل صلاتُه، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائرُ عمله، ثم يقول اللَّه عز وجل: انظروا هل لعبدي نافلة، فإن كانت له نافلة، أُتِمَّت بها الفريضةُ، ثم الفرائض كذلك". ورواه الترمذي، والنسائي، من حديث همَّامٍ، عن قتادة، وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه النسائى أيضًا، من حديث عِمْران بن داود أبي العوَّام، عن قتادةَ، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو النضر، حدَّثنا المبارك، هو ابن فضالة، عن الحسن، عن أبي هريرة، أُراه ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ العبد المملوك لَيُحَاسبُ بصَلاتهِ، فإذا نَقصَ منها قيل: لم نَقَصْتَ منها؟ فيقول: يا ربّ سلّطتَ عليَّ مَليكًا شغلني عن صلاتي، فيقول له: قد رأيتُك تسرق من مالِهِ لِنَفْسِك، فهَلَّا سَرَقْتَ لِنَفْسِك من عَمِلك، أو عمله؟ قال: فيَتَّخذُ اللَّهُ عليه الحُجَّةَ"

(3)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا [عليّ بن الْجَعْد، أنبأنا] مُبَارك بن فَضَالَة، حدَّثنا الحسنُ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَوَّل ما تُسْألُ عنه المرأةُ يومَ القيامةِ، عن صلاتِها، ثم عن بَعْلِها كيف فعلت إليه؟ ". وهذا مرسل جَيّد.

وقال أحمد: حدَّثنا أبو سعيد، مولى بني هاشم، حدَّثنا عبّاد بن راشد، قال: حدَّثنا الحسن، حدَّثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تَجيءُ الأعمالُ يومَ القيامة، فتَجِيءُ الصلاةُ فتقول: يا ربّ، أنا الصلاةُ، فيقول: إنّكِ على خير، ثم تَجِيءُ الصدقةُ، فتقول: يا رَبّ، أنا الصدقةُ، فيقول: إنكِ على خَيْر، ثم يجيءُ الصيامُ، فيقول: يا رَبِّ، أنا الصيامُ، فيقول: إنّكَ على خير، ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول: إنك على خير، ثم يَجيء الإسلامُ فيقول: يا رَب، أنتَ السَّلامُ، وأنا الإسلام، فيقول اللَّه: إنّكَ على خير، بكَ اليومَ آخُذ، وبِكَ

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(235) والشاهد في صحيح مسلم (1905).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(238) والترمذي (413) والنسائي (1/ 232 - 233) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 328) وإسناده ضعيف.

ص: 303

أُعْطي، قال اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] "

(1)

.

وقال ابنُ أبي الدنيا: حدَّثنا عَبْدةُ بن عبد الرحيم المَرْوزيّ، أنبأنا بَقيَّةُ بن الوليد الكَلَاعِيّ، حدَّثنا سَلَمةُ بن كُلْثوم، عن أنس بن مالك، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُؤْتى بالْحُكَّام يوم القيامة، بمنْ قَصَّر، وبِمَنْ تَعَدَّى، فيقول اللَّه تعالى: أنتم خُزَّان أرْضي، ورُعاةُ غَنَمي، وعندكم بُغْيَتي، فيقول للذي قصّر: ما حملك على ما صنعتَ

(2)

؟ فيقول: الرحمةُ، فيقول اللَّه جل جلاله: أنت أرْحَمُ بعبادي مني؟ ويقول للذي تَعَدّى: ما حَملك على ما صنعت؟ فيقول: غَضِبْتُ لك، فيقول اللَّه: أنْتَ أشدُّ غَضَبًا مِنِّي؟! فيقول: انطلقوا بهم، فسُدُّوا بهم رُكْنًا من أركان جَهنَّم"

(3)

.

وقال ابن أبي الدنيا رحمه اللَّه تعالى: حدَّثنا إسحاقُ بن إبراهيم، حدَّثنا يحيى بن سُلَيم، عن ابن خُثيم، عن أبي الزُّبَير، عن جَابر، قال: لمَّا رجعَتْ مُهاجِرَةُ الْحَبشة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تُخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة؟ " فقال فتْيَةٌ منهم: [بلى، يا رسول اللَّه، بينما نحنُ جلوسٌ إذ مرَّت بنا عجوز من عجائزهم، تحمل على رأسها قُلَّةً من ماءٍ، فمَرّت بفَتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كَتفيْها، ثم دفعها، فخَرَّتْ على رُكْبَتَيْها، وانْكسَرت قُلَّتُها، فلمَّا ارتفعت التفتتْ إليه، وقالت: سوف تعلم يا غُدَر، إذا وَضَع اللَّهُ الكرسِيَّ لفصل القضاء، وجمعَ الأولين، والآخِرين، وتَكلَّمَت الأيْدِي والأرجُل بما كانوا يَكْسِبُونَ، فسوف تعلم كيف أمري وأمرُك عنده غدًا، قال: يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَتْ، كيف يُقَدِّسُ اللَّهُ قومًا لا يُؤْخذُ من شَديدهم لِضَعِيفهم"

(4)

.

وقد تقدَّم في حديث عبد اللَّه بن أُنَيس: أن اللَّه تعالى يُنادي العبادَ يوم القيامة، فيقول: أنا المَلِكُ، أنا الدّيّان، لا ينبغي لأحَدٍ من أهل الْجَنَة أن يَدْخُل الْجَنَّةَ، وَلأحَدِ من أهل النار عنده مَظْلِمة، [ولا لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار ولأحدٍ من أهل الجنة عنده مَظْلمةٌ حتَّى أقْضيها مِنْهُ، حتّى اللّطمةَ"]. رواه أحمد، وعلّقه البخاريّ في "صحيحه"

(5)

.

وقال الإمامُ مالك عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 362) وفي إسناده ضعف.

(2)

في (أ): ضيعتَ.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(241) وهو حديث حسن.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(243) ورواه ابن ماجه رقم (4010) وابن حبان في صحيحه رقم (5058) وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجه رقم (2426) وشاهد من حديث بريدة في السنة لابن أبي عاصم رقم (582) وهو حديث حسن.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 495) -والبخاري قبل الحديث (7481) معلقًا- وهو حديث حسن.

ص: 304

قال: "من كانتْ لأخيه عنده مظْلِمةٌ فلْيَتَحَلَّلْهُ منها، فإنّه ليس ثَمَّ دينارٌ، ولا دِرْهمٌ، منْ قَبْل أن يُؤْخَذَ من حَسَناتِه، فإن لم تكن له حسناتٌ، أُخِذَ من سَيِّئاتِ أخيه فطُرِحَتْ عليه". ورواه البخاري ومسلم

(1)

.

وروى ابن أبي الدُّنيا من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرونَ مَنِ المُفلس؟ " قالوا: منْ لا دِرْهَم له ولا دينار، فقال:"بل المفلسُ من أمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيام، وزكاةٍ، ويأتي قد شَتم هذا، وقذف هذا، وِأكلَ مالَ هذا، وسَفَك دَمَ هذَا، وضربَ هذا، فيُقضى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فنيتْ حسناتُه قَبْلَ أن يُقْضى ما عليه، أُخذَ من خطاياهم، فطُرِحتْ عليه، ثم طُرِح في النار"

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا الوليد بن شُجاع السَّكوني

(3)

، أنبأنا القاسم بن مالك المُزَنِيّ، عن ليْث، عن مُجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَمُوتَنَّ وعليك دَيْنٌ، فإنه ليس ثَمَّ دِينارٌ، ولا درهم، إنَّما هي الحسناتُ جَزاءً بِجَزاءً، ولا يَظْلم رَبُّك أحدًا". ورُوي من وجهين آخرين، عن ابن عمر مرفوعًا مثله

(4)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثنا ابن أبي شَيْبَةَ، حدَّثنا بكر بن يونس بن بُكَير، عن موسى بن عُلَيّ بن رباح، عن محمد بن المُنْكدر، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّه ليأتي العبدُ يوم القيامة، وقد سَرَّتْهُ حسناتُه، فيجيء الرجُل فيقول: يا رَب، ظلمني هذا، فيُؤْخذ من حَسَناتِه، فتُجْعَلُ في حسنات الذي ظلمه، فما يزال كذلك حتى ما يَبْقى له حسناتٌ، فإذا جاء من يسألُه، نُظر إلى سَيِّئاتهِ فجُعِلَتْ مع سيئات الرجل، فلا يزال يُسْتَوفى من حسناته، وتردُّ عليه سيئات من ظلمه، فما زال يُستوفى منه حتى يَدْخُلَ النار"

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يزيد، حدَّثنا صَدَقةُ بن موسى، حدّشْا أبو عمران الجَوْني، عن يزيد بن بابَنُوس، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدواوينُ غند اللَّه ثلاثة: ديوان لا يعبأ اللَّه به شيئًا، وديوان لا يترك اللَّه منه شيئًا، وديوان لا يغفره اللَّهُ، فأما الديوانُ الذي لا يغفره اللَّه، فالشرك. قال اللَّه عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] وأما الديوان الذي لا يعبأ اللَّه به شيئًا، فظُلْم العَبْدِ نَفسَهُ، فيما بَينه وبين رَبّه، من صوم يومٍ تَرَكه، أو صلاةٍ تركَها، فإن

(1)

رواه ابن حبان رقم (7362) من طريق مالك، ورواه البخاري رقم (6534) من طريق مالك، إِلَّا أنه لم يذكر أبا سعيد، وليس الحديث عند مسلم.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(251) ورواه مسلم رقم (2581) من طريق العلاء، به، بلفظ "ما المفلس".

(3)

في الأصول: اليشكري، وهو خطأ.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(256).

(5)

رواه ابن أبي الدنيا "الأهوال"(250) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه.

ص: 305

اللَّه عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يَتْرُك اللَّهُ منه شيئًا، فظُلْم العِبادِ بَعْضِهم بَعْضًا، فيه القصاصُ لا محالة"

(1)

.

وروى البيهقيّ من طريق زائدة بن أبي الرُّقاد

(2)

، عن زياد النُّميريّ، عن أنس، مرفوعًا:"الظلمُ ثلاثة: فظلمٌ لا يغفره اللَّه، وهو الشِّرك، وظلم يغفره اللَّه، وهو ظُلْمُ العِباد أنْفُسهم فيما بينهم وبين رَبّهم، وظلم لا يَتْرُك اللَّه منهُ شيئًا وهو ظُلْمُ العِباد بعضهم بَعْضًا، حتى يَدين بعضهم من بعض" ثم ساقه من طريق يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس، مرفوعًا، بنحوه، وكلا الطريقين ضعيف

(3)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثنا أبو عبد اللَّه، تميمُ بن المنتصر، حدَّثنا إسحاق بن يوسف، عن شَرِيك، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن السائب، عن زَاذَان، عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"القتلُ في سبيل اللَّه يكفرُ كُلَّ شيء -" أو قال: "يكفِّر الذنوبَ كُلها- إلَّا الأمانة" قال: "يُؤتى بصاحب الأمانة، فيقال له: أدِّ أمانَتَك، فيقول: أنَّى لي، وقد ذهبت الدُّنيا؟ فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية، فيُذْهَبُ به إليها، فيهْوي فيها، حتى ينتهيَ إلى قَعْرها، فيجدُها هناك كَهَيئتها، فيَحْمِلُها فيضَعُها على عاتِقه، فيَصْعدُ بها في نار جهئم، حتى إذا رأى أنّه قد خرج زَلّتْ فهوت، وهوى في إثْرها فهو كذلك أبدَ الآبدين" قال: "والأمانةُ في الصلاة، والأمانةُ في الصيام، والأمانةُ في الوضوء، والأمانةُ في الحديث، وأشدّ ذلك الودائِعُ" قال: فلَقيتُ البَراءَ، فقلت: ألا تَسْمعُ إلى ما يقول أخوك عبدُ اللَّه؟ قال: صدق. قال شَريكٌ: وحَدَّثَنَا عبَّاس العامِريّ، عن زَاذَان، عن عبد اللَّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمثله، ولم يذكر الأمانة في الصلاة، والأمانةَ في كلّ شيء. إسناده جيِّد ولم يروه أحمد، ولا أحد من الكتب الستة

(4)

، وله شاهد من الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد: أنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، أرأيْتَ إن قُتِلْتُ في سبيل اللَّه صابرًا مُحْتَسبًا مُقْبلًا غيرَ مُدْبر يُكفِّر اللَّهُ عنِّي خَطاياي؟ قال:"نعم، إلَّا الدَّيْنَ"

(5)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا محمد بن عبيد، حدَّثنا محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد اللَّه بن الزُّبَيْر، قال: لمَّا نزلت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر] قال الزُّبَيْر: يا رسول اللَّه، أيكرّر

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 240) وإسناده ضعيف.

(2)

في الأصول: زائدة عن أبي الرقاد.

(3)

ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (2109) وإسناده ضعيف، ولكن يشهد لمعناه بعض الذي قبله.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(261) أقول: وفي سنده شريك بن عبد اللَّه النخغيّ، وهو ضعيف.

(5)

رواه مسلم رقم (1885) ولكن من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد اللَّه بن قتادة عن أبي قتادة رضي الله عنه.

ص: 306

علينا ما يكونُ بَيْننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: "نعم ليُكرَّرن عليكم، حتَّى تُؤدُّوا إلى كلِّ ذي حَقٍّ حَقّه" فقال الزُّبير: واللَّه إن الأمر لشَديد

(1)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا محمد بن موسى، حدَّثنا إسحاق بن سُلَيْمانَ، حدَّثنا أبو سنان

(2)

، عن عبد اللَّه بن السَّائب، عن زَاذَان، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: الأممُ جاثُونَ للحساب، فلَهُمْ يَومئذٍ أشدُّ تَعَلُّقا بعضُهم ببَعْض منهم في الدُّنيا، الأبُ بابنه، والابنُ بأبيه، والأخْتُ بأخيها، والأخ بأخته، والزوجُ بامرأته، والمرأةُ بزَوْجها، ثم تلا عبدُ اللَّه:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]

(3)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزّار: حدَّثنا الفضل بن يعقوب، حدَّثنا سعيد بن مَسْلَمة، عن لَيْث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُؤْتَى بالمَليكِ والمَمْلوك، والزوج والزوجة، فيحاسَبُ المليك والمملوك، والزوج والزِوجة، حتى يُقال للرجل: شَرِبْتَ يومَ كذا وكذا على لَذَّةٍ، ويقال للزوج: خَطَبْتَ فلانةً مع خُطَابٍ فزَوَّجْتُكهَا وتركتُهم"

(4)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا عمرو بن حِبَّان، مولى بني تَميم، حدَّثنا عَبْدُ بن حُمَيد، عن إبراهيم بن مسلم، عن أبي الأحْوصِ، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يَدْعو العبدَ، يوم القيامة، فيذكِّره ويَعُدُّ عليه: دَعَوْتني يوم كذا وكذا، فأجبتك، حتَّى يَعُدَّ عليه فيما يُعَدّ: وقلتَ: يا ربّ زَوّجْني فُلانةً، ويُسمِّيها باسمها، فزوّجناكها"

(5)

. ورُوي من حديث لَيْث بن أبي سُلَيْم، عن أبي بُردْةَ، عن عبد اللَّه بن سَلام، موقوفًا

(6)

، بنحوه

(7)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا إبراهيمُ بن سعيد، حدَّثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدَّثنا الفَضْلُ بن عيسى، حدَّثنا محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن العار ليلزمُ العَبْدَ يوم القيامة، حتَّى يقول: يا رَبّ، لإرْسألُك بي إلى النار أيْسرُ عليَّ ممَّا ألْقَى من العار، وإنَّه ليَعْلمُ ما فيها من شدَّةِ العذاب، وقد قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] "

(8)

.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(273) وأخرجه أحمد في المسند (1/ 167) من طريق محمد بن عمرو به إِلا أنه جعله من مسند الزبير، وإسناده حسن.

(2)

في الأصول: أبو سيَّار، والتصحيح من كتب الرجال.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(295).

(4)

رواه البزار رقم (3443) كشف الأستار، وإسناده ضعيف.

(5)

وإسناده ضعيف.

(6)

في الأصول: مرفوعًا.

(7)

وإسناده ضعيف أيضًا.

(8)

وأخرجه الحاكم (4/ 577) من طريق عطاء، به، وإسناده ضعيف.

ص: 307

وفي الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أكلَ هو وأصحابُه في حديقة أبي الهَيْثَم بن التَّيِّهان من تلك الشَّاة التي ذُبِحَتْ له، وأكلُوا من الرُّطَبِ، وشَرِبُوا من ذلك الماء قال:"هذا من النعيم الذي تُسْألُونَ عنه"

(1)

أي عن القيام بشُكْرِه، وماذا عمِلتُم في مقابلة ذلك؟ كما ورد في الحديث:"أذيبُوا طعامكم بذكر اللَّه، وبالصلاة، ولا تناموا عليه، فتَقسُوَ قلوبكم"

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا وَكيعٌ، حدَّثنا سفيان، عن الأعمش، عن ثابت، أو أبي ثابت، أن رَجُلًا دخل مسجد دمشق، فقال: اللَّهمَّ آنِسْ وَحْشَتي، وارْحَمْ غُرْبتي، وارْزُقْني جَلِيسًا صَالِحًا، فسمعه أبو الدّرْداءَ، قال: لئنْ كنتَ صادِقًا لأنا أسعدُ بما قلتَ منك، سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: "الظالمُ الذي يُؤخَذُ منه في مقامه ذلك، وذلك الحزَن والغَمّ الذي يصيبه في مقامه يوم القيامة"{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال: "يُحاسَبُ حِسَابًا يَسيرًا"{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال: "يَدخُل الْجَنَّة بغير حساب"

(3)

.

وستأتي الأحاديثُ في من يدخلُ الْجَنّة بغير حساب، وكم عِدّتُهم؟

‌حديث فيه أن اللَّه تعالى يصالح عن عبده الذي له به عنايةُ من ظلمه بما يريه من قصور الجنة ونعيمها

قال أبو يعلى: حدَّثنا مُجاهد بن موسى، حدَّثنا عبد اللَّه بن بكر

(4)

، حدَّثنا عبَّاد بن شَيْبَةَ الحبَطيّ، عن سعيد بن أنس، عن أنس، قال: بينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ إذ رأيناهُ ضَحِكَ حتَّى بدتْ ثَناياهُ، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمِّي؟ قال:"رجلان من أمّتي جَثَيَا بين يدي اللَّه تعالى، فقال أحدهما: يا رَبّ خُذْ لي مظلِمتي من أخي، قال اللَّه تعالى: أعْطِ أخاك مظلِمته، قال: يا ربّ، لم يَبْقَ من حَسناتي شيء، قال اللَّه تعالى للطالب: كيف تصنَعُ بأخيك؟ لم يبق من حسناته شيء، قال: يا رَبِّ فليحمل عنِّي من أوْزاري" قال: وفاضَتْ عينا رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبُكاء، ثم قال: "إنّ ذلك ليَوْمٌ عظيم، يومٌ يَحتاجُ فيه الناس إلى أن يُحْمَلَ عنهم من أوزارهم، فقال اللَّه تعالى للطالب: ارفع بصرك، فانظرْ في الْجِنان، فرفع رأسه، فقال: يا رَبِّ، أرى مَدَائنَ من فِضَّة، وقصورًا من ذهب مُكلَّلَةً باللؤلؤ، لأيِّ نبيّ هذا؟ لأيّ صدِّيق هذا؟ لأيّ شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعْطَى الثَّمَنَ،

(1)

رواه مسلم (2038).

(2)

رواه البيهقيّ في "شعب الايمان" رقم (6044)، وهو ضعيف جدًا.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(276).

(4)

في (أ): بكير، وهو خطأ.

ص: 308

قال: يا رَبِّ، ومنْ يَملِكُ ذلك. قال: أنتَ تملكه، قال: بماذا يا رَبّ؟ قال: بعَفْوِك عن أخيك، قال: يا رَبّ، فإنّي قد عَفَوتُ عنه، قال اللَّه تعالى: خُذْ بيدِ أخيك، فَأدخلْه الْجنَّة" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك:" {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، فإنّ اللَّه يُصْلِحُ بَيْن المُؤْمنينَ يوم القيامة". إسناد غريب، وسياق غريب، ومعنى حسنٌ عجيب. وقد رواه البَيْهَقيّ من حديث عبد اللَّه بن بكر، به، وحَكَى عن البخاريّ أنه قال: سعيدُ بن أنس عن أبيه في المظالم لا يُتابَع عليه

(1)

، ثم أورده البيهقيّ من طريق زياد بن مَيْمون البَصْريّ، عن أنس مرفوعًا، بنحوه، وفيه نظر أيضًا.

وقد يُسْتَشْهَدُ له بما رواه البخاريّ في "صحيحه" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أخَذَ أموال الناس يُريد أداءها أدّاها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتْلافَها أتلفه اللَّه"

(2)

.

وقد روى أبو الوليد

(3)

الطَّيالسيُّ عن عبد القاهر بن السَّرِيّ، ورواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديثه، عن ابنٍ لكنانة بن عباس بن مرداس السلمي -وفي رواية ابن ماجه: عن عبد اللَّه بن كنانة بنِ عباس بن مرداس- عن أبيه، عن جَدّه عباس بن مِرْداس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دعا لأُمّتِه عَشِيَّةَ عَرَفةَ بالمغفرة والرَّحمة، فأكثرَ الدّعاءَ، فأجابه اللَّه تعالى: إنّي قد فعلتُ، إلّا ظُلْمَ بعضهم بعضًا، قال:"يا رب إنك قادر على أن تُثيبَ هذا المظلوم خيرًا من مَظْلِمَتِهِ، وتَغْفرَ لهذا الظالم" فلم يجبه تلك العَشيَّةَ، فلمَّا كان غداةَ المُزْدَلفةِ أعاد الدُّعاءَ، فأجابه اللَّه: إني قد غفرتُ لهم، فتَبَسَّم الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُ أصحابه: يا رسول اللَّه، تَبَسَّمْتَ في ساعة لم تكن تَبسَّمُ فيها؟! فقال:"تَبسَّمْتُ من عدوّ اللَّهِ إبليس، إنَّه لمَّا علم أن اللَّهَ قد استجابَ لي في أمَّتي أهْوَى يدعو بالويْلِ والثُّبُور، ويَحْثُو الترابَ على رأسه". قال البيهقيّ: وهذا العفو يحتمل أن يكون بعد عذاب يَمَسّهم، ويحتمل أن يكون خاصًّا ببعض الناس، ويحتمل أن يكون عامًّا في كلّ أحدٍ

(4)

.

وقال أبو داود الطيالسيُّ: حدَّثنا صدقةُ بن موسى، حدَّثنا أبو عمْران الْجَوْني، عن زيد بن قَيْس، أو قيس بن زيد، عن قاضي المصرَين شُريح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؟ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّه يدعو صاحبَ الدَّينِ يوم القيامة، فيقول: يا ابن آدم، فيمَ أضَعْتَ حقوق الناس؟ فيم أذْهَبْتَ أموالهم؟ فيقول: يا رَبّ، لم أُفسد، ولكني أُصِبْتُ، إمَّا غَرَقًا، وإما سَرَقًا،

(1)

أخرجه أبو يعلى (4580 - المطالب العالية) وهو ضعيف جدًا.

(2)

رواه البخاري رقم (2387).

(3)

في الأصول: أبو داود الطيالسي، والتصحيح من تهذيب الكمال (14/ 251).

(4)

رواه أبو داود رقم (5234) وابن ماجه (3013) والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 118) وإسناده ضعيف.

ص: 309

فيقول: أنا أحَقُّ منْ قَضى عنك اليوم، فَتَرْجَحُ حَسَناته على سَيّئاته، فيؤمَرُ به إلى الجَنَّة؟ "

(1)

.

وثبت في "صحيح مسلم"، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يقول اللَّه تعالى: اعْرِضُوا عليه صغارَ ذُنُوبه، واتركوا كبارها، فيقال له: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا، وهو مُشفِق من كبار ذُنوبه أن تُعْرض عليه، فيقول اللَّه تعالى: إنَّا قَدْ أبدلناك مكانَ كلِّ سَيّئةٍ حَسَنةً، فيقول: يا رَبّ إنّي قد عَمِلْتُ ذُنوبًا لا أَراها هُنا؟ قال: وضَحِكَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نَواجِذه

(2)

.

وتقدم في حديث عبد اللَّه بن عمر في حديث النجوى: يُدْني اللَّهُ العَبْد يوم القيامة، حتَّى يضع عليه كنَفَهُ ويقررّه بذنوبه، حتّى إذا ظنَّ أنّه قد هلك، قال: سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ويُعْطَى كِتاب حَسَنَاتِه بِيَمينه

(3)

.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا هارون بن عبد اللَّه، حدَّثنا سيار بن حاتم، حدَّثنا جعفر بن سُلَيْمان، حدَّثنا أبو عِمْران الْجَوْنيّ، عن أبي هريرة، قال: يُدْني اللَّهُ العبد يوم القيامة، فيَضعُ عليه كنفه لِيَسْتُرهُ من الخلائق كُلِّها، ويدفعُ إليه كتابه في ذلك السِّتر، فيقول تعالى: اقرأ يا ابن آدم كتابك، فيَمُرّ بالحسنة فيَبيضُّ لها وجهُه، ويُسَرُّ بها قلبه، قال: فيقول اللَّه تعالى: أتعرفُ يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رَبِّ أعرف، فيقول: إنِّي قد تَقَبَّلْتُها مِنْك، قال: فيَخِزُ ساجدًا، قال: فيقول اللَّه تعالى: ارفع رأسك، وخذ في قراءة كتابك، فيَمُرُّ بالسَّيّئة، فتسوؤه ويسودُّ لها وَجْهُه، ويَوْجلُ منها قَلْبُه، وتُرْعَدُ منها فَرائصُه، ويأخذُه من الحياء من رَبّه ما لا يعلمه غيرُه، فيقول اللَّه تعالى له: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رَبّ أعرف، فيقول اللَّه سبحانه: فإنّي قد غفرتها لك، فيخرُّ ساجدًا فيقول اللَّه عز وجل: ارفع رأسك فلا يزال في حَسَنةٍ تُقبَل، وسيئة تُغْفرُ، وسجود عند كل حسنة وسيئة لا يرى الخلائقُ منه إلَّا ذاك السجود، حتى يُنادي الخلائقُ بعضها بعضًا: طوبَى لِهَذا العبد، الذي لم يعصِ اللَّه قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين اللَّه تعالى، مما قد وَقَفه عليه.

وقال ابن أبي الدّنيا: وقال أبو ياسر، عمّار بن نصر: حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا عُثمان بن أبي العاتكة، أو غيرُه، قال: من أُوتي كتابَه بيمينه، اتي بكتاب في باطنه سَيِّئاتُه، وفي ظاهره حَسَناتُه، فيقال له: اقرأ كتابك، فيقرأ باطِنَهُ، فَيُساء بما فيه من سَيِّئاته، حتى إذا أتى على آخرها قرأ فيه: هذه سَيِّئاتُك، وقد سترتها عليك في الدنيا، وغفرتها لك اليوم، ويَغْبطُه بها الأشْهادُ، أو قال: أهل الجمع، بما يقرؤون في ظاهر كتابه من حَسَناته، ويقولون: سَعِد هذا، ثم يُؤمرُ بتحويله،

(1)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (1326) وأخرجه أحمد (1/ 197) من طريق صدقة به، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه مسلم رقم (190).

(3)

رواه البخاري (2441) ومسلم (2768).

ص: 310

وقراءة ما في ظاهره، فيُحَوِّلُه، ويُبذَلُ اللَّه ما كان في باطنه من سَيِّئاته، فيجعلُها اللَّهُ له حَسَناتٍ، ويقرأ حسناته حتى يأتيَ على آخرها، ثم يقول: هذه حَسَناتُك، قد قَبِلْتُها منك، فعند ذلك يقول لأهل الجمع:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19 - 20] قال: وأَمَّا من أوتي كتابه وراء ظهره يأخذه بشماله، ثمْ يقال له: اقرأ كتابك، فيقرأ كتابه، في باطنه حسناته، وفي ظاهره سيِّئاتُه، فيقرؤها أهل الموقف أو قال أهل الجمع، ويقولون: هلك هذا، فإذا أتى على آخر حسناته، قيل: هذه حَسَناتُك، وقد رَدَدْتُها عليك، ويُؤمَرُ بتحويله، ويقرأ سَيِّئاته، حتى يأتيَ على آخرها، فعند ذلك يقول لأهل الجمع:{يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} [الحاقة].

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا عليّ بن الْجَعْد، حدَّثنا المُبارك بن فَضَالة، عن الحسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنّه بَذَجٌ، والبَذَجُ وَلَدُ الشاة، فيقول له رَبُّه: أيْنَ ما خَوَّلْتُك؟ أين ما ملَّكْتُك؟ أيْنَ ما أعطيتك؟ فيقول: يا رَبّ جمعتُه وثَمَّرْتُه، وتَرَكْتُه أكثر ما كان فيقول: ما قدَّمْتَ منه؟ فلا يَرَى قدَّم شيئًا، فيطلب من اللَّه الرجعة إلى الدنيا، وليس براجعٍ إلى الدنيا أبدًا".

وحدثني حمزة بن العبَّاس، أنبأنا عبد اللَّه بن عُثْمان، حدَّثنا ابن المبارك، حدَّثنا إسماعيل بنُ مسلم، عن الحسن، وقتادةَ، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه، وزاد فيه فيقول: يا رَبِّ ارْجعْني آتِكَ به كُلِّه، فإذا أُعيد لَم يُقدّم شيئًا، فيُمْضى به إلى النار. ثم ساقه من طريق يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقد قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]

(1)

.

وفي "صحيح مسلم": أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إِلَّا ما أكلت فأفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ، وما سِوَى ذلك فذاهبٌ وتَارِكُه للناس"

(2)

. وقال اللَّه تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 6 - 7].

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدَّثنا سُرَيْج بن يونس، حدَّثنا سيف بن محمد ابن أخت سُفْيَان الثَّوْريّ، عن لَيْث بن أبي سُلَيم، عن عديّ بن عديّ، عن الصُّنابِحيّ، عن مُعاذ بن جَبَل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَزُولُ قَدَما العَبْد يوم القيامة حتَّى يُسْأل عن أربع: عن عُمره فيمَ أفناه؟ وعن

(1)

وهو حديث ضعيف.

(2)

رواه مسلم (2958).

ص: 311

جسده فيمَ أبلاه؟ وعن عِلمه ماذا عملِ فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ "

(1)

وقد تقدَّم عن ابن مسعود نحوُه

(2)

. وروي عن أبي ذَرّ

(3)

قريب منه، واللَّه أعلم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا سُرَيْج بن يُونس، حدَّثنا الوليد بن مسلم، عن الغَضَوَّر بن عُتَيق

(4)

، عن مكحول، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عويمر يا أبا الدَّرْداء، كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: عَلِمْتَ أو جَهِلت؟ فإنْ قلتَ: علمتُ، قيل لك: فماذا عَمِلْتَ فيما عَلِمْت؟ وإن قلت: جَهِلْتُ، قيل: فماذا كان عُذْركَ فيما جَهِلْتَ؟ ألا تَعَلّمتَ؟ ". وقد رويَ من وجهٍ آخر موقوف على أبي الدرداء

(5)

، فاللَّه أعلم.

‌فصل

قال البخاري رحمه الله: باب: يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم، ثمّ أورد حديث عبد اللَّه بن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يُرْفعُ لِكُلّ غادِرٍ لواءٌ يوم القيامة عند اسْته فيقال: هذه غَدْرةُ فُلان ابنِ فُلان"

(6)

.

قال بعض أهل العلم: إذا رفع للغادر لواء يعرف به ليفتضح، فكيف حال من هو متلبِّس بأمور هي أعظم من الغدر، كيف لا ترفع لهم ألوية، ولكن الرب عز وجل يستر ولا يفضح كما تقدم في الأحاديث. وكذا روي عن أحمد عن هشيم عن أبي الجهم عن الزُّهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار يوم القيامة"

(7)

قالوا: فإذا كان هذا لهؤلاء، فلأن ترفع الألوية لأئمة الهدى والدعاء إلى الخير من الأنبياء وأتباعهم بطريق الأولى والأحرى، وهذا كلام حسن، وكذاك أئمة الجَوْر والظلم، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدَّثنا علي بن الْجَعْد، ومحمد بن بكَار، قالا: حدَّثنا هُشَيْم، عن داود بن عمرو، وعن عبد اللَّه بن أبي زكريّا، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

(1)

رواه الطبراني في الكبير (20/ 111) وهو حديث صحيح بشواهده.

(2)

رواه الترمذي رقم (2416) عن ابن مسعود وهو حديث حسن.

(3)

لعله عن أبي بَرزة، وهو عند الترمذي رقم (2417) وهو حديث صحيح.

(4)

انظر "الإكمال" لابن نقطة في ضبط اسمه (6/ 113) و"توضيح المشتبه"(6/ 178).

(5)

أخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان (1783) موقوفًا.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6177) عن ابن عمر، ورواه مسلم بلفظ "عند استه" رقم (1738)(15) من حديث أبي سعيد الخدري.

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 228) والبزار (2091 - كشف الأستار) وهو حديث ضعيف.

ص: 312

"إنّكم تدْعَون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء آبائكم، فحَسِّنوا أسماءكم"

(1)

.

وقال البزَّار: حدَّثنا علي بن المُنذر، حدَّثنا [محمد بن] فُضَيْل، حدّثني أبي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تقيء الأرْضُ أفلاذ كَبِدها، فيَمُرّ السارق، فيقول: في هذا قُطِعَتْ يَدي، ويَجِيءُ القاتِلُ، فيقول: في هذا قَتَلْتُ، ويجيءُ قاطع الرَّحم، فيقول: في هذا قَطَعْتُ رَحِمي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلا يَأْخُذونَ منه شَيْئًا"

(2)

.

‌فصل

قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106 - 107]. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25]. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26 - 27].

وقال الحافظ أبو بكر البزّار: حدَّثنا محمد بن مَعْمر، ومحمد بن عُثْمان بن كَرامة، قالا: قال عُبَيْدُ اللَّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدِّيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء] قال: "يُدْعى أحدهم فيُعطى كتابَه بيمينه، ويُمَدُّ له في جسمه، ويُبَيَّضُ وَجْهُهُ، ويُجْعلُ على رأسه تاجٌ من لؤلؤة تتلألأ، فينْطَلِقُ إلى أصحابه، فَيَرَوْنَهُ، من بعيد، فيقولون: اللهمَّ ائتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فَيأتيهمْ، فيقول: أبشرُوا، فإنَّ لكلّ رجل منكم مثل هذا، وأمَّا الكافر فيَسْودّ وَجْهه، ويُمَدّ له في جِسْمِه، فيراه أصحابهُ، فيقولون: نَعُوذ باللَّه من هذا، ومن شرّ هذا، اللّهمَّ لا تأتنا به، فيأتيهم، فيقولون: اللَّهم أخْزِه، فيقول: أبْعَدَكم اللَّه، فإنَّ لكُل رجل منكم مثلَ هذا" ثم قال: لا نعرفه إلَّا بهذا الإسناد، ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن العبَّاس بن محمد بن عُبَيد اللَّه بن موسى العَبْسيّ، به

(3)

.

(1)

ورواه أحمد في المسند (5/ 194) وأبو داود رقم (4948) وإسناده ضعيف.

(2)

وأخرجه مسلم رقم (1013) من طريق ابن فضيل به.

(3)

ورواه الترمذي رقم (3136) من طريق عبيد اللَّه بن موسى، به، وإسناده ضعيف.

ص: 313

وروى أبو داود من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن من عباد اللَّه لأُناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللَّه" قالوا: يا رسول اللَّه، فخبِّرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابُّوا بِرَوْح اللَّه سبحانه على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فواللَّه إن لوجوههم لَنُورًا، وإنهم لعلى كراسيَّ من نُور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس]

(1)

.

وروى ابن أبي الدُّنيا عن بعض السلف، وهو الحسن البصريّ: أنهُ قال: إذا قال اللَّه تعالى للملائكة: خُذُوه فَغُلُّوه، ابتدره سبعونَ ألف ملَكٍ، فتسلك السِّلْسلةُ منْ فيهِ، فَتَخرجُ منْ دُبُرهِ، وَيُنْظم في السلْسلةِ كما يُنْظَمُ الخَرَزُ في الْخَيْط، ويُغْمسُ في النَّارِ غَمْسةً، فيَخْرُج عِظامًا تقَعقعُ، ثُمَّ تُسْجَرُ تِلْكَ العِظامُ في النَارِ، ثم يُعادُ غَضًّا طَريًا.

وقال بعضهم: إذا قال اللَّه: خُذُوه، ابتدره أكثرُ من رَبيعه ومُضر.

وعن مُعْتَمر بن سُلَيْمانَ، عن أبيه: أنه قال: لا يَبْقَى شيء إلَّا ذَمَّه، فيقول: أما تَرْحَمني؟ فيقول: كيف أرحمك، ولم يَرْحَمْكَ أرْحَمُ الراحمين؟!

‌فصل

قال ابن ماجه في كتاب الرقائق [من "سننه"]:

باب ما يرجى من رحمة اللَّه تعالى يوم القيامة.

حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا يزيدُ بن هارون، حدَّثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن للَّهِ مئةَ رَحْمةٍ، قَسَم منها رحْمَةً بين جميع الخلائق، فَبِها يَتَراحمُون، وبها يَتَعَاطفُون، وبها تَعْطِفُ الوَحْشُ على أولادها، وأخَّر تسعًا وتسعين رحمةً يَرْحم بها عباده يوم القيامة". ورواه مسلم، عن محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، عن أبيه، عن عبد الملك بن أبي سُلَيْمانَ، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه

(2)

.

(1)

رواه أبو داود رقم (3527) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه ابن حبان في "صحيحه" رقم (573) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4293) ومسلم (2752)(19) بنحوه مختصرًا.

ص: 314

وقال البخاريُّ: حدَّثنا قُتَيْبةُ بنُ سعيد، حدَّثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ اللَّه خَلقَ الرَّحْمةَ يَوْمَ خَلَقَها مئة رحمة، فأمسك عِنْدَه تِسْعًا وتسعين رَحْمةً، وأرسل في خلقه كُلِّهِمْ رَحْمة واحِدَةً، فلو يعلمُ الكافرُ بكُلّ الذي عند اللَّه من الرحمة لم يَيْأسْ من الْجَنَّة، ولو يعلم المُؤْمنُ بكل الذي عند اللَّه من العذاب لم يأْمَنْ من النار". انفرد به البخاريّ من هذا الوجه

(1)

.

ثم قال ابن ماجه: حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، وأحمد بن سِنَان، قالا: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خلق اللَّه يوم خلق السماوات والأرض مئةَ رحمةٍ، فجعل في الأرض منها رحمةً، فبِها تَعْطِفُ الوالدةُ على وَلَدها، والبهائمُ بعضُها على بعضٍ، والطيرُ، وأخَّر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة، فإذا كانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أكملَها اللَّه بهذه الرحمة". انفرد به، وهو على شرط "الصحيحين"

(2)

.

ثم أورد ابن ماجه ما أخرجاه في "الصحيحين" من طرق عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه كَتَبَ كِتابًا يَوْمَ خَلق السماوات، والأرض: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضبي" وفي رواية: "سبقت غضبي"، وفي رواية:"فهو موضوع عنده على العرش" وفي رواية: "فوق العرش"

(3)

وكلُّها روايات صحيحة.

وقد قال اللَّه تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] هذا إخبار من الملائكة عن اللَّه سبحانه أنه وسع كل [شيء] رحمة وعلمًا. وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)} [الأنعام].

ثم أورد ابن ماجه حديث [ابن أبي ليلى، عن] مُعاذ [بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "يا معاذ]: أتدري ما حقُّ اللَّه على عباده؟ " قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قال: "أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْركُوا به شَيْئًا" ثم قال: "أتدري ما حَقّ العِبادِ على اللَّه إذا هُمْ فعلوا ذلك؟ ألّا يُعَذِّبهم". وهو ثابت في "صحيح البخاري"، من طريق الأسود بن هلال، وأنس بن مالك، عن مُعاذٍ

(4)

.

(1)

رواه البخاري رقم (6469).

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4294).

(3)

رواه ابن ماجه رقم (4295) و (189) والبخاري رقم (7404) و (7453) ومسلم رقم (2751).

(4)

رواه ابن ماجه رقم (4296) والبخاري رقم (7373) و (5967).

ص: 315

وقال ابن ماجه: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، حدَّثنا زيد بن الْحُبَاب، حدَّثنا سُهَيْل

(1)

بن عبد اللَّه، أخو حَزْم القُطَعيّ، حدَّثنا ثابت البُنَانيّ، عن أنس بن مالك، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ أو تلا هذه الآية:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قال: "قال اللَّه تعالى: أنا أهلٌ أن أُتَّقى فلا يُجْعَلَ معي إلهٌ آخر، فَمنِ اتَّقى أنْ يَجْعل مَعي إلهًا آخَرَ فأنا أهلٌ أنْ أغفر له"

(2)

.

وقال ابن ماجه: حدَّثنا هشامُ بنُ عمَّار، حدَّثنا إبراهيمُ بن أعْيَن، حدَّثنا إسماعيلُ بن يحيى الشَّيْبَانيّ، عن عبد اللَّه بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كُنَّا مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غَزَواته، فمَرَّ بقوم فقال:"مَنِ القومُ؟ " ففالوا: نحنُ المسلمون، وامرأةٌ تَحْصبُ تَتورَها، ومعها ابنٌ لها، فإذا ارتفع وَهَجُ التَّنُّور تَنَحَّتْ به، فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: أنت رسولُ اللَّه؟ فقال: "نعم" فقالت: بأبي أنْتَ وأمِّي، ألَيْسَ [اللَّهُ بأرْحَمِ الراحمين؟ قال:"بَلَى" قالت: أوَ لَيْس] اللَّهُ بأرْحَمَ بعبادِهِ من الأمّ بوَلَدِها؟ قال: "بَلَى" قالت: إن الأمّ لا تُلْقي وَلَدَها في النار، فأكبَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَبْكي، ثمَّ رفع رأسه إليها، فقال:"إنَّ اللَّهَ عز وجل لا يُعذِّبُ من عباده إلَّا المارِد المُتمَرِّد الذي يَتَمَرَّدُ على اللَّه، ويأْبى أنْ يقولَ: لا إله إِلَّا اللَّه". إسناده فيه ضعف وسياقُه فيه غرابة

(3)

. وقد قال تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، وقال تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 31 - 34].

وقال البخاريّ: حدَّثنا سعيد بن أبي مَرْيم، حدَّثنا أبو غَسَّان، حدَّثنا زيد بن أسْلَم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبْي قد تَحَلَّب ثَدْيُها، تَسْعَى، وإذا وَجَدَتْ صَبِيًّا في السبي أخذته فألصَقَتْه بِبَطْنها، فأرْضَعَتْهُ، فقال لنا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"أترَوْنَ هذه طارِحةً وَلَدها في النار؟ " قلنا: لا، وهي تقدر على ألّا تطرحه، فقال:"لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بوَلِدها". ورواه مسلم عن حسن الحُلْوانيّ ومحمد بن سهل بن عَسْكَر، كلاهما عن سعيد بن أبي مَرْيم، عن أبي غَسَّان، محمد بن مُطَرِّف به

(4)

. وفي روايةٍ: "واللَّهِ لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها"

(5)

.

ثم قال ابن ماجه: حدَّثنا العبَّاس بنُ الوليد الدّمَشقيّ، حدَّثنا عمرو بن هاشم، حدَّثنا ابنُ لَهيعَةَ،

(1)

في الأصول: سهل.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4299) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه ابن ماجه رقم (4297). أقول: وفي إسناده إسماعيل بن يحيى الشيباني، قال فيه يزيد بن هارون: كان كذابًا.

(4)

رواه البخاري رقم (5999) ومسلم رقم (2754).

(5)

أخرج هذه الرواية ابن أبي الدنيا في "حسن الظن باللَّه" رقم (18).

ص: 316

عن عبد ربِّه بن سعيد

(1)

، عن سعيد الْمقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ النَّار إلّا شَقِيّ" قيل: يا رسول اللَّه، ومَنِ الشقيّ؟ قال:"من لم يعملْ للَّه بطاعةٍ، ولم يَتْرُك له مَعْصية". وفي إسناده هذا ضعف أيضًا

(2)

.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي بُرْدة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ القيامة دَفَع اللَّه عز وجل، إلى كلِّ مُسلم يَهُوديًّا، أو نَصْرانيًّا، فيقول: هذا فِكَاكُكَ من النار"، وفي روايةٍ:"لا يموتُ رجل مُسْلم إلّا أدْخلَ اللَّه مكانَهَ إلى النار يَهُوديًّا أو نصْرانيًّا" قال: فاستحْلف عمرُ بنُ عبد العزيز أبا بُرْدة باللَّه الذي لا إله إلّا هو ثلاثَ مرَّاتٍ أنَّ أباه حدَّثه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهذا، قال: فحلف له. وفي رواية لمسلم أيضًا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يجيء ناس من المسلمين يوم القيامة بذنوب أمثالِ الجِبَال، فيغفرُها اللَّه لهم، ويَضعُها على اليهود، والنصارى"

(3)

.

وقال ابن ماجه: حدَّثنا جُبَارَةُ بن المُغلِّس، حدَّثنا عبد الأعلى بن أبي المُساور، عن أبي بُرْدَة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع اللَّهُ الخَلائِقَ يوم القيامة أُذِنَ لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم في السجود، فيسجدون له طويلًا

(4)

. ثم يُقال: ارفعوا رُؤوسكم، فقد جعلنا عِدّتكم فداءكم من النار"

(5)

.

وقال الطبرانيّ: حدَّثنا محمد بن عثمان بن أبي شَيْبَة، حدَّثنا أحمدُ بن يونس، حدَّثنا سعد أبو غيلان الشيباني، عن حمَّاد بن أبي سُليمان، عن إبراهيم، عن صِلَة بن زُفَر، عن حُذَيْفةَ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لَيَدْخُلَنَّ الْجنَّةَ الفاجرُ في دِينه، الأحمقُ في مَعيشَتِه، والذي نفسي بيده لَيَدْخُلَنّ الْجَنَّةَ الذي قد مَحَشَتْه النار بذَنْبه]، والذي نفسي بيده لَيَغْفرنَّ اللَّهُ يوم القيامة مَغْفرةً يَتطاوَلُ لها إبْليسُ رَجاءَ أن تُصيبَهُ"

(6)

.

‌ذكر من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب

قال البخاريّ: حدَّثنا عِمْرانُ بن مَيْسَرة، حدَّثنا ابن فُضَيْل، حدَّثنا حُصَيْن (ح) وحَدَّثَنَا أَسيد بن زيد، حدَّثنا هُشَيْمٌ، عن حُصَيْن قال: كنتُ عند سعيد بن جُبَيْر، فقال: حدثني ابن عباس قال: قال

(1)

في (أ): عبد اللَّه بن سعيد، والتصحيح من ابن ماجه.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (4298).

(3)

رواه مسلم رقم (2767).

(4)

في الأصل: فسجدوا طويلًا.

(5)

رواه ابن ماجه (4291) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه الطَّبراني في الكبير (3022) وفي إسناده ضعف.

ص: 317

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ فأجد النَّبِيّ يَمرُّ معه الأُمَّةُ، والنبيَّ يَمُرُّ معه النَّفَر، والنبيَّ يمرُ معه العَشَرةُ، والنبيَّ يَمُرّ معه الْخَمسةُ، والنبيَّ يَمُرُّ وحده، فنظرتُ، فإذا سوَادٌ كَثيرٌ، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ أمّتي؟ قال: لا، ولكن انْظُرْ إلى الأُفق، فنظرتُ فإذا سوادٌ كثير، فقال: هؤلاء أُمَّتُكَ، وهؤلاء سبعون ألفًا قُدَّامَهم لا حِسَابَ عَلَيْهم، ولا عذاب، قل: ولمَ؟ قال: كانوا لا يَكْتَوون، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرونَ، وعلى رَبِّهمْ يَتَوكَّلُون" فقام إليه عُكَاشةُ بن مِحْصَن، فقال: ادع اللَّه أن يجْعلني منهم، فقال:"اللهمّ اجعلْه منهم" ثم قام إليه رجل آخر، فقال: ادعُ اللَّه أنْ يجعلني منهم، قال:"سَبَقكَ بها عُكَّاشة". ورواه مسلم، عن سعيد بن منصور، عن هُشَيْم، [به] بنحوه، وهو أطولُ من هذا. ثم أورد البخاريّ ومسلم أيضًا من طريق يونس، عن الزُّهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه، وقال فيه: ثمّ قام رجل من الأنصار، فقال: ادع اللَّهَ أن يجعلني منهم، فقال:"سَبَقكَ بها عُكَّاشة"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، حدَّثنا زُهَيْر بن محمد، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"سألتُ رَبي عز وجل، فوعدني أن يُدْخِل من أُمَّتي الجنة سبعين ألفًا على صورةِ القَمر ليلة البدر، فاستزدتُ، فزادني مع كلّ ألفٍ سبعين ألفًا، فقلت: أي رب، إن لم يك هؤلاء مُهاجري أمَّتي؟ قال: إذًا أُكْمِلَهُمْ لك من الأعراب"

(2)

.

وقال أحمد: حدَّثنا يزيدُ، أخبرنا إسماعيلُ، عن زياد المَخْزومي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نحنُ الأخِرُونَ السَّابقُونَ يوم القيامة، أَوَّلُ زُمْرةٍ من أمّتي تدخل الجنة سَبْعُون ألفًا لا حِساب عليهم، صُورة كل رجل منهم على صورة القمر ليلةَ البدر، ثمَّ الذين يَلُونهم على أشدّ ضَوْءَ كوكب في السماء، ثم هم بعد ذلك منازل". ثم رواه أحمد عن حسن، عن ابن لَهيعَةَ، عن أبي يونس، سُليم بن جُبَير، عن أبي هريرةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحو ما تقدَّم.

وكذا رواه أحمدُ عن ابن مهديّ، عن حمّاد بن سَلَمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وفيه ذِكر عُكَّاشة

(3)

.

ورواه الطَّبراني من حديث إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد، عن أبي أُمامة، كما سيأتي

(4)

.

(1)

رواه البخاري رقم (6541) و (6542) ومسلم رقم (220) و (216).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 359) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 504) و (351) و (302) وإسناده ضعيف. ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(4)

رواه الطَّبراني في الكبير (7520) وهو حديث حسن.

ص: 318

‌حديث آخر

قال البخاريّ: حدَّثنا سعيدُ بن أبي مَرْيم، حدَّثنا أبو غَسّان قال: حدّثني أبو حازم، عن سهل بن سَعْد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أمّتي سَبْعُونَ ألفًا، أو سَبْعُمئِة ألف" شكّ في أحدهما "مُتماسكينَ آخذٌ بَعْضُهم بِبعْضٍ، حتَّى يدخُل أَوَّلُهم وآخِرُهم الجنَّة، وجوههم على ضوء القمر ليلة البدر". وقد رواه البخاريّ ومسلم عن قُتَيْبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، به

(1)

.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد: حدَّثنا هاشم بن القاسم، حدَّثنا المسعوديّ، حدّثني بُكَيْر بن الأخْنَس، عن رجل، عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُعْطيت سبْعين ألفًا يدْخُلونَ الجَنَّة بِغَيْرِ حساب، وُجُوههم كالقَمر لَيْلةَ البدر، وقلوبهم على قَلْبِ رجلٍ واحدٍ، فاستزَدْتُ رَبِّي عز وجل، فزادني مع كلِّ واحدٍ سبعينَ ألفًا". قال أبو بكر: [فرأيتُ] أنَّ ذلك آتٍ على أهل القُرَى، ومُصيبٌ من حَافَاتِ البوادي

(2)

.

‌حديث آخر

وقال أحمد: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا حمّاد، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن ابن مسعود، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُرِيَ الأُمَمَ في الموسم، فراثَتْ

(3)

عليه أُمَّته، قال:"فأُرِيتُ أُمَّتي، فأعجبني كَثْرَتُهم، قد ملَؤوا السَّهْل، والجَبَل، فقيل لي: إن مع هؤلاء سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يكتوُون، ولا يَسْتَرْقُون، ولا يَتَطَيَّرون، وعلى رَبِّهم يتوكَّلون" فقال عكَّاشة: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم، فدعا له، ثمّ قام يَعْني آخَرَ فقال: يا رسول اللَّهِ، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم، فقال:"سَبَقك بها عُكَّاشة"

(4)

. قال الحافظ أيضًا: هذا عندي على شرط [مسلم]

(5)

.

(1)

رواه البخاري رقم (6543) و (6554) ومسلم رقم (219).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 6) وإسناده ضعيف، ولكن لأكثره شواهد.

(3)

أي أبطات، وفي الفاسية: فمرَّت.

(4)

رواه أحمد في المسند (1/ 403) وهو حديث صحيح.

(5)

أقول: عاصم، أخرج له مسلم مقرونًا.

ص: 319

‌طريق أخرى عنه

قال أحمد: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمَرُ، عن قَتَادةَ، عن الحسن، عنِ عمران بن حُصَيْن، عن ابن مسعود، قال: أكْثَرْنا الحديثَ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلةٍ، ثم غَدَوْنا عليه، فقال: "عُرِضَتْ عليّ الأنبياءُ اللَّيْلةَ بأُمَمِها، فجَعل النَّبِيُّ يَمُرُّ ومعه الثلاثةُ، والنبيُّ ومعه العِصَابة، والنبي ومعه النفَرُ، والنبيُّ ليس معه أحد، حتّى مرّ عليَّ موسى معه كُبكُبة

(1)

من بني إسرائيل، فأعجبوني، فقلت: منْ هؤلاء؟ فقيل لي: هذا أخوك موسى، معه بنو إسرائيل" قال: "فقلت: فأيْنَ أُمّتي؟ فقيل لي: انظر عن يمينك، فنظَرْتُ، فإذا الظِّراب

(2)

قد سُدّت بوجوه الرجال [ثم قيل لي: انظر عن يسارك، فنظرت، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل لي: أرضيتَ؟ فقلت: رَضِيتُ يا رَبِّ، رضيتُ يا رب" قال:"فقيل لي: إنّ مع هؤلاء سبعينَ ألفًا يدخلون الجَنَّة بغير حساب" فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فِدًى لكم أبي وأُمِّي، إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفًا فافعلوا، فإنْ قَصَّرتُمْ فكونوا من أهل الظِّراب، فإنْ قَصَّرْتُمْ فكُونوا من أهْل الأفُق، فإنّي قد رأيتُ ثَمَّ ناسًا يتهاوشون، فقام عُكَّاشةُ بنُ مِحْصَنٍ، فقال: ادعُ لي يا رسول اللَّه أن يجعلني من السبعين ألفًا، فدعا له، فقام رجل آخَرُ، فقال: ادعُ اللَّه لي يا رسول اللَّه أنْ يجعلني منهم، فقال: "قد سبقك بها عُكَّاشَة" قال: ثم تحَدَّثنا، فقلنا: منْ ترَوْنَ هؤلاء السَّبعين؟ قالوا: قوم وُلدُوا في الإسلام، لم يُشركوا باللَّه شيئًا، حتّى ماتُوا، فبلغ ذلك رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "همُ الذين لا يَكْتَوُون، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرونَ، وعلى ربِّهم يتوكَّلون"

(3)

.

‌حديث آخر

قال الطَّبراني: حدَّثنا محمد بن محمَّد الجذوعي، حدَّثنا عُقْبةُ بن مكْرَم، حدَّثنا محمد بن أبي عَديّ، عن هشام بن حَسَّان، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حُصَيْن؛ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يدْخُلُ الْجنَة منْ أُمَّتي سبعون ألفًا بغير حساب، ولا عذاب" قيل: ومنْ هم يا رسول اللَّه؟ قال: "همُ الذين لا يكتوون، ولا يَسْتَرْقُون، ولا يَتَطيَّرون، وعلى ربِّهم يَتَوكَّلون". ورواه مسلم عن يحيى بن خَلَف، عن المُعْتمر، عن هشام بن حَسّان، به، وعنده ذِكْرُ عُكَّاشة، وليس

(1)

الكبكبة: الجماعة المتضامة من الناس.

(2)

الظراب: الجبال الصغار.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 401) ومعمر في جامعه الملحق بمصنّف عبد الرزاق (19519) وهو حديث صحيح.

ص: 320

عنده في هذه الرواية: "يتطيَّرون". وقال الحافظ الضياءُ: وقد رُوي عن عمرانَ من غير طريق

(1)

.

‌حديث آخر

قال أحمد: حدَّثنا رَوْحُ بنُ عبادة، حدَّثنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزُّبَيْر: أنّه سمع جابر بن عبد اللَّه قال: سمعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . فذكر حديثًا، وفيه:"فتنجو أوّل زُمْرةٍ، وُجوههم كالقمر لَيْلةَ البَدْر، سبعون ألفًا لا يُحاسبُونَ، ثم الذين يَلُونهم كأضْوأ نجْمٍ في السماء" كذلك، وذكر تقئته.

ورواه مسلم، من حديث رَوْح، ولم يَرْفَعْهُ، وقد روَى البزار عن عمر بن إسماعيل بن مُجَالدٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن الشَّعْبي، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو الذي قبله سواء

(2)

.

‌حديث آخر

قال البزّارُ: حدَّثنا محمد بن مِرْداس، حدَّثنا مبارك، عن عبد العزيز بن صُهَيْبٍ، عن أنس، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:"سبعون ألفًا من أُمَّتي يَدْخُلون الْجنَّةَ بغير حساب، هُمُ الَّذين لا يَكْتَوون، ولا يَسْتَرقُون، ولا يَتَطيَّرُونَ، وعلى ربِّهم يتوكلون"

(3)

.

‌حديث آخر

قال البزّار: حدَّثنا محمد بن عبد الملك، حدَّثنا أبو عاصم العبَّاداني، حدَّثنا حُمَيْدٌ، عن أَنَس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يدخل الْجنَّة من أُمَّتي سبعون ألفًا، مع كلِّ واحد من السبعين ألفًا سبعون ألفًا"

(4)

وهذا يحتمل أن يكون مع كل واحدٍ من الألوف، وَيحْتملُ أنْ يكونَ مع كُلِّ واحدٍ من الآحاد، وهو أشمل، وأكثر.

وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمر، عن قَتادَةَ، عن أنس، أو عن النضر بن أنس، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه عز وجل، وعدني أنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ من أُمَّتي أربعمئة ألف" فقال أبو بكر رضي الله عنه: زِدْنا يا رسول اللَّه، قال:"وهكذا" وجمع كفَّيه، فقال: زدنا يا رسول اللَّه، قال:"وهكذا " فقال عمر: حَسْبُك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دَعْني يا عُمر،

(1)

رواه الطَّبراني في الكبير (18/ 427) ومسلم رقم (218).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 383) ومسلم رقم (191) والبزار رقم (3541)"كشف الأستار".

(3)

رواه البزار رقم (3545 - كشف الأستار) وفيه مبارك أبو سحيم، وهو متروك، ولكن للحديث شواهد بمعناه، فهو بها حسن.

(4)

رواه البزار (3547 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد منها رواية أبي يعلى الآتية.

ص: 321

وما عَليك أن يُدْخِلنا اللَّهُ عز وجل الْجَنَة كُلَّنا؟ فقال عمر: إن اللَّه عز وجل إن شاء أدخَل خلْقَه الْجنَّة بكفٍّ واحد. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمر"

(1)

.

‌طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه

قال الحافظ أبو يَعْلى: حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا عبد القاهر بن السرِيّ السُّلمِيّ، حدَّثنا حُمَيْدٌ، عن أنس، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يدخُل الْجنَّة من أُمَّتي سبعون ألفًا"، قالوا: زِدْنا يا رسول اللَّه، قال:"لِكُلِّ رَجُلٍ سبعون ألفًا"، قالوا: زِدْنا [يا رسول اللَّه]، وكان على كَثيبٍ فحَثَى بِيَديْهِ، قالوا: زِدْنا يا رسول اللَّه، فقال: وهكذا، وحَثى بِيَدهِ، قالوا: يا نبيَّ اللَّهِ، أبْعَدَ اللَّهُ منْ دَخَلَ النَّارَ بَعْد هذا". قال الحافظ الضياء: لا أعْلَمهُ رُوي عن أنس إلَّا بهذا الإسناد. وقد سُئلَ ابنُ مَعين عن عبد القاهر، فقال: صالح

(2)

.

‌حديث آخر غريب

قال الطبرانيّ: حدَّثنا محمد بن صالح بن الوليد النَّرْسِي، ومحمد بن يحيى بن مَنْدَةَ الأصْبَهاني، قالا: حدَّثنا أبو حفص عمرو بن على، حدَّثنا مُعاذُ بن هشام، حدّثني أبي، عن قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عُمَير، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ اللَّه تعالى وَعَدني أنْ يُدْخِلَ من أمّتي ثلثمئة ألفٍ الجَنَّةَ" فقال عُمَيْر: يا رسول اللَّه، زِدْنا، فقال: وهكذا بِيَدِه، فقال عُمَير: يا رسول اللَّه، زِدْنا، فقال عُمر: حَسْبُك يا عُمَيْر، فقال: ما لنا ولك يا ابن الخطاب، وما عليك أن يُدْخِلَنا اللَّهُ الجَنة؟ فقال عمر: إنَّ اللَّهَ إنْ شاء أدْخَل النَّاسَ الْجَنةَ بحَفْنةٍ أو بحَثْيةٍ واحدة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صدق عُمر". قال الحافظ الضياءُ: لا أعرف لعُمَيْر حدِيثًا غيرَه

(3)

.

‌حديث آخر

قال أبو بكر بن أبي شَيْبَة: حدّثنا إسماعيلُ بن عَيَّاش، سمعت محمد بن زياد، يُحدِّثُ عن أبي أُمَامةَ الباهليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (ح) وقال الطَّبراني: حدَّثنا أحمدُ بن المُعلَّى الدِّمَشْقيّ، والحُسَيْنُ بن إسحاق التُّسْتَرِيّ، قالا: قال هِشَامُ بن عَمَّار: حدَّثنا إسماعيلُ بن عَيَّاش، أخبرني محمد بن زياد،

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 165) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20556) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أبو يعلى رقم (3783) وهو حديث حسن.

(3)

رواه الطَّبراني في الكبير (17/ 123) وفي إسناده ضعف.

ص: 322

قال: سمعت أبا أُمَامةَ، يقول: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "وعدني ربي أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ من أُمَّتي سبعينَ ألفًا، مع كل ألف سبعين ألفًا لا حساب عليهم، ولا عذاب، وثلاث حثيات من حَثَياتِ رَبِّي عز وجل". واللفظ لابن أبي شَيْبَةَ، وليس عند الطَّبرانيّ:"مع كل ألف سبعين ألفًا"

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

قال أبو بكر بن أبي عاصم: حدَّثنا دُحَيْم، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا صَفْوانُ بن عمرو، عن سُلَيْم بن عامر، وأبي

(2)

اليَمانِ الهَوْزَنيّ، عن أبي أمامة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ اللَّهَ وَعدَني أن يُدْخِلَ الْجنَّةَ من أُمَّتي سبعين ألفًا بغير حساب" قال يزيد بن الأخنس: واللَّه ما أولئك في أُمَّتك يا رسول اللَّه إلَّا مثلَ الذُّبَابِ الأصْهَبِ في الذِّبَّان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فإنَّ اللَّهَ قد وَعدني سَبْعينَ ألفًا مع كُلِّ ألف سبعينَ ألفًا، وزادني ثلاثَ حَثَياتٍ". قال الضياء: رِجَالُه رِجالُ الصحيح، إلَّا الهوْزَنِيّ، واسمه عامر بن عبد اللَّه بن لُحَيّ، وما علمتُ فيه جَرْحًا

(3)

.

‌حديث آخر

قال الطبرانيّ: حدَّثنا أحمد بن خُلَيْد، حدَّثنا أبو تَوْبَة، حدَّثنا معاوية بن سَلَّام، عن زيد بن سَلَّام: أنَّه سمع أبا سلَّام، يقول: حدّثني عامر بن زيد البِكَالِيّ: أنّه سمع عُتْبةَ بن عَبْدِ السُّلميّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبِّي وعدني أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ من أُمَّتي سَبْعِينَ ألفًا بغير حساب، ثُمَّ [يَشْفَع] كلُّ ألف لسبعين ألفًا، ثم يَحْثي رَبي تعالى بكفيْهِ ثَلاثَ حَثياتٍ" فكبَّر عمر، وقال: إنَّ السبعين الأُولى، يُشَفِّعُهم [اللَّهُ] في آبائهم، وأبْنائهم، وعَشائرِهم، وأرجو أن يَجْعَلني اللَّهُ في أحدِ الحَثَياتِ الأوَاخر. قال الحافظ الضياء: لا أعلمُ لِهذَا الإسناد عِلَّة، واللَّه أعلم

(4)

.

‌حديث آخر

قال الإمامُ أحمد: حدَّثنا يحيى بن سَعِيد، حدَّثنا هِشامٌ يعنِي الدَّسْتُوائي، حدَّثنا يحيى بن أبي كَثير، عن هِلال بن أبي مَيْمونةَ، عن عطاء بن يسار، أن رِفَاعَةَ الْجُهَنيِّ حَدَّثه، قال: أقبلنا مع

(1)

رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 11760) والطبراني في الكبير (7520) وأخرجه ابن ماجه (4286) عن هشام بن عمار، وهو حديث صحيح.

(2)

في الأصول: عن أبي اليمان.

(3)

رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم (588) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه الطَّبراني في الكبير (17/ 312) وهو حديث حسن.

ص: 323

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتّى إذا كُنّا بالكَديد أو قال: بقُدَيْدٍ، فذكر حديثًا فيه: ثم قال: "وعدني رَبّي عز وجل أن يُدْخِلَ الجنَّةَ من أُمَّتي سبعين ألفًا، بغير حساب، وإني لأرْجُو ألّا يدخلوها حتى تبوؤُوا أنتم، ومن صَلَح من أزْواجِكُم وذَرَارِيكم مَساكِنَ في الْجنَّة". ورواه يعقوبُ بن سفيان، عن آدم بن أبي إياس، عن شَيْبانَ، عن يحيى بن أبي كَثير، به، قال الحافظ الضياء: هذا عندي على شرط الصحيح، واللَّه أعلم

(1)

.

‌حديث آخر

قال الطَّبراني: حدَّثنا عمرو بن إسحاق بن زِبْريق

(2)

الحِمْصي، حدَّثنا محمد بن إسماعيل، حدّثني أبي، عن ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عُبَيد، عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثَوْبان قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ رَبِّي وعدني من أُمَّتي سبعين ألفًا لا يحاسَبُونَ، مع كُلِّ ألف سبعونَ ألفًا"

(3)

.

‌حديث آخر

قال الطَّبرانيّ: حدَّثنا أحمد بن خُلَيْد، حدَّثنا أبو تَوْبَة، حدَّثنا معاوية بن سَلَّام، عن زيد بن سَلَّام: أنه سمع أبا سَلَّام، يقول: حدّثني عبد اللَّه بن عامر: أن قَيْسًا الكِنْديّ حدَّثه: أن أبا سعيد الأنْماريّ

(4)

حَدَّثه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ رَبِّي عز وجل وعدني أن يُدْخِلَ الجنة من أُمَّتي سبعين ألفًا بغير حساب، ويَشْفَعَ كُل ألفٍ لسبعين ألفًا، ثم يَحْثي رَبِّي ثَلاثَ حَثَياتٍ بكَفَّيْه" قال قيس: فقلت لأبي سعيد: أنت سمعتَ هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم بأُذُنَي، ووعاه قلبي. قال أبو سعيد: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وذلك إن شاء اللَّه يَسْتَوْعبُ مُهَاجِري أُمَّتي، ويُوفَي اللَّهُ بَقِيَّتَه من أعْرَابنا" قال الطَّبراني: لم يُرْوَ عن أبي سعيد الأنماريّ إلّا بهذا الإسناد، تفرَّد به معاوية بن سَلَّام.

وقال الحافظ الضياء: وقد رواه محمد بن سَهْل بن عسكر، عن أبي تَوْبَة الرَّبيع بن نافع، بإسناده، قال أبو سعيد: فحُسِبَ [ذلكَ] عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبلغ أرْبَعَةَ آلافِ ألفِ ألفٍ وتسعمئةِ

(5)

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 16) وابن ماجه رقم (4286) وهو حديث صحيح.

(2)

في (أ): زريق، وفي الفاسية: زبزيق، وهما خطأ.

(3)

رواه الطَّبراني في "المعجم الكبير"(1413) وفي إسناده ضعف، ولكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها.

(4)

في المعجم الكبير: أبا سعد الأنصاري، وأورده عنه الهيثمي وقال: رواه الطَّبراني في الكبير والأوسط، إِلَّا أنه قال في الأوسط: أبو سعيد الأنماري، ويقال له: أبو سعيد الخير الأنماري، قال الحافظ في "الإصابة" فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند.

(5)

في بعض النسخ: سبعمئة.

ص: 324

ألف، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّ ذلك يَسْتَوْعبُ إن شاء اللَّه مهَاجري أُمَّتي"

(1)

.

‌حديث آخر

قال البزّار: حدَّثنا محمود بن بكر، حدَّثنا أبي، عن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عَطِيَّة، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تدْخلُ الْجَنة من أُمَّتي سبعونَ ألفًا لا حسابَ عليهم" فقام عُكَّاشةُ فقال يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهَ أن يَجْعَلني منهم، فقال:"اللهم اجعله منهم" فقال رجل آخر: ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم، قال:"اللَّهمّ اجعلْهُ منهم" فسكت القوم، ثم قال بعضهم لِبَعْضٍ: لو قُلْنا: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهَ أن يَجْعَلَنا منهم، قال:"سَبقكمْ بها عُكَّاشةُ وصاحِبُه، أما إنَّكُمْ لو قلتم لقلتُ، ولو قلت لوَجَبَتْ"

(2)

.

‌حديث آخر رواه البيهقيّ في كتاب "البعث والنشور" من حديث الضحاك بن نبراس

حدّثني ثابتُ بنُ أسلم البُنَانيّ، عن أبي يَزيد المَدينيّ، عن عمرو بن حزم الأنْصاريّ، قال: تَغَيَّب عَنَّا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، لا يخرُج إلَّا لِصَلاةِ مكتوبة، ثم يَرْجِعُ. فلمَّا كان يوم الرابع خرج إلَيْنا، فقلنا: يا رسول اللَّه احْتبسْتَ عنّا، حتَّى ظَنَنَّا أنه قد حدث حدَثٌ؟ فقال:"إنه لم يَحْدُث إلّا خير، إنَّ ربِّي عز وجل وعدني أنْ يُدْخلَ الْجنَّة من أُمَّتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم، وإنِّي سألتُ ربّي في هذه الثلاثة الأيام المزيد فوجدتُ رَبِّي واجدًا ماجدًا كَريمًا، فأعطاني مع كل واحدٍ من السبعين ألفًا سَبْعينَ ألفًا" قال: "قلت: يا رَبّ، وتبلُغ أُمَّتي هذا؟ قال: أُكْمل لكَ العَدّدَ من الأعراب". الضحّاك هذا قد تَكَلَّموا فيه، وقال النسائي: متروك.

وتقدّم في أحاديث الحوض من حديث سعيد، عن حُذَيْفَة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث طويل كما تقدّم، وفيه:"وَبَشَّرَني أنّ مَعي سبعينَ ألفًا، مع كُلِّ ألفٍ سبعون ألفًا ليس عليهم حِساب". رواه أحمد

(3)

.

وذكر ابن الأثير في ترجمة عامر بن عُمَيْر، وكان قد شهد حَجَّةَ الوداع، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي وَجَدْت رَبِّي ماجِدًا أعْطَاني سَبْعينَ ألفًا يَدْخُلونَ الْجنَّة بغير حساب، مع كلِّ واحدٍ سبعونَ

(1)

رواه الطَّبراني في "الكبير" و"الأوسط" رقم (406).

(2)

رواه البزار (3550 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه احمد في المسند (5/ 393) وإسناده ضعيف بطوله، لكن هذه الجملة لها شواهد كما تقدّم.

ص: 325

ألْفاً، فقلت: إن أُمَّتي لا تبلغ هذا؟ فقال: أكْمِلُهم لك من الأعراب" قال: رواه ثابتٌ البُنَانيّ، عن أبي يزيد المَدنيّ، عنه

(1)

.

‌حديث آخر

قال الطبراني: حدّثنا هاشمُ بن مَرْثَد الطبرانيّ، حدّثنا محمد بن إسماعيل بن عيَّاش، حدّثنا أبي، حدّثني ضَمْضَمُ بن زُرْعةَ، عن شُرَيْح بن عُبَيْد، عن أبي مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والَّذي نفس محمَّد بيده لَيَبْعَثنَّ اللهُ منكم يومَ القيامة إلى الْجنّة مِثلَ اللّيْلِ الأسْود زُمْرةً جميعها يَخبطُونَ الأرْضَ، تقول الملائكةُ: لَمَا جاء مع محمدٍ أكثر مِمَّا جاء مع الأنبياء"

(2)

.

‌ذكر كيفية تفرق العباد عن موقف الحساب، وما إليه أمرهم يصير ففريق في الجنة، وفريق في السعير

قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:14 - 16]. وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:27 - 37] وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ

(1)

ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 410) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني. أقول: وشيخه هاشم بن مرثد الطبراني، ضعيف.

(2)

رواه الطبراني في الكبير (3455) وإسناده ضعيف، وفي حاشية الفاسية: آخر الجزء الثاني من خط المؤلف.

ص: 326

رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 69 - 75]. وذكر أن هؤلاءَ سيقوا إلى الجنة، وهؤلاء [سيقوا] إلى جهنم بعد [موقف] الحساب [وانصرافهم عنه] وقال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108]. وقال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن: 9 - 10]. وقال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 85 - 87]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106 - 107].

والآيات في هذا كثيرة جداً، ولنذكر من الأحاديث ما يُناسب هذا المقام، وهي مشتملة على مقاصدَ كثيرةٍ غيرِ هذا الفصل، وسَنُشير إليها.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا محمد بن عُثْمان العِجْليّ، حدّثنا أبو أُسامةَ، عن مالك بن مِغْوَل، عن القاسم بن الوليد في قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34]. قال: حين سيق أهلُ الجنَّة إلى الْجَنَّة، وأهلُ النَّار إلى النار.

‌إيراد الأحاديت في ذلك

قال البخاريّ: حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شُعَيْبٌ، عن الزهريّ، أخبرني سَعيد، وعطاء بنُ يَزيد، أنّ أبا هريرة أخبرهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وحدّثني محمود، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن الزهريّ، عن عَطاءِ بن يزيد اللَّيْثيّ، عن أبي هريرة، قال: قال أُناس: يا رسول الله، هَلْ نَرَى رَبّنا يوم القيامة؟ فقال:" هل تُضارُّون في رؤية الشمس ليس دُونها سَحابٌ؟ " قالوا: لا، يا رسول الله، قال:"هل تُضارُّونَ في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا، يا رسول الله، قال:

ص: 327

"فإنّكمْ تَرَوْنهُ يَوْمَ القيامة كذلك، يجمعُ الله الناسَ فيقول: من كان يَعْبُدُ شَيْئاً فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتبَعُ من كان يَعْبُد الشمس الشمس، ويتبعُ منْ كانَ يَعْبُدُ القَمرَ القَمَر، ويَتبعُ منْ كان يعبُدُ الطواغيت الطّواغيتَ، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا رَبّكم، فيقولون: نعوذُ بالله منك، هذا مكانُنَا حتّى يَأْتينا رَبُّنا، فإذا جاء رَبّنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا رَبُّكم، فيقولون: أنْتَ رَبُّنَا، فيتبَعُونه ويُضْرَبُ جِسْرُ جَهنَّم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكونُ أنا وأمتي أوَّلَ منْ يُجيزُ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودُعاءُ الرُّسُل يومئذٍ: اللهمّ سَلِّم سَلِّم، وفيه كلاليبُ مثل شَوْك السَّعْدان، أما رأيتم شعَوْك السّعْدان؟ " قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: "فإنَّها مثلُ شَوْك السّعْدانِ، غيرَ أنّها لا يَعْلمُ قَدْر عِظَمها إلا الله تعالى، فتخْطَفُ النَّاسَ بأعمالهم، فمِنْهُمْ المُوبَقُ بعَمله، ومنهمُ الْمُخَردل

(1)

، ثم ينجو، حتَّى إذا فرغ اللهُ من القضاء بَيْن عباده، وأراد أن يُخْرِجَ من النار منْ أراد أن يُخرجه، ممَّنْ كانَ يَشْهدُ أنْ لا إله إلا الله، أمر الملائكة أنْ يُخْرِجُوهم، فيَعْرفُونَهم بعَلامَةِ آثارِ السّجود، وحرَّم الله على النار أن تَأكُلَ منِ ابن آدمَ أثَر السجود، فيُخْرِجُونهم قد امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عليهم ماءٌ، يُقال له: ماءُ الحياة، فيَنْبُتُونَ نباتَ الحِبَّةِ في حَميل السَّيْل، ويَبْقَى رَجُلٌ مُقْبلٌ بوجْهه على النار، فيقول: يا رَبّ، قد قشَبَني

(2)

ريحُها، وأحرقني ذكاؤها

(3)

، فاصرف وَجْهِي عن النار، فلا يزالُ يدعُو اللهَ فيقول: لعلّك إنْ أعْطيتُك ذلك تَسْألني غَيْرَه؟ قيقول: لا، وعِزّتِكَ لا أسالُكَ غيرَه، فيَصْرِفُ وَجْههُ عنِ النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رَبّ، قرِّبْني إلى بَابِ الْجنَّة، فيقول: ألَيْسَ قد زَعَمْتَ ألاّ تَسْألَني غيرَه؟ ويْلَكَ يا ابن آدم، ما أغْدَركَ، فلا يزال يَدْعو، فيقوله: لَعليّ إن أعطيتُك ذلك تسألني غيرَه؟ فيقول: لا، وعِزَّتِكِ، لا أسألُكَ غيرَه، فيُعْطي اللهَ من عُهودٍ ومَواثيقَ ألَّا يسَأَلَهُ غيرَه، فيُقَرّبه إلى باب الجنَّة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أنْ يَسكُتَ، ثم يقول: رَبّ أدْخلْني الْجنّة، فيقول: أولَيْسَ قد زَعَمْتَ ألّا تَسألني غيرَه؟ وَيْلَكَ يا ابن آدم، ما اْغْدرَك! فيقول: يا رَبِّ، لا تَجْعَلني أشْقَى خَلْقِكَ، فلا يزال يدعو اللهَ حتى يضْحَكَ الله منه، فإذا ضَحِك منه أَذِنَ له بالدخول فيها، فإذا دَخَلَ فيها قيل له: تَمَنَّ [منْ كذا]، فيتمنّى، ثم يقالُ له: تمنَّ من كذا، فيتمَنّى، حتّى تَنقطع به الأماني، فيقول: هذا لك، ومثلُه معه"، قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخرُ أهْلِ الْجَنَّة دُخُولًا الْجَنّة. قال: وأبو سعيد الخُدْريُّ جالسٌ مع أبي هريرة لا يُغَيِّر عليه شيئاً من حديثه، حتى إذا انتهى إلى قوله: "هذا لك ومثله معه"، قال أبو سعيد: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا لك وعَشَرةُ أمثاله"، قال أبو هريرة: ما حفظت إلا: "ومثله معه". وهكذا رواه

(1)

المخردل: المصروع المطروح في النار.

(2)

أي آذاني.

(3)

أي التهابها.

ص: 328

البخاريّ من حديث إبراهيم بن سعْدٍ، عن الزهريّ، به، وزاد: فقال أبو سعيد: أشْهَدُ أنِّي حَفِظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ذَلِكَ لكَ وعَشَرةُ أمثاله"

(1)

. وهذأ الإثباتُ من أبي سعيد مُقدَّمٌ على ما لم يَحْفَظه أبو هريرة، حتى ولو نفاه أبو هريرة قدَّمنا إثباتَ أبي سعيد، لمَا معه من زيادة الثِّقَةِ المقبولةِ، لا سيَّما وقد تابعه غيرُه من الصحابة، كابن مسعود، كما سيأتي قريباً إنْ شاء الله تعالى.

وقال البخاريّ: حدّثنا يحيى بن بُكَيْر، حدّثنا اللَّيثُ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هِلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدْريّ، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى رَبَّنا؟ قال:" هل تضارُّونَ في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر إذا كانت صَحْواً؟ " قلنا: لا، قال:"فإنكم لا تُضارُّونَ في رؤية ربكم إلا كما تُضارُّونَ في رؤيتهما" قال: "ثم ينادي مُنادٍ: لِيَذْهبْ كلُّ قومٍ إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحابُ الصليب مع صليبهم، وأصحابُ الأوثان مع أوثانهم، وأصحابُ كُلِّ آلههٍ مع آلهَتِهمْ، حتّى لا يَبْقَى إلا منْ كان يَعْبُد اللهَ مِنْ بَرٍّ أوْ فاجِرٍ، وغُبَّراتُ

(2)

من أهل الكتاب، ثم يُؤتى بجهنم تُعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عُزَيرًا ابنَ الله، فيقال لهم: كَذَبْتُمْ، لمِ يكن لله صاحِبَةٌ، ولا وَلَد، فما تريدون؟ قالوا: نُريد أن تَسْقيَنا" قال: "فيقال: اشْرَبُوا، فيَتَساقَطُون في جهنَّم، ثم يقال للنّصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كُنَّا نَعْبُدُ المسيحَ ابنَ اللهِ، فيُقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صَاحبةٌ ولا وَلَدٌ، فيقال: ما تريدون؟ فحقولون.: نريد أن تسْقيَنا، فيُقال: اشربوا، فيَتَساقطُونَ فيها حَتَّى لا يَبْقَى إلا من كان يَعْبُدُ اللهَ تعالى منْ برٍّ أو فَاجِرٍ، فيقال لهم: ما يُجلسكم وقد ذهب الناس، فيقولون: إن لنا إلهاً كنا نعبده فارقنا الناس ونحن أحوجُ منّا إليه اليوم، وإنَّا سَمعنا مُنادياً يُنادي: لِيَلْحقْ كُلُّ قَوْم بما كانوا يعبدون، وإنّنا نَنْتَظرُ رَبَّنا عز وجل، قال: فيأتيهم الجَبّارُ عز وجل في صورةٍ غيرِ صورته التي رَأوْهُ فيها أوَّل مَرَّة، فيقول: أنا رَبُّكُمْ، فيقولون: أنْتَ رَبُّنا، ولا يُكَلِّمُه [يومئذ] إلّا الأنْبياء، فيقال: هل بينكم وبينه علامة تعرفونها بها، فيقولون: الساقُ، فيَكْشِفُ عن ساقِهِ فَيَسْجُد لَهُ كُلُّ مُؤْمن، وَيَبْقى منْ كان يَسْجُد للهِ رِياءً وَسُمْعةً، فيَذْهَبُ كَيْما يَسْجُدَ، فيعودُ ظَهْرُه طَبَقاً وَاحِداً، ثم يُؤْتى بالجِسْر فيُجعل بَيْنَ ظَهْريْ جَهنَّم " قلنا: يا رسول الله، وما الجِسْر؟ قال: "محَدْحضةٌ مَزَلَّة، عليه خَطَاطيفُ وكَلاليبُ، وحَسَكةٌ مُفْلطَحةٌ لها شَوْكةٌ عَقيفةُ

(3)

تكونُ بِنَجْدٍ، يُقالُ لهَا: السَّعْدانُ، المؤمنُ عليها كالطَّرْف، وكالبرق، وكالرّيح، وكأجاويدِ الْخَيْلِ، والرِّكاب، فناج مُسَلّم، وناج مَخْدُوش، ومكدوس

(4)

في نار جهنم، حتى يَمُرّ آخِرُهم، يُسْحَبُ سَحْباً، فما أنتم بأشدَّ

(1)

رواه البخاري (6573) و (7437).

(2)

غُبَّرات، جمع غُبَّر، وغُبَّر، جمع غابر، وهو الباقي.

(3)

أي معقوفة وملويَّة.

(4)

أي مدفوع.

ص: 329

لي مُناشدةً في الْحَقِّ، قد تَبيَّن لكم من المؤمنين يَوْمئذٍ للجَبَّار، إذا رأوا أنَّهم قد نَجَوْا، في إخوانهم، يقولون: رَبّنا إخوانُنا كانوا يُصلُّون مَعَنا، ويَصُومُون مَعَنا، ويَعْمَلونَ مَعَنا؟ فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتُمْ في قلبه مِثْقال دينار من إيمان فأخرجُوهم، وُيحَرِّمُ الله صُوَرَهم على النار، [فيأتونهم] وبعضهم قد غاب في النار إلى قدميه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخْرِجُونَ منْ عَرفُوا، ثم يعودون، فيقول: اذْهَبُوا فمنْ وجدْتُمْ في قلبه مِثقالَ نِصْف دينارٍ، فأخْرِجُوه، فيُخْرجُون منْ عَرفُوا. ثم يَعُودون، فيقول: اذْهبُوا فمنْ وَجَدْتُم في قلبه مِثْقال ذَرَّةٍ من إيمان فأخرجوه، فيُخْرجُونَ منْ عَرفُوا، قال أبو سعيد: فإن لم تُصَدّقوني، فاقرؤوا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] فيَشْفعُ النَّبيُّون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبَّارُ عز وجل: بقِيَتْ شَفَاعَتي، فيَقْبضُ قَبْضةً، فيُخْرِجُ أقواماً قد امْتَحشُوا فيُلْقَوْنَ في نَهْرٍ بأفواهِ الجنَّة، يقال له: نهر الحياة، فيَنْبُتُونَ في حافَتيه كما تنبت الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيْلِ، قد رَأيْتُموها إلى جانب الصّخْرَةِ، وإلى جانب الشَّجَرَةِ، فما كانَ إلى الشمس منها كان أخضرَ، وما كان منها إلى الظِلِّ كانَ أبيضَ، فيخْرجُون كأنَّهم اللؤلؤُ، فيُجْعلُ في رقابهم الخواتيمُ، فيَدْخُلونَ الجنَّة، فيقول أهلُ الجَنَّة: هؤلاء عُتقاءُ الرَّحْمنِ، أدخَلهُم الجنة بِغَيْرِ عمل عَمِلُوه، ولا خَيْرٍ قَدّموه، فيقال لهم: لكُمْ ما رأيتُم ومِثلُه معه"

(1)

.

وقال مسلم: حدّثنا عُبَيد الله بن سعيد، وإسحاق بن منصور، كلاهما عن رَوْح، قال عُبَيْدُ الله: حدّثنا رَوْح بنُ عُبادَةَ القَيْسيّ، حدّثنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزُّبَيْر: أنّه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود، فقال: نجيءُ نحنُ يوم القيامة عن كذا وكذا -انظر: أيْ ذلك فوق الناس

(2)

- قال: فَتُدْعى الأمم بأوثانها، وما كانت تَعْبُد، الأول فالأول، ثمَّ يأتينا رَبُّنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر رَبّنا، فيقول: أنا رَبُّكم، فيقولون: حتَّى ننْظُرَ إليكَ، فيَتَجلَّى لهم، يَضْحَكُ" قال: "فينطلق بهم، وَيتَبعُونه، ويُعْطى كلّ إنسان منهم منافقٍ، أو مؤمنٍ نُوراً، ثم يتَّبعونه. وعلى جسر جَهنَّم كَلاليبُ، وحَسَكٌ، تَأْخُذُ منْ شاءَ اللهُ، [ثم] يُطْفأ نور المُنافقين، ثم يَنْجو المؤمنون، فَتَنْجو أوَّلُ زُمْرةٍ، وجوهُهُم كالقمر ليلة البدر، سَبْعُونَ ألفاً لا يُحاسَبُونَ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ، كأضْوأ نَجْم في السماء، ثم

(1)

رواه البخاري رقم (7439).

(2)

جاء في "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي (1/ 369) طبع دار العلوم الإنسانية بدمشق ما نصه: "هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من "صحيح مسلم" واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ. قال الحافظ عبد الحق في كتابه: هذا الذي وقع في "كتاب مسلم" تخليط من أحد الناسخين، أو كيف كان. قال القاضي عياض: هذه صورة الحديث في جميع النسخ، وفيه تغيير كثير وتصحيف، قال: وصوابه: نجيء يوم القيامة على كوم، هكذا رواه بعض أهل الحديث، وفي كتاب ابن أبي خيثمة من طريق كعب بن مالك: "يحشر الناس يوم القيامة على وتلٍّ وأمتي على وتلٍّ". وذكر الطبري من حديث ابن عمر: فيرقى هو -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس. وانظر بقية كلامه عليه هناك.

ص: 330

كذلك، ثم تَحلّ الشَّفَاعةُ، فيشفعون، حتَّى يخرُج من النار منْ قال: لا إله إلا اللهُ، وكان في قلبه من الْخَيْر ما يَزِنُ شَعيرةً، فيُجْعَلُونَ بِفِناءِ الْجنَّة، ويَجعْلُ أهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عليهم الماءَ، حتَّى يَنبُتوا نَباتَ الشَّيْءِ في السَّيْل، وَيَذْهبُ حُراقُه ثم يَسألُ حتَّى تُجْعلَ لَهُ الدُّنيا، وعَشَرةُ أمثالها معها

(1)

.

وقال مسلم: حدّثنا محمد بن طَريف بن خَلِيفَة البَجَليّ، حدّثنا محمد بن فُضَيْلِ، حدّثنا أبو مالك الأشْجَعيّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأبو مالك، عن رِبْعيٍّ، عن حُذيْفَةَ، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللهُ تعالى الناس، فيقوم المؤمنون حين تُزْلَفُ لَهمُ الْجنّة، فيأتُون آدمَ، فيقولون: يا أبانا، استفتحْ لنا الْجنَّة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنَّةِ إلّا خطيئةُ أبيكم آدم؟ لستُ بصاحب ذلك، اذْهَبُوا إلى ابني إبراهيم، خليلِ اللهِ" قال: "فيقول إبراهيم عليه السلام: لست بصاحب ذلك، إنّما كنتُ خَليلاً من وراءَ وراءَ، اعْمِدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليماً، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى، كلمة الله ورُوحه، فيقولُ عيسى صلى الله عليه وسلم: لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى محمد فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقوم ويُؤذَن له، وتُرْسلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فيَقُومانِ جَنَبَتَي الصِّراطِ يَميناً وشمالاً، فيَمرُّ أوَّلُكم كالْبَرْقِ" قال: قلت: بأبي أنْتَ وأمِّي، أيُّ شيءٍ كمَرِّ البرق؟ فقال: " ألم تَرَوْا إلى البرق، كيفَ يَمُرّ، ويَرْجعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمّ كَمَرِّ الريح، ثم كمَرِّ الطَّيْر، وشَدِّ الرجال

(2)

، تجري بهمْ أعمالُهم، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رَبِّ سلِّمْ سلِّمْ، حتى تَعْجِزَ أعمالُ العِباد، حتى يَجِيء الرَّجُلُ فلا يستطيع السَّيْر إلّا زَحْفاً "، قال: " وفي حافَتي الصِّراط كَلاليبُ مُعلَّقةٌ مأْمورةٌ تأخُذُ منْ أُمِرَتْ به، فمَخْدوشٌ نَاجٍ، ومكدوس في النار " والذي نَفْسُ أبي هريرة بيده، إنَّ قَعْرَ جَهنَّم لَسَبعُونَ خريفاً

(3)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا أبو خَيْثمة، حدّثنا عفَّانُ بن مسلم، حدّثنا حمَّادُ بن سَلَمة، عن عليّ بن زيد، عن عُمَارة القرشيّ، عن أبي بُرْدةَ، عن أبي موسى الأشعَريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَحْشُرُ اللهُ الأممَ في صعيدٍ واحدٍ، فإذا أراد أن يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ مَثَّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ ما كانُوا يَعْبُدُون، فَيَتَّبعُونَهُمْ حتى يُقْحمُونهم النار، ثم يأتينا ربُّنا، ونَحْنُ في مكان رفيعٍ، فيقول: ما أنتم؟ فنقول: نحنُ المسلمون، فيقول: ما تَنْتَظرون؟ فنقول: ننتظر رَبَّنا، فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فنقول: نعم، فيقول: وكيف تعرفونه ولمْ تَرَوْهُ؟ فنقول: إنه لا عَدْل لهُ، فيتَجَلَّى لنَا ضاحِكاً، فيقول: أبْشرُوا مَعْشَرَ المُسلمين، فإنَّه ليس منكم أحدٌ إلا قد جَعَلْتُ مكانَهُ في النّار يَهُودياً، أو نَصْرانيّاً ".

(1)

رواه مسلم رقم (191).

(2)

شد الرجال: أي جريهم وسرعتهم في العدو.

(3)

رواه مسلم رقم (195).

ص: 331

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الصمد، وعفّان، عن حمَّاد بن سَلَمة، به مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه

(1)

ولكن روى مسلم من حديث سعيد بن أبي بُرْدةَ وعونِ بن عبد الله بن عُتْبة، عن أبي بُرْدة، عن أبيه أبي موسى الأشعريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا يموتُ رجلٌ مُسلم إلا أدخَلَ اللهُ مكانَه النَّارَ يَهُوديّاً أو نَصْرَانيّاً"

(2)

.

‌فصل في ذكر الصراط، غير ما ذكر آنفاً من الأحاديث الصحيحة

ثم ينتهي الناس بعد مُفارقتهم مكانَ الموقف إلى الظُّلمة التي دُونَ الصَّراط، وهو جسر على جهنّمَ كما تقدّم عن عائشة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أين يكون الناسُ يوم تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرض والسموات؟ فقال: "هم في الظُلْمةِ دون الْجِسر"

(3)

.

وفي هذا الموضعِ يميز المنافقون عن المؤمنين، ويتخلّفون عنهم، ويَسْبقُهم المؤمنون، ويُحالَ بينهم وبينهم بسُورٍ يَمْنعُهُمْ منَ الوصول إليهم، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 12 - 15].

وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ رحمه الله، في كتاب "الأفراد": حدّثنا محمد بن مخلد بن حفْص، ومحمد بن أحمد المَطِيري

(4)

، قالا: حدثنا محمد بن حمزة بن زياد الطُّوسيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا قَيْس بن الرَّبيع، عن عُبَيْدٍ المُكتِب، عن مُجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جهنَّم مُحيطةٌ بالدُّنيا [والجنة من ورائها]، ولذلك صار الصراط على جهنم طريقاً إلى الجنة". ثم قال: غريب من حديث مُجاهد عن ابن عمر، لم يَرْوه عن عُبَيْد المُكْتب، غيرُ قَيْس وتفرَّد به حمزة بن زياد، عنه.

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 407 - 408) عن حسن بن موسى وعفان، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه مسلم رقم (2767).

(3)

رواه مسلم رقم (315) من حديث ثوبان بلفظه، وروي عن عائشة بمعناه.

(4)

في (آ): المطري.

ص: 332

وقال البيهقيّ: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا محمد بن صالح بن هانئ، والحسن بن يعقوب، وإبراهيمُ بن عِصْمة، قالوا: حدثنا السَّريُّ بنُ خُزَيْمةَ، حدّثنا أبو غَسَّان مالك بن إسماعيل النَّهْديُّ، حدّثنا عبد السلام بنُ حَرْب، حدّثنا يزيدُ بن عبد الرحمن، أبو خالد الدّالانِيُّ، حدّثنا المِنْهالُ بن عَمْرو، عن أبي عُبَيْدة، عن مسروق، عن عبد الله [بن مسعود] قال:"يَجْمعُ اللهُ الناسَ يوم القيامة فينادي مُنادٍ: يا أيُّها الناس، ألَمْ تَرْضَوْا من رَبِّكم الذي خلقكم، وصَوّركم، ورزَقكم أن يُوَلِّيَ كل إنسانٍ منكم منْ كانَ يَتَولَّى في الدنيا؟ " قال: "فَيُمثَّل لِمَنْ كان يَعْبُد عُزيراً شَيْطانُ عُزَيْرٍ، حتَّى تُمَثَّل لَهُمُ الشَّجَرةُ والعُودُ والْحجَرُ وغير ذلك، ويَبْقَى أهْل الإسلام جُثوماً، فيقال لهم: ما لكم لم تَنْطلقوا، كما انطلق الناس؟ فيقولون: إنّ لنَا رَبًّا ما رأيناه بَعْدُ" قال: "فيقال: فبِمَ تعرفون رَبَّكم إنْ رأيتموه؟ قالوا: بَيْننا وَبَيْنَهُ عَلامةٌ [إنْ رَأيْناهُ عَرَفناه] قيل: وما هي؟ قالوا: يَكْشفُ عن سَاقٍ"[قال: "فيكشف عند ذلك عن ساق]" قال: "فيَخرُّ منْ كانَ يَعْبُدُهُ ساجداً ويبقَى قومٌ ظهورهم كصَياصي البَقَر، يُريدون السجود فلا يستطيعون، ثم يُؤمَرُونَ فَيَرفَعُون رؤوسهم، فيُعْطَوْنَ نورَهم على قَدْر أعمالهم" قال:"فمِنهم منْ يُعْطَى نُوره مثل الْجَبَل بَيْن يَدَيْه، ومنهم منْ يُعْطى نورَه فوق ذَلك، ومنهم من يُعْطَى نُورَه مثلَ النّخْلةِ بِيَمينِه، ومنهم يُعْطى [نوره] دُونَ ذلك بيَمينه، حتى يكُونَ آخِرُ من يُعْطى نورَه على إبهام فَدَمِهِ، يُضيءُ مَرَّةً وَيَطفأُ مَرَّةَ، إذا أضاء له قدَّم قدَمه، وإذا طَفئ قامَ" قال: " فيَمُرُّونَ على الصِّراط، والصراط كحَدِّ السيف، دَحْضٌ مَزَلّةٌ، فيقال لهم: امضُوا عليه على قدر نوركم، فمنهم من يَمُرّ كانقضاض الكوكب، ومنهم من يَمُرّ كالريح، ومنهم من يَمُرّ كالطَّرْف، ومنهم من يمُرّ كشَدّ الرَّجُل، ومنهم مَنْ يَرْمُلُ رَمَلاً، فيَمرّون على قدر أعمالهم، حتّى يَمُرّ الذي نورُه على إبهام قدمه، تَخرُّ [يَد] وَتَعْلَقُ يَدٌ، وتَخرُّ رِجْلٌ، [وتعلَق، رِجْلٌ وتُصيبُ جَوانبهُ النَّارُ " قال: " فيَخْلصُون، فإذا خَلَصُوا قالوا: الحمدُ للهِ الذي نَجَّانا مِنكِ بَعْد الّذي أرانَاكِ، لقد أعطانا اللهُ ما لمْ يُعْطِ أحداً ".

قال مسروق: فما بلغ عبدُ الله هذا المكان من هذا الحديث إلَّا ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لقدْ حَدّثْتَ بهذا الحديث مِراراً، كُلَّما بَلَغْتَ هذا المكانَ مِنْ هذا الحديث ضَحِكْتَ؟ فقال عبد الله: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّثُه مِرَاراً، فما بَلَغ هذَا المكانَ منْ هَذا الحديث إلّا ضحكَ، حتى تَبْدُوَ لَهَواتُه، ويَبْدُو آخِر ضِرْس منْ أضْرَاسِهِ، لقول الإنسان: أتَهزأ بي وأنْتَ رَبُّ العالمين؟ فيقول: " لا، ولكنِّي على ذَلِك قادِرٌ ".

قال البيهقى: هكذا وجدتُه في كتابي.

وقد رواه غيرُه، فذكر آخِرَ من يَدْخُل الْجَنَّة، وقوله [تعالى له]: يا ابن آدم، أيُرْضيكَ أنْ

ص: 333

أُعْطيكَ الدُّنْيا ومِثْلَها مَعَها؟ فيقول: أتهزأ بي وأنْتَ رَبُّ العالمين [قال ابن مسعود: فيقول الله سبحانه: لا، ولكني على ذلك قادر]

(1)

.

وقد أورده البَيْهقيُّ بعد هذا من حديث حمّاد بن سَلَمةَ، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود

فذكره موقوفاً.

وقال البيهقيّ: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو العباس، محمد بن يعقوب، حدّثنا محمد ابن إسحاق، حدّثنا منصور بن أبي مُزاحم، حدّثنا أبو سعيد المُؤَدِّب، عن زياد النُّمَيريّ، عن أنس بن مالك: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الصِّراطُ كحَدّ الشَّعْرَةِ، أو كَحدِّ السَّيْف، وإنَّ الملائكةَ يُنَجُّونَ المُؤْمنينَ والمُؤْمنات، وإنّ جِبْريلَ عليه السلام لآخذٌ بحُجْزَتي، وإئنِّي لأقول: يا رَبِّ سلَّم، سَلِّم، فالزالُّونَ، والزالَّاتُ يَوْمئذٍ كَثيرٌ"، ثمّ روى البيهقيّ من حديث سعيد بن زَرْبيّ، عن يزيد الرَّقاشىّ، عن أنس، مرفوعاً، نحو ما تقدّم بأبْسط منه، وإسناده ضعيف، ولكن يَتَقَوَّى بما قبله، والله أعلم.

وقال الثوري: عن حُصين، عن مجاهد، عن جُنادَةَ بن أبي أُميَّة، قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم، وسِيماكُمْ، وحُلاكُمْ، ونَجْواكُمْ، ومَجالِسكُمْ، فإذا كان يومُ القيامة قيل: يا فلان، هذا نُورُك، يا فلان، لا نورَ لك، وقرأ:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] وقال الضحّاك: ليس أحدٌ إلّا يُعْطَى يومَ القِيَامةِ نُوراً، فإذَا انْتَهَوْا إلى الصِّراطِ طَفئ نُورُ المُنافقين، فلمّا رأى ذلك المؤمنون أشْفَقُوا أنْ يَطْفَأ نُورُهم، كما طَفِئ نورُ المُنافقين فقالوا:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

وقال إسحاق بن بِشْر أبو حُذَيْفةَ: حدّثنا ابنُ جُرَيْجٍ، عن ابن أبي مُليْكةَ، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يَدْعو الناسَ يوم القيامة بأسمائهم سَتْراً منه على عِباده، فأمَّا عند الصراط فإنَّ اللهَ يُعْطي كُلَّ مؤمنٍ نُوراً، وكُلَّ مُنافقٍ نُوراً، فإذا اسْتَوَوْا على الصراط سَلَب اللهُ نورَ المُنافقين، والمنافقات، فقال المنافقون والمنافقات للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] وقال المؤمنون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] ولا يذكر عند ذلك أحدٌ أحداً"

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو عُبَيْد الله ابن أخي ابن وهب، أخبرنا عمِّي، أنبأنا يزيد بن أبي حَبيب

(3)

، عن سعد بن مسعود: أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَيْر، يُحدّث أنّه سمع أبا الدّرْداء، وأبا ذَرّ يُخْبران، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أوّلُ منْ يُؤذَنُ لهُ يوم القيامة في السجود، وأوَّلُ منْ يُؤَذنُ له في

(1)

رواه مسلم رقم (187).

(2)

رواه الطبراني في الكبير (11242)، وإسحاق بن بشر أبو حذيفة، متروك.

(3)

في هذا الإسناد تخليط، فإن الحافظ عبد الله بن وهب لم يدرك يزيد بن أبي حبيب.

ص: 334

رفع رأسه، فأنْظُر مِنْ بين يديّ، ومنْ خَلْفي، وعن يميني، وعن شمالي، فأعرف أمّتي من بين الأمم" فقال له رجل: يا رسول الله كيف تَعْرفُ أمَّتكَ من بين الأمم ما بَيْنَ نوح إلى أمَّتك؟ قال: " أعرفهم، مُحجَّلون من أثر الوُضوء، ولا يكون لأحدٍ من الأمم غيرِهم، وأعرفهم يُؤْتَون كُتُبَهمُ بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم، ووجُوهم، وأعرفُهم بنُورِهم يَسْعَى بين أيْديهمْ وذرِّيّتهمْ ".

وقال ابن أبي حاتم: [حدّثنا أبي]، حدّثنا عَبْدةُ بن سُلَيْمانَ، حدّثنا ابن المبارك، حدّثنا صفوان بن عمرو، حدّثني سُلَيْم بن عامر، قال: خرجنا على جنازةٍ في باب دِمَشْقَ، ومعنا أبو أُمامةَ البَاهليّ، فلمّا صُلِّيَ على الجنازة، وأخذُوا في دَفْنها، قال أبو أُمَامة: أيُّها الناس، إنّكم قد أصْبَحْتُمْ وأمْسَيتُم في منزلٍ، تَقتسمون فيه الْحَسَناتِ والسَّيئاتِ، وتُوشكونَ أن تَظعَنُوا منه إلى مَنْزِلٍ [آخر]، وهو هذا، يُشيرُ إلى القبر، بَيْت الوحدة، وبَيْت الظُلْمة، وبيْت الدُّودِ، وَبيت الضِّيق، إلا ما وسَّع الله سبحانه، ثم تَنتقِلُون منه إلى مَوَاطنِ يَوْم القيامة، فإنكم لفي بعض تلك المواطن حتى يَغْشَى الناسَ أمرٌ من أمر الله، فَتبيضُّ وُجُوه، وتَسْودّ وجوه، ثم تَنْتقلُونَ منه إلى منزل آخر، فيَغْشَى الناسَ ظُلْمةٌ شَديدةٌ، ثم يُقْسَمُ النور، فيُعْطَى المؤمن نُوراً، ويُتْركُ الكافر، والمنافق، لا يُعْطَيانِ شيئاً، وهو المثَلُ الذي ضَرَبهُ اللهُ في كتابه:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] ولا يَسْتضيءُ الكافرُ، والمنافق، بنور المؤمن كما لا يَسْتَضيءُ الأعْمَى بِبَصَرِ البَصِير، ويقول المنافقون {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديدة 13] وهي خُدْعةُ اللهِ التي خَدَع بها المُنافقين، حيث قال:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] فيرجعون إلى المكان الذي قُسم فيه النُّور، فلا يجدون شيئاً، فيَنْصرفون إليهم، وقد ضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ

} الآية [الحديد ة 13] يقول سُلَيْم بن عامر: فما يزال المنافق مُغْترّاً حتى يُقْسم النور، وَيمِيزَ اللهُ بين المؤمن والمنافق

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: [حدّثنا أبي]، حدّثنا يحيى بنُ عُثْمان، حدّثنا أبو حَيْوةَ، حدّثنا أرْطَاةُ بنُ الْمُنْذر، حدّثنا يوسف بن الْحجَّاج، عن أبي أُمامة، قال: تبعث ظُلْمةٌ يوم القيامة، فما منْ مؤمن، ولا كافر، يرى كفّه حتى يَبْعَثَ اللهُ النُّورَ إلى المؤمنين، على قدر أعمالهم، فيَتْبَعُهُم المنافقون، فيقولون للمؤمنين:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}

(2)

.

وقال الحسن، وقتادة، في قوله تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] قالا: هو حائط بين الجَنّة والنار، وقال ابن أسْلَم: هو الذي قال الله:

(1)

وهو حديث صحيح.

(2)

وإسناده ضعيف.

ص: 335

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46]. وهذا هو الصحيح، وما رُوي عن عبد الله بن عمرو، وكَعْب الأحبار: عن كُتب الإسرائيليِّين، أنه سورُ بَيْتِ المقدس، فضعيف جدّاً، فإنْ كان أراد المُتكلّم بهذا ضَرْب مِثَالٍ وَتَقْريباً للمُغَيَّبِ بالشاهد، فقَريبٌ، ولعله مرادهما، والله أعلم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثني الرَّبيعُ بن ثعلب، حدّثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن مُطْعِم بن المِقْدام الصَّنْعانيّ، وغيره، عن محمَّد بن واسع، قال: كتب أبو الدَّرْداء إلى سَلْمان: يا أخي، إيّاكَ أن تَجْمع من الدُّنيا مالا تُؤدِّي شُكْرَه، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يُجاء بصاحب الدُّنيا أطاعَ اللهَ فيها، ومالُهُ بَيْن يَدَيْه كلّما تَكَفّأ بِهِ الصراط قال له مالُهُ: امْضِ، فقدْ أدَّيْتَ حَقَّ اللهِ فيَّ " قال: " ثم يُجاءُ بصَاحب الدُّنيا الذي لم يُطع اللهَ فيها، ومالهُ بَينَ كَتِفَيْه كُلَّما تَكَفَّأ بهِ الصِّراطُ، قال له ماله: ألا أدّيْتَ حَقَّ اللهِ فيّ؟ فلا يزال كذلك حتى يَدْعو بالوَيْل والثُّبور"

(1)

.

وعن عُبَيْد بن عُمَيْر أنه كان يقول: أيُّها الناس، إنّه جسرٌ مَجْسُور أعلاه دَحْض مَزَلّة، مرَّ الأولُ فنجا، ومرَّ الآخِرُ، فناجٍ ومخدوشٌ، والملائكةُ على جَنَباتِ الْجِسْر يقولون: رَبِّ سلِّم سَلَّم، قال: وإنَّ الصّراط مثلُ السَّيْف، على جِسر جَهنّم. وإنَّ عليه كَلالِيبَ وحَسَكاً، والذي نفسي بيده إن تلك الكلاليب والحسك لأعرف بالمارِّين عليها ومن تأخذه منهم ومن تخدشه من الرجل بصاحبه وصديقه. والذي نفسي بيده إنّه لَيُؤخذُ بالكَلُّوب الواحدِ أكْثَرُ من ربيعةَ، ومُضَر. رواه ابن أبي الدنيا.

وعن سعيد بن أبي هلال، قال: بلغنا أنّ الصِّراط يومَ القيامة وهو الجِسْرُ يكون على بَعْضِ الناس أدقّ من الشّعر، وبَعْضِ الناس مِثْلَ الوادي الواسع. رواه ابن أبي الدُّنيا. وهذا الكلام صحيح إن شاء الله.

وقال غيره: بلغني أن الصراط إنما يراه أدقّ من الشَّعْرة، وأحدَّ من السيف، الهالك الذي ليس بناجٍ، ويكون على بعض الناس أوسع من القاع والميدان المتَّسع، يمضي عليه كيف شاء.

وقال ابن أبي الدنيا أيضاً: حدّثنا الخليلُ بن عمرو، حدّثنا ابن السَّمَّاك الواعظ الزاهد، قال: بلغني أنّ الصِّراط ثلاثةُ آلاف سنةٍ، ألفُ سنةٍ يصعد الناس عليه، وألفُ سنة يَسْتوي الناسُ على ظهره، وألف سنة يَهْبطُ الناس.

وقال آخر: مَنْ وسَّع على نفسه الصراط في الدنيا، ضاق عليه صراط الآخرة، ومن ضيَّق على نفسه الصراط في الدنيا، وسّع له الصراط في الآخرة.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا علي بن الْجَعْد، حدّثنا شَريكٌ، عن أبي قتادةَ، عن سالم بن

(1)

وفي إسناده ضعف.

ص: 336

أبي الْجَعْد، قال: إن لِجَهنّم ثَلاثَ قَناطرَ، قنطرة عليها الأمانة، وقنطرة عليها الرَّحِم، وقنطرة اللهُ عليها، وهي المِرْصادُ، فمن نجا من هاتين لم ينجُ من هذه، ثم قرأ:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].

وقال عبيد [الله] بن العَيْزارِ: يُمَدُّ الصِّراطُ يوم القيامة بين الأمانة، والرَّحِمِ، ويُنادي مُنادٍ: ألا من أدَّى الأمانةَ، ووَصَل الرَّحِمَ، فَلْيَمضِ آمناً غيرَ خائف. رواه ابن أبي الدنيا.

وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة الفضيل بن عياض قال: بلغني أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف استواء على ظهره، وخمسة نزول، وهو أدقُّ من الشَّعَر، وأحدُّ من السيف، على متن جهنم، لا يجوزه إلا كل ضامر مهزول من خشية الله سبحانه، ثم يبكي الفضيل رحمه الله.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا محمد بن إدريس، حدّثنا أبو تَوْبة الرَّبيعُ بن نافع الْحَلبيّ، حدّثنا مُعاويةُ بن سَلاَّم، عن أخيه زيد بن سَلاّم: أنه سمع أبا سَلاّم، حدّثني عبدُ الرحمن، حدّثني رجل من كِنْدَة، قال: دخلتُ على عائشةَ، وبيني وبينها حجابٌ، فقلت: إنّ في نفسي حاجةً لم أجد أحداً يشفيني منها، قالت: ممّنْ أنت؟ قلت: من كِنْدة، قالت: منْ أيِّ الأجناد أنت؟ قلت: من أهل حِمْص، قالت: ماذا حَاجَتُك؟ قلت: أَحَدَّثَكِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنه سيأتي عليه ساعةٌ يوم القيامة لا يَمْلكُ فيها لأحدٍ شَفاعةً؟ قالت: نعم، لقد سألتُه عن هذا، وأنا وهو في شِعارٍ واحد، فقال:" نعم، حين يُوضَعُ الصَّراطُ لا أمْلِكُ لأحدٍ شيْئاً حتى أعلمَ أيْنَ يُسْلَكُ بي، وحين تَبْيَضُّ وجوهٌ وتَسْودّ وُجوهٌ، حتَّى أنْظُرَ ما يُفْعلُ بي، وعند الجسر حتى يَسْتَحدَّ وَيَسْتَحرَّ " قلت: وما يستحدُّ ويستحرُّ؟ قال: " يَسْتحدّ حتى يكونَ مثلَ شَفْرَةِ السَّيْفِ، ويستحرُّ حَتَّى يكون مثل الْجَمْرة، فأمَّا المؤمن، فيُجيزُ لا يَضُرّه، وأما المنافق فيتعَلّقُ حتى إذا بلغ أوْسَطه حَرَّ في قَدَمَيْهِ، فيهوي بيديه إلى قدميها قال: " هل رأيتِ من يَسْعى حَافياً فتأخذُه شَوْكةٌ حتى تكاد تُنْفِذُ قَدَمَيْهِ؟ فإنه كذلك يهوي بيده ورأسه إلى قدميه، فتَضْرِبهُ الزَّبَانيَةُ بخُطَّافٍ في نَاصِيَته، وقَدَمَيْه، فيقْذَفُ به في جهَنّم يَهْوي فيها مِقْدارَ خَمسينَ عاماً" فقلت: ما يَثْقُلُ الرَّجُلُ، قالت: بل يثفْل ثِقَلَ عَشْر خَلِفاتٍ

(1)

سِمَانٍ، فيَوْمئذٍ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]. غريب.

‌فصْل

قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ

(1)

الخَلِفات، جمع خَلِفة، وهي الناقة الحامل.

ص: 337

شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 68 - 72] أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنّه سيجمعُ بني آدم مما كان يطيع الشياطين ويعبدها مع الله عز وجل، ويطيعها فيما تأمره به من معاصي الله عز وجل، فإن طاعة الشياطين هي عبادتها، فإذا كان يوم القيامة جمع الشياطين ومن أطاعهم، وأحضرهم حَوْل جهنَّم جثياً، أي جُلُوساً على الرُّكَب، كما قال تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28] وعن ابن مسعود: قِياماً، وهمْ يُعاينُون هَوْلها، وبَشاعة منظرها، وقد جَزموا أنّهم دَاخلُوها لا محالةَ، كما قال تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 12 - 16]. قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثرة 6 - 8].

ثم أقسم تعالى أنَّ الخَلْق كُلَّهم سَيردُون جَهَنّم، فقال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] قال ابن مسعود: قَسَماً وَاجباً.

وفي " الصحيحين " من حديث الزهريّ، عن سعيد بنِ المُسيّب، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" منْ ماتَ لَه ثلاثةٌ منَ الولدِ لم تمسَّه النار إلا تحلّةَ القَسَم "

(1)

.

وروى الإمامُ أحمد، عن حسن، عن ابن لَهيعة، عن زَبّان بن فائد، عن سهل بن مُعاذ بن أنس، عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " منْ حَرَسَ منْ وراءِ المُسْلمين مُتطوعاً لا بِأجْرِ سُلْطانٍ، لم يرَ النارَ بعَيْنيه إلاّ تحِلَّة القَسَم " قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

وذكر تمام الحديث

(2)

.

وقد اختلف المفسّرون في المراد بالورود ما هو؟ والأظهرُ كما قررّناه في "التفسير" أنّه المرور على الصراط، والله أعلم، كما قال الله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].

وقال مجاهد: الحُمَّى حظُّ كلِّ مؤمنٍ منَ النار، ثم قرأ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71].

وقد روى ابن جرير في " تفسيره " حديثاً يُشبه هذا، فقال: حدّثني عِمْرانُ بنُ بكَّار الكَلاعيّ، حدّثنا أبو المُغيرة، حدّثنا عبد الرحمن بنُ يزيد بن تميم، حدّثنا إسماعيلُ بن عبيد الله، عن

(1)

رواه البخاري رقم (6656) ومسلم (2632) بلفظ: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسّه النار إلا تحلَّة القسم ".

(2)

. رواه أحمد في المسند (3/ 437 و 438) وإسناده ضعيف.

ص: 338

أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودُ رَجُلاً من أصْحابِه وَعِكاً، وأنا معه، ثم قال:" إنَّ الله تعالى يقول: هي ناري أُسَلِّطُها على عبدي المُؤمن لتكون حَظَّهُ من النَّارِ في الآخرة ". وهذا إسناد حسن

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السُّدِّيّ، عن مُرة، عن عبد الله بن مسعود {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَرِدُ الناسُ [النارَ]، كلُّهم، ثُمَّ يَصْدُرونَ عنها بأعمالهم ". وهكذا رواه الترمذي من حديث إسرائيل، عن السُّدّيّ، به، مرفوعاً، ثم رواه من حديث شُعْبَة، عن السُّديّ، به، فوقَفهُ

(2)

.

وهكذا رواه أسْباطٌ عن السُّدِّيّ، عن مُرَّةَ، عن ابن مسعود، قال: يرد الناس جميعاً الصراط، وورُودهم قيامُهم حَوْلَ النار، ثم يَصْدُرون عن الصِّراطِ بأعْمالِهمْ، فمنهم منْ يَمُرّ كمَرّ البرْقِ، ومنْهُمْ منْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيح، ومنهم من يَمُرُّ مثل الطير، ومنهم من يمُرُّ كأجْوَدِ الخَيْل، ومنهم من يَمُر كأجْودِ الإبل، ومنهم من يمُرّ كعَدْوِ الرَّجُل، حتَّى إنَّ آخِرَهُم مَرّاً رَجُلٌ نورُه على موضع إبهامَيْ قَدَميه، يَمُرّ يَتَكفّأُ به الصِّراطُ، والصراط دَحْضٌ مَزِلَّةٌ عليه حَسَكٌ كحَسَكِ القَتاد، حافتاه ملائكةٌ معهم كلاليبُ من نارٍ يَخْتطفُون بها الناس

" وذكر تمام الحديث. وله شواهد مما مضى، ومما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال سفيان الثوريّ، عن سلمةَ بن كُهَيْل، عن أبي الزّعْراء، عن ابن مسعود، قال: يأمُرُ اللهُ بالصِّراط فَيُضْرَبُ على جهنّم، فيَمُرّ الناس عليه على قَدْرِ أعمالهم، أوَّلُهمْ كلْمحِ البَرْقِ، ثم كمَرّ الرّيح، ثم كأسرع البهائم، ثم كذلك، حتى يَمُرّ الرَّجُلُ سَعْياً، حتى يمُرّ الرَّجل ماشياً، ثم يكون آخرُهُمْ يَتَلبَّطُ على بَطنه، ثم يقول: يا رَبّ، لِمَ أبْطأتَ بي؟ فيقول: لم أُبْطئ بك، إنما أبْطأ بكَ عملُك.

ورُوي نحوهُ من وجهٍ آخرَ عن ابن مسعود مرفوعاً

(3)

والموقوف أصحّ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو نَصْر الوائليُّ في كتاب " الإبانة ": أخبرنا محمد بن محمد بن الْحَجَّاج، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن الرَّبَعيّ، حدّثنا عليّ بنُ الحُسَيْن، أبو عُبَيْد

(4)

، حدثنا زكريّا بنُ يحيى أبو السُّكَين، حدّثنا عبدُ الله بنُ صالح، حدّثنا أبو هَمَّامٍ القُرَشيّ، عن سُليمان بن المُغيرة، عن

(1)

أقول: في سنده عد الرحمن بن يزيد بن تميم، ضعيف كلما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب".

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 435) والترمذي (3159) و (3160) وهو حديث حسن.

(3)

رواه الطبراني في الكبير (9763) مرفوعاً.

(4)

في (آ): أبو عبيد الله، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 339

قَيْس بن مُسْلم، عن طاوس، عن أبي هريرة، قال: قال [لي] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علِّم الناسَ سُنَّتي وإن كرهوا ذلك، وإنْ أحببتَ ألّا تُوقَف على الصراط طَرْفة عين حتّى تَدْخُل الْجنّة فلا تُحْدِثَنَّ في ذاتِ الله تعالى حَدَثاً برَأْيك " ثم قال: وهذا غريب الإسناد، والمَتْن حسن

(1)

أورده القرطبىّ.

ورواه الضياء في تعاليقه بزيادة في متنه على ما ذكره القرطبي.

وقال الحسن بن عرفة: حدّثنا مَرْوانُ بن معاوية، عن بكَّار بن أبي مَرْوانَ، عن خالد بن مَعْدَانَ، قال: قال أهل الْجنّة بعدما دخلوا الجنّة: ألم يَعِدْنا رَبُّنا الورُود على النار؟ فيقال: قد مَرَرْتُمْ عليها وهي خامِدَةٌ.

وقد ذهب آخرون إلى أن المُراد بالورُود الدّخول فيها، قاله ابنُ عباس، وعبدُ الله بن رَوَاحة، وأبو مَيْسَرة، وغيرُ واحد.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا سُليمانُ بن حَرْب، حدّثنا غالبُ بن سُليمانَ، عن كثير بن زياد البُرْساني، عن أبي سُميَّة، قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضُنا: لا يدخُلها مؤمن، وقال بَعْضُنا: يدخلونها جَميعاً، ثم يُنَجِّي اللهُ الّذين اتّقوا، فلقيتُ جابرَ بن عبد الله، فقلت له: إنّا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعاً، وقال سليمان مرة: يدخلونها جميعاً، فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صُمَّتا، إن لم أكُنْ سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يَبْقَى بَرّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بَرْداً وسَلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إنَّ للنار ضجيجاً من بَرْدِهم، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] ". لم يخرجوه في كتبهم، وهو حسن

(2)

.

وقال أبو بكر أحمد بن سَلْمان

(3)

النجّاد: حدّثنا أبو الحسن، محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السَّليطي، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد، البُوشَنْجيّ، حدّثنا سُلَيْم

(4)

بن منصور بن عمَّار، حدّثنا أبي منصور بن عمَّار، حدّثني بشير

(5)

بن طَلْحة الجذامي

(6)

، عن خالد بن دُرَيْك، عن يَعْلى بن مُنيَةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نُورُك لَهَبي ". وهذا حديث غريب جداً.

(1)

أقول: في سنده أبو همَّام القرشي، قال يحيى: كذاب، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات رقم (513).

(2)

رواه أحمد في مسنده (3/ 329) أقول: وفي إسناده أبو سمية، وهو مجهول.

(3)

في (آ): سليمان، وهو خطأ.

(4)

في (آ): سليمان.

(5)

في الأصول: بشر.

(6)

في الأصل: الحرامي.

ص: 340

وقال ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن خالد بن مَعْدَان، قال: قالوا: ألَمْ يَعِدنا رَبُّنا أنّا نَرِدُ النَّار؟ فيقول: إنّكم مَررْتُمْ عليها وهي خامدة.

وفي رواية عن خالد بن مَعْدان، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنّة قالوا: ألم يَقُلْ رَبُّنا: إنَّا نَرِدُ النار؟ فيقال: إنّكم وَردْتُموها، فألْفَيْتُموها رَماداً.

وقال ابن جرير: حدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عُلَيَّة، عن الجُرَيْريّ، عن أبي السَّليل، عن غُنَيْم بن قَيْس، قال: ذكروا ورود النار، فقال [كعب]: تُمثَّل النارُ للناسِ كأنّها مَتْنُ إهالة

(1)

، حتى يَسْتَوي عليها أقْدامُ الخَلائِق، بَرِّهِم وفَاجِرِهم، ثُمَّ يناديها مُنادٍ: أن أمْسكي أصْحَابك، وَدَعي أصحابي، قال: فتَخسِف بهم بكُلّ وَليٍّ لها، فلَهيَ أعْلَم بهم من الرَّجُل بِوَلَده، ويَخْرُج المؤمنون منها نديَّةً ثيابُهُم. ورُوي مثلهُ عنه أيضاً.

وقال أحمد: حدّثنا محمد بن إدريس، حدّثنا الأعمش، عن أبي سُفْيَان، عن جابر، عن أم مُبَشّر، امرأةِ زيد بن حَارِثَةَ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حَفصَةَ، فقال:" لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ شَهدَ بَدْراً والحُدَيبية " قالت حفصة: ألَيْسَ اللهُ تعالى، يقول:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فمَه؟ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} [مريم: 72] ".

ورواه أحمد أيضاً، عن أبي مُعاوية، عن الأعمش، عن أبي سُفْيان، عن جابر، عن أمِّ مُبَشّر، عن حَفْصة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

فذكر مثله. ورواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبَيْر، سمع جابراً عن أمِّ مُبَشِّر

فذكر نحوه، وقد تقدَّم

(2)

.

وسيأتي في أحاديث الشفاعة كيفيَّةُ جَوازِ المؤمنين على الصراط، وتفاوُتُ سَيْرِهم عليه، بحسب أعمالهم، وقد تقدم من ذلك جانب، وتقدّم عنه صلى الله عليه وسلم أنه أوّلُ الأنبياء إجازةً بأمَّتِه على الصراط.

وعن عبد الله بن سَلامٍ قال: محمَّدٌ أوَّلُ الرُّسُلِ إجازةً على الصراط، ثم عيسى، ثم موسى، ثم إبراهيم، حتى يكون آخرهم إجازةً نوحٌ عليه الصلاة والسلام، قال: فماذا خَلَص المؤمنون من الصراط تلقّتهم الخَزَنةُ يَهدونَهُمْ إلى الْجنَّة.

ثم إذا خلصوا من الصراط، وأتوا على آخره، فليس بعد ذلك إلا دخول الجنة، كما سيأتي. وثبت في الصحيح:"من أنفق زَوْجين في سَبيل الله دَعَتْهُ خَزَنةُ الْجَنَّةِ: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعيَ من بَابِ الصلاة، ومنْ كانَ من أهْلِ الزكاة دُعيَ من باب الزكاة، ومن كان من أهل الصِّيام دُعيَ من باب الرَّيَّانِ" فقال أبو بكر: والله يا رسول الله، ما على أحدٍ يُدْعى من أيِّها

(1)

المتن: الظهر. والإهالة: ما يؤتدم به من الأدهان.

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 362) و (285) ومسلم رقم (2496).

ص: 341

شاءَ من ضرورة، فهل يُدْعَى أحدٌ منها كُلّها؟ قال:"نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر، فإذا دَخلُوا الْجنَّة هُدُوا إلى مَنازِلهم، فَلَهُمْ أعْرَفُ بها من منازلهم التي كانت في الدنيا". كما سيأتي بيانُه في الصحيح عند البخاريّ

(1)

.

وقد قال الطبرانيّ: حدّثنا إسحاقُ بن إبراهيم الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق، عن سُفْيانَ الثَّوريّ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم، عن عطاء بن يَسار، عن سَلْمانَ الفَارسىّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أحد إلّا بجَوازِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم، هذا كتابٌ من الله لفلان ابن فلان، أدخِلوه جَنَّةً عَاليَةً قُطُوفُها دَانيةٌ".

وقد رواه الحافظُ الضِّياءُ، من طريق سُلَيْمانَ التَّيْمىّ، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سَلْمانَ الفَارسىّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُعْطى المُؤْمنُ جَوازاً على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيزِ الحكيمِ لِفُلان ابن فلان، أدْخِلُوهُ جنَّةً عاليَةً قُطوفُها دَانيةٌ"

(2)

.

وقد روى الترمذيُّ في "جامعه" عن المُغيرة بن شُعْبَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِعارُ المؤمن على الصِّراط: رَبِّ سَلم رَبِّ سَلِّمْ"، ثم قال: غريب

(3)

.

وفي " صحيح مسلم ": "ونَبيُّكُمْ يَقُول: رَبِّ سَلَّمْ رَبِّ سَلِّمْ"

(4)

.

وتقدَّم أن الأنبياءَ كلَّهُم يقولون ذلك، وكذلك الملائكة كلهم يقولون ذلك، وثبت في " صحيح البخاري " من طريق قَتادَةَ، عن أبي المُتَوكِّلِ الناجيِّ، عن أبي سعيد الخُدْريِّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خَلَص المُؤمنون من النار حُبسُوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتُص لهم مظالم كانَتْ بَيْنهُم في الدّنيا، حتّى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذن لَهُمْ بدخول الجنة، فلأَحَدُهُمْ أهْدَى بمنزله في الْجنَّة منه بمنزله كانَ في الدنيا"

(5)

.

وقد تكلم القرطبيُّ في " التذكرة " على هذا الحديث، وجعل هذه القنطرة صِراطاً ثانياً للمؤمنين خاصةً، ولَيْسَ يسْقُط أحدٌ منه في النار. قلت: هذه بَعْدَ مُجَاوزةِ النَّارِ، فقد تكون هذه القنطرةُ مَنْصُوبةً على هَوْلٍ آخَرَ ممّا يَعْلمُهُ اللهُ، ولا نَعلمه نحنُ، والله أعلم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا سُوَيْد بن سعيد، حدّثنا صالحُ بن مُوسى، عن لَيْثٍ، عن عُثْمانَ،

(1)

رواه البخاري رقم (1897) ومسلم رقم (1027).

(2)

رواه الطبراني في "الكبير" رقم (6191) وابن عدي في "الكامل"(1/ 338) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه الترمذي رقم (2432).

(4)

رواه مسلم رقم (195).

(5)

رواه البخاري رقم (2440).

ص: 342

عن محمَّد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة للمؤمنين: جُوزُوا النَّارَ بِعَفْوي، وادْخُلُوا الْجَنَّة بِرَحْمتي، فاقْتَسِمُوها بفَضائل أعْمالكم". وهذا حديث غريب، وقد رواه أبو معاوية، عن إسماعيل بن مُسْلِم، عن قتادةَ، عن عبد الله، من قوله [مثله] وهو مُنْقطعٌ، بل مُعْضلٌ.

وقد قال بعضُ الوعَّاظ فيما حكاه القُرْطبيّ، في " التذكرة ": فتوَهَّمْ [نفسك] يا أخي إذا صِرْتَ على الصِّراط، ونَظَرْتَ إلى جهنّم تَحْتَكَ سَوْداءَ مظلمة مُدْلَهِمَّة، وقد تلظى سعيرُها، وعلا لَهيبُها، وأنت تمشي أحياناً، وتَزْحفُ أخْرى، ثم أنشد:

أبَتْ نَفْسي تَتُوبُ فما احْتيالي

إذا بَرَزَ العِبَادُ لِذي الْجَلالِ

وقامُوا مِنْ قُبُورِهِمُ حَيارَى

بأوْزَارٍ كَأمْثَالِ الْجِبالِ

وقَدْ نُصِبَ الصِّراطُ لِكَيْ يَجُوزوا

فمِنْهُمْ منْ يُكبُّ على الشِّمَال

ومِنْهُمْ منْ يَسيرُ لِدَارِ عَدْنٍ

تَلَقَّاهُ العَرائسُ بالْغَوالي

(1)

يقُولُ لَهُ الْمُهَيْمنُ: يا وَلِيِّي

غَفَرْتُ لَكَ الذُّنُوبَ فلا تُبَالي

‌فصل

قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 85 - 87] ورد في حديث كما سيأتي أنَّهم يُؤْتونَ بِنَجَائِبَ منَ الْجَنَّةِ يَرْكَبُونها، وأنّهم يُؤْتَونَ بِهَا عِنْد قيامهم من قُبورهم. وفي صِحَّته نظر، إذْ قد تقدّم في الحديث أنّ الناس كُلّهم يُحْشَرُون مُشاةً حُفاةً عُراةً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر وحده راكباً ناقةً حمراء، وبلالٌ يُنادي بالأذان بين يَدَيْه، فإذا قال: أشْهدُ أنَّ محمَّداً رسول الله، صدًقه الأوّلون، والآخرُون

(2)

. فإذا كان هذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يكون إتيانُهم بالنجائب بعد الْجَوازِ على الصراط، وهو الأشبه، والله أعلم.

وقد روي في حديث الصُّور: أن المتقين يُضْربُ لهم حِيَاضٌ يَردونها بعد مُجاوزة الصراط، وأنّهم إذا وَصلُوا إلى باب الْجنّة، يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثمّ بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يشفع لهم في دخول الجنة، والله أعلم. كما ثبت في " صحيح مسلم "، من حديث أبي النّضر، هاشم بن القاسم.

(1)

أي بالطيب.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا من حديث يونس بن سيف مرسلاً.

ص: 343

ورواه أحمدُ، عنه، عن سُليمانَ بن المُغيرَةِ، عن ثابت، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" آتي بابَ الْجنّة يوم القيامة فأستفتحُ، فيقول الخازن: منْ أنْت؟ فأقول: محمد، فيقول: بكَ أُمِرْتُ ألّا أفْتَحَ لأحدٍ قَبْلَك"

(1)

.

وقال مسلم: حدّثنا أبو كُرَيْب، محمَّد بن العلاء، حدّثنا معاويةُ بن هشام، عن سُفيانَ، عن المختار بن فُلْفُل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثرُ الأنبياءَ تَبَعاً يومَ القيامة، وأنا أوَّلُ منْ يَقْرَعُ بابَ الْجنّة"

(2)

.

وفي "صحيح مسلم": "يجمع الله تعالى الناس، فيقومُ المؤمنون حين تُزْلَفُ لهم الْجنَّةُ فيأتونَ آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا، أستفتح لنا الْجنَّة، فيقول لهم: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا خَطيئةُ أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك

" وذكر تمام الحديث كما تقدم

(3)

، وهو شاهدٌ قويّ لِمَا ذُكر في حديث الصُّور: من ذهابهم إلى الأنبياء مَرَّة ثَانيةً، يستشفعون إلى الله بهم في دخولهم الْجنّة، فتَنْحَصرُ القِسْمة أيضاً، وَيتَعيّن لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كما تَعَيَّن للشفاعة الأولى العُظْمَى في الفصل بين الخلائق، كما تقدَّم.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدّثنا سُوَيْد بن سعيد، أنبأنا علي بن مُسْهر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، حدّثنا النُّعْمانُ بن سعد، قال: كُنَّا جُلوساً عند علي، فقرأ هذه الآية:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [85 - 86] قال: لا والله ما على أرجُلِهم يُحْشَرُون، ولا يُحْشَرُ الوَفْدُ على أرجُلِهم، ولكن يُؤْتَون بنُوقٍ لم يَرَ الخَلائقُ مثْلَها، عليها رَحَائلُ منْ ذَهَب، فيركبُون عليها، حتَّى يَضْربُوا أبْوابَ الْجنَّة.

ورواه ابن جَرير، وابن أبي حاتم، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وزاد: وفداً يفدون عليها رحائل منْ ذَهَب، وأزِمَّتُها الزَّبَرْجَدُ، والباقي مثلُه

(4)

.

وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو غَسَّان، مالك بن إسماعيل النهْدِيّ، حدّثنا مَسْلَمةُ بن جَعْفر البَجَلي، سمعتُ أبا مُعاذٍ البَصْريّ، قال: كان علي بن أبي طالب يوماً عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ على هذه الآية {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 83] فقال: ما أظُنُّ الوَفْد إلّا الرَّكْبَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، إنّهم إذا خَرجُوا من قُبورهم يُسْتَقْبلُونَ" - أو

(1)

رواه مسلم رقم (197) وأحمد في المسند (3/ 136).

(2)

رواه مسلم (196).

(3)

رواه مسلم (195).

(4)

رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 155) وإسناده ضعيف.

ص: 344

قال: " يُؤتَونَ -بِنُوقٍ بيض لها أجْنَحةٌ، وعَلَيْها رِحَالُ الذَّهب، شِرَاك نِعَالِهمْ نُورٌ يَتَلألُأ، كلُّ خُطوةٍ منها مَدُّ البَصَر، فيَنْتهُون إلى شَجَرةٍ يَنْبُع من أصْلِها عَيْنانِ، فيَشربُون من إحداهما، فتَغْسلُ ما في بُطونِهم من دَنَسٍ، ويَغْتسلُونَ منَ الأخرى، فلا تَشْعثُ أبشارُهم، ولا أشعارهم بَعْدَها أبداً، وتَجْري عليْهمْ نَضْرَه النَّعيم، فينْتَهونَ-" أو قال: "فيأتون- باب الْجنَّة، فإذا حَلْقةٌ منْ ياقُوتةٍ حَمْراءَ، على صَفَائح الذّهب، فيَضْربُونَ بالْحَلْقَةِ على الصفيحة فيُسْمعُ لها طنين، يا عليّ، لم يسمع الخلائق مثله، فيبلغ كُلَّ حَوْرَاءَ أنّ زَوْجَها قَدْ أقْبَل، فتَبْعَثُ قَيِّمَها فيفْتَحُ له، فإذا رآه خَرَّ لَهُ " قال مسلمة: أُراه قال: ساجداً، "قيقول له: ارفع رأسَكَ، إنّما أنا قَيِّمُك وُكِّلْتُ بأمْرِك، فيَتْبَعُه، ويقفو أثَرهُ، فَتَسْتَخفُّ الْحَوْراءَ العَجَلةُ، فتخرُج من خِيام الدُّرّ، والياقوت، حتى تَعْتَنقَهُ، ثم تقول: أنت حِبِّي وأنا حِبُّك، وأنا الخالدةُ التي لا أموت، وأنا الناعمةُ التي لا أبأس، وأنا الراضيةُ التي لا أسْخطُ، وأنا المُقيمةُ التي لا أظْعَن، فيَدْخُل بَيْتاً من أُسِّه إلى سَقْفه مئةُ ألفِ ذراعٍ، بناؤه على جَنْدلِ اللؤلؤ [والياقوت]، قد بني على طرائق، أحمر، وأصْفر، وأخْضر، ليس منها طريقةٌ تُشاكِلُ صَاحبتَها، وفي البيث سبعون سريراً، على كُلّ سرير سبعون حَشِيَّة

(1)

، على كُلِّ حَشيَّةٍ سبعون زَوْجةً، على كُلِّ زَوجةٍ سبعون حُلَّة، يُرَى مُخُّ ساقِهَا من وَراءِ الْحُلَلِ، يَقْضي جِماعَهن في مقدار لَيْلَةٍ من لَيالِيكُمْ هذه، الأنْهارُ من تَحْتِهمْ تَطَّرِدُ، أنهارٌ {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قال:"صافٍ لا كَدَر فيه، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لم يَخْرُج من ضُروع الماشية، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} لم تَعْصِرْها الرجالُ بأقْدامِها {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] لم يَخْرُجْ من بُطون النَّحْل، فيَسْتَحْلي الثِّمار، فإن شاء أكل قائماً، وإن شاءَ قَاعِداً، وإن شَاءَ مُتّكِئاً" ثم تلا: " {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] فيَشْتَهي الطَّعَام، فيأتيه طَيْرٌ أبْيض-" قال: وَرُبَّما قال: " أخْضر- فتَرْفَع أجنحتَها، فيأْكُلُ من جُنُوبِهَا أيَّ الألوان شاءَ، ثم يَطيرُ، فيَذْهبُ، فيدْخُل المَلَكُ، فيقول: سَلامٌ عليكم، تِلْكمُ الْجنَّة التي {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف]، ولو أنّ شَعرةً من شَعْرِ الْحَوراءِ وقَعتْ إلى الأرض لأضاءت الأرض منها، ولكانت الشَّمْسُ مَعها سَواداً في نُورٍ"

(2)

.

وقد رَوَيناهُ في "الْجَعْديّات" من كلام عليّ بن أبي طالب موقوفاً عليه، وهو أشْبهُ بالصحة، والله أعلم.

فقال أبو القاسم البَغَويّ: حدّثنا عليّ بن الجعد، أنبأنا زُهَيْر، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن عليّ قال: ذَكَرَ النارَ فعَظّم أمرها، ذِكْراً لا أحْفَظُه، قال:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73] حَتَّى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدُوا عنده شَجْرةً يَخْرُج من تَحتِ ساقِها عَيْنانِ

(1)

الحشية: الفراش المحشو.

(2)

وإسناده في المرفوع ضعيف.

ص: 345

تَجْريان، فعَمَدُوا إلى إحداهما، فكأنّما أُمروا بها، فَشربُوا منها، فأذهبت ما في بطونهم من قَذى أو أذى، أو بأس، أو غِلٍّ، ثم عَمدُوا إلى الأخرى، فتَطَهَّرُوا منها، فجَرتْ عليهم نَضْرةُ النَّعيم، ولم تَغيَرَّ اْشعارُهم بعدَها أبداً، ولا أبشارهم، ولم تَشْعَثْ رُؤوسهم، كأنّما دُهنُوا بالدِّهان، ثم انتهوا إلى الْجنَّةِ، فقالوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ثم تَلْقَاهُمُ الوِلْدانُ فيُطيفُونَ بهم كما يُطيفُ وِلْدانُ أهل الدُّنيا بالحَميم يَقْدَمُ عليهم، يقولون: أبْشرُوا بما أعَدَّ الله لكم من الكرامة، ثمّ يَنْطلق غلامٌ من أولئك الوِلْدانِ إلى بَعْضِ أزواجه من الْحُورِ العين، فيقول: جاء فُلانٌ باسمه الذي كان يُدْعَى به في الدُّنيا، قالت: أنْتَ رأيْتَه؟ قال: نعم أنا رَأَيْتُهُ، وَهُوَ بإثْرِي، فيَسْتخفُّ إحدَاهُنَّ الفَرَحُ، حتّى تَقُومَ على أُسْكُفَّةِ بَابِها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بُنْيانِه فإذا جَنْدَلُ اللُؤلؤ، فوقه صَرْحٌ أحْمرُ وَأخْضرُ وأصْفرُ من كلِّ لون، ثم رفع رأسه، فنظر إلى سقفه، فإذا مثلُ البَرْق، ولولا أنَّ الله قَدَّر ألّا يذهب بصره لألمَّ أن يَذْهب ببصره، ثم طَأْطَاَ رَأْسَهُ، فإذا أزواجُه، {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 14 - 16] ثم اتَّكؤوا: فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] ثم ينادي مُنادٍ: تَحْيَوْنَ فلا تَمُوتون أبداً، وتُقيمُونَ فلا تَظْعَنُونَ أبداً، وتَصِحُّونَ فَلا تَمْرَضُونَ أبداً

(1)

.

وهذا الأثرُ يقتضي أن تغيير الشّكْل من الحال الذي كان الناسُ عليه في الدُّنيا إلى طول ستين ذِرَاعاً، وعَرْض سَبْعَة أذْرُع، كما هي صفة كُلِّ منْ دَخل الجنة، من صغير وكبير كما ورد به الحديث، يكون عند هاتين العينين اللَّتَيْن يَغْتسلُون من إحداهما، فتجري عليهم نضرة النعيم، ويشربون من الأخرى فتَغْسلُ ما في بُطونهم من الأذَى، فيتجدد لهم الطول والعرض، وذهاب الأذى وجريان نَضْرة النَّعيم، بعد الغسل والشرب، وهذا أنسب وأقرب ممَّا جاء في الحديث المتقدّم، أنّ ذلك يكون في عَرَصاتِ القيامة، وهو ضعيف الإسناد، وأبْعَد من هذا مَنْ زَعَمَ أن ذلك يكون عند الخروج من القبور، لما يُعارضه من الأدلة الدالة على خلاف ذلك، والله أعلم.

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثنا سُلَيْمان بن المُغيرة، عن حُمَيْد بن هلال، فال: ذُكرَ لنا أن الرجل إذا دَخَل الجَنّة صُوِّر صُورَة أهْلِ الْجَنّة، وأُلْبسَ لباسَهُمْ، وحُلِّي حِلْيتَهُمْ، وأُريَ أزواجه وخَدَمه، يأخذه سُوَارُ فَرَحٍ

(2)

، لو كان ينبغي له أن يَمُوتَ لماتَ من شدة سُوَارِ فرَحِه، فيقال له: أرأيتَ سُوارَ فَرَحك هذا، فإنّه قائم لك وباقٍ أبداً.

وقال ابن المبارك: حدّثنا رِشْدِينُ بن سَعْد، عن زُهْرة بن معبد القُرَشي، عن أبي عبد الرحمن

(1)

"الجعديات"(2580) وفي إسناده ضعف.

(2)

أي دب فيه الفرح دبيب الشراب.

ص: 346

الْحُبليّ، قال: إن العبد أوَّلَ ما يَدْخُل الْجنّةَ يتلَقَّاهُ سبعون ألف خادم، كأنهم اللؤلؤ.

قال ابن المبارك: وحدّثنا يحيى بن أيُّوب، حدّثني عُبَيد الله بن زَحْر، عن محمد بن أيُّوب

(1)

، عن أبي عبد الرحمن المعافري، قال: إنه ليُصَفُّ للرَّجُل من أهْلِ الْجنّةِ سِمَاطَانِ، لا يُرَى طَرفَاهُما منْ غِلمانِه، حتّى إذا مَرَّ مَشَوْا وَراءه.

ورَوى أبو نُعَيْم، عن سَلمة، عن الضحَّاك بن مُزَاحم، قال: إذا دخلَ الْمُؤْمنُ الْجنَّةَ دخل أمامَه مَلَك فيأْخُذُ به في سِككها، فيقول له: انظر ما ترى؟ قال: أرى أكثرَ قُصورٍ رأيْتُها من ذهب، وفِضةٍ، وأكثرَ أَنيس، فيقول الملَك: إنّ هذا أجْمعَ لك، فإذا رُفع لهم استقبلوه: نحنُ لك، نحنُ لَك.

وقال أحمد بن أبي الْحَواريّ، عن أبي سُليمانَ الدّارانيّ: أنّه قال في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] قال: المُلْك الكبير، أنّ المَلَك يأتي بالتُّحْفَةِ إلى وَليّ الله عز وجل، فما يَصلُ إليه إلّا بإذْنٍ بعد إذن، يقول الملَك لحاجبه: استأذِنْ لي على وَليّ الله، فيُعْلِمُ ذلك الحاجبُ حَاجباً آخَرَ، وحَاجِباً بَعْد حاجِبٍ، ومنْ دَارٍ إلى دار حتى ينتهيَ إلى ولي الله عز وجل بما أُمر به، ومن داره إلى دار السَّلامِ، باب يَدْخُلُ منه الوليُّ على رَبِّه، متى شاء بلا إذْنٍ، ورسولُ ربِّ العِزّةِ لا يَدْخُلُ عليه إلا بإذْنٍ.

وقال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا خالدُ بن خِدَاشٍ، حدّثنا مَهْديُّ بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بِشْر بن شَغَاف: قال: كُنَّا جُلُوساً إلى عبد الله بن سَلامٍ، فقال: إنَّ أكرم خَليقَةٍ على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وإنّ الْجَنَّةَ في السماء، وإنّ النّار في الأرض، فإذا كان يومُ القيامة بَعَثَ اللهُ الْخَليقَةَ أُمَّة أمَّةً ونَبيّاً نَبيّاً، ثم يُوضعُ جِسْرٌ على جَهنّم، ثم يُنادي مُنادٍ: أيْنَ أحْمدُ وأُمَّتهُ؟ فيقوم، وتَتْبَعُهُ أمّته، بَرُّها وفَاجِرُها، فيأخذون على الْجِسْر، ويَطْمِسُ اللهُ أبْصارَ أعدائه، فيتَهَافَتُونَ فيها من شِمَالٍ ويَمين، ويَنْجُو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والصالحون معه، وتَتَلقاهم الملائكةُ، ويُبوِّئُونهم منازِلهُمْ من الْجَنّة على يَمينك، على يَسارِك، حتى يَنْتهي إلى رَبّه، فيُلْقَى له كرسيّ على يَمينِ الله، ثم يُنادي منادٍ: أين عيسى وأمَّتُه، فذكر نحو ما تقدّم إلى أن قال: فيُلقى له كرسي من الجانب الآخر، ثم يَتْبَعُهم الأنْبياءُ والأمم، حتى يكون آخِرَهم نوحٌ عليه الصلاة والسلام. وهذا موقوف على ابن سَلام، رضي الله عنه. وتقدم في حديث سلمان الفارسي، الذي رواه ابن أبي الدُّنيا، عن أبي نَصْر التَّمَّار، حدّثنا حَمّادُ بنُ سَلمَةَ، عن ثابت البُنَانيّ، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن سَلْمانَ الفَارسيّ، قال: يُوضعُ الصِّراطُ يوم القيامة، وله حَدٌّ كَحدّ المُوسى، فتقول الملائكة: رَبّنا، منْ يطيق أن يجوز على هذا؟ فيقول الله عز وجل: من شِئْتُ منْ خَلْقي، فيقولون: رَبّنا ما عبدناك حَقَّ عِبَادِتِك.

(1)

في الأصول: محمد بن أبي أيوب، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 347

‌فصل

قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرزّاق، حدّثنا مَعْمرٌ، عن همَّامٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوَّلُ زُمْرةٍ تَلجُ الْجنّة صورهم على صورة القمر ليلةَ البَدْر، لا يَبْصُقون فيها ولا يَمْتَخِطُونَ فيها، ولا يَتَغوَّطُونَ فيها، آنِيَتُهُمْ وأمْشاطُهُم الذهب والفِضّة، ومَجَامِرُهم من الأَلُوَّة

(1)

، ورَشحُهُم المِسْكُ، ولكُلّ واحدٍ منهم زوجتان يُرى مُخُّ ساقهما من وَراء اللّحْمِ من الحُسْنِ، لا اختلاف بينهم، ولا تباغُضَ، قلوبُهم على قلب واحدٍ، يُسبّحونَ الله تعالى، بُكْرَةً وعشيّاً ". وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به، وأخرجه البخاريّ، عن محمد بن مُقاتِل، عن ابن المبارك، كلاهما عن معْمَرٍ، عن هَمَّام، به

(2)

.

وقال أبو يَعْلى: حدّثنا أبو خَيْثمة، حدّثنا جَريرٌ، عن عُمَارَة بن القَعْقَاعِ، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَّلُ زُمْرةٍ يَدْخُلونَ الْجنَّةَ على صُورَةِ القمر ليلةَ البَدْر، والذين يَلُونَهُمْ على ضوءِ أشدِّ كَوْكبٍ دُرِّيّ في السماء إضاءةً، لا يبولون، ولا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَتْفُلُونَ، ولا يمتخطون، أمْشاطُهُم الذهب، ورَشْحُهُم الْمسْكُ، ومَجامِرُهم الأَلُوَّةُ، وأزواجهم الْحور العينُ، أخلاقُهُمْ على خُلُقِ رَجُلٍ واحدٍ، على صُورةِ أبيهم آدم، سِتُّونَ ذِراعاً في السماء ". ورواه مسلم عن أبي خَيْثمة، واتفقا عليه، من حديث جَرير

(3)

.

وروى الإمامُ أحمد، والطبرانيّ، واللفظُ له، من حديث حمَّاد بن سَلَمةَ، عن عليّ بن زيد بن جُدْعانَ، عن سَعيد بن المُسَيّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَدْخُلُ أهْلُ الْجنّةِ الْجَنّةَ جُرْداً مُرْداً، بِيضاً جِعَاداً، مُكَحَّلين، أبْناءَ ثلاثٍ وثلاثين، وهم على خَلْقِ آدم، سِتُّونَ ذِراعاً، في عَرْض سَبْعةِ أذْرُع"

(4)

.

وقال الطبرانيّ: حدّثنا أحمد بن إسماعيل العدويّ، حدّثنا عمرو بن مرزوق، حدّثنا عِمْرانُ القَطّان، عن قتادةَ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن مُعاذِ بن جَبَل، أنّ

(1)

هو العود الذي يتبخر به.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 316) وهو في "جامع معمر" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20866) ومسلم رقم (2834) والبخاري (3245).

(3)

رواه أبو يعلى رقم (6084) ومسلم رقم (2834) والبخاري (3327).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 295) والطبراني في "المعجم الأوسط"(5422) وإسناده ضعيف، ولكن للحديث شواهد يقوى بها، دون قوله:" في عرض سبعة أذرع ".

ص: 348

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يَدْخُلُ أهْلُ الْجنةِ الجَنَّةَ جُرْداً، مُرْداً، مُكَحّلين، بَني ثلاثٍ وثلاثين ". ورواه الترمذي من حديث عِمْرَان بن داود القَطَّان، ثم قال: هذا حديث حسن غريب

(1)

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنْيا: حدّثنا القاسمُ بن هاشم، حدّثنا صَفْوانُ بن صالح، حدّثني رَوَّاد بنُ جَرّاح العسقلاني، حدّثنا الأوزاعيّ، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْخل أهْلُ الْجنّة الجنّة على طول آدَمَ، سِتِّين ذِراعاً بذِراعِ المَلَك، على حُسْن يُوسف، وعلى ميلاد عيسى، ثلاثٍ وثَلاثينَ سَنةً، وعلى لسان محمَّد، جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ ". وقد رواه أبو بكر بن أبي داود، حدّثنا محمود بن خالد، وعبَّاس بن الوليد، قالا: حدّثنا عمر، عن الأوزاعيّ، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُبْعثُ أهْلُ الْجَنّةِ على صُورةِ آدم في ميلاد ثَلاثٍ وثلاثين سنةً، جُرْدْاً مُرْداً مُكَحَّلينَ، ثم يُذْهبُ بهم إلى شَجَرةٍ في الْجنَّة، فيُكْسَوْن مِنها، لا تَبْلى ثِيابُهُمْ ولا يَفْنى شَبابُهُمْ"

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي داود: حدّثنا سُلَيْمانُ بن داود، حدّثنا ابنُ وَهْب، حدّثنا عمرو بن الحارث، أنّ دَرَّاجاً أبا السَّمْح حدَّثه، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد الخُدْريّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " منْ ماتَ من أهل الْجنَّة منْ صَغيرٍ أو كَبيرٍ يُردُّونَ بني ثلاثٍ وثلاثين سنةً في الجنّة، لا يَزيدُون عليها أبداً، وكذلك أهل النار". ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نَصْر، عن ابن المبارك، عن رِشْدينَ بن سَعْد، عن عمرو بن الحارث

فذكره، والله أعلم

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخَفَّاف العجلي، عن سعيد، عن قتادة، عن شَهْر بن حَوْشب، عن معاذ قال: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: " يُبْعثُ المؤمنون يوم القيامة، جُرْداً، مُرْداً، مُكَحَّلِين بني ثلاث وثلاثين ". وهذا منقطع بين شهر ومعاذ، انقطاعاً لو كان ساقه، لكانت أبعدَ من شهْر، وهو يُفْهِمُ بَعْثَهم من قبورهم كذلك

(4)

.

وقد تقدَّم

(5)

أن كل أَحَدٍ يُبْعثُ على ما مات عليه، ثم تُغَيَّر حُلاهم إلى الطول والعرض، كل أَحَدٍ بحسبه بعد ذلك عند دخول الجنة والنار، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(1)

رواه الطبراني في الكبير (20/ 118) والترمذي (2545) وهو حديث حسن.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (220) وابن أبي داود في " البعث والنشور"(64) وهو حديث حسن، دون قوله:"وعلى لسان محمد".

(3)

رواه ابن أبي داود في "البعث"(78) والترمذي (2562) وإسناده ضعيف، وفيهما:"أنهم يُردُّون أبناء ثلاثين".

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 239).

(5)

انظر صفحة (346).

ص: 349

‌كتاب صفة النَّار وما فيها من العذاب الأليم أجارنا الله منها

قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168 - 169]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 36 - 37]. وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} الآيات [الأعراف: 38]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81 - 82]. وقال تعالى {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107]. وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 22]. وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} الآيات [المؤمنون: 103 - 108]. وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ} [الفرقان: 11 - 15،. وقال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ

} الآيات [الشعراء: 91]. وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 20 - 21]. وقال تعالى:

ص: 350

{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 64 - 68]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37]. وقال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} [يس: 63 - 67]. وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 22 - 26]. وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 55 - 64]. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 71 - 72]. وقال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 45 - 52]. وقال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 70 - 76]. وقال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا

ص: 351

لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 23 - 29]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 74 - 78]. وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 43 - 50]. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]. وقال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]. وقال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13 - 16]. وقال تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 46 - 51]. وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 41 - 51]. وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ} [الواقعة: 41 - 47]. وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] قال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 6 - 11]. [وقال تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} [القلم: 33]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا

ص: 352

يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 25 - 37]. وقال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىْ} [المعارج: 11 - 18]. وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 12 - 14]. وقال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:26 - 31]. [وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 38 - 48]. وقال تعالى: {إِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} [الإنسان:4]. وقال تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 29 - 34]. وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 21 - 30]. وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]. كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [صه: 74]. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7]. وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 21 - 26]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد: 19 - 20]. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 1 - 9].

قال ابن المبارك

(1)

عن خالد بن أبي عِمْران بسَنَدِهِ، أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ النارَ لَتأكُلُ أهْلها، حتّى إذا اطَّلعتْ على أفئدتهم انتهت، ثم يَعُودُ كما كان، ثم تستقبله أيضاً فتأكله حتى تطَّلع

(1)

"الزهد" لابن المبارك (306 - زوائد نعيم).

ص: 353

على فؤاده، فهو كذلك أبداً، فذلك قوله:{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6 - 7] " وقد تركنا إيراد آياتٍ كثيرة خوفَ الإطالة، وفيما ذكرنا إرشادٌ إلى ما تركنا، وبالله المستعان، وستأتي الأحاديثُ الوَاردةُ في صفة جَهنَّم، أجارنا الله منها آمين، مرتّبة على ترتيبٍ حسن، وبالله التوفيق.

وقال ابن المبارك: أنبأنا مَعْمرٌ، عن محمد بن المُنْكَدرِ، قال: لما خُلِقت النّارُ فَزِعت الملائكة، وطارت أفئدتها، فلمّا خَلقَ الله آدمَ سكن ذلك عنهم، وذهب ما كانوا يجدون.

وقال ابنُ المُبارك: حدّثنا محمد بنُ مُطَرِّف، عن الثِّقة: أنّ فَتى من الأنْصارِ داخَلَتْهُ خَشْيةٌ من النَّارِ، فكان يبكي عند ذكر النار، حتَّى حَبَسهُ ذلك في البيت عن شهود في المسجد، فذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءه إلى البيت، فلمّا دخلَ نَبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اعْتَنقهُ الفَتَى، وخَرَّ مَيِّتاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"جَهِّزوا صَاحِبَكُمْ، فإنَّ الفَرَقَ من النار فَلَقَ كبِدَه"

(1)

.

قال القرطبي: رُويَ أنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام مَرَّ بأربعةِ آلافِ امرأةٍ مُتَغَيِّرات الألوان، وعليهنَّ مَدارعُ الشَّعْرِ والصُّوفِ، فقال لَهُنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام: ما الذي غَيّر ألْوَانَكُنَّ معاشِرَ النِّسْوَةِ؟ قلن: ذِكْرُ النَّارِ هو الذي غَيَّر ألواننا يا ابن مريم، إنّ منْ دَخَلَ النار لا يذوق فيها بَرْداً ولا شَرَاباً. ذكره الخرائطي في كتاب "القبور"

(2)

.

ورُوي أن سَلْمان الفَارسيَّ لمّا سَمِعَ قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر 43 - 44] فرَّ ثَلاثةَ اْيامٍ هارباً من الخوف، لا يَعْقلُ، فجيء به إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أُنزِلتْ هذه الآيةُ {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)} فوالذي بعثك بالحقّ لقد قَطعَتْ قَلبي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ

} الآية [الحجر: 45 - 46]. ذكره الثعلبيّ.

‌ذكر جهنم وشدة سوادها أجارنا الله منها

قال اللّه تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 8 - 11]. وقال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)} [الغاشية: 5] وقال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ

يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43 - 44] أي حارّ قد تَناهَى حَرُّه، وبَلَغَ الغَايَةَ في الحرارة. وقال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ

(1)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(320 - زوائد نعيم) وإسناده ضعيف.

(2)

في (آ): النشور.

ص: 354

الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17].

وقال مالك بن أنس رحمه الله في "مُوطَّئهِ": عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نارُ بني آدمَ التي تُوقدُون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم " فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية، فقال:" إنّها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ". ورواه البخاريّ عن إسماعيل بن أبي أُوَيس، عن مالك، به، وأخرجه مسلم، عن قُتَيْبة، عن المُغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزِّناد، به، نحوَ

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا سُفْيَان، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنّ ناركم هذه جُزْءٌ من سبعين جُزْءاً من نارِ جَهنَّم، وضُرِبَتْ بالبَحْرِ مَرَّتَيْن، ولولا ذلك ما جعلَ الله فيها مَنْفعة لأحدٍ". على شرط "الصحيحين"

(2)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا حمّاد، عن محمد بن زياد، سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " نارُ بني آدمَ التي يُوقدُونَ جزءٌ من سَبْعينَ جُزْءاً من نارِ جَهنّم " فقال رجل: إنْ كانتْ لكافيَةً، فقال:"لقد فُضلتْ عليها بتِسْعَةٍ وستِّينَ جُزْءاً"

(3)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا عبدُ الرزاق، حدّثنا مَعْمرٌ، عن همّام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نارُكمْ هذه، ما يُوقِدُ بنو آدم، جُزءٌ واحدٌ من سبعين جُزْءاً من حَرّ نار جَهنّم" قالوا: واللهِ إن كانتْ لكافية يا رسول الله، قال:"فإنّها فُضِّلتْ عَلَيْها بتِسْعةٍ وستين جزءاً، كُلُّهنّ مِثْلُ حَرِّها"

(4)

.

‌طريق أخرى

قال أبو بكر البزار: حدّثنا بِشْرُ بن خالد العَسْكريّ، حدّثنا سعيدُ بن مَسْلَمة، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ناركم هذه، وكلَّ نارٍ

(1)

رواه مالك في الموطأ (2/ 994) والبخاري رقم (3265) ومسلم رقم (2843).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 244).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 313) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 313) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20897) ومسلم رقم (2843).

ص: 355

أُوقِدَتْ، أوْ هُمْ يُوقدِونها، جزءٌ من سَبْعينَ جُزْءاً من نارِ جهنَّم"

(1)

‌طريق أخرى بلفظ آخر

قال أحمد: حدّثنا قُتَيْبةُ، حدّثنا عبد العزيز، عن سُهَيْل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هَذِهِ النارُ جُزْءٌ من مئِةِ جُزْءٍ من جَهنَّم". وهذا الإسناد على شرط مسلم. وفي لفظه غَرابةٌ

(2)

وأكثرُ الرّوايات عن أبي هريرة " [جزء] مِنْ سَبْعينَ جُزْءاً" وقد ورد الحديث عن غيره كذلك، من طريق عبد الله بن مسعود.

وقد ورد الحديث عن غيره كذلك من طريق ابن مسعود كما قال البزّار: حدّثنا محمد بن عبد الرحيم، حدّثنا عُبَيْد بن إسحاق العطار، حدّثنا زُهَيرٌ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله [بن مسعود]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرُّؤيا الصَّالِحةُ بُشْرَى، وهي جُزْءٌ من سَبْعينَ جُزْءاً من النُّبُوةِ، وإنّ نارَكم هذهِ جُزء منْ سَبْعينَ جزءاً من سَموم جَهنّم، وما دام العَبْدُ يَنْتَظرُ الصلاةَ فهو في صلاةٍ ما لم يُحْدِثْ".

قال البزّار: وقد رُوي موقوفاً

(3)

.

ومن طريق أبي سعيد، كما قال البزّار أيضاً: حدّثنا محمد بن الليث، حدّثنا عُبَيْدُ الله بن موسى، حدّثنا شَيْبانُ، عن فِرَاسٍ

(4)

، عن عَطيّةَ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ ناركم هذه جُزْءٌ من سَبْعين جُزْءاً من نار جَهنّم، لِكُلِّ جزء منها حَرُّها"

(5)

.

وقال الطبرانيّ: حدّثنا أحمد بن عمرو الخلاّل، حدّثنا إبراهيمُ بن المُنذر الحزامي، حدّثنا مَعْنُ بن عيسى القَزّاز، عن مالك [بن أنس]، عن عَمّه أبي سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتَدْرُونَ ما مَثَلُ نارِكم هذه من نار جهنم؟ لهي أشدُّ سواداً من دُخانِ نارِكم هذه بسَبْعين ضِعْفاً" قال الحافظ الضِّياءُ: وقد رواه أبو مُصْعَب، عن مالك، فرفعه، وهو عندي على شرط الصحيح

(6)

.

وروى الترمذيّ وابن ماجه، [كلاهما] عن عبّاس الدُّوريّ، عن يحيى بن أبي بُكَيْر، عن

(1)

وإسناده ضعيف، ولمعناه شواهد.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 378) بلفظ (مئة) وهو شاذ كما أومأ إليه المصنف، وقد صح بلفظ "سبعين جزءاً".

(3)

رواه البزار (3490 - كف الأستار) وفيه عبيد بن إسحاق العطار، وهو متروك.

(4)

في (آ): فراش، وهو خطأ.

(5)

وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه.

(6)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (489).

ص: 356

شَرِيك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُوقدَ على النّارِ ألْفَ سنةٍ حتى احمرت، ثم أوقِدَ عليها ألْفَ سنةٍ حتّى ابيَضتْ، ثم أُوقد عليها ألف سنة حتى اسْودَّت، فهي سوداء مظلمة"، قال الترمذي: ولا أعلم أحداً رفعه غير يحيى، [يعني] ابنَ أبي بُكَيْر عن شَرِيك. كذا قال الترمذيّ، وقد رواه أبو بكر بن مَرْدَويْه الحافظُ، عن إبراهيمَ بن محمد، عن محمد بن الْحُسَين بن مُكْرَم، عن عُبَيْد الله بن سَعْد، عن عمّه، عن شَريك، به مثله

(1)

.

وقال الحافظ البَيْهقيّ: حدّثنا أبو عبد الله الحافظُ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدّثنا أبو العبّاس الأصَمُّ، حدّثنا أحمد بن عبد الجبار، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن [أبي] ظَبْيانَ، عن سَلْمانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّارُ لا يُطْفَأُ جمرُها، ولا يُضيءُ لهَبُها" قال: ثم قرأ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]. قال البيهقيّ: ورفعه ضعيف، ثم رواه من وجهٍ آخر موقوفاً

(2)

.

وقال ابن مَرْدَويه: حدّثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدّثنا محمد بن يونس، حدّثنا أبو عَتّاب الدلّال، حدّثنا مبارك بن فَضالة، عن ثابت، عن أنس، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قال: "أُوقد عليها ألفَ سنةِ حتى ابيضّت، وألفَ عامٍ حتّى احمرّت، وألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء لا يُضيءُ لَهَبُها"

(3)

.

وقال ابن مَرْدَوَيْه: حدّثنا دَعْلَج بن أحمد، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، حدّثنا الحكم بن مَرْوان، حدّثنا سَلاَّمٌ الطويل، عن الأجَلح بن عبد الله الكِنْديّ، عن عديّ بن عَديّ، قال: قال عمر بن الخَطاب: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في حينٍ لم يكُنْ يأتي فيه، فقال:"يا جبريلُ، ما لي أراك مُتَغيِّرَ اللون؟ " فقال: إنِّي لم آتِكَ حتّى أمَر اللهُ عز وجل بفَتْحِ أبواب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جِبريلُ، صف لي النارَ، وَانْعَتْ لي جَهَنّم" فقال: إنّ الله أمر بها فأُوقِدَ عليها ألفَ عامٍ حتّى ابْيَضَّتْ، ثم أُوقدَ عليها ألف عامٍ حتى احمَرّتْ، ثم أُوقد عليها ألف عام حتى اسْوَدَّت، فهي سوداء مُظْلمةٌ لا يُضيء شَرَرُها ولا يُطْفَأُ لهَبُها" وقال: والذي بَعَثَك بالحقّ لو أنّ حَلْقَةً من حلق السّلْسلة التي نَعَتَ اللهُ عز وجل في كتابه، وُضِعَتْ على جِبَال الدُّنيا لأذابتْهَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حَسْبي يا جبريلُ لا يَنصدعُ قلبي" فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، فإذا هو يَبْكي، فقال له:"يا جبريل، أتَبْكي وأنْتَ منَ اللهِ بالمكان الذي أنْتَ به منه؟ " قال: وما يَمْنَعني ألّا أبْكي وأنا لا أدري لَعَلِّي أنْ أكُونَ في عِلْم الله

(1)

رواه الترمذي رقم (2591) وابن ماجه (4320) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(632) و (631).

(3)

وإسناده ضعيف.

ص: 357

على غير هذه الحال، فقد كان إبليسُ مع الملائكة، وقد كان هاروتُ وماروتُ من الملائكة، فلم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يبكي، وجبريلُ، حتى نُوديا: يا محمَّد، وإنّ جبريل، إن اللهَ قد أمّنكُما أنْ تَعْصياهُ، قال: فارتفع جبريل، وخرج النبىّ صلى الله عليه وسلم فمرّ بقوم من أصحابه يتحدَّثون، ويَضْحكُونَ، فقال:" أتضحكون وجهَنَّمُ من ورائكم، لو تعلمون ما أعلمُ لَضَحِكْتُمْ قَليلاً، ولبكَيْتُمْ كثيراً، ولخرجْتُمْ إلى الصُّعداتِ تَجْأرُونَ إلى الله تعالى" فأوحى اللهُ إليه: يا محمد، إنّي قد بَعثْتُكَ مُبَشِّراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أبْشرُوا، وسَدِّدوا، وقاربُوا " قال الضياء: قال الحافظُ أبو القاسم، يعني إسماعيل بن محمد بن الفَضْل: هذا حديث حسن، وإسناده جَيِّد

(1)

.

وقال البخاريّ: حدّثنا إبراهيم بن حمزة، حدّثنا ابن أبي حازم، والدرَاوَرْديّ، عن يَزيدَ، عن عبد الله بن خَبَّاب، عن أبي سَعيد الْخُدْري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ عنده عمُّه أبو طالب، فقال:" لعلّه تَنفَعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجْعَلَ في ضَحْضَاح من نار يَبْلُغُ كعْبَيْه، يغلي منه أمُّ دماغه". ورواه مسلم من حديث يزيد بن الهاد

(2)

، به

(3)

.

وقال مسلم: حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدّثنا يحيى بن أبي بُكَيْر

(4)

، حدثنا زُهَيْرُ بن محمد، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن النُّعْمان بن أبي عَيّاش، عن أبي سعيد: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهْل النارِ عذاباً، يَنْتَعلُ بِنَعْلَيْنْ

(5)

منْ نارٍ يَغْلي دِماغُه من حَرَارةِ نَعلَيْه"

(6)

.

وقال أحمد: حدّثنا حسن وعفّان، قالا: حدّثنا حمّادُ بن سَلَمةَ، عن سعيد الْجُرَيْريّ، عن أبي نضْرَةَ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهْونُ أهْلِ النَّارِ عَذاباً رَجُلٌ في رِجْلَيْه نَعْلانِ، يَغْلي منْهما دِماغه

" وساق أحمد تمام الحديث

(7)

.

وقال البخاريّ: حدّثنا محمد بن بَشَّار، حدّثنا غُنْدَر، حدّثنا شُعْبةُ، سمعت أبا إسحاق، سمعت النُّعْمانَ، سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّار عذَاباً يوم القيامةِ لَرَجُلٌ يُوضعُ في أخْمَصِ قدَمَيْه جَمْرة يغلي منها دماغه"، ورواه مسلم من حديث شُعْبَة

(8)

.

(1)

رواه ابن مردويه، ومن طريقه أبو القاسم الأصبهاني في " الترغيب والترهيب " رقم (1002) أقول: وفيه سلاَّم الطويل، مجمع على ضعفه، وقد اتهمه غير واحد بالكذب والوضع.

(2)

في الأصول: يزيد بن أبي حبيب، وهو خطأ.

(3)

رواه البخاري (6564) ومسلم (210).

(4)

في (آ): محمد بن أبي بكر.

(5)

في الأصول: بنعل.

(6)

رواه مسلم (211).

(7)

رواه أحمد في المسند (3/ 13) وهو حديث صحيح.

(8)

رواه البخاري (6561) ومسلم (213).

ص: 358

وقال البخاريّ: حدّثنا عبد الله بن رَجاء، حدّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق، عن النعْمان بن بَشِير: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أهْونَ أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخْمَصِ قَدميه جَمْرَتان يَغْلي منهما دِماغُه، كما يَغْلي المِرْجل أو يغلي القُمْقُم"

(1)

.

وقال مسلم: حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدّثنا عفّان، حدّثنا حماد بن سَلَمة، أخبرنا ثابتٌ، عن أبي عثمانَ النَّهْديّ، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهونُ أهْلِ النار عَذاباً أبو طالب وهو ينتعل بنَعْلينِ يَغْلي منهما دِماغُه"

(2)

.

وقال أحمد: حدّثنا يحيى، عن ابن عَجْلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أهْونَ أهْلِ النَّار عَذاباً، عَلَيْه نَعْلان يَغْلي منْهُما دِماغُهُ"

(3)

.

وبهذا الإسناد: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ تَعْلَمون ما أعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَليلاً، ولَبَكَيْتُمْ كَثيراً"

(4)

.

وقال أحمد: حدّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، أخبرنا زائدةُ، عن المُختارِ بن فُلْفلٍ، عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسُ محمّد بيده لو رأيتمُ ما رأيتُ لبكيتُمْ كثيراً ولضحكتم قليلاً " قالوا: يا رسول الله وما رأيتَ؟ قال: "رأيت الْجنَّةَ والنار". ورواه أحمد من حديث شُعْبةَ، عن موسى بن أنس، عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"

(5)

.

وقال أحمد: حدّثنا أبو اليَمانِ، حدّثنا ابن عيّاش، عن عُمارةَ بن غَزيّةَ

(6)

الأنصاريّ: أنه سمع حُمَيْد بن عُبَيْد مولى بني المُعلّى، يقول: سمِعْتُ ثابتاً البُنانيَّ، يُحدِّثُ عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لجبريل:"ما لي لم أر ميكائيلَ ضاحكاً قَطّ؟ " قال: ما ضحك ميكائيلُ مُنذُ خُلِقَتِ النارُ

(7)

وقال الله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 29 - 34].

قال الطبرانيّ: حدّثنا أحمد بن يحيى الحُلْوانيّ، حدّثنا سعيدُ بن سُلَيْمان، عن حُدْيج

(8)

بن

(1)

رواه البخاري رقم (6562).

(2)

رواه مسلم (212).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 432) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 432) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 217، 210) وهو حديث صحيح.

(6)

في (آ): غربة، وهو خطأ.

(7)

أحمد (3/ 224) وفي سنده حميد بن عبيد، وهو مجهول، ولكن الحديث حسن بطريق أخرى وشاهد مرسل.

(8)

في (آ): خديج، وهو خطأ.

ص: 359

مُعَاوية، عن أبي إسحاق، عن عَلقْمة بن قَيْس: سمعتُ ابنَ مسعود يقول في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: أما إنّها ليست مثلَ الشجر، والجَبَل، ولكنّها مثلُ المدائن، والحُصُون

(1)

.

وقال الطبرانيّ: حدّثنا طالبُ بنُ قرَّةَ، حدّثنا محمد بن عيسى ابن الطبَّاع، حدّثنا مبشر

(2)

بن إسماعيل، عن تمَّام بن نَجيح، عن الحسن، عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أنّ شَرَرةً من شرر جهنم بالمَشْرق لَوَجد حَرَّها مَن بالمغرب"

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا سُفيان، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"اشْتَكتِ النارُ إلى رَبّها، فقالت: أكَلَ بَعْضي بَعْضاً، فأذِنَ لها بَنَفَسينِ، نَفسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشدُّ ما يكونُ من الْحَرّ، وأشد ما يكون من البرد، من فَيْح جهنم".

وبهذا الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحَرُّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم"

(4)

.

وقال أحمد: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا مَعْمرٌ، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "اشتكت النار إلى ربّها، فقالت: ربِّ أكلَ بَعْضي بعضاً فنَفِّسْني، فأذن لها في كُل عامٍ بِنَفسَيْنِ، فأشدُّ ما تَجدُونَ من البَرْدِ من زَمْهرير جَهنّم، وأشدُّ ما تجدُون من الحرِّ من حَرّ جَهنّم". وأخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث الزهري

(5)

.

وقال أحمد: حدّثنا يَزيد، حدّثنا حَمَّادُ بن سَلَمة، عن ثابتٍ البُنَانيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله: "يُؤْتى بأنعَم أهْلِ الدُّنيا من أهْلِ النار يوم القيامة، فيُصْبَغُ في النار صِبْغةً، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ خَيْراً قَطّ؟ [هل مَرَّ بكَ نعيمٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا رَبّ،. ويُؤْتى بأشدِّ الناسِ بُؤْساً في الدُّنيا من أهْلِ الْجنَّةِ، فيُصْبغُ في الجَنّة صِبْغَةً، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيْتَ بُؤْساً قطُّ؟ هل مرَّ بكَ شدَّةٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا رَبّ، ما مرّ بي بُؤْسٌ قطّ، ولا رأيتُ شدَّةً قطُ"

(6)

.

وقال أحمد: حدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا سعيد بن أبي عَرُوبةَ، عن قتادةَ، حدّثنا أنس بن مالك: أنّ نَبى الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُجاءُ بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيتَ لَو كَانَ لكَ مِلءُ الأرضِ ذهباً أكنتَ مُفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد سُئلتَ أيْسَر منْ ذَلِك. فذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (916).

(2)

في الأصول: حسن.

(3)

رواه الطبراني في " الأوسط " رقم (3681) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 238) ورواه البخاري (537) و (536) من طريق سفيان، به.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 276 - 277) والبخاري (6260) ومسلم (617).

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 203) وأخرجه مسلم رقم (2807) من طريق زيد، به.

ص: 360

كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] "

(1)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا حجَّاج، حدّثنا شُعْبةُ، عن أبي عِمْرْان الجَوْنيّ، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يُقال للرَّجُلِ من أهل النار يوم القيامة: أرأيتَ لو كان لك ما على الأرض من شَيْءٍ أكنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال له: قد أردتُ منك أَيْسَرَ من ذلك، قد أخَذْت عليك الميثاق في ظَهْر آدَم ألّا تُشْركَ بي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلّا أن تشرك [بي] "

(2)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا رَوْحٌ وعفّان، قالا: حدّثنا حمّادُ، حدّثنا ثابتٌ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتى بالرَّجُل من أهل الجَنَّة فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدْتَ منزلك؟ فيقول: أيْ رَبِّ، خَيْرَ مَنْزلٍ، فيقول: سَلْ وتمنَّ، فيقول: ما أسألُ وأتمنى إلّا أنْ تَرُدَّني إلى الدُّنْيا، فأُقْتَلَ في سبيلك عَشْرَ مَرَّاتٍ، لما يَرَى من فَضْلِ الشَّهادة. ويُؤْتى بالرجل من أهل النار، فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدتَ منزلك؟ فيقول: أيْ رَبِّ شَرَّ منزل، فيقول له: أتَفْتدي مِنْهُ بِطلاع

(3)

الأرْض ذَهباً؟ فيقول: أيْ رَبِّ، نعم، فيقول: كذَبْتَ، قد سألتك أقَلَّ منْ ذَلِك وأيْسَر فلم تَفْعَلْ، فيُرَدُّ إلى النار"

(4)

.

وقال البزّار: حدّثنا أبو شَيْبَةَ إبراهيمُ بن عبد الله، ومحمد بن اللَّيْثِ، قالا: حدّثنا عبد الرحمن بن شَريك، عن أبيه، عن السّدِّيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: " لم يُرَ مِثْلُ النار نام هاربُها، ولم يُرَ مِثْلُ الْجنَّةِ نامَ طَالبُها "

(5)

.

وروى الحافظ أبو يَعْلى، وغيرُه، من طريق محمد بن شَبيب، عن جعفر بن أبي وَحْشيَّة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان في هذا المسجد مئة ألف أو

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 218) ورواه البخاري رقم (6538) ومسلم (2805) من طريق روح به، دون ذكر الآية.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 127) وأخرجه البخاري رقم (3334) من طريق شعبة به.

(3)

طلاع الأرض: ملؤها.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 208) وهو حديث صحيح.

(5)

ورواه البيهقي في "الشعب"(389) من طريق عبد الرحمن بن شريك به، وإسناده ضعيف.

ص: 361

يزيدون، وفيهم رجلٌ من أهل النار، فتَنَفَّس فأصابَهُم نَفسُه لأحْرَق المسجدَ ومن فيه". وهذا حديث غريب جدّاً

(1)

.

‌ذكر بُعد قعر جهنم، واتساعها وضخامة أهلها أجارنا الله منها

قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 8 - 11] وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 41]، وقال تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 13 - 14] وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 24 - 30].

وقد ثبت في "الصحيحين" من غير وجهٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا تزالُ جَهنَّمُ يُلْقى فيها {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتى يَضع عليها رَبُّ العزّةِ، قدَمه، فيَنْزوي بَعْضُها إلى بَعْض، وتقول: قطْ قَطْ

(2)

وعزتك"

(3)

.

وقال مسلم: حدّثنا محمد بن [أبي] عمر المَكِّي، حدّثنا عبد العزيز الدّرَاوَرْديّ، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طَلْحةَ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن العَبْد لَيتكلَّم بالكلمة ما يتبيّن [ما] فيها، يَهْوي بها في النار أبعَدَ ما بين المَشْرق والمَغرب". ورواه البخاريّ عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز، بنحوه، ولفظُه:" يَزِلُّ بها في النار، أبْعَدَ ما بين المَشْرِق " و [لم يذكر] المغرب

(4)

.

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثنا الزُّبَيْر بن سعيد، عن صَفْوان بن سُلَيم، عن عطاء بن يَسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنَّ الرجل ليَتَكلَّم بالكلمة يُضْحكُ بها جُلسَاءَه يَهْوي بها أبْعَد من الثُّرَيا". غريب، والزُّبَيْرُ فيه لينْ

(5)

.

(1)

رواه أبو يعلى رقم (6670).

(2)

أي حسبي.

(3)

رواه البخاري (4849) ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة، والبخاري (4848) ومسلم (2848) من حديث أنس.

(4)

رواه مسلم رقم (2988) والبخاري (6477).

(5)

أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" رقم (948).

ص: 362

وقال أحمد: حدّثنا حُسَيْنُ بن محمد، حدّثنا خَلَفُ بن خَليفةَ، عن يزيد بن كَيْسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسَمِعْنا وَجْبةٌّ

(1)

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أتدْرُونَ ما هذا؟ " قلنا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال:"هذا حَجَرٌ أُلْقِيَ في جهَنَّمَ مُنْذُ سَبْعين خَريفاً، فالآنَ انْتَهى إلى قَعْرِها". ورواه مسلم عن محمد بن عبَّاد [و] ابن أبي عمر، عن مَرْوانَ، عن يَزيد بن كَيْسانَ، به، نحو

(2)

.

‌حديث آخر

وقال الحافظ أبو نُعيم الأصْبهانيّ: حدّثنا عبدُ الملك بن الحسن بن يوسف السَّقَطيّ، حدّثنا أحمدُ بن يحيى، حدّثنا أبو أيُّوب الأنصاريّ، أحمد بن عَبْد الصمد، حدّثنا إسماعيلُ بن قَيْس، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الحُباب سعيد بن يَسارٍ، عن أبي سعيد الخُدْريّ: أنَّهُ قال: سمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صوتاً هاله ذلك، فأتاه جبريلُ فقال:" ما هذا الصوتُ يا جبريل؟ " قال: هذه صَخْرةٌ هَوَتْ من شَفير جَهنَّم، منذ سبعين عاماً، فهذا حين بلغت قَعْرَها، أحَبَّ اللهُ أن يُسْمعك صَوْتَها، قال: فما رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْد ذلك اليومِ ضاحِكاً مِلْءَ فيه حتَّى قَبضَهُ اللهُ عز وجل

(3)

.

وقد روى البيهقيُّ من طريق أبي مُعاويةَ، عن الأعمش، عن يَزيد الرَّقاشيّ، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحواً من هذا السِّياق

(4)

.

وثبت في "صحيح مسلم" عن عُتْبَةَ بن غَزْوانَ: أنّه قال في خطْبتِهِ: وقد ذُكِرَ لنا أنَّ الحَجَر يُلْقَى من شَفير جَهنَّم فيَهْوي فيها سَبْعين عاماً، لا يُدْرك لها قعراً، واللهِ لَتُمْلأنَّ، أفعجبتُمْ؟ وقد ذُكر لنا أنّ ما بين مِصْرَاعينِ من مصاريع الجنَّة مَسيرةُ أربعين سنة، ولَيَأتِينَّ عليه يومٌ وهو كَظيظٌ من الزِّحامِ

(5)

.

‌حديث آخر

قال الحافظ أبو يَعْلَى: حدّثنا عُثْمانُ بن أبي شَيْبَةَ، حدّثنا جَريرٌ، عن عطاء بن السائب، عن أبي بَكْر

(6)

، عن أبيه أبي موسى [الأشعَري]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنَّ حَجَراً

(1)

الوجبة: صوت السقوط.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 371) ومسلم رقم (2844).

(3)

وإسناده ضعيف.

(4)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(533) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه مسلم رقم (2967).

(6)

في الأصول: عن أبي بردة.

ص: 363

قُذِفَ به في جَهنم لَهَوى سَبْعينَ خَريفاً قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ قَعْرَها"

(1)

.

‌حديث آخر

روى الترمذيّ، والنّسائيّ، والبَيْهقيّ، والحافظ أبو نُعَيم الأصْبَهاني، واللفظُ له، من حديث عبد الله بن المُبارك: حدّثنا عَنْبسةُ، عن حبيب بن أبي عَمْرةَ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاس، قال: أتَدْرُونَ ما سَعَةُ جَهنَّم؟ فقلنا: لا، فقال: أجَلْ، والله ما تدرون، إنَّ ما بين شَحْمَةِ أُذُنِ أحَدِهم، و [بَيْنَ] عَاتِقِهِ مَسيرةُ سَبْعينَ خَريفاً، تَجْري فيه أوْدِيَةُ القيح والدَّمِ، قال: قلنا: أنهارٌ؟ قال: بل أوْديَةٌ، ثم قال: أتدرون ما سَعةُ جَهنَّم؟ قلنا: لا، قال: أجلْ، والله ما تدرون، حدَّثَتْني عائِشَةُ: أنّها سألتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أيْنَ النَّاسُ يَوْمئذٍ؟ قال: " على جِسْر جَهنَّم ". [و] إنما روى منه الترمذيّ، والنسائيّ المرفوعَ فقط، وقال الترمذيّ: صحيح غريب، من هذا الوجه

(2)

.

وثبت في "صحيح مسلم"، من حديث العلاء بن خالد، عن أبي وائل، شَقيق بن سَلمة، عن ابن مسعود مرفوعاً:"يُجاء بجَهنَّم تُقادُ بسَبْعين ألْف زِمامٍ، مع كلِّ زِمامٍ سبعون ألفَ مَلك يَجُزُّونَها"

(3)

. وروي موقوفاً على ابن مسعود، رضي الله عنه، فالله أعلم

(4)

.

وروي في حديثٍ عن علي بن موسى الرِّضا، عن آبائِه، [عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه،] مرفوعاً: "هل تدرون ما تَفسيرُ هذه الآية: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 21 - 23] " قال: "إذا كان يومُ القيامة تقادُ جَهنَّم بسَبْعين ألف زِمامٍ، كُلُّ زمام بِيَدِ سَبْعينَ ألف مَلكٍ" قال: "فتشرد شردةً لَوْلا أنَّ اللهَ حبسها لأحْرَقَتِ السَّمواتِ وَالأرْضَ"

(5)

.

وقال أحمد: حدّثنا عليّ بن إسحاق، حدّثنا عبد الله، حدّثنا سعيدُ بن يَزيد، حدّثنا أبو السَّمْحِ، عن عيسى بن هلال الصَّدَفيّ، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ رَصَاصةً مِثْلَ هَذ" - وأشارَ إلى جُمْجُمةٍ - " أُرْسلتْ من السماء إلى الأرض، وهي مَسيرةُ خَمسمئة سَنَة لَبَلَغتِ

(1)

رواه أبو يعلى رقم (7243) وإسناده ضعيف، ولكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها.

(2)

رواه الترمذي رقم (3241) والنسائي في الكبرى رقم (11453) والبيهقي في "البعث"(629) وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 183) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه مسلم رقم (2842).

(4)

رواه الترمذي رقم (2573).

(5)

وإسناده ضعيف.

ص: 364

الأرْضَ قبل الليل، ولو أنها أرْسلتْ من رَأسِ السِّلْسلةِ

(1)

لسارَتْ أرْبَعينَ سَنة الليلَ والنهار، قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ أصلها أو قعْرَها". ورواه الترمذيّ

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا عبد الله بن أميّة

(3)

، حدّثني محمد بن حُيَيّ، حدّثني صَفْوانُ بنُ يَعْلَى، عن أبيه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"البحرُ هو جَهنّم"

(4)

.

‌ذكر تعظيم خَلقهم في النار [أعاذنا الله من النار]

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].

وقال أحمد: حدّثنا وَكيعٌ، حدّثني أبو يَحْيى الطَّويلُ، عن أبي يَحْيى القَتَّات، عن مُجَاهد، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" يَعْظُمُ أهل النّارِ في النار حَتَّى إنَّ بَيْن شحْمة أُذُنِ أحَدِهمْ إلى عَاتِقه مَسيرةُ سَبْعمئة عامٍ، وإن غلَظَ جِلْده سبْعُونَ ذِراعاً، وإنَّ ضرسه مثلُ أُحُدٍ ". كذا رواه أحمد في " مسنده " عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو الصحيح.

وكذا رواه البيهقيّ، ثم رواه من طريق عِمْران بن زيد، عن أبي يحيى القتّات، عن مُجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، فذكر مثله، ثم صحح البيهقيّ الأوّل كما ذكرنا، والله أعلم. وهذا الحديث غريب من هذا الوجه.

ولبعضه شاهدٌ من وُجُوهٍ أُخرى عن أبي هريرة، فالله أعلم

(5)

. فقال الإمام أحمد: حدّثنا رِبْعيُّ بن إبراهيم، حدّثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سَعيدٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكَافِر يَوْمَ القِيَامة مِثْلُ أُحُدٍ، وعَرْضُ جلدِه سبْعُونَ ذِراعاً، وفَخذُه مِثْلُ وَرِقان

(6)

، ومَقْعدُه في النار مِثْلُ ما بَيْني وبَيْن الزَّبَذَةِ". ورواه البَيْهقيّ من طريق بِشر بن المُفَضَّل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، وزاد فيه: " وعَضُدُهُ، مِثْلُ البَيْضاءِ

(7)

"

(8)

.

(1)

المذكورة في قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} [الحاقة: 32].

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 197) والترمذي رقم (2588) وهو حديث حسن.

(3)

في الأصول: ابن أبي أمية، وهو خطأ.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 223) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 26) والبيهقي في "البعث والنشور" رقم (627) و (626) وإسناده ضعيف.

(6)

ورقان: جبل أسود بين العرج والرويثة، على يمين الذاهب من المدينة إلى مكة.

(7)

البيضاء: ثنية التعيم بمكة.

(8)

رواه أحمد في المسند (2/ 328) والبيهقي في "البعث"(624) وهو حديث حسن.

ص: 365

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا أبو النَّضْر، حدّثنا عبد الرحمن، يعني ابن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكافر مثلُ أحُدٍ، وفَخِذُه مثلُ البَيْضاء، ومقعَدهُ من النَّارِ كما بَيْن قُدَيد ومكة، وكثافة جلدِهِ اثنان وأربْعون ذِرَاعاً بذِراعِ الْجَبّار

(1)

(2)

".

‌طريق أخرى

قال البزّار: حدّثنا محمد بن اللَّيْث الهَدَاديّ، وأحْمدُ بنُ عثمانَ بن حكيم

(3)

، قالا: حدّثنا عُبَيْد الله بن موسى، حدْثنا شَيْبانُ، يعني ابنَ عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ضِرْسُ الكافر مِثْلُ أُحُدٍ، وغلَظُ جِلْدِه أرْبَعُونَ ذِراعاً"

(4)

.

‌طريق أخرى

قال البزّار: حدّثنا محمد بن المُثَنَّى، حدّثنا أبو عامر، حدّثنا محمد بن عفار، عن صالح مولى التَّوأَمةِ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكافر مِثْلُ أُحدٍ، ومَقْعَدُه من النارِ مَسيرةُ ثلاثٍ"

(5)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الحسن بن سُفْيَان: حدّثنا يوسفُ بن عيسى، حدّثنا الفَضْل بن موسى، عن الفضيل

(6)

بن غَزْوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بَيْن مَنْكبي الكافر، مَسيرةُ خَمْسةِ أيّام للرّاكِب المُسْرع"

(7)

.

قال الحسن: وحدّثنا محمد بن طَريف البَجَليّ، حدّثنا ابن فُضَيْل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن

(1)

قال الذهبي: ليس ذا من الصفات في شيء. وهو مثل قولك: ذراع الخياط، وذراع النجار. والجيار: الملك العظيم.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 234) وإسناده حسن.

(3)

في (آ): أحمد بن عفان بن حكيم، وفي الفاسية: أحمد بن عثمان بن حليم.

(4)

وهو حديث حسن.

(5)

رواه ابن عدي في " الكامل "(6/ 2234) وفيه ضعف.

(6)

في الأصول: الفضل، وهو خطأ.

(7)

أخرجه البيهقي في "البعث"(618) من طريق الحسن بن سفيان، به.

ص: 366

أبي هريرة، رفعه، قال:" ما بَيْنَ مَنْكِبي الكافِرِ في النار مَسيرةُ ثَلاثةِ أيَّام للراكب المسرع ". قال البيهقي: ورواه البخاريّ عن معاذ بن أَسَد، عن الفضل بن موسى، ورواه مُسلم عن أبي كُرَيب، وغيره، عن ابن فُضَيْل ولم يَقُلْ: رفعه

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

قال البزّار: حدّثنا الحسين

(2)

بن الأسود، حدّثنا محمد بن فُضَيْل، حدّثنا عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكافر مثلُ أُحُدٍ، وفَخذه مثل الوَرِقَانِ، وغِلَظُ جِلْدِهِ أربعون ذِرَاعاً ". ثم قال البزّار: لا يُرْوَى عن أبي هريرة بأحسن من هذا الإسناد، ولم نسمعه إلّا من الحسين بن الأسود

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عبد الله بن قيس، قال: سمعت الحارث بن أُقَيْش يحدِّث [أنَّ] أبا بَززَةَ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن مِنْ أُمتي لَمَنْ يَشْفَعُ لأكثر من ربيعةَ ومضر، وإن من أُمتي لمن يعظَّم للنار حتى يكون أحد زواياها ". ورواه أحمد أيضاً عن محمد بن أبي عدي عن داود بن أبي هند، به

(4)

.

وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أبو حَيَّان [حدثني يزيد بن حَيَّان التيمي] قال: وحدثنا زيد بن أرقم قال: إن الرَّجُل من أهل النار ليعظَّم للنار، حتى يكون الضِّرْس من أضراسه كأحد"

(5)

.

فأما الحديثُ الذي رواه الإمامُ أحمد: حدّثنا يحيى، عن ابن عَجْلان، عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" يُحْشرُ المُتَكبِّرُونَ يوم القيامة أمثال الذّرّ في صُوَرِ الناس يعلوهم كُلُّ شَيْءٍ من الصَّغارِ حتى يَدْخُلوا سجناً في جَهنَّم، يقال لهُ: بُولَس، فتعلوهم نار الأنيار، يُسْقَون من طينة الخَبالِ عُصارة أهْلِ النار ". وكذا رواه الترمذيّ، والنسائيُّ، عن سُوَيْد بن نَصْر، عن ابن المبارك، عن ابن عَجْلان، به، وقال الترمذيّ: حسن

(6)

. فالمراد أن المتكبِّرين يُحْشَرُونَ إلى الموقف هكذا، ويكونون فيه بين الخلق كذلك، فإذا سيقُوا إلى النار ودخلوها، عظُم خلقهم فيها كما دَلَّتْ عليه الأحاديثُ التي أوردناها، ليكون ذلك أنْكى وأشد

(1)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(619) من طريق الحسن بن سفيان، ورواه البخاري (6551) ومسلم (2852).

(2)

في (آ): حدّثنا يحيى، حدّثنا الحسن.

(3)

وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 212) وإسنادهما ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (4/ 366) وهو حديث صحيح.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 179) والترمذي (2492).

ص: 367

في تَعْذيبهم، وأعْظَم في خزيهم، كما قال:{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]، والله سبحانه أعلم.

‌ذكر أن البحر يُسجر يوم القيامة ويكون من جُملة جَهَنّم

قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا عبدُ الله بن أمَيّة، حدّثنا محمد بن حُيَيّ، حدّثنا

صَفْوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:" البَحْرُ هوَ جهنّم " قالوا لِيَعْلى. فقال:

ألا ترون أن الله عز وجل يقول: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]؟ قال: لا والذي نفسُ يَعْلَى

بيده، لا أدْخُلُها أبداً حتى أُعْرض على الله عز وجل، ولا يُصيبُني منها قَطْرَةٌ حَتى ألقَى الله عز وجل.

وقد رواه البَيْهقيُّ، من طريق يعقوب بن سُفْيَان: حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا محمد بن حُيَيّ، عن صَفْوانَ بن يَعْلَى، عن يَعْلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَحْرُ هو جَهنّم" ثم تلا: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. وهكذا رأيتُه بخطّ الحافظ ابن عساكر: حدّثنا أبو عاصم، حدّثني محمد بن حُيَيّ. وفي " المسند" كما تقدّم بينهما عبد الله بن أمَيّة، وكذلك رواه أبو مسلم الكجِّي، عن أبي عاصم، عن عبد الله بن أمية

(1)

: حدّثني رجل، عن صفوانَ بن يعلى، عن يَعْلَى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَحْرُ هو جَهنَّم"

(2)

.

وقال أبو داود: حدّثنا سَعيدُ بن منصور، حدّثنا إسماعيل بن زَكريّا، عن مُطرِّف، عن بشر [أبي عبد الله، عن بشير] بن مُسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يركب البَحْرَ إلا حاجٌّ أو مُعْتَمر، أو غَازٍ في سبيل الله، فإنَّ تَحْتَ البَحْر ناراً، وتَحْتَ النارِ بَحْراً"

(3)

.

‌ذكر أبواب جهنم، وصفة خزنتها، وزبانيتها أعاذنا الله من ذلك بما شاء

قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].

(1)

في الأصول: عبد الله بن أبي أمية، وهو خطأ.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 223) وأخرجه البيهقي أيضاً في "السنن الكبرى"(4/ 334) وأخرجه البيهقي في "البعث والنشور"(496) من طريق أبي مسلم الكجي؛ وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود رقم (2489) وإسناده ضعيف.

ص: 368

قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 43 - 44].

وقال البَيْهقيّ: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو العباس الأصَمّ، حدّثنا سعيد بنُ عُثْمانَ، حدّثنا بِشْرُ بن بكر، حدّثني عبد الرحمن بن يزيد، حدّثني أبو سعيد، سمعتُ أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصِّرَاطَ بَيْن ظَهْرَي جَهنَّم، دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، فالأنْبياءُ يَقُولونَ عليه: اللَّهُتمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، والناسُ عليه كَلَمْحِ البَرْقِ، وكَطَرْفِ الْعَيْنِ، وكأجَاويدِ الْخَيْلِ والبِغالِ، والرِّكابِ، وشدّاً على الأقدام. فناج مسلَّم، ومَخْدُوشٌ مُرْسلٌ، ومَطْروحٌ فيها، ولها سَبْعةُ أبواب، لِكُلِّ بابٍ منهُمْ جزءٌ مقسوم"

(1)

.

وقال البيهقىّ: أخبرنا أبو الحُسَيْن بن بِشْران، حدّثنا إسماعيلُ بن محمد الصفّار، حدّثنا سَعْدانُ بنُ نَصْر، حدّثنا مَعْمر، عن الخليل بن مُرّة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ لا ينامُ حتّى يقرأ (تَبَارك) و (حم) السجدة، وقال:" الحَواميمُ سَبْعٌ، وأبوابُ جَهنَّم سَبْعٌ: جَهَنَّمُ، والْحُطمةُ، ولَظى، وسَعيرٌ، وسَقَرُ، وَالهَاويةُ، والجَحيمُ " وقال: " تَجيءُ كُلُّ (حم) منها يومَ القيامة" أحْسِبُه قال: " تقفُ على بابٍ من هذه الأبواب، فتقول: اللهمّ لا تُدْخِلْ هذه الأبوابَ منْ كانَ يُؤْمن بي ويقرؤني " ثم قال البيهقيّ: وهذا مُنقطع، والخليلُ بنُ مُرَّةَ فيه نظر

(2)

.

وروى الترمذيّ من حديث مالك بن مِغوَل، عن جُنيد، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لِجهنّم سَبْعةُ أبوابٍ، باب منها لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ على أمّتي "[أو قال: " على أمة محمد] ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْول

(3)

.

وقال كعب

(4)

: لِجَهنَّم سَبْعةُ أبواب، بابٌ منها لِلْحَرُوريَّةِ

(5)

.

وقال وهب بن مُنبّه: بَيْنَ كلِّ بَابَيْنِ من أبواب جهنم مَسيرَة سَبْعينَ سَنةً، كلُّ بابٍ أشدُّ من الذي فوقه بسبعين ضِعْفاً.

وقال أبو بكر بن أبي الدّنيا: حدّثنا خَلَفُ بن هِشامِ، حدّثنا أبو شِهابٍ الحنَّاط

(6)

، عن عمرو بن قَيْس المُلائيّ، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمْرة، عن علىّ، قال: إنّ أبوابَ جَهنَّم

(1)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(505).

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور" رقم (508). أقول: لكن صح أوله "كان لا ينام حتى يقرأ تبارك، وحم السجدة" من حديث جابر عند أحمد (3/ 340) والترمذي رقم (3404) والنسائي في الكبرى رقم (10544).

(3)

رواه الترمذي رقم (3123) وإسناده ضعيف.

(4)

في الأصول: أُبي بن كعب، وهو خطأ، والتصحيح من "الدر المنثور"(4/ 100).

(5)

الحرورية: الخوارج، وسموا بذلك، نسبة إلى حروراء قرية قرب الكوفة.

(6)

في (آ): الخياط، وهو خطأ.

ص: 369

بَعْضُها فوق بَعْض، وأشار أبو شهاب بأصابعه، فيُمْلأُ هذا، ثم هذا، ثم هذا

(1)

.

حدّثني إبراهيمُ بن سعيد الجَوْهريّ، حدّثنا حجّاجٌ، حدّثنا ابنُ جُرَيْج، في قوله تعالى {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: أوَّلُها جَهنّم، ثم لَظى، ثم الحُطَمة، ثمّ السَّعيرُ، ثم سَقَر، ثم الجَحيم، وفيها أبو جَهل، ثم الهاوية، وقال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} أي غلاظ الأخلاق، شداد الأبدان {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} أي: بَعزمهم ونيّتِهمْ، فهم لايريدون أن يخالفوه في شيء أبداً، لا بالعزم، ولا بالنية لاظاهراً ولا باطناً {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] أي: إن فعلهم ليس بإرادتهم ولا باختيارهم، بل إنما هو صادر عن أمر الله لهم بما أُمروا به، بل لهم قوةٌ على إبراز ما أُمروا به من العَزْمِ إلى الفِعْل، فلهم عزمٌ صادق، وأفعالٌ عظيمة، وقوى بليغةٌ، وشدَّةٌ باهرة، وقال تعالى:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} أي لكمال طاعتهم وقوتهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 30 - 31] أي اخْتباراً، وامتحاناً، وكانَّ هؤلاء التسعةَ عشَرَ، كالمُقدَّمين الذين لهم أعوانٌ، وأتباعٌ. وقد رَوينا عند قوله تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] أن الربّ تعالى إذا قال ذلك وأمر به ابتدره سبعون ألفاً من الزَّبَانية، وقد قال الله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 - 26].

وروى الحافظ الضياءُ من حديث محمد بن سُلَيمان بن أبي داود، عن أبيه، عن يزيد البَصْريّ، عن الحسن البصريّ، عن أنس مرفوعاً:" والذي نفسي بيده: لقد خُلقت مَلائكةُ جهنّم قبل أن تُخْلَق جهنَّم بألف عام، فهم كلَّ يوم يَزْدادُون قُوَّةً إلى قُوَّتهمْ حتى يَقْبِضُوا على من قَبَضُوا عليه بالنواصي والأقْدامِ"

(2)

.

‌ذكر سرادق النار وهو سورها المحيط بها وما فيها من المقامع والأغلال والسلاسل والأنكال أجارنا الله تعالى من ذلك جميعه

قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] وقال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 8 - 9] مُؤْصَدَة، أي مُطبَقَةٌ.

وقد رواه ابن مَرْدَويْهِ في "تفسيره" من حديث شَريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار" رقم (7).

(2)

وإسناده ضعيف.

ص: 370

أبي هريرة

(1)

مرفوعاً، ورواه أبو بكر بن أبي شَيْبَة، عن عبد الله بن أَسِيد الأخنسي

(2)

، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قوله.

وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 - 13] وقال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71 - 72] وقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:48 - 50] وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 41] وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 19 - 21].

وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدّثنا زُهَيْرٌ، حدّثنا حسن، عن ابن لَهيعَةَ، حدّثنا دَرَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لِسُرادق أهل النار أربع جُدُرٍ كُثُفٍ، كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة". ورواه الترمذي عن سويد، عن ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به نحو

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنَّ مِقْمَعاً منْ حَدِيد جهنم وُضِعَ في الأرْضِ فاجْتمعَ له الثقلانِ ما أقلُّوه

(4)

من الأرْض"

(5)

.

وقال ابن وَهْب: عن عمرو بن الحارث، عن درّاج أبي السَّمْحِ

(6)

، عن أبي الهَيْثم، عن أبي سعيد: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ ضُرِبَ بِمقْمعٍ منْ حَديدِ جهنم الجَبلُ لَفَتَّتَهُ فَعادَ غُبَاراً"

(7)

.

وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدَوَيْهِ في "تفسيره" من طريق بشير

(8)

بن طَلْحةَ، عن خالد بن دُرَيْك، عن يَعْلَى بن مُنْية، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "يُنْشئ اللهُ لأهْلِ النارِ سَحابةً مظلمة، فإذا أشْرَفَتْ

(1)

في (آ): عن عاصم عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وهو خطأ.

(2)

في (آ): عبيد الله بن أسيد الأخنسي، وهو خطأ.

(3)

رواه أبو يعلى في مسنده (1389) والترمذي (2584) وإسناده ضعيف.

(4)

أي ما حملوه.

(5)

رواه أحمد فى مسنده (3/ 29) وإسناده ضعيف.

(6)

في الأصول: عن دراج عن أبي السمح وهو خطأ.

(7)

أخرجه الحاكم (4/ 601) من طريق ابن وهب، به، وإسناده ضعيف.

(8)

في الأصول: بشر، وهو خطأ.

ص: 371

عليهم نادتهم: يا أهْلَ النار، أيَّ شَيءِ تَطْلُبونَ؟ وما الذي تَسألُون؟ فيذكرون بها سَحَائبَ الدنيا، والماءَ الذي كان يَنزلُ عليهم، فيقولون: نسأل يا ربّ الشرابَ، فتُمْطِرُهم أغلالًا تُزَادُ في أغلالهم، وسَلاسِلَ تُزادُ في سَلاسِلِهم، وجَمْراً يُلْهِبُ النَّارَ عَلَيْهم"

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا بشْرُ بنُ الوليد الكِنْديّ، حدّثنا سعيد بن زَرْبيّ، عن حُمَيْد بن هلال، عن أبي الأحْوص، قال: قال ابن مسعود لأصحابه: أيّ أهل النار أشدُّ عذاباً؟ فقال رجل: المنافقون، قال: صَدَقتْ، فهَلْ تدري كيف يُعذَّبون، قال: لا، قال: يُجْعَلونَ في تَوابيتَ من حَديدٍ فتُصْمدُ عليهم، ثم يُجْعلُونَ في الدَّرْكِ الأسْفلِ من النار في تَنَانيرَ أضْيقَ منَ الزُّجّ

(2)

، يقالُ له: جُبُّ الحَزَن، فيُطبق على أقوام بأعمالهم آخِرَ الأبَدِ

(3)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثني علي بنُ حسن، عن محمد بن جَعْفر المَدائنيّ، حدّثني بَكْرُ بن خُنَيْس، عن أبي سلمة الثَّقفيّ، عن وَهْب بن مُنَبِّه، قال: إن أهل النار الذين هم أهلُها، فهم في النار، لا يَهْدَؤونَ، ولا ينامون، ولا يَمُوتُونَ، يَمْشُونَ على النار، ويَجْلسونَ ويَشْربُونَ من صَديدِ أهْلِ النارِ، ويأكلون من زَقُّوم النارِ، لُحُفهم نار، وفرشهم نار، وقُمُصُهم نارٌ وقَطِرَانٌ وتَغْشَى وُجُوهَهمُ النارُ، وجَميعُ أهل النار في سَلاسِل، بأيْدي الخَزَنةِ، وأطْواقُها في أعناقهم، يَجْذبُونَهُمْ مُقْبلينَ ومُدْبرين، فيَسيلُ صَديدُهم إلى حُفَرٍ في النار، فذلك شَرَابُهُمْ، قال: ثم بكى وَهْبٌ حتى سَقَط مَغْشياً عليه، قال: وغَلَبَ بَكْرَ بن خُنَيْسٍ البكاءُ، حتّى قام، فلم يَقْدِر أن يَتَكلَّم، وبَكى محمدُ بن جعفرٍ بكاءً شَديداً.

وهذا الكلام عن وهب بن مُنَبّه اليَمَانيّ، وقد كان يَنْظُر في كُتب الأوائل، وينقُل من صُحف أهل الكتاب الغَثّ والسَّمينَ، ولكن لهذا الكلام شواهد من القرآن العظيم، وغيرِه من الأحاديث، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 74 - 77] وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 39 - 40]. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ

(1)

وإسناده ضعيف.

(2)

والزج: الحديدة التي تركب في أسفل الرمح ويركز بها الرمح في الأرض. "تاج العروس"(زجج).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(100) وإسناده ضعيف.

ص: 372

الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:49 - 50]. وقال تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13]، وتقدم في الصحيح:" أما أهلُ النار الذين هم أهلها فإنّهم لا يموتُونَ فيها، ولا يَحْيَوْنَ"

(1)

.

وفي الحديث المتقدّم في ذبح الموت بين الجَنَّةِ والنار: ثُمَّ يُنادي المنادي: "يا أهْلَ الجَنَّة خُلُود فلا مَوْتَ، ويا أهل النار خلود فلا موت"

(2)

. وكيف ينامُ من هو في عذابٍ مُتَوَاصلٍ لا يُفَتَّرُ

(3)

عنه ساعةً واحدة، ولا لَحْظةً، بل كلّما خَبَتْ

(4)

نارُهم، زادهم اللهُ سَعيراً، [وقال تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22]].

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا إبراهيم، حدّثنا ابنُ المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السَّمح، عن ابن حُجَيْرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم لَيُصَبّ على رؤوسهم، فيَنفُذُ الْجُمجمةَ حتى يخْلُصَ إلى جَوْفِهِ، فيَسْلُتْ

(5)

ما في جوفه حتَّى يَمرُق

(6)

من قدَمَيْه"

(7)

.

وروى الترمذيُّ، والطبرانيّ واللفظ له، من حديث قُطْبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن شِمْر بن عَطِيّة، عن شَهْر بنِ حَوْشَبٍ، عن أُمِّ الدَّرْداءِ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُلْقَى على أهْلِ النار الجوع، فيعدل ما هُمْ فيه منَ العَذابِ، فيستغيثون بالطعام، فيُؤْتَوْنَ بطعام ذي غُصَّةٍ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا إذا غصوا يسيغونه بالشراب، فيَسْتَغيثُونَ بالشراب، فيؤتون بالْحَميم في قِلال من نار، فإذا أُدْنيتْ من وُجوههم قَشَرتْ وُجُوهَهُمْ، فإذا دَخلتْ بطونَهم قَطَّعَتْ أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون عند ذلك فيُقال لهم:{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50]، فيقولون: ادْعُوا لنا مالكاً، فيقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ

} الآية [الزحرف: 77]، فيقولون:{رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106] فيقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. ورواه الترمذيّ

(1)

رواه مسلم رقم (185).

(2)

رواه البخاري رقم (4730) ومسلم (2849) من حديث أبي سعيد الخدري.

(3)

أي: لا يخفف.

(4)

أي: هدأت وضعفت.

(5)

أي: يقطعه ويستأصله.

(6)

أي: ينفذ.

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 374) وفي إسناده ضعف.

ص: 373

عن الدارميّ، وحَكَى عنه أنه قال: الناسُ لا يرفعون هذا الحديث. قال الترمذيّ: إنّما يُرْوَى عن أبي الدرداء قولَه

(1)

.

‌ذكر طعام أهل النَّار [وشرابهم]

قال الله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6 - 7]، والضريعُ: شوكٌ بأرض الحِجَاز، يقال له: الشِّبْرِق.

وفي حديث الضحَّاك، عن ابن عبَّاس مرفوعاً:"الضَّريعُ شيءٌ يكون في النار، يقالُ: يُشْبِهُ الشَّوْكَ، أمَرُّ من الصَّبر، وأنْتن من الْجيفَةِ، وأشدُّ حرّاً من النار، إذا طَعِمهُ صاحِبُه لا يَدْخُلُ البَطْنَ، ولا يَرْتَفعُ إلى الفم، فيَبْقَى بَيْن ذلك، لا يُسمن ولا يُغْني من جُوعٍ" وهذا حديث غريب جدّاً.

وقال الله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 - 13]. وقال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهم: 15 - 17]. وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 51 - 56].

وقال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 62 - 67].

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثنا صَفْوانُ بنُ عَمْرٍو، عن عبد الله بن بُسْر اليَحْصُبيّ، عن أبي أُمَامَةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قول الله تعالى:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} قال: " يُقَرَّبُ إليه فيتكَرَّهُهُ، فإذا أُدْني منه شَوَى وَجْهَهُ، ووقعت فَرْوةُ رأسه فيه، فإذا شَرِبهُ قَطَّعَ أمعاءه، حتَّى يخرُج من دُبُرِهِ، قال الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ويقول الله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] ". ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نَصْر، عن المبارك، به نحوه، وقال: غريب

(2)

.

وفي حديث أبي داود الطيالسي، عن شُعْبَة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال: " لوْ أنَّ قطْرةً منَ

(1)

رواه الترمذي (2586) وإسناده ضعيف في المرفوع.

(2)

أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد"(314 - زوائد نعيم) والترمذي رقم (2583).

ص: 374

اْلزَّقّومِ قطِرَتْ في بحارِ الدُّنيا لأفسْدتْ عليهم مَعَايشُهم، فكيف بمن يكون طعَامَه؟ ".

رواه الترمذي، عن محمود بن غَيْلان، عن أبي داود، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائيّ وابن ماجه، من حديث شُعْبة، به

(1)

.

وقال أبو يَعْلى الموصلي: حدّثنا زُهَيْرٌ، حدّثنا الحسنُ بن موسى الأشْيَبُ، حدّثنا ابنُ لَهيعةَ، حدّثنا دَرَّاج أبو السَّمح، أنَّ أبا الهَيْثَم حدَّثه، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لَو أنَّ دَلْواً من غسَّاقٍ يُهَرَاق في الدُّنيا، لأنتن أهلُ الدنيا "، ورواه الترمذي من حديث درَّاج

(2)

.

وعن كعب الأحبار أنّه قال: إنّ اللهَ ليَنْظُر إلى عبده يوم القيامة وهو غضبانُ، فيقول: خُذُوه، فيأخذُه مئةُ ألف مَلَك، أو يزيدون، فيَجْمعون بين ناصِيَته وقَدَمَيْهِ غَضباً منهم لغضَبِ الله تعالى، فيَسْحَبُونه على وجهه إلى النار، فالنار عليه أشدُّ غَضباً منهم بسبعين ضِعْفاً، فيستغيثُ بشَرْبة ماءٍ، فَيُسْقى شَرْبةً يسقُطُ منها لَحْمُهُ وعَصَبهُ، ثم يُكَرْدسُ في النار، فويلٌ له من النار.

وعنه أيضاً أنّه قال: هل تدرون ما غسَّاقُ؟ قالوا: لا، قال: إنَّها عَيْنٌ في جَهنَّم يَسيلُ إلَيْها حُمةُ كُلِّ ذات حُمةٍ، من حَيَّةٍ أوْ عَقْرب أو غير ذلك، فيَسْتنْقعُ، ويؤتى بالآدميّ، فيُغْمسُ فيه غَمْسةً وَاحِدةً، فيَخْرُج وقد سَقَط جِلْدُهُ عن عظامه، ويُعَلَّقُ جِلْده ولَحْمُه في كَعْبَيْه، فَيَجُرُّ لحمَهُ وجلده، كما يَجُرُّ الرجُلُ ثَوْبَه.

‌ذكر أماكن في النار وردت بأسمائها أحاديث، وبيان صحيح ذلك وسقيمه

قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 8 - 9]، قيل: فأُمُّ رأسه هاوية، أي ساقطةٌ، من الهُويّ في النار، قال ابن جُرَيج: الهاوية: هي أسفل دَرْك في النار، كما ورد في الحديث:" إنَّ الرَّجلَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ منْ سَخَطِ اللهِ يَهْوي بها في النار أبْعَدَ ما بَيْنَ المشرق، والمغرب"

(3)

وفي رواية: "سبعين خريفاً"

(4)

، وقيل المراد بقوله: فأمُّه هاويةٌ، أي: الدَّرْكُ الأسْفلُ من النار، أو هي صفةُ النار من حيث هي.

(1)

رواه أبو داود الطيالسي (2643) وأحمد في المسند (1/ 301) والترمذي رقم (2585) والنسائي في "الكبرى" 11070) وابن ماجه (4325) وهو حديث حسن.

(2)

رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1381) والترمذي بعد (2584) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه مسلم (2988).

(4)

رواه ابن ماجه (3970) وهو حديث صحيح.

ص: 375

وقد ورد الحديثُ بما يُقَوِّي هذا المعنى، والله أعلم.

قال أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَوَيهِ: حدّثنا عبد الله بن خالد بن محمد بن رستم، حدّثنا محمد بن طاهر بن أبي الدُّمَيْك

(1)

، حدّثنا إبراهيم بن زياد، سبلان، حدّثنا عبَّاد بن عباد، حدّثنا روْح بن المسيب: أنه سمع ثابتًا البُنَانيّ يُحدّث، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات المُؤمنُ [تلقته أرواح المؤمنين] يَسْألونَه: ما فعلَ فلان؟ ما فعلتْ فلانةُ؟ فإن كان قد مات ولم يأتهم، قالوا: خُولفَ به إلى أُمِّهِ الهاوية؟ فبئستِ الأمّ، وبئْسَتِ المرَبِّية، حتى يقولوا: ما فعل فلان؟ هل تزوّج؟ ما فعلت فلانةُ؟ هل تزوجت؟ فيقولون: دعوه يستريح، فقد خرج من كرب عظيم"

(2)

.

وقال ابن جرير: حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثَوْر

(3)

، عن مَعْمَر، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى، قال: إذا مات المؤمنُ ذُهِبَ برُوحِه إلى أرواح المؤمنين، فيقولون: رَوّحوا أخاكم، فإنَّه كان في غم الدُّنيا، قال: ثم يسألونه: ما فعل فلان، فيقول: مات، أوَ ما جاءكم؟ فيقولون: ذُهِبَ به إلى أُمّه الهاوية.

وروى الحافظُ الضياءُ من طريق شَرِيك القاضي، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القتلُ في سبيل الله يُكَفِّر الذُّنوبَ كُلَّها-" أو قال: " يُكَفرُ كُلّ ذَنْبٍ- إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أدِّ أمانَتَك، فيقول: أنَّى يارَبّ وقد ذَهبتِ الدّنيا، ثلاثَ مَرَّات، فيقال: اذهَبُوا به إلى الهاوية، فيُذْهبُ به إلَيها، فيْهوي فيها حتَّى يَنْتَهيَ إلى قَعْرها، فيَجِدَهَا هناك كَهَيْئتها، فيَحْمِلُها فيضَعُها على عاتِقِه، ثُمَّ يَصْعدُ بها في نار جهنَّم حتى إذا رأى أنّه قد خرج منها زَلّت، فَهَوى في أثَرِها كذلك أبد الآبدين" قال: "والأمانةُ في الصلاة، والأمانةُ في الصوم، والأمانةُ في الوضوء، والأمانةُ في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائعُ، قال يعني زَاذَان: فلقيتُ البَرَاءَ، فقلت: ألا تسمعُ ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال: صدق. وهذا الحديث ليس هو في "المسند" ولا في شيء من الكتب الستة

(4)

.

(1)

في (آ): الرشك، وهو خطأ.

(2)

في سنده: روح بن المسيب الكلبي البصري، قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا تحل الرواية عنه.

(3)

في الأصول: أبو ثور، وهو خطأ.

(4)

وفي إسناده ضعف.

ص: 376

‌سجن في جهنم يقال له: بولس

تقدّم ذكره في حديثٍ رواه الإمام أحمد، من حديث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

‌جب الحزن

قال عليّ بن حرب: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد، حدّثنا عمّار بن سيف، عن أبي مُعاذ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعيذوا بالله من جُبّ الحَزَن" قالوا: وما جُبُّ الْحَزن؟ قال: "وادٍ في جَهنّم تستعيذ جهنم منه كلّ يوم أرْبعمئة مرَّة، أعدَّه الله للقرَّاء المرائين بأعمالهم، وإنَّ من أبغَض القرَّاءِ إلى الله الذين يُؤازرُون الأمراءَ الْجَوَرة". ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عمَّار بن سيف، عن أبي مُعان - وهو الصواب - به، اختصره الترمذيّ، وقال: غريب، وعنده:"مئة مرة" وبسطه ابن ماجه، وعنده:"يزورون الأمراء الْجوَرة"

(2)

.

‌جب الفلق

قال هُشَيم، عن العوَّام بن حوشب

(3)

، عن عبد الجبَّار الخَوْلاني، قال: قَدِم علينا رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم[دمشق] فرأى ما فيه الناس من الحِرْص على الدنيا والشهوات، وما هم فيه من زينتها، فقال: وما يُغني عنهم ذلك؟ أوليس من ورائهم الفلَق، قيل له: وما الفَلَق؟ قال: جُبٌّ في النار، إذا فُتِح، هَرَّ منه أهل النار. كذا، ولم يقل: فرَّ منه أهل النار، بل هَرَّ منه، كذا ذكر ابن عساكر في ترجمة رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌ذكر وادي لملم

قال الحسن بن سُفْيَان: حدّثنا حِبَّان بن موسى، حدّثنا ابن المبارك، حدّثنا يحيى بن عُبَيْد الله

(4)

: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ في جهنّم لَوَاديًا يُقالُ له: لَمْلَمُ، إن أوْديةَ جهَنَّم لتَسْتَعيذُ بالله من حَرّه". هذا حديث غريب.

(1)

رواه أحمد (2/ 179) وإسناده حسن.

(2)

رواه الترمذي (2383) وابن ماجه (256) وإسناده ضعيف.

(3)

في الفاسية: العوام بن حرب.

(4)

في (آ): يحيى بن عبد الله، وهو خطأ.

ص: 377

‌ذكر نهر فيها هو منها بمنزلة نهر القلوط

(1)

من أنهار الدنيا

وهو مجتمع الأوساخ، والأقذار، والنَّتْن، أعاذنا الله منه.

قال الإمام أحمد: حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا المُعْتَمر بن سُلَيْمان، قال: قرأت على الفُضَيْل بن مَيْسرة، عن حديث أبي حَريزٍ

(2)

، أنَّ أبا بُرْدةَ حدَّثه، عن حديث أبي موسى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلاثة لا يدخلون الجَنة: مُدْمنُ خَمْرٍ، وقَاطعُ الرحم، ومُصَدِّق بالسِّحر، ومن مات مُدْمنَ خمر، سقاهُ اللهَ من نَهْر الغُوْطةِ" قيل: وما نهرُ الغُوْطَةِ؟ قال: "نهر يَجْري من فُروج المُومِسَاتِ، يُؤذي أهْلَ النارِ ريحُ فُروجهن"

(3)

.

‌ذكر وادٍ أو بئر فيها يقال له: هبهب

قال أبو بكر بن أبي الدّنيا: حدّثنا أبو خَيْثمةَ، حدّثنا يَزيدُ بن هارون، حدّثنا الأزْهَرُ بن سِنان، حدّثنا محمد بن واسع، قال: دخلتُ على بلال بن أبي بُرْدَةَ، فقلت له: يا بلال، إن أباك حدّثني عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ في جَهَنَم لَوادِيًا يقال لهُ: هَبْهب، حَقًّا على الله أن يُسْكنه كُلّ جَئارٍ عَنِيد، فإياكَ يا بلال، أن تَكُونَ ممن يَسْكُنُه". وقد رواه الطبرانى من حديث سعيد بن سُلَيْمانَ، عن أزهر بن سِنانٍ، عن محمد بن واسع، أنه دخل على بلال بن أبي بُرْدَةَ بن أبي موسى، فقال له: إن أباكَ حدّثني، عن جَدّكَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "إنَّ في جهنَّم وَاديًا، وفي الوادي بئر يقالُ له: هَبْهب، حق على الله أن يُسْكنَهُ كل جَبارٍ عنيد". تفرَّد به أزهر بنُ سنان، وقد تكلم بعضُ الحفّاظ فيه وليَّنه

(4)

.

‌ذكر ويل وصعود

قال الله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، وقال تعالى:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17].

(1)

يطلق على النهر القذر بلغة أهل دمشق، وبلغة غيرهم، يقال له: القلوص.

(2)

في الفاسية: جوير، وفي (آ) جرير، وهو خطأ.

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 399) وإسناده ضعيف، ولكن لأوله "ثلاثة لا يدخلون الجنة، مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" شواهد يقوى بها.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(35) والطبراني في المعجم "الأوسط"(3548).

ص: 378

وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لَهيعة؛ عن دَرَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وَيْلٌ وادٍ في جَهنَم، يَهْوي فيه الكافر أربعين خَرِيفا قَبْلَ أنْ يَبْلُغ قَعْرَهُ، والصَّعُودُ جَبلٌ منْ نارٍ يَتصَعَّدُ فيه سَبْعين خَريفًا، ثم يَهْوي به كذلك فيه أبدًا". وكذا رواه الترمذيّ عن عبدِ بن حُمَيْدٍ، عن الحسن بن موسى الأشْيَب، عن ابن لَهيعَةَ، عن دَرَّاج، ثم قال: غريب لا نعرفه [مرفوعًا]، إلا من طريق ابن لَهيعَةَ. كذا قال، وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وَهْب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج به، وبكلِّ حال فهو حديث غريب، بل مُنْكَرٌ

(1)

والأظْهرُ في تفسير "ويل" أنّه ضِدّ السلامة والنجاة، كما تقول العرب: ويلٌ لهُ، ويا وَيْلهُ، ووَيْلهُ.

وقد روى البزّار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابنُ مَرْدويْه، من حديث شَريك القاضي، عن عمَّار الذُهْني، عن عَطيَّةَ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قال: "هو جَبَلٌ في النار، من نارٍ، يُكَلَّف أن يَصْعده، فإذا وضع يده عليه ذابتْ، فإذا رفعهما عادت، وإذا وضع رِجْلَه عليه ذابَتْ، فإذا رفعها عادتْ"

(2)

.

وقال قتادة: قال ابن عباس: صَعُودٌ: صَخْرةٌ في جهنَّم يُسْحَبُ عَلَيْها الكافرُ على وَجْهه.

وكذلك قال السُّديّ: صَخْرةٌ مَلْساءُ في جَهنَم، يُكَلَّفُ أن يَصْعَدها.

وقال مجاهد: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} ، أي مَشَّقَة من العذاب، وقال قتادة: عذابًا لا راحةَ فيه، واختاره ابن جَرير.

‌ذكر حيَّاتها وعقاربها أعاذنا الله منها برحمته

قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وثبت في "صحيح البخاريّ" من طريق عبد الله بن دِينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صَاحب كَنْنر لا يُؤدِّي زكاته إلا مُثِّلَ له كنزُه يوم القيامة شُجاعًا

(3)

أقْرَعَ

(4)

له زَبيبَتانِ

(5)

يَأْخُذُ بَلِهْزِمَتَيْه

(6)

فيقول: أنا مالكُ، أنا كنزكُ "، وفي

(1)

رواه أحمد في "المسند"(3/ 75) والترمذي (2576) و (3164) وعبد بن حميد في "المنتخب"(624).

(2)

وإسناده ضعيف.

(3)

الشجاع: الحية الذكر.

(4)

الأقرع: الذي لا شعر على رأسه، وهذا يكون أكثر سمًا من غيره.

(5)

أي نكتتان سوداوان فوق عينيه.

(6)

أي بشدقيه.

ص: 379

رواية: " يَفرُّ منه، وهو يَتْبعُه ويتَّقي منه، فيُلْقمُه يَدَه، ثم يُطَوِّقُه" وقرأ هذه الآية

(1)

وقد روي مثلُه عن ابن مسعود مرفوعًا

(2)

.

وقال الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] قال: زيدوا عَقَاربَ، لها أذْناب كالنَّخْل الطِّوال.

وروى البَيْهقيّ عن الحاكم، عن الأصَمّ، عن محمد بن إسحاق، عن أصْبَغ بن الفرَج، عن ابن وَهْب، عن عمرو بن الحارث: أنّ دَرَّاجًا أبا السَّمْح حدَّثه: أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جَزْءَ الزبَيْديّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في النَّارِ لَحيَّاتٍ أمْثَالَ أعناق البُخْت، يَلْسَعْن اللَّسْعة، فيجدُ حُمُوَّتَها أربعينَ خَريفًا، وإنَّ فيها لَعقاربَ كالبِغَالِ المُؤَكَّفةِ

(3)

يَلْسَعْن اللسعةَ فيجدُ حُموَّتَها أربعين خريفًا"

(4)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدّثني محمد بن إدريس الْحَنْظليّ، حدّثنا محمد بن عُثْمانَ أبو الجُماهر، عن إسماعيلَ بن عيَّاش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلَّام، حدّثني الحجَّاج بن عبد الله الثَّماليّ، وكان قد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وحجَّ معه حجَّة الوداع: أن نُفَيْر بنَ مُجيبٍ، وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقُدَمائِهم قال: إنَّ في جهَنَّم سَبْعين ألف وادٍ، في كُلِّ وادِ سبعون ألف شِعْبٍ، في كل شِعْبٍ سبعونَ ألفَ دَارٍ، في كلِّ دارٍ سبعون ألف بَيْتٍ، في كُل بَيْتٍ سبعون ألف شَق، في كل شَق سبعونَ ألْف ثُعْبانٍ، في شِدْقِ كُل ثُعْبان سبعون ألف عَقْربٍ، لا ينتهي الكافرُ والمنافق حتّى يواقع ذلك كُلَّه. وهذا موقوف، وغريب جدًا، بل منكر نكارةً شديدةً، وسعيد بن يوسف هذا الذي حدَّث عنه به إسماعيل بن عيَّاش مجهول، والله أعلم، وبتقدير رواية إسماعيل بن عيَّاش له عن يحيى بن أبي كثير، وهو حِجازيّ، وإسماعيلُ في غير الشاميّين غيرُ مقبول، وقد ذكر هذا الأثر البُخاريّ في "تاريخه الكبير" بنحوٍ من هذا السياقِ، فالله أعلم

(5)

.

وقد ذكر بعضُ المفسرين في تفسير غَيٍّ، وأثامٍ، أنهما واديانِ من أودية جَهنم أجارنا الله منها.

وقال بعضهم في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، هو نهر من قَيْحٍ ودم.

(1)

رواه البخاري (1403) و (6957).

(2)

رواه الترمذي (3012) والنسائي (5/ 11 - 12) وابن ماجه (1784) وهو حديث صحيح.

(3)

أى: الموضوع عليها الإكاف، وهو البرذعة.

(4)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(616).

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(97) والبخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 124).

ص: 380

وقال عبد الله بن عمرو، ومجاهد: هو وادٍ من أودية جهنم، زاد عبد الله بن عمرو: عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهُدَى وأهل الضلالة.

وروى البيهقيُّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن العبَّاس الدُّوريّ، عن ابن مَعين، عن هُشَيم، عن العوَّام بن حَوْشَب، عن عبد الجبَّار الخَوْلانيّ، قال: قدم علينا رجُلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دِمَشْقَ فرأى ما فيه الناسُ، يعني من الدُّنيا، فقال: وما يغني عنهم ما هم فيه من الدنيا؟ ألَيْسَ من ورائهم الفَلَقُ [قيل: وما الفلق؟ قال: جُبٌّ في النار، إذا فُتِحَ، هَرَّ منهُ أهْلُ النَّارِ. هكذا قال يحيى: هرَّ منه أهْلُ النارِ، ولم يَقُلْ: فَرَّ مِنْه ولا هرب منه]

(1)

.

وروى البَيْهقيُّ عن الحاكم، وغيره، عن الأصمِّ، عن إبراهيم بن مرزوق

(2)

، بمِصْر، عن سعيد بن عامر، عن شُعْبَة، قال: كتب إليَّ منصور وقرأته عليه: عن مجاهد، عن يزيد بن شَجَرَة، وكان يزيد بن شجرة من الزُّهادِ، وكان مُعاويةُ يستعملُهُ على الجُيُوش، فخطبنا يومًا، فحَمدَ الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أيُّها الناسُ، اذكروا نعمة الله عليكم، ما أحسن أثر نِعْمةِ الله عليكم! لو ترون ما أرى من بين أحمر، وأصفر، ومن كلّ لون، وفي الرِّحال ما فيها، إنه إذا أقيمت الصلاةُ فُتحت أبوابُ السماء، وأبوابُ الْجنَّة، وأبواب النار، وإذا التقى الصَّفَّان، فتحت أبواب الجنة، وأبواب النار، وزُيِّنَ الْحُورُ العِينُ فيَطَّلِعْنَ، فإذا أقبل أحدكم بوجهه على القتال وعلى الصلاة، قلن: اللهمَّ ثَبّتْهُ، اللهمَ انْصُرْه، وإذا أدْبَر احْتَجَبْنَ عنه، وقلن: اللهمَّ اغفر له، فانهكوا بوجوه القوم

(3)

، فِداكُمْ أبي وأمِّي، فإنَّ أوَّل قَطْرةٍ تَقْطُر من دمِ أحدكم يَحُطُّ اللهُ بها عنه خَطَاياه، كما يَحُطّ الغُصْنُ ورَقَ الشجر، وتَبْتَدِرُه اثنتانِ من الحور العِين وتَمْسحانِ التُّراب عن وَجْهِه، وتقولان: فِدانا لَكَ، ويقول: فدانا لَكُما، فيُكْسَى مئةَ حُلَّةٍ، لو وُضعَتْ بين إصبَعيَّ هاتينِ لَوَسعَتَاهُنَّ، لَيْستْ من نَسْج بَني آدم، ولكنها من ثياب الْجنّة، إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم، وبسيماكمْ ونَجْواكم، وحُلاكُمْ ومَجالسِكُمْ، فإذا كان يومُ القيامة قيل: يا فلان، هذا نُوركَ، يا فلانُ، لا نورَ لك، وإنَّ لجهنَّم جِبابًا

(4)

من سَاحِلٍ كساحل البحر، فيه هوامُّ وحَياتٌ كالبَخاتيّ، وعقاربُ كالبغال الدُّلْم أو كالدَّلَم البغال

(5)

، فإذا سأل أهل النار التخفيف قيل: اخْرجُوا إلى الساحل، فتأخذُهم تلك الهَوامُّ بشِفاهِهِمْ وجُنُوبِهِم، وبمَا شاءَ اللهُ من ذلك فتكشطها

(6)

فيرجعون هربًا فيبادرون إلى مُعْظم النار، ويُسلَّطُ عليهم

(1)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(529) وإسناده ضعيف.

(2)

في (أ): إبراهيم بن مروان، وهو خطأ.

(3)

أي ابلغوا جهدكم في قتالهم.

(4)

في الأصول: حيات.

(5)

في الأصول: كالبغال الدل، أو كالدل البغال.

(6)

في الأصل: فتسترطها.

ص: 381

الْجَرَبُ، حتَّى إنَّ أحدهم لَيَحُكُّ جلده حتَّى يَبْدُوَ العَظْمُ، فيقال: يا فلان، هل يُؤذيك هذا؟ فيقول: نعم، فيقال له: ذلك بما كنتَ تُؤْذي المؤمنين

(1)

.

وقال الترمذيّ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الله الْجنَّةَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، قالت الجنةُ: اللهمَّ أدْخلْهُ الْجنَّة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالتِ النارُ: اللهمَّ أجرْهُ من النار"

(2)

.

وروى البيهقي عن أبي سعيد، أو عن ابن حُجَيْرة

(3)

الأكبر، عن أبي هريرة، أنَّ أحدَهما حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا كان يومٌ حارٌ ألقى اللهُ سمعَه وبصرَه إلى أهْل السماء، وإلى أهل الأرض، فإذا قال العبدُ: لا إله إلا اللهُ، ما أشدَّ حَرَّ هذا اليوم! اللهمَّ أجرْني من حَرِّ نارِ جهنّم، قال الله لجهنّم: إنّ عَبْدًا من عبادي قد استجار بي منك، وإنّي أُشْهدُكِ أني قدْ أجَرْتُه منكِ، وإذا كان يومٌ شديدُ البرد ألقى الله سَمعَه وبصره إلى أهل السماء وإلى أهل الأرض، فإذا قال العبدُ: لا إله إلا الله، ما أشدّ بَرْد هذا اليوم! اللهمَّ أجِزني من زَمْهَرير جَهنَّم، قال الله تعالى لجهنم: إنَّ عَبْدًا من عبادِي قد اسْتَجارَ بي من زَمْهَريركِ، وإنِّي أُشْهِدُكِ أني قد أجَرتُه" قالوا: وما زَمْهَريرُ جَهنَم؟ قال: "قال يُلْقَى بهِ الكافرُ فيتميَّز

(4)

من شدَّة البَرْد بعضُه عنْ بَعْضٍ"

(5)

.

‌فصل

قال القرطبي: قال العلماء: أعْلَى الدّرَكاتِ جهنَّمُ، وهي مُخْتصَّةٌ بالعُصاة من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلو منْ أهلها فتصفق الرِّياحُ أبوابَها فلا يبقى فيها أحد من أمة محمد، ويشاركهم بعض عصاة الأمم قبلهم ممن كان في التوحيد، قال: ثم لَظى، ثم الحُطمةُ، ثم السَّعيرُ، ثم سَقَر، ثم الْجَحيمُ، ثم الهاويةُ.

وقال الضحاك: في الدَّرْك الأعلى المحمديُّون، وفي الثاني النصارى، وفىِ الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المَجُوسُ، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون، قلت: هذه المراتب والمنازل وتخصيصها بهؤلاء مما يحتاج إثباته إلى سند صحيح إلى المعصوم الذي

(1)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(617) وفي إسناده ضعف.

(2)

رواه الترمذي رقم (2572) وابن ماجه رقم (4340) والنسائي (8/ 279) وابن حبان رقم (1034) والحاكم (1/ 535) وأحمد (3/ 208) كلهم من حديث أنس بن مالك، لا من حديث أبي سعيد الخدري، وهو حديث صحيح.

(3)

في الأصول: أبي حجيرة، وهو خطأ.

(4)

أي: يفترق بعضه عن بعض.

(5)

وأخرجه البيهقي أيضًا في "الأسماء والصفات"(387) وإسناده ضعيف.

ص: 382

لا ينطق عن الهوى، أو قرآن ناطق بذلك، ولكن معلوم أنَّ هؤلاء كلّهم يدخلون النار، وكونهم يكونون على هذه الصفة والأخبار، وعلى هذا الترتيب فالله أعلم بذلك، فأما المنافقون ففي الدَّرْك الأسفل من النار بنصّ القرآن لا محالة، قال القرطبيّ: فمن هذه الأسماء ما هو علَمٌ للِنَّار كُلِّها بجُمْلتها، نحو جَهنَّم، وسعير، ولَظى، فهذه الأعلام، ليستْ لبابٍ دون بابٍ، وصدق رحمه الله فيما قال.

وقال حَرْملةُ، عن ابن وَهْب: أخبرني عمرو: أنَّ دَرَّاجًا أبا السَّمْح حدَّثه: أنَّه سمع عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ الزُّبَيْديّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنّ في النار لَحَياتٍ أمثالَ أعناقِ البُخْتِ، يَلْسَعْن أحدَهُم اللسعةَ فيجدُ حُموَّتها أربعين خَريفًا"

(1)

.

وقال الطبراني: حدّثنا أبو يزيد القَراطيسيّ، حدّثنا أسد بن موسى، حدّثنا إسماعيلُ بن عَيَّاش، عن الربيع، عن البَرَاءَ بن عازب: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن قول الله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، قال:"عقاربُ أمْثالُ النَّخْلِ الطِّوالِ، تَنْهَشُهُمْ في جَهنم"

(2)

.

وقد رواه الثوريّ عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن ابن مسعود قولَه، وتقدم

(3)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدّنيا: [حدّثنا شُجاعُ بن الأشْرَس، حدّثنا إسماعيلُ بن عيَّاشٍ، عن محمَّد بن عَجْلان، عن زَيْد بن أسْلَم، عن عطاء بن يَسارٍ]، عن كعْب الأحبار، قال: حَيَّاتُ جَهنَّم أمْثالُ الأوْدية، وعَقارِبُها كْأمْثالِ القلال، وإنَّ لها لأذْنابًا كأمثال الرِّماح، تلْقَى إحداهُنَّ الكافرَ، فَتَلْسَعُه فَيَتناثَرُ لَحْمُهُ على قَدَمَيْه

(4)

.

‌ذكر بكاء أهل النار فيها

قال أبو يَعْلَى الموصلي: حدّثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خِداش، حدّثنا محمد بن حُمَيْد

(5)

، عن ابن المبارك، عن عمران بن زيد، حدّثنا يزيدُ الرَّقاشيّ، عن أنس بن مالك قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناسُ ابْكُوا، فإنْ لم تبكوا فَتَباكَوا، فإنَ أهل النار يَبْكُونَ في النار حتى تَسيلَ دُموعُهُم في وجُوههم كأنها جَدَاوِلُ، حتى تَنْقطع الدموع، فتَسيلَ فتقزَحَ العُيونَ، فلو أن سُفُناً أُرْسلتْ فيها لَجَرَتْ"، ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس، بنحو

(6)

.

(1)

رواه ابن حبان (7471) والبيهقي في "البعث والنشور"(616) وإسناده حسن.

(2)

وفي إسناده ضعف.

(3)

رواه الطبراني في "الكبير"(9105).

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(95).

(5)

في الأصول: حِمْير.

(6)

رواه أبو يعلى الموصلي (4134) من حديث أنس وابن ماجه رقم (4196) من حديث سعد بن أبي وقاص وإسناده =

ص: 383

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا محمد بن العباس، حدّثنا حمَّاد الجَزَريّ، عن زيد بن رُفَيْع

(1)

، رفعه، قال:"إنّ أهل النار إذا دخلوا النار بَكَوا الدموعَ زمانًا، ثم بكَوا القَيْحَ زَمانًا، فيقول لهم الخَزَنةُ: يا معشر الأشقياء، تركتُم البكاء في الدار المرحومِ فيها أهلها وتبكون في الدار التي لا يُرحم أهلها، هل تجدون اليومَ من تَسْتغيثون به؟ "قال: "فيرفعون أصواتهم: يا أهل الجنّة؟ يا معشر الآباء والأمَّهاتِ والأولاد والقُربات، خرجنا من القبور عِطاشًا، وكُنا طول الموقف عِطاشًا، ونحنُ اليومَ في النار عطاشٌ، فـ {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} " قال: "فيَدْعُونَ أربعين سنة لا يجيبهُم أحد، ثم يجيبهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} قال: "فَيَيْأسونَ من كلّ خيْر"

(2)

.

‌قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا عليُّ بن إسحاق، حدّثنا عبد الله هو ابن المبارك، أخبرنا سعيدُ بن يزيد، أبو شُجاع، عن أبي السَّمْح، عن أبي الهَيْثم، عن أبي سعيد، [عن النبى صلى الله عليه وسلم] قال:{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] قال: "تَشْويهِ النارُ، فتَقلِصُ شَفَتهُ [العُلْيا]، حتَّى تَبْلُغَ وَسط رَأْسِه، وتَسْتَرْخي شَفَتهُ السُفْلى حتَّى تبلغ سرته". ورواه الترمذي عن سُوَيْد، عن ابن المبارك، به، وقال: حسن صحيح غريب

(3)

.

وقال ابن مَرْدَوَيْهِ: حدّثنا أحمدُ بن محمد بن يحيى القَزّاز، حدّثنا الخضر

(4)

بن علي بن يوسف القَطَان، حدّثنا عمُّ الحارث بن الخضر

(5)

القَطَّان، حدّثنا سعيدُ بن أبي سَعيد المَقْبُريّ، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ} قال: "تلفحهم لَفْحة، فتَسيلُ لحومهم على أعقابهم"

(6)

. أجارنا الله منها.

‌أحاديث شتى في صفة النار وأهلها

قال أبو القاسم الطبراني: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثنا أبو الشَّعْثاء علي بن الحسن

= ضعيف. ولكن صح من طريق الحاكم (4/ 605) وصححه الذهبي، وهو كما قالا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل النار ليبكون، حتى لو أُجريت السُّفن في دموعهم لجرت، وإنهم يبكون الدم" يعني مكان الدمع.

(1)

في (أ): يزيد بن رفيع، وهو خطأ، وزيد بن رفيع، ضعفه الدارقطني. وقال النسائي: ليس بالقوي.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(211) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 88) والترمذي (2587) وإسناده ضعيف.

(4)

في (أ): الحسن بن علي.

(5)

في الأصل: عم أبي الحارث الخضر.

(6)

وإسناده ضعيف.

ص: 384

الواسطيّ، حدّثنا خالدُ بن نافعِ الأشعري، عن سعيد بن أبي بُرْدةَ، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتمع أهلُ النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القِبْلَةِ، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوبٌ فأُخذْنا بها" قال: "فسَمعَ اللهُ ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبْلَةِ فأُخْرِجُوا؟ فلمَّا رأى ذلك من بقي في النار من الكفّار قالوا: يا ليتنا كُنّا مسلمين، فنَخْرُجِ كما خَرَجُوا "قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذُ باللهِ من الشَّيْطانِ الرَّجيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ

(1)

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 1 - 2].

وقال الطبرانيّ: حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا إسحاق بن رَاهَوَيْه، قال: قلتُ لأبي أُسامة: أحدَّثكم أبو رَوقِ عَطيَّةُ بن الحارث، حدّثني صالحُ بن [أبي] طَرِيف، سألتُ أبا سعيد الخُدْريّ، فقلت له: هل سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ؟ قال: نعم، سمعتُه يقول:"يُخْرِجُ الله ناسًا من المؤمنين من النار بَعْدَما يَأخُذُ نِقْمته منهم" وقال: "لَمَّا أدخلهم النار مع المشركين قال لهم المشركون: تَزعمُون أنكم كنتم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذِنَ في الشَّفَاعةِ لهم، فيشفع الملائكةُ والنبيُّون، ويَشْفَعُ المؤمنون، حتّى يَخرجُوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: يا لَيْتَنا كُنا مثلَهم، فتُدركنا الشفاعةُ، فنخرُجَ معهم " قال: "فذلك قول الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} فيُسمَّون في الجنة الجهنميون

(2)

، من أجل سوادٍ في وجوههم، فيقولون: يا رَبَّنا أذهب عنّا هذا الاسم، فيأمرهم، فيَغْتسلون في نهر الجنة، فيذهبُ ذلك الاسم عنهم"؟ فأقرَّ به أبو أُسامة، وقال: نعم

(3)

.

وقال الطبراني: حدّثنا محمد بن العباس، هو الأخْرَمُ، حدثنا محمد بن منصور هو الطُّوسيّ، حدّثنا صالح بن إسحاق الجِهْبذُ، وأثنى عليه يحيى بن مَعين، حدّثنا مُعَرّف بن واصل، عن يعقوب بن أبي نُباتة، عن عبد الرحمن الأغرِّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ناسًا منْ أهْلِ لا إله إلا الله يَدْخُلونَ النارَ بذنُوبهم، فيقول لهم أهل اللاتِ والعُزَّى: ما أغنَى عنكم قولُكم: لا إله إلا اللهُ، وأنتم مَعَنا في النَارِ؟ فيَغْضَبُ اللهُ لَهُم فيُخْرِجُهُمْ، فَيُلْقيهمْ في نَهْرِ الْحَياةِ، فيبرؤونَ من حَرَقهم، كما يَبَرأ القَمَرُ منْ كُسُوفِهِ، فيدْخُلُون الْجنَّةَ، ويُسمَّوْن فيها الْجَهَنميين "فقال رجل: يا أنس، أنتَ سمعتَ هذا من رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

وإسناده ضعيف، خالد بن نافع الأشعري فيه كلام، ولكن للحديث شواهد يقوى بها، انظر السنة لابن أبي عاصم رقم (843).

(2)

كذا الأصول. وفي صحيح ابن حبان رقم (7432): الجهنميين.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط"(8110) وفي سنده صالح بن أبي طريف، لم يوثقه غير ابن حبان، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده، انظر صحيح ابن حبان رقم (7432).

ص: 385

يقول: "منْ كَذَبَ علىَّ مُتعَمِّدًا، فَلْيَتَبوأْ مَقْعدهُ منَ النارِ" نَعَمْ أنا سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.

قال الطبرانيّ: لم يروه عن مُعَرّف بن واصل إلّا صالحُ بن إسحاقَ الجِهْبذ

(1)

.

‌أثر غريب وسياق عجيب

قال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا أبو عبد الرحمن القُرَشي، حدّثنا طلْحةُ بنُ سنان، حدّثنا عبدُ الملك بن أبْجر

(2)

، عن الشعبيّ، عن أبي هريرة، قال: يُؤْتى بجَهنَّم يَوْمَ القيَامَةِ تُقادُ بسَبْعينَ ألْفَ زِمامٍ، آخِذ بكُلِّ زِمَامِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، وَهيَ تَمايلُ عَلَيْهمْ حتَّى تُوقَفَ عَنْ يَمينِ العَرْشِ، وَيُلْقي اللهُ علَيْها الذُّلَّ يَوْمئذٍ، فيُوحي اللهُ إلَيْها: ما هذا الذُّلُّ؟ فَتقُولُ: يا رَبِّ، أخَافُ أنْ تَكُونَ لَكَ فيَّ نِقْمةٌ فيُوحي اللهُ إلَيْها: إنَّما خَلَقْتُكِ نِقْمةً، وَلَيْسَ لِي فيكِ نِقْمةٌ، فَيُوحي اللهُ إلَيْها، فتَزْفَرُ زَفرةً لا تَبْقَى دَمْعةٌ في عَيْنٍ إلَّا جَرتْ، قال: ثُمَّ تَزْفَرُ أُخرى، فلا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيّ مُرْسلٌ إلّا صعِقَ، إلّا نَبيُّكمْ نَبيُّ الرَّحْمةِ، يقول: يا رَبِّ أُمَّتي أُمَّتي

(3)

.

‌أثر آخر من أغرب الآثار عن كعب الأحبار

قال الحافظُ أبو نُعَيْم الأصْبهانىّ: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن محمَّد بن الحُسَيْن البَغْداديّ، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن الجُنَيْد، حدّثنا عُبَيد الله بنُ محمَّد بن عائشة، حدّثَنا سَلْم الخوَّاصُ

(4)

، عن فُرات بن السَّائبِ، عن زَاذانَ، قال: سمعتُ كَعْبَ الأحبَار يقول: إذا كانَ يومُ القيامةِ جَمَعَ اللهُ الأوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعيدٍ واحدٍ، فَنَزلتِ المَلائكةُ فَصَارُوا صُفُوفًا، فيقول الله تعالى: يا جبريل ائتني بجهنَم، فيَأتي بها جِبْريلُ تُقادُ بسَبْعينَ ألفَ زِمامٍ، حتى إذا كانت منَ الْخَلائقِ على قَدْرِ مئةِ عام زَفرتْ زَفْرةً طَارَتْ لَها أفْئدةُ الْخَلائقِ، ثمَّ زَفرَتْ ثانيةً، فلا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبىّ مُرْسلٌ إلا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ زَفَرَت الثَّالِثَةَ، فتَبْلُغ القُلُوبُ الْحَناجِرَ وتَذْهلُ العُقُولُ، فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرئٍ إلى عَمَلِهِ حتَّى إنَّ إبْرَاهيمَ الْخَليلَ عليه السلام يَقُولُ: بخُلَّتي لا أسْألُكَ الْيَوْمَ إلَّا نَفْسي، ويقول موسَى عليه السلام: بمُناجاتي لا أسألُكَ إلَّا نَفْسي، وإنَّ عيسى عليه السلام لَيَقُولُ: بما أكْرَمْتني لا أسالُكَ إلَّا نَفْسي، لا أسْالُكَ مَرْيمَ التي وَلَدَتْني، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يقول: أمَّتي أُمَّتي لا أسْألُكَ الْيَوْمَ نَفْسي، إنَّما أسْألُكَ أُمَّتي، قال: فَيُجيبُهُ الْجَليلُ جل جلاله: أوليائي منْ أُمَّتِكَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ ولا هُم يَحْزنُونَ، فوَعِزَّتي وَجَلالي

(1)

إسناده ضعيف، ولكن لبعضه طرق وشواهد بمعناه يقوى بها.

(2)

في (آ) ابن الجز، وهو خطأ.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(182).

(4)

في الأصل: حدّثنا مسلم، والتصحيح من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.

ص: 386

لأُقِرَّنَّ عينَك في أمَّتِكَ، ثُمَّ تَقفُ المَلائكةُ بَيْنَ يَدي اللهِ عز وجل يَنْتظرُونَ ما يُؤمَرُونَ به، فيقول لهم الربُّ تعالى وتَقَدَّسَ: معاشر الزبانية انطلقوا بالمصرِّين على الكَبَائر منْ أُمَّةِ مُحمَّدٍ إلى النَّارِ، فَقَدِ اشْتَدَّ غَضبي عَليهمْ بتَهاونِهِمْ بأمْري في دَارِ الدُّنيا، واسْتِخْفَافِهمْ بِحَقِّي، وانْتِهاكِهِم حُرْمتي، يَسْتَخفونَ منَ النَّاسِ وَيُبَارزُوني بالمعاصي مَعَ كَرامتي لهم، وتَفْضيلي إيَّاهُمْ على الأُمَمِ، ولَمْ يَعْرفُوا فَضْلي، وعِظَمَ نِعْمتي، فَعِنْد ذلك تأخُذُ الزَّبَانية بلِحى الرِّجَالِ، وذَوائبِ النِّساء، فينْطَلقُون بهم إلى النَّار، وما منْ عَبْدٍ يُساقُ إلى النَّارِ منْ غَيْرِ هَذِهِ الأمَّةِ إلَّا مُسْودًّا وَجْهُهُ، وقَدْ وُضِعَتِ الأنْكالُ

(1)

في قَدَمَيهِ، والأغْلالُ في عُنُقه إلَّا ما كانَ من أهل النار مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ، فإنَّهُمْ يُساقُونَ إلى النار بِألْوَانِهِمْ، فإذا وَرَدوا على مَالِكٍ قال لهم: معَاشِرَ الأشْقِيَاءِ، مِنْ أيِّ أمَّةٍ أنتُم؟ فمَا وَرَدَ عَلى أحْسَنُ وجُوهًا مِنْكُم، فيقُولُون: يا مَالِكُ، نَحْنُ منْ أُمَّةِ القُرْآنِ، فيقولُ لَهُمْ: معَاشرَ الأشْقياء أو لَيْسَ القُرآنُ أُنْزلَ عَلى محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ قال: فَيَرْفَعُونَ أصْوَاتَهُمْ بالنَّحيب، والبُكاء: وامُحمَّدَاه، يا مُحمَّدُ اشْفَعْ لِمَنْ آمن بك ممن أُمرَ بهِ إلى النَّارِ مِنْ أُمَّتِكَ، قال: فَيُنادى مالك بتهدُّدٍ، وانْتهارٍ: يا مَالِكُ، منْ أمَرَكَ بمعاتبة الأشْقِيَاء، وَمُحادَثَتهمْ، والتَّوَقُّفِ عنْ إدْخالِهمِ العذاب؟ يا مَالِكُ، لا تُسودْ وُجُوههمْ، فقد كانوا يَسْجُدُونَ لي بها في دار الدنيا، يا مالكُ لا تَغُلَّهُم بالأغْلالِ، فقدْ كانُوا يَغْتسلُونَ منَ الْجَنابةِ، يا مَالِكُ، لا تُقيِّدْهُمْ بالأنْكالِ، فقدْ طافُوا حَوْلَ بَيْتيَ الحَرَامِ، يا مالِك لا تُلْبسهُم القَطِرَانَ، فقد خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ لِلإحْرَامِ، يا مَالِكُ، [مُرِ النار لا تحرق ألسنتهم، فقد كانوا يقرؤون القرآن، يا مالك] قُلْ للنارِ تَأْخُذْهُمْ على قدْرِ أعْمَالِهِمْ، فَالنَّارُ أعْرَفُ بهمْ وبمقاديرِ اسْتِحْقَاقهمْ من العذاب منَ الوَالِدَة بوَلَدِها، فمِنْهُمْ منْ تَأخذُهُ النَّارُ إلى كَعْبَيْهِ، ومنْهُمْ منْ تأخذُهُ النَّارُ إلى رُكْبَتيْهِ، ومِنْهُمْ من تأخُذُهُ النَارُ إلى سُرَّتهِ، ومنْهُمْ منْ تأخذُهُ النَّارُ إلى صَدْرِهِ، قال: فإذا انْتَقَم اللهُ منْهُمْ على قَدْرِ كَبائرِهِمْ وعُتُوِّهمْ وإصْرَارِهم، فتح بينهم وبين المشركين بابًا وهم في الطَّبَقِ الأعْلَى من النار، لا يذوقُونَ بَرْدًا ولا شَرابًا، يبكون، ويقولون: يا مُحمَّداهُ، ارحم من أُمَّتك الأشْقياءَ، واشْفَعْ لَهُمْ، فقد أكلت النارُ لُحُومَهُمْ، وعِظامهمْ وَدِماءهم، ثم ينادُون: يا رَبّاه، يا سيّداه، ارحم من لم يُشركْ بك شيئًا في دار الدُّنيا، وإن كان قد أساء وأخْطأ، وتَعذَى، فعِنْدها يقولُ المُشْركُون لهم: ما أغنى عَنْكُمْ إيمانُكُمْ باللهِ، وبمحمّد، فيَغْضبُ اللهُ لذلكَ، فيقول: يا جبريلُ، انْطَلِقْ، فَأخْرِجْ منْ في النَّارِ منْ أُمَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيُخْرجُهُم ضَبائرَ

(2)

، قد امْتَحشُوا

(3)

، فيُلْقيهمْ على نَهْرٍ على بابِ الْجَنَّةِ، يُقالُ لَهُ: نَهْرُ الحياة، فيَمْكُثونَ حتَّى يَعُودُوا أنْضَر ما كانوا، ثمَّ يأمرُ الله عز وجل بإدخالهم الْجنَّةَ، مكتوبٌ على جِباهِهِمْ: هَؤُلاءِ الْجَهنَّميُّونَ، عُتَقاءُ

(1)

الأنكال: جمع نِكل، وهو القيد.

(2)

ضبائر: جماعة في تفرق.

(3)

أي: احترقوا.

ص: 387

الرَّحْمَنِ منْ أمَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيُعْرفُونَ من بَيْنِ أهْلِ الْجنَّةِ بذلك، فيتَضرَّعُونَ إلى الله تعالى أنْ يَمْحُوَ عَنْهُمْ تلك السِّمَةَ، فيَمْحُوها اللهُ عنهم، فلا يُعْرفونَ بها بَعْدَ ذلك منْ بَيْن أهْل الجَنّةِ.

لبَعْض هذا الأثر، شواهدُ من الأحاديث، والله أعلم.

وسيأتي بعد ذكر أحاديث الشفاعة ذِكر آخِر منْ يخْرُجُ منَ النار ويَدْخُلُ الْجنّةَ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

‌ذكر الأحاديث الواردة في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبيان أنواعها وتعدادها

النوع الأول منها شفاعته الأولى، وهي العظمى الخاصة به من بين سائر إخوانه من النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وهي التي يرغب إليه فيها الخلق كلّهم حتى إبراهيم الخليل، وموسى [الكليم]، [ويتوسَّل الناسُ إلى آدَم، فمنْ بعده من المُرسلين، فكلٌّ يَحيدُ عنها، ويقولُ: لَسْتُ بِصَاحِبها] حتى يَنْتهيَ الأمْرُ إلى سيِّد وَلَد آدمَ في الدُّنيا والآخِرَةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيقول:[أنا لها]، أنا لها، فيذهبُ فيَشْفَعُ عند الله تعالى في أنْ يَأْتي لفصل القضاء بَيْنَ الخلق ويُريحَهُمْ مما هم فيه، ويَميز بَيْنَ مُؤمنهم وكافِرِهمْ، بمُجازاةِ المؤمنين بالجنّةِ، والكافرين بالنار.

وقد ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى: في سورة (سُبْحانَ){وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وقد قدَّمنا في هذا الكتاب من الأحاديث الدالّةِ على هذا المقام المحمود ما فيه كفايةٌ، ولله الحمد والمِنّة.

وثبت في "الصحيحين" من طريق هُشَيْم، عن سَيَّار، عن يَزيدَ الفَقيرِ، عن جَابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ منَ الأنْبياءَ قَبْلي: نُصرْتُ بالرُّعْبِ مَسيرَةَ شهْرٍ، وَجُعِلَتْ ليَ الأرْضُ مَسْجدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّتْ ليَ الغَنائمُ، ولمْ تَحِل لأحدٍ قَبْلي، وَأُعْطيتُ الشَّفَاعَةَ، وكان النَّبىُّ يُبْعثُ إلى قَوْمِهِ [خاصَّةً] وَبُعثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً

(1)

.

وقد رواه أبو داود الطيالسيُّ، عن شُعْبةَ، عن وَاصلٍ، عن مُجاهدٍ، عن أبي ذَرٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، ورواه الأعْمشُ، عن مُجاهدٍ، عن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ، عن أبي ذَرٍّ

(2)

.

فقوله: "وأُعْطيتُ الشَّفَاعَةَ" يعني [بذلك] الشَّفَاعةَ العُظْمى، وهي الأُولى الَّتي يَشْفعُ فيها [عِنْدَ اللهِ عز وجل] لِفَصْلِ القَضاءَ بين العباد، ويغبطه بها الأولون والآخرون.

(1)

رواه البخاري رقم (335) ومسلم (521).

(2)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" رقم (472) وعبد الله بن المبارك في "الزهد"(1069) وهو حديث حسن.

ص: 388

فهذه هي الشّفاعة الّتي اخْتصَّ بها دُونَ غَيْرِه من الرسل، وأما الشفاعة في العُصَاةِ، فيشركه فيها غَيْره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين حتى القرآن والأعمال الصالحة، كما سيأتي بيان ذلك فيما نورده من الأحاديث الصحيحة وغيرها فقد ثبتت له ولغيره.

وقال الأوزاعيّ، عن أبي عمَّار، عن عبد الله بن فَرُّوخٍ، عن أبي هُريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: " أنَا أوَّلُ منْ تَنْشقُّ عَنْهُ [الأرْضُ]، وأؤَلُ شَافِع، وأوَّلُ مُشَفَّعٍ"

(1)

.

ورواه البيهقيُّ عن مَعْمر بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن أبي يَعْقوبَ، عن بِشْرِ بن شَغَافٍ، عن عبد الله بن سَلامٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَم ولا فَخْرَ، وأنَا أؤَلُ منْ تَنْشق عَنْهُ الأرضُ، وأنَا أوَّلُ شَافِعِ ومُشَفع، بِيَدي لِواءُ الْحَمْدِ، تحتي آدَم، فمنْ دُونَهُ"

(2)

.

وفي "صحيح مسلم" من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَبي أرْسَلَ إليَّ أنِ اقْرإ القُرْآنَ على حَرْفٍ، فرَددتُ عَلَيْهِ: يا رَبِّ، هَوِّنْ على أُمَّتي، فَرَدَّ عليَّ الثَّانيةَ: أنِ اقْرَأهُ على حرفين

(3)

"قال: "قلت: يا رَبِّ، هَوِّنْ على أمَّتي، فرَدَّ عَليَّ الثّالِثَةَ: أنِ اقْرأْهُ على سَبْعةِ أحْرُفٍ، ولَكَ بِكُل رَدَّةٍ رُدِدْتَها مَسْألةٌ تَسْألنيها، فقلتُ: يا رب اللَّهُمَّ اغْفرْ لأُمَّتي، الّلهُمَّ اغْفرْ لأُمَّتي، وأخَّرْتُ الثالِثَةَ إلى يوم يَرْغبُ إليَّ فيهِ الْخَلْقُ [كُلُّهُمْ] حتى إبراهيمُ عليه السلام"

(4)

.

النوع الثاني والثالث، من الشفاعة

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم، وسيّئاتُهُمْ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام قد أُمر بهم إلى النَّارِ ألّا يَدْخُلوهَا.

قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدّنيا في كتاب "الأهوال": حدّثنا سعيدُ بن محمد الجَرْميُّ، حدّثنا أبو عُبَيْدةَ الْحَدّاد، حدّثنا محمد بنُ ثابتٍ البُنَانيُّ، عن عُبَيْدِ الله بن عَبْدِ اللهِ بن الحارث بن نَوْفلٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن عبَّاس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُنْصبُ لِلأنْبياءَ يَوْمَ القِيامَةِ مَنابرُ منْ ذهبٍ، فيَجْلسُون علَيْها "قال: "وَيَبْقى مِنبري لا أجْلسُ عَلَيْهِ قَائمًا بَيْنَ يَدي اللهِ عز وجل مُنْتصبًا بِاُمَّتي مَخَافَةَ أنْ يُبْعَثَ بي إلى الْجنَّةِ وَتَبْقى أمَّتي بَعْدي، فأقول: يا رَبِّ أُمَّتي، فيقولُ [اللهُ]: يا محمد، وما تُريدُ أنْ أصْنَعَ بِأُمَّتِكَ؟ فأقولُ: يا رَبِّ، عَجِّلْ حِسَابَهُمْ. فَيُدْعى بِهمْ، فَيُحاسبُونَ، فمِنْهُمْ منْ يَدْخُلُ الْجنّةَ

(1)

رواه مسلم رقم (2878).

(2)

رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم (793) من طريق معمر، به، وهو حديث صحيح.

(3)

في الأصول: على حرف، وما أثبتناه من صحيح مسلم.

(4)

رواه مسلم رقم (820).

ص: 389

بِرَحْمةِ اللهِ، ومنْهُمْ منْ يَدْخُلُ الْجَنة بِشَفاعتي، وما أزَالُ أشْفَعُ حتى أُعْطَى صِكاكًا بِرجَالي قَدْ بُعِثَ بِهمْ إلى النّارِ، حتّى إنَّ مَالِكًا خَازنَ النار ليَقُولُ: يا مُحمَّدُ، ما تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ لأُمَّتِكَ منْ نِقْمةٍ"

(1)

.

وحدّثنا إسماعيلُ بنُ عُبَيْدِ بنِ عُمَر

(2)

بن أبي كريمة، حدّثني محمد بنُ سَلَمة

(3)

، عن أبي عبد الرحيم، حدّثني زيدُ بنُ أبي أُنَيسة، عن المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو، عن عبدِ اللهِ بن الْحَارِث، عن أبي هريرة، قال: يُحْشرُ النَّاسُ عُراةً، فَيَجْتمعونَ شَاخِصةً أبْصَارُهُمْ إلى السَّماءِ، يَنْتظرُونَ فَصْلَ القَضاءَ، قِيامًا أرْبَعينَ سَنة، فَيَنْزلُ اللهُ عز وجل منَ الْعَرشِ إلى الكُرْسي، فيكونُ أوَّلَ منْ يُدْعى إبراهيمُ الْخَليلُ عليه السلام، فيُكْسَى قُبْطيَّتَيْنِ من الْجنَّةِ، ثم يقول: ادعوا ليَ النبيَّ الأمِّيَّ محمَّدًا، قال:"فأقُومُ، فَأُكْسى حُلّةً من ثِيَاب الجنة "قال: "وَيُفَجَّرُ لِيَ الْحَوْضُ، وَعَرْضُهُ كمَا بَيْنَ أيْلَة إلى الكَعْبةِ" قال: "فَأشْرَبُ، وَأغتَسِلُ، وَقدْ تَقطَّعَتْ أعْناقُ الخَلائقِ منَ العَطَشِ، ثمَّ أقومُ عنْ يَمين الكُرْسيِّ، لَيْسَ أحَدٌ يومئذٍ قَائمًا ذَلِكَ المَقَامَ غَيْري، ثمَّ يُقالُ: سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَعْ" قال: فقال رَجُلٌ: أتَرْجُو لِوَالِدَيْكَ شَيْئًا يا رسولَ اللهِ؟ قال: "إنِّي لَشافِعٌ لَهُما أُعْطيتُ أوْ مُنِعْتُ، وما أرْجُو لَهُما شَيْئًا".

ثئمَ قال المِنْهالُ: حدّثني عبدُ الله بن الحارث أيضًا: أنَّ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمُرُّ بِقَوْمٍ منْ أُمَّتي قَدْ أُمِرَ بِهمْ إلى النَّارِ، فَيَقُولونَ: يا محمَّد، نَنْشُدُك الشفاعة" قال: "فآمرُ الملائكةَ أنْ يَقِفُوا بِهمْ "قال: "فَأنْطلقُ فأسْتاذنُ على الرَّبِّ عز وجل، فيؤذن لي فَأسْجدُ وأقولُ: يا رَبِّ قَوْمٌ منْ أمَّتي قَدْ أمَرْتَ بهمْ إلى النّارِ" قال: "فيقول: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ منْهُمْ" قال: "فأنْطَلِقُ، فَأخْرِج منْهُمْ منْ شَاءَ اللهُ أنْ أُخْرجَ، ثمَّ يُنادي البَاقُونَ: يا محمد، نَنْشُدُكَ الشَّفَاعةَ، فأرْجعُ إلى الرَبِّ عز وجل، فَأسْتأذنُ، فَيُؤذنُ لي، فأسْجُدُ، فَيُقالُ لي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" قال: "فأقُوم فَاُثْني على اللهِ ثَنَاءً لم يُثن عَلَيْهِ أحدٌ مثله، ثم أقولُ: يا رب قوم من أُمَّتي قَدْ أُمِرَ بهمْ الى النَّارِ، فيقول: انْطَلِقْ، فَأخْرِجْ منْهُمْ" قال: "فأقولُ: يا رَبِّ أخْرجُ منْهُمْ منْ قال: لا إله إلا اللهُ، ومَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ منْ إيمانٍ؟ " قال: "فيَقُولُ: يا مُحمَّدُ، لَيْستْ تِلْكَ لَكَ، تِلْكَ لي" قال: "فأنْطَلقُ فَأُخْرجُ منْ شَاءَ اللهُ أنْ أُخرج" قال: "وَيَبْقى قَوْمٌ فيَدْخُلونَ النَّارَ، فَيُعَيِّرُهُمْ أهْلُ النَّارِ فيَقُولُونَ: أنْتُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللهَ، ولا تُشْرِكُونَ بِهِ شيئًا، فما الذي أدْخَلَكُم النَّارَ"، قالَ:"فَيَحرجونَ ويحزنون من ذَلِك"، قال: "فَيَبْعثُ اللهُ مَلكًا بكَفٍّ منْ مَاء فَيَنْضحُ بها في النَّارِ التي فيها الموحدون، فلا يبقى أحد من أهل لا إله إلا الله، إلا وقعت في وجهه منها قطرة، قال: فيُعرفون بها، ويغبطهمِ أهلُ النَّارِ، ثم يَخْرُجُونَ فَيَدخُلونَ الْجنَّةَ، فيُقالُ لهمْ: انْطلقُوا، فَتَضيَّفوا النَّاسَ، فلوْ أنَّ جَميعَهُمْ نزَلوا بِرَجُلٍ واحدٍ كانَ لَهُمْ

(1)

وأخرجه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(61) وإسناده ضعيف.

(2)

في الأصول: عمير، والتصحيح من كتب الرجال.

(3)

في الأصول: محمد بن مسلمة، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 390

عندَهُ سَعةٌ وَيُسمَّوْنَ المُحَرَّرينَ"

(1)

. وهذَا السِّيَاقُ يَقْتضي تَعْدادَ هَذِهِ الشفَاعة فِي مَنْ أُمِرَ بِهمْ إلى النَّارِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ألّا يَدْخُلُوها، ويَكُونُ مَعْنى قَوْله: فأخْرِجْ، أيْ أنْقِذْ، بدَليلِ قَوْله بَعْدَ ذَلِكَ:"وَيَبْقَى قَوْمٌ فَيَدْخُلونَ النَارَ"، واللهُ سبحانه وتعالى أعلم بالصَّوابِ.

النوع الرابع من الشفاعة، شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما يقتضيه ثواب أعمالهم.

وقَدْ واَفقتِ الْمُعْتزلةُ على هذهِ الشفَاعةِ خَاضةً، وخَالفُوا فيما عَدَاهَا منَ الشفاعاتِ، مع تَواتُر الأحَاديث فيها، على ما سَتَراهُ قَريبًا إنْ شاء الله تعالى.

فأما دليل هذه الشفاعة، فهو ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من رواية أبي موسى الأشْعريّ لمَّا أُصيبَ عَمُّهُ أبو عَامِرٍ في غَزْوَةِ أوطَاس، فلمَّا أخْبَرَ أبو مُوسى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذَلِكَ، قال: فتوضأ رسولُ الله، وَرَفعَ يَدَيْهِ، وقال:"اللَّهُمَّ اغْفرْ لِعُبَيْدٍ أبي عَامِرٍ، وَاجْعَلْهُ يَوْمَ القِيامةِ فَوْقَ كَثيرٍ منْ خَلْقك"

(2)

.

وهكذا حديث أمِّ سَلَمةَ: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لأبي سَلَمةَ بَعْدَما تُوفيَ، فقال:"اللّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتهُ في المَهْدِيِّين، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الْغَابرينَ، وَاغْفرْ لَنا ولَهُ يا رَبَّ العَالمينَ، وَافْسحْ لهُ في قَبْرِهِ، ونَوِّرْ لَهُ فيهِ". وهو في "صحيح مسلم"

(3)

.

وقد ذكر القاضي عياضٌ وغيرُه، نوعًا آخر من الشفاعة وهو خامسٌ، وهي في أقوام يدخلون الْجنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَمْ أرَ لِهَذا شاهدًا فيمَا عَلِمْتُ، ولم يذكر القاضي عياضٌ له مستندًا فيمَا رَأيْتُ، ثمِّ تَذَكَرْتُ حَديثَ عُكَاشةَ بنِ مِحْصنٍ حينَ دَعا لَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَجْعَلَهُ منَ السَّبعينَ ألْفًا الَذينَ يَدْخُلونَ الْجنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، والحديث مُخَرَّج في "الصحيحين"، كما تقدَّم

(4)

وهو يُناسبُ هذَا المقام.

وذكر أبو عبد الله القرطبيّ في "التذكرة" نوعًا سادِسًا منَ الشَّفاعةِ، وهو شَفَاعتُه في عمِّه أبي طالبٍ أنْ يُخَفَّفَ عَذَابُهُ، واستشهدَ بحدِيثِ أبي سَعيدٍ في "صحيح مُسْلمٍ" أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ

(1)

وهو مرسل.

(2)

رواه البخاري (2884) ومسلم (2498).

(3)

رواه مسلم (920).

(4)

رواه البخاري (6541) ومسلم (220) من حديث ابن عباس والبخاري (6542) ومسلم (216) من حديث أبي هريرة.

ص: 391

عِنْدهُ عَمُّهُ أبو طَالِبٍ فقال: "لَعلَّهُ تَنْفَعُه شَفَاعَتي يَوْمَ القِيَامةِ، فَيُجْعل في ضَحْضَاحٍ منْ نارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلي منْهُ دِمَاغُه"

(1)

.

ثم قال: فإنْ قيلَ: فقدْ قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، قيل: لا تنفعُهُ في الخُروج منَ النَّارِ، كما تَنْفعُ عُصَاةَ المُوحِّدينَ الَّذينَ يَخْرُجُون منْها، ويَدْخلون الْجنَّةَ.

النوع السابع من الشفاعة، شفاعتُه صلى الله عليه وسلم لجَميعِ المُؤْمنينَ قَاطِبَةً في أنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ في دُخُولِ الْجنَّة، كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال: "أنَا أؤَلُ شَفيع في الْجَنَّة"

(2)

.

وقال في حديث الصُّور [بعد ذِكر مرور الناس على الصِّرَاط]

(3)

: فإذا خلص المؤمنون من الصراط، وأفْضَى أهْلُ الْجنَّةِ إلى الجَنةِ قالوا: منْ يَشْفعُ لَنا إلى رَبِّنَا فَنَدْخُلَ الجَنَّةَ؟ ثم ذكر مجيء المؤمنين من نبي إلى نبي، حتى جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيأْتُوني ولي عند رَبِّي عز وجل ثَلاثُ شَفَاعاتٍ، يعني والله أعلم خاصة به دون غيره، قال: فأنْطلقُ فآتي الجَنَّةَ فآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِها، ثم أسْتَفْتحُ، فيقول الخازن: مَنْ أنت؟ فأقول: محمد، فيفتح لي، فأُحَيَّا، وُيرحَّبُ بي فإذا دخلت ونظرت إلى ربي سبحانه، خررت له ساجدًا، فيأذن الله تعالى لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد، ثم يقول لي: ارفع رأسك يا محمد، واشفع تُشفَّعِ، وسل تُعْطَه، فإذا رفعت رأسي قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقُولُ: يا رَبِّ وَعَدْتَني الشَّفَاعَة، فشَفِّعْني في أهْلِ الْجنّةِ، فيقولُ اللهُ عز وجل: قدْ شَفَّعْتُكَ، وَأذِنْتُ لَهُمْ في دخول الْجنَّةِ

وذكر الحديث كما تقدَّم في حديث الصور.

ثم ذكر بعد هذا الشفاعةَ في أهْلِ الكَبائِرِ، وهُوَ:

النوعِ الثامن من الشفاعة وهو شَفاعته في أهْلِ الكبائر مِنْ أُمَّتِه ممَّنْ دَخَلَ النَّارَ بذنوبه وكبائر إثمه، فَيَخْرُجُون مِنْها.

وَقَدْ تواترت بهذا النوع الأحاديثُ، وقد خَفيَ علم ذلك على الخوارج، والمُعتزلةِ، فخالفواْ في ذلك جَهْلًا منهم بصحّة الأحاديث، وعِنَادًا ممَّنْ عَلِمَ ذلك واستَمرّ على بِدْعتهِ.

وهذه الشفاعة يشاركه فيها الملائكةُ والنبيُّون والمؤمنون، وهذه الشفاعة تتَكَرَّر منه صلواتُ الله وسلامه عليه [أرْبَعَ] مَرَّاتٍ.

(1)

رواه مسلم (210).

(2)

رواه مسلم رقم (196).

(3)

ما بين الحاصرتين من (ط).

ص: 392

‌باب طرق الأحاديث وألفاظها رواية أُبي بن كعب

قال ابن أبي الدنيا: حدّثنا عبدُ الله بن وَضَّاحٍ، حدّثنا يحيى بنُ يَمانِ، عن شَريك، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيلٍ، عن الطُّفيلِ بن أُبَيِّ بن كَعْبٍ، عن أبَىِّ بنِ كَعْبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا خَطيبُ الأنْبياء يَوْمَ القِيامةِ وَإمَامُهُمْ، وَصَاحبُ شَفَاعَتِهمْ"

(1)

.

‌رواية أنس بن مالك رضي الله عنه

قال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا سعيدُ بنُ سُلَيْمانَ، عن منصور بن أبي الأسْودِ، عن لَيْثٍ، عن الرَّبيعِ بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أنَا أؤَلُهُمْ خُرُوجًا، وأنا قَائدُهُمْ إذا وَفَدُوا، وأنا خَطيبُهُمْ إذا أنْصَتُوا، وَأنَا شَفيعُهُمْ إذا حُبسُوا، وأنا مُبَشَرُهُمْ إذا يئسوا، لواءُ الكَرامةِ، والمفاتيحُ يَوْمئذٍ بِيَدي، ولواءُ الْحَمْدِ يَوْمئذٍ بِيَدي، وأنا أكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ على رَبِّي، يَطُوفُ [عَلىَّ] ألفُ خادِم، كأنَهُمْ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، أوْ كأنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ".

ثم رواه عن خَلَف بن هِشَام، عن حِبَّان

(2)

بنِ عَلي العَنزيّ، عن ليثِ بن أبي سُلَيْم، عن عُبَيْد اللهِ بن زَحْر، عن الرَّبيع بن أنس

فذكره مرفوعًا كما تقدَّم

(3)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، حدّثنا بِسْطامُ بنُ حُرَيْثٍ، عن أشعث الحُدَّاني، عنْ أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "شَفاعتي لأهْلِ الكبائر من أمتي". وهكذا رواه أبو داود، عن سليمان، عن بِسْطامٍ، عن أشعَثَ بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني، عن أنس

(4)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الحافظ أبو بكر البزّار في "مُسنده": حدّثنا عمرو بن عليّ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا

(1)

ورواه أحمد في المسند (5/ 137) والترمذي (3613) وابن ماجه (4314) وهو حديث حسن.

(2)

في الأصول: جبر.

(3)

وأخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 483) من طريق سعيد بن سليمان، و (5/ 484) من طريق خلف بن هشام، وأخرجه الترمذي (3610) من طريق ليث عن الربيع، وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 213) وأبو داود رقم (4739) وهو حديث صحيح.

ص: 393

الخَزْرَج بن عُثْمان، عن ثابت، عن أنس، [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "شَفَاعتي لأهْلِ الكَبَائر منْ أمَّتي" ثم قال: لم يَرْوِه عن ثابت إلَّا الْخَزْرجُ بنُ عُثْمانَ

(1)

. وهكذا روى أبو يَعْلَى مِنْ طَريق يَزِيدَ الرَّقاشِىّ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شَفَاعتي لأهْلِ الكَبائِر منْ أمَّتي"

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

قال الإمام أحمد: حدّثنا عارم، حدّثنا مُعْتمرٌ، سمعتُ أبي يُحدِّثُ، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُل نَبيٍّ قد سَألَ سُؤَالًا-" أو قال: "لِكُلِّ نَبىٍّ دَعْوةٌ قَدْ دَعَاهَا - فَأسْتَخْبَأْت دَعْوتي شَفَاعةً لأُمَّتي يَوْمَ القِيَامةِ" أو كما قال. ورواه البخاريُّ تَعْليقًا، فقال: وقال مُعْتمرٌ

(3)

عن أبيه، وأسنده مسلم، فرواه عن محمد بن عبد الأعْلَى، عن مُعْتمرٍ، عن أبيه سُلَيْمانَ بن طرْخَانَ التيميّ، عن أنس، به نحوه

(4)

.

‌طريق أخرى

قال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا محمد بن يزيد العِجْليّ، حدّثنا أبو بكر بن عَيَّاش، حدّثنا حُمَيْدٌ، عن أنس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يَوْمُ القِيَامةِ أُنِلْتُ الشَّفَاعةَ، فأَشْفَعُ لِمَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ منْ إيمانٍ، حتى لا يَبْقَى أحدٌ في قَلْبِهِ منَ الإيمانِ مِثْلُ هَذَا" وَحرَّكَ الإبْهامَ، والمُسَبِّحةَ

(5)

.

‌طريق أخرى عنه

وقال أحمد: حدّثنا بَهْزٌ، وَعَفَّانُ، قالا: حدّثنا هَمَّامٌ، حدّثنا قَتَادةُ، عن أنس: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ لكُلِّ نَبيّ دَعْوة قَدْ دعا بها، فاستجيبت له، وإني استخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". وهذا الحديث على شرطهما. ولم يُخَرّجُوه منْ حَديثِ هَمَّامٍ

(6)

وإنَّما أخرجه الشَّيْخانِ منْ حَديثِ أبي عَوَانةَ الوَضَّاحِ بن عبد الله اليَشْكُريّ، عن قتادَةَ. ثم رواه مسلم من حديث

(1)

رواه البزار (3469 - كشف الأستار) وفي إسناده ضعف، ولكن يشهد له الذي قبله.

(2)

رواه أبو يعلى رقم (4115) وإسناده ضعيف أيضًا، ولكن يشهد له حديث أحمد وأبي داود الذي قبله.

(3)

في بعض نسخ البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا معمر، فعلى هذا هو متصل.

(4)

رواه أحمد (3/ 219) والبخاري تعليقًا في حكم المتصل في بعض النسخ رقم (6305) ووصله مسلم (201)(344).

(5)

ورواه الآجري في "الشريعة" من طريق أبي بكر بن عياش رقم (850) وهو حديث حسن.

(6)

رواه أحمد (3/ 134).

ص: 394

سعيد، عن قتادةَ، عن أنس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْتَمعُ المؤْمنُونَ يومَ القِيَامةِ، فيُهمّون بذلك، أو يُلهمُونَ ذَلِكَ

" بمثل حديث أبي عَوانةَ، وقال في الحديث: "ثمَّ آتيهِ الرَّابعةَ، أو أعود الرَّابعَةَ، فأقُولُ: يا رَبِّ، ما بَقِيَ إلَّا منْ حَبَسَهُ القُرآنُ"

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

قال أحمد: حدّثنا عَفَّانُ، حدّثنا هَمَّام، حدّثنا قَتادةُ، عن أنسٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُحْبسُ المُؤْمنونَ يَوْمَ القِيَامةِ فيُهمُّون لِذَلك، فيقولُونَ: لو استَشْفَعْنا على رَبِّنا فيُرِيحَنَا منْ مَكانِنَا هَذَا؟ "قال: "فيأتُون آدَمَ، فيقُولُونَ: أنْتَ أبُونَا، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وأسْجدَ لكَ مَلائكَتَهُ، وعَلَّمَكَ أسْماءَ كلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبِّكَ" قال: "فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويَذْكُرُ خَطيئتَهُ التي أصَابَ: أكْلَهُ منَ الشّجَرَةِ، وقدْ نُهيَ عَنْها، وَلَكن ائتُوا نُوحًا أوَّلَ نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أهْلِ الأرْض" قال: "فَيَأْتُونَ نُوحًا، فيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويذْكُرُ خطيئته، سُؤاله رَبّهُ ما ليس له به عِلْم، ولكن ائتُوا إبْرَاهيمِ خَليلَ الرَّحمن. فيأْتُونَ إبراهيمَ، فيقولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويَذْكُرُ خَطيئَتَهُ الّتي أَصَابَ: ثَلاثَ كذَباتٍ كَذبَهُنَّ: قولَهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقولَه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وأتى على جَبَّارٍ مُتْرفٍ، ومَعهُ امْرَأتهُ، فقال: أخْبريهِ أنِّي أخُوكِ، فإنِّي مُخْبرُهُ أنّكِ أُخْتي، ولكن ائتُوا مُوسى عبدًا كَلَّمَهُ اللهُ تَكْليمًا، وأعْطاهُ التَوْراة" قال: "فيأتُونَ مُوسى فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطيئته الّتي أصَابَ: وهي قَتْلهُ الرَّجُلَ، وَلكن ائتُوا عِيسَى عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، وكَلِمة اللهِ وَرُوحَهُ" قالَ: "فَيأتُونَ عِيسَى، فيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، وَلَكن ائتُوِا مُحمَّدًا عبدًا غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ" قال: "فيَأْتُوني، فأسْتأذنُ على رَبِّي عز وجل في دارِهِ فيُؤذَنُ لي عَلَيْهِ، فإذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُني ما شَاءَ اللهُ أنْ يَدَعَني، ثمَّ يَقُولُ: ارفع رأسك يا محمد، وَقُلْ تُسْمعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، فَأحْمَدُ رَبِّي عز وجل بِثَنَاءٍ، وتَحْميدٍ يُعَلِّمُنيهِ، ثمَّ أشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فأُخْرِجُهُمْ، فأُدْخِلُهُم الجَنَّةَ" وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "فأُخْرِجُهُمْ منَ النَّارِ وَأُدْخِلهُم الجَنَّةَ" قالَ: "ثمَّ أَسْتَأْذنُ على رَبِّي عز وجل الثَّانيَةَ، فَيُؤذَنُ [لي] عَلَيْهِ، فإذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُني ما شَاءَ اللهُ أنْ يَدَعَني، ثمَّ يَقُولُ: [ارفع رأسَك] يا محمد، وقلْ تُسمع، واشْفَعْ تُشفّعْ، [وسَلْ تُعْطَ" قال: "فأرْفَعُ رَأْسي، وأحمد رَبي بِثَنَاءٍ، وتَحْميدٍ يُعَلِّمُنيهِ، ثمَّ أشْفَعُ] فَيَحُدُّ لي حَدًّا، [فأُخْرِجُهُمْ]، فأُدْخِلُهُم الْجنَّةَ".

قال هَمَّامٌ: وَسَمعْتُهُ يَقُولُ: "فأُخْرِجُهُمْ منَ النَّارِ، فأُدْخِلُهُم الْجنَّةَ" قال: "ثُمَّ أسْتاذِنُ على رَبِّي عز وجل الثالثةَ، فإذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجدًا، فيَدَعُني ما شاءَ اللهُ أنْ يَدَعني، ثُمَّ يَقُولُ: ارفَعْ مُحمَّدُ

(1)

رواه البخاري (6565) ومسلم (193).

ص: 395

وقُلْ تُسْمَعْ، وسَل تُعْطَ، واشفعْ تُشفَّع، فأَرْفَع [رَأْسِي]، فأَحْمدُ رَبَّي بِمحامد وثَناءٍ وَتَحْميدٍ يُعَلِّمُنيهِ، ثُمَّ أشْفَع فيحُدُّ لي حَدًّا فأخرجهم، فأُدْخِلُهُم الجنَّةَ - قال هَمَّامٌ: وَسَمعْتُهُ يَقُولُ: "فأُخْرجُهُمْ منَ النَّارِ فأُدْخِلُهُم الْجنَّةَ - فما يبقى في النار إلَّا منْ حَبَسهُ القُرآنُ" أيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ، ثمَّ تَلا قَتادَةُ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، قال: هو المقامُ المحْمودُ الّذي وَعَدَ اللهُ عز وجل نبَّيَّه صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه البخاريّ في كتاب التوحيد مُعَلّقًا، فقال: وقال حجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ، عنْ هَمامٍ

، فذكره بنحوه

(1)

.

‌طرق أُخْرى متعددِّة عنه

قال البخاريُّ في كتاب التوحيد: حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، حدّثنا حمَّادُ بنُ زَيْدِ، حدّثنا مَعْبَد بنُ هِلال

(2)

العَنَزيّ، قال: اجْتَمَعْنا نَاسٌ من أهْلِ البَصْرَةِ، فَذَهَبْنا إلى أنسِ بنِ مَالِكٍ، وَذهبنا مَعَنا ثَابتٌ البُنَانيّ يَسألُهُ لَنا عنْ حَديثِ الشَّفَاعةِ، فإذَا هُوَ في قَصْرِهِ، فَوَافقْنَاهُ يُصَلي الضُّحَى، فاسْتأذَنَّا، فأذِنَ لَنا وهُوَ قَاعدٌ على فِرَاشِهِ، فَقُلْنا لِثَابتٍ: لا تَسْألْهُ عنْ شَيءٍ أوَّلَ مِن حَديث الشَّفَاعةِ، فقال: يا أبا حَمْزةَ، هَؤلاء إخْوانُكَ منْ أهْلِ البَصْرَةِ جَاؤوا يَسْألُونكَ عنْ حَديثِ الشَّفَاعَةِ.

فقال: حدّثنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مَاجَ الناسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّكَ، فيَقُولُ: لَسْتُ لَها، وَلَكنْ [عَلَيْكُم] بإبرَاهيمَ، [فإنَّهُ خَليلُ الرَّحمَنِ]، فيَأتُونَ إبرَاهيمَ، فيَقُولُ: لَسْتُ لها، وَلَكنْ عَلَيْكُمْ بمُوسَى، [فإنَّهُ كَليمُ اللهِ]، فيَأتُونَ مُوسَى، فيَقُولُ: لَسْتُ لَها، ولَكنْ عَلَيْكمْ بعِيسَى، [فإنَّهُ رُوحُ اللهِ وكَلِمتُه]، فيَأتونَ عِيسى، فيقُولُ: لَسْتُ لَها، ولَكنْ عَلَيْكُمْ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأسْتأذنُ على رَبِّي فيُؤْذنُ لي، ويُلْهمُني مَحَامِد أحْمدُهُ بها، لا تَحْضُرني الآنَ، فأحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِد، وَأخِرُّ لَهُ سَاجدًا، فيُقالُ: يا مُحمَّد، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَع [لك]، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، فأقول: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتي، فيُقالُ: انْطَلِقْ فأخْرِجْ مِنْها منْ كان في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرةٍ منْ إيمانٍ، فأنْطَلِقُ، فأفْعل، ثُمَّ أعُودُ فأحْمَدُهُ بِتِلْكَ المحَامِدِ، ثُمَّ أخِرُّ لَهُ سَاجداً، فيُقالُ: يا مُحمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَك، وَقُلْ يُسمع لك، وَاشْفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، فأقول: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتي، فيُقالُ: انْطلِقْ، فأخْرِجْ منْها منْ كانَ في قَلْبِهِ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 244) والبخاري معلقًا رقم (7440) وهو حديث صحيح.

(2)

في (آ) حدثنا حماد بن زيد، حدّثنا سعيد بن هلال، وهو خطأ.

ص: 396

مِثْقالُ ذرَّةٍ أو خَرْدلةٍ منْ إيمانٍ، فأنْطلقُ، فأفْعلُ، ثُمَّ أعودُ، فَأحْمدُهُ بِتِلْك المَحَامِدِ، ثُمَّ أخِر له ساجدًا، فيَقُولُ: يا مُحمَّد، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سل تُعْطه، وَقُلْ يُسْمعْ لَكَ، وَاشْفعْ تُشَفعْ، فأقولُ: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتي، فيُقالُ: انْطلقْ، فأخْرِجْ مِنْها منْ كانَ في قَلْبِهِ أدْنى أدْنى أدْنى مِثْقَالِ حَبَّة خَرْدَل منْ إيمانٍ، فأخْرِجْهُ منَ النَّارِ، فأنْطلقُ فَأفْعلُ".

قال: فلمَّا خَرَجْنا منْ عِنْد أنَسٍ، قُلت لِبَعْضِ أصْحابي: لوْ مَرَرْنا بِالْحَسنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ في مَنزلِ أبي خَليفةَ، فَحَدَّثْناه بما حَدَّثَنا بهِ أنسُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: فأتَيْناهُ فَسَلَّمْنا عَلَيْهِ، فأذِنَ لَنا، فَقُلْنا لَهُ: يا أبَا سَعيدٍ، جِئْناكَ منْ عِنْدِ أخيكَ أنسِ بنِ مَالِك، فلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنا في الشَّفاعَةِ، فقالَ: هيه، فَحَدَّثناهُ [بالحديث] فانْتَهَيْنا إلى هَذَا المَوْضِع فقال: هِيه. فقلنا: لم يَزِدْنا على هذا.

فقال: لَقَدْ حَدّثَني وهُوَ جَميعٌ مُنْذُ عِشْرينَ سَنةً، فما أدْري أنسِيَ أمْ كَرِهَ أنْ تَتَّكلُوا؟ فقلْنا: يا أبا سَعيد، فحدِّثنا، فضَحِكَ، وقال: خُلِقَ الإنْسانُ عَجُولًا، ما ذَكَرْتُه إلَّا وأنا أريدُ أنْ أُحدِّثَكُمْ، حدّثني أنس كما حدَّثَكُمْ، ثم قال:"ثمَّ أعُودُ الرَّابعَةَ، فَأحْمَدُه بِتِلْكَ المحَامِدِ، ثمَّ أخِرُّ له ساجِدًا، فيقالُ: يا مُحمّد، ارْفعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفّعْ، فأقُولُ: يا رَبِّ ائذَنْ لي في مَنْ قالَ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيقولُ: وعِزَّتي، وجَلالي وكِبْريَائي، وعَظمَتي، لأُخْرِجَن مِنْها مَنْ قالَ لا إلهَ إلا اللهُ".

وهكذا رواه مسلم، عن أبي الرَّبيعِ الزّهْراني، وسَعيد بن منصور، كلاهما عن حمَّاد بن زَيْدٍ، بِهِ نَحْوَه

(1)

.

وقد رواه أحمد، [عنْ عَفّانَ]، عنْ حمَّادِ بن سَلَمة، عن ثابتٍ، عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

، فذكَرَ الْحَديثَ بِطُولِه، وقالَ فيه:"فأَحْمَدُ رَبِّي بمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بها أحدٌ كان قبلي، ولا يحمده بها أحد كان بَعْدي". وفيه: فأَخْرِجْ منْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ شَعيرَةٍ، ثمَّ يعُودُ فيُقالُ: مِثْقالُ بُرَّةٍ، ثمَّ يَعُودُ، فيقال: مِثْقالُ ذَرَّةٍ، ولم يذكر الرّابعة

(2)

.

وكذا رواه البزّار، عن محمد بن بَشَّار، ومحمد بن مَعْمر، كلاهُما عن حمَّادِ بن مسعدة

(3)

، عن محمّد بن عَجْلان، عن جُوثة

(4)

بن عُبَيْدٍ المَدَنيّ، عن أنس بن مالك

، فذكر الحديثَ بطوله

(5)

. وكذا رواه أبو يعلى من حديث الأعمش، عن يزيدَ الرَّقاشىِّ، عن أنس

، فذكر الحديث بطوله، وذكر فيه

(1)

رواه البخاري رقم (7510) ومسلم رقم (193) وما بين الحاصرتين في الحديث تكملة من (ط).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 247 - 248) بإسناد صحيح.

(3)

في (آ): حماد بن زيد.

(4)

في (آ): حيوة.

(5)

وإسناده ضعيف.

ص: 397

ثلاث شَفَاعَات، وقال في آخِرِهنَّ: "فأقُولُ: أُمَّتي، فيُقالُ [لي]: لَكَ منْ قالَ: لا إله إلّا اللهُ مُخْلصًا

(1)

.

‌طريق أخرى

قال البزّار: حدّثنا عمرو بن عليّ، حدّثنا حماد بن مسعدة، عن عمران

(2)

العَمِّيِّ، عن الحسن، عن أنس، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا أزالُ أشْفعُ، وأُشَفَّعُ -" أوْ قالَ: "وَيُشَفِّعُني رَبِّي عز وجل حتَّى أقولَ: أيْ رَبِّ، شَفعني في منْ قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. فيُقالُ: يا مُحمَّد، هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ، ولا لأحَدٍ، هذهِ لي، وعِزّتي ورَحْمتي لا أدَعُ في النَّارِ أحدًا يَقُولُ: لا إلهَ إلا اللهُ" ثمَّ قال: لا نَعْلَمُهُ يُرْوى إلا بهَذَا الإسنادِ. ورواه ابنُ أبي الدُّنيا عن أبي حَفْصٍ الصَّيْرَفيِّ، عن حمَّادِ بن مَسْعَدَةَ، به

(3)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا يونُس بن مُحمَّد، حدّثنا حَرْبُ بن مَيْمُون، أبو الخَطَّابِ الأنْصاري، عن النضْر بن أنس، عن أنس قال: حدّثنا نَبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "إني لَقَائمٌ أنْتَظرُ أُمَّتي تَعْبُرُ الصِّرَاط، إذْ جَاءني عيسى فقال: هَذِهِ الأنْبياء قدْ جَاءَتْكَ يا مُحمَّد يسألونك-" أو قال: "يَجْتَمعُونَ إلَيْكَ- وَيَدْعُونَ الله عز وجل أن يفرِّق بَيْنَ جَميع الأُمَمِ إلى حَيْثُ يَشَاء اللهُ [لِغَمِّ ما هُمْ فِيهِ]، فَالخَلْقُ مُلْجَمُونَ في العَرَق، فأمَّا المؤْمنُ فَهُوَ عَلَيْهِ كالزُّكْمةِ، وأمَّا الكافِر فيغشاه الْمَوْتُ" قال: "يا عيسى، انْتَظِرْ حتَّى أرْجِعَ إليْكَ" قال: "فذهب نَبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَامَ تَحْتَ العَرشِ فَلَقيَ ما لَمْ يَلْقَ

(4)

مَلَكٌ مُقَرَّبٌ مُصطَفى، ولا نَبيٌّ مُرْسل، فأوْحى اللهُ إلى جبْريلَ: أنِ اذْهَبْ إلى مُحمَّدٍ، فقُل: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفعْ" قال:"فَشَفَعْتُ في أُمَّتي: أنْ أخرِجْ مِنْ كُل تِسْعةٍ وَتِسعينَ إنْسانًا وَاحدًا " قال: "فمَا زِلْتُ أتَرَدَّدُ علَى رَبِّي عز وجل فلا أقوم مَقامًا إلا شُفِّعْتُ، حتى أعطاني الله عز وجل منْ ذلِكَ أنْ قالَ: يا مُحمَّدُ أدْخِلْ منْ أمَّتِكَ منْ خَلْقِ اللهِ عز وجل منْ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ يَوْمًا وَاحدًا مُخْلصًا، ومَاتَ على ذَلِكَ" تفَرَّدَ به أحمدُ، وقد حَكمَ التِّرْمذيُّ بالحُسْنِ لِهَذَا الإسْنادِ

(5)

.

وقال ابن أبي الدُّنْيا: حدّثنا أبو يُوسف القُلُوسيّ، حدّثنا عبدُ الله بن رَجَاء، أنبأنا حَرْب بن

(1)

ورواه أبو يعلى في مسنده (4130) و (4137) وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف.

(2)

هو عمران بن أبي قدامة العَمِّي.

(3)

وفي إسناده ضعف.

(4)

في (آ): فيلقن ما لم يلقن.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 178) وهو حديث حسن، وقد حسن الترمذي هذا الإسناد عند حديث آخر رقم (2433).

ص: 398

مَيْمُونٍ، حدّثني النَّضْرُ بن أنس، عن أنس، قال: جاءَ جِبْريلُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَضَرَ من أمْرِ العِبَادِ ما حَضَرَ، فقال: ادْنُ إلى رَبِّكَ فَسَلْ لأُمَّتِكَ الشَّفَاعةَ، قالَ: "فَدَنَوْتُ منْ العَرْشِ، فقُمْتُ عند العَرْشِ، فَلقيتُ ما لمْ يَلْقَ

(1)

نَبيُّ ولا مَلَكٌ مُقرَّبٌ، فقال: سَلْ تُعْطهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، قال: أُمَّتي

" وذكر تمَامَ الحَديثِ، كَنَحْوِ ما ساقه الإمام أحمد

(2)

.

‌رواية بريدة بن الحُصَيب

قال ابن أبي الدُّنْيا: حدّثنا عليُّ بن معبد

(3)

، حدّثنا الأسْوَدُ بنُ عَامِرٍ، حدّثنا أبو إسرائيل، عن الحَارِث بنِ حَصيرة، عن ابن بُرَيْدةَ، عن أبيه، قال: سمعتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إني لأرْجُو أنْ أُشَفَّعَ عِدَّة كلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ لأُمَّتي"

(4)

.

‌رواية جابر بن عبد الله

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا يَعْمَر

(5)

، حدّثنا عبدُ الله

(6)

، حدّثنا هِشَامٌ قال: سمعتُ الْحسنَ يَذْكُرُ عن جَابر بنِ عَبْدِ اللهِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن لِكُلِّ نَبي دَعْوةً مُستجابة قَدْ دَعا بها، وإنِّي اسْتَخْبَأتُ دَعْوتي شَفَاعة لأمَّتي يَوْمَ القِيَامةِ". تفرَّد به أحمدُ منْ هذا الوجه

(7)

.

‌طريق أخرى

قال الحافظ البَيْهقىُّ: حدّثنا أبو الحسنِ مُحمَّدُ بنُ الْحُسَيْنِ بن داود العَلَويّ، حدّثنا محمدُ بنُ حَمْدَويهِ بنِ سَهْل المَرْوزيّ، أبو نَصْر الغازيُّ، حدّثنا عبدُ اللهِ بن حمَّادٍ الآملي

(8)

، حدّثنا صَفْوانُ بنُ صَالِحٍ، حدّثنا الوَليدُ، حدّثنا زُهَيْرُ بن مُحمَّد، [حدّثنا جَعْفرُ بن مُحَمَّد]، عن أبيه، عن جَابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَفَاعتي يَوْمَ القيَامَةِ لأهْلِ الْكَبَائر منْ أُمَّتي" فَقُلْتُ: [ما هَذا] يا جابرُ؟ قالَ: نَعَمْ، يا مُحمَّد، إنَّهُ منْ زَادتْ حَسَناتُهُ على سَيئاتِهِ فَذَلِك الَّذي يَدْخَلُ الْجنَّةَ بِغيْرِ

(1)

في الأصل: فلقنت ما لم يلقن.

(2)

وهو حديث حسن.

(3)

في (آ): سعيد.

(4)

ورواه أحمد في المسند (5/ 347) عن الأسود بن عامر به، وإسناده ضعيف لضعف أبي إسرائيل.

(5)

في الأصول: معمر.

(6)

هو عبد الله بن المبارك.

(7)

رواه أحمد في المسند (3/ 396) وإسناده ضعيف، لأن الحسن لم يسمع من جابر، ولكن الحديث صحيح بشواهده.

(8)

في الأصول: الأيلي، وهو خطأ.

ص: 399

حِسابٍ، ومنِ اسْتَوَتْ حَسَناتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، فَذَاكَ الَّذي يُحاسبُ حِسابًا يَسيرًا، ثمَّ يَدْخُلُ الجنَّةَ، وإنَّما شَفَاعةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَنْ أوْبقَ

(1)

نَفْسهُ، وأغلَقَ ظَهْرَهُ

(2)

.

وقد رواه البيهقيُّ أيْضًا عنِ الْحاكِم، عن أبي بَكْر مُحمَّد بن جَعْفر بن أحمد المزكي، عن محمّد بن إبراهيم العَبْديّ، عن يعقوب بن كَعْب الحَلَبىّ، عن الوليد بن مُسْلم، عن زُهَيْر بن محمد، عن جَعْفر بن مُحمّد، عن أبيه، عن جابر: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَفَاعتي لأهْلِ الكَبَائرِ منْ أُمَّتي" قال الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحٌ

(3)

. قال البَيْهقيُّ: وظاهرُهُ يُوجبُ أنْ تَكُونَ الشَفاعةُ في أهْل الكَبَائِر مُخْتصَّةً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والمَلائكةُ إنَّما يَشْفعُونَ في أهْلِ الصَّغَائر وَزيادةِ الدَّرَجاتِ، وَقَدْ يَكُونُ المُرَادُ منَ الآيةِ بَيانَ كَوْنِ المَشْفُوعِ [فيهِ] مُرتضىً بإيمانِهِ، وإنْ كانتْ لهُ كَبائرُ وذُنُوبٌ دُونَ الشِّرْك، فيكونُ المرادُ بالأية نفي

(4)

الشَّفَاعة لِلكفّارِ، لأنّ اللهَ لم يأذن فيها، ولمْ يَرْضَ اعْتِقَادَهُم.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا ابنُ جُرَيْج، أخْبَرَني أبو الزُّبَيْر: أنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بن عَبْدِ اللهِ يقول: لِكُل نَبيٍّ دَعوةٌ مُستجابةٌ قدْ دَعَا بِها في أمَّتِه، وخَبَأتُ دَعْوَتي شَفَاعةً لأُمَّتي يَوْمَ القِيَامةِ" يَعْني النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورواه مسلم عن مُحمّد بن أحْمَد بن أبي خَلَف، عن رَوْح بنِ عُبَادةَ، به

(5)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا أبو النَّضْر، حدّثنا زُهَيْرٌ، حدّثنا أبو الزُّبَيْر، عن جَابرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مُيِّزَ أهْلُ الجَنّةِ وَأهْلُ النَّارِ، فَدَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجنّة، وأهْلُ النَّارِ النَّارَ، قَامَت الرُّسُلُ، فَشَفعُوا، فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا أو اذهبوا، فَمنْ عَرَفْتُمْ فأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتَحشُوا فَيُلْقُونهُمْ في نَهْرٍ، أوْ على نَهْرٍ، يُقالُ لَهُ: نهر الْحَياة" قالَ: [فَيسْقُطُ مُحَاشُهُمْ على حَافَتَي النَّهْرِ، وَيَخْرُجُونَ بِيضًا كالثَّعَارير

(6)

، ثمَّ يَشْفَعُونَ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا أوِ انْطَلِقُوا فَمنْ وَجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيراطٍ

(1)

في (آ): لمن أونق.

(2)

أي: أثقله بالذنوب.

(3)

ورواه البيهقي في "البعث والنشور"(1) عن الحاكم، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

في (آ): هي، وهو خطأ.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 384) ومسلم (201).

(6)

في (آ): كالثغارير، وهو خطأ، والثعارير، جمع ثعرور، وهو الِقثَّاء الصغار.

ص: 400

منْ إيمانٍ فأخْرِجُوه" قال: "فَيُخْرجونَ بَشَرًا، وَيَشْفعونَ، فيَقُولُ: اذْهَبُوا أو انْطَلِقُوا، فمنْ وَجَدْتُم في قَلْبِهِ مثقال حَبةٍ منْ خَرْدَلٍ منْ إيمان فأخرجوه" قال:"فيخرجون بشرًا ثمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: أنا الآن أخْرِجُ بِعِلْمي وَرَحْمتي، فَيُخْرجُ أضْعَافَ ما أخْرَجُوا، وَأضْعَافَهُ، فَيُكْتبُ في رِقَابِهمْ: عُتَقاءُ اللهِ عز وجل ثمَّ يَدْخُلونَ الْجنَّةَ فَيُسَمَّوْنَ فِيها الْجَهنَّمِيِّين". تفرَّد به أحمد

(1)

.

‌طريق أخرى

قال ابن أبي الدُّنْيا: حدّثنا عليُّ بنُ الْجَعْدِ، حدّثنا القاسمُ بنُ الفَضْلِ الحُدَّاني

(2)

، حدّثني سعيدُ بنُ المُهلَّب، قال: قال طَلْقُ بنُ حَبيبٍ: كُنْتُ منْ أشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بالشَّفَاعَةِ، حتَّى لَقيتُ جَابرَ بن عَبْدِ اللهِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كلَّ آيةٍ أقْدِرُ عَلَيْها في الشفاعة، وكل آية فيهَا ذِكْرُ خُلودِ أهْلِ النَّارِ، فقالَ لي: يا طَلْق

(3)

أتُرَاكَ أقْرَأَ لِكتابِ اللهِ وَأعْلَم بِسُنَّة نَبيِّه منِّي؟ قُلْتُ: لا، قال: إنَّ الَّذي قَرَأْتَه هُمُ المُشْركُونَ، وَلَكن هَؤلاءِ قَوْم أصَابُوا ذُنوبًا عُذبُوا بها، ثُمَّ أخْرِجُوا منَ النَّارِ، ثمَّ أوْمأ بِيَديه إلى أُذُنَيْه، ثُمَّ قالَ: صَمَّتا، إنْ لمْ أكُنْ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ وَنَحْنُ نَقْرَأ الَّذي تَقْرأ

(4)

.

‌حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه

قال أحمد: حدّثنا الحَكَم بنُ نافعٍ

(5)

، حدّثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن رَاشدِ بن دَاودَ الصَّنْعَانيّ، عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بن حَسَّانَ، عن رَوْحِ بنِ زِنْباعٍ، عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، قالَ: فَقَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلةً أصْحَابُهُ، وكانُوا إذا نَزَلوا أنْزَلوهُ وسْطَهُمْ، ففَزِعُوا وَظنُوا أنَّ الله تبارك وتعالى اختار له أصحابًا غيْرَهُمْ، فإذا هُمْ بِخَيالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرُوا حينَ رَأَوْهُ، وقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، أشْفَقْنا أنْ يَكُونَ اللهُ تبارك وتعالى اخْتارَ لَكَ أصحابًا غَيْرنا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا، بَلْ أنْتُمْ أصْحَابي في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، إنَّ الله تعالى أيْقَظَني، فقال: يا مُحمَّدُ، إني لمْ أَبْعثْ نَبيًا، ولا رَسُولًا إلَّا وقدْ سَألَني مَسْألةً أعْطَيْتُها إيَّاهُ، فَسَلْ يا مُحمَّدُ تُعْطهْ، فَقُلْتُ: مَسْألَتي شفاعة لأمَّتي [يوم القيامة] " فقال أبو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللهِ، ومَا الشَّفَاعةُ؟ قال: "أقولُ: يا رَبِّ شَفَاعَتي الَّتي اخْتَبَأتُ عِنْدَكَ، فيَقُولُ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 325 - 326) وهو حديث صحيح.

(2)

في (آ): الحراني، وهو خطأ.

(3)

رواه البخاري في الأدب المفرد (818) باب من دعا آخر بتصغير اسمه بلفظ (يا طُلَيق).

(4)

وأخرجه أحمد (3/ 330) من طريق القاسم، به، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (818) وهو حديث صحيح لغيره.

(5)

في الأصول: إبراهيم بن نافع، وهو خطأ.

ص: 401

الرَّبُّ تبارك وتعالى: نَعَمْ، فيخرج الله بقية أمتي فينبِذُهم في الجنة". تفرد به أحمد

(1)

.

‌رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد: حدّثنا عَفَّانُ، حدّثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمةَ، عن عَليّ بنِ زَيْدٍ، عن أبي نَضْرَةَ، قال: خَطَبَنا ابنُ عَبَّاسٍ على مِنْبَرِ البَصْرَةِ، فقالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيُّ إلَّا لَهُ دَعْوةٌ وَقَدْ تَنَجَّزَها في الدُّنْيا، وَإنِّي قَدِ اخْتَبأْتُ دَعْوِتي شَفَاعةً لأُمَّتي، وأنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمُ يَوْمَ القِيَامةِ، ولا فَخْرَ، وَأنَا أوَّلُ منْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ، ولا فخْرَ، وَبيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ ولا فَخر، آدَمُ، فَمنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائي، ولا فَخْرَ، ويَطولُ يَوْمُ القِيَامةِ على النَّاسِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إلى آدمَ أبي البَشَرِ فَيَشْفَع لنَا إلى رَبّنَا عز وجل فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فيَقُولُونَ: يا آدَمُ، أنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وأسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، اشفَعْ لَنا إلى رَبِّنا، فَلْيَقْضِ بَيْننا، فَيَقُولُ: إني لَسْتُ هُنَاكُمْ، إني قَدْ أُخْرِجْتُ منَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئتي وَإنَهُ لا يُهمُّني اليَوْمَ إلّا نَفْسي، وَلَكن ائْتُوا نُوحًا رَأْسَ النَّبيِّينَ، فَيَأتُونَ نُوحًا فيَقُولون: يَا نُوحُ، اشفَعْ لَنا إلى رَبِّنا فَلْيَقْضِ بَيْننا، فَيَقُولُ: إنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ إني دَعَوْتُ بدَعْوةٍ أغْرَقَت أهْلَ الأرْضِ، وإنَه لا يُهمُّني اليَوْمَ إلَّا نَفْسي، وَلَكِن ائتُوا إبْرَاهيمَ خَليلَ اللهِ، فَيَأتُونَ إبْرَاهيمَ، فيَقُولونَ: يا إبْرَاهيمُ اشْفَعْ لنَا إلَى رَبِّنا فَلْيَقْضِ بَيْننا، فيقُولُ: إني لَسْتُ هُناكُمْ، إنِّي كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ في الإسلام، واللهِ إن حَاوَلَ بهنَ إلَّا عنْ دِينِ اللهِ

(2)

قولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وقوله لامرأته حَيْن أتى على الْمَلِكِ: إنها أُخْتي، وإنَّهُ لا يُهمُّني الْيَوْمَ إلَّا نَفْسي، ولكن ائتُوا مُوسى الذي اصْطَفاهُ اللهُ بِرِسالاتِه، وَبِكلامِه، فيَأْتُونهُ فَيَقُولونَ: يا موسَى، أنْتَ الّذِي اصْطَفاكَ اللهُ برسالاته وبكلامه، فاشفَعْ لَنا إلى رَبِّك فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، إنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بغَيْرِ نَفْسٍ، وَإنِّي لا يُهمُّني اليَوْمَ إلَّا نَفْسي، ولَكِن ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، فيَأتُونَ عِيسَى فيقُولون: يا عِيسَى، اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنا، فيَقُولُ: إنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، إنِّي اتُّخِذْتُ وأُمِّيَ إلهين منْ دُونِ اللهِ، وإنّهُ لا يُهمني الْيَوْمَ إلَّا نَفْسي، وَلَكنْ أرَأيْتُمْ لَوْ كانَ مَتاعٌ في وِعَاءٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ أكانَ يُقْدَرُ على ما في جَوْفِ الوعاء حتى يُفَضَّ الْخَاتَمُ؟ " قال:" فيَقُولُون: لا، فيقُولُ: إنَّ مُحمَّدًا خَاتَمُ النَّبيِّينَ، وَقَدْ حَضَرَ اليَوْمَ، وَقَدْ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذنْبِهِ، ومَا تَأخَّرَ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَيَأتُوني، فيقُولُونَ: يا مُحمّدُ، اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّك، فَلْيَقْضِ بَيْنَنا، فأقُولُ: أنَا لَها، حتَّى يَأذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، فإذا أراد أنْ يَصْدعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنادٍ: أيْنَ أحْمدُ، وَأُمَّتُه؟ فنَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ، [نَحْنُ] آخِرُ

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 325 - 326) وفي إسناده راشد بن داود الصنعاني، لين الحديث.

(2)

يعني ما قصد غير دين الله.

ص: 402

الأُمَمِ، وَأوَّلُ منْ يُحَاسَبُ، فَتُفرِجُ لَنا الأُمَمُ طَريقًا فَنَمْضي غُرًّا مُحَجَّلينَ، منْ أثَرِ الطُّهُورِ، فتَقُولُ الأمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الأمَّةُ أنْ تَكُونَ أنْبياءَ كُلُّها، فَآتِي بَابَ الْجنَّة، فآخُذُ بِحلْقَةِ البَابِ فأقْرَعُ البَابَ، فيُقالُ: منْ أنْتَ؟ فأقُولُ: أنا مُحمَّدٌ، فَيُفْتحُ [لي]، فآتي رَبِّي عز وجل وهو على كُرْسيِّهِ، أوْ سَريرِهِ! شَكَّ حَمَّاد، "فأخِرُّ لَهُ سَاجدًا، فَأحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بهَا أحدٌ كانَ قَبْلي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بهَا أحدٌ بَعْدي، فيُقالُ: يا محمّد، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَه [وَقُلْ يُسْمعْ لك] وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" قال: " [فَأرْفَعُ رَأْسِي] فأقُولُ: أيْ رَبِّ أُمَّتي، أُمَّتي، فيَقُولُ: أخْرِجْ من النار مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ كذا، وكذا" لم يَحْفظْ حَمَّادٌ "ثمَّ أعُودُ فأسْجُدُ، فأقُولُ ما قُلْتُ، فيُقالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشفّعْ، فأقُولُ: أيْ رَبِّ أُمَّتي أُمَّتي، فيقُولُ: أخْرِجْ منْ كان في قَلْبِهِ [مثقال] كذا، وكذا، دُونَ الأول، ثم أعُودُ، فَأسْجُدُ، وَأقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فيُقالُ لي: ارْفعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفّعْ، فأقُولُ: أيْ رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتي، فيقول: أخْرِجْ منْ كانَ في قلْبِهِ كذا وكذا دون ذلك". وقد روى ابنُ ماجه بَعْضَه، من رواية حمَّادِ بنِ سَلَمةَ عن سَعيد بن إيَاسٍ الجُرَيْريّ، عن أبي نَضْرَةَ المُنْذِرِ بن مَالِكٍ بن قِطْعَةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، به.

وتقدّم في الصِّنْفِ الثاني، والثالث، من أنواع الشَّفَاعةِ في أقْوَامٍ قَدْ أُمِرَ بهمْ إلى النّارِ ألّا يَدْخُلوهَا

(1)

.

‌طريق أخرى عنه

وَقَدْ رَوَى الطَّبرانىُّ في "مُعْجَمِهِ الكَبيرِ"، عنْ عَطاء بنِ أبي رَبَاحٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "شَفَاعتي لأهْلِ الكَبَائِر منْ أُمَّتي"

(2)

.

‌رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

قال الحافظ أبو بكر البَزّارُ: حدّثنا

(3)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 281 - 282) وابن ماجه رقم (4290) وهو حديث صحيح دون قول عيسى: إني اتخذت إلهًا من دون الله، فإنه لم يذكر في "الصحيحين".

(2)

رواه الطبراني في الكبير (11454) من حديث أبن عباس، ورواه أبو دواود رقم (4739) والترمذي رقم (2435) من حديث أنس، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه رقم (6467) من حديث جابر، وهو حديث صحيح.

(3)

هنا بياض في الأصول.

ص: 403

‌طريق أخرى

قال الطبرانيُ: حدّثنا

(1)

.

‌طريق أخرى

قال الإمامُ أحْمدُ: حدّثنا مُعمَّر بن سُلَيْمانَ الرَّقيُّ أبو عبد الله، حدّثنا زيادُ بنُ خَيْثمةَ، عن عليّ بن النُّعْمانَ بن قُرَادٍ، عن رَجُلٍ، عن عَبْدِ الله بن عُمَر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ، أوْ يَدْخُلَ نِصْفُ أمَّتِي الْجَنَّةَ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، لأنَّها أعمُّ وَأكْفَى، أتُرَوْنَها للْمُنَقَّينَ؟ لا، وَلَكنَّها لِلْمُتَلوِّثين الْخَطَّاؤونَ"

(2)

قال زِيَادٌ: أما إنَّها لَحْنٌ، لَكِنْ هَكَذا حدّثنا الذي حدّثنا

(3)

.

ورواه ابنُ أبي الدُّنْيا عنِ الْحَسَنِ بنِ عَرَفَةَ، عن عبد السلام بن حَرْبٍ، عن نُعْمانَ بن قُرَاد، عن عبد الله بن عُمَر

فذكره بنحوه. هكذا رأيتُه في كتابِ "الأهْوَالِ"، وكذا رواه البيهقيُّ في "البَعْثِ والنُّشورِ"، من طريق الحسن بن عَرَفَة

(4)

.

‌رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

قال مسلم: حدّثنا يونُس بن عبد الأعْلَى الصَّدَفيّ، أخبرنا ابْنُ وَهْبٍ، أخْبَرني عمرو بنُ الحارِث، أنَّ بكر بن سَوَادَةَ حدَّثه، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن العاصِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَلا قَوْل الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي

} [إبراهيم: 36] وقول عِيسى {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فرفع يَدَيْهِ، وقال:"اللّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتي" وبكى، فقالَ الله تعالى: يا جبريلُ اذْهَبْ إلى مُحمَّدٍ، وَرَبُّكَ أعْلَمُ، فَسَلْهُ: ما يُبْكيَكَ؟ فَأتَاهُ جِبْريلُ عليه السلام فسأله، فأخبره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهُوَ أعْلَمُ، فقال اللهُ: يا جِبْريلُ، اذْهَبْ إلى مُحمَّد، فَقُلْ له: إنا سَنُرْضيكَ في أُمَّتِكَ، ولا نَسُوؤك

(5)

.

(1)

هنا بياض في الأصول.

(2)

في الأصول: الخطائين، والمثبت من المسند، أي هم الخطاؤون، وليس بلحن.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 75) وإسناده ضعيف.

(4)

ورواه الحسن بن عرفة في "جزئه"(93) ومن طريقه البيهقي في "الاعتقاد" صفحة (293) وهو ضعيف.

(5)

رواه مسلم رقم (202).

ص: 404

‌رواية عبد الله بن مسعود

وقد تقدم روايةُ عَلْقمةَ عنه في الحَوْضِ وَالمَقامِ المحمودِ، وفيه ذكر الشفاعة

(1)

.

‌رواية عبد الرحمن بن أبي عقيل

قال البيهقيّ: حدّثنا أبو الحُسَيْن بن الفَضْلِ القَطَّان، حدّثنا عبدُ الله بنُ جَعْفر، حدّثنا يَعقوبُ بنُ سفيان

(2)

، حدّثنا أحمدُ بنُ يُونس، حدّثنا زُهَيْر، حدّثنا أبو خالِدٍ، يزيد الأسَديُّ، حدّثنا عَوْنُ بنُ أبي جُحَيفَةَ السُّوَائي، حدّثنا عبدُ الرحمن بنُ عَلْقَمةَ الثقفيُّ، عن عبد الرحمن بن أبي عَقيل، قال: انْطَلَقْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وَفْدٍ فأتَيْناهُ فأنَخْنا بالْبابِ، وما فِي النَّاسِ أبْغَضُ إلَيْنا منْ رَجُلٍ نَلِجُ عَلَيْهِ منه، فلمّا خَرَجْنا وما في النَّاسِ أحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ دَخَلْنا عَلَيْهِ منه، قالَ قائلٌ مِنْهُمْ: يا رسول الله، ألَا سَألْتَ رَبّكَ مُلْكًا كمُلْكِ سُلَيْمان؟ فَضحِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالَ:"فَلَعلَّ لصاحِبكُمْ عِنْدَ اللهِ أفْضلَ منْ مُلْكِ سُلَيْمانَ، إنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبيًا إلَّا أعْطاهُ دَعْوةً، فَمِنْهمْ منِ اتَخَذَها دُنْيا فَأُعْطيَهَا، ومِنْهُمْ منْ دَعا بها على قَوْمِهِ إذْ عَصَوْهُ، فَأُهْلِكُوا بهَا، وإنَّ الله تعالى أعْطَاني دَعْوةً فَاخْتَبأتُهَا عند ربي شَفَاعةً لأمتي يَوْمَ القيامِةِ". قلتُ: إسناده غريبٌ قويٌّ، وحديثٌ غريبٌ

(3)

.

‌رواية أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه

قال الحافظُ أبو يَعْلَى: حدّثنا إسحاقُ، حدّثنا أحمدُ بنُ يونس، حدّثنا عَنْبَسَة بنُ عَبْد الرَّحمن بنِ عَنْبَسة القُرَشي، عن عَلاَّقِ بن أبي مُسْلم، عن أبَانِ بن عُثْمانَ، عن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَشْفعُ يَوْمَ القِيَامةِ ثَلاثةٌ: الأنبياءُ، ثمَّ العُلَماءُ، ثمَّ الشُهَداءُ".

وقالَ البَزّارُ: حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بن غِيَاثٍ، حدّثنا عَنْبسةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عن عَلَّاقِ بن أبي مُسْلم، قالَ: وَرَأيْتُهُ في مَوْضِع آخَر عِنْدي: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ عَلَّاق، عن أبانٍ، عن عُثْمانَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أوَّلُ منْ يَشْفعُ يَوْمَ القِيَامةِ الأنْبياءُ، ثمَّ الشُهَدَاءُ، ثمَّ المُؤْمنُونَ" قال البزارُ: عَنْبَسةُ هذا لَين الْحَديث، وَعَبْدُ الْملك بنُ عَلَّاقٍ لا نَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ عَنْبسة

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 398 و 399) وإسناده ضعيف وانظر طريقًا أخرى في الحوض وغيره، الحديث الأول.

(2)

في (آ): يعقوب بن سَقَر، وهو خطأ.

(3)

ورواه ابن أبي عاصم في "السنة" من طريق أحمد بن يونس رقم (824) أقول: وفي إسناده أبو خالد الأسدي الدالاني، وهو صدوق يخطئ كثيرًا ويدلس، وقد توبع، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

رواه البزار (3471 - كف الأستار) ورواه ابن ماجه رقم (4313) من طريق أحمد بن يونس به، وفي سنده عنبسة بن عبد الرحمن، قال أبو حاتم: كان يضع الحديث.

ص: 405

‌رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال أبو بكر البزّار: حدّثنا محمَّدُ بنُ زبدا المذاريّ

(1)

، حدّثنا عمرو بنُ عاصم، حدّثنا حَرْبُ بنُ سُرَيْج

(2)

البزّارُ، قال: قلتُ لأبي جَعْفرٍ مُحمّد بن عَلي: أرَأيْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ التي يَتَحدَّثُ بها أهْلُ العِرَاقِ، أحَقٌّ هِيَ؟ قال: شفَاعةُ مَاذا؟ قلتُ: شَفَاعةُ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: حَقٌّ إي وَاللهِ، وَاللهِ لَحدّثني عمِّي مُحمَّدُ بنُ عَلِيٍّ ابنُ الْحَنفيَّةِ، عن عَليٍّ رضي الله عنه: أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إني أشْفَعُ لأمَّتي حَتَّى يُنَادِيني رَبي عز وجل، فيَقُولُ: أرَضيتَ يا مُحمَّدُ؟ فأقولُ: رَبِّ، رَضيتُ" ثمَّ قالَ: لا نَعْلمُهُ يُرْوى إلَّا بهذَا الإسْنادِ

(3)

.

‌رواية عوف بن مالك رضي الله عنه

قال ابن أبي الدُّنيا: حدّثنا خالدُ بن خِدَاشٍ، وَخَلفُ بنُ هِشَامٍ، قالا: حدثنا أبو عَوَانة، عن قَتَادةَ، عنْ أبي المَلِيح، عن عَوْفِ بن مَالِكٍ الأشْجَعي: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني اللّيْلةَ آتٍ منْ رَبِّي، فَخَيَّرَني بَيْنَ أنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أمَّتي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشَّفاعَةِ، فاخْترتُ الشّفاعَةَ، قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، نَنْشُدُكَ الله وَالصُّحْبَةَ لَمَا جَعَلْتَنا مِنْ أهْلِ شَفَاعَتِكَ، قال: "فإنِّي أُشْهِدُ منْ حَضَرَ أنَّ شَفَاعَتي لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا منْ أُمَّتي". وقد رواه يَعْقُوبُ بنُ سُفْيَانَ، عن يحيى بن صَالِحِ الوُحَاظىّ، عن جابر بن غانم

(4)

، عن سُلَيْم بن عامر، عن مَعْديكَرِبَ بنِ عَبْدِ كُلالٍ، عن عَوْفِ بن مَالِكِ، [عن النبي صلى الله عليه وسلم قال]: أتَاني جِبْريلُ عليه السلام بأنَّ رَبِّي خَيَّرني بينَ خَصْلَتينِ: أنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشَّفَاعةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعةَ". وقد رواه البَيْهَقيُّ عن الحاكم، عن الأصَمِّ، عنْ بَحْر بن نَصْر، عن بِشْرِ بنِ بَكْرٍ، عن [ابن] جَابِرٍ، عن سُلَيْمِ بن عامِرٍ: سَمِعْتُ عَوْفَ بنَ مَالِكٍ

فَذَكَرَ الْحَديثِ، وَفيه قِصَّةٌ. ورواه حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلابَةَ، رَدَّ الْحَديثَ إلى عَوْفِ بنِ مَالِكٍ

(5)

.

(1)

في (آ): محمد بن يزيد المرادي، وهو خطأ.

(2)

في الأصول: شريح.

(3)

رواه البزار رقم (3466 - كف الأستار) وإسناده ضعيف.

(4)

في (آ): جعفر بن غانم، وهو خطأ.

(5)

ورواه أحمد في المسند (6/ 28 - 29) والترمذي رقم (2441) من طريق أبي عوانة، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 337) والحاكم في المستدرك (1/ 66) والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 138) من طريق حماد بن زيد، به، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 406

‌رواية كعب بن عجرة

قال البَيْهقيّ: حدّثنا مُحمّد بنُ مُوسى بنِ الفَضْل، حدّثنا محمّدُ بن عَبْدِ اللهِ الصَّفار، حدّثنا جَعْفرُ بنُ أبي عَمَّار الطيالسي، حدّثنا محمّد بنُ بَكَّار، حدّثنا عَنْبَسَةُ بنُ عَبْدِ الواحدِ، عن واصلٍ مَوْلَى أبي عُيَيْنةَ، عن [أُمَيٍّ] أبي عَبْد الرَّحْمَن

(1)

، عن الشعبي، عن كعب بن عُجْرَة، قال: قلت: يا رسولَ اللهِ، الشّفَاعةَ، الشّفاعَةَ، قال:"شَفَاعتي لأهْلِ الكَبائرِ منْ أُمَّتي"

(2)

.

‌رواية أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه

قال الإمام أحمدُ: حدّثنا إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الطَّالقَانىّ، حدّثني النَّضْرُ بن شُمَيْل المَازِنيّ، حدّثنا أبو نَعَامة، حدّثنا أبو هُنَيْدة، البرَاءُ بنُ نوْفَل، عن والان العدَويّ، عن حُذَيْفة، عن أبي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه، قال: أصبحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ، فَصَلَّى الغَدَاةَ ثم جَلَسَ حَتَّى إذَا كانَ منَ الضُّحَى ضَحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ جَلَسَ مَكانَهُ حتى صَلَّى الأُولَى، وَالعَصْر والمَغْربَ، كلَّ ذَلِكَ لا يَتَكلَّم حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَة ثم قام إلى أهْلِه، فَقَالَ النَّاسُ لأبي بَكْرٍ: ألا تَسْألُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: ما شَأنُهُ صَنَعَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ قَطّ؟ فَسَألَهُ، فقالَ:"نَعَمْ، عُرِضَ عَلَىَّ مَا هُوَ كائنٌ منْ أمْرِ الدُّنْيا، وَأمْرِ الآخرَة، يُجْمعُ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ بِصَعيدٍ وَاحدٍ، ففَظِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، حتَّى انْطَلقُوا إلى آدَمَ وَالعَرَقُ يَكادُ يُلْجِمُهُمْ، فَقالوا: يا آدَمُ أنْتَ أبُو البَشَرِ، أنْتَ اصْطَفَاكَ اللهُ فاشْفَعْ لَنا إلى رَبّكَ، فقالَ آدم: لقَدْ لَقيتُ مِثْلَ الَّذي لَقيتُمْ، انْطَلِقُوا إلى أبِيكُمْ بَعْدَ أبيكُمْ إلى نُوحٍ عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] " قال: "فَيَنْطلِقُونَ إلى نوح عليه السلام فيقُولُونَ: اشْفَعْ لَنا إلى رَبِّكَ فأنْتَ اصْطَفَاكَ اللّهُ وَاسْتَجابَ لَكَ في دُعائِكَ، وَلَمْ يَدَعْ على الأرْضِ منَ الكافرينَ دَيارًا، فيَقُولُ: ليْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي، انْطَلِقُوا إلى إبراهيم فإن الله اتَّخَذَهُ خلِيلًا، فَيَنْطَلقُونَ إلى إبْرَاهيمَ، فيقُولُ: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي، وَلَكِن انْطَلقُوا إلى مُوسَى فإنَّ اللهَ كَلَّمَهُ تَكْليمًا، فيقُولُ موسى: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي، وَلَكِن انْطَلِقُوا إلى عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ، فَإنَهُ يُبْرئُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ، وَيُحْيي المَوتى، فيقُولُ عِيسَى: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدي، وَلَكِن انْطَلِقُوا إلى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، فإنّه أوَّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامةِ، انْطَلِقُوا إلى مُحمّد صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعَ لَكُمْ إلى ربَكُمْ" قال: "فيَنْطَلِقُونَ، فيَأْتِي جِبْريلُ رَبَّهُ، فيقولُ الله عز وجل: ائْذن لَهُ وَبشَرْهُ بالْجَنَّةِ" قال: "فيَنْطَلِقُ بِهِ جِبْريلُ، فَيَخرُّ ساجدًا قَدْرَ جُمُعةٍ، فيقول اللهُ عز وجل: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشفَّعْ" قال: "فيَرْفعُ رَأْسَهُ، فإذا نَظَرَ إلى رَبِّهِ عز وجل

(1)

هو أُميّ بن ربيعة المرادي الصيرفي، كوفي يكنى أبا عبد الرحمن، ثقة.

(2)

ورواه الآجري في "الشريعة" رقم (832) من طريق ابن بكار، به، وهو حديث حسن.

ص: 407

خَرَّ ساجدًا قَدْرَ جُمُعَة أُخْرى، فيقُولُ اللهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشفَّعْ" قالَ: "فيَذْهبُ لِيَقَعَ سَاجدًا، فَيَأْخُذُ جِبْريلُ بِضَبْعَيْهِ

(1)

، وَيُفْتحُ عليْهِ مِنَ الدُّعاءِ بشَيْءٍ لَمْ يُفْتحْ على بشًرٍ قَطُّ، فيقولُ: أيْ رَبِّ، خَلَقْتَني سَيدَ وَلَدِ آدَم، ولا فَخْرَ، وأَوَّلَ منْ تَنْشق عَنْهُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامةِ، ولا فَخْرَ، حتَّى إنَّهُ لَيَردُ عَليَّ الْحَوْضَ أكْثَرُ ممَّا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأيْلَةَ، ئُمَّ يُقالُ: ادْعُوا الأنْبياء، قال: فيَجيءُ النَّبيُّ ومَعَهُ العِصَابةُ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الْخَمْسةُ وَالسِّتَّةُ، وَالنبيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحدٌ، ثُمَّ يُقالُ: ادْعُوا الصِّدِّيقينَ، فيشفعون، ثُمّ يُقالُ: ادْعُوا الشُّهَداء، فيَشْفعُونَ لِمنْ أرَادُوا" قال:"فإذا فَعَلَتِ الشُهَداءُ ذَلِكَ" قال: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أنَا أرْحمُ الرَّاحمينَ، أدخِلُوا جَنتي منْ كانَ لا يُشْركُ بي شَيْئًا" قالَ: "فَيَدْخُلونَ الْجنَة، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ عز وجل: انْظُرُوا في النَّارِ هَل تَلقَوْنَ منْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ" قالَ: "فَيَجدُونَ في النَّارِ رَجُلًا، فَيُقالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خيْرًا قَطُّ؟ فيَقُولُ: لا، غَيْرَ أنَي كُنْتُ أُسَامحُ النَّاسَ في الْبَيْع، فيقُولُ الله عز وجل: أسْمِحُوا

(2)

لِعَبْدي كَإسْمَاحِهِ إلى عَبِيدي، ثمَّ يُخْرِجُونَ منَ النَّارِ رَجُلًا، فيقال لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خيْرًا قَطُ؟ فَيَقُولُ: لا، غَيْرَ أنِّي قد أمَرْتُ وَلَدي: إذَا مِتُّ فَأحْرِقُوني بالنَّارِ، ثُمَّ اطْحَنُوني، حتَّى إذَا كنتُ مِثْلَ الكُحْلِ، فاذْهَبُوا بي إلى البَحْرِ فَاذْرُوني في الرِّيحِ، فَوَ اللهِ لا يَقْدرُ عليَّ

(3)

رَبُّ العَالَمينَ أبَدًا، فقالَ اللهُ عز وجل لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قالَ: منْ مَخَافَتِكَ" قال: "فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: انْظُرْ إلى مُلْكِ أعْظَمِ مَلِكٍ، فَإنَّ لَكَ مِثْلَهُ، وَعَشْرَةَ أمْثَالِهِ" قالَ:"فَيَقُولُ: لِمَ تَسْخر بِي وَأنْتَ الْمَلِكُ؟ " قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فذلك الذي ضَحِكْتُ مِنْهُ منَ الضُّحَى"، وقدْ تَكَلَّمْنَا على هَذا الْحَديثِ في آخرِ مُسْنَدِ الصِّديقِ رضي الله عنه

(4)

.

‌رواية أبي سعيد الخدري

قال الإمامُ أحمدُ: حدّثنا إسماعيلُ بن إبراهيمَ، حدّثنا محمَّدُ بنُ إسحاق، حدّثنا عُبيد

(5)

اللهِ بن

(1)

تثنية ضبع، وهو وسط العضد.

(2)

يقال: سمح وأسمح: إذا جاء وأعطى عن كرم وسخاءٍ.

(3)

لم يقل ذلك تكذيبًا للقدرة، بل لما لحقه من شدة الحال ما غيَّر عقله، وصيره كالمجنون.

(4)

زاد ناسخ (م) ما يلي: قال المؤلف في آخر (مسند الصديق) في "جامع المسانيد": وقد رواه أبو يعلى والهيثم بن كليب وأبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه"، وابن خزيمة وابن حبان في حديثهما (كذا)[ولعله في صحيحيهما] في حديث النضر بن شميل، وكان إسحاق بن راهويه يمدح هذا الحديث، ورواه عن النضر بن شميل، واختاره الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج على الصحيحين" وقد بسطت القول فيه في المسند المنفرد عنه. وقد رواه البزار عن خلاد بن أسلم عن النضر بن شميل، به، وقال: تفرّد به البراء بن نوفل عن والان، ولا يعرف لهما غيره، على أنه قد رواه جماعة من العلماء واحتملوه والله سبحانه أعلم اهـ. أقول: أخرجه أحمد (1/ 4 - 5) والبزار (76) وأبو يعلى (56) و (57) وأبو عوانة (1/ 175) وابن حبان (6476).

(5)

في الأصول: عبد.

ص: 408

المُغيرةِ بنِ مُعَيْقيب، عنْ سُلَيْمانَ بنِ عَمْرو بنِ عَبْدٍ العُتْوَاريّ، قال أحمدُ: وهو أبو الهَيْثم، قال: حدّثني لَيْثٌ

(1)

وكان [يتيمًا] في حِجْرِ أبي سَعيدٍ الخُدْريّ، قال: سَمِعْتُ أبا سَعيدٍ يَقُولُ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ]: "يُوضعُ الصِّراطُ بَيْنَ ظَهْريْ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، ثمَّ يَسْتَجيزُ النَّاسُ، فناجٍ مُسلَّمٌ ومجروح به، ثم ناجٍ وَمُحْتبسٌ به فمكْدُوسٌ فِيها، فإذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءَ بَيْنَ العِبَادِ، يَفْقِدُ الْمُؤْمنُونَ رِجَالًا كانُوا مَعَهُم في الدُّنْيا، يُصلُّونَ بِصَلاتِهِمْ، ويُزَكُونَ بِزَكاتِهِمْ، وَيَصُومُونَ صِيامَهُمْ، وَيَحُجُّونَ حجُّهُمْ، وَيَغْزونَ غزْوهُمْ، فَيَقُولُونَ: أيْ رَبَّنا، عِبَادٌ منْ عِبَادِكَ كانُوا مَعَنا في الدُّنْيا، يُصلُّونَ صَلاتَنَا، ويُزكُّونَ زَكاتَنا، ويصُومُونَ صِيامنَا، ويَحُجُّونَ حَجَّنا، ويَغْزُونَ غَزْونا، لا نَرَاهُمْ معنا؟ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إلىِ النَّارِ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْهُمْ فأخْرِجُوهُ" قالَ: "فيَجدُونَهُمْ وَقَدْ أخَذَتْهُم النَّارُ على قَدْرِ أعْمَالِهِمْ، فمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى قَدَمَيْهِ، وَمِنْهُمْ منْ أخَذَتْهُ إلى نِصْفِ سَاقَيْهِ، ومنْهُمْ منْ أخذتْهُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومنْهُم منْ أخذتهُ إلى أُزْرَتِهِ، ومنْهُمْ منْ أخذتهُ إلى ثَدْيَيْهِ، ومنْهُمْ منْ أخذَتْهُ إلى عُنُقِهِ ولَمْ تَغْشَ الوُجُوهَ، فيَسْتَخْرِجُونَهُمْ منْهَا، فَيَطْرَحُونَهُمْ في مَاءِ الْحَيَاةِ" قالوا: يا رَسُولَ اللهِ: ومَا ماءُ الحَيَاة؟ قالَ: "غُسْلُ أهْلِ الْجَنَّةِ، فيَنْبُتُونَ نَباتَ الزَّرْعَةِ" وَقَالَ مَرَّةً: "كما تَنْبُتُ الزَّرْعةُ في غُثاء السَّيْلِ. ثمَّ يَشْفَعُ الأنْبياءُ في كلِّ منْ كانَ يَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ مُخْلصًا، فَيَخْرِجُونَهُمْ منْها" قال: "ثمَّ يَتَحنَّنُ اللهُ برحْمَتِهِ على منْ فِيها، فَما يَتْرُكُ فيها عبدًا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ منْ إيمانٍ إلَّا أخرجَهُ منها". تفرَّد به أحمد

(2)

، ورواه ابنُ أبي الدُّنيا، من حديث ابن إسحاق، به، قال:"يُوضعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْريْ جَهنَّمَ "قال مُحمَّدٌ: فَلا أعلمه قال: "إلَّا كَحَرْفَةِ السَّيْفِ

" وذكر تمام الْحَديث.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا ابنُ أبي عَدِيّ، عن سُلَيْمان، يَعْني التَّيْميَّ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أهْلُ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أهْلُها لا يَمُوتُونَ، ولا يَحْيَوْنَ، وأمَّا أُناسٌ يُريدُ اللهُ بِهِمُ الرَّحْمةَ فَيُميتُهُمْ في النَّارِ، فيَدْخُلُ عَلَيْهمُ الشُّفَعاءُ، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الضِّبَارة

(3)

فيَبُثُّهمْ-" أوْ قال: " فيُبَثُّونَ - على نَهْرِ الْحَيا -" أوْ قال: "الْحَياةِ" أو قال: "الْحَيَوانِ" أو قال: "نَهْرِ الْجنَّةِ - فَيَنْبُتُونَ نَباتَ الْحِبَّةِ في حَميلِ السَّيْلِ" قال: فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أما تَرَوْنَ الشّجَرَةَ تَكُونُ خَضْراءَ، ثم تَكونُ صَفْرَاءَ"

(1)

كذا في الأصل والمطبوع من المسند، والصواب (أحد بني ليث) لأن أبا الهيثم ليثي، وهو الذي كان في حجر أبي سعيد، وهو كذلك على الصواب في ابن ماجه (4280).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 11) وإسناده حسن.

(3)

الضبارة، مفرد ضبائر، وهم الجماعات في تفرقة.

ص: 409

أوْ قالَ: "تكونُ صَفْرَاءَ، ثمَّ تَكونُ خَضْراءَ" قال: فَقالَ بَعْضُهُمْ: كأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خُلِقَ بالْبَاديةِ

(1)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا إسماعيلُ، حدّثنا سَعيدُ بنُ يَزيدَ، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سَعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أهْلُ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أهْلُهَا، فإنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيها ولا يَحْيَوْنَ، وَلَكنْ أُناسٌ" أوْ كما قال، "تُصيبُهُم النَّارُ بِذُنوبِهمْ" أوْ قالَ:"بِخَطايَاهُمْ، فَيُميتُهُمْ إمَاتَةً، حتَّى إذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ في الشفَاعَةِ، فَجِيءَ بهمْ ضَبَائِرَ ضَبَائرَ فَبثُّوا على أنْهَارِ الْجَنَّةِ، فيُقالُ: يا أهْلَ الْجنَّةِ، أفيضُوا عَلَيْهمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ في حَمِيل السَّيْلِ" فقال رجل من القوم: كانَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية. وهذا إسناد صحيح على شَرْط "الصحيحين"

(2)

، ولم يُخَرجاه منْ هذا الوَجْهِ

(3)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ، حدّثنا عُثْمانُ بنُ غِيَاثٍ، حدّثني أبو نَضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ الخُدْريّ، قال: يُعْرضُ النَّاسُ على جِسْرِ جَهنَّمَ، عَلَيْهِ حَسَكٌ، وكَلالِيبُ، وَخَطَاطيفُ تَخْطَفُ النَّاسَ، قال: فيَمُرُّ النَّاسُ مِثْلَ البَرْقِ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الريحٍ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الفَرَسِ المُجْرَى، وآخَرُونَ يَسْعونَ سَعْيًا، [وآخَرُونَ يَمْشُوْنَ مَشْيًا، وَآخَرُونَ يَحْبُون حَبْوًا] وآخرُونَ يَزْحَفُونَ زَحْفًا، فأمَّا أهْلُ النَّارِ، فلا يَمُوتُونَ، وَلا يَحْيَوْنَ، وأمَّا أُناسٌ فيُؤْخذُونَ بِذُنوبِهِمْ فَيُحْرَقُونَ، فيَكونُونَ فَحْمًا، ثمَّ يَأذَنُ اللهُ في الشَّفَاعَةِ، فَيُؤْخذُونَ ضِبَارَاتٍ، ضِبَاراتٍ، فيُقْذفونَ على نَهْرٍ فيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الْحِبَّةُ في حَميلِ السَّيْلِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هل رأيتم الصَّبْغَاء

(4)

؟ " قال: وعلى النارِ ثَلاثُ شَجَرَاثٍ، فيُخْرَجُ، أوْ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ، فيَكُونُ على شَفَتِها، فيقول: يا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهي عَنْها، قال: فَيَقُولُ الله سبحانه: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لا تَسْألْني غَيْرَها. قال: فَيَرَى شَجَرَةً، فيقولُ: يا رَبِّ أدْنِني منْ هَذِهِ الشجَرَةِ أسْتَظِل بظِلِّها، وَآكُلْ منْ ثمرتِها، قالَ: فيقولُ: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لا تَسْألْني غَيْرَها. قال: فَيَرى شَجَرَة، أُخْرَى أحْسَنَ مِنْهَا، فيقول: يا رَبِّ حَوِّلْني إلى هَذ الشَّجَرَةِ أسْتَظِلَّ بِظِلِّها، وآكُلْ منْ ثَمَرَتِهَا، قال: فيقولُ: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لا تَسْألْني غَيْرَها. قال: فيَرَى الثالِثَةَ، فيقول: يا رَبِّ،

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 5) وإسناده صحيح.

(2)

الحديث على شرط مسلم فقط، لأن أبا نضرة ليس من رجال البخاري.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 11).

(4)

الصبغاء: نبت معروف، شبَّه نبات لحومهم بعد احتراقها بنبات الطاقة من النبت حين تطلع تكون صبغاء، فما يلي الشمس من أعاليها أخضر، وما يلي الظل أبيض.

ص: 410

حَوِّلْني إلى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أسْتَظلَّ بِظِلِّها، وآكُلْ منْ ثَمَرتها. قال: فيقول: وَعَهْدِكَ وذِمَّتِكَ لا تَسْأْلْني غَيْرَها. قال: فَيَرى سَوَادَ النَّاسِ، وَيَسْمَعُ أصْوَاتَهُمْ، فيقولُ: يا رَبِّ، أدْخِلْني الْجَنَّةَ، قال أبو سعيد وَرَجُلٌ آخرُ منْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفَا، فقال أحدُهما: فَيَدْخُلُ الْجنَّةَ ويُعْطى الدُّنْيا، ومِثْلَها، وقال الآخرُ: فيدخل الجنَّة ويُعْطى الدُّنيا وَعَشَرَةَ أمثالها.

وقد رواه النّسائىّ من حديث عُثْمانَ بن غِياث، به، نحوَه

(1)

.

‌رواية أبي هريرة

قال الإمام أحمد: حدّثنا سُليمانُ، يعني ابن داود، أنبأنا إسْماعيلُ، حدّثنا عمرو، عن سَعيد، عن أبي هريرة، قال: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: منْ أسْعدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامةِ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُريَرْةَ ألّا يَسْألَني عنْ هَذَا الْحَديثِ أحدٌ أوَّلَ مِنْكَ، لِمَا رَأيتُ مِنْ حِرْصِكَ على الْحَديثِ، أسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتي يَوْمَ القِيَامةِ، منْ قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، خَالِصَةً منْ قِبَلِ نَفْسِهِ".

هذا إسناد صحيح، على شرطهما

(2)

ولم يُخرّجاه من هذا الوجه

(3)

.

‌طريق أخرى

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا أبو مُعَاويةَ، وَيَعْلى بنُ عُبَيْدٍ، قالا: حدّثنا الأعْمشُ، عن أبي صَالِحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوةً مُسْتَجابةً، فَتَعَجَّلَ كلُّ نَبيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإنِّي اختبأتُ دَعْوَتي - يعني شَفَاعَة لأمَّتي - فَهيَ نَائلَةٌ إنْ شَاءَ اللهُ منْ مَاتَ لا يُشْرِك باللهِ شَيْئًا" قالَ: يَعْلَى: "شفاعته"

(4)

.

ورواه مسلم من حديث أبي مُعاويةَ محمّد بن خازم الضَّريرِ، عن الأعمش [به]

(5)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا هاشم، والخُزاعيّ، يعني أبا سَلَمةَ، قالا: حدّثنا لَيْثٌ، حدّثني يزيدُ بنُ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 25) والنسائي في "الكبرى"(11327) وهو حديث صحيح.

(2)

أقول: سليمان بن داود الهاشمي. ليس من رجال الشيخين، وهو ثقة، فالحديث ليس على شرطهما.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 373).

(4)

في (آ): شفاعة

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 426) ومسلم رقم (199)(338).

ص: 411

أبي حَبيبٍ، عن سالمِ بنِ أبي سَالِم، عن مُعَاويةَ بْنِ مُعتِّب

(1)

الْهُذليِّ، عن أبي هُريرة: أنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَألتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ماذَا رَدَّ إلَيْكَ رَبُّكَ في الشَّفَاعَةِ؟ فقال: "وَالّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أنَّك أوَّلُ منْ يَسْأَلني عَنْ ذَلِكَ منْ أُمَّتي، لِمَا رَأَيْتُ منْ حِرْصِكَ على العِلْمِ، وَالّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا يُهِمُّني من انقصافهم

(2)

على أبوابِ الْجَنَّةِ أهمُّ عِنْدي منْ تَمَامِ شَفَاعَتي، وشَفَاعَتي لِمَنْ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ مُخلصًا يُصدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلسَانُهُ قَلْبَهُ".

تفرد به أحمد من هذا الوجه

(3)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: قرأتُ على عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عن مالك. وحدثنا إسحاق، حدّثنا مالك، عن أبي الزناد، عنِ الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيرة: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"لِكُلّ نَبيٍّ دَعْوةٌ [يَدْعُو بِهَا]، وَأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفَاعَةً لأُمَّتي في الآخِرَةِ" قال إسحاق: "فأرَدْتُ أنْ أخْتَبِئَ

".

وقد رواه البخاري من حديث مالك، به

(4)

.

‌طريق أخرى

قال مسلم: حدّثني حَرْمَلةُ بنُ يَحْيَى، أخبرنا ابْنُ وَهْبٍ، حدّثني يونُس، عن ابن شِهَابٍ، أنَّ عَمْرَو بنَ أبي سُفْيَان بنِ أَسيدٍ

(5)

بنِ جَارِيَة

(6)

الثَّقفيّ، أخبَرَهُ: أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قال لِكَعْب الأحْبَارِ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوةٌ يَدْعُوها، فأنا أُريدُ إنْ شاءَ الله تعالى أنْ أخْتَبئَ دَعْوتي شَفَاعةً لأُمَّتي يَوْمَ القيامةِ" فقال كَعْب لأبي هُرَيْرَةَ: أنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. تفرَّد به مسلم

(7)

.

(1)

في (آ): مغيث.

(2)

في الأصل: انقصامهم وانعصافهم، وقصفة القوم: تدافعهم وازدحامهم.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 307) وهو حديث حسن، دون قوله: "والذي نفس محمد بيده لما يُهمني

من تمام شفاعتي".

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 486) والبخاري رقم (6304).

(5)

في (آ): سفيان بن أبى أسيد، وهو خطأ.

(6)

في الأصول: حارثة.

(7)

رواه مسلم رقم (198)(337).

ص: 412

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا عَبْدُ الرزاق، حدّثنا مَعْمرٌ، عن الزُّهْريّ، أخْبَرَني القَاسمُ بنُ مُحمَّد، قال: اجْتَمعَ أبُو هُرَيْرَةَ، [وكَعْبٌ]، فَجَعلَ أبو هريرة يُحدِّثُ كَعْبًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكَعْبٌ يُحدَثُ أبَا هُرَيْرَةَ عن الكُتُب، قال: فقال أبو هُرَيْرَةَ: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبي دَعْوةٌ مُسْتَجابةٌ، وإني اخْتَبَأتُ دَعْوتي شَفَاعةً [لأمَّتي يَوْمَ القِيَامةِ] ".

انفرد به أحمد، وإسناده صحيح على شرطهما، ولم يُخرّجه أحدٌ من أصحاب الكتُبِ الستّة من هذا الوجه

(1)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا يحيى، عن شُعْبَةَ. ومحمد بن جعفر، حدّثنا شُعْبةُ عن مُحمّد بنِ زياد، عن أبي هريرة، قال غُنْدر في حديثه: قال: سمعت أبا هُريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لِكُلِّ نبيٍّ دَعْوةً دَعا بِها، وإنِّي أُريدُ أن أدَّخِرَ دَعْوتي إنْ شَاءَ اللهُ شَفَاعةً لأُمَّتي يَوْمَ القيامة"، قال ابن جعفر:"في أمتي".

وقد رواه مسلم من حديث شُعْبةَ، به

(2)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا مَعْمرٌ، عن هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، حدّثنا أبو هُرَيْرة، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبي دَعْوة تُسْتجاب لَهُ، فَأُريد إنْ شَاءَ اللهُ أنْ أدَّخِرَ دَعْوتي شَفَاعةً لأُمَّتي يَوْمَ القيَامةِ".

وهذا إسنادٌ صحيح على شرطهما، ولم يُخرّجاه

(3)

.

‌طريق أخرى

قال مسلم: حدّثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعيدٍ، حدّثنا جَريرٌ عنْ عُمَارةَ، وهو ابْنُ الْقَعْقَاع، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "لِكُل نَبيٍّ دَعْوةٌ مُستَجابةٌ يَدْعُو بهَا،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 275).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 430) ومسلم رقم (199)(340).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 313) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20864).

ص: 413

فَيُسْتَجابُ لَهُ، فيُؤْتَاهَا، وإني اخْتَبَأتُ دَعْوتي شَفَاعةً لأمَّتي يَوْم القِيَامةِ". انفرد به مسلم أيضًا

(1)

.

‌طريق أخرى

قال أحمد: حدّثنا إبراهيمُ بن أبي العَبَّاس، حدّثنا أبو أُوَيْسٍ قال: قال الزهريُّ: أخبرني أبو سَلَمة بن عبدِ الرحمن؛ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوةٌ، فأريد إنْ شَاءَ اللهُ أنْ أخْتَبئَ دَعْوَتي لِيَوْمِ القِيَامةِ شَفَاعةَ لأمَّتي".

تفرد به أحمد من هذا الوجه، ورواه عبد الرزّاق عن مَعْمرٍ، عن الزهريّ، وقد رواه البخاريّ من حديث شُعَيْب بن أبي حَمْزةَ، ومسلمٌ من طريق مالك، كِلاهما عن الزهريّ، به

(2)

.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حدّثنا داود الأوْديُّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، [عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم]، في قوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، قال:"هُوَ المَقَامُ المحمود الَّذي أشفعُ لأمَّتي فيهِ".

ورواه الترمذيّ عن أبي كُرَيْبٍ، عن وَكيعٍ، عن داود، وقال: حسن

(3)

.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدّثنا حَجَّاجٌ، حدّثنا ابْنُ جُرَيْج، حدّثني العَلاءُ بن عبد الرحمن بن يَعْقُوبَ، عن ابن دارة مَوْلَى عُثْمانَ، قال: إنَّا بِالْبَقيع مَعَ أبي هُرَيْرَةَ، إذْ سَمِعْناهُ يَقُولُ: أنَا أعْلَمُ [النَّاسِ] بِشَفَاعةِ مُحقَدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ القِيَامَةِ، قال: فَتَداكَّ النَّاسُ

(4)

عَلَيْهِ، فقالوا: إيهِ يَرحَمُكَ اللهُ، قال: يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفرْ لِكُلِّ عَبْدٍ لقيكَ يُؤمنُ بي لا يُشْركُ بِكَ".

تفرّد به أحمد من هذا الوجه

(5)

.

(1)

رواه مسلم رقم (199)(339).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 396) والبخاري رقم (7474) ومسلم (198)(334).

(3)

رواه أحمد في المسند (441/ 2) والترمذي رقم (3137) وهو حديث حسن.

(4)

أي ازدحموا.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 454) وإسناده حسن.

ص: 414

‌رواية أم حبيبة

قال البيهقىّ: حدّثنا أبو زَكَريَّا يَحْيى بنُ إبراهيم المزكي، أخبرنا أبو الحسين

(1)

أحمدُ بنُ عُثْمانَ بن يحيى الأدَمي، حدّثنا عبدُ الكريم بن الهَيْثَم، [عن أبي اليمان]

(2)

، حدّثنا شُعَيْبٌ، عن الزهريّ، عن أنسٍ، عن أمّ حَبيبةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال:"أُريتُ ما تَلْقَى أُمَّتي منْ بَعْدي، وسَفْكَ بَعْضِهمْ دِماءَ بَعْضٍ، فأحْزَنني ذلك، وسَبَقَ ذلكَ منَ اللهِ، كما سَبَقَ في الأُمَم قَبْلَهُمْ، فَسَألتُهُ أنْ يُوَلِّيَني فيهمْ شَفَاعةً، فَفَعل" قال البيهقيّ: هذا إسنادٌ صحيح.

‌ذِكْر شفاعة المؤمنين لأهاليهم

قد تقدَّم حديث عُثْمانَ بن عفان رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أوَّلُ منْ يَشْفعُ يَوْمَ القِيَامةِ الأنْبياءُ، ثمَّ الشُهَداءُ، ثمَّ المُؤْمنُونَ". رواه البزّار، وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ:"يَشْفعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثَلاثةٌ: الأنْبياءُ، ثمَّ العُلَماءُ، ثمَّ الشُّهَداءُ"

(3)

.

فأمَّا ما أوردَهُ القُرْطبيُّ في "التذْكِرَةِ"، منْ طَريق أبي عَمْرو السَّمَّاك: حدّثنا يحيى بنُ جَعْفرِ بنِ الزِّبْرِقَانِ، قالَ: حدّثنا علىُّ بنُ عاصم، حدّثنا خالدٌ الحذاءُ، عن سَلَمة بنِ كُهَيْلٍ، عن أبيه، عن أبي الزَّعْراءَ، قال ابنُ مسعود: يَشْفعُ نبيُّكمْ صلى الله عليه وسلم رَابعَ أرْبَعةٍ: جِبْريلُ، ثمَّ إبراهيمُ، ثم مُوسى، أو عيسى

(4)

، ثمَّ نَبيُّكم، ثمَّ المَلائِكةُ، ثمَّ الصِّدِّيقُونَ، ثمَّ الشُّهَداءُ. وقد رواه أبو داود الطَّيالسيُ، عن يحيى بنِ سَلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ، عن أبيه، به، وزاد أبو داود في روايته: لا يَشْفعُ أحدٌ بعده أكْثَرَ منْه، وهو المَقامُ المَحْمُودُ الّذي قال اللهُ تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]؛ فإنه حديثٌ غريبٌ جدًا، ويحى بنُ سَلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ ضَعيفٌ

(5)

.

وفي الصحيح من طريق عَطاءِ بْنِ يَسَارٍ، عن أبي سَعيدٍ مَرْفوعًا: "إذا خَلَص المُؤْمنُونَ منَ الصِّراطِ وَرَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فمَا أنْتُمْ بأشَدّ مُنَاشَدةً في الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبيَّنَ مِنْهُمْ لِرَبِّهمْ عز وجل في إخْوَانِهِمِ الّذين في النَّارِ، فيقولُونَ: رَبَّنا إخْوانُنَا كانُوا يُصَلُّونَ مَعَنا، ويصومون معنا، ويَحُجُّونَ مَعَنا، وَيَغْزونَ

(1)

في (آ): أبو الحسن، وهو خطأ.

(2)

زيادة يقتضيها السياق، فقد أخرجه من طريقه ابن أبي عاصم في السنة رقم (800) والحاكم (1/ 68) وغيرهما.

(3)

رواه البزار رقم (3471 - كشف الأستار) وابن ماجه رقم (4313) وفي سنده عنبسة بن عبد الرحمن. قال أبو حاتم: كان يضع الحديث.

(4)

في (آ): وموسى وعيسى.

(5)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (389).

ص: 415

مَعَنا، فيُقالُ [لهم]: اذْهبُوا فمنْ وَجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينارٍ منْ إيمانٍ فَأخْرِجُوهُ منَ النَّارِ، ثمَّ يَقُولُ:[نِصفَ دينار]، ثُمَّ يَقُولُ: مِثْقالَ ذَرَّةٍ منْ إيمانٍ فَأخْرِجُوهُ منَ النَّار" قالَ أبو سَعيدٍ: اقْرَؤوا إنْ شِئتُمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، قال: "فيقولُ الله تعالى: شَفَعَتِ المَلائكةُ، وَشَفَع النَّبيُّونَ، وَشَفعَ المُؤْمنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أرْحَمُ الرَّاحمينَ، فَيَقْبضُ قَبْضةً منَ النَّارِ فيُخْرِجُ منْها قَوْمًا لمْ يَعْملُوا خيْرًا قطُّ، قدْ عادُوا حُممًا، فَيُلْقيهمْ في نَهْرٍ في أفْواهِ الجنَةِ، يُقالُ لهُ: نَهْرُ الْحَيَاةِ، فيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الْحِبَّة في حَميل السَّيْلِ، فيَخْرُجُونَ كاللُّؤلُؤِ في رِقَابِهمُ الْخَوَاتيمُ يَعْرِفُهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ. فيقولون: هَؤُلاءِ عُتقاءُ اللهِ أدْخَلَهُمُ الله الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَملٍ عَمِلُوه، ولا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجنَّةَ، فمَا رَأيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فيَقُولُونَ: رَبَّنا أعْطَيْتَنا مَا لَمْ تعْطِ أحْدًا منَ العَالَمينَ، فيقال لهم: عِنْدي لكم أفْضلُ منْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: رَبَّنا أيُّ شَيء أفْضلُ منْ هَذَا؟ فيقُولُ: رِضايَ فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبدًا"

(1)

.

وفي حديث إسماعيلَ بن رَافِعٍ، [عن محمد بن يزيد بن أبي زياد]، عنْ مُحمّد بن كَعْبٍ، عن رَجُلٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد ذكر دُخولِ أهْلِ الْجنَّةِ الجَنَّةَ: فأقول: يا رَبِّ شَفِّعْني في منْ وَقَعَ في النَّارِ منْ أُمَّتي، فيقول: نَعَمْ، أخْرِجُوا منَ النَّارِ منْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ دينار

(2)

منْ إيمانٍ، منْ كان في قَلْبهِ ثُلُثا دِينارٍ، نِصفُ دينارٍ، ثلثُ دينار، رُبُعُ دينارٍ، حتَّى بَلَغَ قِيراطَيْنِ، أخْرِجُوا منْ لَمْ يَعْملْ خَيْرًا قطُّ" قال:"ثُمَّ يُؤْذَنُ في الشَّفَاعةِ، فَلا يَبْقَى أحد إلَّا شَفَعَ، إلّا اللعَّان فإنّهُ لا يَشْفعُ، حتَّى إنَّ إبْليسَ لَيَتطاولُ يَوْمئذٍ في النّارِ رَجَاءَ أن يُشفَعَ لهُ ممَّا يَرَى منْ رَحْمةِ اللهِ تعالى، حتَّى إذا لَمْ يَبْقَ أحدٌ إلَّا شَفَعَ" قال: "فيقول الله تعالى: بَقِيتُ أنا وأنَا أرْحمُ الرَّاحمينَ، فيُخْرجُ منْهَا ما لا يُحْصي عِدَّتَهُمْ غَيْرهُ سبحانه، كأنَهُمُ الْخُشُبُ الْمُحْتَرِقَةُ، فَيُطْرحُونَ على شَطِّ نَهْر على بَابِ الْجَنَّةِ، يُقالُ لَهُ: الْحَيْوان، فَيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيْلِ". رواه ابن أبي الدنيا

(3)

.

وقد قال الحافظُ أبو يَعْلى الموصلي: حدّثنا العبَّاسُ بنُ الوَليد النَّرْسي، حدّثنا يُوسفُ بنُ خَالِدٍ هوَ السَّمتي

(4)

، عنِ الأعْمشِ، عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُعْرضُ أهْلُ النَّارِ صُفُوفًا فيَمُرُّ بهمُ المُؤْمنُونَ، فَيَرى الرَّجُلُ منْ أهْلِ النَّارِ الرَّجُلَ منَ الْمُؤْمنينَ قَدْ عَرَفهُ في الدُّنْيا

(5)

فيَقُولُ: يا فُلانُ، أمَا تَذْكُرُ يَوْمَ استسقيتني فسقيتك، ويقول الآخر لآخر: يا فلان أما تذكر يوم اسْتَعنتني على حَاجةِ كذا وكذا

(1)

رواه البخاري رقم (7439) ومسلم (183)(302) كلاهما بنحوه، وأحمد في المسند (3/ 94).

(2)

في (آ): ذرة.

(3)

وإسناده ضعيف، وهو قطعة من حديث الصور المتقدم.

(4)

في (آ): السمين.

(5)

في (آ): فيرى الرجل من أهل النار من أهل الجنة من المؤمنين قد كان يعرفه في الدنيا.

ص: 416

فأعنتك، ويقول الآخر: يا فلان، أمَا تَذْكُرُ يَوْمَ أعْطَيْتُكَ" قالَ: أُراهُ قال: "كذا وكذا، فيَذْكُرُ ذلِكَ المُؤْمنُ، [فيَعْرِفُه]، فيَشْفَعُ لهُ إلى رَبِّهِ، فَيُشفِّعهُ فيهِ". وفي إسناده ضعف

(1)

.

‌طريق أخرى عن أنس

قال ابنُ ماجه: حدّثنا محمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن نُمَيرٍ، وعليُّ بنُ محمّد، قالا: حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن يزيد الرَّقَاشيِّ، عن أنس بنِ مالِكٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُصَفُّ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامةِ صُفُوفًا وقال ابنُ نُمَيْرٍ: "أهْلُ الْجنَّةِ وأهل النار، فَيَمُرُّ الرَّجُلُ منْ أهْلِ النَّارِ على الرَّجُلِ من أهل الجنة، فيَقُولُ: يا فُلانُ، أما تذكر يوم ناولتك طهورًا، "فيشفع [له]. ويمر الرجل على الرجل فيقول: أمَا تَذْكُرُ يَوْمَ اسْتَسْقَيْتني فَسَقَيْتُكَ شَرْبَةً؟ " قال: "فيَشْفَعُ لَهُ. وَيَمرُّ الرَّجُلُ على الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يا فُلان، أما تَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتني لحاجة كذا وكذا؟ فَذَهَبْتُ لَكَ؟ فيَشْفعُ له".

ورواه الطحاوي بلفظٍ آخرَ قريبٍ منْ هذا المعنى

(2)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدَّثني علىُّ بنُ عَبْدِ اللهِ بن موسى، حدّثنا حَفْصُ بنُ عُمر، حدّثنا حمَّادُ بنُ سَلَمةَ، عن ثابتٍ، عن الْحَسنِ، قال: قال رسوِل الله صلى الله عليه وسلم: "يقولُ الرَّجُلُ منْ أهْلِ الْجنَّةِ يَوْمَ القِيَامةِ: يا رَبِّ إنَّ فُلانًا سَقَاني شَرْبةً منْ ماءً في الدُّنيا، فشَفِّعْني فيهِ، فيقُولُ اللهُ: اذْهَبْ، فَأخْرِجْهُ منَ النَّارِ، فَيَذْهبُ فَيَتحَسَّسُ عليه في النَّارِ حتَّى يُخْرِجَهُ منْهَا". وهذا مُرْسلٌ من مراسيل الْحَسَنِ الحِسَانِ.

‌ومن الأحاديث الواردة في شفاعة المؤمنين لأهاليهم

وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عنْ زَبُورِ دَاوُدَ عليه السلام أن فيه مَكْتُوبًا: يَقولُ اللهُ: إنَّ عبادي الزَّاهدينَ أقُولُ لهمْ يوم القيامة: إنِّي لم أزْوِ عَنْكُمُ الدُّنْيا لِهَوانِكُمْ عَليَّ، ولا لِعزَّة الدنيا عندي، ولَكنْ أرَدْتُ ذلك بكم لتَسْتَوفُوا نَصيبَكُم اليوم مَوْفُورًا كاملًا عندي، لم تَكْلِمه الدنيا، ولم تشعثه الشهوات، فَتَخَلَّلُوا الصُّفُوفَ، فمنْ أحْبَبْتُمُوهُ في الدُّنْيا أوْ قَضَى لَكُمْ حَاجةً، أوْ رَدَّ عَنْكُمْ غِيبةً، أو كساكم خِرْقَةً، أوْ أطْعَمَكُمْ لُقمة، أو سقاكم شربة ابْتِغاءَ وَجْهي، وطَلَب مَرْضَاتي، فَخُذُوا بِيَده، وأدْخِلُوهُ الْجنّةَ.

وروى الترمذيُّ، وَالبَيْهقيُّ من طَريقِ مَالِكِ بنِ مِغْوَلٍ، عنْ عَطيّة، عنِ أبي سَعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن منْ أُمَّتي رِجَالًا يَشْفعُ الرَّجُلُ منْهُمْ في الفِئَامِ منَ النَّاسِ، فيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعتِهِ،

(1)

رواه أبو يعلى في "مسنده" رقم (4006) أقول: وفي سنده يوسف بن خالد السمتي؛ تركوه، وكذبه ابن معين.

(2)

رواه ابن ماجه رقم (3685) وإسناده ضعيف.

ص: 417

وَيَشْفَعُ الرَّجُلُ لِلْقَبيلَةِ، فَيَدْخلُونَ الْجَنَّة بِشَفَاعَتِهِ، ويشفعُ الرَّجُلُ منهم للرجُلِ وَأهْلِهِ، فيَدْخُلونَ الْجنَّةَ بشفاعته"

(1)

.

وروى البزّار بسنده، عن أنس بن مالك، مرفوعًا:"إنَّ الرَّجُلَ لَيَشفَعُ للرَّجُلَيْنِ والثَّلاثة"

(2)

.

وله من حديث سُفيانَ الثوريّ، عن آدم بن عليّ، عن ابن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُقالُ للرَّجُل: قم يا فُلانُ فاشْفَعْ، فيقومُ الرجل فَيَشْفَعُ للقَبيلَةِ، وَلأهْلِ البَيْتِ، وللرَّجُلِ، وللرَّجُلَيْنِ، على قَدْرِ عَمَلِهِ"

(3)

.

ومن حديث الحسين بن واقد، عن أبي غالب: أنَّ أبا أُمَامَةَ حَدَّثَهُ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ منْ أُمَّتي أكْثَرُ منْ عَدَد مُضَرَ، وَيَشْفَعُ الرَّجُلُ في أهْلِ بَيْتِهِ، وَيَشْفعُ على قَدْرِ عَمَلِهِ"

(4)

.

ورَوى البيهقي عن الحاكم، عن الأصمِّ، عن الحسن بن مُكْرَم، عن يَزيد بن هَارُونَ: أنبأنا حَريز

(5)

، عن عبد الرحمن، أو عبد الله بن مَيْسَرة، عن أبي أُمَامَةَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ من أمتي لَيْسَ بِنَبيٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ، أو مثل أحَدِ الحيَّيْنِ: رَبيعةَ، وَمُضَرَ" فقال رَجُل: يا رَسُولَ الله، أوما رَبيعَةُ منْ مُضَر

(6)

؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أقولُ ما أُقَوَّلُ"

(7)

.

وقال الإمامُ أحْمَدُ: حدّثنا إسماعيلُ بن إبراهيم، حدّثنا خَالِدٌ الحَذَّاء، عن عبد الله بن شَقيقٍ، قال: جَلَسْتُ إلى رَهْطٍ أنا رَابعُهُمْ بإيلياءَ، فقال أحدهم: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَدْخُلَنَّ الْجنَّةَ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ منْ أُمَّتي أكْثَرُ منْ بَني تَميمٍ" قُلْنَا: سِوَاكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: "سواي" قلتُ: أنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قال: نعم. فلمَّا قام، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالوا: ابنُ أبي الجَدْعَاء

(8)

.

ثم رواه أحمد عن غنْدَر، عن شُعْبَةَ، وعن عَفانَ، عن وُهَيْبٍ، كلاهما عن خالد الْحَذاءِ، به نحوه

(9)

.

(1)

رواه الترمذي رقم (2440) من طريق زكريا بن أبي زائدة. لا من طريق مالك بن مغول، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البزار (3473 - كشف الأستار) وهو حديث صحيح.

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 105).

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير (8059).

(5)

في الأصول: جرير، وهو خطأ.

(6)

في الأصل: وما ربيعة ومضر؟ وربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان، وليس أحدهما من الآخر.

(7)

أخرجه أحمد (5/ 257) عن يزيد بن هارون به، وهو حديث حسن بشواهده، دون قوله:"يا رسول الله أوما ربيعة من مضر" فهي شاذة.

(8)

ضبطها الحافظ ابن حجر في "التقريب" بالذال المعجمة، لكن صنيعه في "الإصابة" يدل أنه بالدال المهملة، وكذا قيدها ابن الأثير في جامع الأصول في الأسماء والكنى بالمهملة.

(9)

رواه أحمد في مسنده (3/ 469 - 470) و (5/ 366) و (3/ 470) وأخرجه الترمذي رقم (2438) من طريق =

ص: 418

ورواه أبو عمرو بن السَّمَاك، عن يحيى بن جعفر، عن شَبَابَةَ، عن حريز بن عُثمان، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة

(1)

، وحَبِيب بن عُبَيد

(2)

الرَّحَبيِّ، عن أبي أُمَامَةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ منْ أُمَّتي الْجَنَّةَ مِثْلُ أحَدِ الحَيَّيْنِ رَبيعَةَ وَمُضَرَ" قيل: يا رسول الله، وما رَبيعَةُ ومُضَر؟ قال:"إنَّما أقُولُ ما أُقَوَّلُ" قال: فَكانَ المَشْيَخَةُ يَرَوْنَ أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ رضي الله عنه

(3)

.

وقال محمد بن يُوسف الفِرْيابيُّ: حدّثنا سُفيانُ الثّوْريّ، عن خالدٍ الْحَذَّاءَ، عن عبد الله بن شَقيق العُقَيْليّ

(4)

، قال: جَلَسْتُ إلى نَفَير مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن أبي الجدعاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"ليَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ منْ أُمَّتي أكْثَرُ منْ بَني تَميمٍ" قالوا: سِواكَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "سِوَايَ"، قال الفِرْيَابي: يقال: إنه عُثْمان بنُ عَفّان، رضي الله عنه. ورواه البيهقيّ، والترمذيّ، وابن ماجه، وغيرهم، من طرق متعدّدة، عن خالد الحَذّاءِ، به. وقال الترمذيّ: حسن صحيح، وليس لابن أبي الْجَدْعاءِ حديثٌ سِواه

(5)

.

وله من حديث أبي مُعاوية، عن داود بن أبي هِنْد، عن عبد الله بن قَيْسٍ الأسَديّ، عن الحارث ابن أُقَيْشٍ

(6)

، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أُمَّتي من يَدْخُلُ الْجنَّةَ بِشَفَاعَتِهِ أكْثَرُ منْ مُضَرَ، وَإنَّ مِنْ أُمَّتي لمَنْ سَيَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَكُونَ أحدَ زَوَايَاهَا". وكذا رواه أحمد وابن ماجه، من غير وَجْهٍ عن داودَ بن أبي هِنْدِ، وفي لفظٍ لأحْمَد:"إنَّ منْ أُمَّتي لَمَنْ يَشْفعُ لأكْثَرَ منْ رَبيعَةَ ومُضَر، وَإنَّ منْ أُمَّتي لَمَنْ يَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى [يَكُون] رُكْنًا منْ أرْكَانِها"

(7)

.

وروى البيهقي من حديث أبي بكر بن عيَّاش، عن هشام، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخُلُ بِشَفَاعةِ رَجُلٍ منْ أُمَّتي الجنَّة أكْثَرُ مِنْ رَبيعَةَ وَمُضَر" قال هشام: أخْبَرَني حَوْشَبٌ، عن الحَسَن: أنّهُ أُوَيْسٌ القَرَنيُّ، قالَ أبو بَكْرِ بنُ عَيَّاش: قلتُ لِرَجُل منْ قَوْمِهِ: أُويْسٌ بأيِّ شَيْءٍ بلغ

= إسماعيل، وهو حديث صحيح.

(1)

في (آ): عبد الله بن ميسرة، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

في الأصول: عدي.

(3)

وهو حديث حسن.

(4)

في (آ): العتكي، وهو خطأ.

(5)

رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 378) والترمذي (2438) وابن ماجه (4316) وهو حديث صحيح.

(6)

في (آ): قيس، وفي الفاسية: أقيس، وهو خطأ.

(7)

رواه الحاكم (1/ 71) من طريق أبي معاذ، وأحمد في المسند (5/ 312 - 313) و (4/ 212) وابن ماجه (4323) وهو حديث صحيح.

ص: 419

هَذَا؟ قال: فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عَفَّان، حدّثنا سَعِيدُ بنُ زَيْد، حدّثنا أبو سليمان العَصَري

(2)

، حدّثني عُقْبةُ بنُ صُهْبان، سَمِعْتُ أبَا بَكْرَة، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْملُ

(3)

النَّاسُ على الصِّراطِ يَوْمَ القِيَامةِ فتَتقَادَعُ

(4)

بهم جَنَبتا الصِّراطِ، تقادُعَ الفَراشِ في النّار، فيُنَجِّي اللهُ تبارك وتعالى بِرَحْمَتِهِ منْ يَشاءُ ثم يُؤْذَنُ للملائِكَة، وَالنَّبيِّينَ، وَالشُّهَدَاءِ، أنْ يَشْفَعُوا، فَيَشْفَعُونَ، وَيُخْرِجُونَ، وَيَشْفَعون، وُيخْرِجُونَ، وَيَشْفعُون ويُخرجون-" زَادَ عَفانُ مَرَّةً فقال:"وَيَشْفَعُونَ وَيُخْرجُونَ- منْ كانَ في قَلْبِهِ ما يَزنُ ذَرَّةً منْ إيمانٍ"

(5)

.

وقال البيهقيّ: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدّثنا أبو العبَّاس، محمد بن يعقوب، حدّثنا الخضر بن أبان، حدّثنا سَيَّارٌ، حدّثنا جعْفر، يعني ابن سُلَيْمانَ، حدّثنا أبو ظِلال، حدثنا أنَسُ بنُ مالكٍ، حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "سَلَكَ رَجلانِ مَفَازةً، أحَدُهُما عَابدٌ، وَالآخَرُ بِهِ رَهَقٌ

(6)

، ومع الذي به رهق إداوة فيها ماءٌ، وليس مع العابد ماءٌ، فعَطِشَ العَابدُ، فقال: أيْ فُلانُ، اسْقِني فهو ذا أموت، فقال: إنّما مَعِي إدَاوةٌ وَنَحْنُ في مَفَازَةٍ، فإنْ سَقَيْتُكَ هَلَكْتُ، فَسَلَكا، ثُمَّ إنَّ العَابدَ اشتد به العطش، فقال: أيْ فُلانُ اسقني فهو ذا أموت، فقال: إنما معي إداوة ونحن في مفازة، فإن سقيتك هلكت، فسلكا، ثم إن العابد سقط، فقال: أي فلان اسقني، فهو ذا أموت، قال الذي به رَهَقٌ: وَالله إنَّ هَذَا العَبْدَ الصَّالِحَ يَمُوتُ ضَياعًا إن تركته ولم أسقه، لا تُبلَّني عِنْد اللهِ بَالَّة أبدًا، فرشَّ عَلَيْهِ منَ المَاءَ وسَقَاهُ ثمَّ سَلَكا إلى المَفَازةِ، فَقَطعاها" قال:"فَيُوقفَان لِلْحِسَابِ يَوْمَ القِيَامةِ، فَيُؤْمرُ بالعَابدِ إلى الجنَّةِ، وَيُؤْمرُ بالّذي بهِ رَهَق إلى النارِ" قال: "فَيَعْرفُ الَّذِي بهِ رَهَقٌ الْعَابِدَ، ولا يَعْرِفُ العَابِدُ الذِي بهِ رَهَقٌ، فيناديه: أيْ فُلانُ، أنَا الَّذي آثَرْتُك على نَفْسي يَوْمَ المَفَازَةِ، وَقَدْ أُمِرَ بي إلى النَّارِ، فَاشْفَعْ لي إلى رَبِّكَ، فَيَقُولُ العابد: أيْ رَبِّ، إنهُ قَدْ آثرني على نَفْسِهِ، أيْ رَبِّ هَبْهُ ليَ الْيَوْمَ، فَيَهبُه لَهُ، فيَأْخُذُ بِيَدِهِ فينْطلقُ بهِ إلى الجنَّةِ" زاد فيه: فيَقُولُ: يا فلان، ما أشدَّ ما غيَّرتْك نِعْمةُ رَبِّي عز وجل". ثم قال البيهقى: وهذا الإسنادُ وإنْ كانَ غَيْرَ قَويٍّ فَلَهُ شَاهدٌ منْ حَديث أنس بن مالك: حدّثنا أبو سعد

(7)

الزاهد، إمْلاءً، حدّثنا أبو الحسن محمّد بنُ

(1)

رواه الحاكم في المستدرك (3/ 405) من طريق ابن عياش، به، مرسلًا، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

في (آ): القصري، وهو خطأ.

(3)

في الأصول: يحصل، والمثبت من المسند.

(4)

أي تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 43) وإسناده حسن.

(6)

الرهق، يطلق على السفه وغشيان المحارم.

(7)

في (آ): أبو سعيد وهو خطأ.

ص: 420

الحَسنِ بن الحُسَيْن بن منصور، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجيّ، حدّثنا محمد بن أبي بكر المُقَدّمِيّ، حدّثنا عليّ بن أبي سَارَةَ، عن ثَابتٍ البُنَانيِّ، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ رَجُلًا منْ أهْلِ الْجنَّةِ يُشْرفُ يَوْمَ القِيامةِ على النّارِ، فَيُناديهِ رَجلٌ منْ أهْلِ النار، فيقول: يا فلان، هل تعرفني؟ فيقول: لا، والله ما أعرفك، منْ أنْتَ؟ فيقول: أنا الذي مَرَرْتَ بي في الدُّنيا فاسْتَسْقَيْتَني شَرْبةً منْ مَاءً فَسَقَيْتُكَ، قال: قَدْ عَرَفْتُ، قال: فاشْفَعْ لي بهَا عِنْدَ رَبِّكَ" قال: "فَيَسْألُ اللهَ عز وجل، فَيَقُولُ: يا رب إنِّي أشْرَفْتُ على النَّارِ فَنَادَاني رَجُلٌ منْ أهْلِها، فقال: هَلْ تَعْرفُني؟ قُلْتُ: لا والله، ما أعرفك، منْ أنْتَ؟ قال: أنا الّذي مَرَرْتَ بي في الدُّنيا فاسْتَسْقَيْتني شَرْبةً منْ ماء، فَسَقَيْتُكَ فاشْفَعْ لي عِنْدَ ربِّكَ، فَشَفِّعْني فيه، فَيُشَفِّعه اللهُ، فَيَأمُرُ اللهُ بهِ فيُخْرجُ منَ النَّارِ"

(1)

.

أنبأنا أبو طالب طاهرٌ الفقيه، أنبأنا أبو عبد الله الصفّار الأصْبَهَانيّ، حدّثنا أبو قَبيصَةَ، محمّد بن عبد الرحمن بن عُمارَة بن القَعْقَاعِ الضَّبِّيُّ الأصْبَهانيُّ البَغْدَاديّ، حدّثنا أحمدُ بن عِمْرَان الأخنسيُّ، سمعتُ أبا بكر بن عيَّاشٍ [جار ابن هارون يُحدِّثُ]، عن سُلَيْمانَ التَّيْميِّ

(2)

، عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْمعُ اللهُ أهْلَ الْجَنَّةِ صُفُوفًا، وَأهْلَ النارِ صُفُوفًا، فيَنْظُرُ الرَّجُلُ منْ صفُوفِ أهْلِ النَّارِ إلى رَجُلٍ منْ صُفُوفِ أهْلِ الْجنّةِ، فيَقُولُ: يا فُلانُ، مَا تَذكُرُ يَوْمَ اصْطَنَعْتُ إليْكَ في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا؟ فيَقُولُ: يا رَبِّ إن هَذَا اصْطَنَعَ إليَّ في الدُّنْيا مَعْرُوفًا، فيُقالُ: خُذْ بِيَدِهِ، وَأدْخِلْهُ الْجنّةَ" قال أنس: أشْهدُ لسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ. قال: وكذا رواه السَّمعاني، عن أحمد بن عِمْران، والله أعلم

(3)

.

‌حديث فيه شفاعة الأعمال لصاحبها عند الله يوم القيامة

قال عبدُ الله بن المبارك: حدّثنا رِشدِينُ بنُ سَعْد، عن حُيَىّ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ، عن عبد الله بن عمرو، قال:"إنَّ الصِّيامَ والقُرآن لَيَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ" قال: "يقول الصِّيامُ: رَبِّ مَنَعْتُهُ الطعامَ، وَالشرابَ، وَالشَهَوَاتِ بالنَّهَارِ، فَشَفِّعْني [فِيه]، ويَقُولُ القرآن: مَنَعْتُهُ النّوْمَ باللّيْلِ فَشَفِّعْني فيهِ"

(4)

.

(1)

ورواه أبو يعلى في مسنده (4212) من طريق جعفر، به، و (3490) من طريق ابن أبي سارة، وهو متروك.

(2)

في الأصول: يحدث صالحًا خازن (بياض) عن سليمان، والتصحيح من "تاريخ بغداد"(4/ 332).

(3)

رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه"(4/ 332) وإسناده ضعيف.

(4)

وإسناده ضعيف. ولكن أخرجه أحمد في مسنده مرفوعًا (2/ 174) والطبراني في الكبير (13/ 88) والحاكم (1/ 554) وهو حديث صحيح.

ص: 421

ورَوى نُعَيْمُ بنُ حمَّاد، عن إبراهيم بن الحَكم بن أبان، عن أبيه، عن أبي قِلابةَ، قال: كان ابنُ أخي يَتَعاطَى الشَّرابَ، فمَرِضَ، فبَعَثَ إليَّ ليْلًا أنِ الْحَقْ بي، فأتَيْتُهُ، فَرَأيْتُ أسْوَدَيْنِ قَدْ دنوا مِنْهُ، فقلتُ: إنَّا للهِ وإنا إليه راجعون، هَلَكَ ابنُ أخي، فاطَّلَع أبْيَضانِ مِن الكُوَّةِ الّتي في البَيْتِ، فقال أحَدُهُما لِصَاحِبِهِ: انْزِلْ إلَيْهِ، فلَمَّا نَزَلَ تَنَحَّى عَنْهُ الأسْوَدَانِ، فَشَمَّ فَاهُ، فقال: ما أرى فيه ذِكْرًا، ثمَّ شَمَّ بَطْنهُ، فقال: ما أرى فيه صيامًا، ثُمَّ شَمَّ رِجْلَيْهِ فقال: ما أرى فيهما صَلاةً، فقال له صاحبه: إنَّا للهِ وَإنَّا إليْهِ رَاجعُونَ، رَجُلٌ منْ أُمَّةِ مُحمِّدٍ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَهُ منَ الْخَيْرِ شَيْءٌ؟ وَيْحَكَ، عُدْ فَانْظُرْ، فَعادَ فنظر فلَمْ يَجِدْ شَيْئًا. فنزلَ الآخَرُ، فشَمَّ، فلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ، فإذَا في طَرَفِ لِسَانِه تَكْبيرةٌ في سَبيلِ اللهِ، قَالَها ابْتَغاءَ وَجْهِ اللهِ بأنْطاكيةَ، فَقَبضُوا رُوحَهُ، فَشَمُّوا في البَيْتِ رَائحَة المِسْكِ، وَشَهدَ الناسُ جَنازَتُهُ. حديثٌ غريبٌ جدًّا.

قال العلاّمة أبو [عبد الله] محمد القُرْطبيّ في "التذْكِرَة": وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمّد الخُتَّلىّ في كتاب "الدِّيباج"، له: حدّثنا أحمد بن أبي الحارث، حدّثنا عبد المجيد بن أبي روَّاد، عن معمر بن راشد، عن الْحكم بن أبانٍ، عن عِكرَمَةَ، عن ابن عبَّاس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ اللهُ منَ القضاء بَينَ خَلْقِهِ، أخْرَجَ كِتابًا منْ تَحْتِ العَرشِ: إن رَحْمتي سَبَقتْ غَضَبي، وأنا أرْحمُ الرَّاحِمينَ" قال: "فيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مثلَ أهْلِ الْجنَّة -" أو [قال]: "مِثْلي أهْلِ الْجَنَّة" قال: وأكثر ظنِّي أنَّهُ قال: "مِثْلَ أهل الْجنَّة - مكتوب بَيْنَ أعْيُنِهِمْ: عُتَقَاءُ اللهِ"

(1)

.

وروى الترمذيُّ، عن أنس، مرفوعًا:"يقول الله تعالى: أخْرِجُوا منَ النَّارِ منْ ذَكَرَني يَوْمًا، أوْ خَافَني في مَقامٍ" وقال: حسن غريب

(2)

.

وله عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهمَا، فقال الرَّبُّ تَعالَى: أخْرِجُوهما، فلمَّا أُخْرِجَا قالَ لَهُمَا: لأيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا؟ فقالا: فَعَلْنا ذَلِكَ لِتَرْحمَنا، قالَ: إنَّ رَحْمَتي لَكُمَا أنْ تَنْطَلِقَا، فَتُلْقِيَا أنْفُسَكُما حَيْثُ كُنْتُما مِنَ النَّارِ، فيَنْطَلِقَانِ فَيُلْقي أحَدُهُما نَفْسَهُ فَيَجْعَلُها عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلامًا، وَيقُومُ الآخَرُ، فَلا يُلْقي نَفْسَهُ، فيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالى: مامَنَعكَ اْنْ تُلْقيَ بِنَفْسِكَ، كما ألْقَى صَاحِبُكَ؟ فيقول: رَبِّ إنِّي لأرْجُو ألّا تُعيدني فيهَا بَعْدَ ما أخْرَجْتني منها، فيقُولُ الرّب: لَكَ رَجاؤُكَ، فيَدْخُلانِ الْجنَّةَ جَميعًا برحْمَةِ اللهِ"

(3)

.

(1)

وفي إسناده ضعف.

(2)

رواه الترمذي رقم (2594) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه الترمذي رقم (2599)، وهو ضعيف أقول: يغتفر رواية الحديث في فضائل الأعمال عند البعض بشروط، كما قال الحافظ ابن حجر:

1 -

ألّا يشتد ضعفه.

2 -

أن يندرج تحت أصل معمول به.

3 -

ألّا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.

ص: 422

في إسناده ضَعْفٌ لِحَال رِشْدينَ بْنِ سَعْدٍ، عن ابنِ أنْعُم، وَهُمَا ضَعيفَانِ، وَلكنْ يُغْتَفرُ رِوَايةُ هَذَا في هَذَا الْبَابِ لأنه مِنَ التَّرْغيبِ وَالتّرْهِيبِ، واللهُ أعْلَمُ.

وقال عبدُ الله بن المبارك: حدّثنا رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ، حدّثنا أبو هانئٍ الْخَوْلانيُّ، عن عَمْرٍو بن مَالِكِ الجَنْبيِّ: أنَّ فضالةَ بن عبيد، وعُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ حَدَّثَاهُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا كانَ يَوْمُ القِيَامةِ، وَفرَغَ اللهُ منْ قَضَاءِ الْخَلْقِ فيَبْقَى رَجُلان، فيُؤْمَرُ بِهمَا إلى النّارِ، فيَلْتَفِتُ أحَدُهُما، فيقُولُ الْجَبَّارُ: رُدُّوهُ، فيَرُدُّونَهُ، فيقُولُ له: لِمَ الْتَفَتَّ؟ فيَقُولُ: كُنْتُ أرْجُو أنْ تُدْخِلَني الجَنَّةَ، فيُؤْمَرُ بهِ إلى الْجَنَّةِ، فيَقُولُ: لَقَدْ أعْطَاني رَبِّي حتَّى لوْ أنّي أطْعَمْتُ أهْلَ الْجَنّةِ مَا نَقَصَ ذَلِكَ ممَّا عِنْدي شَيْئًا" وَكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَرَهُ يُرَى السُّرُورُ في وَجْهِهِ

(1)

.

‌فصل في أصحاب الأعراف

قال الله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

} الآيات [الأعراف: 46 - 47] قال ابن عباس وغيره: الأعْرافُ: سورٌ بين الجَنّةِ وَالنَارِ وعليه رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار. وقال الشعبيّ، عن صِلَة بن زُفَر، عن حُذَيفَةَ، قال: أصْحَابُ الأعْرَافِ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهمْ حَسَناتُهُمْ عن دخول النار، وَقصُرَتْ بهمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الجَنّةِ {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فبَيْنما هُمْ كَذَلك، إذْ طَلَعَ عَلَيْهمْ رَبُّكَ عز وجل، فقال: قومُوا فادْخُلُوا الجَنَّةَ، فإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". رواه البيهقيّ

(2)

من وجه آخر عن الشعبيّ، عن حُذيفةَ مرفوعًا، وفيه نظر.

وقال سُفْيانُ الثّوْريّ، عن حَبيبِ بن أبي ثَابتٍ، [عن مجاهد]، عن عبد الله بن الحارث بن نَوْفَل، قال: أصْحابُ الأعْرَافِ رِجَالٌ تَسْتَوِي حَسَناتُهُمْ، وسَيّئاتُهُمْ، فَيُذْهبُ بهمْ إلى نَهْرٍ يُقالُ لَهُ: الْحَيَاةُ، تُرْبتُه وَرْدٌ وَزَعْفَرانٌ، وحَافَتَاهُ قَصَبٌ منْ ذَهَبٍ، مُكَلَّل باللُّؤْلُؤ، فَيَغْتَسِلُونَ فيه [فَيَبْدُو في نُحُورِهِمْ شَامَةٌ بيضاء، ثُمَّ يَغْتَسلُونَ] فيَزْدَادُونَ بَياضًا، ثُمَّ يقال لَهُمْ: تَمَنَّوْا مَا شِئْتُمْ، فَيَتَمّنونَ ما شاؤوا، فيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ ما تَمَنَّيْتُمْ سَبْعينَ مَرَّةً، فأُولَئكَ مَسَاكينُ أهل الْجنّةِ

(3)

.

(1)

رواه ابن المبارك في "مسنده" رقم (110) وفي "الزهد"(409 - زوائد نعيم) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(109 و 111) ومن وجه آخر عن الشعبيّ، عن حُذَيْفَةَ مرفوعًا.

(3)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(120).

ص: 423

وقد وَرَدَتْ أحاديثُ فِيهَا غَرَابةٌ في شَأنِ أصْحَابِ الأعْرَافِ، وَصِفَاتِهِمْ، تَرَكْنَاهَا لِضَعْفِهَا، والله أعلم.

‌ذكر آخر من يخرج من النار

ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنَّ نَاسًا قالُوا لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ القمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟ " قالوا: لا، يا رسولَ الله، قال:"هَلْ تُضَارُّونَ في الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ " قالوا: لا، قال:"فإنكمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ. يَجْمعُ اللهُ الناسَ يَوْمَ القِيَامةِ، فيَقُولُ: منْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَبعُ منْ كانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيتَّبِعُ منْ كانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبعُ منْ كان يَعْبُدُ الطَّوَاغيتَ الطَّوَاغيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافقُوها، فَيَأتِيهم اللهُ تبارك وتعالى في صُورَةٍ غَيرِ صُورَتِهِ التي يَعْرفُون، فيقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فيقُولُونَ: نَعُوذُ باللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حتّى يأتينا رَبُّنَا، فإذا جَاءَ رَبُّنا عَرَفْناهُ، فيَأتيهمُ اللهُ في صُورتِهِ التي يَعْرفُونَ، فيقُولُ: أنا رَبُّكُمْ، فيقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنا، فيتّبِعُونَهُ، وَيُضرَبُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فأكُون أنا وأمتي أوَّلَ منْ يُجيزُ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمئذٍ: اللّهُمَّ سَلِّم، سَلِّمْ، وفي جَهنمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعدَانِ، هَلْ رَأيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ " قالوا: نَعَمْ، يا رسول الله، قال: "فإنَّها مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أنَّهُ لا يَعْلم قَدْرَ عِظَمِهَا إلَّا الله تَعَالَى، تَخْطَفُ الناسَ بأعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ المُوثقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ المُجَازَى حتّى يَنجُو، حَتّى إذَا فَرَغَ اللهُ منَ الْقَضاء بَيْنَ العِبَادِ، وأرَادَ أنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ منْ أرَادَ منْ أهْلِ النارِ، أمَرَ الْمَلائكةَ أنْ يُخْرِجُوا منَ النارِ منْ كَانَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيئًا مِمَّنْ أرَادَ اللهُ أنْ يَرْحَمهُ مِمَّنْ يَقُولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيَعْرِفونَهُم في النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأثَرِ السُّجُودِ، تَأكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إلَّا أثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللهُ على النَّارِ أنْ تَأكُلَ أثَر السُّجُودِ، فَيُخْرَجُونَ منَ النَّارِ قَدِ امْتَحشُوا، فيُصَبُّ عَلَيْهمْ منْ مَاء الْحَيَاةِ فيَنْبتُونَ [مِنْهُ] كما تَنْبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، ويَفْرُغُ اللهُ منَ القَضَاء بين العِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبل بِوَجْهِهِ على النّارِ، وَهُوَ آخِرُ أهْلِ النَّارِ دُخُولًا إلى الْجنَّةِ، فيَقُولُ: أيْ رَبِّ، اصرفْ وَجْهي عنِ النَّارِ، فإنَّهُ قد قَشَبني

(1)

رِيحُهَا، وأحْرَقني ذَكاؤُهَا

(2)

فيَدْعُو اللهَ ما شاء أنْ يَدعُوَه، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: هَلْ عَسَيْتَ إنْ أعْطيتك ذَلِكَ [أنْ] تَسْألَني غَيْرَهُ؟ فيقُولُ: لا أسْألُك غيْرَهُ، وَيُعْطي رَبَّهُ منْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ ما شَاء، فيَصْرفُ وَجْهَهُ عنِ النَّارِ، فإذا أقْبَلَ على الْجَنَّةِ ورآها سكَتَ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ قَدِّمْني إلى بَابِ الْجنَّةِ، فيقُولُ اللهُ: ألْيسَ قدْ أعْطَيْتَ عُهُودَكَ ومَوَاثيقَكَ ألّا تسْألَني غَيْرَ الّذِي أُعْطيتَ؟ وَيْلَكَ يا ابْنَ آدَمَ، مَا أغْدَرَكَ!

(1)

آذاني.

(2)

شدة لهبها.

ص: 424

فيقولُ: أيْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللهَ حتَّى يَقُولَ لهُ: فهَلْ عَسَيْتَ إنْ أعطيتك ذلك أنْ تَسْألَني غيرَه؟ فيقول: لا، وَعِزَّتِكَ، فيُعْطي رَبَّهُ ما شَاءَ منْ عُهُودٍ ومَوَاثيقَ، فيُقَدِّمُهُ إلى بابِ الْجنَّةِ، فإذا قامَ على بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ

(1)

لهُ الجَنَّةُ فَرَأى ما فيها منَ الخَيْرِ، وَالسُّرُور، فيَسْكُتُ ما شاءَ اللهُ أنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ أدْخِلْني الجَنَّةَ، فيقولُ الله تعالى: ألَيْسَ قدْ أعْطَيْتَ عُهُودكَ ومَوَاثيقَكَ ألًا تَسْألَني غيْرَ ما أُعْطيتَ، وَيْلَكَ يا ابْنَ آدمَ، ما أغْدَرَكَ! فيقول: يا رَبِّ لا أكُونُ أشْقَى خَلْقِكَ، فلا يَزَالُ يَدْعُو الله تَعالى، حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ منه، فإذا ضَحِكَ [اللهُ] مِنْهُ قال: ادْخُلِ الجَنَّةَ. فإذا دَخَلَها قال اللهُ له: تَمنَّهْ. فيَسْألُ الله وَيَتمنَّى، حتَّى إنَّ اللهَ لَيُذكِّرُهُ منْ كذا وكذا، حتَّى إذا انْقَطَعتْ بِهِ الأمَانيّ، قال الله: لكَ ذلِكَ ومِثْلُهُ مَعَهُ".

قال عطاء بنُ يَزيدَ: وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَليْهِ شَيْئًا منْ حَديثِهِ، حتَّى إذا حدَّثَ أبُو هُرَيْرَةَ: أن اللهَ عز وجل قالَ لِذَلِكِ الرَّجُلِ: "وَمِثلُهُ مَعَهُ" قالَ أبُو سَعيدٍ: "وَعَشرةُ أمْثَالِهِ معه" يا أبا هُرَيْرَةَ.

قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إلَّا قولَهُ: "ذلكَ لك ومِثْلُهُ مَعَهُ" فقال أبو سعيدٍ: أشْهَدُ أنّي حَفِظْتُ منْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قولَهُ: "ذلكَ لكَ وَعَشرةُ أمْثَالِهِ".

قالَ أبو هُرَيْرَةَ: "وذلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أهْلِ الْجنَّةِ دُخُولًا الجَنَّة".

هذا لفظُ مسلم.

ثم ساقه من طريق عبد الرزّاق، عن مَعْمر، عن هَمَّامٍ، عن أبي هريرة

(2)

. ثم أورد الحديث من رواية عطاءَ بن يَسَارٍ، وغيره، عن أبي سَعيدٍ، فساقه بطولِه نحوه، وفيه: أنَّهُ يُعْطى ذلك وعَشَرَة أمثالِهِ، وفي بعض سياقاته: أنّهُ ينتقل منَ النَّارِ إلى بَابِ الجَنَّةِ في ثَلاثِ مَرَاحِلَ، كل مَرْحلةٍ يَجْلسُ تَحْتَ شَجَرَةٍ، كلُّ وَاحدَةٍ هي أحْسَنُ منْ أُخْتِهَا الَّتي قَبْلَها

(3)

.

وكذلك رواه مسلم أيضًا، من حديث ابن مسعود، وفيه:"وعَشَرَةُ أمْثالِهِ" كما حَفِظَه أبو سَعيدٍ، والله سبحانه وتعالى أعظم وأكرم وأرأف وأرحم.

وهكذا رواه البخاريّ، عن ابن مسعود، فقال: حدّثنا عُثْمَانُ بنُ أبي شَيْبَةَ، حدّثنا جَريرٌ، عن منصور، عن إبراهيم، عن عَبيدَةَ، عن عَبْدِ الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعْلَمُ آخرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْها، وَآخِر أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُل يَخْرُجُ منَ النَّارِ حَبْوًا، فيَقول اللهُ له: اذْهَبْ

(1)

أي انفتحت واتسعت.

(2)

رواه مسلم رقم (182) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20856).

(3)

رواه مسلم رقم (183 و 188).

ص: 425

فادْخُلِ الجَنَّةِ، فيَأْتيهَا، فيُخَيَّلُ إليْهِ أنَّها مَلأَىْ، فيَرْجِعُ، فيقُولُ: يا رَبِّ، وَجَدْتُها مَلأَى، فيقُولُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجنَّةَ، فيَأتِيهَا فيُخَيَّلُ إليْهِ أنَها مَلأَى، فيَرْجِعُ، فيقُولُ: يا رَبِّ، وَجَدْتُها مَلأى، فيقُولُ: اذْهَبْ، فَادْخُلِ الْجنَّةِ، فإنّ لك مِثْلَ الدُّنْيا وَعَشَرَةَ أمْثَالِهَا، أوْ إنَّ لك مِثْل عَشَرَةِ أمْثَالِ الدُّنْيا، فيَقُولُ: أتَسْخرُ بي أوْ تَضْحكُ منِّي، وأنْتَ الْمَلِكُ؟ " فَلَقدْ رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وكانَ يُقالُ: ذَلِكَ أدْنَى أهْلِ الْجنَّةِ مَنْزِلة

(1)

.

‌فصل

روى الدّارقطنى في كتابه " الرّواة عن مالك " والخطيب البغداديّ، من طريقٍ غَريبةٍ، عن عبد الملك ابن الْحَكَم: حدّثنا مالكٌ، عن نافع، عن ابن عُمَر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن آخِرَ منْ يَدْخُلُ الْجَنَةَ رَجُل منْ جُهَيْنة، يُقَالُ لَهُ: جُهَيْنة، فيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: عِنْدَ جُهيْنَةَ الْخَبرُ اليَقينُ، سَلُوهُ: هَلْ بَقيَ في النار أحدٌ من الخلائق؟ ". وَهَذا الْحَديثُ لا تَصِحّ [نِسْبَتُهُ] إلى الإمامِ مالِكٍ، لِجَهَالةِ رُوَاتِهِ عنه، وَلوْ كانَ مَحْفُوظًا منْ حَديثِهِ لَكانَ في كُتُبهِ الْمَشْهُورةِ عَنْهُ، ك" الموَطَّأ " وَغَيْرِهِ ممّا رواه عنه الثقَاتُ. والْعَجبُ أنَّ القُرْطبي ذكره في " التَّذكرة "، وجزم به، فقال: قال ابنُ عمر: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "آخرُ منْ يَدْخُلُ الْجنَّةَ رَجُلٌ منْ جُهَيْنةَ، يُقالُ لَهُ: جَهَينةُ، فيقُولُ أهْلُ الْجنَّةِ: وَعِنْدَ جُهَيْنةَ الْخَبرُ اليَقينُ "

(2)

.

وكذلك ذكره السُّهَيْليّ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ، وحَكى السُّهَيْلى قولًا آخر: أنّ اسْمَه هَنَّاد، فالله أعلم.

وقال مُسلم: حدّثنا مُحمّدُ بنُ عبد الله بن نُمَيْر، حدّثنا أبِي، حدّثنا الأعْمَشُ، عن المَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ، عن أبي ذَرّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعْلَمُ آخِرَ أهْلِ الجنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا منْهَا: رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ القيَامَةِ، فيُقالُ: اعرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَها، فتُعْرضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فيُقالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كذا وكذا، كذا وكذا، وعَمِلْتَ يَوْمَ كذا وكذا، كذا وكذا، فيقول: نَعَمْ، لا يَسْتَطيعُ أنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفقٌ منْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أنْ تُعْرضَ عَلَيْهِ، فيُقالُ لهُ: فإن لك مَكانَ كلِّ سَيِّئة حَسَنةً، فيَقولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ لا أرَاهَا هَاهُنا! " فَلَقدْ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُه

(3)

.

وقال الطبرانيّ: حدّثنا عبدُ الله بنُ سعد

(4)

بن يحْيَى الرَّقِّيُّ، حدّثنا أبو فَرْوةَ يَزيدُ بنُ محمّد بن

(1)

رواه مسلم رقم (186) والبخاري (6571).

(2)

قال الدارقطني بعدما رواه: هذا الحديث باطل.

(3)

رواه مسلم رقم (190).

(4)

في الأصول: عبد الله بن سعيد، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 426

سِنَانِ الرُّهاويُّ، حدّثني أبي، عن أبيه، حدّثني أبو يَحْيَى الكَلاعِيّ، عن أبي أُمَامَةَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ آخِرَ رَجُل يَدخُلُ الْجنَّةَ رَجُلٌ يَتَقلَّبُ على الصِّرَاطِ ظهْرًا لِبَطْنٍ، كالْغُلامِ يَضْرِبُهُ أبُوهُ، وهُوَ يَفرُّ منْهُ، يَعْجِزُ عَنْهُ عَمَلُهُ أنْ يَسْعَى، فيقُولُ: يارَبِّ بَلَّغْ بي الْجَنَّةَ وَنَجِّني مِنَ النَّارِ، فيُوحي اللّهُ إليْهِ: عَبْدي، إنْ أنا نَجَّيْتكَ مِنَ النَّارِ، وَأدْخَلْتُكَ الجَنَّةَ، أتَعْترِفُ لي بِذُنُوبكَ وَخَطاياكَ؟ فيَقُولُ العَبْدُ: نَعَمْ يا رَبِّ، وَعِزتِكَ وَجلالِكَ، إنْ نَجَّيْتَني من النَّارِ لأعْتَرِفنَّ لكَ بِذُنُوبي وَخَطاياي، فيَجُوزُ الجِسْرَ، وَيقُولُ الْعَبْدُ فيمَا بَيْنهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لئنِ اعْتَرَفْتُ لهُ بِذُنُوبي وَخَطاياي لَيَرُدَّني في النَّارِ، فيُوحي اللّهُ إليْهِ: عَبْدي، اعْتَرِفْ لي بذُنُوبكَ وَخَطاياكَ أغْفِرْها لك، وَأُدْخِلْكَ الجَنَّةَ، فيَقُولُ الْعَبْدُ: لا وَعِزتِكَ وَجَلالِكَ، ما أذْنَبتُ ذَنْبًا قَطُّ، ولا أخطأْتُ خَطِيئةً قطُ، فيُوحِي اللّهُ إليْهِ: إنَّ لي عَلَيْكَ بيّنةً، فيَلْتَفِتُ يَمينًا وشِمَالًا، فلا يَرَى أحدًا، فيَقُولُ: يا رَبِّ، أرِني بَيِّنَتَكَ، فيَسْتَنْطقُ اللّهُ جلْدَهُ بالمُحَقَّراتِ، فإذا رَأى ذلِكَ العَبْدُ يَقُولُ: يا رَبِّ، عِنْدي وَعِزَّتِكَ العَظائِمُ، فيُوحي اللهُ إليْهِ، عَبْدي أنا أعْرَفُ بها منْكَ، اعْتَرِفْ لي بهَا أغْفِرْها لك وَأُدْخلكَ الجنَّةَ، فيَعْتَرفُ العَبْدُ بِذُنُوبِهِ، فيُدْخلُه الجَنَّةَ" ثمَّ ضَحِكَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى بَدَتْ نَوَاجذُهُ، يقُولُ:"هَذا أدْنى أهْلِ الْجنَّةِ مَنْزلة، فكَيْفَ بِالَّذي فَوْقَهُ"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدَّثنا سلَّامٌ، يعني ابنَ مِسكين، عن أبي ظِلال، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن عَبْدًا في جَهنَّمَ لَيُنادي ألْفَ سنةٍ: يا حَنَّانُ، يا مَنَانُ " قال: " فيقُولُ الله لِجبْريلَ: اذْهَبْ فَأتني بِعَبْدي هذا، فيَنْطَلقُ جبْريلُ فيَجدُ أهْلَ النَّارِ مُنْكبِّينِ يَبْكونَ، فَيَرْجِعُ إلى رَبهِ، فيُخْبرُهُ، فَيَقُولُ: اذهب فأتِني بهِ، فإنَّهُ في مَكَانِ كذا وكذا، فَيَجيءُ بِهِ، فيُوقِفُهُ على رَبِّه فيقُولُ لهُ: يا عَبْدي، كَيْفَ وَجَدْتَ مَكانَكَ ومَقيلَكَ؟ فيقول: يا ربِّ، شَرَّ مَكانٍ، وشَرَّ مَقيلٍ، فيقُولُ: رُدُّوا عَبْدي، فيقُولُ: يا رَبِّ، ما كُنْتُ أرْجُو إذْ أخْرَجْتني مِنْها أنْ تَرُدَّني فيهَا، فيَقُولُ: دَعُوا عَبْدي ". انفرد به أحمد

(2)

.

وقال الإمامُ أحمدُ: [حدّثنا عفان]، حدَّثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمة، حدَّثنا ثابت وأبو عِمْرَان الجَوْنيّ، عن أنس بن مالك، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يَخْرُجُ أرْبَعةٌ منَ النَّارِ " قال أبو عِمْرانَ: " أرْبَعةٌ " وقال ثابت: " رَجُلانِ -فَيُعْرَضُونَ على اللّهِ عز وجل ثمَّ يُؤْمر بهمِ إلى النَّارِ، فَيَلْتفتُ أحَدُهُمْ فيَقُولُ: أيْ رَبِّ، قَدْ كُنْتُ أرْجُو إذْ أخْرَجْتني مِنْها ألّا تُعيدَني فِيها، فيُنَجِّيهِ اللّهُ منها ". وهكذا رواه مسلم من حديث حمَّاد بن سَلَمة، به

(3)

.

(1)

رواه الطبراني في " الكبير "(7669) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 230) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 285) ومسلم (192).

ص: 427

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثني رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ، حدّثني ابنُ أنعُم، عن أبي عُثْمانَ: أنَّهُ حَدّثَه عن أبي هُرَيرةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:" إن رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخلَ النَّارَ يَشْتدُّ صِيَاحُهُمَا، فقال الربّ جل جلاله: أخْرِجُوهُما، فَأُخْرِجَا، فقال لهما: لأيِّ شَيْءٍ أشْتَدَّ صِيَاحُكُما؟ قالا: فعَلْنا ذَلِكَ لِتَرْحمَنا، قالَ: رَحْمتي لَكُما أنْ تَنْطِلقا فتُلْقيا أنْفُسكُما حَيْثُ كُنْتما منَ النَّار " قال: " فيَنْطَلِقانِ، فَيُلْقي أحَدُهما نَفْسَهُ، فيجْعَلُها اللّهُ عليه بَرْدًا وسَلامًا، ويَقُومُ الآخَرُ، فلا يُلْقي نَفْسَهُ، فيَقُولُ لَهُ الرَّبّ تَعالى: ما منَعَكَ أنْ تُلْقيَ نَفْسكَ، كما ألْقَى صَاحِبُك؟ فيقول: رَبِّ إنّي أرْجوكَ ألّا تُعيدَني فِيها بعدَ ما أخْرَجتني مِنْها، فيقُولُ الرَّبُّ: لكَ رَجاؤُكَ، فَيَدْخُلانِ جَميعًا الجَنَة برحْمَةِ الله عز وجل"

(1)

.

وذكر بِلالُ بْنُ سَعْدٍ في خُطبته: أنَّ الله تعالى إذا أمَرَهُما بالرُّجُوعِ إلى النَّارِ يَنْطَلقُ أحَدُهما في أغْلالهِ وَسَلاسِلِه حتَّى يَقْتَحمَهَا، ويتلكَّأ الآخَرُ، فيَقُولُ اللّهُ تَعالى للأوَّلِ: ما حَمَلكَ على ما صَنَعْتَ؟ فيقول: إني خبَرت منْ وَبَالِ مَعْصيتِك ما لمْ أكُنْ أتَعَرَّضُ لِسَخطِكَ ثَانيًا، ويَقُولُ لِلآخَرِ: ما حملك على أن تلكَّأت؟ فيقول: حُسْنُ ظَنِّي بكَ إذْ أخْرَجتني منْها ألّا تُعيدَني إليْهَا، فيَرْحَمهُما اللهُ تَعَالى، وَيُدْخِلُهُمَا الجَنَّةَ.

‌فصل

إذا خرج أهْلُ المَعاصي من النار، فَلَمْ يَبْقَ فيهَا غَيْرُ الكافرين، فإنهم لا يَمُوتُونَ فِيها ولا يَحْيَوْنَ، ولا خُرُوجَ لَهُمْ منْها، ولا مَحيدَ لَهُمْ عنها، بلْ هُمْ خَالِدُونَ فيها أبدًا، وَهُم الَّذينَ حَبَسهُمُ القُرآنُ، وَحُكِمَ عَلَيْهمْ بالْخُلُودِ، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الاحزاب: 64 - 65] وقال تعالى في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168 - 169].

فهذه ثلاثُ آيات، فيهنّ الحكمُ عَلَيْهمْ بالخُلودِ في النار أبدًا، ليس لَهُنَّ رَابعةٌ مِثْلُهن في ذلك، وأما قوله تعالى:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].

فقد تكلّم ابنُ جرير وَغَيْرُه منَ المُفسّرين على هذه الآية بكلام يطول بَسْطه، وجَاءَتْ آثارٌ عن

(1)

رواه ابن المبارك في "مسنده" رقم (111) و" الزهد "(410 - زوائد نعيم) ومن طريقه خرجه الترمذي رقم (2599) وهو ضعيف. وقد تقدم.

ص: 428

الصّحابة غَريبةٌ، وورَدَتْ أخبارٌ عَجيبةٌ، وللكلام على ذلك مَوْضِع آخرُ لَيْسَ هذا مَوْضعُه، واللّه أعلم، وأحكم وأكرم.

وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيمُ بنُ إسحاق، حدّثنا ابنُ المبارك، عن عمر بن محمَّد بن زيد، حدّثني أبي، عن ابن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صَارَ أهْلُ الجَنَّةِ في الْجنَّةِ، وأهْلُ النَّارِ في النَّارِ، جيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّار، ثمَّ يُذْبِحُ، ثمَّ يُنادي مُنَادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُود ولا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ خُلودٌ ولا مَوْتَ، فَازْدَادَ أهْلُ الجنَّةِ فرَحًا إلى فَرَحِهِمْ، وَازْدَادَ أهْلُ النَّارِ حُزْنًا إلى حُزْنِهمْ ".

وهكذا رواه البخاريّ، عن مُعاذ بن أسَدٍ، عن عبد الله بن المُبارك، به، مثلَه

(1)

.

وقال أحمدُ: حدَّثنا غَسّان بنُ الرَّبِيعِ؛ موصلي، حدّثنا حمّاد بنُ سَلَمة، عن عاصمِ بن بَهْدَلةَ، عن أبي صَالِح، عنْ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُؤْتى بالمَوْتِ كَبْشًا أغبر

(2)

، فيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقالُ: يا أهْلَ الْجنَّةِ، فَيَشْرَئبُّونَ، وَيَنْظُرُونَ، ويُقالُ: يا أهْلَ النَّارِ، فيَشْرَئبُّونَ، ويَنْظرُونَ، ويُرَوْنَ أن قدْ جَاءَ الفَرَجُ، فَيُذْبحُ، فيُقالُ: خُلودٌ ولا مَوْتَ ". وهذا إسناد غريب من هذا الوجه

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيدُ وابن نُمَيْرٍ، قالا: حدّثنا محمد بنُ عمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بالمَوْتِ يَوْم الْقِيامَةِ فَيُوقَفُ على الصِّرَاطِ، فيُقالُ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ، فيطلِعُون خَائِفينَ وَجِلينَ أنْ يُخْرجوا -" وقال يزيد: "أنْ يَخْرُجُوا- منْ مَكَانِهِم الَّذي هُمْ فِيهِ، فيُقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قالوا: نعم، رَبُّنا، هذا الموتُ، ثمَّ يُقالُ: يا أهْلَ النَّارِ، فيطَّلعُونَ فرحينَ، مُسْتَبْشرينَ أنْ يُخْرَجُوا منْ مَكانِهِمُ الَّذي هُمْ فيهِ، فيُقالُ: هَلْ تَعْرفُونَ هَذا؟ قالوا: نعم، هذا المَوْتُ، فيُؤْمر به فيُذْبح على الصِّراطِ، ثمَّ يُقالُ لِلْفَريقين كِلَيْهما: خُلُودٌ فيما تَجِدُونَ، لا مَوْتَ فيه أبدًا ".

إسناده جيِّد قَوي على شرط الصحيح، ولم يُخْرِجْهُ أحدٌ منْ هذا الوجه

(4)

.

وقال البزّار: حدَّثنا بِشْرُ بن آدم، حدَّثنا نافعُ بنُ خالدٍ الطَّاحي، حدَّثنا نُوحُ بنُ قَيْس الطَّاحِي، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادةَ، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يُؤتَى بالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ فيُوقفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنارِ، فَيُذْبحُ، فَيُقالُ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ، خُلودٌ ولا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ خُلودٌ،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 118) وابن المبارك في " الزهد "(280 - زوائد نعيم) والبخاري (6548).

(2)

في نسخة " مسند الإمام أحمد " طبع مؤسسة الرسالة: كبشًا أغثر، في لسان العرب (5/ 7) أي. ليس بأحمر ولا أسود ولا أبيض. وفي النهاية (3/ 342) هو الكدر اللون كالأغبر والأربد.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 420)، وهو حديث صحيح، يشهد له الذي بعده.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 261).

ص: 429

ولا مَوْتَ " ثمَّ قالَ البرارُ: لا نعلَمُه يُرْوَى عن أنسِ إلَّا منْ هذا الوجه، والله سبحانه أعلم

(1)

.

‌ذكر صفة الجنة وما فيها من النعيم المقيم الدائم على الأبد

لا يفنى ولا يضمحل ولا يبيد أبدًا، بل كلما له في ازدياد وبهاءَ وحُسنٍ نسأل الله سبحانه الجنة، ونعوذ به من النار

قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] والمنقطع ولو بعد ألوف من السنين ليس بدائم.

وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] والمنقطع ينفد.

وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

فأخبر أن الدنيا وما فيها ينفد، وما عند الله باقٍ لا ينفد، فلو كان له آخِر، لكان ينفَد، كما ينفَد نعيم الدنيا.

وقال تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] أي غير مقطوع، قاله طائفة من المفسرين، غير مقطوع، ولا منقوص، ومنه المنون، وهو قطع عمر الإنسان. وعن مجاهد: غير محسوب، وهو مثل الأول، لأن ما ينقطع محسوب مقدَّر، بخلاف ما لا نهاية له.

‌ذكر ما ورد في عدد أبواب الجنَّة واتساعها وعظمة جنَّاتها

قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 73 - 74]. وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24].

وقد تقدّم أن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الْجنّةِ وَجَدُوهُ مُغْلقًا، فَيَسْتشفعُونَ اللهَ تَعالى لِيُفتح لهم بمحمد، فيأتي باب الجنة، ثم يُقعقع حلْقة الباب، فيقُولُ الْخَازِنُ: منْ أنت؟ فيقولُ: محمّد، فيَقُولُ: بكَ أُمِرْتُ ألَا أفْتَحَ لأحَدٍ قَبْلَكَ.

وثبت في الصحيح أنَّهُ أوَّلُ شَافِعٍ في الجَنّةِ

(2)

وأوَّلُ منْ يُقَعْقِعُ بَابَ الْجَنَّةِ

(3)

(1)

رواه البزار (3557 - كشف الأستار) وهو حديث حسن.

(2)

رواه مسلم (196).

(3)

رواه الترمذي (3148) وهو حديث صحيح.

ص: 430

وسيأتي في الحديث أيضًا: " مِفْتاحُ الْجنّةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ "

(1)

.

وروى الإمامُ أحمدُ، ومسلم، وأهل السنن، من رواية عُقْبةَ بنِ عامِر، وغيره، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ تَوَضّأ فأَحْسَنَ الوُضوءَ، ثمَّ رَفَعَ بَصَرهُ إلى السَّماءِ فقالَ: أشْهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللّهُ وَحْدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ، فُتِحتْ لَهُ أبوابُ الْجَنَّةِ الثمَانيَة يَدْخُلُ منْ أيُّها شَاءَ "

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفّان، حدَّثنا بِشرُ بن المفَضّل

(3)

، حدَّثنا عبدُ الرَّحمن بنُ إسحاق، عن أبي حازم، عن سَهْل بن سَعْد، قال: قال رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُدْعى الرَّيَّانَ، يُقالُ يَوْمَ القِيَامةِ: أيْنَ الصَّائمُونَ؟ فإذَا دَخَلوهُ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ غَيْرُهُمْ " قال بشْرٌ: فَلَقيتُ أبا حَازِم فَسَألْتُهُ، فَحدّثني بهِ، غَيْرَ أنِّي لِحَديث عَبْدِ الرَّحْمن أحْفَظُ

(4)

.

وقال الطبرانيّ: حدَّثنا يحيى بنُ عُثْمانَ، حدَّثنا سعيدُ بنُ أبي مَرْيم، حدَّثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سَهل بنِ سَعْدٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:" في الجنَّةِ ثَمانيةُ أبْواب، بَابٌ منْهَا يُسمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائمُونَ ". وقد رواه البخاريّ، عن سعيد بن أبي مَريم، به، ورواه أيضًا مسلم، من حديث سُلَيْمان بن بِلالٍ، عن أبي حازم، سَلَمة بن دِينارٍ، عن سَهْل، به

(5)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهريّ، عن حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ في سَبيلِ اللّهِ دُعيَ من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي منْ بَابِ الصَّلاة، ومَنْ كانَ منْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعي منْ بابِ الرَّيَّان، ومنْ كانَ منْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ منْ بَابِ الصَّدَقَةِ، ومنْ كَانَ منْ أهْلِ الجِهَادِ دُعيَ منْ بابِ الجِهَادِ " فقال أبو بكر: يا رسولَ اللّهِ ما على أحَدٍ منْ ضَرُورةٍ دُعيَ منْ أيِّها دُعيَ؟ فَهَلْ يُدْعى منْها كُلِّها أحدٌ، يا رسولَ الله؟ قال:" نَعمِ، وأرجُو أنْ تَكُونَ منْهُمْ ". وأخرَجَاهُ في " الصَّحيحيْن " من حَدِيث الزهريّ، به، ولهما من حديث شَيْبَان، عن يَحْيَى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، مثله

(6)

.

(1)

رواه ابن عدي في " الكامل "(4/ 1356) وأحمد في المسند (5/ 242) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه، فهو حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 145) ومسلم رقم (234) وأبو داود (169) والنسائي (1/ 192 - 193) والترمذي (55) وابن ماجه (470).

(3)

في الأصول: الفضل، وهو خطأ.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 333) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه الطبراني في " المعجم الكبير "(5795) والبخاري (1896) ومسلم (1152).

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 268) ومعمر في " جامعه " الملحق بمصنف عبد الرزاق (20052) والبخاري (1897) و (2841) ومسلم (1027)(85 و 86) وابن أبي عاصم في الجهاد (96).

ص: 431

وقالَ عبد الله بن الإمام أحمد: حدّثنا مُحمد بنُ عبد الله بن نُمَيْر، حدَّثنا إسحاق بن سُلَيْمان، حدَّثنا حَريزُ

(1)

بن عُثْمانَ، عن شُرحبيلَ بن شُفْعَةَ، قال: لَقيني عُتْبةُ بنُ عَبْدٍ السُّلَميُّ قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " ما مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوفَّى لَهُ ثَلاثَة منَ الوَلَدِ لمْ يبْلُغُوا الْحنْثَ إلا تَلَقَّوْهُ من أبْوَابِ الْجَنَّةِ الثمَانِيَةِ منْ أيُّها شاءَ دخل ". ورواه ابن ماجه، عن ابن نُمَيْر أيضًا

(2)

.

وروى البيهقى من حديث الوليد بن مُسلم، عن صَفْوَان بن عمرو، عن أبي المُثنَّى المليكى

(3)

: أنهُ سمع عُتْبَةَ بن عَبْدٍ السُّلَمي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره في قِتَال المُخْلِص، والمُذْنِب، والمُنَافِقِ، قال فيه: " وَللجَنَةِ ثَمَانية أبوابٍ، وإن السَّيْفَ مَحَّاءٌ للذنُوبٍ، ولا يمحو النفاق

" الحديث بطوله

(4)

.

وتقدّم الحديث المتفق عليه، [من حديث أبي زُرْعَةَ]، عن أبي هريرة، في حديث الشفاعة، قال فيه: فيقولُ اللهُ: يا مُحمَّد، أدْخِلْ منْ لا حِسَابَ عَلَيْهِ منْ أُمَّتِكَ منَ البَابِ الأيْمَنِ، وَهُمْ شُرَكاءُ النَّاسِ في سائر الأبْوَابِ " وَالَّذي نَفْسُ مُحمَدٍ بِيَدِه إنَّ ما بين المِصْرَاعينِ منْ مَصَاريعِ الْجنَةِ وما بين عِضَادَتي البَابِ، لَكَما بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَر، أو كما بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى "

(5)

.

وفي " صحيح مسلم "، عن خالد بن عُمَيْر العَدَوِيّ: أنَّ عُتْبَة بن غَزْوان خَطَبَهُمْ، فقال بَعْد حَمْدِ الله، وَالثناء عليه: أمَّا بَعْدُ، فإنَّ الدُّنْيا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْم

(6)

، ووَلَّتْ حَذَّاء

(7)

وإنما بقي منها صُبَابة كصُبَابة الإنَاء يَتَصابُّها صاحبُها، وإنَّكمْ مُنْتَقِلُونَ منْها إلى دارٍ لا زَوالَ لَهَا، فَانتَقِلُوا بِخَيْرِ ما بِحَضْرَتكُمْ، فإنه قدْ ذُكِرَ لَنا أن الْحَجَرَ يُلْقَى منْ شفير جَهَنَّمَ، فيَهْوِي فيهَا سَبْعينَ عَامًا لا يُدْرِكُ لَها قَعْرًا، وَوَاللهِ لتمْلأنَّ، أفَعَجِبْتُمْ؟ ولَقَدْ ذُكِرَ لَنا أن ما بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ منْ مَصَاريعِ الْجنَّةِ مَسيرَةُ أرْبَعينَ سَنَةً، وَلَيَأتين عَلَيْها يَوْمٌ وهو كَظيظٌ منَ الزِّحَامِ، ولقد رأيتُني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحت أشداقنا، فالتقطتُ بُردة فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرتُ بنصفها، واتَّزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني

(1)

في الأصول: جرير، وهو خطأ.

(2)

رواه عد الله بن الإمام أحمد في زياداته على أبيه (4/ 183، 184) وابن ماجه (1604) وهو حديث حسن.

(3)

وهو الأملوكي.

(4)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(257) ورواه أحمد في المسند (4/ 185 - 186) من طريق صفوان بن عمرو، به، وهو حديث حسن.

(5)

رواه البخاري رقم (4712) ومسلم رقم (194).

(6)

الصرم: الانقطاع والانقضاء.

(7)

أي خفيفة سريعة.

ص: 432

أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله صغيرًا، وإنها لم تكن نبوة قط، إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها مُلكًا، فستخبُرُون وتجرِّبون الأمراء بعدي

(1)

.

وفي " المسند " من حديث حمَّاد بن سَلَمةَ، عن الجُرَيْرىِّ، عن حَكيم بن مُعَاويةَ، عن أبيه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" أنْتُمْ آخر الأمم، وأكْرَمُها على اللهِ، وما بَيْنَ مِصْرَاعينِ منْ مَصَاريعِ الْجَنَّةِ مَسِيرةُ أرْبَعينَ عَامًا، وَلَيأتِينَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وإنَّه لكَظيظٌ ".

ورواه البيهقيّ من طريق عليّ بن عاصم

(2)

، عن سَعيدٍ الجُرَيْريّ، عن حَكيم بن مُعَاويةَ، به، وقال:" مَسيرةُ سَبْعِ سِنينَ "

(3)

.

وقال يعقوب بن سُفْيَانَ: حدَّثنا الفضل بنُ الصَّبَّاح، أبو العبَّاس، حدّثنا مَعْنُ بنُ عِيسى، حدّثنا خالدُ بن أبي بَكْر بن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْد اللّهِ بْنِ عمر، عنْ سالِم بْن عَبْدِ اللهِ، عن أبيه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " بابُ أُمَّتي التي تَدْخُلُ منْهُ الجَنَّةَ عَرْضُه مَسيرةُ الرَّاكِب المُجوِّدِ ثَلاثًا، ثمّ إنَّهُمْ ليُضغَطُونَ

(4)

عَلَيْهِ حتَّى تَكَادَ مَناكِبُهمْ تزُولُ". وقد رواه الترمذي من حديث خالد هذا، ثم قال: وسألتُ مُحمّدَ بن إسماعيل البخاريّ عن هذا الحديث، فلم يَعْرفْه، وقال: لخالد بن أبي بكر مَناكيرُ عن سالم

(5)

. قال البيهقيّ: وحديثُ عُتْبةَ بنِ غَزْوانَ: " أرْبَعينَ سَنةً " أصحُّ.

وروى عبد بن حُمَيد في " مسنده " عن الحسن بن موسى الأشيب، عن ابن لهيعة، عن دَرَّاجِ، عنْ أبي الهَيْثَم، عنْ أبي سَعيدٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:" إنَّ ما بَيْنَ مِصْرَاعينِ في الْجنَّهِ لَمسيرةُ أرْبَعينَ سنةً "

(6)

.

فأمَّا حَدِيثُ لَقيطِ بنِ عَامِرٍ: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ لِلنَّارِ سَبْعةَ أبْوَابٍ ما منهن بَابانِ إلَّا يَسيرُ الرَّاكبُ بَيْنَهُما سَبْعينَ عامًا، وكذلك قال في بُعد ما بين أبواب الجنة، فهو حديثٌ مَشْهُورٌ

(7)

وحَمَلهُ بَعْضُ العُلْمَاءَ على بُعد ما بين الباب إلى الباب الآخر، لا على ما بين المصراعين اللذَين في باب

(1)

رواه مسلم رقم (2967).

(2)

في الفاسية: علي بن أبي عاصم.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 3) والبيهقي في " البعث والنشور "(263) وإسناده حسن.

(4)

في الأصول: ليضطغطون.

(5)

رواه الترمذي رقم (2548) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " رقم (924) وأخرجه أحمد في المسند (3/ 29) من طريق الحسن ابن موسى به، وإسناده ضعيف، ولكن للحديث شاهد من حديث معاوية بن حيدة السابق يقوى به.

(7)

رواه أحمد في المسند (4/ 13 - 14) قال المصنف عنه فيما سبق: حديث غريب جدًا، وألفاظه في بعضها نكارة.

ص: 433

واحد، بل الباب يدور في طول الجدار، كما يدور حول صدور البلد إلى الباب الآخر، لئلا يعارض ما تقدم، [والله أعلم].

وقد ذكر القرطبي وادّعى: أنَّ لِلْجنَّةِ ثَلاثةَ عشر بابًا، ولَكنْ لم يُقمْ على ذلِكَ دَليلًا قويًا أكْثَرَ منْ أنَّهُ قال: وَممَّا يَدُلُّ عَلى أنَّها أكْثَرُ منْ ثَمانيةٍ، حَديثُ عُمر:" منْ تَوضَّأ فقالَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ " وفي آخِرهِ قال: "فُتحَ لَهُ منْ أبوابِ الجَنَّةِ ثَمانيةُ أبوابٍ يَدْخُلُ منْ أيُّها شَاءَ". أخرجه الترمذيّ، وغير

(1)

.

قال: ورَوى الآجُرِّيُّ في كتاب " النصيحة " عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: " إن في الجنَةِ بابًا يُقالُ لهُ: بابُ الضُّحَى، يُنادي منادٍ: أيْنَ الَّذين كانوا يداومُونَ على صلاة الضُّحى، هَذا بَابُكُمْ فادْخُلُوا "

(2)

قال: وقالَ الترمذي الحكيم

(3)

أبو عبد الله: أبوابُ الجَنَّةِ منْها بابُ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو بابُ التَّوبةِ، وبابُ الصَّلاةِ، وبَابُ الصَّوْمِ، وبابُ الزكاةِ، وبابُ الصَّدقةِ، وبَابُ الْحجِّ، وبابُ العُمْرَةِ، وبابُ الجهادِ، وبابُ الصِّلَةِ، وزاد غيرُه: بابَ الكاظمينَ، وبابَ الراضينَ، والبابَ الأيمن الذي يَدْخُل منْهُ الَّذين لا حِسَابَ عَلَيْهمْ، وجَعَلَ القُرْطبيُّ البَابَ الّذي عرضه مَسيرَةُ ثَلاثَة أيَّام، للرَّاكِب المُجوِّد، كما وَقَعَ عِنْدَ الترمذى

(4)

بابًا ثالثَ عَشر، فاللّه أعلم.

وقالَ الحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ: حدَّثنا إسماعيلُ بن عَيَّاشٍ، عن عبد اللّهِ بن عَبْد الرَّحْمن بن أبي حُسَيْن، عن شَهْر بنِ حَوْشَب، عن مُعاذِ بن جَبَل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِفْتاحُ الجَنَّةِ شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ"

(5)

.

وفي " صحيح البُخاريّ " قالَ: وَقيل لِوَهبِ بن مُنَبَّه: ألَيْسَ لا إلهَ إلَّا اللّهُ مِفْتاحُ الجَنَّةِ؟ قال: بلى، وَلَكن إنْ جِئْتَ بِمفْتَاح لَهُ أسنانُ فُتحَ لَكَ، وإلَّا لَمْ يُفْتحْ لك

(6)

يَعْني: لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مَعَ التَّوْحيد أعمالٌ صَالِحةٌ منْ فِعْلِ الطَّاعاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّماتِ، واللّه أعلم.

وتقدم في حديث علي قال: يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا حتى إذا انتهوا إلى أول باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة

وذكر الحديث

(7)

.

(1)

رواه الترمذي رقم (55) بلفظ: "فتحت له ثمانية أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء" ورواه مسلم رقم (234).

(2)

ورواه الطبراني في " الأوسط " رقم (5060) وإسناده ضعيف.

(3)

في (آ): الحلبي، وفي الفاسية: الحليمي.

(4)

رواه الترمذي رقم (2548) وإسناده ضعيف.

(5)

وأخرجه أحمد في المسند (5/ 242) من طريق ابن عياش به، وإسناده ضعيف.

(6)

علقه البخاري قبل الحديث (1237) ووصله البخاري في التاريخ، وأبو نعيم في " الحلية " من طريق محمد بن سعيد بن رُمَّانة عن أبيه، قيل لوهب

فذكره.

(7)

رواه أبو القاسم البغوي في " الجعديات " رقم (2508) وإسناده ضعيف.

ص: 434

‌ذكر تعداد محالّ الجنة وارتفاعها واتّساعها

قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 46 - 78].

وَثَبتَ في " الصحيحين " منْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزيزِ بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عن أبي عِمْرَان الجَوْنيّ، عن أبي بَكْرِ بنِ أبي مُوسى الأشْعَريّ، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " جَنَّتَانِ منْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، ومَا فِيهمَا، وَجَنَّتَانِ منْ فِضة آنِيَتُهُمَا، ومَا فيهما، وما بَيْن الْقَوْمِ، وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى ربِّهِمْ عز وجل إلَّا رِدَاءُ الْكِبْرياءِ على وَجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ "

(1)

.

وروى البَيْهقيُّ من حديث مؤمَّلِ بن إسماعيلَ، عنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ، عن ثابتٍ، عن أبي بَكْر بن أبي موسى، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " جَنَتانِ منْ ذَهَبٍ للسَّابِقِينَ، وَجَنَّتانِ منْ وَرِقٍ لأصْحَابِ اليَمِين "

(2)

.

وقال البُخاريّ: حدّثنا قُتَيْبةُ، حدَّثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفرٍ، [عن حميد]، عن أنس بن مالك: أنَّ أُمِّ حارثة، أتَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمِ بَدْرِ، أصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ

(3)

، فقالت: يا رسول الله، قدْ عَلِمْتَ موقع حَارِثَةَ مِنْ قَلْبي، فإنْ كان في الجَنَّةِ لَمْ أبْكِ عليه، وإلَّا سَوْفَ تَرَى ما أصْنَعُ، فقال لها:"أهَبِلْتِ؟ أجَنَّةٌ وَاحِدةٌ هي؟! أم جَنَّات كثيرة، وَإنّه في الْفِرْدَوْسِ الأعْلَى"، وَقالَ: "غُدْوةٌ

(4)

في سَبِيلِ اللّهِ أوْ رَوْحةٌ خَيْر منَ الدُّنْيا وما فيها، وَلَقابُ قَوْسِ أحَدِكُمْ أوْ مَوْضعُ قَدَمٍ

(1)

رواه البخاري رقم (4878) ومسلم (180).

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(242) وإسناده ضعيف، فيه مؤمل بن إسماعيل: صدوق سيِّئ الحفظ.

(3)

أي لا يعرف راميه.

(4)

في (آ): غزوة.

ص: 435

منَ الجنَّةِ خيْرٌ منَ الدُّنيا وما فيهَا، وَلَوْ أنَّ امْرأةً منْ نِسَاءِ أهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إلى

(1)

الأرْضِ لأضَاءَ لها ما بَيْنَهُما، وَلَمَلأتْ ما بَيْنهُما رِيحًا، وَلَنصيفُها -يعني خِمَارَها- خيْرٌ منَ الدُّنيا وما فيها "

(2)

.

وفي رواية عن قَتَادة أنه قال:" الفِرْدَوْسُ رَبْوةُ الْجَنَّةِ، وَأوْسَطُهَا وأفْضَلُها "

(3)

.

وقد رواه الطبراني من حديث سَعيدِ بن بَشيرٍ، عن قتادة، عن الحَسَنِ، عن سمرةَ مَرْفوعًا

(4)

.

قال الله تعالى: {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 10]، وقال تعالى:{فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21].

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عامر، حدَّثنا فُلَيْح، عن هِلالِ بن عَليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرةَ، عن أبي هُرَيرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" منْ آمَنَ باللّهِ وَرَسُولِه، وأقامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رمَضَانَ، فَإنَّ حَقًّا على الله أنْ يُدْخِلَهُ الْجنَّةَ، هاجَرَ في سَبيلِ الله، أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيهَا " قالوا: يا رسول الله، أفلا نُخبرُ النَّاسَ؟ قال:" إنَّ في الجنَّةِ مئةَ دَرَجةٍ أعَدّها اللهُ عز وجل لِلْمُجاهدينَ في سَبيلِهِ، بيْنَ كلِّ دَرَجَتَيْنِ كما بَيْنَ السَّماءِ وَالأرْضِ، فإذا سَألتُمُ اللهَ فاسألوه الفِرْدَوْسَ، فإنَّهُ وَسَط الْجَنةِ، وَأعلَى الجَنَّةِ، [وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمنِ]، ومنه تُفَجَّرُ [أو تَفجَّر أنْهَارُ الْجَنّة] "، [شكَّ أبو عامر].

ورواه البخاريّ عن إبراهيم بن المُنذرِ، عن مُحمّد بن فُلَيْح، عن أبيه، بمعناه

(5)

.

وقال أبو القاسم الطبرانيّ: حدَّثنا علي بنُ عبد العزيز، حدّثنا [أبو] هَمَّامٍ الدلّال، حدَّثنا هِشَامُ بنُ سَعْدٍ، عن زَيْدِ بن أسلَمَ، عن عطاء بنِ يَسارٍ، عن مُعاذِ بن جَبَل، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقول:" مَنْ صَلَّى هَؤُلاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمس، وَصَامَ رَمَضَانَ" لا أدْري أذكَرَ زَكاةً، أمْ لا؟ " كانَ حَقًّا على اللّهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُ، هاجر أوْ قَعَدَ حَيْثُ وَلَدتهُ أمُّهُ " قلت: يا رسول الله، ألا أخْرُجُ فأُوذِنُ

(6)

النَّاسَ؟ فقال: " لا، ذَرِ النَّاسَ يَعْملُونَ، فإنَّ الجَنةَ مِئَةُ دَرَجةٍ، بَيْنَ كلّ دَرَجَتَيْنِ مِنْها مِثْل

(1)

في (آ): في.

(2)

رواه البخاري رقم (6567) و (6568).

(3)

رواه الترمذي رقم (3174) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه الطبراني في الكبير (6886) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 335) والبخاري رقم (7423).

(6)

في الأصول: فآذن.

ص: 436

ما بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وأعْلَى دَرَجةٍ مِنْهَا الفِرْدَوْسُ، وَعَلَيْها يَكونُ العَرْشُ، وَهيَ أوْسَطُ شَيْءٍ في الْجَنَّةِ، وَمِنْها تَفَجَّرُ أنْهارُ الْجنَّةِ، فإذا سَأَلْتُمُ اللّهَ فاسألوه الفِرْدَوْسَ ". وهكذا رواه الترمذِيّ عن قتَيْبةَ، وأحمد بن عَبْده

(1)

، عن الدَّرَاوَرْدي، عن زَيْدِ بنِ أسْلَم، به، وأخرجه ابن ماجه عن سويد، عن حفص بن ميسرة، عن زيد، مختصرًا

(2)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا عَفَّان، حدّثنا هَمَّامٌ، حدّثنا زَيْدُ بْنُ أسْلَم، عن عَطَاءَ بنِ يَسَارٍ، عن عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:" الْجنَّةُ مِئةُ دَرَجةٍ، ما بَيْنَ كل دَرَجَتَيْنِ مَسيرة مئةِ عامٍ " وقال عَفان: " كما بَيْنَ السماء والأرض، والفردوس أعلاها دَرَجةً، ومنها تَخْرُج الأنْهارُ الأرْبَعَةُ، والعَرْشُ منْ فَوْقِها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفِرْدَوْسَ ". ورواه الترمذيُّ، عن أحمد بن مَنِيع، عن يزيد بن هارون، عن همَّامِ بن يَحْيَى، به

(3)

.

قلت: ولا تكون هذه الصفة إلَّا في المُقَبَّب، فإنَّ أعلى القُبَّةِ هو أوْسَطُها، فالْجَنَّة والله أعلمُ كذلك.

وقال أبو بكر بن أبي داود: حدّثنا أحمد بنُ سِنَانٍ، حدّثنا يَزيدُ بنُ هَارُون، حدّثنا شَريكٌ، عن محمّد بن جُحَادةَ، عن عَطاءٍ عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " الجَنّةُ مئَةُ دَرَجةٍ، ما بَيْنَ كلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسيرَةُ خَمْسِمِئةِ عامٍ "

(4)

.

ورواه الترمذيّ، عن عبَّاس العَنْبريّ، عن يزيد بن هارون

فذكره، وعنده:" ما بَيْنَ كلِّ دَرَجَتَيْنِ مئةُ عامٍ " وقال: هذا حديث حسن صحيح

(5)

.

وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدّثنا زُهَيْرٌ، حدّثنا حسن، عن ابن لَهيعَةَ، حدّثنا دَرَّاجٌ، عن أبي الهَيْثم، عن أبي سَعيدٍ: أنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: " الْجَنَّة مِئَةُ دَرَجةٍ، لَوْ أنَّ الْعَالَمينَ اجْتَمَعُوا في إحْدَاهُن لَوَسِعتهمْ ". رواه الترمذيّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عن ابن لَهيعَةَ. ورواه أحمد أيضًا

(6)

.

(1)

في (آ): عبد الله، وهو خطأ.

(2)

رواه الطبراني في " المعجم الكبير "(20/ 327) والترمذي رقم (2529) وابن ماجه (4331) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 316) والترمذي بعد الحديث (2531) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أبو بكر بن أبي داود في " البعث والنشور "(61) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه الترمذي رقم (2528) وهو حديث صحيح بلفظ "ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".

(6)

رواه أبو يعلى رقم (1398) والترمذي (2531) وأحمد في المسند (3/ 29) وإسناده ضعيف.

ص: 437

‌ذكر ما يكون لأدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم من اتساع المُلك العظيم، والنعيم المقيم

قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20].

وقد تقدّم في حديث ابن مسعود، في آخِرِ منْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ: أن اللهَ يقول له: " أمَا تَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ الدُّنْيَا، وَعَشَرةُ أمْثَالِهَا "

(1)

وكذلك في غيره من الأحاديث الصحيحة.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا حُسَيْنُ بنُ مُحمَّدٍ، حدّثنا إسْرَائيلُ، عن ثُوَيْر هو ابن أبي فَاخِتَةَ، عن ابن عمر، رفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ أدْنَى أهْلِ الجنّةِ مَنْزِلَة الّذي يَنْظُرُ إلى جِنانِهِ وَنَعيمِهِ، وَخدَمِهِ، وَسُرُرِهِ، مَسيرَة ألْفِ سَنةٍ، وَإنَ أكْرَمَهُمْ على اللّهِ منْ يَنْظُر إلى وَجْهِهِ

(2)

غُدْوةً وَعَشيَّة " ثُمَّ تَلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 و 23]

(3)

.

وقال أيضًا: حدَّثنا أبو مُعاويةَ، حدَّثنا عَبْدُ المَلِك بن أبْجر

(4)

، عن ثُوَيْرِ بن أبي فَاخِتَةَ، عن ابن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدْنَى أهْلِ الجنَةِ مَنْزلة لَيَنْظُرُ في مُلْكهِ ألْفَي سنةٍ يرى أقصاه كما يرى أدْناهُ، يَنْظُر أزْوَاجَه، وَخَدمَهُ، وَإنَ أفْضَلَهُمْ مَنْزِلةً لَيَنْظُرُ في وَجْهِ اللهِ تَعَالى كل يَوْمٍ مَرّتَيْنِ ". ورواه الترْمذيُ، عن عَبْدِ بن حُمَيْد، عن شَبابة

(5)

، عن إسرائيل، عن ثُوَيْرٍ، به، قال: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْر وَجْهٍ، عن إسرائيل، عن ثُويْرٍ، عن ابن عمر، مرفوعًا، قال: ورواه الثوْري، عن ثُوَيْرِ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عمر قَوْلَه. قال: ورواه عَبْدُ المَلِكِ بنُ أبْجَر، عن ثُوَيْرٍ، عن ابن عمر موقوفًا، كذا قال

(6)

.

وقد تقدّم رواية أحمد لهذه الطريق مرفوعًا.

وروى مسلم، والطبرانى -وَهَذَا لَفْظُهُ- منْ حَدِيث سُفْيَانَ بن عُيَيْنةَ، حدَّثنا مُطَرِّفُ بن طريف، وعبدُ المَلكِ بنُ سَعيدِ بن أبْجَر، عن الشعبيّ، عن المُغيرة بن شُعْبةَ، رَفَعه ابن أبجَرَ، ولَمْ يَرْفَعْهُ مُطَرّف، قال: وقال موسى: يا رَبِّ، أخْبِرْني عنْ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزلةً، قال: نعم، هُوَ رَجُلٌ

(1)

رواه البخاري رقم (6571) ومسلم رقم (186).

(2)

أي إلى وجه الله تعالى.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 64) وإسناده ضعيف.

(4)

في (آ): ابن الحر، وهو خطأ.

(5)

في (آ): عبد الله بن شبابة.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 13) والترمذي (2553) وإسناده ضعيف، في الموقوف والمرفوع.

ص: 438

يَجيءُ بَعْدَما نَزلَ النّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وأخذُوا أخَذَاتِهِمْ، فيقال له: ادْخُل الْجنَّةَ، فيقول: يا رَبِّ، وكَيْفَ أدْخُلُها وقدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وأخذُوا أخَذَاتِهمْ؟ فيقولُ: أمَا تَرْضَى أنْ يَكُونَ لكَ مِثْلُ ما كانَ لِمَلِكٍ منْ مُلُوكِ الدُّنْيا؟ فيقولُ: رضيت ربِّ، فيقول: إنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَمِثْلَهُ، وعقد سفيان أصَابعَهُ الخَمْسَ، فيقولُ: رَضيتُ رَبِّ، فيقولُ: فإنَّ هَذَا لَكَ ومَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فيقولُ: رَضيتُ رَبِّ، قالَ موسى: يا رَبِّ، فأخْبرني عن أعْلَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزلةً، قال: نعم، أولَئِكَ الَّذينَ أرَدْتُ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدي، وَخَتَمْتُ عَلَيْها، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ على قَلْب بَشَرٍ، وَمِصْداقُ ذلك في كتابِ اللّهِ عز وجل:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]

(1)

.

وثبت في " الصحيحين "، واللفظ لمسلم، من حديث الأعْرَج، عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " قال اللّهُ عز وجل: أعْدَدْتُ لِعِبَادي الصَّالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ في كتابِ الله تَعَالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]

(2)

.

وقال الإمامُ أحْمَدُ: حدَّثنا هارون بنُ مَعْرُوفٍ، حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ، حدّثني أبو صَخْرٍ

(3)

: أنَّ أبا حَازِمٍ حَدَّثَهُ، قال: سَمِعْتُ سَهْلَ بن سَعْدٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ منْ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلسًا وَصَفَ فيهِ الْجَنَةَ، حَتَّى انْتَهَى، ثمَّ قالَ في آخِرِ حَدِيثِهِ:" فيها مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بشَر "، ثم قرأ هذه الآية:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 و 17]. ورواه مسلم عَنْ هارون بن مَعْرُوفٍ

(4)

.

‌ذكر غرف الجنَّة، وارتفاعها، وعظمها نسأل الله من فضله المبسوط على خلقه في الدنيا والآخرة

قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20]. وقال تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ

(1)

رواه مسلم رقم (189) والطبراني في " الكبير "(20/ 989).

(2)

رواه البخاري (3244) و (4779) ومسلم رقم (2824).

(3)

في الأصول: ابن صخر، وهو خطأ.

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 334) ومسلم رقم (2825).

ص: 439

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58]. وقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75].

وثبت في " الصحيحين " واللفظ لمسلم، من حديث مالك، عن صفْوانَ بن سُلَيْم، عن عطاء بن يَسارٍ، عن أبي سَعيدٍ الْخُدْريّ: أنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهمْ كما يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ، [أو] المَغْرِب، لِتَفَاضُلِ ما بَيْنَهُمْا قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبيَاءِ لا يَبلُغُها غَيْرُهُمْ؟ قال: "بَلَى، وَالَّذي نَفْسِي بيَدِه، رِجَالٌ آمَنُوا باللّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلينَ "

(1)

.

وفي "الصحيحين" أيضًا من حديث أبي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الغُرْفَةَ في الجَنَّةِ كما تَتَرَاءَوْنَ الكوكَبَ في أُفُقِ السَّمَاءِ "

(2)

.

وقال أحمد: حدَّثنا فَزَارَةُ، أخْبرَني فُلَيح، عَنْ هِلالٍ، يَعْني ابْنَ عليّ، عن عَطاءٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ في الجنةِ كما تَرَاءَوْنَ أوْ تَرَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابر في الأفُقِ الطَّالِع في تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ" قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، أُولَئِكَ النبيُّونَ؟ قال:" بَلى، وَالّذي نَفْسي بِيَدِه، وَأقْوامٌ آمَنُوا باللّهِ، وَصَدَّقُوا المُرْسَلينَ ". قالَ الحَافظُ الضيَاءُ: وَهَذَا على شَرْطِ البُخَاريّ

(3)

.

وقال أحمد: حدَّثنا على بنُ عَيَّاشٍ، حدّثنا محمدُ بنُ مُطَرّفٍ، حدَّثنا أبو حَازِمٍ، عن أبي سَعيدٍ الخُدْرَيّ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ المُتَحَابِّينَ في الله لتُرَى غُرَفُهُمْ في الجنةِ كالْكَوْكَب الطَّالِع الشرقيِّ أو الغربي، فَيُقالُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ فيُقَالُ: هَؤُلاءِ المُتَحابُّونَ في اللهِ عز وجل "

(4)

.

وفي حَديثِ عَطِيَّة، عَنْ أبي سَعيدٍ مَرْفُوعًا: " إنَّ أهْلَ عِليِّين لَيَرَاهُمْ مَنْ سِوَاهُمْ كما ترَونَ الكَوْكَبَ في أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإنْ أبَا بَكْرٍ وعمر منهم، وأنْعَما

(5)

"

(6)

.

(1)

رواه البخاري (3256) ومسلم (2831).

(2)

رواه البخاري (6555) ومسلم (2830).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 339) أقول: فزارة، فيه نظر، ولكنه توبع، وفليح، فيه كلام، والحديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 87) وإصناده ضعيف، أبو حازم لم يسمع من أبي سعيد الخدري.

(5)

أي زادا وفضلا.

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 27) وأبو داود رقم (3987) والترمذي (3658) وابن ماجه (96) وإسناده ضعيف وقد صح بلفظ "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم

" رواه البخاري (3256) ومسلم (2831).

ص: 440

‌ذِكر أعلى منزلة في الجنة وهي الوسيلة مَقامُ الرسول صلى الله عليه وسلم

-

ثبت في " صحيح البخاريّ "، عن على بن عيّاش، عن شُعَيْبِ بن أبي حَمْزةَ، عن محمَّد بن المُنْكَدِرِ، عن جَابِرِ بن عَبْدِ اللهِ، عن رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قالَ:" منْ قالَ حِينَ يَسْمعُ النِّدَاءَ: اللهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحمَّدًا الوَسيلةَ وَالْفضيلة، وابْعَثْهُ مَقامًا مَحْمودًا الّذي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لهُ الشفاعة يَوْمَ القِيَامة "

(1)

.

وفي " صحيح مسلم " عن محمّد بن سَلَمة، عن ابن وَهْبٍ، عن حَيْوةَ، وَسَعيدِ بن أبي أيُّوبَ، عن كَعْبِ بنِ عَلْقَمةَ، عنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بن جُبَيْر، عن عَبْدِ اللّهِ بنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ: أنَّهُ سَمِعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:" إذَا سَمِعْتُمُ المُوِّذِنَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ، ثمَّ صَلُّوا عَليَّ، فإنَّهُ منْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللّهُ علَيْهِ [بها] عَشْرًا، ثمَّ سَلُوا [الله] لي الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغي إلَّا لِعَبْدٍ منْ عِبَادِ اللهِ، وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمنْ سَألَ [الله] لِيَ الوَسِيلةَ، حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعة "

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا سُفْيَانُ، عن لَيْثٍ، عَنْ كَعْبِ، عن أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا صَلّيْتُمّ عَليَّ، فاسْألُوا اللهَ ليَ الْوَسيلَةَ " قيل: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال:"أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو "

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة، درجة عند الله ليس فوقها درجة، فاسألوا الله أن يؤتيَني الوسيلة"

(4)

.

وقال الطَّبَرَاني: حدَّثنا أحمدُ بنُ عَلِيّ الأبَّارُ، حدّثني الوَليدُ بن عَبْدِ المَلِكِ الحَرَّانيّ، حدَّثنا موسى بنُ أعْيَنَ، عن ابن أبي ذئب، عن محمّدِ بنِ عَمْرِو بن عَطاءٍ، عن ابن عباس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا اللهَ لي الوَسيلةَ، فإنَّه لَمْ يَسْألْهَا لِي عَبْدٌ في الدُّنْيا إلَّا كُنْتُ له شَفيعًا، أوْ شَهيدًا يَوْمَ القِيامَةِ " قال الطبرانيّ: لم يَرْوه عن ابن أبي ذِئْبٍ إلّا مُوسى بنُ أعْيَن

(5)

.

(1)

رواه البخاري (614).

(2)

رواه مسلم رقم (384).

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 265) وإسناده ضعيف، ويغني عنه الذى قبله.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 83) وإسناده ضعيف، ويغني عنه حديثّ مسلم الذي قبله.

(5)

رواه الطبراني في " الأوسط " رقم (637) وهو حديث حسن.

ص: 441

‌ذكر بنيان الجنة وممَّ قصورها؟

قال أحمد: حدَّثنا أبو النَّضْر، وأبو كامِل، قالا: حدَّثنا زُهَيْرٌ، حدّثنا سَعْد

(1)

، أبو مُجَاهِد الطَّائيّ، حدّثنا أبو المُدِلّةِ، مَوْلَى أُمِّ الْمُؤْمنين: سَمع أبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قُلْنَا: يا رَسُولَ اللّهِ [إنَّا] إذَا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنا، وكُنَّا مِنْ أهْلِ الآخِرَةِ، وَإذَا فَارَقْناكَ أعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا وَشَمِمْنا النِّسَاءَ، وَالأوْلادَ، فقال:" لَوْ تَكُونُونَ -" أوْ قالَ:، لَوْ أنكمْ تَكُونُونَ- على كل حَالٍ على الْحَالِ الّتي أنْتُمْ عَلَيْها عِنْدِي لَصَافَحَتكمُ الْمَلائِكةُ بأكُفِّهِمْ، وَلَزَارَتْكُمْ في بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنبُوا لَجَاءَ اللّهُ بِقَوْمٍ يُذْنبُونَ كَيْ يَغْفرِ لَهُمْ " قال: قُلْنا: يا رَسُول اللّهِ، حدَّثنا عن الجنّةِ ما بِنَاؤُها؟ قال:" الجنة لَبِنةٌ من فِضَّة وَلَبِنةٌ من ذهَب، وَمِلاطها المسك [الأذفر] وَحَصْباؤها اللُّؤلُؤ وَالْيَاقُوت، وَتُرَابُها الزعْفَرَانُ، منْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمْ لا يَبْأسُ، وَيَخْلُدُ لا يمُوتُ، لا تَبْلَى ثِيابُه، ولا يَفْنَى شَبَابُه "

(2)

.

رواه التِّرْمذيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللّهِ بن نُمَيْر، عن سَعْدَانَ القُبِّيِّ، وكان ثِقَةً، عن سَعْد أبي مُجَاهِدٍ الطائيِّ، وكانَ ثِقَةً، به، وقال: حَسنٌ. ووقع توثيقُ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ في رواية ابن ماجه، وهما من رجال البُخاريّ

(3)

.

وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدَّثنا محمَّد بن المُثنَّى البَزارُ، حدَّثنا مُحمّدُ بن زياد الكَلْبيّ، حدّثنا بشر

(4)

بنُ حُسَيْنٍ، عن سَعيدِ بن أبي عَرُوبةَ، عن قَتادةَ، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ [لَبِنَة] مِنْ دُرَّةٍ بَيْضاءَ، وَلَبنة منْ ياقُوتَة حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةٌ منْ زبرجدة خَضْراء، مِلاطُها المِسْكُ، وحَصْباؤُها اللُّؤلُؤ، وَحَشيشُها الزَّعْفَرانُ، ثم قال لها: انْطقي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقال الله تعالى: وَعِزَّتي وَجَلالي لا يُجاورني فيك بَخِيلٌ " ثم تَلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]

(5)

.

وقال أبو بَكْر بن مَرْدويه: حدَّثنا عَبْد اللّهِ بنُ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهيم، حدّثنا القاسم بْنُ المُغيرَةِ الجَوْهرِيّ، حدّثنا عُثْمَانُ بنُ سَعيدٍ المُرِّي

(6)

، حدّثنا على بنُ صَالِحٍ، عن أبي رَبيعَةَ، يعني عمر

(7)

بن

(1)

في الأصول: سعيد.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 304) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

الحديث الذي ذكره المصنف بهذا السند، هو حديث: "ثلاثة لا ترد دعوتهم

" في الترمذي رقم (3598) وابن ماجه (1752) وليس فيه موضع الشاهد.

(4)

في الأصول: يعيش، وهو خطأ.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(20) وإسناده ضعيف.

(6)

في الأصول: المدني، وهو خطأ.

(7)

في الأصول: عمرو، وهو خطأ.

ص: 442

ربيعَةَ، عنِ الْحَسَن، عن ابن عُمر، قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَنّةِ، فقالَ:" منْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يَحْيا ولا يَمُوتُ، وَينْعَمُ لا يَبْأس، لا تَبْلَى ثيابُهُ، ولا يَفْنى شَبَابُهُ " قِيلَ: يا رسولَ الله، كَيْفَ بِنَاؤُهَا؟ قال:" لَبِنة منْ ذَهَبٍ، وَلبنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، ومِلاطُها مِسْك أذْفرُ، وَحَصْباؤُهَا اللُّؤلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزعْفَرانُ "

(1)

.

وقال البزّار: حدّثنا بِشْرُ بنُ آدَمَ، حدّثنا يُونُس بنُ عُبَيْدِ اللّهِ العُمَيْريّ

(2)

، حدّثنا عَديُّ بنُ الفَضْلِ، حدَّثنا الجُرَيْريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سَعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:" خَلَقَ اللّهُ الجَنَّةَ لَبِنةً منْ ذَهَبٍ، وَلَبِنةً منْ فِضَّةٍ، وَمِلاطُها المِسْكُ، فقالَ لها: تَكَلَّمي، فقالتْ: {قَدْ أَفلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقالتْ لَها المَلائكَةُ: طَوبَاكِ مَنزلَ الْمُلُوكِ ".

وقد رواه البيْهَقيّ، وعنده:" فقالَ اللّهُ: طُوبَى لكِ مَنْزِلَ الْمُلُوكِ ". وقد رواه وُهَيْب عنِ الجُرَيْريّ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ مَرْفُوعًا

(3)

.

وفي حديث داود بن أبي هِنْدٍ، عن أنسٍ مَرْفُوعًا: " إن اللهَ بَنى الفِرْدَوْسَ بيَدِه، وَحَظرها على كلِّ مُشْركٍ، وَعلى كلِّ مُدمنِ خَمْرٍ سِكِّير

(4)

"

(5)

.

وقال أبو بَكْرِ بنُ أبي شَيْبَةَ: حدّثنا مُعاويةُ بنُ هِشَامٍ، حدَّثنا عليٍّ بنُ صالح

(6)

، عنْ عُمَر بنِ رَبيعة، عنِ الحَسَنِ، عن ابْنِ عُمر، قال: قيل: يا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ بِنَاءُ الْجنَّةِ؟ قال: " لَبِنةٌ منْ فِضّةٍ، وَلَبِنة منْ ذَهَبٍ، مِلاطُها مِسْكٌ أذْفَرُ، وَحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ وَاليَاقُوتُ، وَتُرابُها الزعْفرانُ "

(7)

.

وقال الطبرانيّ: قال أحْمَدُ بنُ خُلَيد: حدَّثنا أبو الْيَمَانِ، الْحَكمُ بنُ نافعٍ، حدّثنا صَفْوانُ بنُ عَمْرٍو، عنْ مُهاجِر بن مَيْمُون، عنْ فاطِمَةَ بنت رسول الله أنها قَالَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أيْنَ أُمُّنَا خَديجةُ؟ قال: " في بيت مِنْ قَصَبٍ لا لَغْوٌ فيهِ ولا نَصَبٌ، بَيْنَ مَرْيَمَ بنت عمران، وَآسيةَ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ " قَالَتْ: أمِنْ هَذَا القَصَب؟ قال: " لا " من القَصَبِ المَنْظُومِ بالدُرّ، وَاللُّؤلُؤ، وَالْيَاقُوتِ ".

قالَ الطّبَراني: لا يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ إلَّا بهَذَا الإسْنادِ، تَفَرَّدَ بهِ صَفْوانُ بنُ عَمْرٍو. قلت: وَهُوَ حَديثٌ غَريبٌ، ولأوَّلِهِ شَاهِد في الصَّحِيح:" إنَّ اللّهَ أمَرني انْ أُبَشَرَ خَدِيجةَ بِبَيْتٍ في الْجَنَّةِ منْ قَصَبٍ، لا صَخَب فِيه، ولا نَصَب "

(8)

.

(1)

وإسناده ضعيف، وله شواهد يقوى بها.

(2)

في الأصول: العمري، والتصحيح من كتب الرجال.

(3)

رواه البزار (3508 - كشف الأستار) والبيهقي في " البعث والنشور "(236) وإسناده ضعيف.

(4)

في الفاسية: متكبِّر.

(5)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(233) وإسناده ضعيف.

(6)

في الأصول: علي بن عاصم، والتصحيح من كتب الرجال.

(7)

رواه ابن أبىٍ شيبة في المصنف (13/ 15802) وإسناده ضعيف، وله شواهد يقوى بها.

(8)

رواه الطبراني في " الأوسط "(443) وشاهده رواه مسلم رقم (2432) من حديث أبي هريرة و (2433) من =

ص: 443

قالَ بعضُ العُلَماء: إنّما كانَ بَيْتُها منْ قَصَبِ اللُّؤلُؤ، لأنَّهَا حَازَتْ قَصَب السَّبْقِ في التَّصْديقِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم حينَ بَعَثَهُ اللهُ عز وجل، كما يَدُلُّ عَلَيْهِ حَديثُ أوَّلِ البِعْثَةِ: أنَّها أوَّلُ منْ آمنَ، حَيْثُ قَالتْ لَمَّا أخْبَرها بما رَأَى، [وقال:" لَقَدْ خَشِيْتُ على نفسي "]، قالَتْ: كلَّا واللّهِ لا يُخْزيكَ اللهُ أبدًا، إنَّكَ لتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصَدُقُ الْحديثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعينُ على نَوائب الدَّهْر

(1)

.

وأمَّا ذِكْرُ مَرْيَمَ، وَآسِيَةَ، في هَذَا الْحَديثِ، فَفيهِ إشْعارٌ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتزوَّجُ بهمَا في الدَّارِ الآخِرَةِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أنْ يَاخُدَّ ذلك منَ القُرْآنِ، منْ قَوْلهِ [تَعَالى] في سُورَةِ التَّحْريم:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5]، ثمَّ ذُكِرَتْ آسيَةُ ومَرْيمُ في آخِرِ السُّورَة.

يُرْوى مِثْلُ هَذا عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ، أوْ غَيْرِه منَ السَّلفِ، واللّهُ أعْلمُ.

وقال أبو بكر بن أبي داود: حدّثنا عليّ بنُ المُنْذِرِ الطَّريقيّ

(2)

، حدّثنا ابنُ فُضَيْلٍ، حدّثنا عبد الرحمن بنُ إسْحَاقَ، عن النُّعْمانِ بنِ سَعْدٍ، عنْ عَليّ بن أبي طالبٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ في الجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى ظُهُورها منْ بُطُونها، وبُطونُها منْ ظُهورهَا" فقام أعرابيٌّ، فقال: يا رسول اللهِ، لِمَنْ هيَ؟ فقال:" لمن طَيَّبَ الكلامَ، وأطْعَمَ الطّعَامَ، وَأدَامَ الصيامَ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نيَامٌ ". ورواه الترمذيّ عن عليّ بن حُجْر، عن عليّ بن مُسْهِرٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمن بن إسحاق، وقال: غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلَّا منْ حَدِيثه

(3)

.

وروى الطبرانيُّ منْ حَديث الوليدِ بن مُسْلِمٍ، حدَّثنا مُعَاوية بنُ سَلَّام، عن زَيْدِ بنِ سَلَّامٍ، حدّثني أبو سَلَّام، حدّثني أبو مُعانِق الأشْعريّ، حدّثني أبو مالِك الأشْعَريّ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرى ظاهِرُها منْ باطِنها، وباطِنُها منْ ظاهرِها، أعدَّها اللّهُ لِمَنْ أطْعَمَ الطَّعَامَ، وأدَام الصِّيَامَ، وَصَلّى باللّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ "

(4)

.

وروى الطبراني أيضًا منْ حَديثِ ابن وَهْبٍ، حدّثني حُيَيَّ، عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَن، عن عَبْدِ اللّهِ بن عَمْرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:" إنَّ في الجنَةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها منْ بَاطِنها، وَبَاطنُها منْ ظاهِرهَا " قال أبو مَالِك الأشْعريّ: لِمَنْ هيَ يا رَسُولَ اللّهِ؟ قال: " لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وَأطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائمًا وَالناسُ نِيَامٌ ". قالَ الحافِظُ الضِّيَاءُ: هَذا عِنْدي إسْنادٌ حَسَنٌ.

= حديث ابن أبي أوفى.

(1)

رواه البخاري (3) ومسلم (160).

(2)

في الأصول: الطرائفي، وهو خطأ.

(3)

رواه أبو بكر بن أبي داود في " البعث والنشور "(74) والترمذي (2527) وهو حديث حسن.

(4)

رواه الطبراني في " الكبير "(3467) وهو حديث حسن.

ص: 444

قلت: وقد رواه الإمامُ أحمدُ عنِ الْحَسَنِ، عن ابْنِ لَهيعَةَ، حدّثني حُيَيّ بنُ عَبْدِ اللهِ المعافريُّ،

، فدَّكَرَ بإسْنادِهِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أنَّهُ قالَ: فقالَ أبُو مُوسى الأشْعَريّ: لِمَنْ هيَ يا رسول الله؟

فذكره، والله أعلم

(1)

.

وَقَدْ وَرَدَ في بَعْضِ الأحَادِيثِ أن القَصْرَ يَكُونُ منْ لُؤلُؤةٍ وَاحِدةٍ، أبْوَابُهُ، وَمَصَارِيعُهُ، وسُقفُهُ

(2)

.

وفي حَديثٍ آخَر: أنَّ بَعْضَ سُقوف الجَنَّةِ نُورٌ يَتَلألأُ كَالْبَرْقِ اللامِع، لَوْلا أنَّ اللّهَ ثَبَّتَ أبْصَارَهُمْ لأوشَكَ أنْ يَخْطَفَها

(3)

.

وقال البَيْهقيّ: حدّثنا أبو الحُسَيْنِ بنُ بشْرَانَ، حدّثنا أبو عَمرو عُثمانُ ينُ أحمد المَعْرُوف بابن السَّمَّاك، حدّثنا عَبْدُ الرَّحمن بنُ مُحمد

(4)

بن منصور، حدّثنا أبي، حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمن بنُ عَبْد الْمُؤمنِ، سَمِعْتُ مُحمد بن وَاسِع يذكر، [عن الحسن]، عنْ جَابِر بن عَبْدِ الله قال: قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُحَدِّثُكم بِغُرَفِ الجنَّةِ؟ " قال: قُلْنا: بَلى يا رسول اللّهِ، بِأبِينا أنْتَ وَأُمِّنَا، قال:" إنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا منْ أصْنافِ الجَوْهرِ كُلِّهِ، يُرَى ظاهرُها منْ باطِنها، وبَاطِنها منْ ظاهِرِهَا، فيها منَ النَّعيمِ وَاللّذاتِ والشّرَفِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ " قال: قُلْتُ: يا رسول اللّهِ، وَلمنْ هَذِهِ الغُرَفُ؟ قال:" لِمَنْ أفْشَى السَّلامَ، وأطْعَمَ الطعَامَ، وأدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلّى باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ " قال: قُلْنا: يا رسولَ الله، ومنْ يُطيقُ ذلك؟ قال:" أُمَّتي تُطيقُ ذلك، وَسأُخْبرُكُم عَنْ ذلك: منْ لَقيَ أخَاهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، أوْ رَدّ عَلَيْهِ، فَقَدْ أفْشَى السّلام، ومنْ أطْعَمَ أهْلَهُ وَعِيَالَهُ حتَّى يُشْبِعَهُمْ فَقَدْ أطْعَمَ الطَّعَامَ، ومنْ صَامَ رمَضان ومنْ كلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فَقَدْ أدَامَ الصِّيامَ، ومنْ صَلّى العِشَاءَ الآخِرَةَ، وَصَلَّى الغَدَاةَ في جَماعَةٍ، فقدْ صَلّى باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، اليهُودُ، وَالنَّصارى، والمَجُوسُ "، ثم قال البيْهَقيّ: وهَذا الإسْنادُ غَيْرُ قَويٍّ، إلَّا أنّهُ بالإسْنادَيْنِ الأوَّلَيْنِ يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضًا. واللّه أعلم. قال: وقد رُوي بإسنادٍ آخَرَ عَنْ جَابرٍ

(5)

. ثم أورد من طريق عليّ بن حَرْب، عن حَفْص بن [عمر، عن] عَمْرو بن قَيْسٍ المُلائيِّ، عن عَطاء، عن ابن عباس مرفوعًا، بنحوه

(6)

.

وروى البَيْهقيُّ منْ حَديثِ جَسْر

(7)

بن فَرْقَدٍ، عن الحَسَنِ البَصَريّ، عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ،

(1)

رواه الطبراني في الكبير (13/ 103) وأحمد في المسند (2/ 173) وهو حديث حسن.

(2)

روى بعضه: البخاري (4879) ومسلم (2838).

(3)

رواه ابن أبي شيبة (13/ 15851) وفي إسناده ضعف.

(4)

في الأصول: حدّثنا عبد الرحمن، أبو محمد، وهو خطأ.

(5)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(279).

(6)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(280).

(7)

في الأصل: جعفر، وهو خطأ.

ص: 445

وأبي هريرة، قالا: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ هذه الآيَةِ: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12] قال: " قَصْرٌ من لُؤلؤةٍ، في ذلك الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا منْ يَاقوتَةٍ حمراء، في كل دارٍ سبْعُونَ بَيْتًا منْ زُمُرّدةٍ خَضْراءَ، في كل بَيْتٍ سَبْعون سَريرًا، على كل سَريرٍ سبْعُونَ فِرَاشًا منْ كلِّ لوْنِ، على كل فِرَاشٍ زَوْجةٌ منَ الحُورِ الْعِينِ، في كلِّ بَيْت سبْعُونَ مائِدَة، على كل مائِدَةٍ سبْعُونَ لَوْنًا منَ الطّعَامِ، في كلِّ بَيْتٍ سبْعُونَ وصيفًا ووصيفَةً، ويُعْطَى المُؤْمنُ في كلِّ غَدَاةٍ منَ القُوَّة ما يَأتي على ذلك كُلَّه أجْمَعَ".

قُلْتُ: وهذا الْحَديثُ غَريبٌ، بلْ الأشْبَهُ أنّهُ مَوْضُوع، وإذا كانَ الخَبرُ ضَعيفًا لا يُمْكنُ اتصاله، فإن جَسْرًا هذا ضعيف جدًا، والله سبحانه أعلم

(1)

.

وقال ابنُ وَهْبٍ: حدّثنا عَبْدُ الرحمن بنُ زَيْدِ بن أسْلَمَ، عنْ أبِيهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّهُ لَيُجاءُ للرَّجُلِ الوَاحِدِ بالْقَصْرِ منَ اللُّؤلؤةِ الْوَاحِدةِ، في ذلك القَصْرِ سبعُونَ غُرْفة، في كل غُرْفَةٍ زوْجةٌ منَ الحُورِ الْعِينِ، في كل غُرْفةٍ سبْعُونَ بابًا، يَدْخُلُ عَليْهِ منْ كل بَاب رَائحَة منْ رَائحَةِ الجَنَّةِ، سِوَى الرَّائحةِ التي تَدْخُلُ عَلَيْهِ منَ البَابِ الآخَر" ثمَّ تلا: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}

(2)

[السجدة: 17].

وذكَر القرْطبي من طريق أبي هُدْبةَ، إبْرَاهيم بن هُدْبَة، وهُو ذُو نسْخةٍ مَكْذُوبةٍ، عن أنس بن مالك مَرْفوعًا:" إنَّ في الجَنَّةِ غُرفًا لَيسَ فيها مَعَاليق منْ فَوْقِها، ولا عِمادٌ منْ تَحْتِها " قيلَ: يا رسولَ اللهِ، وكَيْفَ يَدْخُلُها أهْلُهَا؟ قالَ:"يَدْخُلونَها أشْبَاهَ الطَّيْرِ" قِيلَ: يا رسول اللّهِ، لِمَنْ هيَ؟ قالَ:" لأهْلِ الأسْقَامِ، وَالأوْجاعِ، وَالْبَلْوى "

(3)

.

‌ذكر الخيام في الجنة

قال اللّهُ تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 72 و 73].

وثبت في " الصحيحين " -واللفظُ لمسلم- من حديث أبي عِمْران الْجَوْنيّ، عن أبي بكر بن

(1)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(281).

(2)

وهو مرسل ضعيف.

(3)

أبو هدبة إبراهيم بن هدبة، قال الحافظ في " يزان الاعتدال " (1/ 71): حدَّث ببغداد وغيرها بالأباطيل، وقد نظم السِّلَفيُّ أسماء الكذابين الوضاعين على رسول الِلّه صلى الله عليه وسلم فقال:

حديثُ ابنِ نُسْطورٍ ويُسْرِ وَيَغْنمٍ

وإفْكِ أشجَّ الغَرب ثم خِراشِ

ونُسْخةُ دينار ونُسخةُ تِرْبهِ

أبي هُدْبَةَ القَيْسىِّ شبْهُ فَراشِ

وزاد الوادي آشي بيتًا ثالثًا فقال:

رَتَنٌ ثامن والماردينيْ تاسعٌ

ربيعُ بن محمود وذلك فاشي

ص: 446

أبي مُوسى [الأشعريّ]، عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إن للْمُؤْمنِ في الجَنَّةِ لَخَيْمة منْ لُؤلُؤةٍ وَاحدةٍ مُجوَّفةٍ، طُولُها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلُوْنَ يَطُوفُ عَلَيْهم المُؤمِنُ، فلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا "، وفي روايةٍ للْبُخاريّ:" ثَلاثونَ مِيلًا " وصُحِّحَ: ستُونَ ميلًا

(1)

.

وقال أبو بكْرِ بنُ أبي الدُّنْيَا: حدّثنا محمَّد بن جعفر

(2)

، حدّثنا منصور، حدّثنا يُوسف بنُ الصبّاِح، عن أبي صَالحٍ، عن ابن عبَّاسٍ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] قال: الْخَيْمةُ منْ دُرَّةٍ مُجَوَّفةٍ طُولُها فَرْسخٌ وعَرْضُها فَرْسخٌ، ولَها ألْفُ بابٍ منْ ذَهبٍ، حوله سُرَادق دَوْرُه خَمْسُونَ فَرْسخًا، يَدْخُلُ عَلَيْه منْ كل بَاب مَلَكٌ بِهَديَّةٍ منْ عِنْدِ رَبِّهِ عز وجل، وذَلِكَ قولُه تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]

(3)

.

وقال ابنُ المُبَارك: حدَّثنا هَمَّامٌ، [عن قتادة]، عنْ عِكْرِمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: الخَيْمةُ دُرَّةٌ مُجوَّفَةٌ، فَرْسخٌ في فَرْسخٍ، لَها أرْبَعةُ آلافِ مِصْراعٍ منْ ذَهَبٍ

(4)

.

وقال قَتَادة، عن خُلَيْدِ العَصريّ، عنْ أبي الدَّرْدَاء، قال: الْخَيْمةُ لُؤلُؤةٌ وَاحِدَةٌ، لَها سَبْعُونَ بَابًا كُلُّها منْ دُرٍّ

(5)

.

‌ذكر تربة الجنة

ثبت في " الصحيحين " من حديث الزهريّ، عن أنس بن مالك، عن أبي ذرٍ في حديث المِعْراج، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فإذا فيها جَنَابذُ

(6)

اللُّؤلُؤِ، وإذا تُرابُهَا المِسْكُ "

(7)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا حَمَّادٌ، حدّثنا الْجُرَيْري، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: سَألَ ابْنَ صَائدٍ عنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، فقال: دَرْمكةٌ بَيْضاءُ، مِسْكٌ خَالصٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَ ". هكذا رواه الإمام أحمد.

ورواه مسلم، من حديث أبي مسلمة، عن أبي نَضْرَةَ، بنحوه، وقد رواه مسلم أيضًا، عن

(1)

رواه البخاري (4879) و (3243) ومسلم (2838).

(2)

في الأصول: محمد بن حفص، وهو خطأ.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(332) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه عبد الله بن المبارك في الزهد (249 - زوائد نعيم).

(5)

رواه عبد الله بن المبارك في الزهد (250 - زوائد نعيم).

(6)

الجنابذ: جمع جُنبذة، وهي القُبة.

(7)

رواه البخاري (3342) ومسلم (163).

ص: 447

أبي بَكْر بن أبي شَيْبَةَ، عن أبي أُسامة

(1)

، عن الجُرَيْريّ، عنْ أبي نضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ: أن ابْنَ صَائدٍ سَألَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تُرْبةِ الجَنَّةِ فقال:" دَرْمَكةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ "

(2)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عليّ بنُ عَبْد اللّهِ، حدَّثنا سُفْيَانُ، عنْ مُجَالِدٍ، عن الشَعْبيِّ، عَنْ جَابر بن عَبْدِ اللهِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: "إني سَائِلُهُمْ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، وَهيَ دَرْمكةٌ بَيْضَاءُ " فَسَألَهُمْ، فَقَالُوا: هِيَ خُبْزةٌ يا أبا القَاسم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"الخُبْزةُ منَ الدَّرْمَكِ "

(3)

.

وتقدم في حديث أبي هُرَيْرَةَ وَابْن عُمَر، وغَيرهما في بنيان الجَنَّةِ أنَّ مِلاطَها المِسْكُ، وَحَصْباءَها اللُّؤلؤ، والْيَاقُوتُ، وَتُرَابَها الزَّعْفَران

(4)

.

والمِلاطُ في اللُّغَة: عِبَارةٌ عنِ الطِّينِ الَّذِي يُجْعلُ بَيْن الحَجَرَيْن بين سافي

(5)

البناء، يُمْلطُ بهِ الحَائطُ، ولعلَّ بَعْضَ بِقَاعها مِسْك، وَبَعْضَها زعفران، طرائق طرائق.

وهي مع هَذِهِ العَظَمةِ وَالاتِّساعِ [كلها كذلك، والله سبحانه أعلم].

[و] قدْ تقَدَّمَ في "صحيح البُخَاريّ "، عن أنسٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" وَلَقَابُ قَوْسِ أحَدِكم، أوْ مَوْضِعُ قَدَمِهِ [من الجنة] خيْر منَ الدُّنْيا وما فيهَا "

(6)

.

وقال أحمد: حدَّثنا عَبْدُ الرزَّاق، حدَّثنا مَعْمرٌ، حدّثنا هَمَّامٌ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَقِيدُ سَوْطِ أحَدِكم منَ الجَنّةِ خَيْرٌ ممَّا بينَ السَّمَاء وَالأرْضِ ". إسناده على شرط الشيخين

(7)

.

وقال ابنُ وَهْبٍ: حدَّثنا عَمْرو بن الحَارِثِ: أنَّ سليمان بن حميد حدَّثه: أن عامر بن سعد بن أبي وَقاص -قال سليمان: لا أعْلمُ إلَا أنَّهُ- حدّثني، عنْ أبيهِ، عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:" لَوْ أنَّ ما أقَلَّ ظُفُرٌ منَ الجَنَّةِ بَرَزَ إلى الدُّنْيا لَتزَخَرَفَ لَهُ ما بَيْنَ السَّمَاءَ وَالأرْضِ"

(8)

.

(1)

في (آ): عن أبي أمامة، وهو تصحيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 4) ومسلم (2928).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 361) وفي سنده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، ولكن يشهد لآخره الذي قبله.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 304) من حديث أبي هريرة، ورواه ابن أبي شيبة في " المصنف "(13/ 15802) من حديث ابن عمر، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(5)

الساف في البناء، كل صف من اللَّبِنِ.

(6)

رواه البخاري (6567).

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 315) ومعمر في " جامعه " الملحق بمصنف عبد الرزاق (20885).

(8)

ورواه الترمذي رقم (2538) من طريق عامر بن سعد به، وهو حديث حسن.

ص: 448

‌ذكر أنهار الجنَّة وأشجارها وثمارها

قال الله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البينة: 8] وقال: {مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الكهف: 31] وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15] وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35].

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يَزيدُ بنُ هارُونَ، أنبأنا الجُرَيْريّ، عن حَكيمِ بنِ مُعاوية أبي بَهْزٍ، عن أبيه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" في الجنَّةِ بَحْرُ اللَّبنِ، وبَحْرُ الْمَاء، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثمَّ تَشَقَّقُ الأنْهارُ منْها بَعدُ ".

ورواه التِّرْمذيّ، عن بُنْدار، عنْ يَزيدَ بنِ هَارُونَ، به، وقال: حسن صحيح. ورواه ابن أبي الدنيا، عن أبي خيثمة، عن يزيد بن هارون، به

(1)

.

وقال أبو بكر بن مَرْدويه: حدّثنا أحمدُ بنُ مُحمّد بن عاصم، حدَّثنا عَبْدُ اللّهِ بنُ محمد بن النُعْمَانِ، حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهيمَ، حدّثنا الْحَارِثُ بنُ عُبيْدٍ أبو قُدَامةَ الإياديُّ، حدّثنا أبو عِمْرَانَ الجَوْني، عن أبي بَكْرِ بنِ عَبْدِ اللّهِ بنِ قَيْسٍ، عن أبيه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ الأنْهَارُ تَشْخُبُ في جنَةِ عَدْنٍ، في جَوبةٍ

(2)

ثم تَصَدَّعُ بعْدُ أنهارًا "

(3)

.

وقال ابنُ مَرْدويه: حدّثنا مُحمَّدُ بنُ أحمد، حدّثنا محمد بنُ أحمد بن أبي [محمد] يحْيَى، حدّثنا مَهْديّ بنُ حَكيم، حدّثنا يَزيدُ بن هَارُونَ، أخبرني الجُرَيْريّ، عن مُعَاويةَ بنِ قرَّةَ، عنْ أنس بنِ مَالكٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَعَلَّكُمْ تَظُنُونَ أنّ أنْهَارَ الْجنَّةِ أُخدُود في الأرْضِ، لا واللهِ، إنَّهَا لسائِحةٌ على وَجْهِ الأرْضِ، حَافَتاهَا قِبَابُ اللُّؤلُؤ، وَطِينُها المِسْكُ الأذْفَرُ "، قِيلَ: يا رسول الله، وما الأذْفَرُ؟ قالَ:" الّذي لا خِلْطَ لَهُ ".

وقد رواه ابنُ أبي الدُّنْيا، عنْ يَعْقُوبَ بن عُبَيْدٍ، عن يزيدَ بن هارُونَ، به مَوْقوفًا

(4)

.

وروى البَيْهقيُّ، [عن الحاكم، وغيره، عن الأصمّ، عن الرَّبيع بن سُلَيْمانَ]، عن أسَد بن

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 5) والترمذي رقم (2566) وابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(83) وهو حديث حسن.

(2)

الجَوبة: الحفرة المستديرة الواسعة.

(3)

ورواه أحمد في المسند (4/ 416) من طريق الحارث بن عبيد، وإسناده ضعيف.

(4)

رواه ابن مردويه مرفوعًا، وابن أبي الدنيا موقوفًا في " صفة الجنة، (69) وهو في حكم المرفوع، وكل منهما صحيح، ولا يعل بالموقوف، لأنه في حكم المرفوع.

ص: 449

مُوسى، عن ابنِ ثَوْبَانَ، عن عَطاء بن قُرَّةَ

(1)

، عنْ عَبْدِ اللهِ بن ضَمْرَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ سَرَّهُ أنْ يَسْقيه اللهُ الْخَمْر في الآخِرَةِ فَلْيَتْرُكْهَا في الدُّنْيا، ومن سرَّه أن يكسوَه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا، أنْهارُ الْجَنَّة تَفَجَّرُ منْ تَحْتِ تِلال، أوْ جِبَالِ المِسْكِ، وَلَوْ كانَ أدْنى أهْل الجَنَّةِ حلْيةً عُدِلَتْ بحْلِيَةَ أهْلِ الدُّنيا جميعًا لكان ما يحلَّيه الله عز وجل في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعًا".

ورَوى منْ طَريق أبي مُعَاوَيةَ، عن الأعْمشِ، عن عَمْرو بن مُرَّةَ، عنْ مَسْرُوقٍ، عنْ عَبْدِ اللهِ، قال: أنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ منْ جَبَلِ مِسْكٍ. قُلْتُ: وَهذا المَوْقوفُ أصحُّ

(2)

.

‌صفة الكوثر، وهو أشهر أنهار الجنة [سقانا الله منه بمنه وكرمه]

قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3].

وثَبتَ في "صَحيح مُسْلم" من حَدِيث محمَّد بن فضَيْل، وَعَليّ بن مُسْهِر، كِلاهُما عنِ المُخْتارِ بنِ فُلْفُلٍ، عن أنَسٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنزلتْ عَلَيْهِ هَذِهِ [السُّورَة] قال: " أتَدْرُونَ ما الكَوْثرُ؟ " قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال:" هُوَ نَهْرٌ وَعَدنيه رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثيرٌ "

(3)

.

وفي " الصحيحين " من حديث شيبان، عن قَتادةَ، عن أنس، في حَدِيثِ المِعْرَاج، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أَتَيْتُ على نَهْرٍ حَافَتَاهُ قِبابُ اللؤلؤ المُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هَذَا الكَوثرُ الّذي أعْطَاكهُ اللهُ عز وجل ".

ورواه أحمد، عن ابن أبي عدِيّ، عن حُمَيْدٍ، عن أنس، به، وفي روايةٍ:" فَضَرَبْتُ بيَدي إلى ما يَجْري فيهِ المَاءُ، فإذا مِسْكٌ أذْفَرُ "

(4)

.

ولهذا الْحَديث طرقٌ كَثيرة، عن أنس، وغيره من الصحابة، وَألْفاظٌ مُتَعدّدةٌ.

فقال أحمدُ: حدَّثنا محمد بنُ فُضَيْل، عن المُخْتارِ بنِ فُلْفلٍ، عنْ أنَسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

في (آ): مرة، وهو خطأ.

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(292) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، و (293) من حديث ابن مسعود موقوفًا، وهو حديث حسن.

(3)

رواه مسلم رقم (400).

(4)

رواه البخاري (4964) وأحمد في المسند (3/ 103) وليس عند مسلم.

ص: 450

قال: " الْكَوْثرُ نَهْرٌ في الْجَنَّةِ يجري على وجه الأرض وَعَدَنيهِ رَبِّي عز وجل "

(1)

.

ورواه مسلم، عن أبي كُرَيب، عن ابن فُضَيْل، به

(2)

.

قال أحمد: حدّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ، حدّثنا حمَّاد، عن ثَابتٍ، عن أنس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أُعْطيتُ الْكَوْثَر، فإذا هُوَ نَهْرٌ يَجْري على وَجْهِ الأرْض، حَافَتَاهُ قِبابُ اللُّؤلؤِ، لَيْسَ مَشقُوقًا، فَضَرَبْتُ بِيَدي إلى تُرْبَتِهِ، فإذا مِسْكةٌ ذَفِرَةٌ، وَإذا حَصْباؤُهُ اللُّؤلؤ"

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ الهَاشميّ، أخبرنا إبراهيمُ بن سَعْدِ، حدّثنا محمَّد بنُ عَبْدِ الله بن مُسْلِمٍ

(4)

ابنِ أخي ابنِ شِهَابٍ، عنْ أبيهِ، عن أنس بن مالِك، قال: سُئلَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: عنِ الكَوْثَرِ، فقالَ: " هُوَ نَهْرٌ أعْطَانيهِ الله في الْجَنَّةِ، تُرَابُه مِسْكٌ، مَاؤُهُ أبْيَضُ منَ اللَّبَنِ وَأحْلَى منَ العَسَل، تَرِدُهُ طَيْرٌ أعْنَاقُها مِثْلُ أعْنَاقِ الجُزُرِ

(5)

قال: فقال أبو بَكْرٍ: يا رسول الله، إنَّها لنَاعِمَةٌ فقال: "آكِلُها أنْعَمُ منْها

(6)

".

وقال الْحَاكِمُ: أنبأنا الأصَمُّ، حدّثنا إبراهيم بنُ مُنْقِذٍ، حدَّثنا إدْريسُ بنُ يَحْيَى، حدّثني الفضل بن المُخْتارِ، عنْ عُبَيْدِ اللّه بنِ مَوْهَب، عنْ عِصْمةَ بنِ مَالِكٍ الْخَطميِّ، عن حُذَيْفَةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الْجنَّةِ طَيْرًا أمْثَال البَخاتيّ

(7)

" فقال أبو بَكْرٍ: إنَّهَا لَناعِمةٌ يا رسولَ الله، قال: " أنْعَم منْهَا من يأكلها، وأنْتَ ممَّنْ يأكُلُها يا أبا بَكْرٍ ".

ثمَّ رواه من طريق سعيدِ بن أبي عَرُوبةَ، عنْ قَتَادَةَ مُرْسلًا

(8)

.

وقال الإمام أحمدُ أيضًا: حدّثنا أبو سَلَمةَ الخُزَاعيّ، حدَّثنا لَيْثٌ، عنْ يَزِيدَ، يَعْني ابْنَ الْهَاد، عنْ عَبْدِ الوَهَّابِ بن أبي بَكْرٍ، عنْ عَبْد اللّهِ بن مُسلِمٍ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ، عنْ أنس بنِ مالِك: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عَنِ الكَوْثَرِ، فقال:" نَهْرٌ أعْطانيهِ رَبّي عز وجل، أشدُّ بَيَاضًا منَ اللّبنِ، وأحْلَى منَ الْعَسَلِ، وفيهِ طَيْرٌ كأعْناقِ الجُزُرِ " فقالَ عُمَر: يا رسول الله، إن تِلْكَ [الطَّيْرَ] نَاعِمةٌ، فقال:" آكلها أنْعَمُ منْها يا عُمَر ".

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 102).

(2)

رواه مسلم رقم (400).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 152) وإسناده صحيح.

(4)

في الأصول: " عبد الله بن شهاب ".

(5)

جمع جزور، وهو البعير.

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 236) وإسناده حسن، وهو حديث صحيح.

(7)

البخاتي، جمع بختية، وهي الناقة طويلة العنق.

(8)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(354) عن الحاكم موصولًا و (355) مرسلًا، وهو حديث ضعيف.

ص: 451

وكذلك رواه الدّرَاوَرْديّ، عن ابن أخي ابن شهَابٍ، عن أبيه، عن أنسٍ، به

(1)

.

‌رواية ابن عمر رضي الله عنهما

قال أحمد: حدَّثنا عَليُّ بن حَفْصٍ، أخْبَرَنا وَرْقَاءُ، قال: وقال عَطاءٌ، عنْ مُحارِب بن دِثَارٍ، عنِ ابْن عُمَر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " الْكَوْثرُ نَهْرٌ في الْجَنَّةِ، حَافَتاهُ منْ ذَهَبٍ، وَالْمَاءُ يَجْري على اللُّؤلؤِ، مَاؤُهُ أشدُّ بَيَاضًا منَ اللَّبنِ، وأحْلَى منَ العَسَل ". وقد رواه إسماعيل بن علية ومحمد بن فُضيل، عن عطاء بن السائب، عن محارب، عن ابن عمر مرفوعًا:" الكوثر نهر في الجنة، حافتاه الذهب، مَجراه على الدُّرِّ والياقوت، تربته أطيب من [المسك]، وأشدُّ بياضًا من الثلج". وفي رواية: " أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد ". ورواه التِّرْمذيّ وابنُ مَاجَهْ، منْ حَديث محمّد بن فُضَيْل، وقال التِّرْمذيّ: حَسَنٌ صحيحٌ

(2)

.

‌رواية ابن عباس رضي الله عنهما

قال البُخاريّ: حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبراهيمَ، حدَّثنا هُشَيْمٌ، حدَّثنا أبو بِشْر، عنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاس: أنَّهُ قالَ في الْكَوْثَرِ: هُوَ الخَيْرُ الكثير الّذي أعْطاهُ اللّهُ إيَّاهُ، قال أبو بِشْرٍ: قُلتُ لِسَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: إنَّ ناسًا يَزْعمُونَ أنَّهُ نَهْرٌ في الجَنَّةِ، فقالَ سَعيدٌ: النَّهْرُ الَّذي في الْجنَّةِ منَ الخَيْرِ الّذي أعْطاهُ اللهُ إيَّاهُ

(3)

.

وقدْ رَوَى ابنُ جَرير، عنْ أبي كُرَيْبٍ، حدَّثنا عُمَرُ بنُ عُبَيْدٍ، عن عَطاءً، عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنْ ابْنِ عَبَّاس، قال: الْكَوْثرُ نَهْرٌ في الْجنَّةِ، حَافَتاهُ ذَهبٌ وفِضةٌ، يَجْري على اليَاقُوتِ والدُّرِّ، ماؤه أبْيَض منَ الثلْجِ، وَأحْلَى منَ الْعَسَلِ. وكَذا رَوى العَوْفيُّ عن ابْنِ عبَّاسٍ.

‌رواية عائشة رضي الله عنها

قال البُخاريّ: حدَّثنا خَالِدُ بنُ يزيدَ الكاهليٌّ، حدّثنا إسْرَائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي عُبَيْدةَ عن عائشة رضي الله عنها قال: سَألْتُها عَنْ قَوْلهِ تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ: نَهْرٌ أُعْطيهُ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 220) والبيهقي في " البعث والنشور "(291) ورواه الترمذي (2542) من طريق ابن أخي ابن شهاب، وهو حديث حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 67) والطبري في تفسيره، والترمذي رقم (3361) وابن ماجه (4334) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

رواه البخاري رقم (4966).

ص: 452

نَبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عَلَيْهِ دُرُّ

(1)

مُجوَّف، آنيتُهُ كَعَددِ النُّجُومِ، ثم قال البُخاريّ: وقد رواه زَكَريَّا، وأبو الأحْوصِ، ومُطَرِّف، عنْ أبي إسْحَاق

(2)

.

وقال أبو نُعيم الْفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ: حدَّثنا أبُو جَعْفر الرَّازِي، حدّثنا ابْنُ أبي نَجيحٍ، عن مُجَاهدٍ:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال: الْخَيْرُ الْكَثيرُ.

وقال أنس بنُ مَالِكٍ: نَهْرٌ في الْجَنَّةِ.

وقالت عَائِشَةُ: هُوَ نَهْرٌ في الجَنَّةِ لَيْسَ أحَدٌ يُدْخِلُ إصْبَعَيْهِ في أُذُنيهِ إلا سمع خرير ذَلِكَ النَّهْر.

وروى ابنُ جَريرِ، عن أبي كُرَيْب، عنْ وَكيعٍ، عن أبي جَعْفرِ الرَّازي، عن ابن أبي نَجيح، عن عائشَة، قالتْ: منْ أحَبَّ أنْ يَسْمعَ خَريرَ الْكَوْثَر، فَلْيَجْعلْ إصْبَعَيْهِ في أذُنيْهِ. وهَذَا مُنْقطع.

وقدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَن ابْنِ أبي نَجِيح، [عن مجاهد]، عنْ رَجُلٍ، عنْهَا.

قال السُّهَيْليّ: وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيّ، منْ طريق مَالِك بنِ مِغْوَلٍ، عن الشَّعْبيّ، عنْ مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ، عنْ النَبيّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ومَعْنَى هَذا: منْ أحَبَّ أنْ يَسْمَع خَريرَ الْكَوْثر، أي نَظيرَهُ، وما يُشْبِهُهُ، لا أنَّهُ يَسْمَعُهُ بِعَيْنه، بَلْ شَبَّهَتْ دَويَّهُ كَدَويّ ما يَسْمعُ الإنسان إذا وَضَعَ إصْبَعَيْهِ في أُذُنيهِ، واللّه أعلم أي شيء أرادت.

‌ذكر نهر البيذخ في الجنة

قال الإمام أحمد: حدَّثنا بَهْزٌ، حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ الْمُغيرَةِ، عن ثَابتٍ، عن أنسٍ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تُعْجبُهُ الرُّؤيَا الْحَسَنةُ، فَرُبَّما قال:" هلْ رَأى أحَد مِنْكُم الليلة رُؤْيا؟ " قال: فإذا رَأى الرَّجُلُ رُؤْيا سأل عنْهُ، فإنْ كانَ لَيْسَ بهِ بَأسٌ كانَ أعْجَبَ لِرُؤْياهُ إلَيْهِ، قال: فَجَاءَت امْرأةٌ فَقَالَتْ: يا رسولَ اللّهِ، رَأَيْتُ كَأنِّي دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ وَجْبةً ارْتَجَّتْ لَها الجَنَّةُ، فَنَظَرْتُ، فإذَا قدْ جِيءَ بِفُلان ابنِ فُلان، وفلان ابن فلان، حتَّى عَدَّت اثنَيْ عَشَرَ رَجُلًا -وَقَدْ بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قَبْلَ ذَلِكَ- قَالَتْ: فجِيءَ بهِمْ عَلَيْهمْ ثِيَاب طُلْسٌ

(4)

تَشْخُبُ أوْدَاجُهُمْ، قالَ: فَقِيلَ: اذْهَبُوا بهِمْ إلى نَهْرِ الْبَيْذَخ أو قال: إلى نَهْرِ الْبَيْدَح، قال: فَغُمسُوا فِيهِ، فَخَرجُوا منْهُ وَجُوهُهُمْ كالقَمَر لَيْلَة الْبَدْرِ. قالت: ثمَّ أُتُوا بكَرَاسي منْ ذهَبٍ، فَقَعدُوا عَلَيْهَا، فَأُتي بِصَحْةٍ، أوْ كَلِمةً نَحْوَها، فِيهَا بُسْرةٌ، فأكَلُوا مِنْها، فَمَا

(1)

في الأصول: شاطئاه على در.

(2)

رواه البخاري (4965).

(3)

وهو حديث ضعيف.

(4)

جمع أطلس، وهو الأسود والوسخ.

ص: 453

يَقْلِبُونَها لِشِقٍّ إلَّا أكَلُوا منْ فَاكِهَةٍ ما أرادُوا، وأكَلْتُ مَعَهُمْ. قال: فَجَاءَ البَشيرُ منْ تِلكَ السَّريةِ، فقال: يا رسول الله، كانَ منْ أمْرِنا كذا وكذا، وأُصيبَ فُلانٌ وَفُلانٌ، حتَّى عَدَّ الاثْنَيْ عَشَر الّذِينَ عَدَّتْهُمُ المَرأةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عَليَّ بالمَرْأةِ " فَجَاءَتْ، فقال:" قُصِّي على هذا رُؤْياكِ " فَقَصَّتْ، فقال: هُوَ كما قَالَتْ يا رسول الله

(1)

.

‌نهر بارقٍ على باب الجنة

قال أحمد: حدّثنا يَعْقُوبُ، حدَّثنا أبي، عَنِ ابْنِ إسْحَاقَ، عن الحارث بن فُضَيْل الأنْصَاريّ، عَنْ مَحْمُودِ بنِ لَبيد، عنِ ابْنِ عبَّاسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهَداءُ على بَارِقٍ، نَهْرٍ على بَابِ الْجَنَّةِ، في قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ إلَيْهمْ رِزْقُهُمْ منَ الجَنَة بُكْرَةً وَعَشيًّا "

(2)

.

‌ذكر ما في الدنيا من أنهار الجنة

في حديث الإسراء، في ذكر سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قال:" فإذا يَخْرُجُ منْ أصْلِها نَهْرَانِ باطنانِ، ونَهَرْانِ ظاهِرَانِ، فَالبَاطِنانِ في الْجَنَّةِ، وَالظَّاهِرَانِ: النِّيلُ، وَالْفُراتُ، عنصرهما "

(3)

.

وفي " مسند أحمد " و" صحيح مُسلم "، واللَّفْظُ لهُ منْ حَديثِ عُبَيْدِ الله بن عُمرَ، عنْ خُبيبِ بنِ عَبد الرَّحْمَن، عَنْ حَفْصِ بنِ عَاصِم، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيْحانُ، وجَيْحانُ، وَالفُرَاتُ وَالنِّيلُ، كل منْ أنْهَارِ الجَنَّةِ "

(4)

.

وروَى الحافِظُ الضِّيَاءُ منْ طَريق عُثْمانَ بن سَعيدٍ، عنْ سَعيدِ بنِ سَابِقٍ، عنْ مَسْلَمةَ بنِ عُلَيٍّ الخُشَنيّ، عنْ مُقَاتِلِ بن حَيَّانَ، عنْ عِكْرَمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، عنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: " أنْزَلَ اللّهُ منَ الجَنَّةِ خَمْسَةَ أنْهارٍ: سَيْحُونَ، وهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وجَيْحونَ، وهُوَ نَهْرُ بَلْخ، وَدِجْلَةَ وَالفرات، وهُما نَهْرا الْعِرَاقِ، وَالنيلَ، وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أنْزَلَها اللهُ منْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ منْ عيون الْجَنَّةِ، منْ أسْفَلِ دَرَجةٍ منْ دَرَجَاتهَا عَلى جَناحي جِبْريلَ، فاسْتَوْدَعها الجِبَالَ، وأجْرَاها في الأرْضِ، وجعل فيها منَافِعَ للنَاسِ، منْ أصْنافِ مَعايشهمْ، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ

} الآية [المؤمنون: 18] فإذا كانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأجوجَ ومَأجُوجَ، أرْسلَ جِبْريلَ، فَرَفعَ منَ الأرْضِ القُرْآنَ، وَالعِلْمَ كُلَّهُ، وَالحَجَر الأسْوَدَ منْ رُكْنِ البَيْتِ، ومَقَامَ إبْرَاهيمَ، وتَابُوتَ مُوسى بمَا فيهِ، وهَذِهِ الأنْهَارَ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 135) وإسناده صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 166) وإسناده حسن.

(3)

رواه البخاري (3207) ومسلم (164) والبخاري رقم (7517) وفيه: عنصرهما.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 289) ومسلم (2839).

ص: 454

الْخَمْسةَ، فرفَعَ كلَّ ذَلِك إلى السَّماءِ، فذَلِك قولُه:{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، فإذا رُفِعَتْ هَذ الأشْيَاءُ منَ الأرْضِ، فَقَدْ حُرِمَ أهْلُها خيرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ ". وهذا حديثٌ غَريبٌ جدًّا، بلْ مُنْكرٌ، ومَسْلَمةُ بنُ عُلَيٍّ ضَعيفُ الْحَديث عِنْدَ الأئمَّة

(1)

.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ سُبْحانهُ عُيونَ الجَنَّةِ بِكَثْرةِ الْجَريانِ، وأنَّ أهْلَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاؤوا فَخرُوها، أي اسْتَنْبَطُوها، في أيِّ مكان شاؤوا، وفي أيِّ المحلات أرادوا، وفي أيّ المساكن أحبُّوا، نَبَعتْ لهُمُ العُيُونُ بِفُنونِ المَشَارِبِ، وَلذيذ المياهِ، وَقَدْ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما في الْجَنَّةِ عَيْنٌ إلَّا تَنْبُغٌ منْ تَحْتِ جَبَل [منْ مِسْكٍ].

وروى الأعْمشُ عَنْ عَمْرِو بن مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عن ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: أنْهارُ الجَنَّةِ تَفَجَّرُ منْ جَبَلِ مِسْكٍ. وَقَدْ [جَاءَ] هَذَا في حَديثٍ مَرْفُوعٍ، رواهُ الحَاكمُ في " مُسْتَدْرَكِه " فقال: أنبأنا الأصمُّ، أنبأنا الرَّبيع بنُ سُلَيْمانَ، حدَّثنا أسد بن موسى، حدّثنا ابنُ ثَوْبانَ، عنْ عَطاء بنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ضَمْرةَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ سَرَّهُ أنْ يَسْقِيَهُ اللهُ منَ الْخَمْرِ في الآخِرَةِ فَلْيَتْرُكْها في الدُّنيا، ومنْ سَرَّهُ أنْ يَكْسُوَه اللهُ الحَريرَ في الآخِرَةِ فَلْيَتْرُكْهُ في الدُّنيا. أنهار الجنة تفجَّر من [تحت] تلال أو جبال المسك، ولو كان أدنى أهل الجنة حلية، عدلت بحلية أهل الدنيا جميعًا، لكان ما يحلِّيه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية الدنيا جميعًا "

(2)

.

‌فصل في أشجار الجنة

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57] وقال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] والأفْناد الأغْصانُ، وقوله:{مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] أي منْ كَثْرَةِ رِيِّهما، واشْتِبَاكِ أشْجارِهما، وقال تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] أي قَريبٌ منَ التَّنَاوُلِ [يتناولونه] وهُمْ على فُرُشهمْ كيف شاؤوا، كما قال تعالى:{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] وقال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 27 - 34]،

(1)

ابن عدي في " الكامل "(6/ 4316) والخطيب في " تاريخ بغداد "(1/ 57 - 58).

(2)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(292) عن الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، و (2593) من حديث ابن مسعود موقوفًا، وهو حديث حسن.

ص: 455

وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقال تعالى:{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52].

قال [أبو بكر] بن أبي الدُّنْيا: حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بنُ سَعيدٍ، حدّثنا زِيَادُ بنُ الْحَسَنِ بنِ الفُرَاتِ القَزَّازُ، عن أبيه، عن جَدِّهِ، عن أبي حَازِمِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: " ما في الجَنَّةِ شَجَرة إلَّا سَاقُها منْ ذَهَبٍ ". وكذا رواه الترمذيّ، عن أبي سعيدٍ، عبد الله بن سَعيدِ الْكِنْديِّ الأشجِّ، وقال: حسن صحيح

(1)

.

وقال أبو بكْرِ بن أبي الدُّنْيا: حدّثني حَمزةُ بنُ العَبَّاسِ، حدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمانَ، حدَّثنا ابْنُ المُبَارَكِ، حدَّثنا سُفْيَان، عنْ حَمَّاد، عنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: نَخْلُ الجَنَّةِ جُذُوعُها منْ زُمُرُّدٍ أخْضَرَ، وكَرَبُها

(2)

ذَهَبٌ أحْمرُ، وَسَعَفُها كُسْوة لأهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْها مُقَطعَاتُهُم

(3)

وحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُها أمْثَالُ القِلالِ وَالدِّلاءِ، أشدُّ بَياضًا منَ اللَّبنِ، وَأحْلَى منَ العَسَلِ، وألْيَنُ منَ الزُّبْدِ، لَيْسَ فِيهِ عَجَمٌ"

(4)

.

وقال ابن أبي الدُّنْيَا: حدّثني إبراهيمُ بنُ سَعيدٍ الْجَوْهريّ، حدَّثنا أبو عامر العَقَديّ

(5)

، حدّثنا زَمْعةُ بنُ صَالحٍ، عن سَلَمةَ بن وَهرام، عن عِكْرِمَة، عن ابنِ عَبَّاس، قال: الظِّلُّ المَمدُودُ شَجَرةٌ في الْجَنَّةِ على سَاقٍ واحد، قَدرُ ما يسيرُ الرَّاكِبُ المُجدُّ في ظِلِّها مِئة عامٍ، في كلِّ نَوَاحيهَا، قال: فيَخْرُجُ إلَيْها أهلُ الجَنَّةِ [من أهْلِ الغُرفِ، وَغَيْرِهم] فَيَتحدَّثونَ في ظِلِّها، قال: فيَشْتَهي بَعْضُهُمْ، وَيَذْكُرُ لَهْوَ الدُّنْيا، فيُرْسلُ اللّهُ تَعَالى رِيحًا منَ الْجَنَّةِ، فتُحَرِّكُ تِلك الشَّجَرةَ بِكُل لَهْوٍ كانَ في الدُّنْيا

(6)

.

وثبت في " الصحيِحين " منْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أبي حَازمِ، عنْ سَهْلِ بن سَعْدِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عَامِ لا يَقْطَعُها

(7)

" قال: فَحَدَّثْتُ به النُعْمانَ بنَ أبي عَيَّاشٍ الزُّرَقي، فقال: حدّثني أبو سَعيدِ الخُدْريّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ في الجَنَّةِ شَجرة يَسيرُ الرَّاكبُ الْجَوَادُ المُضَمَّرُ السَّريعُ مِئَةَ عامِ، لا يَقْطَعُهَا "

(8)

.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(48) والترمذي (2524) وهو حديث حسن.

(2)

أي أصل سعف النخل.

(3)

أي القصار من الثياب.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(51).

(5)

في (آ): الغفاري.

(6)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(45) وفي إسناده ضعف.

(7)

رواه البخاري رقم (6552) ومسلم (2827).

(8)

رواه البخاري (6553) ومسلم (2828).

ص: 456

وفي " صحيح البُخاريّ " من حديث سعيد بن أبي عَرُوبةَ، عَنْ قَتادَةَ، عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ، عنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] قال: " [إن] في الجنَّةِ شَجَرة يَسيرُ الرَّاكبُ في ظِلِّها مئة عام لا يقطعها "

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا سُرَيْجٌ، حدّثنا فُلَيْحٌ، عنْ هلال بن عَليٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بن أبي عَمْرة، عنْ أبي هُرَيْرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ في الجَنَّةِ شَجَرة يَسيرُ الرَّاكبُ في ظِلِّها مئة سنة لا يقطعها، اقْرَؤوا إنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] " قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَقَابُ قَوْسِ أحدكم أو موضع سوطه في الجَنَّةِ، خَيْرٌ ممَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغرُبُ ". ورواه البُخَاريّ عَنْ محمّد بْنِ سِنانِ، عن فُلَيْح

(2)

.

ولمسلمٍ منْ طريقِ الأعْرج، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:" إنّ في الجَنَّةِ شَجَرةً يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئةَ سَنةٍ لا يقطعها "

(3)

.

‌طريق أخرى عن أبي هريرة

قال الإمام أحمد: حدّثنا مُوسى بنُ دَاود، حدَّثنا ابنُ لَهيعَةَ، عن أبي يونُس، سُلَيْم بنُ جُبَير، عَنْ أبي هُرَيرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" إن في الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسيرُ الرَّاكب الجَوَادُ في ظلِّها مِئةَ سَنَةٍ، وَإنَّ وَرَقَهَا لَيُخَمِّرُ الجَنَّةَ "

(4)

.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدَّثنا حَجَّاجٌ، حدَّثنا لَيْثُ بنُ سَعْدٍ، حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي سَعيدٍ المَقْبُرِيّ، عن أبيه، عن أبي هُرَيرةَ، عنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" إن في الْجَنَّةِ شَجَرَة يَسيرُ الرَّاكبُ في ظلِّها مِئَةَ سَنَةٍ "

(5)

.

‌طريق أخرى

وقال أحمد: حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمنِ، عَنْ حَمَادٍ، عَنْ محمّد بن زِيَادٍ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ قال:

(1)

رواه البخاري (3251).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 482) والبخاري (3252) و (3253).

(3)

رواه مسلم (2826)(7) والبخاري أيضًا (4881).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 404) وهو حديث صحيح دون قوله "وإن ورقها ليخمِّر الجنة" فهي ضعيفة.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 452) وأخرجه مسلم (2826)(6) من طريق الليث.

ص: 457

سَمِعْتُ أبَا القَاسِم صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " في الجَنَّةِ شَجَرةٌ يَسيرُ الرَّاكبُ في ظِلِّها مِئَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا "

(1)

.

‌شجرة الخلد

قال الإمام أحمد: حدَّثنا محمّدُ بنُ جَعْفرٍ، وَحَجَّاج، قالا: حدَّثنا شُعْبَة، سَمِعْتُ أبَا الضحَّاكِ يُحَدِّثُ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:" إنَّ في الْجَنَّةِ شَجَرة يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها سَبْعينَ، أوْ مِئَةَ سَنَةٍ، هيَ شَجَرةُ الخُلْدِ "

(2)

.

‌شجرة طوبى

قال الإمام أحمد: حدَّثنا عَليُّ بنُ بَحْر، حدّثنا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ، حدّثنا مَعْمرٌ، عَنْ يَحْيَى بن أبي كَثيرِ، عنْ عامِر بن زَيْدٍ البِكَاليِّ: أنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بن عَبْدٍ السُّلَميّ، يَقُولُ: جَاءَ أعْرَابن إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألَهُ عنِ الْحَوْضِ، وذَكَرَ الجَنَّةَ، فقالَ الأعْرابى: فيها فَاكِهَةٌ؟ قال: " نَعَمْ، وَفيهَا شَجَرةٌ تُدْعى طُوبى" فذَكَرَ شَيْئًا لا أدْرِي مَا هُوَ؟ قال: أيَّ شَجَرِ أرْضِنا تُشْبِهُ؟ قال: " لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا منْ شَجَرِ أرْضِكَ " ثم قال النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: " أتَيْتَ الشَّام؟ " قال: لا، قال:" تُشْبِهُ شَجَرَة بالشَّامِ تُدْعَىِ الْجَوْزَةَ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِد، وينفرش أعْلاهَا " قال: ما عِظَمُ أصْلِها؟ قال: " لَوِ ارْتَحَلْتَ جَذعة منْ إبِلِ أهْلكَ ما أحَطْتَ بأصْلِهَا، حتَّى تَنْكَسِر تَرْقُوتُها هَرَمًا " قال: فِيهَا عِنَبٌ؟ قال: " نَعَمْ " قال: فَما عِظَمُ العُنْقُودِ؟ قال: " مَسِيرةُ شَهرٍ للْغُرَابِ الأبْقِعِ يطير، ولا يَفْتُرُ " قال: فَمَا عِظَمُ الحَبَّةِ؟ قال: " هَلْ ذَبَحَ أبُوكَ تَيْسًا منْ غَنَمِه قَطُّ عَظيمًا؟ " قال: نعَمْ، قال:" فَسَلَخَ إهَابَهُ فأعْطَاهُ أُمَّكَ قال: اتّخِذِي لَنا مِنْهُ دَلْوًا؟ " قالَ: نَعَمْ، قال الأعْرَابيّ: فإنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لتُشْبِعُني وَأهْلَ بَيْتي؟ قالَ: " نَعَمْ، وعَامَّةَ عَشِيرتِكَ "

(3)

.

وقالَ حَرْملةُ: عنْ عَبْدِ اللهِ بنِ وَهَبٍ، أخْبرَني عَمْرٌو: أنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ: أنَّ أبَا الهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رسولَ الله، طُوبى لِمَنْ رَآكَ وآمَنَ بكَ، قال:" طُوبى لِمَنْ رَآني وآمَنَ بي، وطُوبَى ثمَّ طُوبى لِمَنْ آمنَ بي ولمْ يَرَني " قال رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما طُوبى؟ قالَ:" شَجرةٌ في الجَنَّةِ مَسيرةُ مِئَةِ سَنةٍ، ثِيابُ أهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ منْ أكْمامِهَا "

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 469) وإسناده صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 455) وإسناده ضعيف، وله شواهد يقوى بها، دون قوله:(شجرة الخلد).

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 183 - 184) وهو حديث حسن.

(4)

ورواه أحمد في المسند (3/ 71) من طريق دراج به، وإسناده ضعيف، ولكن جملة " طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني " فهي صحيحة لها شواهد يقوى بها.

ص: 458

‌سدرة المنتهى

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 - 18] وذكَزنا في " التَّفْسيرِ " أنَّهُ غَشِيها نُورُ الرَّبِّ جل جلاله، وأنَّهُ غَشِيتهَا الْمَلائكةُ مِثْلَ الغِرْبانِ، يَعْني كَثْرَةً، وأنَّهُ غَشِيَها فَرَاشٌ منْ ذَهَبٍ، وَغَشيهَا ألْوَانٌ مُتَعدِّدَةٌ، كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" فَغَشِيَها ألْوانٌ لا أدْري مَا هيَ؟ "

(1)

" مَا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ أنْ يَنْعَتها "

(2)

.

وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال في حَديثِ المِعْرَاج: " ثمَّ رُفِعتْ لي سِدْرَةُ المُنْتهى في السَّمَاءَ السَّابعةِ، فإذا نَبِقُها مِثْلُ قِلالِا هَجَر، وورقُها مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَة، وإذا يَخْرُجُ منْ سَاقِهَا نَهْرَانِ ظاهِرانِ، وَنَهْرَإنِ بَاطِنانِ، فقلْتُ: يا جِبْريلُ: ما هَذَا؟ فقال: أمَّا البَاطِنَانِ، ففي الجَنَّةِ، وأمَّا الظَّاهران، فالنِّيلُ وَالفُرَاتُ "

(3)

.

وقال الحافظُ أبو يَعْلَى: حدّثنا عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ صَالِحٍ، حدّثنا يُونُس بنُ بُكَيْرٍ، عنْ محمّدِ بنِ إسْحَاقَ، عنْ يَحْيَى بنِ عَبَّاد بن عَبْدِ اللّهِ بن الزُّبَيْرِ، عن أبيهِ، عن أسْماءَ بِنْتِ أبي بكْر، قالتْ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهى، فقال:" يَسيرُ في ظلّ الفَنَنِ مِنْها الرَّاكبُ مئَةَ سَنَةٍ -" أوْ قال: " يَسْتَظِلُّ في ظِلِّ الفَنَنِ منْهَا مِئَةُ رَاكبٍ- فيها فَرَاشُ الذَّهَبِ، كأنَّ ثَمَرَهَا القِلَالُ "

(4)

.

وقال أبو بكْر بنُ أبي الدُّنْيَا: حدّثني حَمْزَةُ بنُ العَبَّاسِ، حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بنُ عُثْمانَ، حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بنُ المُبَارَكِ، حدّثنا صَفْوَانُ بن عمرٍو، عن سُلَيْمِ بنِ عامِرٍ، قال: كانَ أصْحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولونَ: إنَّ الله تعالى ليَنْفَعُنا بالأعْرابِ ومَسَائِلِهم، قال: أقْبَلَ أعْرابيُّ يَوْمًا، فقال: يا رسولَ اللّهِ، ذَكَرَ اللّهُ تعالى أن في الجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذية، وما كنْتُ أَرَى في الجَنَّةِ شَجَرةً تُؤذي صَاحِبَها؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" وما هِيَ "؟ قالَ: السِّدْرُ، فإنَّ لهُ شَوْكًا مُؤذِيًا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" ألَيْسَ اللّهُ تعالى يقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28]؟ خَضَدَ اللّهُ شَوْكهُ، فجعل مَكانَ كلِّ شَوْكةٍ ثَمَرَةً، فإنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا تَفَتَقُ الثَّمَرَةُ منْها عن اثْنَيْنِ وَسَبْعين لَوْنًا، ما فيهِ لونٌ يُشْبهُ الآخَرَ ".

وقد رُويَ هذا الْحَديثُ بِلَفْط آخَرَ منْ وَجْهٍ آخَر، فقال أبو بكْرِ بن أبي داود: حدثنا محمَّدُ بنُ مُصَفّى، حدّثنا محمَّدُ بنُ المُبَاركَ، حدَّثنا يَحْيَى بنُ حَمْزةَ، حدّثنا ثَوْرُ بن يَزيدَ، حدّثنا حَبيبُ بنُ عُبَيْدٍ، عنْ عُتْبةَ بن عَبْدٍ السُّلَميّ، قال: كُنْتُ جَالسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعْرَابيّ فَقال:

(1)

رواه البخاري (349) ومسلم (163).

(2)

رواه مسلم (162).

(3)

رواه البخاري (3207) ومسلم (164).

(4)

وأخرجه الترمذي (2541) من طريق ابن بكير به، وإسناده ضعيف.

ص: 459

يا رسولَ الله، أسْمَعُكَ تَذْكُرُ شَجَرَةً في الْجَنَّةِ لا أعْلَمُ شَجَرة أكْثَرَ شَوْكًا منْها، يعني الطلح، فَقالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"خُضِدَ شوكُه، فجعل الله مكان كل شوكة منها، ثَمَرةً مِثْلَ خُصْوَة التَّيْسِ الْمَلْبُودِ، فِيها سَبْعُونَ لَوْنًا منَ الطَّعَامِ، لا يُشْبِهُهُ لَوْنُ آخر "

(1)

المَلْبُودُ: الَّذي قدْ تَلَبَّدَ صُوفُهُ بَعْضُهُ على بَعْضٍ.

‌فصل

رَوَى التِّرْمَذِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قال: قال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقيتُ إبْرَاهيمَ لَيْلَة أُسْريَ بي، فقال: يا محمَّد، أقْرِئ أُمَّتَكَ منِّي السَّلامَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبةِ، عَذْبةُ الْماء، وأنَّها قِيعانٌ، وأنَّ غِرَاسَها سُبْحانَ اللهِ وَالْحَمْدُ اللهِ ولا إلهَ إلَّا اللّهُ وَاللّهُ أكْبرُ " ثم قال: حسن غريب، وفي الباب عن أبي أيوب

(2)

.

وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه وهو يغرس غرسًا، فقال:" ألا أدلك على غِراسِ خيرٍ من هذا؟ سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا الله، واللّه أكبر، يُغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة "

(3)

.

وروَى الترْمذيُّ عن جَابرٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"منْ قَالَ: سُبْحانَ اللّهِ العَظِيم وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلةٌ في الجنة " ثمَّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ

(4)

.

‌فصل في ثمار الجنة

قال الله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] أيْ قَريبٌ منَ المُتنَاوَلِ، كما قال تعالى:{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 27 - 33] أي لا تَنْقَطِعُ أبدًا في زمنٍ مِنَ الأزْمَانِ، بَلْ هِيَ مَوْجُودةٌ في كلِّ أوَانٍ وزمان. كما قال تعالى:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] أي لا يسقط ورق أشجارها، أيْ

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(109) وابن أبي داود في " البعث والنشور " رقم (69) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه الترمذي (3462) وهو حديث حسن.

(3)

رواه ابن ماجه (3807) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه الترمذي (3464) وهو حديث صحيح.

ص: 460

لَيْسَت كالدُّنْيَا الَّتي تأتي ثِمَارُها في بعض الأزمان دون بعض، ويسقط أوراق أشجارها في بَعْضِ الفصول وتُفْقَدُ ثمارها في وَقْتٍ آخَر، وتَكْتَسي أشْجَارُها الأورَاقَ في وقت وتعرى في آخرَ، بل الثمر والظل دائم مستمر، سهل التناول، قريب المجتنى، كما قال {وَلَا ممَنُوعَةٍ} أيْ لا تمتنع ممَّنْ أرَادَها كَيف شاء، ولَيْسَ دُونَها حِجَابٌ، ولا مانِعٌ، بلْ منْ أرَادَها فَهيَ مَوْجُودةٌ سَهْلةٌ، قَريبةٌ حتَّى وَلَوْ كانَتِ الثَّمَرةُ في أعْلَى الشَّجَرَةِ، فأرَادَها المؤمن، تدلَّت إليه فأخْذَهَا وَاقْتَرَبَتْ إليْهِ، وَتَدَّلَّلتْ لَدَيْهِ.

قال أبو إسحاق: عن البراء: {وَذُلِّلَت قُطُوفُهَا} [الإنسان: 14] أي: أُدْنيتْ حتَّى يَتَناوَلَها المؤمن وَهو نائمٌ، وقال الله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 41 - 44]، وقال تعالى:{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55].

وَقَدْ سَبَقَ فيما أوْرَدْناه منَ الأحَاديثِ أنَّ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ وَزَعْفَران، وأنَّ ما في الجنَّة شجرةٌ إلَّا ساقُها منْ ذَهَب، فإذا كانت التُّرْبَةُ بهذه المثابة، والأصُولُ الثابتة فيها من الذهب، فما الظن بما يَتَولَّدُ بينهما منَ الثمار الرَّائِقَةِ النَّضِيجَةِ الأنيقَةِ، الَّتي ليس فيها عجَم، ولَيْسَ في الدُّنيا منْها إلَّا الأسْمَاءُ، وإذَا كانَ السِّدْرُ الَّذي في الدُّنيا وَهُوَ لا يُثْمرُ إلَّا ثمرةً ضعيفَةً، وَهِيَ النَّبِقُ، وَفيهِ شَوْكٌ كثيرٌ، وَالطَّلحُ الَّذي لا يُرادُ منْهُ إلا الظِّلّ في الدُّنيا، يكونَانِ في الْجَنَّةِ في غَايةِ كثْرَةِ الثِّمَارِ، وَحُسْنها، حتَّى إنَّ الثَّمَرةَ الواحِدةَ منْهَا تَتَفَتَّقُ عَنْ سَبْعينَ نَوْعًا منَ الطُّعومِ وَالألْوانِ التي لا يُشْبِهُ بَعْضُها بَعْضًا، فمَا الظَّنُّ بِثِمار الأشْجارِ الّتي تَكُونُ في الدُّنْيا حَسَنةَ الثِّمَارِ طيبة الرائحة، سهلة التناول، كالتُّفَّاحِ، والمِشمش، والدُّرَّاقِن، والنَّخْلِ، والعِنَبِ؟ وَغَيْرِ ذَلِك، بل ما الظن بأنْواعِ الرَّيَاحينِ، والأزاهيرِ؟ وبالجملَةِ فيها ما لا عَيْنُ رَأتْ، وَلا أُذُنٌ سمعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، نسأل الله من فضله.

وفي " الصحيحين " منْ حَديثِ مَالكٍ، عَنْ زَيْدِ بن أسْلَم، عنْ عَطاء بن يَسارٍ، عن ابن عَبَّاسٍ في حديثِ صَلاةِ الكُسُوفِ، قالوا: يا رسولَ الله، رَأَيْناكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا في مَقَامِكَ هَذا، ثمَّ رَأَيْناكَ تَكَعْكَعْتَ

(1)

، فقال:" إني رَأَيْتُ-" أوْ "أُريتُ- الْجَنَّةَ، فَتَناوَلْتُ منها عُنُقودًا، ولو أخذتُه لأكَلْتمْ منْهُ ما تقيتِ الدُّنْيا "

(2)

.

وفي "المُسْنَدِ" مِنْ حَديثِ عَبْدِ اللهِ بن مُحمّد بن عَقِيلٍ، عن جابرٍ، فقال: " إنَّهُ عُرِضَتْ عَليَّ

(1)

أي تأخرت.

(2)

رواه مسلم (907) والبخاري (1052).

ص: 461

الْجَنّةُ وما فِيها مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنُّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْها قِطْفًا منْ عِنَبِ لآتِيَكُمْ بهِ، فحيلَ بَيْني وَبَيْنهُ، ولَوْ أتَيْتكم بِهِ لأكَلَ منْهُ مَنْ بَينَ السَّماءِ والأرْضِ لا يَنْقُصُونَهُ".

وفي " صحيح مسلم " منْ رِوَايةِ أبي الزُّبَيْر، عن جَابرِ شاهدٌ لِذَلِك

(1)

.

وتقدَّمَ في " المَسْنَدِ " عنْ عُتْبَةَ بن عَبْدٍ السُّلَميِّ: أنَّ أعْرَابيًا سَأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الْجنَّةِ: هل فيهَا عِنَبٌ؟ قال: " نَعَمْ " قال: فما عِظَمَ الْعُنْقودِ؟ قال:" مَسيرةُ شَهرِ لِلْغُرَابِ الأبْقعِ يطير ولا يَفْتُرُ"

(2)

.

وقال [أبو القاسم] الطَّبرانيّ: حدَّثنا مُعاذُ بنُ المُثنَّى، حدَّثنا على بنُ المَديني، حدَّثنا رَيْحانُ بنُ سَعيدٍ، عنْ عبَّادِ بنِ مَنْصُور، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلابةَ، عنْ أبي أسْماءَ، عنْ ثَوْبانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرَّجُلَ إذا نزَعَ ثمرَةً منَ الْجنَّةِ عَادَتْ مَكانَها أُخْرَى". قال الحافظُ الضِّياءُ: عَبَّاد تَكَلَّمَ فيهِ بَعْضُ العُلَماء

(3)

.

وقال الطَّبرانيّ: حدَّثنا عَبْدُ اللّهِ بنُ أحْمَد بن حَنْبَلٍ، حدَّثنا عُقْبَةُ بن مُكْرَمٍ العَمِّيُّ، حدَّثنا رِبْعيُّ بنُ إبراهِيمَ بن عُلَيَّةَ، حدَّثنا عَوْفٌ، عن قَسَامةَ بنِ زُهَيْرٍ، عنْ أبي مُوسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا أهْبَطَ اللهُ آدمَ منَ الْجنَّةِ عَلّمهُ صَنْعةَ كلِّ شَيءٍ، وزَوَّدَهُ منْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، فَثِمارُكُمْ هَذِهِ منْ ثِمارِ الْجَنَّةِ، غَيرَ أنَّها تَغيَّرُ، وتِلْكَ لا تَغيَّرُ "

(4)

.

‌فصل

قال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21].

قال الحسنُ بنُ عَرَفةَ: حدَّثنا خَلَفُ بنُ خَليفةَ، عن حُمَيْدٍ الأعْرَجِ، عن عَبْدِ اللّهِ بن الْحَارِثِ، عن ابنِ مَسْعُوب، قال: قال لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنكَ لتَنْظُرُ إلى الطَّيْر في الجنَّة فتَشْتَهيهِ فيخرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْويًا "

(5)

.

وفي الترْمِذي وحَسَّنَهُ، عنْ أنس قال: سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الكَوثرِ، فقالَ: " نَهْرٌ أعْطَانِيهِ رَبِّي عز وجل، مَاؤُهُ أشدُّ بَيَاضًا منَ اللَّبنِ، وأحْلَى منَ الْعَسَلِ، فِيهِ طيْرٌ أعْنَاقُهَا كأعْناقِ الجُزُرِ

(6)

وقد تقدَّم.

وفي " تَفْسير الثَّعْلبي " عنْ أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعًا: " إنّ في الجَنَّةِ طيْرًا كأعْناقِ البُخْتِ، تَصْطَفُّ بينَ

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 352 - 353) ولبعضه شاهد عند مسلم رقم (904).

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 183 و 184) وهو حديث حسن.

(3)

رواه الطبراني في الكبير (1449).

(4)

وهو حديث حسن.

(5)

أخرجه الحسن بن عرفة في "جزئه"(22) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه الترمذي رقم (2542) وهو حديث حسن.

ص: 462

يَدِ وَليِّ اللّهِ، فيقُولُ أحدها: يا وَليَّ اللّهِ رَعَيْتُ في مُرُوج تَحْتَ الْعَرْشِ، وَشَرِبْتُ منْ عُيُونِ التسنيم، فَكُلْ منِّي، فلا يزَالُ يَفْتَخرُ بَيْنَ يَدَيْهِ حتَّى يَخْطِرَ على قَلبهِ أكْلُ أحدها، فَتَخِرُّ بَينَ يَدَيْهِ، على ألْوانٍ مُخْتلفةٍ، فيَأكُلُ مِنْها ما أرَادَ، فإذا شَبعَ منها، تجتمع عِظامُ ذلك الطَّائرِ الذي أكله، ثم يطير يَرْعَى في الجنَّةِ حَيْثُ شَاء" فقالَ عُمرُ: يا نَبيَّ اللَهِ، إنّها لَنَاعِمَةٌ، فقالَ:" آكلها أنْعَمُ منْها ". غريبٌ من روايةِ أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه، واللّه أعلم.

‌ذِكر طعام أهل الجنة، وأكلهم فيها وشربهم نسأل الله من فضله

قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، وقال تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وقال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21] وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ

(1)

الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 - 6] وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 15 - 16] أيْ هي في صَفاء الزُّجَاج، وهيَ منَ فِضَّةٍ، وهذا ما لا نَظيرَ لهُ في الدُّنيا، وهيَ مُقدَّرة على قَدْرِ كفَايةِ وليِّ اللّهِ [في مَشرَبهِ]، لا تزيد ولا تنقُصُ، وهَذا يَدُلُّ على الاعِتناء والشَّرَفِ، وقال تعالى:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] أي كُلَّما جاءَهمُ الخدَمُ بِشَيْءٍ من ثمر الجنة وغَيْره ظَنُوهُ الَّذي أُتُوا بهِ قبْل ذلك، لمشَابَهَتِهِ لهُ في الظَّاهرِ، وهو في الْحقيقةِ خِلافُه، فتشابهت الأشْكالُ، واخْتَلفتِ الْحَقائقُ، والطُعُوم والرَّوائحُ.

قال الإمامُ أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدَّثنا سُكْينُ

(2)

بنُ عبد العزيز، حدَّثنا الأشعَثُ الضريرُ، عَنْ شَهْر بنِ حَوْشَب، عنْ أبي هريرِة قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أدْنَى أهْل الجنَّةِ مَنْزلةً، إنَّ لهُ لَسَبْعَ دَرَجات وهُوَ على السَّادسَة، وفوْقَه السَّابعَةُ، وإنَّ لهُ لثَلثمئةِ خادمٍ، ويُغدَى عَلَيْهِ ويُراحُ كل يَوْم بثَلثمئةِ صَحْفَةٍ " ولا أعلمهُ إلَّا قال: " منْ ذهَب، في كلِّ صَحْفةٍ لَوْنٌ ليس في الأُخْرَى، وإنَّه لَيَلذُّ أوَّلَهُ كما يلذُّ آخرَهُ، ومن الأشربة ثلاثمئة إناء، في كل إناءٍ لون ليس في الآخَر، وإنَّه ليذ أوله كما [يلذُّ] آخره،

(1)

كذا قرأها ما سوى نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر.

(2)

في (آ): مسكين، وهو خطأ.

ص: 463

وإنَّهُ ليقُولُ: يا رَبِّ، لوْ أذِنْتَ لي لأطعمتُ أهْلَ الجَنَّةِ، وَسَقيْتُهمْ لَمْ يَنقُصْ ممَّا عنْدي شيئًا، وإنَّ لهُ منَ الْحُورِ الْعين لاثْنَتينِ وَسَبْعينَ [زَوْجَةً] سِوَى أزْواجِهِ منَ الدُّنيا، وإنَّ الْوَاحدَة منْهُن ليأخُذُ مَقعَدُها قَدْرَ ميل منَ الأرْضِ". تفرّد به أحمد، وهو غريب، وفيه انقطاع

(1)

؛ وله شاهد عن عبادة بن الصامت:

قال الإمام أحمد: ثنا يَعْمر بن بشر، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا رشدين

(2)

بن سعد، حدثني أبو هانئ الخَوْلاني، عن عمرو بن مالك الجَنَبي، أن فضالة بن عُبَيد، وعبادةَ بن الصامت، حدَّثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا كان يوم القيامة، وفرَغ عز وجل من القضاء بين الخلق، فيبقى رجلان، فيأمر الله بهما إلى النار، فيلتفت أحدُهما، فيقول الجبَّار تعالى: ردُّوه، فيردُّونه فيقول: لِمَ التفتَّ، فقال: كنت أرجو أن تدخلني الجنة" قال: " فيؤمر به إلى الجنة، فيقول: لقد أعطاني الله عز وجل، حتى لو أطعمتُ أهل الجنة، ما نقص ذلك مما عندي شيئًا " قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرى السُّرور في وجهه. تفرَّد به أحمد

(3)

.

قال الإمامُ أحمدُ: حدَّثنا أبو مُعاويةَ، حدَّثنا الأعْمشُ، عنْ ثُمامَةَ بنِ عُقْبة، عن زيد بن أرقمَ، قال: أتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ من اليهودِ، فقال: يا أبا القاسم، ألسْتَ تزعمُ أنَّ أهلَ الجنةِ يَأكلُونَ فيها، ويشربُونَ؟ قال اليهوديُّ لأصحابه: إنْ أقَرَّ لي بهذا خَصَمْتُه، فقالَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:" بلَى والذِي نَفْسي بِيَدِهِ، إن أحَدَهُمْ ليُعْطى قُوَّةَ مِئة رَجُل في المطعم والمشربِ، والشَّهْوَة والجماع" قال: فقال اليهوديُّ: فإنَّ الذي يَأكُل، ويَشْرَبُ، تكونُ لهُ الحاجةُ، قال: فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " حاجةُ أحَدِهمْ عَرَقٌ، يَفيضُ منْ جُلُودِهمْ مِثْل رِيح المسكِ، فإذا البطنُ [قدْ] ضَمُرَ " ثم رواه أحمد، عنْ وكيعٍ، عن الأعمشِ، [عنْ] ثُمامةَ: سَمِعْتُ زيدَ بن أرقمَ

فذكره.

وقد رواه النسائيُّ عنْ عليٍّ بن حُجْرٍ، عنْ علي بن مُسهرٍ، عنِ الأعمش، به، ورواه أبو جعفر الرازي عن الأعمش

فذكره، [وعنده]: قال اليهوديُّ: فإنَّ الذي يَأكلُ ويشْرَبُ تكونُ لهُ الحاجةُ، وَليسْ في الْجنَّةِ أذى، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" تَكونُ حاجةُ أحدهمْ رَشْحًا يَفيضُ منْ جُلودهمْ كَرَشْح المسكِ، فيضمُر بَطْنهُ ".

قال الحافظُ الضِّياء: وهَذَا عِنْدي على شرط مُسلم، لأنَّ ثُمامة ثِقَةٌ، وفدْ صَرَّحَ بسَماعهِ منْ زَيدِ بن أرْقَم

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 537).

(2)

في الفاسية: راشد.

(3)

رواه أحمد في المسند (5/ 329 - 330) وفي إسناده رشدين بن سعد، وهو ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 367) و (371) والنسائي في الكبرى (11478) أقول: ثمامة، ليس من رجال مسلم، وفيه عنعنة الأعمش، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 464

‌حديت آخر في ذلك عن جابر

قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبُو مُعاويةَ، حدَّثنا الأعمش، عنْ أبي سُفيَانَ، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهْل الجنَّةِ يأكلونَ فيه ويَشْربُونَ ولا يتغَوَّطُون، ولا يَبُولونَ، ولا يتَمخَّطونَ، ولا يبْزُقُون، طعامُهم جُشاءٌ ورَشْحٌ كرَشْح المسْكِ ".

وقد رواه مسلم منْ حديث أبي سُفيانَ طلحةَ بن نافع، عنْ جابرٍ

فذكرهُ: قالُوا: فما بَالُ الطعام؟ قالَ: " جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمُونَ التسْبيحَ والتحميد ". وكذا أخرجهُ منْ حدِيث ابْنِ جُرَيْجٍ، عن أبي الزبَيْرِ، عنْ جابرٍ

فذَكَره، وقال: " طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشاء كريح

(1)

المسْكِ، ويُلْهَمُونَ التسبيحَ، والتَّكبِيرَ، كما يُلْهمُونَ النَّفَسَ "

(2)

.

‌طريق ثالثة عن جابر رضي الله عنه

قال أحمد: حدَّثنا الْحَكمُ بنُ نَافِع، حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن

(3)

صفْوانَ بنِ عَمْرو، عنْ ماعِزٍ التَّميمي، عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ اللهِ، قالَ: سُئلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيأكلُ أهْلُ الْجَنَّةِ؟ قالَ: " نعمْ " وَيَشْرَبُونَ، ولا يَبُولُونَ فيها، ولا يتغوَّطُونَ، ولا يتَنَخَّمُون، إنما يكونُ ذلكَ جُشاءً ورَشحًا، كرَشحِ المِسْكِ، ويُلْهَمُونَ التَّسْبيحَ وَالتَّحْميدَ كما تُلهَمون النَّفَس "

(4)

.

‌طريق رابعة عن جابر رضي الله عنه

قالَ الْحَافظ أبو بَكْرٍ البزّار في " مُسْنَدِه ": حدَّثنا القَاسمُ بنُ مُحمَّدِ بنِ يَحْيَى المروزِي، حدَّثنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمانَ بنِ جَبلةَ، وهُوَ يُعْرفُ بِعَبْدان، حدّثنا أبو حَمْزةَ السُّكريّ

(5)

، عنِ الأعْمَشِ، عنْ أبي صَالِح، عنْ جابر [بنِ عَبْدِ اللّهِ]، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَأكلُونَ ويَشْربُونَ، ولا يتغَوَّطُونَ ولا يمتخطون، يُلْهمُون التَّسبيحَ والحمْدَ، كما يُلْهمونَ النَّفَسَ، يكُونُ طَعامُهُمْ وَشَرَابُهُمْ

(1)

في مسلم: كرشح.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 316) ومسلم رقم (2835)(18) و (20).

(3)

هذه الزيادة مقحمة، ليست في المسند، وهي في مسند الشاميين للطبراني من طريق عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 354) وليس في سنده ابن عياش، وإسناده ضعيف لجهالة ماعز التميمي، ولكن للحديث شواهد وطرق يقوى بها.

(5)

في (آ): اليشكري، وهو خطأ.

ص: 465

جُشاءَ كَرشْح الْمِسْكِ " قال البرارُ: وَيُروى هَذَا عنِ الأعْمشِ، عن أبي سُفْيَانَ، ولمْ يصحّ سَمَاعُه منْهُ، وسَمَاعُه من أبي صَالِح صحيحٌ.

‌أحاديث أُخر شتى

قال الحَسَنُ بنُ عَرَفةَ: حدَّثنا خَلَفُ بنُ خَليفَةَ، عن حُمَيْدٍ الأعْرَج، عن عبد الله بنِ الحارث، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مَسْعُودٍ، قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّكَ لَتَنْظُر إلى الطير فَتَشْتَهيه، فيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْويًا

(1)

.

وقال [الإمام أحمد]: حدَّثنا عَبْدُ الْمَلك بنُ عَمْرو، عَنْ فُلَيْح، عنْ هِلال بْنِ عَلي، عنْ عَطاء بن يَسَار، عنْ أبي هُرَيْرةَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال يومًا وَهُوَ يُحَدِّثُ وعِنْدَهُ رَجُلٌ منْ أهْلِ البادية:" إن رجلًا من أهل الجَنَّةِ اسْتأذَنَ رَبَّهُ عز وجل في الزَّرْع، فقالَ له رَبُّه سبحانه: ألَسْتَ فيما شِئْتَ؟ قال: بَلَى، ولكني أحبُّ أنْ أزْرعَ " قال: " فبَذَرَ، فبَادَرَ الطَّرْفَ نَباتُه، وَاستوَاؤهُ، واسْتِحْصَادُهُ، فكَانَ أمْثَالَ الْجبَالِ " قال: " فيَقُولُ [لَهُ] رَبَّهُ عز وجل: دُونكَ يا ابْنَ آدَمَ، فإنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ " قال: فقالَ الأعْرابي: واللّهِ ما تَجِدُ هذا إلا قُرَشِيًا أوْ أنْصَاريًا، فإنَّهُمْ أصْحابُ زَرْعٍ، فأمَّا نَحْنُ فَلَسْنا بِأصحابِ زرع. قال: فَضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ورواه البُخاريّ منْ حديث أبي عَامِرٍ العَقَديَّ عبدِ الملكِ بن عَمْرٍو، به

(2)

.

‌ذكر أول طعام يأكله أهل الجنة بعد دخولهم الجنة

رَوَى الإمام أحمدُ عن إسماعِيلَ بن عُلَيَّةَ، عنْ حُمَيْدٍ، وأخْرَجهُ البُخاريُّ منْ حَديثِه، عنْ أنَسٍ: أنَّ عَبْد اللّهِ بنَ سَلام سَألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قَدِمَ الْمَدينَةَ عن أشياء، منها: وما أوَّلُ طَعام يَأكُلُهُ أهْلُ الْجنَّةِ؟ فقال: " زيَادةُ كَبِد حُوتٍ "

(3)

.

وفي " صَحيح مُسْلِم " منْ رِوَايةِ أبي أسمَاءَ، عَنْ ثَوْبانَ: أنَّ يَهُوديًا سَألَ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: فمَا تُحْفَتُهُمْ حينَ يدخُلُونَ الْجنَّةَ؟ قالَ: " زَيادَةُ كبِدِ الْحُوتِ " قالَ: فمَا غِدَّاؤُهُمْ على إثْرها؟ قال: "يُنْحَر لَهُمْ ثَوْرُ الْجنَّةِ الذي يَأكلُ منْ أطْرَافِها " قال: فما شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قالَ: "منْ عَيْن {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} قال: صَدَقْت

(4)

.

(1)

رواه الحسن بن عرفة في " جزئه " رقم (22) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 511) والبخاري (2348).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 189) والبخاري (3329).

(4)

رواه مسلم رقم (315).

ص: 466

وفي " الصَّحيحينِ "، منْ حَديث عَطاء بنِ يَسَارٍ، عنْ أبي سَعيدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تَكونُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامةِ خُبزةً واحِدَة، يَتكفَّؤُها [الْجَبَّارُ] بيدِهِ، كما يَتكفَّأ أحَدُكُمْ خُبزَتَهُ في السَّفَرِ، نُزلًا لأهْل الْجَنَّةِ " فأتى رَجُلٌ منَ اليَهُودِ فقالَ: بَارَكَ الرَّحْمنُ عَلَيْكَ يا أبا القَاسم، ألا أُخْبِركَ بنزُلِ أهْلِ الْجَنَّةِ يومَ القيَامةِ؟ قالَ:" بلَى" قالَ: تكُونُ الأرْضُ خُبزةً واحدَةً يَومَ القِيَامةِ، ثمَّ قالَ: ألا أُخْبرُكَ بإدَامهمْ؟ قالَ: " بَلى " قالَ: إدَامُهُمْ بالامُ، ونُونٌ، قالَ ":" ومَا هَذَا؟ " قالَ: ثوْرٌ ونُون، يَأكلُ منْ زَائدةِ كَبِدِهِما سَبْعُونَ ألفًا

(1)

.

وقال الأعمشُ، عنْ عَبْد اللّهِ بن مُرّة، عن مَسْرُوقٍ، عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، في قوله تعالى:{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25 - 26]، قال: الرَّحيقُ: الْخَمْرُ، {مَخْتُومٍ} يَجِدُونَ عَاقبتَها رِيحَ المِسْكِ

(2)

.

وقال سُفْيَانُ، عنْ عَطاء بنِ السَّائب، عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسِ في قوله {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] قال: التسنيم: أشْرَفُ شَرَابِ أهْلِ الْجَنَّةِ، يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، ويُمْزَجُ منه لأصحاب اليمين.

قلت: وقدْ وصَفَ اللّهُ خَمْر الْجنَّةِ بصفاتٍ جَمِيلةٍ حَسَنة لَيْسَتْ في خُمُور الدُّنيا القَذِرة، فذَكَر أنَّها أنْهارٌ جَاريةٌ كما قال تعالى:{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] فهي أنْهارٌ جَاريَةٌ مُسْتَمدَّةٌ منْ عُيُونٍ تَنْبُعُ منْ تَحْتِ جبال المِسْكِ، ولَيْسَتْ مُعْتَصرةً بأرْجل الرِّجَالِ الأراذِل في أسْوَأ الأحْوالِ، وَذَكرَ أنّها لَذّةٌ لِلشّاربينَ، وليست كخَمْر الدُّنْيَا منْ كراهَةِ الطَّعم، وَسُوء الفِعْلِ في العَقْلِ، ومَغْصِ البَطْنِ، وَصُداعِ الرَّأْسِ، فقَدْ نزَّه الله تعالى أهل الجَنَّةِ عنْ ذلِكَ كُلَهِ، ونزه خمرها أن يكون فيه شيء من ذلك، كما قال تعالى:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 45 - 47]{بَيْضَاءَ} أيْ حَسَنةِ الْمَنْظَر {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} ، طَيِّبة الطعْمِ {لَا فِيهَا غَوْلٌ} والغَوْل وَجَعُ البَطْنِ، {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أي لا تُذْهِبُ عُقُولَهُمْ، وذَلِكَ أن الْمَقْصُودَ منَ الخَمْر إنما هُوَ اللَّذةُ المُطْرِبةُ، وَهيَ الْحالةُ المُبْهِجةُ الّتي يَحْصُل بهَا سرُورُ النَّفْسِ، وهَذَا حَاصلٌ في خَمر الجَنَّةِ، فأمَّا ذَهابُ العَقْل بِحَيْثُ يَبْقَى شَاربُهَا كالحَيَوانِ والمجنون، فهَذا نَقْصٌ، إنمَا يَنْشأُ عنْ خَمْرِ الدُّنْيا، فأمَّا خَمْرُ الْجَنّةِ، فَلا تُحْدِثُ لشاربها شيئًا من هذا وإنّمَا تُحدث السُّرُور وَالابْتِهاج، ولهذا قال تعالى:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أيْ تُنْزَفُ عُقُولهُمْ، فتَذْهَبُ بالْكُلِّيةِ بسبب شُرْبِها.

وقال في الآية الأخرى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا

(1)

رواه البخاري رقم (6520) ومسلم رقم (2792).

(2)

رواه البيهقي في " البعث والنشور "(361).

ص: 467

يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 17 - 19] أيْ لا تُورِثُ لهُمْ صُداعًا في رؤوسهم، ولا تُنْزِفُ عُقُولَهُمْ.

[وقال في الآية الأخرى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 25 - 28]].

وَقَدْ ذَكَزنا في "التَّفْسيرِ" عنِ عَبْدِ اللّهِ بنِ مَسْعُودٍ: إن الْجَمَاعَةَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ لَيَجْتَمعُونَ على شَرَابِهمْ كما يَجْتَمِعُ أهْلُ الدُّنْيا، فتَمرُّ بهم السَّحَابةُ، فتقول: ما تريدون أن أُمطركم، فلا يَشاؤونَ شَيْئًا إلَا أمْطَرَتْ عَلَيْهمْ، حتَّى إنَّ مِنْهُمْ منْ يَقُولُ: أمْطِرينا كَواعِبَ أتْرابًا، فتُمْطِرُهُمْ كَوَاعِبَ أتْرَابًا

(1)

.

وتقدَّمِ أنهُمْ يَجْتَمعُونَ عِنْدَ شَجَرَةِ طُوبى، فيَذْكُرُونَ لَهْوَ الدُّنْيا، [وهُوَ الطَّرَبُ]، فيَبْعَثُ اللّهُ ريحًا منَ الجَنَّةِ فتُحَرِّكُ تِلْكَ الشّجَرَةَ بكلِّ لَهْوٍ كانَ في الدُّنْيا.

وفي بَعْضِ الآثَارِ: إنَّ الْجَماعةَ منْ أهْلِ الْجَنَّةِ لَيَجْتَازُونَ وهُمْ رُكْبانٌ [سائرون] صفًّا واحدًا، فلا يمرُّون بشجرة من أشجار الجنة، إلا تنحَّت عن طريقهم [لئلا تثلم صفهم وتُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ]، وتتحفهِم من ثمرها، وهَذا كُلُّهُ منْ فَضْلِ اللّهِ عَلَيْهمْ، وَرَحْمَتِهِ بهمْ، فلَهُ الْحَمْدُ والمِنَّةُ، وذلك قوله:{رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]

والأكْوابُ هيَ الكِيزانُ الَّتي لا عُرَى لها ولا خَرَاطيمَ، والأباريقُ [بِخلافِها] لها عُرى وخراطيم، والْكأسُ هُوَ الْقَدَحُ فيهِ الشرابُ، وقال الله تعالى:{وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] أيْ ملأى مُتْرَعةً، لَيْس فيها نَقْصٌ، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [النبأ: 35] أيْ لا يَصْدُرُ منْهُمْ على شَرَابهمْ شَيْءٌ منَ اللَّغوِ، وهُوَ الكلامُ السَّاقطُ التّافِهُ، ولا تَكْذيبٌ لِبَعْضِهمْ بَعْضًا، كما يَصْدُرُ منْ شَرَبةِ الدُّنيا، كما قال تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] وقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26]، وقال:{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11].

وثبت في " الصَّحيحين " عن حُذَيْفةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَشربُوا في آنِيَةِ الذهَبِ والفِضَّةِ، ولا تَأكُلُوا في صِحَافها، فإنّها لهم في الدُّنْيا ولكم في الآخرة

(2)

.

‌ذِكْر لباس أهل الجنة فيها وحِلْيتهم وصفات ثيابهم نسأل الله من فضله

قال الله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ

(1)

ذكره المؤلف في سورة النبأ عند قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 33] عن أبي أمامة، لا عن ابن مسعود.

(2)

رواه البخاري رقم (5426) ومسلم (2067).

ص: 468

لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 21]، وقال تعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 30 - 31].

وَقَدْ ثَبتَ في " الصَّحيحين " عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: " تَبْلُغُ الْحِلْيةُ منَ الْمُؤْمنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضوءُ "

(1)

.

وقال الحسَنُ البَصْريُّ: الْحُلِيُّ في الْجَنَّةِ على الرّجالِ أحْسنُ منْهُ على النِّساءِ.

وقال ابنُ وَهْبٍ: حدّثني ابْنُ لَهيعَةَ، عنْ عُقَيلِ بنِ خَالِدٍ، عن الحَسَنِ، عن أبي هُرَيرةَ: أنَّ أبَا أُمَامَةَ حَدَّثَهُ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ، وَذَكَرَ حَلْيَ أهْلِ الْجَنَّةِ، قالَ:" مُسَوّرُونَ بالذهبِ والفِضةِ، مُكَحَّلُونَ بالدُّرِّ، عَلَيْهمْ أكاليلُ منْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ مُتَواصِلةٌ، وَعَلَيْهمْ تَاجٌ كَتَاجِ الْمُلُوكِ، شَبَابٌ جُرْدٌ مُكَحَّلُونَ "

(2)

.

وقال ابنُ أبي الدُّنْيَا: حدّثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، حدّثنا الْحسنُ بنُ مُوسى، [حدّثنا ابن لهيعة]، حدّثنا يزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ، عن دَاوُدَ بنِ عَامِرِ بن سَعْدِ بن أبي وقّاصٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لَوْ أن رَجُلًا منْ أهْلِ الْجَنَّةِ اطّلَعَ فبَدَا سِوَارُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشمْسِ، كما تَطْمِسُ الشمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ "

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا يَحْيَى بنُ إسْحاقَ، أنبأنا حَمَّادُ بنُ سَلمةَ، عنْ ثابتٍ، عنْ أبي رَافِعٍ، عنْ أبي هُرَيرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ يَدْخُلِ الْجَنَّةِ يَنْعَمْ، لا يَبْأسُ، ولا تَبْلَى ثِيَابُهُ، ولا يَفْنَى شَبَابُه، في الْجَنَّةِ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ ". وأخرجهُ مُسْلِمٌ منْ حديثِ زُهَيْرِ بن حَرْبٍ، عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن مَهْديّ، عن حَمَّادِ بن سَلَمة، إلى قوله:" لا تَبْلَى ثِيابُه، ولا يَفْنى شَبَابُه "

(4)

.

وقال أحمد: حدّثنا عليّ بنُ عَبْدِ اللّهِ، حدّثنا مُعاذُ بن هِشَامٍ، حدّثنا أبي، عن قَتَادَةَ، عن

(1)

رواه مسلم رقم (250) وليس عند البخاري.

(2)

رواه أبو نعيم في " صفة الجنة"(267).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(225) وأخرجه أحمد في المسند (1/ 171) والترمذي رقم (2538) من طريق ابن المبارك عن ابن لهيعة به، وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 369)، ومسلم رقم (2836).

ص: 469

خِلَاسٍ، عن أبي رَافِعٍ، عن أبي هُرَيْرةَ: أنَّ نَبيَّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: " لِلْمُؤْمن زَوْجتانِ، يُرَى مُخّ سُوقهمَا منْ وَرَاء ثيابهما "

(1)

.

وقال الطبرانيّ: حدَّثنا أحمدُ بنُ عَليّ

(2)

، والْحَسنُ بنُ عَليّ الفَسَوِي، قالا: حدّثنا سَعيدُ بنُ سُليمانَ، حدّثنا فُضَيْلُ بنُ مَرْزُوقٍ، عن أبي إسْحاقَ، عن عَمْرو بن مَيْمُونٍ، عن عَبْدِ اللّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلونَ الْجَنَّةَ كان وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ القَمَر لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثانيةُ على لَوْنِ أحْسَنِ كَوْكَب دُرِّيِّ في السَّمَاء، لِكُلّ وَاحِد منْهُمْ زَوْجَتانِ منَ الْحُورِ الْعينِ، على كُل زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّة، يُرى مُخّ سوقِهما منْ وَراءِ لُحُومِهما وحُلَلِهما، كما يُرَى الشرَابُ الأحْمَرُ فى الزُّجَاجةِ الْبَيْضاء ". قال الضياء: هَذا عِنْدي على شَرْطِ الصَّحيح

(3)

.

وقال أحمدُ: حدّثنا يُونسُ بنُ محمَّدٍ، حدَّثنا الْخَزْرجُ بنُ عُثْمانَ السَّعْديّ، حدَّثنا أبو أيُوبَ مَوْلًى لِعُثْمان بنِ عَفَّانَ، عن أبي هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " قِيد سَوْطِ أحدِكُمْ منَ الْجَنةِ خَيْرٌ منَ الدُّنْيَا، ومِثْلِهَا مَعَها، وَلَقابُ قَوْسِ أحدِكم منَ الجَنّة خيْرٌ منَ الدُّنْيا وَمِثْلِها مَعَها، وَلَنصيفُ امْرأةٍ منَ الْجَنَّةِ خير منَ الدُّنيا ومِثْلِها مَعَها " قال: قُلْتُ: يا أبا هُرَيْرَةَ، وما النَّصيفُ؟ قال: الخِمَارُ. قُلْتُ: الخَزْرَجُ بنُ عُثْمان البَصْريُّ تَكَلَّموا فيهِ، وَلكِن لهُ شاهدٌ في الصَّحيح، كما تقدَّمَ في " صحيح البخاريّ " عنْ أنَسِ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم، وَفيهِ:" وَلَنصيفُهَا، يَعْني خِمَارهَا " خَيْرٌ منَ الدُّنْيَا ومَا فيها "

(4)

.

وقال حَرْملةُ، عنِ ابْنِ وَهْبٍ: حدَّثنا عَمْرٌو: أنَّ دَرَّاجًا أبَا السَّمْحِ حدَّثَهُ، عن أبي الْهَيْثمِ، عن أبي سَعيدٍ الْخُدْريّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرَّجُلَ في الْجَنّةِ لَيَتَّكئ سبْعينَ سنة قبْلَ أنْ يَتَحَوَّلَ، ثمَّ تَأتيهِ امْرأةٌ فَتَضْرِبُ على مَنْكِبَيْهِ، فيَنْظُرُ وَجْهَهُ في خَدِّها أصْفَى منَ المِرآةِ، وإن أدْنَى لُؤْلُوَّةٍ عَلَيْها لتُضيءُ ما بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ عليها السَّلامَ وَيَسألُها: منْ أنْتِ؟ فتقُولُ: أنا المَزيدُ، وإنهُ لَيَكُونُ عَلَيْها سَبْعُونَ ثَوْبًا أدْناهَا مِثْلُ النُّعْمان

(5)

مِنْ طُوبَى، فيُنْفِذُهَا بَصَرهُ حتى يَرَى مُخّ ساقِها منْ وَرَاءَ ذَلِك، وإن عَلَيْهم التِّيجانَ، وإنَّ أدْنَى لُؤْلُؤةٍ عَليْها لتُضِيءُ مَا بينَ الْمَشْرقِ وَالْمَغْربِ ". ورواه أحمدُ عنْ حسنِ، عن ابْنِ لَهيعَةَ، عن دَرَّاجٍ، به بطُولِه

(6)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 385) وإسناده صحيح.

(2)

كذا في (آ): أحمد بن علي، والذي في "معجم الطبراني الكبير": أحمد بن يحيى.

(3)

رواه الطبراني في " الكبير "(10321) أقول: فيه عنعنة أبي إسحاق، وفضيل بن مرزوق صدوق يهم، ولكن للحديث شواهد يقوى بها.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 483) وشاهده في البخاري رقم (6563).

(5)

أي مثل شقائق النعمان.

(6)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 75) وإسناده ضعيف.

ص: 470

وقال ابنُ وَهْبٍ: أخْبرني عَمْرو بنُ الحارث، عن أبي السَّمْح، عن أبي الْهَيْثَم، عن أبي سَعيدٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلا قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر: 33] فقال: " إنَّ عَليهم التِّيجَانَ، إنَّ أدْنى لُؤلُؤةٍ منْها لتُضيءُ ما بينَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ". وقد روى الترمذي منه ذكر التيجان، من حديث عمرو بن الحارث

(1)

.

وروى الإمامُ أحمد عن عَبْد الرَّحْمن بنِ مَهْدِيّ، عنْ محمّدِ بن أبي الوَضَاح، عن الْعَلاءِ بنِ عبْدِ اللّهِ بنِ رَافِعٍ، عنْ حَنانِ بنِ خارجة السُّلمِيّ، عن عبْد اللّهِ بن عَمْرو، قال: جَاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللّهِ، أخبِرْنا عَنْ ثِيابِ أهْلِ الْجَنَّةِ: خَلْقًا تُخْلَقُ، أمْ نَسْجًا تُنْسجُ؟ فَضَحِك بَعْضُ القَوْمِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" ممَّ تَضْحكُون؟ منْ جَاهِل يَسْألُ عَالِمًا؟ " ثمَّ أكَبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال:" أيْنَ السَّائلُ؟ " قال: ها هُو ذا أنا يا رسولَ الله، قال:" لا، بلْ تَشَقَّقُ عَنْها ثَمَرُ الْجَنَّةِ " ثلاثَ مَرَّاتٍ.

ورواهُ أحمدُ أيضًا عن أبي كامِلٍ، عنْ زيَاد بن عَبْدِ الله بن عُلاثَةَ القَاصِّ أبي سَهْل، عن العَلاء بن رَافِعٍ، عنِ الفَرَزدقِ بنِ حَنانٍ

(2)

، عنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بن العَاصِ

فذكر نحوه

(3)

.

وفي حديث دَرَّاجٍ، عن أبي الْهَيْثمِ، عن أبي سعيدٍ، أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، وما طُوبى؟ قال:" شَجرةٌ في الْجَنَّةِ مَسيرةُ مِئَةِ سَنَةٍ، ثِيابُ أهْل الْجَنَّةِ تَخْرُجُ منْ أكْمَامِها "

(4)

.

وقال أبُو بَكْر ابن أبي الدُّنْيا: حدّثني محمّد بنُ إدْريسَ الْحَنْظَليّ، حدَّثنا أبو عُتْبَة، حدّثنا إسْمَاعيلُ بنُ عَيَّاش، عن سَعيدِ بن يُوسُفَ، عن يَحْيَى بن أبي كثيرِ، عنْ أبي سَلَّام الأسْوَدِ، سَمِعْتُ أبَا أُمَامَةَ، عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما منْكُمْ منْ أحْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةِ إلَّا انْطُلِقَ بهِ إلى طُوبَى، فَتَفَتَحُ لهُ أكْمَامُهَا عن ألوان الثياب، يَأخُذُ منْ أيِّ ذلِكَ شاء، [إن شاءَ] أبْيَضَ، وإن شاء أحمر، وإن شاءَ أخْضَرَ، وإنْ شاءَ أصْفَرَ، وإنْ شَاءَ أسْودَ، مِثلَ شَقَائقِ النُّعْمانِ، وَأرَقُّ، وأحسن ". غريبٌ حسنٌ

(5)

.

وقال ابنُ أبي الدُّنْيا: حدَّثنا سُوَيْدُ بنُ سعيدٍ، حدَّثنا عَبْدُ رَبِّه بنُ بَارِقٍ الْحَنفيّ، عن خَالِهِ الزُّمَيْلِ: أنَّهُ سمِعَ أباه، قال: قُلتُ لابْن عبَّاسِ: ما حُللُ أهْل

(6)

الْجَنَّةِ؟ قال: فيْهَا شَجَرةٌ فيها ثمر كأنَّهُ

(1)

رواه الترمذي رقم (2562) وإسناده ضعيف.

(2)

في الأصول: حيَّان، والصواب: حنان بن خارجة، كما سبق في السند قبله، أخطأ في تسميته ابن علاثة.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 224) و (203) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 71) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "(149) أقول: سعيد بن يوسف الرحبي، ضعيف.

(6)

في (آ): ما أرض الجنة.

ص: 471

الرُّمَّانُ، فإذا أرَادَ وَليُّ الله كُسْوةً انْحَدَرَتْ إليْهِ منْ غُصْنِها، فَانْفَلَقَتْ عَنْ سَبْعينَ حُلَّةً، ألْوانا بَعْدَ ألْوَان، ثمَّ تنطبق، فتَرْجِعُ كما كانَتْ.

وتَقَدَّمَ عنِ الثوْرِيّ، عن حمَّادٍ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عبَّاسٍ أنّهُ قالَ: نَخلُ الجنة جُذُوعُها منْ زُمُزُدٍ أخْضَرَ، وكرَبها منْ ذَهَبٍ أحمرَ، وسَعَفُهَا كُسْوةٌ لأهْلِ الجَنَّةِ، منْها مُقَطعَاتُهُمْ وحُلَلُهُمْ.

‌صفة فرش أهل الجنَّة

قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 54 - 55].

فإذا كانت البَطائنُ منْ إسْتَبَرقٍ، فمَا الظن بالظَّهَائر، قاله ابن مسعود. وقال تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34].

وَرَوى أحمدُ والتِّرْمذيُّ منْ حديثِ دَرَّاجٍ، عن أبي الهَيْثَمِ، عن أبي سَعيدٍ: أنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، قال:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "وَالّذي نَفْسِي بِيَدِه، إنَّ ارْتِفَاعَها لكمَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأرْضِ، وإنَّ ما بَيْن السَّماء وَالأرْضِ مَسيرَةُ خَمْسِمئَةِ عَامٍ" ثم قال: غريبٌ، لا نعْرِفُهُ إلَّا منْ حديثِ رِشدينَ، يَعْني عنْ عَمْرو بن الْحَارِث، عنْ دَرَّاج.

قلتُ: وقد رواه حَرْملةُ، عن ابن وَهْبٍ، ثمَّ قال التّرْمِذيّ: وقالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ في تفسيرِ هذا الحديثِ: إنَّ مَعْناهُ: الفُرُشُ في الدَّرَجَاتِ، وَبَيْنَ الدَّرَجاتِ كما بَيْنَ السَّماءِ وَالأرْضِ.

قلت: وممَّا يُقَوِّي هذا ما رواهُ عَبْدُ اللّهِ بنُ وَهْبٍ، عن عَمْرٍو، عن دَرَّاجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سَعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "ما بَيْنَ الفِرَاشَيْن كما بينَ السَّماء والأرْضِ". وهَذَا أشْبَهُ أنْ يكُونَ مَحْفُوظًا

(1)

.

وقال حمَّادُ بنُ سَلمةَ، عن عليّ بنِ زَيْدٍ، عن مُطَرِّفِ بن عَبْدِ اللهِ بن الشِّخِّيرِ، عن كعْبِ الأحْبَارِ، في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: مَسيرةُ أربَعينَ سَنَةً، يَعْني أنَّ الفُرُشَ في كل مَحلٍّ ومَوْطنٍ مَوْجُودةٌ مُهَيَّأةٌ لاحْتِمَالِ الاحْتِيَاجِ إليْها في ذلك المَوْضعِ، كما قال تعالى:{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشيه: 12 - 16] أي النَّمارِقُ وَهِيَ المَخادُّ مَصْفُوفةٌ في كلِّ مَكانٍ يَليقُ بها، لاحْتِمالِ الاحْتِيَاجِ إلَيْها في ذلك المكان، وكذا الزَّرَابيُ -وَهِيَ البُسُط الْجِيَادُ المفتخرة- مَبْثُوثةٌ هاهُنا وهَاهُنا، في أماكِنِ المتنزَّهات منَ الْجَنَّةِ، كما قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 75) والترمذي رقم (2540) ورواه ابن حبان (7405) من طريق حرملة، والبيهقي في "البعث والنشور"(342) من طريق ابن وهب، وهو حديث ضعيف.

ص: 472

رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] والعَبَاقريُّ هي عِتاقُ البُسُطِ، أيْ جِيادُهَا وَخِيارُها وحِسَانُها، وهي بسط الجنة، لا الدنيا، وَقَدْ خُوطِبَ العَرَبُ بما هُوَ معروف عِنْدهُمْ، وفي الجنة ما هو أحْسنُ وأجمل وأبهى وأعْظَمُ ممَّا في النُّفُوسِ وَأجلُّ، منْ كلِّ صِنْفٍ ونَوْعٍ منْ أصناف المَلاذِّ، وأجناس الأشياء كلها، وألذُّ في المَناظِر والنفوس.

وَالنَّمَارِقُ: جَمْعُ نُمْرُقةٍ بضمِّ النُّونِ، وحُكيَ كسْرُها، وهي الوَسَائدُ، وَقيلَ: الْمَساندُ، وَقَدْ يَعُمُّها اللّفْظُ. وَالزّرَابيُّ: البُسُطُ. وَالرَّفْرَفُ: قيلَ: رياضُ الجَنَّةِ، وما يكون على شاطئ الأنهار من النبات والأزهار، وقيلَ: ضَرْبٌ منَ الثِّيابِ. والعَبْقَريُّ: جِيادُ البُسُطِ، وقيل غير ذلك، واللّه أعلم.

‌صفة الحور العين، وبنات آدم وشرفهن وفضلهن عليهن وكم لكل واحد منهن

قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 54 - 57] وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 70 - 75] وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] أيْ منَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالبُصَاقِ، والمخاط، فلا يَصْدُرُ مِنْهُنَّ أذىً أبدًا، وكذلك طَهُرَتْ أخلاقهن وألفاظهن وقلوبهن.

وقال عَبْدُ اللّهِ بنُ المُبَارَكِ: حدّثنا شُعْبَةُ، حدّثنا قَتادةُ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فِيهَآ أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ} قال: " منَ الْحَيْضِ وَالنِّفاسِ، وَالنّجَاسَةِ، وَالبُصَاقِ "

(1)

.

وقال أبو الأحْوَصِ عِنْدَ قَوْلهِ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال: بَلَغنا في الرِّوَايَةِ أن سَحَابة مَطَرَتْ منَ العَرش، فَخُلِقْنَ منْ قَطَراتِ الرَّحْمةِ، ثمَّ ضُرِبَ على كلِّ وَاحِدَة منهن خَيْمةٌ على شاطئ الأنْهارِ، وسَعَةُ الخيمة أرْبَعُونَ ميلًا، وَلَيْسَ لها بَابٌ، حتَّى إذا حَلَّ وَليُّ اللّهِ بالْخَيْمةِ انْصَدَعَتِ الْخَيْمةُ عن باب لِيَعْلَمَ وَليُّ اللّهِ أنَّ أبْصَارَ الْمَخْلوقينَ منَ الملائكةِ وَالخَدم لم تنظر إليها، فهُنَّ مقصورات عن إبصَارِ المخلوقين.

وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 22 - 24] وقال في الآية الأخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] قيل: إنّهُ بَيْضُ النَّعامِ الْمَكْنُون في الرمْلِ، وهُوَ

(1)

رواه أبو نعيم في " صفة الجنة "(363) من طريق ابن المبارك.

ص: 473

عِنْد العَرَبِ أحْسَنُ أنواع البيض، وقيلَ: المرادُ بهِ اللُؤلؤ قَبْلَ أنْ يَبْرُزَ مِنْ صَدَفِهِ، وقال تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 35 - 38] أي {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} بعْدَ الكِبَرِ وَالعَجْزِ وَالضَّعْفِ في الدُّنْيا، فَصِرْنَ في الجَنَّةِ شَبَابًا {أَبْكَارًا (36) عُرُبًا} أيْ مُتَحَبِّبَاتٍ إلى أزواجهن، وقيل المراد به: الغَنِجة، وقيل: الشَّكِلة. والآية تعمُّ هذا كله وأضعافه {أَتْرَابًا} أي في عمُر واحد، لا يزدن ولا ينقصن بل هن في سن واحدة.

وقال الطَّبرانيُّ: حدَّثنا بكرُ بنُ سَهْل الدِّمْياطيّ، حدّثنا عَمْرُو بنُ هاشِم البَيْرُوتيّ، حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ أبي كريمةَ، عن هِشَامِ بنِ حَبَّان، عن الحسن، عنْ أُمِّهِ، عن أُمِّ سَلَمةَ قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخْبِرْني عنْ قَوْلِ الله تعالى:{وَحُورٌ عِينٌ} قال: " {وَحُورٌ} بيضٌ {عِينٌ} ضِخام العُيُونِ شُفْرٌ

(1)

الْحَوْراء، بمنزِلة جَنَاحِ النّسْرِ" قلتُ: يا رسول الله أخْبِرْني عنْ قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قال: "صَفاؤُهُن صَفاءُ الدُّرِّ الّذي في الأصْدَافِ الّذِي لم تَمسَّهُ الأيْدِي ".

قلتُ: يا رسول الله أخبرني عن قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قال: " خيرات الأخلاق، حسان الوجوه " قلتُ: يا رسولَ الله، أخْبرْني عن قوله:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} قال: " رِقّتُهُنّ كرِقّةِ الجِلْدِ الذي يكون في دَاخِل البَيْضَةِ ممّا يلي القِشْرَةَ، وَهُوَ الْغِرْقئ ".

قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أخْبِرْني عن قَوْله {عُرُبًا أَتْرَابًا} قال: " هُنَّ اللَّواتي قُبضْنَ في دَارِ الدُّنْيا عَجائزَ رُمْضًا

(2)

شُمْطًا، خَلَقَهُنَّ الله بَعْدَ الكِبَرِ، فَجَعَلهُنَّ عَذَارَى {عُرُبًا} مُتَعشَقَات مُحَبِّباتٍ إلى أزواجهن {أَتْرَابًا} على مِيلادٍ وَاحِدٍ ".

قلت: يارسولَ اللهِ، نِسَاءُ الدُّنْيَا أفْضلُ، أم الْحُورُ العِينُ؟ قالَ:" بَلْ نِساءُ الدُّنيا أفْضلُ منَ الحُورِ العينِ، كفَضْلِ الظِّهارةِ على البِطَانَةِ ".

قلت: يا رسولَ الله، بماذا؟ قال:" بِصَلاتِهنَّ وَصِيامِهنَّ، وعِبَادَتِهنَّ اللّهَ، ألْبسَ اللّهُ وجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأجْسَادَهُنَّ الْحَرير، بِيضُ الألْوانِ، خُضْرُ الثِّيابِ، صُفْرُ الْحَلْي، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فلا نَمُوتُ، ونَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا نَبْأس، ونَحْنُ المُقيمَاتُ فَلا نَظْعَنُ أبدًا، ألا ونَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلا نَسْخَطُ أبدًا، طُوبى لِمَنْ كُنَّا لَهُ، وكانَ لَنا ".

قلتُ: يا رَسُول اللهِ، المَرْأةُ مِنَّا تَتَزَوجُ الزوْجَيْنِ، وَالثلاثةَ، وَالأرْبَعةَ، ثم تَمُوتُ، فتدخْلُ الْجنَّةَ، ويدْخُلُونَ مَعَها، منْ يَكُونُ زَوْجُها؟ قال:" يا أُمِّ سَلَمة، إنها تُخَيَّرُ فتَخْتارُ أحْسَنهُمْ خُلُقًا،

(1)

الشُّفر: المراد به حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر.

(2)

جمع رمضة، وهي المرأة التي تحك فخذها بفخذها الأخرى.

ص: 474

تقُولُ: يا رَبِّ، إنَّ هَذا كانَ أحْسَنَهُمْ مَعي خُلُقًا في دَار الدُّنْيَا، فَزوَّجنيهِ. يا أُمّ سَلَمةَ، ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بخَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرةِ "

(1)

.

وقالَ (محمد بن عثمان)

(2)

بنِ أبي شَيْبَةَ: حدّثنا أحمدُ بنُ طارقٍ، حدّثنا مَسْعدةُ بنُ الْيَسَعِ، حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، عنْ قَتادةَ، عنْ سَعيدِ بْنِ المُسَيبِ، عنْ عَائِشَةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتَتْهُ عَجُوز منَ الأنْصَارِ، فقالت: يا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يُدْخِلْني الْجَنَّةَ، فقال:" إنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُها عَجُوزٌ "، فذَهَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، ثمَّ رَجعَ إلى عائشةَ، فقَالت: لَقَد لَقِيتْ منْ كلَمتك مَشَقَّة وشِدَّةً، فقالَ:" إنَّ ذَلِكَ كَذلكَ، إنَّ الله إذا أَدْخَلهنَّ الْجنَّة حوَّلَهُنَّ أبْكارًا "

(3)

.

وتقدّم في حَديثِ الصُّورِ في صِفَةِ دُخُولِ الْمُؤْمنينَ الْجَنَّة، قال: فَيَدْخُلُ الرَّجُلُ منْهُمْ على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعينَ زَوْجةً، سبعين ممَّا يُنْشئُ اللهُ عز وجل، وثِنْتين منْ وَلَدِ آدَمَ، لَهُما فَضلٌ علَى منْ أنْشأ الله؛ بِعَبادتِهمَا اللّهَ في الدُّنْيا، يَدْخُلُ على الأولى مِنْهُما في غُرْفةٍ منْ يَاقُوتَة، على سَريرٍ منْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلٍ بِاللُّؤلؤِ، علَيْهِ سَبْعُونَ زَوْجًا منْ سُنْدُس وإسْتَبرَق، وإنَّهُ لَيَضعُ يَدَهُ بَين كَتِفَيْها، ثمّ يَنْظُرُ إلى يَدِه مِنْ صَدْرِهَا، مِنْ وَراءَ ثيَابِهَا وَجِلْدهَا وَلَحْمها، وإنَّهُ لَيْنُظُرُ إلى مُخِّ سَاقِها كما يَنْظُرُ أحَدكُمْ إلى السِّلْكِ في قَصَبةِ الْيَاقُوتِ، كَبِدُهُ لها مرآةٌ، وكَبِدُها لهُ مرآة، فبَيْنما هُوَ عِنْدها لا يَمَلُّها ولا تَمَلُّهُ، ولا يأتِيهَا مَرَّةً إلَّا وجَدَها عَذْرَاء ما يَفْتُرُ ذَكَرُهُ، ولا يَشْتَكي قُبُلُهَا، إلَّا أنَّه لا مَنيَّ ولا مَنِيَّةً، فَبينما هُوَ عندها إذْ نُودي: إنا قَدْ عَرَفْنا أنَّكَ لا تَمَلُّ، ولا تُمَلُّ، إلَّا أنَّ لَكَ أزْواجًا غيْرَها، فيَخْرُجُ فَيأتِيهنَّ وَاحدةً، واحدةً، كُلَّما جَاءَ وَاحِدة، قالت: واللّهِ ما في الْجَنَّةِ أحْسَنُ مِنْكَ، وما في الجَنَّةِ شيء أحَبُّ إليَّ مِنْكَ ". وَلهذا الْحَديث شَوَاهِدُ منْ وُجوهٍ كَثيرةٍ، تَقَدَّمَتْ، وسيأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وتَقَدَمَ الْحَديثُ الَّذي رَواه الإمامُ أحْمدُ منْ حَديثِ أشعث الضرير، عنْ شَهْرِ بن حوْشبٍ، عنْ أبي هُرَيْرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفيه:" وإنَّ لهُ منَ الْحُورِ الْعِينِ لاثْنَتَيْنِ وَسَبْعينَ زوْجةً سِوَى أزْواجِه من الدُّنْيا، وإنَّ الْوَاحدة منْهُن ليَأخُذُ مَقْعَدُها قَدْرَ ميلٍ منَ الأرْضِ "

(4)

.

وقالَ حَرْملةُ، عن ابْن وَهْبٍ: حَدَّثَنا عَمْرٌو: أنَّ دَرَّاجًا أبا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ أبي الْهَيْثمِ، عَنْ أبي سَعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: " أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزلةً الَّذي لهُ ثمَانُونَ ألفَ خادِمٍ، وَاثْنتانِ وَسَبْعُونَ

(1)

رواه الطبراني في" المعجم الكبير "(23/ 870) وفي سنده سليمان بن أبي كريمة، ضعفه أبو حاتم. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه منكرة. ولا يعرف إلا بهذا السند.

(2)

في الأصول: أبو بكر.

(3)

رواه الطبراني في " الأوسط " رقم (5545) عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة -لا عن أبي بكر بن أبي شيبة- عن أحمد بن طارق به، وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد يقوى بها.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 537) وإسناده ضعيف.

ص: 475

زوْجةً، وتُنْصبُ له قُبَّةٌ منْ لُؤْلُؤٍ وزَبْرَجَدٍ ويَاقُوتٍ، كما بَيْن الْجَابيَة وَصَنْعَاءَ". وَأسْندهُ أحْمَدُ عَنْ حَسَنٍ، عَنْ ابن لَهِيعَةَ، عنْ دَرَّاج، به، ورواه الترمذيُّ عَنْ سُوَيْدِ بن نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ رِشْدِينَ، عَنْ عَمْرِو بن الحَارِث

، فذكره بإسناده نَحْوَهُ

(1)

.

وقال محمدُ بن جَعْفر الفريابيُّ: حدّثنا أبو أيُّوبَ سُلَيمانُ بنُ عبد الرَّحْمنِ، حدّثنا خالدُ بنُ يزيدَ بن أبي مالِكٍ، عنْ أبيه، عَنْ خالِدِ بن مَعْدانَ، عَنْ أبي أُمامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعينَ زَوْجةً، ثنتين منَ الحورِ العِينِ، وسبعين منْ أهْلِ مِيرَاثِه منْ أهْلِ الدُّنْيا، لَيْسَ منهنَّ امرأةٌ إلا ولَها قُبُلٌ شَهيٌّ، ولَهُ ذكَرٌ لا يَنْثني". وهذا حَديثٌ غَريبٌ جدًّا، والْمَحْفوظُ -كما تقدَّم- خِلافُه، وهو اثنتان من بنَاتِ آدَمَ، وسَبْعونَ منَ الْحُورِ الْعِين، فالله أعلم.

وخَالِد بن يَزيد بن أبي مَالكٍ هَذَا تَكلَّم فيه الإمام أحمدُ، وَيَحْيَى بنُ مَعين، وغيْرُهُما، وضعَّفُوه، ومِثْلُه قَدْ يَغْلَطُ، ولا يُتْقِنُ.

ورَوَى أحمدُ، والتِّرْمذيُّ، وصحَّحَهُ، وابنُ مَاجَهْ، منْ حديثِ بَحيْر بن سَعْدٍ، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن المِقْدَامِ بن مَعْديكرِبَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ للشَّهيدِ عند الله لَستَّ خِصالٍ، يُغْفرُ لهُ عِنْدَ أوَّلِ دُفعة من دمه، وَيرَى مَقْعدَهُ في الجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإيمانِ، ويُجارُ منْ عذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمنُ منَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رأْسِه تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتةُ منْهُ خيْرٌ منَ الدُّنْيا وما فِيها، ويُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعينَ زوْجةً منَ الحُورِ العِين، ويَشْفعُ في سبْعينَ إنسانًا منْ أقَارِبهِ"

(2)

.

فأمَّا الحديثُ الّذِي رواهُ مُسْلمٌ في "صحيحِهِ": حدّثني عَمرو النّاقدُ، وَيَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهيمَ الدَّوْرقيُّ جَميعًا، عن ابنِ عُلَيَّةَ، واللّفظُ ليَعْقُوبَ، قال: حدّثنا ابنُ عُلَيَّة، حدّثنا أيُّوبُ، عن محمّدٍ، قال: إمَّا تَفَاخَرُوا، وإمَّا تَذَاكَرُوا: الرِّجَالُ أكْثرُ في الْجَنَّةِ أمِ النِّساءُ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: ألَمْ يَقُلْ أبُو القَاسم صلى الله عليه وسلم: "إن أوَّلَ زُمْرَةٍ تدخل الْجَنَّةَ على صُور القمَرِ ليْلةَ البَدْرِ، وَالَّتي تَليها على أضْوَإِ كَوْكبٍ دُرِّيّ في السَّماءِ، لِكلِّ امْرئٍ منْهُمْ زوْجَتانِ اثْنَتَانِ، يُرى مُخُّ سُوقِهما منْ وَرَاءِ اللّحْمِ، وما في الْجَنَّة أعْزَبُ".

وفي "الصَّحيحين" منْ رِوايةِ همَّامٍ، عن أبي هُرَيرةَ، نَحْوُهُ

(3)

.

فالمرادُ منْ هذا أنَّ هَاتيْنِ منْ بناتِ آدَمَ، وله غيرهما منَ الحُورِ العِينِ ما شاءَ اللهُ عز وجل، كما تَقَدَّمَ تفصيلُ ذلك آنِفًا، واللهُ أعلمُ.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 76) والترمذي رقم (2562) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799) وهو حديث حسن.

(3)

رواه مسلم (2834) والبخاري (3245).

ص: 476

[وهذه الأحاديثُ لا تُعارضُ ما ثبتَ في "الصّحيحينِ": "وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ فرَأيْتُ أكْثرَ أهْلِها النِّساء"

(1)

]، إذْ قَدْ يكُنَّ أكْثرَ أهْلِ الْجنَّةِ، وأكْثَرَ أهْلِ النَّارِ، [أو قد يكن أكثر أهل النار] ثمَّ يَخْرُجُ منْ يَخْرُجُ منْهُنَّ من النَّار بالشَّفَاعَاتِ، فيَصِرْنَ إلى الجنَّةِ، حتَّى يكُنَّ أكْثرَ أهْلِها، والله أعلم.

وتقدَّمَ ما رَواهُ أحمدُ منْ طريقِ خِلاسٍ، عنْ أبي رَافعٍ، عنْ أبي هُريرةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لِلْمُؤمنِ زوْجتانِ، يُرى مُخّ سُوقِهما منْ وَراءِ ثيابهما"

(2)

.

وفي حديثِ دَرَّاج، عن أبي الهَيْثَمِ، عن أبي سَعيدٍ مَرْفُوعًا:"إنَّ الرّجُلَ من أهل الجنَّةِ لَيَتَكِئُ سبْعينَ سنةً قبلَ أنْ يَتحَوَّلَ، ثمّ تأتيهِ امْرأةٌ فتضْرِبُ على مَنْكِبَيْهِ، فينظر وَجْهَهُ في خدِّهَا أصْفَى منَ المِرآةِ، وإنّ أدْنى لُؤلُؤةٍ عَلَيْها لَتُضِيءُ ما بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فيرُدّ السَّلامَ ويسألها: منْ أنْتِ؟ فتقولُ: أنا المَزيدُ، وَإنَّهُ لَيكُونُ عَليْها سبْعُون ثَوْبًا، [أدْنَاها] مثْلُ النُّعْمَانِ منْ طُوبَى، فيُنْفِذُها بَصَرهُ، حتّى يَرَى مُخَّ ساقِهَا منْ وَرَاءِ ذلك". ورواه أحمد في "المسند"

(3)

.

وقال الإمامُ أحمد: حدّثنا أبو النَّضْرِ، حدّثنا محمدُ بنُ طَلْحَة، عن حُمَيْدٍ، عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَغَدْوةٌ في سبِيلِ اللهِ أوْ رَوْحةٌ، خيْرٌ منَ الدُّنْيَا وما فيهَا، ولَقَابُ قَوْسِ أحَدِكم، أوْ مَوْضِعُ قِدِّهِ" يَعْني سَوْطَهُ "منَ الجنَّةِ خَيْرٌ منَ الدُّنْيا ومَا فِيهَا، ولَوِ اطَّلَعَتِ امْرأةٌ منْ نساء أهْلِ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لَمَلأَتْ ما بَيْنَهُمَا ريحًا، ولَطَاب ما بَيْنَهُما، وَلَنَصيفُها على رَأْسِها خيْرٌ منَ الدُّنْيا وما فيها ". رواهُ البُخاريُّ منْ حديث إسماعيل بنِ جَعْفرٍ، وأبي إسْحاقَ، كِلاهُما عن حُمَيْد، عنْ أنس، بمثْلِهِ. وقد تقدَّمَ بتمامِهِ في أوَّلِ صِفةِ الجَنّةِ، وَعِنْد البُخاريّ:"ولوْ أنَّ امْرَأة منْ نِسَاء أهْل الجنَّةِ اطّلعَتْ إلى الأرْضِ لأضاءَتْ ما بَيْنهُما، وَلَمَلأَتْ ما بَيْنَهُما ريحًا، وَلَنَصِيفُها على رأْسِها خيْرٌ منَ الدُّنيا وما فيها"

(4)

.

وقال أبو بَكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا بِشْرُ بنُ الوليد، حدّثنا سَعِيدُ بنُ زَرْبيٍّ، عن عَبْدِ الْمَلِكِ الْجَوْنيّ، عن سعيدِ بن جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: لوْ أنَّ حَوْراءَ أخْرَجَتْ كَفَّها بَيْنَ السَّماء وَالأرْضِ لافْتَتَنَ الخلائقُ بِحُسْنِها، ولو أخْرَجَتْ نَصِيفَها لكانَتِ الشّمْسُ عِنْدَ حُسْنِها مِثْل الفَتيلةِ في الشّمْسِ لا ضَوْءَ لها، ولوْ أبْرَزَتْ وَجْهها لأضاءَ حُسْنُها ما بَيْنَ السَّماء وَالأرْضِ

(5)

.

(1)

رواه البخاري (6449) ومسلم (2737).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 385) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد (3/ 75) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 141) والبخاري (2796) و (6568).

(5)

إسناده ضعيف، سعيد بن زربي منكر الحديث.

ص: 477

وذكر ابْنُ وَهْبٍ، عن محمدِ بن كَعْب القُرَظِيّ: أنّهُ قال: وَاللهِ الّذِي لا إلهَ إلّا هُوَ، لوْ أنَّ امْرأةً منَ الْحُورِ الْعِينِ أطْلَعتْ سِوَارَها منَ العَرْش لأطْفَأَ نُورُ سِوَارها نُورَ الشَّمْسِ وَالقَمرِ، فكَيْفَ المُسَوَّرَةُ به؟ وإن أخْلَقَ ثوب تَلْبَسُه لخير من الدنيا وما فيها، وإن زوجها عليه مِثلُ ما عَلْيها منْ ثِيابٍ وَحُلِيّ.

وقال أبو هُريرة: إنَّ في الجَنَّةِ حُورًا يُقالُ لها: العيناء، إذا مَشَتْ مَشَى حَوْلها سبْعُونَ ألف وَصيفٍ، وهي تَقول: أيْنُ الآمِرُونَ بالْمعْرُوفِ، وَالنّاهُونَ عنِ المُنْكَر. أوْرَدَهُما القُرطبيُّ.

وقال الطبرانيُّ: حدّثنا أحمدُ بنُ رِشْدينَ، حدّثنا علي بن الحسن بن هارُونَ الأنْصاريّ، حدّثني اللّيْثُ ابنُ بِنتِ اللّيْثِ بن أبي سُلَيْم، حدّثتني عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سُلَيم، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن مُجاهدٍ، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خُلِقَ الْحُورُ العينُ منَ الزّعْفَرانِ". وهذا حديثٌ غريبٌ

(1)

.

وقد رُوي مثل هذا عن ابن عبَّاسٍ وَغَيْرِهِ منَ الصَّحابَةِ وَالتَّابعينَ من قولهم.

وفي مَرَاسيل عِكْرَمةَ: إنَّ الْحُورَ العِينَ ليدعون لأزْوَاجِهنَّ وَهُمْ في الدُّنيا، يَقُلْنَ: اللّهمَّ أعِنْهُ على دِينكَ، وَأقْبِلْ بقَلْبِه إلى طاعَتِك

(2)

، وبَلِّغْهُ إلينا بِعِزّتِكَ، يا أرْحَمَ الرَّاحمين

(3)

.

وفي "مُسْنَد الإمام أحمد" من حديث كثير بن مُرَّة، عن معاذ مرفوعًا:"لا تُؤْذي امْرأةٌ زوْجَها في الدُّنيا إلّا قَالت زَوْجتُه منَ الْحَورِ العِين: لا تُؤذِيهِ قاتَلَكِ اللهُ، فإنّما هوَ عِنْدَكِ دَخيلٌ يُوشكُ أنْ يُفارقَكِ إلينا".

ورواه ابن أبي الدنيا عن داود بن عمرو الضبي، عن إسماعيل بن عياش، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم

فذكر الحديث

(4)

.

وفي "معجم الطبراني" من طريق موسى الصغير، عن عبد الرحمن بن سابط، عن سعيد بن عامر بن حِذْيَم، أنه تصدَّق بعشرة آلاف دِرهم في يوم، فعاتبتْهُ امرأتُه في ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن حوراء أطلعت إصبعًا من أصابعها، لوجَدَ ريحها كُلّ ذي رُوحٍ" ثم قال: فأنا أَدَعُهنَّ لَكُنَّ؟ لا واللهِ، لأَنتُنَّ أحقُّ أن أدعكُنَّ لَهُنَّ

(5)

.

ومن حديث مالك بن دينار، عن شَهْرٍ، عن سعيد بن عامر مرفوعًا: "لو أن امرأةً من نساءِ أهل

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط"(290).

(2)

في (آ): واقبل تقلُّبه إلى طاعتك.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(311).

(4)

رواه أحمد في المسند (5/ 242) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(310) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير" رقم (5511).

ص: 478

الجنةِ، أشرفت على أهل الأرض، لملأتِ الأرضَ ريح مسك، ولأذهبتْ ضوءَ الشمسِ والقمر"

(1)

.

‌ما ورد من غناء الحور العين في الجنة

روَى التِّرْمذيُّ وغيرهُ منْ حديث عَبْدِ الرَّحمن بن إسْحَاقَ، عنِ النُّعْمانِ بن سعْدٍ، عن علي، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنَّةِ لمُجْتَمعًا لِلحُورِ العينِ، يُرَفِّعْنَ أصْواتًا لم يَسْمع الخلائقُ بِمثْلِها؛ يَقُلنَ: نحْنُ الخَالدَاتُ فلا نَبيد، ونَحْنُ النَّاعماتُ فلا نَبْأَس، ونحنُ الرَّاضِيَاتُ فلا نَسْخَط، طُوبى لِمَنْ كانَ لنا وكُنَّا لهُ". قال التّرْمذيّ: وفي البابِ عن أبي هُرَيرةَ، وأبي سعيدٍ، وأنس، وحديثُ عليٍّ غريبٌ

(2)

.

ورَوى ابن أبي ذِئْبٍ، عن عَوْنِ بن الخَطَّابِ بن عَبْدِ اللهِ بن رافع

(3)

، عن ابن لأنسِ بن مالكِ، عن أبيه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْحورَ يُغَنِّينَ في الجَنّةِ: نحْنُ الجَوارِي الْحِسَان، خُلِقْنا لأزْوَاجٍ كرام"

(4)

.

وقال الطَّبرانيّ: حدّثنا أبو رِفَاعة، عُمارةُ بنُ وَثيمةَ بن مُوسى بن الفُراتِ المِصْريّ، حدّثنا سعيدُ بنُ أبي مريمَ، حدّثنا محمدُ بنُ جَعْفرِ بنِ أبي كثير، عنْ زَيْدِ بن أسْلَمَ، عن ابن عُمَر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أزْوَاجَ أهلِ الجنّةِ ليُغَنِّينَ أزْوَاجَهُنّ بأحْسَنِ أصْوَاتٍ سَمِعَها أحدٌ قَطُّ، إنَّ ممّا يُغَنِّينَ به: نحْنُ الْخَيْراتُ الْحِسَان، أزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَام، يَنْظُرْنَ بِقُرَّة أعيان. وإنّ ممّا يُغنِّينَ به: نحنُ الخالِداتُ فلا نَمُتْنَهْ، نحنُ الآمناتُ فلا نَخَفْنَهْ، نحنُ المُقيماتُ فلا نَظْعَنَّهْ"

(5)

.

وقال اللَّيْثُ بنُ سعْدٍ، عن يزيدَ بن أبي حَبيبٍ

(6)

، عن الوليدِ بن عَبْدَةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِجبْريلَ: "قِفْ بي على الْحُورِ العينِ" فَأوْقَفَهُ عَلَيْهنَّ، فقالَ:"منْ أنْتُنّ؟ " قُلْنَ: نحنُ جَوَارِي قَوْمٍ حَلُّوا فلَمْ يَظْعَنُوا، وشَبُّوا فلَمْ يَهْرَمُوا، ونُقُّوا فلمْ يَدْرَنُوا

(7)

.

وقال القُرْطبيّ بَعدَ ما أوْرَدَ الحديثَ المُتَقَدِّم في غِناءِ الْحُورِ العِينِ: وقالت عائشةُ: إنّ الْحُورَ العِين

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير" رقم (5512) وفي إسناده ضعف.

(2)

رواه الترمذي رقم (2564) وإسناده ضعيف.

(3)

في (آ): نافع، وهو خطأ.

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (6497) وهو حديث حسن.

(5)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (4917) والصغير (734) وهو حديث حسن. أقول: وفي الأصول بعده: ونحن الشابات فلا يهرمنه، ونحن الشاكرات فلا يكفرنه، ولم نرها في مصادر التخريج.

(6)

في (آ): زيد بن أبي حبيب، وهو خطأ.

(7)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(301) وإسناده ضعيف.

ص: 479

إذا قُلْنَ هذهِ المَقالةَ، أجَابَهُنَّ المُؤْمِناتُ منْ نِساءِ أهْلِ الدُّنيا: نحنُ المصَلِّياتُ وما صَلَّيتُن، ونحنُ الصَّائماتُ وما صُمْتُن، ونحنُ المتَوَضِّئاتُ وما تَوَضّأتُن، ونحنُ المتَصدِّقاتُ وما تصدّقْتنّ. قالت عائشةُ: فغلبنهنَّ، والله أعلمُ.

هكذا ذكره في "التذكرة"، ولم يعْزُه إلى كتاب، والله أعلمُ.

وروى ابن أبي الدنيا عن الزهري: إن في الجنة لشجرًا

(1)

حملُه اللؤلؤ والزبرجد، تحته جوارٍ ناهدات، يتغنَّين بالقرآن، يقلن: نحن الناعمات فلا نبؤُس، ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن المقيمات فلا نظعن، فإذا سمع ذلك الشجر، صفق بعضه بعضًا، فأجبْنَ الجواري، فلا يُدرى أأصوات الجواري أحسن، أم أصوات تصفيق الشجر

(2)

.

وفي حديث خالد بن يزيد: في صدر إحداهن مكتوب: أنتَ حِبِّي وأنا حِبُّكَ، انتهت نفسي عندك، فلا ترى عيناي مثلك

(3)

.

وعن يحيى بن أبي كثير قال: إن الحور العين يتلقَّين

(4)

أزواجهن عند أبواب الجنة، فيقلن: طالما انتظرناكم، فنحن الراضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نظعن، والخالدت فلا نموت. بأحسن أصوات

(5)

.

‌ذكر جماع أهل الجنة لنسائهم من غير مني ولا أولاد إلإ إن شاء أحدهم الولد

قال الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58].

قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاس، وغيرُ واحدٍ، (شغلهم) افْتِضاض الأبْكارِ، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 54 - 55].

(1)

في (آ): لشجرة.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في"صفة الجنة"(261).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(262).

(4)

في (آ): يتقلبن.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(268).

ص: 480

وقال أبو دَاوُدَ الطّيَالسيُّ: حدّثنا عِمْرَانُ هُوَ ابْنُ دَاوَر

(1)

القَطَّانُ، عنْ قَتادةَ، عنْ أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"يُعْطَى الرَّجُلُ في الجنةِ قُوَّةَ كذا وكذا منَ النِّساءِ".

قلت: يا رسولَ اللهِ، وَيُطيقُ ذلك؟ قال:"يُعْطَى قُوَّةَ مِئةٍ". ورواه الترمذيُّ من حديثِ أبي دَاودَ، وقال: صحيح غريب

(2)

.

وروى الطَّبرانيُّ من حديثِ الْحُسَين بن عَليٍّ الْجُعْفيِّ، عن زائدة، عن هِشَامِ بن حَسَّانَ، عن محمّد بن سيرينَ، عن أبي هُرَيرةَ، قال: قِيلَ: يا رسولَ اللهِ هل نَصِلُ؟ وفي روَايةٍ: هل نُفْضي في الجنة إلى نِسَائنا؟ فقال: "وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيُفْضي في الغَداةِ الواحدِةَ إلى مِئةِ عَذْرَاءَ". قال الحافظُ الضياءُ: هذا عندي على شرطِ الصَّحيح

(3)

.

وقال البَزَّارُ: حدّثنا محمّدُ بنُ مَعْمرٍ، حدّثنا أبو عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَبْد اللهِ بنُ يزيدَ، عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ زِيَادٍ، عن عُمارَة بن راشِدٍ، عن أبي هُرَيرةَ، قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ يَمَسُّ أهْلُ الجَنَّةِ أزْوَاجَهُمْ؟ فقال: "نَعَمْ، بِذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وَشَهْوةٍ لا تَنْقَطِعُ". ثم قال البزَّارُ: لا نَعْلمُ رَواه عن عُمارَةَ بن راشدٍ سوى عبدِ الرَّحمنِ بن زِيَادٍ، وَقَدْ كان عبدُ الرَّحمنِ هذا حَسَنَ العَقْلِ، ولكنْ وَقَعَ على شيوخ مَجَاهِيلَ، فَحَدَّثَ عنهم بأحادِيثَ مَنَاكيرَ، فَضَعُفَ حديثُه، وهذا ممّا أُنْكرَ عَليهِ

(4)

.

وقال حَرْملةُ، عن ابن وَهْبٍ: أخبَرَني عَمْرُو بنُ الحَارِثِ، عن دَرَّاجٍ، عن عبد الرَّحمن بنِ حُجَيْرة، عن أبي هريرةَ، عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ قيل له: أنطَأُ في الْجَنَّةِ؟ قال: " نَعَمْ، وَالّذي نَفْسِي بِيَدِهِ دَحْمًا دَحْما

(5)

، فإذا قَامَ عَنْها رَجَعَتْ مُطَهَّرَة بِكْرًا"

(6)

.

وقال الطَّبرانيّ: حدّثنا إبراهيمُ بنُ جَابر الفقِيهُ البَغْدادِيّ، حدّثنا محمّدُ بنُ عَبْدِ الملِك الدَّقِيقي الواسِطيّ، [حدّثنا مُعَلّى بن عبدِ الرَّحْمن الواسطيّ]، حدّثنا شَريكٌ، عن عَاصِمِ بن سُلَيْمانَ الأحْوَلِ، عن أبي المُتَوَكِّل، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ إذا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبْكارًا" ثم قال: تفرَّد به مُعَلَّى

(7)

.

وقال الطَّبراني: حدّثنا أحمدُ بنُ يَحيَى الْحُلْوَاني، حدّثنا سُوَيْدُ بنُ سعيدٍ، حدّثنا خالدُ بنُ يزيد بنِ

(1)

في (آ): داود، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

رواه أبو داود الطيالسي (2012) والترمذي (2536) وهو حديث حسن صحيح.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (5267) و (722).

(4)

رواه البزار (3524 - كشف الأستار).

(5)

وهو النكاح والوطءُ بدفع وإزعاج. "النهاية" لابن الأثير (2/ 106).

(6)

أخرجه من طريق حرملة: ابن حبان (7402) وإسناده حسن.

(7)

رواه الطبراني في "الصغير"(249) ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي، قال الحافظ في "التقريب" متهم بالوضع.

ص: 481

أبي مالكٍ، عن أبيهِ، عن خالدِ بنِ مَعْدانَ، عن أبي أُمامةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُجَامِعُ أهْلُ الْجَنَّةِ؟ قال: "دَحْمًا دَحْمًا، ولكن لا مَنِيَّ ولا منية"

(1)

. ولما كان المنيُّ يقطع لَذَّة الجماع، والمنيَّة تقطع لذَّة الحياة، كانا منفيين عن أهل الجنة.

وقال الطبراني: حدّثنا عبدان بن أحمد، حدّثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي

(2)

، حدّثنا عمرو بن أبي سلمة، حدّثنا صدقة، عن هاشم بن زيد، عن سُلَيم أبي يحيى

(3)

: أنه سمع أبا أمامة يحدِّث: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئل: هل يتناكح أهل الجنة؟ قال: "نعم بذَكَر لا يَمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحمًا دحمًا"

(4)

.

فأمَّا إذا أرَادَ أحَدُهُمْ أنْ يُولَدَ لهُ كما كان في الدُّنيا وأحبَّ الأوْلاد:

فقدْ قال الإمامُ أحمدُ: حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، حدّثنا مُعاذُ بن هِشامٍ، حدّثني أبي، [عن] عامِرٍ الأحْولِ، عن أبي الصِّدِّيقِ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريّ: أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشْتَهى المُؤْمنُ الْوَلَد في الْجَنّةِ، كان حَمْلُهُ وَوَضْعهُ وَسِنّهُ في ساعةٍ وَاحدةٍ، كما يَشْتَهي". وكذا رواهُ التِّرْمذيّ وابْنُ ماجَهْ جميعًا، عن مُحمد بن بشَارٍ، عن مُعاذِ بن هشام، به. وقال التّرْمِذيّ: حسن غريب. وقال الحافظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدسيّ: وهذا عِنْدي على شَرْطِ مُسْلِمٍ، واللهُ أعلمُ.

وقد رواهُ الحاكِمُ عنِ الأصَمِّ، عن محمّدِ بن عِيسَى، عن سَلَّامِ بنِ سُلَيْمَانَ، [عن سلَّام الطويل]، عن زيْد العَمِّيِّ، عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي، عنِ أبي سعيدٍ، قال: قيل: يا رسولَ الله، اْيولَدُ لأهْلِ الْجَنَّةِ فإنَ الوَلَدَ منْ تَمامِ السُّرورِ؟ فقال:"نعَمْ، وَالَّذِي نَفْسي بيَدِهِ، ما هُوَ إلَّا كَقَدْرِ ما يَتَمنَّى أحدُكُمْ، فيكُونُ حَمْلُهُ، وَرَضَاعُهُ، وَشَبَابُهُ"

(5)

.

وهذا السِّياقُ يَدُلُّ على أنَّ هذا [أمْرٌ] يقَعُ لأهل الجنة، خِلافًا لِمَا حَكاهُ البُخاريّ، والتّرْمِذيّ، عن إسحاق بن رَاهَوَيْهِ: أنَّ ذلك محمُولٌ على أنَّهُ لوْ أرادَ ذلك كان، ولكنه لا يُريدُهُ.

ونُقِلَ عن جماعة منَ التَّابعينَ، كَطَاوس، ومُجَاهِدٍ، وإبراهيمَ النَّخَعيّ، وَغَيْرِهم أنّ الْجَنَّةَ لا توالد فيها، وهذا صحيحٌ، وذلك أن جِماعَهُمْ لا يَقْتضي وَلَدًا كما هو الواقعُ لأهل الدُّنيا، فإن الدُّنْيا دَارٌ يُرَادُ منْهَا بَقَاءُ النَّسْلِ لِتَعْمُرَ، وأمَّا الْجَنَّةُ، فالمرادُ بها بقاءُ اللَّذَّةِ، ولهذا لا يكونُ في جِمَاعِهِمْ مَنِيٌّ

(1)

رواه الطبراني في الكبير (7479) وفى إسناده ضعف.

(2)

في (آ): الرقي، وهو خطأ.

(3)

في (آ): أن يحيى.

(4)

رواه الطبراني في الكبير (7721) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 9) والترمذي (2563) وابن ماجه (4338) والبيهقي في"البعث والنشور" عن الحاكم (440) ورواه عبد بن حميد في "المنتخب"(937) من طريق سفيان عن أبان عن أبي الصِّدِّيق الناجي، به، وهو حديث صحيح.

ص: 482

يَقْطعُ لَذَّة جِمَاعِهِمْ، وَلَكنْ إذا أحَبَّ أحَدُهُم الْولدَ كان ذلك كما يُريد، لقوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [النحل: 31] وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].

‌ذكر أن أهل الجنة لا يموتون ديها لكمال حياتهم، بل كل ما لهم في ازدياد من قوة الشباب، ونضرة الوجوه، وحسن الهيئة، وطيب العيش

ولهذا جاء في بعض الأحاديث أنَّهُمْ لا يَنَامُونَ لئلا يَنْشَغِلُوا بهِ عَنِ الْمَلاذّ والمسرَّات والْعيش الهَنيء الطيب، ولئلا يشتغل بالنوم عن أَلَذِّ ما في الجنة من ذِكر الرَّبَّ وحمده، والثناء عليه سبحانه، لا نحصي ثناءً عليه، نسأل الله الدرجات العلى من الجنة.

قال الله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان: 56] وقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107 - 108] أي لا يَخْتَارُون غيرَهَا، بَلْ هُمْ أرغَبُ شَيْءٍ فيهَا، فلا يختارون بها بدلًا ولا عنها تحوُّلًا، وَلَيْسَ يَعْتَريهم فيها مَلَلٌ ولا ضَجَرٌ، كما قد يَسْأمُ أهْلُ الدُّنْيا بَعْضَ أحْوَالِهِم اللذيذة، ومساكنهم الأنيقة، وأزواجهم الحِسان، بل أهل الجنة كما قيل:

فَحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لا أنا بَاغيًا

سِوَاهَا ولا عَنْ حُبِّهَا أتَحَوَّلُ

وقد تقدَّم حديثُ ذَبْحِ الموْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وأنَّهُ يُنادي مُنادٍ: يا أهْلَ الْجَنّةِ، خُلودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، كل خالدٌ فيما هو فيهِ.

وقال الإمامُ أحمدُ: حدّثنا يَحْيَىَ بنُ آدَمَ، حدّثنا حَمْزةُ، حدّثنا أبو إسْحَاقَ، عن الأغَرّ أبي مُسْلِم، عن أبي هُرَيْرةَ، وأبي سعيدٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"فيُنادى مع ذلك: إنَّ لكم أنْ تَحْيَوْا فلا تمُوتُوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرمُوا أبدًا، وإنّ لكم أن تَنْعَمُوا فلا تَبْأسُوا أبدًا" فال: فيُنادَى بهذه الأرْبعِ"

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: قال الثَّوريّ: فحدّثني أبو إسْحَاقَ: أنَّ الأغَرَّ حَدَّثهُ، عن أبي سعيدٍ، وأبي هريرة: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "فيُنادي مُنادٍ: إن لكم أنْ تَحْيَوا فلا تمُوتوا أبدًا، وإنّ لكم

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 319) وهو حديث صحيح.

ص: 483

أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، وإنّ لكم أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإن لكم أن تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبدًا" قال: فَذَلِك قَوْلُهُ تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. ورواه مسلم، عن إسْحَاق بن رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدِ بن حُمَيْدٍ، كِلاهُما عن عبد الرزاق، بنحْوِ

(1)

.

وقال [الحافظُ أبو بكْرٍ] البزّارُ: حدّثنا الفَضْلُ بنُ يَعْقُوبَ، حدّثنا محمد بن يُوسفَ الفِريَابيُّ، عن سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْريُّ، عن محمد بن الْمُنْكَدِر، عن جابر، قال: قيلَ: يا رسولَ اللهِ، هَلْ يَنَامُ أهْلُ الْجَنَّةِ؟ قال:"لا، النَّوْمُ أخُو المَوْتِ" ثمَّ قال البزّارُ: لا نَعْلَمُ أحَدًا أسْنَدهُ عن محمد بن المُنْكَدِرِ، عن جابر، إلا الثَّوْريّ، ولا وصله سِوَى الفِرْيَابيِّ. كذا قال.

وقد قال الحافظُ أبو بكْرِ بن مردويه: حدّثنا أحمد بن القاسِم بن صَدَقَةَ المِصْريّ، حدّثنا المِقْدَامُ بنُ دَاوُدَ، حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ المُغيرَةِ، حدّثنا سُفْيَانُ الثَّوْريُّ، عن محمدِ بنِ المنْكَدَرِ، عن جابر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "النَّوْمُ أخُو المَوْتِ، وأهْلُ الْجَنَّةِ لا يَنَامُونَ".

ورواه الطَّبرانيُّ، من حديثِ مُصْعَبِ بن إبراهيم، عن عِمْرَانَ بن رَبيعٍ الكُوفيّ، عن يَحْيَى بن سعيدٍ الأنْصَاريّ، عن محمدِ بن الْمُنْكَدِرِ، عن جابر: قال: سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيَنامُ أهْلُ الْجَنَّةِ؟ فقال: "النَّوْمُ أخُو المَوْتِ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ لا يَنامُونَ".

وَرَوَاهُ البَيْهَقيُّ من حديثِ عبدِ الله بن جَبَلَة

(2)

بن أبي رَوَّادٍ، عن سُفْيَانَ الثّوْريّ، عن محمدِ بن الْمُنْكَدِر، عن جابر

فذكره

(3)

.

ثمَّ رَوَى البَيْهَقيُّ عنِ الْحَاكِم، عنِ الأصَمِّ، عن عبَّاسٍ الدُّوري، عن يُونسَ بن محمد، عن سعيدِ بن زَرْبي، عن نُفَيْع بنِ الحَارِثِ، عن عبد اللهِ بن أبي أوْفَى، قال: سَأل رَجُلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: النَّوْمُ ممَّا يُقِرُّ اللهُ به أعْيُننا في الدُّنْيا، أننام في الجنة؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن الموت شريك النوم، ولَيْسَ في الجَنّةِ مَوْتٌ" قالُوا: يا رسولَ اللهِ، فما رَاحَتُهُمْ؟ قال:"إنهُ لَيْسَ فيها لُغُوبٌ، كلُّ أمْرِهِم رَاحةٌ" فأنزل الله تعالى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35]. ضعيف الإسناد

(4)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (3/ 95) ومسلم (2837) وعبد بن حميد في "المنتخب"(942).

(2)

في (آ): عبد الله بن خيلة، وهو خطأ.

(3)

رواه البزار رقم (3517 - كف الأستار) والطبراني في "الأوسط" رقم (8816) عن المقدام به، و (923) من حديث مصعب، والبيهقي في"البعث والنشور"(487) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه البيهقي في"البعث والنشور"(489).

ص: 484

‌ذكر إحلال الرّضوان عليهم وذلك أفضل ما لديهم

(1)

قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15]، وقال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].

وروى مالِكُ بنُ أنسٍ، عن زَيَدِ بنِ أسْلَمَ، عن عَطاء بنِ يَسارٍ، عنْ أبي سَعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الجَنّةِ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ، فيقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ، فيقُولُ: هَلْ رَضيْتم؟ فيقُولُونَ: وما لنَا لا نَرْضَى، وَقَدْ أعْطَيْتنا مَا لَمْ تُعْطِ أحدًا منْ خَلْقِكَ؟ فيقُولُ: أنا أُعْطِيكم أفْضَل منْ ذَلِكَ؟ فقالوا: يا رَبّنا وأيُّ شَيْءٍ أفْضلُ منْ ذَلِكَ؟ فقال: أُحِلُّ عَلَيْكم رِضْوَاني فلا أسْخَطُ عَلَيْكم بَعْدَهُ أبدًا". وأخرَجاهُ في "الصَّحيحين". منْ حديث مالك، به

(2)

.

وقال [أبو بكْرٍ] البَزَّارُ: حدّثنا سلمة بن شَبِيبٍ، وَالفَضْلُ بنُ يَعْقُوبَ، قالا: حدّثنا الفريابي، عن سُفْيَانَ، عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، عن جابر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الْجَنَّة، قال اللهُ عز وجل: ألا أُعْطِيكُمْ" قال: أحْسَبُهُ قال: "أفْضَلَ من ذلك؟ قالُوا: يا رَبَّنَا، هَلْ شَيْءٌ أفْضلُ ممَّا أعْطَيْتنا؟ قال: رِضْوَاني أكْبَرُ". وهذا الحديث على شرْطِ البُخاريّ، ولم يُخْرِجْهُ أحدٌ منْ أصْحابِ الكُتُبِ منْ هذا الوجه

(3)

.

‌ذكر نظر الرب تعالى إلى أهل الجنة وتَسْلِيمِه عَلَيْهم

قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44]، وقال تعالى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].

وقال أبو عَبْدِ اللهِ محمد بنُ يزيدَ بن مَاجَهْ في كتابِ السُّنَّةِ منْ "سُنَنِهِ": حدّثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِك بن أبي الشَّوَارِبِ، حدّثنا أبو عاصمٍ العَبَّادَانيُّ، حدّثنا الفَضْلُ الرَّقَاشيُّ، عن محمدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عن جابرِ بن عَبْدِ اللهِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أهْلُ الْجَنَّةِ في نَعِيمهمْ، إذ سَطَع لَهُمْ

(1)

في (آ): مما لديهم.

(2)

رواه البخاري رقم (6549) ومسلم (2829).

(3)

وأخرجه ابن حبان (7439) من طريق الفريابي عن سفيان.

ص: 485

نُورٌ، فَرَفعُوا رُؤوسَهُمْ، فإذَا الرَّبُّ عز وجل قَدْ أشْرَفَ عَليْهِمْ منْ فَوْقِهِمْ، فقال: السَّلامُ عَلَيْكم يا أهْلَ الْجَنَّةِ" قال: "وذلك قولُهُ عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قال:"فينظر إليهم، وينظرون إليْهِ، ولا يلتفتون إلى شَيْءٍ منَ النَّعيمِ ما دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ، حتَّى يَحْتَجبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ، وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهمْ في دِيَارِهِمْ".

وقد رواهُ البَيْهقيُّ مُطَوَّلًا منْ هذا الوجْهِ، فقال: حدّثنا علِي بنُ أحمد بن عَبْدَان

(1)

، حدّثنا أحْمَد بن عُبَيْدٍ، حدّثنا الكُديمي، حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إسماعيل أبُو يُوسُفَ السَّلَّالُ، حدّثنا أبو عاصِمٍ العَبَّادَانيُّ، عن الفَضْلِ بن عيسى الرَّقَاشيّ، عن محمدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عن جابر، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَمَا أهْلُ الْجَنَّةِ في مَجْلِسٍ لَهُمْ، إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُور على بابِ الْجَنَّةِ، فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ، فإذا الرَّبُّ تعالى قد أشْرَفَ عليهم، فقال: يا أهلَ الْجَنَّةِ، سَلُوني، قالوا: نَسْألُكَ الرِّضَا عَنَّا، قال: رضاي عنكم أحَلَّكم دَاري، وأنالَكم كَرَامتي، هذا أوَانُها، فَسَلُوني، قالوا: نَسْألُكَ الزِّيادةَ، قال: فيُؤتَوْنَ بِنَجائبَ من ياقُوتٍ أحمر، أزِمَّتُها زُمُرُّدٌ أخْضرُ، ويَاقُوتٌ أحْمَرُ" قال: "فحملوا عليْهَا، تَضَعُ حَوافِرَهَا عِنْد مُنْتَهى طَرَفِها، فيَأْمُرُ اللهُ بأشْجارٍ عليْها الثِّمارُ، فتُتْحِفُهم من ثمارها، فتَجيءُ حَوَارٍ من الحُورِ العِينِ، وَهنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ النَّاعماتُ فَلا نَبْأس، وَنَحْنُ الخالِدَاتُ فلا نمُوت، أزْواجُ قَوْمٍ مُؤْمنينَ كِرام. وَيَأمُرُ اللهُ بكُثْبانٍ منْ مِسْكٍ أذْفَرَ، فتُثيرُه عَلَيْهمْ ريح يُقالُ لها: الْمُثيرَةُ، حتَّى تنْتهي بهمْ إلى جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهِيَ قَصَبةُ الْجَنّةِ، فتَقُولُ الملائكةُ: يا رَبَّنا قَدْ جَاءَ أهل النِّعْمةِ وهمُ القوم، فيَقُولُ: مَرْحبًا بالصَّادقين، مَرْحبًا بالطَّائعينَ، مرحبًا بالمتقين" قال: "فيُكْشَفُ لَهُم الحِجابُ، فيَنْظُرُونَ إلى اللهِ عز وجل فيَتَمَتّعُون بِنُورِ الرَّحْمنِ، لا يُبْصرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثمَّ يَقولُ: أرْجِعُوهُم إلى قُصُورِهِمْ بالتُّحَفِ، فيَرْجِعُونَ وَقَدْ أبْصَرَ بَعْضُهُمْ بعْضًا" قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وذلك قَوْلُ اللهِ عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] ". ثمَّ قال البَيْهقيّ: وقدْ مَضَى في هذا الكتابِ في كِتابِ الرُّؤيةِ ما يُؤيِّدُ ما رُوي في هذَا الْحَديثِ، والله أعلم.

وذكر أبو المَعَالِي الجُوَيْنيّ في "الرَّدِّ على السِّجِزِيّ" أنّ الرَّبَّ تبارك وتعالى: إذا كَشَفَ الْحِجَابَ، وَتَجَلَّى لأهْلِ الْجَنَّةِ، تَدَفَّقَتِ الأنْهَارُ، وَاصْطَفَقَتِ الأشْجارُ، وَتَجَاوَبَتِ الأطيار والسُّررُ والغُرفات وما فيها بالصَّرير والتعظيم، والتسبيحات، والأعْيُنُ الْمُتَدَفِّقَاتُ بالْخرِير، وَاسْتَرْسَلَتِ الرِّيحُ المُثيرةُ وَبثَّتْ في الدُّورِ والقُصُورِ المِسْكَ الأذْفَرَ، وَالكافُورَ، وَغَرَّدَتِ الطُّيُورُ، وَأشْرَفَتِ الْحُورُ.

والفَضْلُ بنُ عيسى ضعيفٌ، ولكنْ رَوَى الضِّيَاءُ منْ حديثِ عبدِ اللهِ بن عبيد اللهِ، عن

(1)

في (آ): محمد بن عبد الله بن عبدان، وهو خطأ.

ص: 486

محمد بن المُنكَدِرِ، عن جَابِرٍ، مرفوعًا، مثلَه

(1)

.

‌ذِكر رؤية أهل الجنَّة ربهم عز وجل في مثل أيام الجمع في مجتمع لهم معدٍّ لذلك هنالك

قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} إلى قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 15 - 24]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فذكر عن الفجار أنهم محجوبون، وأن الأبرار إليه ينظرون.

وقدْ تَقَدَّمَ في حديثِ أبي مُوسى الأشْعَريّ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "جَنَّتانِ منْ ذَهَبٍ آنيَتهُما وما فِيهما، وجَنَّتانِ منْ فِضَّةِ آنَيَتهُمَا ومَا فيهما، وليس بَيْن القَوْمِ وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى ربِّهِم عز وجل إلَّا رداء الكِبْريَاء على وَجْههِ في جنَّة عَدْنٍ". أخرجاه في "الصحيحين"

(2)

.

وفي حديث ابن عُمَرَ: "وَأعْلاهُمْ منْ يَنْظُرُ إلى وجه اللهِ تعالى في اليومِ مَرَّتَيْنِ"

(3)

.

وله شاهدٌ في "الصَّحيحين" عن جَرير بن عبد الله مرفوعًا عِنْدَ ذِكْرِ رُؤيَةِ المؤمنينَ رَبَّهُمْ عز وجل يَومَ القِيامةِ، كما يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقمَر، قال:"فإنِ اسْتَطَعْتمْ ألّا تُغلبُوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبها فافْعَلُوا" ثمَّ قَرَأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]

(4)

.

وفي "صحيح البُخاريّ" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكم عِيانًا"

(5)

. فأرْشَدَ هذا السياق على أن رؤية الله عز وجل تقع لأهل الجنة في مثل أوْقاتِ العِبَادات، فكأنَّ المُبَرِّزين منَ المقرَّبين الأخْيَار يَرَوْنَ الله عز وجل في مِثْلِ طَرَفي النَّهارِ غُدْوةً وَعَشيًّا، وهذا مقام عالٍ، فيرونه تعالى على أرَائِكِهمْ وَسُرُرِهِم كما يرون القَمر ليلة البدر، فيرونه أيضًا غير رؤيتهم إياه في منازلهم في الجنة، حيثُ يَجْتمعُ أهلُ الجَنَّةٍ في وَادٍ أفْيَحَ -[أيْ مُتَّسِع]- منْ مِسْكٍ أبْيَضَ، فيَجْلِسُونَ فيهِ على قَدْرِ منازِلهمْ، فمنْهُمْ منْ يجلس على منابر منْ نُورٍ، ومنهم من يجلس على مَنابِرَ منْ ذَهبٍ، وغيرِ ذلكَ منْ أنواعِ الجَواهِر وغيرِها، ثمَّ تُفَاضُ عَليهمُ النِّعمُ [والْخِلَعُ]، وتوضع على رؤوسهم التيجان، وبين أيْدِيهم

(1)

رواه ابن ماجه (184) والبيهقي في "البعث والنشور"(493).

(2)

رواه البخاري (4838) ومسلم (180).

(3)

رواه أحمد (2/ 13) والترمذي (2553).

(4)

رواه البخاري (554) ومسلم (633).

(5)

رواه البخاري (7435).

ص: 487

الموائدُ بأنواعِ الأطْعِمَةِ وَالأشْرِبَةِ ممَّا لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بشَرٍ، ثُمَّ يُطيَّبُونَ بأنْوَاعِ الطِّيبِ، ويُخصُّون بأنْواعِ الكرامات والتحف ممَّا لم يَخْطُرُ على بَالِ أحَدٍ منهم قبْل ذلك، ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمُ الحَقُّ سبحانه وتعالى، وَيُخَاطِبُهُمْ واحدًا واحدًا، كما دلت على ذلك الآيات، والأحاديثُ، كما سيأتي إيرادُها قريبًا. على رغم أنوف المعتزلة وغيرهم ممن ينكر رؤيته سبحانه في الدار الآخرة.

وقَدْ حَكَى بَعْضُ العُلماء خِلافًا في النِّسَاء: هَلْ يَرَيْن الله عز وجل في الجَنَّةِ كما يَراهُ الرِّجالُ؟ فقيل: لا يرونه، لأنَّهُنّ مَقْصُوراتٌ في الخِيَامِ، لا يبرزن منها، وقيل: لنقص عقولهن ودينهن ورغبتهن في الدنيا. وقيل: بل يرونه سبحانه، لأنَّهُ لا مَانِعَ منْ رُؤْيَتِهِ تعالى في الخيَامِ والقصور، وغَيْرِها، والنساء إذا دخلن الجنة ذهب عنهن ما كان يعتريهن من النَّقص في الدنيا، وصرن أزواجًا مطهرة من كل أذى، وطبن أخلاقًا وخَلْقًا، فلا مانع لهنَّ من رؤيتهن لربهن عز وجل، والله أعلم. وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 - 23]، وقال تعالى:{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكُمْ عز وجل، كما تَرَوْنَ [هَذا] القَمَر [ليلة البدر] لا تُضامُونَ في رُؤْيتِهِ، فإن اسْتَطعْتُمْ ألّا تُغْلَبُوا على صَلاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبْلَ غُروبها فافْعَلُوا"

(1)

. وهذا عامٌّ في الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، والله أعلم.

وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ قَوْلًا ثَالثًا، وَهُوَ أنَّهُنَّ يَرَيْنَ الله في مِثْلِ أوقات الأعْيَادِ، فإنَّهُ تعالى يَتَجَلَّى لأهل الجنة في مِثْل أيَّام الأعْيَادِ تجلِّيًا عامًا، فيَرَيْنَهُ في مِثْل هِذِه الْحالِ في جملة أهل الجنة، وهَذا القَوْلُ يَحْتَاجُ إلى دَليلٍ خاصٍّ، واللهُ أعْلَمُ.

وقد قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَقدْ رُوي عَنْ جَمَاعةٍ منَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابعِينَ أنهم فسَّروا الزِّيَادَة بالنَّظَرِ إلى وَجْهِ الله تعالى، مِنْهُمْ: أبُو بكْرٍ الصِّدِّيقُ، وأُبيُّ بن كَعْب، وكَعْب بنُ عُجْرةَ، وَحُذَيْفةُ بنُ اليَمَانِ، وأبو مُوسى الأشْعَريّ، وَعَبْدُ الله بن عَبَّاسٍ، رضي الله عنهم. ومن التابعين: سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهدٌ، وعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أبي لَيْلَى، وَعبدُ الرَّحْمنِ بنُ سابط، والْحَسَنُ، وَقَتادة، والضحَّاكُ، والسُّدِّيُّ، وغيرهمْ منَ السَّلفِ، والخَلَفِ.

وقدْ رُوي حديثُ رُؤْيةِ المُؤْمنينَ لربِّهمْ عز وجل في الدار الآخِرَةِ عنْ جماعةٍ منَ الصَّحابةِ، منْهُمْ:

(1)

رواه البخاري رقم (7434) ومسلم (633).

ص: 488

أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وقدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ مطولًا

(1)

، وعليّ بن أبي طالب، وقدْ روَى حدِيثَهُ يَعْقُوبُ بنُ سُفْيَانَ، فقالَ: حدّثنا مُحمَّدُ بنُ مُصفّى، حدّثنا سُوَيْدُ بنُ عبد العزيز، حدّثنا عَمْرو بنُ خَالدٍ، عنْ زيْدِ بن عَليًّ، عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، عنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَرَى أهْلُ الْجَنَّةِ الرَّبَّ تعالى في كلِّ جُمُعةٍ

" وذَكر تمَام الْحَديثِ، وفيهِ: "فإذَا كَشفَ الْحِجَابَ كأنّهُمْ لم يرَوْا نِعْمة قبْلَ ذَلِكَ، وهُوَ قولهُ تعالى:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] "

(2)

. ومنهمْ أُبيّ بن كعبٍ، وَأنَسُ بنُ مَالِكٍ، وبُرَيْدةُ بنُ الحُصَيْب، وجَابرُ بنُ عبد الله، وجرِيرُ بنُ عبد الله، وَحُذَيْفةُ، وزَيْدُ بنُ ثَابتٍ، وسَلْمانُ الفَارسيُّ، وأبو سَعيدٍ سَعْدُ بنُ مالك بن سنانٍ الْخُدريّ، وَصُهَيْبُ بن سِنَان الرُّومي وَعُبادةُ بنُ الصَّامِتِ، وأبو أُمَامةَ صُدَيّ بنُ عَجْلانَ البَاهليُّ، وعبد الله بن عَبَّاسٍ، وابنُ عمر و [عبد الله] بنُ عمرو، وأبو مُوسَى عبد الله بنُ قَيْس، وعبد الله بن مَسْعُودٍ، وعَدِيُّ بن حَاتِمٍ، وعَمّارُ بنُ يَاسِرٍ، وَعُمارة بنُ رُويبَةَ، وأبو رَزِين العُقَيْليّ، وأبو هُرَيْرَةَ، ورجلٌ منَ الصَّحَابَةِ، وعائشةُ أمُّ المُؤْمنين، رضي الله عنهم أجمعينَ.

وقدْ تَقَدَّم كثيرٌ منْهَا، وَسَيأتي بقيتها ممَّا يَليق بهذَا المَقَام إنْ شاء اللهُ تعالى.

وقالَ الإمامُ أحمد: حدّثنا عَفانُ، حدّثنا حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عنْ ثَابِتٍ البُنَانيِّ، عَنْ عبْد الرحمن بنِ أبي لَيْلَى، عنْ صُهَيْبٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَلا هَذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فقالَ: "إذَا دَخَل أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّة، وَأهْلُ النَّار النَّار، نَادَى مُنَاد: يا أهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعدًا يريدُ أنْ يُنْجزَكمُوهُ، فيقولُونَ: ومَا هُوَ؟ ألْم يثقلْ مَوازِيننَا ويُبَيِّضْ وجوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، ويزحزحنا عَن النَّارِ؟ " قالَ: "فيَكْشفُ لَهُم الحِجَابَ، فيَنْظرُونَ إلَيْهِ" قال: "فواللهِ ما أعْطَاهُم اللهُ شَيْئًا أحَبَّ إليْهمْ منَ النَّظرِ إليهِ، ولا أقرَّ لأعْينهِم". وهكذا رواه مسلم من حَدِيثِ حمَّادِ بن سَلَمة

(3)

.

وقالَ عبد الله بن المبَارَكِ: حدّثنا أبو بَكْر الهذلي

(4)

، أخْبَرني أبو تَميمَةَ الْهُجَيْميّ، قال: سمعْتُ أبا مُوسى الأشْعريّ يَخْطُبُ على مِنْبر البَصْرَةِ وَيقُولُ: إن اللهَ يَبْعَثُ يومَ الْقِيَامةِ مَلَكًا إلى أهْل الْجَنَّةِ، فيَقُولُ: يا أهْلَ الْجَنّةِ، هلْ أنْجَزَ لكم الله ما وَعَدَكُمْ؟ فيَنْظُرون، فيَرَوْنَ الْحُلِيَّ والحُلَلَ، والثمار، والأنْهارَ، والأزْوَاجَ المُطَهَّرَة، فيقولون: نَعَمْ، قَدْ أنْجَزَ اللهُ لنا ما وَعَدَنَا، قالوا ذلك ثلاث مرَّاتٍ،

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 4 - 5) وقواه المصنف في آخر مسند الصديق.

(2)

ذكره محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في "العواصم والقواصم"(5/ 150) عن يعقوب بن سفيان، حدّثنا محمد بن المصفَّى، حدّثنا سويد بن عبد العزيز، حدّثنا عمرو بن خالد، عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعًا، وإسناده ضعيف جدًا.

(3)

رواه أحمد في المسند (4/ 333) ومسلم (181).

(4)

في الأصل (ج): الألهاني وفي (ص) الألقاني. والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 489

فيقول: قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ، وإن الله تعالى يقول:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ألا إنّ الحُسْنَى الْجنَّةُ، وَالزِّيَادةَ النّظَرُ الى وجهِ اللهِ عز وجل. هكذا ذكره موقوفًا. وقدْ رَوَى ابنُ جَريرٍ وَابنُ أبي حَاتِمٍ حديثَ أبي تَميمَةَ الْهُجَيْميّ، عن أبي مُوسى الأشْعَريِّ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله يَبْعَثُ يَوْمَ القِيَامةِ مُنَاديًا ينادي أهل الجنة بصوت يُسْمِعُ أوَّلَهُمْ وآخرهم: إنَّ اللهَ وَعَدَكُمُ الْحُسْنَى وزِيَادةً، الْحُسْنَى الْجَنّةُ، والزِّيَادَةُ النّظَرُ إلى وجْهِ الرَّحْمَنِ".

ورواه ابن جرير من حديثِ زُهَيْرٍ، عمّنْ سَمِعَ أبَا العَالِيَةِ حدّثنا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ: أنَّهُ سَألَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قولِ اللهِ عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]،. قال:"الحُسْنَى الجنّةُ، والزِّيَادَةُ النَّظَرُ إلى وجهِ الله عز وجل"

(1)

.

ورواهُ ابنُ جَريرٍ أيضًا عن ابنِ حُمَيْدٍ، عن إبراهيمَ بنِ المخْتَارِ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عَطاء، عن كَعْبِ بن عُجْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولهِ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: "النّظَرُ إلى وجه الرَّحْمَن عز وجل"

(2)

.

وقال الحسنُ بن عَرفةَ: حدّثنا سَلْم بنُ سَالِمٍ

(3)

، عن نوح بن أبي مريمَ، عن ثَابِتٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: سُئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} العَمَلَ في الدُّنيا {الْحُسْنَى} هيَ الجَنّةُ، وَ (الزِّيَادةُ) النّظر إلى وجهِ الله عز وجل". سَلْم وشَيخُهُ نُوحٌ مُتَكَلَّمٌ فيهما، والله أعلم

(4)

.

وقال الإمامُ أبو عَبْدِ اللهِ محمد بن إدْريسَ الشّافعيّ في كتاب الجُمُعَةِ منْ "مُسْنَدِهِ": حدّثنا إبراهيمُ بنُ محمدٍ، حدّثني مُوسى بنُ عُبَيْدةَ، حدّثني أبو الأزهرِ مُعَاويةُ بن إسْحَاقَ بن طَلْحَة، عن [عبد الله بن] عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ: أنّهُ سَمِعَ أنس بن مالكٍ يقولُ: أتي جِبْريلُ بمِرْآةٍ بَيْضاءَ فيهَا نُكْتَة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما هَذِهِ؟ " فقال: هذه الجُمُعةُ فُضِّلْتَ بها أنتَ وَأُمَّتُكَ، والنّاسُ لَكم فِيهَا تَبَعٌ، اليَهُودُ والنّصَارَى، ولَكم فيهَا خيرٌ، وفيهَا ساعةٌ لا يُوافقُها مُؤمنٌ يَدْعُو اللهَ بِخَيْرٍ، إلَّا اسْتُجيبَ لهُ، وهُوَ عِنْدَنا يَوْم المَزيدِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا جبريل ما يَوْمُ الْمَزيدِ؟ " قال: إنّ رَبَّكَ اتّخَذَ في الْفِرْدَوْس وَادِيًا أفْيَحَ، فيهِ كثُبُ مِسْكٍ، فإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، أنْزَلَ اللهُ ما شاءَ منْ مَلائكَتِهِ، وَحَوْلَهُ

(1)

وإسناده ضعيف.

(2)

وإسناده ضعيف.

(3)

في الأصول: مسلم بن سالم، وهو خطأ.

(4)

رواه الحسن بن عرفة في "جزئه"(23) بإسناده، وقال الخطيب البغدادي (9/ 140) وهو خطأ، والصواب عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 490

منابرُ منْ نُورٍ، عَلَيْهَا مَقاعِدُ النَّبيِّين، وحَفَّ تِلْكَ الْمَنابِرَ بِمَنَابِرَ منْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ باليَاقوتِ والزَّبَرْجَدِ، عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ والصِّدِّيقُونَ، فَجَلسُوا منْ ورَائهمْ على تِلْكَ الكُثُبِ، فيقول اللهُ عز وجل: أنّا رَبُّكم قَدْ صَدَقْتُكم وَعْدي، فَسَلُوني أُعْطِكم، فيقولون: ربَّنا نَسْألُكَ رِضوَانَكَ، فيقولُ: قَدْ رَضيتُ عَنْكُمْ، ولَكُمْ عِنْدي ما تَمَنَّيْتُمْ، وَلَديَّ مَزيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ يَومَ الجُمُعَةِ لمَا يُعْطِيهمْ فيهِ رَبُّهُمْ منَ الْخَيْرِ، وهُوَ اليومُ الَّذي اسْتَوَى فيهِ ربُّكُمْ على الْعَرْشِ، وفيه خلقَ آدَم، وفيه تقُومُ السَّاعةُ"

(1)

.

وقد رواهُ البزّارُ منْ حديثِ جَهْضمِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عن أبي طَيْبَة، عن عُثْمانَ بن عُمَيْرٍ، عنْ أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أتَاني جِبْرِيلُ وفي يَدِهِ مِرآةٌ بَيضاءُ فيهَا نُكْتةٌ سَودَاء، فقلت: ما هذه يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعةُ يَعْرِضُها عليك ربُّك لِتكون لكَ عِيدًا، ولأمتك منْ بَعْدِك، تكُونُ أنتَ الأوَّلَ، وتكُونُ الْيَهُودُ والنَّصَارَى منْ بَعْدِكَ، قال: ما لَنا فِيهَا؟ قالَ: لكُمْ فيهَا خَيْرٌ، لكُمْ فيها سَاعَةٌ منْ دَعَا رَبَّهُ فِيها بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قِسْمٌ إلا أعْطاهُ إياهُ، أوْ لَيْسَ لهُ بقسمْ، إلا ادَّخَر لهُ ما هو أعْظَمُ منْهُ، أو تعوَّذ فيها منْ شر ما هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إلا أعاذَهُ مما هو أعظم منْهُ" قال: "قُلْتُ: ما هَذ النُكْتةُ السَّوْداءُ؟ قال: هيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجمعة، وهُوَ سَيِّد الأيام عِنْدنا، ونَحْن نَدْعُوهُ في الآخِرةِ يَوْمَ الْمَزيدِ، قلت: وما يَوْمُ الْمَزيدِ؟ قال: إنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ وَادِيًا في الْجَنَّةِ أفْيَح، منْ مِسكٍ أبْيضَ، فإذَا كانَ يَوْمُ الجمُعَةِ نَزَل تعالى منْ عِلِّيِّين على كُرْسِيِّهِ، ثمَّ حُفَّ الْكُرْسيُّ بمنابرَ منْ نُور، وجَاءَ النَّبيُّون حتَّى يَجْلسُوا عَلَيْها، ثمَّ حُفَّ المنَابرُ بكَراسِيَّ منْ ذَهَبٍ، ثمَّ جَاءَ الصِّدِّيقُونَ، والشُّهداءُ حتَّى يجلسُوا علَيْها، ثمَّ يَجِيءُ أهْلُ الْجَنَّةِ حتَّى يجْلِسُوا على الكُثُبِ، فيَتَجَلَّى لهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل حتَّى يَنْظرُوا إلى وَجْههِ، وهُوَ يَقُولُ: أنَا الَّذي صَدَقْتُكُمْ وَعْدي، وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي، هذا مَحَلُّ كَرَامَتي، فَسَلُوني، فيَسألُونَهُ الرِّضَا، فيَقُولُ: رِضَايَ أحلَّكمْ دَاري، وأنالَكمْ كَرَامتي، فَاسْألُوني، فَيَسألُونهُ، حتَّى تَنْتَهي رَغْبَتُهُمْ، فَيُفْتحُ لهم عِنْدَ ذَلِكَ من إنعامه مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَرٍ، وذلك إلى مِقْدار منصرف النَّاسِ من الجمعةِ، ثمَّ يَصْعَدُ تعَالى على كُرْسيَّهِ وَيَصْعد مَعهُ الشُّهَداءُ، والصِّدِّيقُون" وأحْسَبُهُ فالَ: "وَيرْجِعُ أهْلُ الغُرَفِ إلى غُرَفِهمْ دُرَّةً بَيْضاء لا قَصْم فِيهَا ولا وَصْم، أوْ يَاقُوتةً حَمْراءَ، أوْ زَبرْجَدةً خَضْراءَ، منها غُرفُهَا وأبْوَابُها، مُطَّرِدةً فِيهَا أنْهَارُهَا، مُتَدَلِّيةً فيها ثمَارُها، فِيهَا أزْوَاجُها وَخَدَمُها، فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنْهُمْ ولا أشوق إلى يَوْمِ الجمعةِ ليزدَادُوا فيهِ كرَامةً، ويَزدادُوا نَظرًا إلى وَجْههِ تعالَى، ولذلكَ سُمِّيَ يَوْمَ المَزيدِ".

ثمَّ قال البزَّار: لا نعْلمُ أحدًا رواهُ عنْ أنسٍ غيْر عُثمان بن عُمَيْرٍ أبي اليَقْظانِ، وعُثْمان بن صالحٍ

(1)

رواه الشافعي في "مسنده"(1/ 374 - بترتيب السندي) وإسناده ضعيف.

ص: 491

هكذَا قال، وَقدْ رَوَيناهُ منْ طَريقِ زيادِ بن خَيْثمةَ، عنْ عُثْمانَ بن [أبي] مُسلِم، عنْ أنس

، فذَكَر الحَديثَ بِطُولهِ مِثْلَ هَذا السِّياقِ، أوْ نَحْوَه.

وتقدّمَ في روَايةِ الشَّافعيِّ، عَنْ [عَبْدِ اللهِ بن] عبيد بن عُمَيْر عنه، فَقَدْ اختَلَفَ الرُّوَاةُ فيه عنه، وكانَ بَعْضُهُمْ يُدَلِّسُهُ لِئَلاَّ يُعْلَمَ أمْرُهُ، وذلكَ لما يُتَوهَّمُ منْ ضَعْفِهِ. والله أعلم.

وقدْ رَواهُ [الْحَافِظُ] أبُو يَعْلَى المَوْصليّ في "مُسْنَدِهِ" عن شَيْبان بن فرُّوخ، عنِ الصَّعِقِ بن حَزْنٍ، عنْ عَلي بن الْحَكَمِ البُنَاني، عنْ أنسٍ

فذكرَ الْحَديثَ، فَهَذهِ طُرُقٌ جَيِّدَةٌ عَنْ أنَسٍ، وهي شاهدة لِروَايةِ عُثْمانَ بن عُمَيْر.

وقد اعْتَنى بهَذَا الْحَديثِ [الحَافِظُ أبو الْحَسنِ] الدّارَقُطْنيّ، فأوْرَدَهُ منْ طُرُقٍ، قال الْحَافظُ الضياء: وقد رُوِيَ منْ طَرِيق جَيِّدة -[وهي شاهدة لرواية عثمان بن عمير]- عنْ أنَسٍ بن مالِكٍ، رَوَاهُ الطَّبَرانيُّ، عنْ أحمد بن زُهَيْر، عنْ مُحمَّد بن عُثْمان بن كرامة، عَنْ خَالِد بن مَخْلدٍ القَطَوَانيّ، عنْ عبدِ السَّلام بن حَفْصٍ، عَنْ أبي عِمرانَ الجوْنيّ، عنْ أنَسٍ

فذكره

(1)

.

وقدْ رواهُ غيرُ أنَس مِنَ الصَّحابةِ.

قال البزَّارُ: حدّثنا مُحمَّدُ بن معمّر، وَأحْمَدُ بنُ عمرو

(2)

العُصْفُريُّ، قالا: حدّثنا يحيى بن كثير العَنْبَريّ، حدّثنا إبراهيمُ بنُ الْمَبَارَكِ، عَنِ القَاسم بن مُطَيّبٍ، عن الأعمشِ، عَنْ أبي وائل، عنْ حُذيْفَة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أتَانِي جبْرِيلُ، فَذَكَر يَوْمَ الْمَزيدِ" قال: "فَيُوحِي الله عز وجل إلى حَمَلةِ العَرشِ أنْ يَرفعوا الْحُجُبَ فيما بَيْنَهُمْ وَبيْنَهُ، فيكُونُ أوَّلَ ما يَسْمعُون مِنهُ: أيْن عَبَادِي الذَّينَ أطَاعُوني بالغَيْبِ ولم يرَوْنِي، وصَدَّقُوا رُسُلِي، وَاتَّبعُوا أمْري، سلوني، فهذَا يوْم المَزِيدِ، فيَجْتَمِعُونَ على كلمةٍ وَاحدةٍ: أن رَضِينا عنك، فَارْضَ عنَّا، فيُرَجّعُ في قوله: يا أهْلَ الْجنَّةِ، إنِّي لوْ لم أرْضَ عَنْكمْ لم أُسكنكم جَنَّتي، هَذَا يَوْم المزِيدِ، فَسَلُوني، فيَجْتَمعُونَ على كلمَةٍ واحدةٍ: أرِنا وَجْهَك يارَبِّ نَنْظُرْ إليهِ" قال: "فيَكْشِفُ الْحُجُبَ، فَيَتَجَلَّى لهُمْ، فَيَغْشَاهُمْ منْ نُورِهِ ما لولا أنَّ الله قَضَى ألّا يَمُوتُوا لاحترقُوا، ثمَّ يقالُ لَهمْ: ارْجِعُوا إلى مَنَازِلكُمْ، فيرجعون إلى منازلهم ولهُمْ في كلِّ سَبْعَةِ أيام يوْمٌ يتجلى لهم فيه، وذلكَ يَوْم الجُمُعة"

(3)

.

(1)

رواه البزار رقم (3519 - كشف الأستار) وأبو يعلى (1473) والطبراني في "الأوسط"(2105) وهو حديث حسن.

(2)

في الأصول: أحمد بن حفص، وهو خطأ.

(3)

رواه البزار (3518 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

ص: 492

‌ذِكر سوق الجنَّة

قال الحافِظ أبو بَكْرِ بنُ أبي عَاصِمٍ: حدّثنا هِشَامُ بنُ عَمّارٍ، حدّثنا عَبْدُ الْحَميدِ بنُ حبيب بن أبي العِشْرِينَ، عن الأوْزَاعيّ، عن حَسَّان بن عطيَّةَ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ: أنّهُ لَقيَ أبا هُرَيرةَ، فقال أبو هُرَيرةَ: أسْألُ اللهَ أنْ يَجْمَعَ بَيْني وَبَيْنَكَ في سُوقِ الْجنّةِ، فقال سعيدٌ: أوَ فيهَا سُوقٌ؟ قال: نَعَمْ، أخْبَرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أهْلَ الْجَنَّة إذا دَخَلُوها نزَلُوها بفَضْلِ أعْمالِهِمْ، فيُؤْذَنُ لهمْ في مِقْدارِ يومِ الْجُمُعةِ منْ أيَّام الدُّنْيا، فيَزُورُونَ اللهَ عز وجل في رَوْضَةٍ منْ ريَاضِ الجَنّةِ، فتُوضَعُ لهم مُنابرُ منْ نورٍ، ومَنابر من لُؤلُؤ، ومَنابرُ منْ زَبرْجدٍ، ومنابرُ منْ ياقُوتٍ، ومنابرُ منْ ذهبٍ، ومنابرُ منْ فضَّةٍ، ويَجْلسُ أدْناهُمْ -وما فيهمْ دَنيٌّ- على كُثْبانِ المِسْكِ وَالكافُور، ما يرَوْن أنَّ أصْحاب الكَرَاسيّ أفْضَلُ مِنْهُمْ مَجْلسًا" قال أبو هريرةَ: فقلتُ: يا رسول الله، هلْ نرى رَبَّنا؟ قال:"نَعَمْ، هَلْ تَمَارَوْنَ في رُؤيَةِ الشَّمْسِ والقمَر لَيْلَة البَدْرِ؟ " قلنا: لا، قال:"فكَذلك لا تَمَارَوْنَ في رُؤْيةِ رَبِّكُمْ تبارك وتعالى، فإنه لا يَبْقَى في ذلك الْمَجْلِسِ أحدٌ إلَّا حاضَرَه ربُّه مُحاضَرَةً حتّى يقول: يا فُلانَ ابن فلانٍ، أتَذْكُرُ يومَ فعلْتَ كذا، وكذا؟ فيُذَكِّرهُ بَعْضَ غَدَرَاته، فيقولُ: بلَى، أفَلَمْ تَغْفِرْ لي؟ فيقول: بلَى، فبمغْفِرِتي بَلَغْتَ منزِلَتَكَ هذه" قال: "فبَيْنما هُمْ على ذاك غَشِيَتْهُمْ سَحَابةٌ منْ فَوْقِهِمْ فأمْطَرَتْ عَليْهمْ طِيبًا لم يَجِدُوا شيئًا مثْلَ ريحِه قطُّ" قال: "ثمَّ يقولُ ربُّنا عز وجل: قُومُوا إلى ما أعْدَدْتُ لكم منَ الكَرَامَةِ، فخُذوا ما اشْتَهَيْتُمْ" قال: "فيَجدُون سُوقًا قد حَفّتْ بها الملائكةُ، فيهِ ما لم تَنْظُرِ العُيُونُ إلى مِثْلِهِ، ولم تَسْمَع الآذَانُ، ولم يَخْطر على القُلوب" قال: "فنأخذ منها ما اشتهينا، فيُحْمَلُ لنا، لَيْسَ يُبَاعُ فيها ولا يُشْترى، وفي ذلك السُّوقِ يَلْقَى أهلُ الجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا" قال: "فيُقْبِلُ ذُو البِزَّة المُرْتفِعَةِ، فيَلْقَى منْ هُوَ دُونَهُ -وما فيهِمْ دَنِيٌّ- فَيَرُوعُهُ ما يَرَى عَليْهِ منَ اللِّبَاسِ وَالْهيْئَةِ، فمَا يَنْقَضِي آخِرُ حديثهِ حتَّى يتمثّلَ عَليْهِ أحْسَنُ مِنهُ، وذلك أنّهُ لا يَنْبَغي لأحدٍ أنْ يَحْزَنَ فيها" قال: "ثمَّ نَنْصَرفُ إلى مَنازِلنا، فَتَلقانا أزواجُنا، فيقُلْنَ: مَرْحبًا وأهْلًا بِحِبِّنا، لقد جئت وإنَّ بكَ منَ الجمالِ وَالطِّيبِ أفْضَلَ ممّا فارَقْتَنا عَليْهِ، فنقولُ: إنّا قد جَالَسْنا رَبَّنا الجبَّارَ وَيَحقُّ لنا أنْ نَنْقَلِبَ بمثْلِ ما انقْلَبْنَا".

وهكذا رَوَاهُ ابنُ ماجهْ، عن هِشَام بن عَمَّارٍ، وروَاهُ التِّرْمذيُّ عن محمدِ بنِ إسماعيلَ، عن هشام ابن عمّارِ، ثمَّ قال: غريبٌ لا نعرفهُ إلّا منْ هذا الوجهِ. وقد رَواهُ أبو بَكْرِ بن أبي الدُّنْيا عنِ الْحَكَمِ بن مُوسى، عن هِقْل بن زياد، عن الأوْزَاعيّ، قال: نُبِّئْتُ أنَّ سَعيدَ بنَ المُسَيَّبِ لَقيَ أبا هُريرةَ

فذكره

(1)

.

(1)

رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(585) وابن ماجه (4336) والترمذي (2549) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(256) وإسناده ضعيف.

ص: 493

وقال مُسْلِم: حدّثنا أبو عُثْمانَ سعيدُ بنُ عَبْد الجَبَّارِ البَصْريّ، حدّثنا حمَّادُ بنُ سَلَمةَ، عنْ ثابتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا يأْتُونها كلَّ جُمُعةٍ، فتَهبُّ عليهم رِيحُ الشَّمالِ، فتَحْثُو في وجُوهِهمْ وَثيَابِهم المِسْك، فيزدادُونَ حُسْنًا وجَمَالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقولُ لهم أهْلُوهُمْ: واللهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدنا حُسْنًا وجَمَالًا، فيقولونَ: وأنتمْ والله لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا". وهكذا رَواهُ أحمدُ عَنْ عفّانَ، عن حَمَّادٍ، وَعِنْدهُ: "إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا فيها كُثْبانُ المِسْكِ، فإذا خَرَجُوا إليْها هَبَّت الرِّيحُ

" وذَكَرَ تمامَه

(1)

.

وَرَوى أبو بكْرِ بن أبي سَبْره

(2)

، عن عُمرَ بن عطاءِ بن وَرَازٍ

(3)

، عن سالم أبي الغَيْثِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أرْضُ الْجَنَّةِ بَيضاءُ، عَرْصَتُها صُخُور الكافورِ، وقَدْ أحَاطَ به المِسْكُ مثْل كُثْبانِ الرَّمْلِ، فيه أنْهارٌ مُطَّرِدَةٌ، فَيَجْتَمِعُ فيها أهْلُ الْجَنَّةِ فَيَتَعارفونَ، فيبعث الله تعالى ريحَ الرحمة، فتَهيِّجُ عَلَيْهمْ ريحَ المِسْكِ، فيَرْجِعُ الرَّجُلُ إلى زوْجتِه، وَقَد ازْدادَ حُسْنًا وطِيبًا، فتقولُ: لَقَدْ خرَجْتَ منْ عِنْدِي وأنا بكَ مُعْجَبةٌ، وأنا الآنَ أشدُّ بك إعجابًا"

(4)

.

فأمَّا الحديثِّ الّذِي روَاهُ الحافظُ أبو عيسى الترْمِذِيّ، قائلًا: حدّثنا اْحمدُ بنُ مَنيعٍ، وهنَّاد

(5)

، قالا: حدّثنا أبو مُعاويةَ، حدّثنا عَبْدُ الرَّحمن بن إسْحَاقَ، عن النُّعْمانِ بن سعْدِ، عن عَليٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنّةِ لَسُوقًا ما فيها شراءٌ ولا بَيْعٌ، إلَّا الصُّورَ منَ الرِّجالِ وَالنِّسَاءِ، فإذا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورةً دَخَلَ فيها"؛ فإنه حديثٌ غريبٌ كما ذكرهُ التِّرْمذيّ

(6)

.

وَيُحْملُ مَعْناهُ على أنَّ الرِّجالَ إنّما يَشْتَهونَ الدُّخولَ في مِثْل صُورِ الرِّجالِ، وكذلك النِّسَاءُ، ويَكُونُ مُفسَّرًا بالحديثِ المتقدِّمِ، وهُوَ الشَّكْلُ، وَالْهَيْئةُ، وَالبَشَرَةُ، واللِّبَاسُ -كما ذَكرناه في حديثِ أبي هريرةَ في سُوقِ الجنّةِ: فيُقْبلُ ذُو البِزَّة المُرْتَفِعَةِ، فيَلْقَى منْ هو دُونَهُ فيَرُوعُهُ ما عَلَيْهِ منَ اللِّبَاسِ، وَالْهَيْئةِ، فمَا يَنْقَضِي آخر حديثه حتَّى يَتَمثَّل عَلَيْهِ أحْسَنُ منْهُ، وذلك أنَّهُ لا يَنْبَغي لأحدٍ أنْ يَحْزَنَ فيها

(7)

- هذا إنْ كان قدْ حُفِظَ لَفْظُ الحديثِ، وَالظّاهرُ أنّهُ لم يُحْفظْ، فإنّهُ قدْ تفرد بهِ عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ إسْحاقَ بنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ أبو شَيْبَةَ الواسطي، ويُقالُ: الكُوفي، رَوَى عن أبيهِ وَخالهِ النُّعْمانِ بن

(1)

رواه مسلم (2833) وأحمد في المسند (3/ 284).

(2)

في الأصول: أبو بكر بن أبي شيبة، وهو خطأ.

(3)

في (آ): عن عمر عن عطاء بن زرارة، وهو خطأ.

(4)

أخرجه أبن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(28) وإسناده ضعيف.

(5)

في (آ): حماد، وهو خطأ.

(6)

رواه الترمذي (2550).

(7)

رواه الترمذي (2549) وابن ماجه (4336) وإسناده ضعيف، كما سيذكره المصنف مطولًا.

ص: 494

سَعْدٍ، وَالشَّعْبي، وغَيْرِهمْ. وعنه جَماعة، منْهُمْ حَفْصُ بنُ غياث، وعبدُ اللهِ بنُ إدْريسَ، وهُشَيْمٌ. قال الإمامُ أحمدُ: ليْسَ بشيءٍ، مُنْكرُ الحديثِ، وكَذّبهُ في رِوَايتِهِ عنِ النُّعْمانِ بنِ سَعْدٍ، عن المُغيرَةِ بن شُعْبَةَ في أحَاديثَ رَفَعَها. وكذلك ضعَّفَهُ يَحْيَى بنُ مَعينٍ، ومحمد بنُ سعْدِ، ويعقوب بن سفْيانَ، وَالبُخاريّ، وأبو دَاود، وأبو حاتِمٍ، وأبو زُرْعَةَ، وَالنّسَائيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابنُ عَديّ وغيرُهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْصيتُ كلامَهُمْ فيه مفصلًا في "التَّكميلِ"، وللهِ الْحمدُ وَالمِنَّةُ.

ومِثْلُ هذا الرَّجُلِ لا يُقْبَلُ مِنْهُ ما تَفَرَّدَ به، ولا سيَّمَا هذا الحديثُ، فإنّهُ مُنْكرٌ جدًّا، وأحْسَنُ أحْوَالِهِ أنْ يكُونَ سَمِعَ شيئًا ولم يَفْهَمْهُ جَيِّدًا، فعبَّر عنْهُ بعبارةٍ ناقصةٍ، ويكُونُ أصْلُ الحديث كما ذكرنا في رِوَايةِ ابنِ أبي العِشْرين الدِّمَشْقيّ، عن الأوْزَاعيّ، عن حسَّانَ بنِ عطيَّةَ، عنْ سَعيد بنِ المُسَيَّبِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ؛ في سُوقِ الجَنَّةِ، والله أعلم.

وقد رُويَ من وجهٍ آخَرَ غريبٍ، فقال محمد بنُ عبدِ اللهِ الحضْرَميُّ، الحافظُ المَعْرُوفُ بِمُطَيَّن: حدّثنا أحمدُ بن محمدِ بن طَريفٍ البَجَليّ، حدّثنا أبي، حدّثنا محمَّدُ بنُ كثيرٍ، حدّثني جابرٌ الْجُعفيُّ، عن أبي جَعْفرٍ، عن علي بن الحُسينِ، عن جابر بن عبدِ اللهِ، قال: خَرَجَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ مُجْتَمِعُونَ، فقال:"يا مَعْشرَ المُسْلمينَ، إنَّ في الجَنَّة لسُوقًا ما يُباعُ فيها ولا يُشْتَرى إلّا الصُّور، فمنْ أحبَّ صُورةً منْ رَجُلٍ أوِ امْرأةٍ دَخَلَ فيها".

جابرُ بنُ يزيدَ الجُعْفيّ ضعيفُ الحديثِ، والله تعالى أعلمُ.

‌ذكر ريح الجنَّة وطيبه وانتشاره حتى إنه يُشَمُّ من سنين عديدة، ومسافة بعيدة

قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6] قال بَعْضُهُمْ: أيْ طَيَّبَها لهم؛ من العَرْف، وهُو الريح الطيبة.

وقال أبو داودَ الطَّيَالسيُّ: حدّثنا شُعْبَةُ، عن الحَكَمِ، عن مُجَاهِدٍ، عن عبدِ الله بنِ عَمْرِو بن العَاصِ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ادَّعَى إلى غيرِ أبيهِ، لم يَرَحْ رَائحةَ الجَنّةِ، وإنَّ رِيحَها ليُوجدُ منْ مَسِيرَةِ خمسين عامًا". وَروَاهُ أحمدُ، عن غُنْدَرٍ، عن شُعْبةَ، وقالَ:"سبعين عامًا"

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا وَهْبُ بنُ جَريرٍ، حدّثنا شُعْبَة، عن الحَكَمِ، عن مُجاهدٍ، قال: أراد فُلانٌ أنْ يُدْعى جُنادَةَ بن أبي أُمَيَّةَ، فقال عبدُ اللهِ بن عَمْرٍو، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"من ادَّعَى إلى غيرِ أبيهِ لم يَرَحْ رائحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ ريحَها لَيُوجدُ منْ قَدْرِ سبعين عامًا، أو مسيرة سبعين عامًا"

(1)

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (2274) واْحمد في المسند (2/ 194) وإسناده صحيح.

ص: 495

قَال: "ومنْ كَذَبَ علَيَّ مُتَعمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار"

(1)

.

وقال البُخاريّ: حدّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ، حدّثنا عبدُ الوَاحدِ بنُ زِيَادِ، عنِ الحَسَنِ بن عَمْرٍو الفُقَيْميّ، عن مجاهد، عن عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"منْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لم يَرَحْ رائحةَ الجنّةِ، وإنَّ رِيحَها لَيُوجد منْ مَسِيرةِ أربعين عامًا". وهكذا رواهُ ابنُ ماجهْ، عنْ أبي كُريْبٍ، عن أبي مُعاويةَ، عنِ الحَسنِ بن عَمْرٍو، به

(2)

.

وقد قال الإمامُ أحمدُ: حدّثنا إسماعيلُ بنُ محمدٍ، يَعْني أبا إبْراهيمَ المُعَقِّب، حدّثنا مَرْوانُ، وهُوَ ابْنُ مُعَاويةَ الفَزَاريّ، عنِ الحَسَنِ بنِ عَمْرٍو الفُقَيْميّ، [عن مُجاهدٍ]، عن جُنادَةَ بن أبي أُمَيَّةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ قَتَلَ قتيلًا منْ أهْلِ الذِّمَّةِ، لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ ريحَها لَيُوجدُ منْ مَسيرَةِ أربعين عامًا".

ورواهُ النَّسَائيُّ عن عبدِ الرَّحمن بن إبراهيمَ دُحَيْمٍ، عن مَرْوانَ بنِ مُعاوِيَةَ الفَزَاريّ، به. ورواهُ الطَّبَرانيّ، عن مُوسى بن خَازم

(3)

الأصْبهانيّ، عنْ محمدِ بن بُكيْرٍ

(4)

الحَضْرميّ، عن مَرْوانَ الفَزَاريّ، عن الحَسَنِ، عنْ مُجاهِدٍ، عن جُنَادَةَ، عن عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ قَتَلَ قَتيلًا منْ أهْلِ الذِّمِّةِ، لم يَرَحْ رَائحةَ الجنَّة، وإنَّ ريحَها لَيُوجدُ منْ مَسِيرَةِ مئةِ عام". هذا لفظُه

(5)

.

وقال الطَّبرانيُّ: حدّثنا أحمدُ بنُ عليٍّ الأبّارُ، حدّثنا معلَّل بنُ نُفَيْلٍ

(6)

، حدّثنا عيسى بنُ يونُسَ، عن عَوْف الأعْرابيّ، عن محمّد بن سِيرينَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدةً بغيْرِ حقِّها، لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ ريحَها يُوجَدُ منْ مَسيرةِ مِئَةِ عام". وقد رواهُ أبو داوُدَ، والتِّرْمذيّ من حديثِ محمدِ بن عَجْلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، مرفوعًا، وقال:"سبعين خَريفًا"، وقال: حسن صحيح، وقال: وفي الباب عن أبي بَكْرَةَ.

قال الحافظُ الضِّيَاء: هو عِندي على شرطِ الصَّحيحِ، يَعْني حديثَ أبي هريرة

(7)

.

وقال عبد الرَّزّاقِ عن مَعْمَرٍ، عن قَتَادةَ، عنِ الحَسنِ، أو غيرِهِ، عنْ أبي بَكْرَةَ، قال: سمعتُ

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 171) وإسناده صحيح.

(2)

رواه البخاري (3166) وابن ماجه (2686).

(3)

في (آ): موسى بن أبي حازم، وهو خطأ.

(4)

في الأصول: بكر، وهو خطأ.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 186) والنسائي (8/ 25) وهو حديث صحيح.

(6)

في الأصول: معلل بن فضيل، وهو خطأ.

(7)

رواه الطبراني في الأوسط (667) والترمذي رقم (1403) وهو حديث صحيح، ولم يروه أبو داود من هذا الطريق، وإنما رواه من غير هذا الطريق عن أبي بكرة رقم (2760).

ص: 496

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رِيحُ الجنَّةِ يُوجدُ منْ مَسيرةِ مئةِ عام"

(1)

. وقال سعيدُ بن أبي عَرُوبةَ، عن قَتَادةَ:"خَمْسمئة عامٍ". وكذلك رواهُ حَمّادُ بنُ سَلَمةَ عن يونُسَ بن عُبَيْدٍ، عنِ الحَسنِ

(2)

.

ورَوَى الحافظُ أبو نُعَيْمٍ [الأصْبَهانيّ] في كتابِ "صِفَةِ الجنّةِ"، منْ طريقِ الرَّبيعِ بنِ بَدْرٍ، عُلَيْلَةَ -وهو ضعيفٌ- عن هارُونَ بن رئابٍ، عن مُجاهدٍ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"رائحةُ الجنَّةِ تُوجدُ منْ مَسِيرةِ خَمْسمئةِ سنة"

(3)

.

وقال مالكٌ، عن مُسْلِمِ بن أبي مرْيَم، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ: أنّهُ قال:" نِسَاءٌ كاسِيَاتٌ عَاريَاتٌ، مَائِلاتٌ مُمِيلاتٌ، لا يَدْخُلْنَ الجَنّةَ ولا يَجِدْنَ ريحَها، وإنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ منْ مَسيرَةِ خَمْسمئة عامٍ".

قال الحافظُ أبو عُمَرَ بن عبد البَرِّ: وقد رواهُ عبدُ اللهِ بن نافِع الصَّائِغُ، عن مالكٍ، فَرَفَعهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

قال الطَّبرانيّ: حدّثنا محمد بن عبدِ الله الحَضْرَميُّ، حدّثنا أحمد بن محمد

(5)

بن طَريفٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا محمدُ بنُ كَثيرٍ، حدّثني جابر الجُعْفيُّ، عن أبي جَعْفرٍ محمدِ بنِ عَلِيّ، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رِيحُ الجنّةِ يُوجدُ منْ مَسِيرَةِ ألْفٍ عام، واللهِ لا يَجِدُها عَاقٌّ، ولا قاطِعُ رَحِمٍ"

(6)

.

وَثَبَتَ في "الصَّحيحين"، عن أنس [بن مالكٍ]، أن سعْد بن مُعَاذٍ: مَرَّ بأنَسِ بن النَّضْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، فقال: يا سَعدُ، وَاهًا لريحِ الجنّةِ، واللهِ إني لأجدُ ريحَها دُونَ أُحُدٍ، فقاتَلَ يَوْمئِذٍ حتّى قُتِلَ، ولم يُعْرَفْ منْ كَثرَةِ الِجِرَاحِ، وما عَرَفَهُ إلّا أخْتُه الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النّضْرِ بِبنَانِهِ، وَوُجِد بهِ بِضعٌ وثمانونَ منْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ، وَطَعْنةٍ، وَرَمْيةٍ

(7)

. رضي الله عنه، فَقَدْ وَجَدَ أنسٌ

(8)

رَيحَ الجنَّةِ في الأرْضِ، وهِيَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، ومسيرة ذلك ألوف من السنين، اللّهُمَّ إلّا أنْ تَكُونَ قَد اقْتَرَبَتْ يَوْمَئِذٍ منَ الْمُؤْمنينَ، والله أعلم.

(1)

رواه معمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (19712) وعنه الإمام أحمد في مسنده (5/ 46) وهو حديث حسن يشهد له ما قبله.

(2)

رواه النسائي في "الكبرى"(8744) من طريق حماد به، وضعفه.

(3)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(194).

(4)

رواه مالك في الموطأ (2/ 913) وهو صحيح موقوفًا، وهو في حكم المرفوع، لأنه ليس للرأي فيه مجال.

(5)

في الأصول: محمد بن أحمد.

(6)

رواه الطبراني في "الأوسط" رقم (5664) وإسناده ضعيف جدًا.

(7)

رواه البخاري (2805) ومسلم (1903).

(8)

هو أنس بن النضر.

ص: 497

‌ذكر نور الجنة وبهائها وطيب فنائها وحسن منظرها في وقتي صباحها ومسائها

قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وقال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76] وقال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] وقال تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13].

قالَ أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا سُوَيْدُ بن سَعيدٍ، حدّثنا عبْدُ رَبِّهِ الْحَنَفيُّ، عنْ خَالهِ الزُّمَيْلِ بن سِمَاكٍ، سمع أباهُ يُحدِّث: أنَّهُ لَقيَ عبد الله بن عبَّاس بالمدينَةِ بَعْدما كُفَّ بَصَرُهُ، فقال: يا ابن عبَّاس، ما أرْضُ الْجَنَّةِ؟ قال: هيَ مَرْمرةٌ بَيْضاءُ من فِضَّةٍ، كأنَّها مِرآةٌ، قلت: ما نورُها؟ قال: أما رَأَيْتَ السَّاعَةَ الَّتِي تكُونُ قَبْلَ طُلوع الشَّمْسِ؟ فذلك نورها، [إلا] أنهُ ليْسَ فيهَا شَمْسٌ ولا زَمهرير

وذَكَرَ باقي الْحديثِ، كما تقدم

(1)

.

وتَقدمَ في سُؤالِ ابن صيَّاد عنْ ترْبةِ الْجَنَّةِ أنها دَرْمكة بَيْضاءُ، مِسْكٌ أذْفرُ

(2)

.

وقال أحمدُ بن مَنْصُور الرَّمَادِي

(3)

: حدّثنا كثيرُ بن هِشامٍ، حدّثنا هِشَام بن زِيَاد أبو المِقْدام، عنْ حَبيبِ بن الشَّهيدِ، عنْ عَطاء بن أبي رَباح، عن ابن عبَّاس: أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "خَلقَ اللهُ الجَنَّةَ بَيْضاءَ، وَأحَبُّ الزِّيِّ إلى اللهِ الْبَياضُ، فَلْيَلْبَسْهُ أحْياؤكم، وكَفِّنُوا فيهِ موْتاكمْ" قال: ثم أمَرَ بِرعَاءِ الشَّاءِ فَجُمِعُوا، فقال:"منْ كانَ ذَا غَنَم سُود فلْيَخْلِطْ بها بيْضًا" فَجَاءَتْهُ امْرأةٌ فقالت: يا رسول الله إني اتَّخَذْتُ غَنمًا سُودًا، فلا أراهَا تنمو، فقال:"عَفِّري"

(4)

أيْ بَيِّضي، مَعْناهُ: اخْلِطي فيهَا بِيضًا.

وقال أبو بكر البزَّارُ: حدّثنا أحمد بنُ الفرَج الْحِمْصيّ، حدّثنا عُثْمانُ بن سَعيدِ بن كثير الْحِمْصي، حدّثنا مُحمَّدُ بن مُهَاجِر، عنِ الضَّحَّاكِ المعَافِريّ، عَنْ سُليْمان بن مُوسى، حدّثنا كُريْبٌ: أنَّهُ سمع أسَامَةَ بن زيدٍ يَقُولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا مُشَمِّر إلى الْجَنَّةِ؟ فإن الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لهَا، هِيَ وَرَبِّ الكَعْبةِ نُورٌ يتَلألأ، وَرَيْحانةٌ تَهْتزُّ، وَقَصْرٌ مشيدٌ، ونَهْرُ مُطَّرِدٌ، وثمرةٌ نَضِيجةٌ، وزوجَةٌ حَسْناءُ جَميلةٌ، وحُلَلٌ كَثيرةٌ في مقام آبدٍ، في دَارٍ سَليمةٍ، وفاكهةٌ، وخُضرَةٌ، وحَبْرةٌ، ونَعْمةٌ، في محلَّةٍ

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(147).

(2)

رواه مسلم (2928).

(3)

في الأصول: الزيادي، وهو خطأ.

(4)

وأخرجه ابن أبي عدي في "الكامل"(7/ 2565) وإسناده ضعيف جدًا.

ص: 498

عاليَةٍ بَهِيَّةٍ" قالوا: يا رسولَ اللهِ، نَعَمْ، نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لها، فقال: "قولوا: إنْ شَاءَ اللهُ" فقال الْقَومُ: إنْ شاء الله. ثم قال البَزَّار: لا نعْلَمُ لَهُ طريقًا إلا هذا.

وقد رَواه ابن ماجه منْ حدَيث الْوَليدِ بن مُسْلم، عَنْ مُحمَّد بن مُهاجر، بنَحوه، ورَواهُ أبو بكر بن أبي دَاودَ عَنْ عَمْرو بن عُثْمانَ، عنْ أبيه، عَنْ مُحمَّدِ بن مُهاجر، به، ورواه ابن أبي الدنيا، من طريق مهاجر

(1)

.

وتقدَّم في الحَديث الّذِي رواه أبو بكر بن أبي سبرة

(2)

، عن عُمَر بن عَطاء بن وَرَازٍ

(3)

، عن سَالِم أبي الغَيْثِ، عنْ أبي هريرَةَ، مَرْفُوعًا: "أرْضُ الْجَنَّةِ بيضَاءُ، عَرْصَتُها صُخُورُ الكافور، وقد أحَاطَ به المسكُ مِثْلَ كُثْبانِ الرَّمل، فِيهَا أنْهارٌ مُطَّرِدَة، فيَجْتَمِعُ فيهَا أهْلُ الْجنَّةِ، فيتَعَارفُونَ، فَيَبْعثُ اللهُ رِيحَ الرَّحْمَةِ، فتهيِّجُ عَلَيْهمْ رِيحَ الْمِسْكِ، فيَرْجع كل واحد إلى زَوْجَتهِ وقد ازْدادَ حُسْنًا وجمالًا

" وذكر الحديث

(4)

.

وروى الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم-:" لو أن ما يُقلّ ظُفُرٌ مما في الجنة بدا، لتزخرف له ما بين خوافق السموات والأرض"

(5)

.

‌ذكر الأمر بطلب الجنة وترغيب الله عباده فيها وأمرهم بالمبادرة إليها

قالَ الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 25] وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وقال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25 - 26].

وقدْ رَوَى البخاري وغيرهُ منْ حَديث سَعيد بن مِيناءَ، عَنْ جابر، أنَّ مَلائكةَ جَاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهُوَ نَائمٌ، فقالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَائمٌ، وقال بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعَين نَائمةٌ والقَلْبَ يَقْظَانُ، فقالوا: اضربوا له مثلًا، فقالوا: مَثَلهُ كمَثَلِ رَجُلٍ بنى دارًا واتَّخَذَ فيها مأْدُبةً وبَعث دَاعيًا، فمنْ أجَابَ

(1)

رواه ابن ماجه رقم (4332) وابن أبي داود في "البعث والنشور" رقم (71) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(1) وهو حديث ضعيف.

(2)

في الأصول: أبو بكر بن أبي شيبة، وهو خطأ.

(3)

في الأصول: عن عمر عن عطاء بن عرادة بن وراز، وهو خطأ.

(4)

رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في"صفة الجنة"(28) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (1/ 169) وهو حديث حسن.

ص: 499

الدَّاعيَ دَخَل الدار وأكل منَ الْمَأْدُبةِ، ومنْ لم يُجِب الداعي لم يَدْخُلِ الدَّارَ ولم يأكلْ من المأدُبةِ، قالوا: فأوِّلُوهَا لهُ يعقلْها، فقال بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نائمٌ، وقال بَعْضُهُمْ: إنَّ العَيْن نَائمةٌ وَالقَلْبَ يقْظانُ، فقالوا: الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعي مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فمنْ أطاعَ مُحمدًا فقدْ أطاع الله، ومنْ عَصى مُحمدًا فقدْ عَصَى اللّ، ومُحمَّد فَرْق بيْنَ النَّاسِ

(1)

.

وروَى الترمذيّ هذا الحَديثَ، ولفْظُهُ: خَرَجَ عَلَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقالَ:"إنِّي رَأَيْتُ في المَنامِ كأنَّ جِبْريلَ عِنْدَ رَأْسي، ومَيكائيلَ عِنْدَ رِجْليَّ، يَقُولُ أحَدُهُما لصَاحِبِهِ: اضْرِب لهُ مَثَلًا، فقال: اسْمع سمعتْ أُذُنكَ، واعْقلْ عَقَلَ قلْبُك، إنَّما مَثَلُكَ ومَثَلُ أُمَّتِك كمثل مَلِكٍ اتَّخَذَ دارًا، ثمَّ بَنى فيها بَيْتًا، ثمَّ صنع مأْدُبةً، ثمَّ بَعثَ رسُولًا يَدْعُو النّاسَ إلى طَعَامِهِ، فمنْهمْ منْ أجَابَ الرَّسُولَ، ومنْهم منْ تركهُ، فالله هُو الملِكُ، والدَّارُ الإسْلامُ، والْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وأنْتَ يا محمدُ رسول الله، فمن أجَابكَ دَخَلَ الإسلامَ، ومن دَخَلَ الإسلام دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومن دَخل الجَنَّة أكل مما فيها"

(2)

.

وروى الترمذي عن ابن مَسْعُودٍ نَحْوه، وصحَّحه أيضًا

(3)

.

وقال حمادُ بن سَلَمةَ، عن ثابت، عنْ أنَسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ سَيِّدًا بنَى دارًا، واتَّخَذ مَأْدُبةً، وبعثَ دَاعيًا، فمن أجَاب الدَّاعيَ دَخل الدَّارَ، وأكل من المَأدُبةِ، ورَضِيَ عنهُ السَّيِّد، ألا وإنَّ السَّيِّد الله، والدَّار الإسلامُ، والْمأْدُبةَ الْجنَّةُ، والدَّاعي مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم"

(4)

.

وقال أبو يعلى: حدّثنا أبو خَيثمة، حدّثنا جَرير، عنْ يُونُسَ، هُوَ ابن خَبَّاب

(5)

، عنْ أبي حازم، عنْ أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما استجَارَ عبد من النَّارِ سبع مرات إلا قالتِ النَّار: يا رَبِّ إنَّ عبدك فلانًا قد اسْتَجَارَ منِّي فأجِرْهُ، ولا سألَ عبدٌ الْجَنّةَ سَبْعَ مرَّاتٍ إلّا قالتِ الْجَنَّة: يا رَبِّ إنّ عَبْدَكَ فُلانًا سألني فأَدْخِلْهُ الْجَنةَ". إسناده على شَرْطِ مُسْلم

(6)

.

ورَوَى التّرْمذيّ، وَالنَّسائي، وابْنُ ماجَهْ، عن هنَّادٍ، عن أبي الأحْوَصِ، عن أبي إسْحاق، عن بُريد

(7)

بن أبي مَرْيم، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ سَألَ الله الجَنَّةَ ثلاثَ مَرَّاتٍ، قالتِ

(1)

رواه البخاري رقم (7281).

(2)

رواه الترمذي رقم (2860) وهو حديث حسن.

(3)

رواه الترمذي (2861).

(4)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(2).

(5)

الصواب أن يونس هذا، هو ابن يزيد الأيلي، لأن جرير بن حازم، يروي عن يونس بن يزيد الأيلي، لا عن يونس بن خباب. أقول: ويونس بن خباب، ليس من رجال مسلم.

(6)

رواه أبو يعلى في مسنده رقم (6192) أقول: وإسناده على شرط الشيخين.

(7)

في (آ): يزيد، وهو خطأ.

ص: 500

الجَنَّةُ: اللهُمَّ أدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، ومنِ اسْتَجَارَ منَ النَّارِ ثلاث مرات قالتِ النَّارُ: اللهُمَّ أجِرْهُ منَ النَّارِ"

(1)

.

وقال الحسنُ بنُ سُفْيَانَ: حدّثنا المُقَدَّمي، حدّثنا عُمَرُ بنُ عَليٍّ، عن يَحْيَى بنِ عَبْدِ اللهِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أكْثِرُوا مَسْألَة اللهِ الْجَنّةَ، وَاسْتَعيذُوا بهِ منَ النَّارِ، فإنَّهُما شَافِعَتانِ مُشَفَّعَتانِ، فإنَّ الْعَبْدَ إذا أكثرَ مَسْألةَ الْجنَّةِ قالتِ الْجنَّةُ: يا رَبِّ، عبدُكَ هذا الَّذي سألَنيك فأسْكِنْهُ إيَّايَ، وتقولُ النَّارُ: يا ربِّ عبدكَ هذا الّذِي استَعاذ بك منِّي فأعِذْهُ مِنِّي"

(2)

.

وقال البزَّارُ: حدّثنا أحمدُ بنُ عَمْرِو بنِ عُبَيْدةَ العُصْفُريّ، حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إسْحَاقَ، حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ مُعاذٍ، عن محمدِ بن الْمُنْكَدِرِ، عن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُسْألُ بوجه اللهِ إلَّا الْجَنَّةُ". ورواهُ أبو داودَ من حَديثِ محمّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ

(3)

.

وفي التِّرْمذيّ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"منْ خَافَ أدْلَجَ، ومنْ أدْلَجَ بلَغَ الْمَنْزِل، ألا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَاليةٌ، ألا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجنَّة"

(4)

.

وقال أبو بكْرٍ الشَّافعيّ، عن كُلَيْبِ بنِ حَزْن: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اطْلُبُوا الْجنّةَ جُهْدَكُمْ، واهْرُبُوا منَ النَّارِ جُهْدَكُمْ، فإنَّ الْجنَّةَ لا ينامُ طالِبُها، وإنَّ النَّارَ لا ينامُ هارِبُها، وإنَّ الآخِرَةَ اليَوْمَ محفُوفةٌ بالمَكارِهِ، وإنّ الدُّنْيا محفُوفةٌ باللَّذَّاتِ والشَّهَواتِ، فلا تُلْهِيَنَّكم عنِ الآخرةِ"

(5)

.

وقال أبو يَعْلَى المَوْصليّ: حدّثنا إسحاقُ بنُ أبي إسرائيلَ، حدّثنا أيُّوبُ بنُ شَبيبٍ الصَّنْعاني، قال: كان -فيما عَرَضْنا على رَبَاحِ بن زيد- حديثُ عبدِ اللهِ بنِ بَحير

(6)

: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن يزيد

(7)

، سمعْتُ عَبْدَ اللهِ بن عُمَر، يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تَنْسوا العَظِيمَتَيْنِ" قلنا: وما العَظِيمتَانِ يا رسول اللهِ؟ قالَ: "الْجنَّةُ وَالنّارُ"

(8)

.

(1)

رواه الترمذي رقم (2567) والنسائي في المجتبى (8/ 279) وابن ماجه رقم (4340) وهناد في الزهد (173) وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة"(70) من طريق الحسن بن سفيان به.

(3)

رواه أبو داود (1671) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه الترمذي (2450) وهو حديث حسن.

(5)

وأخرجه الطبراني في الكبير (19/ 449) والأوسط (3643) والبغوي، وابن قانع (932) وابن شاهين، وابن مندة من طريق يعلى بن الأشدق عن كليب به. ويعلى بن الأشدق العقيلي ضعيف جدًا، ولبعضه شواهد.

(6)

في الأصول: ابن نمير، وهو خطأ.

(7)

في (م): ابن زيد، وهو خطأ.

(8)

رواه أبو يعلى في الكبير (3335 - المطالب العالية- النسخة المسندة) وفي سنده أيوب بن شبيب الصنعاني، وهو مجهول العين.

ص: 501

وقال كُلْثُومُ بنُ عِيَاضٍ القُشَيْريّ، على مِنْبَرِ دِمَشْقَ أيَّامَ هِشَامِ بن عبدِ المَلِك: من آثرَ اللهَ آثَرَهُ [اللهُ] ومن أبرَّ الله أبرَّه الله، فرَحِمَ اللهُ عبْدًا اسْتَعانَ بِنعْمَتِهِ على طاعتهِ، ولم يَسْتَعِنْ بِنِعْمتهِ على مَعْصِيتِهِ، فإنّهُ لا يأتي على صاحبِ الجَنَّةِ ساعةٌ إلَّا وهو يزداد فيها صنعًا حسنًا بما أعطاه الله منَ النّعْمَةِ، وفتح عليه علمًا نافعًا له في معادِه، لم يكن يَعرِفُهُ، ولا يأتي على صاحبِ العذابِ ساعةٌ إلّا وهو يعمل فيها ما يُسْتَنْكَرُ ويُستكره من أعمال أهل العذاب، ويُفتح عليه شيء لم يكن يعرفه قبل ذلك من المخازي في الدنيا والآخرة. كان هذا الرَّجُلُ رحمه الله مُتَوَلّيًا على دِمَشْقَ أيَّامَ هِشَامِ بن عبدِ الملِكِ، ثمَّ بَعَثَهُ إلى غزْوِ بلاد الْمَغْرِبِ فقُتِلَ هناك رحمه الله. أوْرَدهُ ابنُ عَساكِرَ رحمه الله.

‌ذكر أن الجنة حفت بالمكاره وهي الأعمال الشاقة على الأنفس من فعل الواجبات والمستحبات،

وترك المحرمات، والصبر على المكروهات، كقوله:"إسباغ الوضوءِ على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة"

(1)

، وأن النار حفت بالشهوات

قال الإمامُ أحمدُ: حدّثنا حَسَنٌ، حدّثنا حَمّادُ بنُ سَلَمةَ، عن ثابتِ البُنَانيّ، عن أنسِ بن مالكٍ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ". وهكذا رواهُ مُسْلِم وَالتّرْمذيّ، منْ حديثِ حمَّادِ بن سَلَمةَ، عنْ ثابتٍ -زادَ مُسْلِم

(2)

: وحميدٍ- كلاهُما عن أنَسٍ، وقال الترمِذيّ:[صحيحٌ] غريبٌ

(3)

.

وقال أحمدُ: حدّثنا قُتَيْبةُ، حدّثنا ابنُ لَهيعَةَ، عن أبي الأسْوَدِ، عن يَحْيَى بنِ النَّضْرِ، عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُفّتِ الْجنَّهُّ بالمَكارِهِ، وَحُفّتِ النّارُ بالشّهَواتِ". تفرَّد به أحمدُ، وإسنادُهُ جيّدٌ حسنٌ لما له من الشواهد

(4)

.

وقال أحمد: حدّثنا محمّدُ بن بِشْرٍ، حدّثنا محمدُ بنُ عَمْرٍو، حدّثنا أبو سَلَمةَ، عن أبي هريرة، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لمَّا خَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ والنار، أرْسَلَ جبْرِيلَ فقال: اذهب فانْظُرْ إليها وإلى ما أعددت فيها لأهلها، فجاء فنظر إليها وإلِى ما أعد الله لأهلها فيها، فرَجعَ إليه، فقال: وعِزَّتكَ لا يَسْمَعُ بها أحدٌ إلّا دخَلَها، فأمَرَ بها فحُجِبَتْ بالمَكارهِ، قال: ارْجعْ إليها، فانْظُرْ إليها وإلى

(1)

أخرجه مسلم (251).

(2)

وكذا الترمذي.

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 153) ومسلم (2822) والترمذي (2559).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 380).

ص: 502

مَا أعْدَدْتُ لأهلِها فيها" قال: "فرَجَعَ [إليها] فإذا هي قد حُجِبَتْ بالمَكارِهِ، فرَجَعَ إليه، فقال: وعِزَّتكَ لقد خَشيتُ ألّا يَدْخُلَها أحدٌ. قال: اذْهَبْ إلى النّارِ فانْظُرْ إليها وإلى ما أعْدَدْتُ لأهلِها فيها، فجاء فَنظرَ إليها وإلى ما أعدّ لأهْلِها فيها، فإذا هي يَرْكَبُ بَعْضُها بَعْضًا، فَرَجع، فقال: وعِزَّتِكَ لا يَسْمعُ بها أحدٌ فيَدْخُلَها، فأمرَ بها فَحُفَّتْ بالشّهَواتِ فرجع فقال: وعِزَّتِكَ لقد خَشيتُ ألّا يَنْجُوَ منها أحد إلا دَخَلها". تفرَّد به أحمدُ، وإسنادهُ صحيحٌ

(1)

.

وقال أحمدُ: حدّثنا حُسَيْنٌ، حدّثنا المَسْعُوديّ، عن دَاوُدَ بن يزيدَ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثرُ ما يَلِجُ به الإنْسانُ النَّارَ الأجْوَفَانِ: الفَرْجُ والفَمُ، وأكْثَرُ ما يَلِجُ بهِ الإنسانُ الْجنَّةَ: تَقْوَى اللهِ عز وجل، وحُسْنُ الخُلُقِ"

(2)

.

‌فصل

النَّارُ حُفّتْ بالشّهَواتِ، ودَاخِلُها كُلُّهُ مَضَرَّاتٌ وعقوبات وحَسَراتٌ، والجَنَّةُ حُفَّت وحجبت بالمكارِهِ، وداخلها أنواع المسرَّات مما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَير منْ أصناف اللَّذّاتِ، كما أوردناهُ في الآياتِ المُحْكماتِ والأحاديث الثابتات.

فمنْ نَعِيمهم المُقيمِ، وَلَذّتِهم المسْتمِرَّةِ، الطَّرَبُ الَّذي لم تَسْمَعِ الآذانُ بمثلِه، كما قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] قال الاْوزاعيّ، عن يَحْيَى بن أبي كثير: هو السَّماعُ في الجَنّةِ.

وقد ذكرنا ما رواهُ التِّرْمذيّ من حديثِ عبدِ الرَّحمن بنِ إسْحَاق، عن النُّعْمانِ بن سَعدٍ، عن عَلِيٍّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الْجَنّةِ لَمُجْتَمعًا لِلْحُورِ العِينِ، يُرَفِّعْنَ بأصْواتٍ لم تَسْمع الخلائقُ بمثلِهَا".

قال: وفي البابِ عن أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، وأنسٍ

(3)

.

قلتُ: وكذا رُوي من حديثِ عبدِ الله بن أبي أوْفَى، وابن عُمَر، وأبي أُمَامة.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 332 - 333) أقول: محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق له أوهام، فإسناده حسن، وقد رواه أصحاب السنن، أبو داود (4744) والترمذي (2560) والنسائي (7/ 4 - 5).

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 392) وهو حديث حسن بطرقه.

(3)

رواه الترمذي رقم (2564) وإسناده ضعيف.

ص: 503

‌حديث أبي هريرة رضي الله عنه

قال جَعْفر الفِرْيابيّ: حدّثنا سعيد [بن حفص]، حدّثنا محمدُ بنُ سلمة

(1)

، عن أبي عبدِ الرَّحيم، عن زيد بنِ أبي أُنَيْسَةَ، عنِ المِنْهَالِ بن عَمْرٍو، عن أبي صالِحٍ، عن أبي هريرة، قال: إنَّ في الْجَنَّةِ نَهْرًا طُولَ الْجَنَّةِ، حَافَتاهُ العَذَارَى، قِيَامٌ مُتَقابلاتٌ، يُغَنِّينَ بأصْواتٍ يَسْمَعها الخلائقُ، حتى ما يَرَوْنَ في الجنّةِ لَذَّةً مِثْلَها، قلنا: يا أبا هريرةَ، وما ذاكَ الغِناءُ؟ قال: إن شاء اللهُ ثناء بالتَّسْبيح، وَالتّحْميدِ، وَالتَّقْديسِ، وثَناء على الرَّبِّ عز وجل

(2)

.

وَرَوَى أبو نُعَيم في "صَفَةِ الجنَّةِ" منْ طريقِ مسلمة

(3)

بن علي، عن زَيْدِ بنِ وَاقِدٍ، عن رَجُلٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا:"إن في الْجَنَّةِ شَجَرةً جُذُوعُها من ذهب، وفُرُوعُها منْ زَبَرْجَدِ وَلُؤْلُؤ، فتَهُبُّ لها ريحٌ فَتَصْطَفِقُ، فما يَسْمعُ السَّامعُونَ بِصَوْتِ شيءٍ قطُّ ألذَّ مِنْهُ"

(4)

.

وقد تقدَّم عن ابن عبَّاسٍ أنَّها تُحَرِّكُها الرِّياحُ، فتتحرَّك بصَوْتِ كل لَهْوٍ كان في الدُّنْيا

(5)

.

‌حديث أبي سعيد

قال ابن أبي الدنيا: حدّثني إبراهيم بن سعيد، حدّثنا علي بن عاصم، حدّثنا سعيد بن أبي سعيد الخدري

(6)

، عن أبيه قال: حُدّثت أن في الجنة آجامًا

(7)

من قصب من ذهب، حملها اللؤلؤ، فإذا اشتهى أهل الجنة أن يسمعوا صوتًا حسنًا، بعث الله عز وجل على تلك الآجام ريحًا فتأتيهم بكل صوت يشتهونه"

(8)

.

‌حديث أنس رضي الله عنه

-

قال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثنا أبو خَيْثمةَ، حدّثنا إسماعيلُ بنُ عُمَرَ، حدّثنا ابن أبي ذِئبٍ

(9)

، عن عبدِ اللهِ بن رافعٍ، عن أنسٍ

(10)

، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحُورَ العِينَ ليغنِّين في

(1)

في (آ): محمد بن مسلمة، وهو خطأ.

(2)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(425).

(3)

في الأصول: سليم، وهو خطأ.

(4)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(433) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(45) وفي إسناده ضعف.

(6)

في"صفة الجنة": الحارثي، وهو الصواب، وسيأتي كذلك صفحة (506).

(7)

جمع أجمة، وهي الشجر الكثير الملتف.

(8)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(267) وفي إسناده ضعف، كما أومأ إليه المصنف في آخر هذا الباب.

(9)

أقحم في الأصول بعده: عن أبي ذئب.

(10)

في "صفة الجنة": ابن عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس.

ص: 504

الْجنَّةِ يقلن: نحنُ الْحُورُ الحِسَان، خُلِقْنا لأزواجٍ كرام"

(1)

.

‌حديث عبد الله بن أبي أوفَى، وهو حديث غريب

قال الحافظُ أبو نُعَيْم: حدثنا محمدُ بن جَعْفرٍ منْ أصلِهِ، حدّثنا مُوسى بن هارُون، حدّثنا حامد بن يَحْيَى الْبَلْخيُّ، حدّثنا يُونس بن محمّدٍ المُؤَدِّبُ، حدّثنا الوليدُ بن أبي ثَوْر، حدّثني سعدٌ الطّائيُّ، عن عبد الرَّحمن بن سابِط، عن ابن أبي أوْفَى، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُزَوَّجُ إلى كلِّ رَجُلٍ منْ أهْلِ الجَنّةِ أربعةُ آلاف بِكْرٍ، وثمانيةُ آلافِ أيِّم، ومَئةُ حَوْرَاءَ، فَيَجْتَمعنَ في كل سَبْعَةِ أيّامٍ، فيَقُلْنَ بأصْواتٍ حِسانٍ لم تَسْمع الخلائقُ بِمِثْلها: نَحْنُ الخالدَاتُ فلا نَبيد، ونَحْنُ النَّاعماتُ فلا نَبْأس، ونَحْنُ الرَّاضيَاتُ فلا نَسْخط، ونحنُ المُقيماتُ فلا نَظْعَن، طوبى لمنْ كان لنا، وكُنّا له"

(2)

.

‌حديث ابن عمر رضي الله عنهما

قال الطَّبراني: حدّثنا أبو رِفَاعةَ عُمَارَةُ بنُ وَثِيمَةَ بن مُوسى بن الفُراتِ المِصريُّ

(3)

، حدّثنا سَعيدُ بن أبي مريمَ، حدّثنا محمدُ بنُ جَعْفر بن أبي كَثِيرٍ، عن زَيْدِ بن أسْلَمَ، عن ابن عُمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أزْوَاجَ أهْلِ الْجنَّةِ لَيُغَنّينَ أزْوَاجَهُنَّ بأحْسن أصْواتٍ سمَعَها أحدٌ قطُّ، إنَّ مما يُغَنِّينَ بهِ: نحنُ الخيْرأتُ الحِسَان، أزْوَاجُ قَوْمٍ كِرام، يَنْظُرْن بقُرَّةِ أعْيَان. وإنَّ ممَّا يُغَنِّينَ بهِ: نحنُ الخالداتُ، فلا نمُتْنهْ، ونحنُ الآمنات فلا نخفْنهْ، ونحنُ المُقيماتُ فلا نَظْعنَّهْ"

(4)

.

‌حديث أبي أمامة رضي الله عنه

قال جعْفرٌ الفِرْيابيّ: حدّثنا سُليمان بنُ عبدِ الرَّحمنِ، حدّثنا خَالدُ بنُ يزيدَ بنِ أبي مَالكٍ، عن أبيه، عن خالدِ بن مَعْدان، عن أبي أُمَامةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ما منْ عَبد يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا وَيَجْلسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَرجْليْهِ ثِنْتانِ منَ الْحُورِ العِينِ تُغَنِّيَانهِ بأحْسنِ صَوْتٍ سَمْعهُ الإنْسُ والْجنُّ، وليْسَ بمزامير الشَّيْطانِ"

(5)

.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(260) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(378)، وهو حديث حسن.

(3)

في الأصول: البصري، وهو خطأ.

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط"(4917) والصغير (734) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه الطبراني في الكبير (7478) عن الفريابي بنحوه، قال الهيثمي (10/ 419) رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.

ص: 505

وقال ابنُ وَهْبٍ: حدثني سعيد

(1)

بنُ أبي أيُّوبَ، قال: قال رَجُل منْ قريشٍ لابن شِهابٍ: هلْ في الجَنَّةِ سَمَاعٌ فإنهُ حُبِّبَ إليَّ السَّمَاعُ؟ فقال: إي وَالَّذِي نَفْسُ ابن شِهَاب بِيَدِهِ، إنَّ في الجَنَّةِ لَشَجرًا حَمْلُهُ اللُّؤلُؤ وَالزَّبَرْجدُ، تَحْتهُ جَوَارٍ ناهدات يُغنِّينَ بالْقُرْآنِ، وَيَقُلْنَ: نحنُ النَّاعِماتُ فلا نَبْأس، ونحنُ الخَالِدَاتُ فلا نمُوت، فإذا سَمِع ذلك الشَّجَرُ صَفَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فأجَبْنَ الْجَواري، فلا يُدْرى: أصْواتُ الجَواري أحْسنُ، أمْ أصْواتُ الشَّجَرِ؟

(2)

.

قال ابنُ وَهْبٍ: وحدّثنا اللَّيْثُ [بن سعد]، عن خالدِ بن يزيدَ: أنَّ الحُور يُغَنِّينَ أزْوَاجَهُنْ، يَقُلْنَ: نحنُ الْخَيْراتُ الحِسَان، أزْوَاجُ شَبَابٍ كِرام، ونحنُ الخَالِدَاتُ فلا نموت، ونحنُ النَّاعِمَاتُ فلا نَبْأس، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نَسْخط، ونحنُ المُقيماتُ فلا نَظْعن، في صَدْر إحداهُنَّ مَكْتُوبٌ: أنْتَ حِبِّي، وأنا حِبُّكَ، انْتَهَتْ نَفْسي عِنْدَكَ، لَمْ تَرَ عَيْنايَ مِثْلَك

(3)

.

وقال ابنُ المُبَاركِ: حدّثنا الأوْزَاعيُّ، حدّثنا يَحْيى بنُ أبي كَثيرٍ: أنَّ الحُورَ العِينَ يَتَلَقَّيْنَ أزْوَاجَهُنّ عِنْدَ أبوَابِ الْجنّة، فيقُلْنَ: طَالَما انْتَظَرْناكم، نحنُ الرَّاضياتُ فلا نَسْخَط، وَالمُقيماتُ فلا نَظْعَن، والْخَالِداتُ فلا نموت، كأحسن أصوات سُمِعَتْ، وتَقُولُ: أنتَ حِبِّي وأنَا حِبُّكَ، لَيْسَ دُونكَ مَقْصِدٌ، ولا عنك معدِل، ولا وَرَاءَكَ مطلب

(4)

.

وهذه الآثار كلها رواها ابن أبي الدنيا وغيره، وفيها نظر.

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثني إبراهيمُ بنُ سعيد

(5)

، حدّثنا علي بن عاصم، حدّثني سعيد بن أبي سعيد الْحَارثيّ، قال: حُدِّثْتُ أنَّ في الجَنَّةِ آجامًا منْ قَصَبٍ منْ ذهَبٍ حَمْلُها اللُّؤلُؤُ، فإذا اشْتَهى أهلُ الجَنَّة أنْ يَسْمَعُوا صَوْتًا حَسنًا بَعَثَ اللهُ على تِلْك الآجَامِ رِيحًا فتَأْتِيهمْ بكُلِّ صَوْتٍ حَسَنٍ يَشْتَهُونَهُ. وقد تقدم هذا عن أبي سعيد الخدري، وهو وهم، والله أعلم.

‌نوع آخر من السماع أعلى من الذي قبله

ذكَرَ حمَّادُ بن سَلَمة، عن ثابتٍ البُنانيِّ، وحَجَّاجِ بن الأسْودِ، عن شَهْرِ بن حَوْشبٍ، قال: إنَّ اللهَ عز وجل يقولُ لملائكةِ يوم القيامة: إنَّ عِبادي كانوا يُحبُّونَ الصَّوْتَ الْحسنَ في الدنيا ويَدَعونَه منْ

(1)

في الأصول: سعد، وهو خطأ.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(261).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(262).

(4)

رواه ابن المبارك في الزهد (435 - زوائد نعيم).

(5)

في الأصول: إبراهيم بن سعد، وهو خطأ.

ص: 506

أجلي، فأسْمِعُوا عِبَادي. فيَأخذُونَ بأصْواتٍ منْ تَهْليلٍ، وتسْبيحٍ، وتَكْبيرٍ، لم يَسْمعُوا بمثلها قطُّ.

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثني دَاوُدُ بنُ عَمْرٍو الضَّبِّيّ: حدّثنا عَبْدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، عن مالِك بنِ أنَسٍ، عن محمدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، قال: إذا كانَ يومُ القِيَامةِ نَادَى مُنادٍ: أيْنَ الَّذينَ كانُوا يُنزِّهون أسْمَاعَهُمْ وأنْفُسَهُمْ عن مَجالس اللَّهْوِ ومَزَاميرِ الشَّيْطانِ في الدنيا، أسْكِنُوهُمْ ريَاضَ المِسْكِ. ثم يقولُ للملائكةِ: أسْمِعُوهُمْ تَمْجيدي وتَحْميدي، وأخبروهم أن لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون

(1)

.

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثنا دهثَم

(2)

بنُ الفَضْلِ القُرشيّ، حدّثنا روَّادُ

(3)

بنُ الجَرَّاحِ، عن الأوْزاعيّ قال: بَلَغني أنّهُ لَيْسَ منْ خَلْقِ اللهِ أحْسنُ صوْتًا منْ إسْرَافيلَ، فيَأمُرُهُ اللهُ فيَأخُذُ في السَّماعِ، فما يَبْقَى مَلَكٌ مقرب في السموات إلّا قَطَعَ عَلَيْهِ صَلاتَهُ، فَيَمْكُثُ بذلك ما شَاءَ اللهُ أنْ يَمْكُثَ، فيقولُ اللهُ عز وجل: وَعِزَّتي وجلالي لوْ يَعْلمُ العِبَادُ قَدْرَ عَظَمتي ما عَبَدُوا غَيْري

(4)

.

وحدّثني محمدُ بنُ الحُسَيْنِ، حدّثنا عبد الله بن أبي بَكْرٍ، حدّثنا جَعْفرُ بن سُلَيْمانَ، عن مَالِكِ بن دِينارِ في قولِه تعالى:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، قال: إذا كان يَوْمُ الْقِيَامةِ أُمِرَ بمنْبَرٍ رَفيعٍ فوُضعَ في الْجَنَّةِ، ثمَّ نُوِديَ: يا دَاوُد، مَجِّدْني بذلك الصَّوْتِ الْحَسنِ الرَّخيمِ الَّذي كُنْتَ تُمَجِّدُني بهِ في دَارِ الدُّنْيا، قال: فَيَسْتَفرغُ صَوْتُ دَاوُدَ نَعيمَ أهلِ الْجَنَّةِ، فذلك قولُهُ:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]

(5)

.

‌نوع آخر أعلى مما عداه

وهُوَ سَمَاعُهُمْ كلامَ الرَّبِّ سبحانه، إذَا خَاطَبَهُمْ في المَجَامِعِ الّتي يَجْتَمِعُونَ فيها بَيْنَ يَدَيْهِ تعالى، فيُخاطِبُ كلَّ واحِد منهم، ويُذَكرهم بأعمالِهِ الّتي سَلَفَتْ منْهُ في الدُّنيا، وكَذلك إذا تَجَلَّى لَهُمْ جَهْرة، فَسَلَّمَ عَلَيْهمْ، وَقَدْ ذَكَرْنا ذلك عند قولهِ تعالى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] وقد سَبَقَ حديثُ جابرٍ في ذلك وهو في "سُننِ ابن مَاجَهْ" وغَيْرِه

(6)

.

وقدْ ذكر أبو الشَّيخ الأصْبَهَانيّ، منْ طَريق صَالح بن حَيَّانَ، عَنْ عبدِ الله بن بُرَيدة، قال: إنَّ أهْل الجَنَّةِ يَدْخُلُونَ كلَّ يوم على الجَبَّار جل جلاله، فيَقرأُ عَلَيْهم الْقُرآنَ، وقدْ جَلسَ كلٌّ منهم مَجْلِسَهُ الَّذي

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(269).

(2)

في الفاسية: دهيم.

(3)

في الأصل: داود بن الجراح، وهو خطأ.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(264).

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(343).

(6)

رواه ابن ماجه (184) وإسناده ضعيف.

ص: 507

هوَ مَجْلِسُهُ على مَنابر الدُّرِّ، والْيَاقُوتِ، والزِّبرْجَدِ، والذِّهَب، والزُّمُرُّدِ، فلمْ تَقرَّ أعيْنُهُمْ بشيءٍ، ولمْ يَسْمَعُوا شيئًا قَطُّ أعْظَمَ ولا أحْسَنَ مِنْهُ، ثمَّ يَنْصرفونَ إلى رِحَالِهمْ بأعْيُن قَريرةٍ، وأعيُنُهمْ إلى مِثْلِها منَ الغَدِ متطلعة.

وروى أبُو نُعيم، منْ حَديث شُبَّان بن جَسر بن فرقد السَّبَخي

(1)

، عن أبيه، عن الحسن، عنْ أبي بَرْزةَ الأسْلَميّ مَرْفُوعًا: "إنَّ أهلَ الْجَنَّة ليَغْدُونَ في حُلَّةٍ، ويَرُوحُونَ في حُلَّةٍ أخرى كَغُدُوِّ أحَدِكم وَرواحِه إلى مَلِكٍ منْ مُلوكِ الدُّنْيا، كذلكَ يَغْدُونَ وَيروحُونَ إلى ربِّهمْ عز وجل، وذلك لَهُمْ بمَقادير ومَعالم يَعْلَمُونَ تلكَ السَّاعةَ الَّتي يأتُونَ فيها ربَّهُمْ عز وجل

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا داود بن عمر، حدثنا عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير قال: لكل رجل من أهل الجنة سمَّاعتان يسمعانه من تقديس الله وتحميده وتكبيره بصوت لم يسمع الخلائق بمثله: نحن خيرات حسان، أزواج قوم كرام

وذكره كما تقدم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحارث الخزَّاز، ثنا سيَّار بن حاتم، ثنا عبد الله بن عرادة الشيباني، عن القاسم بن المطلب العجلي، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: إن في الجنة حواريَّ يقرأن القرآن على شاطئ أنهار الجنة بالعربية، ينعم الله عز وجل بهن أهل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وذكر ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي كثير أنه يُرفع عن أهل الجنة قراءة القرآن إلا {طه} و {يس} .

‌ذكر خيل الجنة

قال التِّرمذيّ: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمنِ، حدّثنا عَاصم بن عَلِيٍّ، حدّثنا المسْعُودي، عنْ عَلْقمةَ بن مَرثَد

(3)

، عن سُلَيْمان بن بُريدَةَ، عنْ أبِيهِ: أنَّ رَجُلًا سَأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، هل في الجَنَّةِ منْ خَيْلٍ؟ فقال:"إنِ اللهُ أدْخَلَكَ الْجنةَ فلا تَشَاءُ أنْ تُحْملَ فيها على فَرسٍ من ياقُوتة حَمْراء تطير بك في الْجنَّةِ حَيْثُ شئْتَ" قالَ: وسألهُ رَجُلٌ فقال: يارَسُولَ الله، هلْ في الْجنَّةِ منْ إبلٍ؟ قال: فلم يقُلْ له مثل ما قال لصَاحِبهِ، قال:"إنْ يُدْخِلكَ اللهُ الْجنَّةَ، يكُنْ لكَ فيها ما اشتَهَتْ نَفْسُكَ، ولذَّتْ عَيْنُكَ". ثمَّ رواه عن سوَيْدٍ، عن ابن المُباركِ، عنْ سُفْيَان، عَنْ عَلْقمة، عنْ عبدِ الرحمن بن سابِطٍ، مُرْسلًا، قال: وهذا أصحَّ

(4)

.

(1)

في الأصل: حسن بن فرقد السبخي، وهو خطأ. والصواب: جعفر بن جسر بن فرقد السَّبَخي الملقب شُبَّان.

(2)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(394) وفي إسناده ضعف.

(3)

في الأصول: علقمة بن حريث، وهو خطأ.

(4)

رواه الترمذي (2543) وهو حديث ضعيف.

ص: 508

وقَدْ رَوى أبُو نُعَيْم في "صِفةِ الْجنَّةِ" منْ طَريقِ عَلْقمةَ بنِ مرثد

(1)

، عن يَحْيى بن إسْحاقَ، عنْ عَطاء بن يَسارٍ، عنْ أبي هُرَيرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"وَالفِرْدوس أعْلاهَا سُمُوًّا، وأوْسعُها مَحلًّا، وفيها تَفَجَّرُ أنْهارُ الْجنَّةِ، وَعَلَيْها يوضعُ العَرشُ يومَ القيَامة" فقَامَ إليْهِ رَجُلٌ، فقالَ: يا رسولَ الله، إنِّي حُبِّبَ إليَّ الْخَيْلُ، فهلْ في الْجنَّةِ خَيْل؟ قالَ: "إي والَّذي نَفْسي بيَدهِ، إنَّ في الجنَّةِ لَخيلًا، وإبلًا هَفَّافَة

(2)

، تَزِفُّ بَين خِلَالِ وَرَقِ الْجنَّةِ، يَتزَاورُونَ عَليْها حيْث شاؤوا"

(3)

.

وقال الترمذي: حدّثنا محمدُ بن إسماعيل بن سَمُرَة الأحمسيُّ، حدّثنا أبو مُعاويةَ، عنْ وَاصِلِ بن السَّائبِ، عنْ أبي سَوْرَةَ، عنْ أبي أيُّوبَ، قال: أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعْرابيٌّ، فقالَ: يا رسولَ الله إنِّي أُحبُّ الْخَيْلَ، أفي الْجنَّةِ خَيْلٌ؟ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنْ أُدْخلتَ الْجنَّة أُتيتَ بفَرَس منْ ياقُوتةٍ لهُ جَنَاحانِ، فحُملتَ عَليهِ، ثمَّ طَارَ بكَ حَيْثُ شِئتَ". ثم ضعّف الترمذيُّ هذا الإسناد من جهة أبي سَوْرةَ ابن أخي أبي أيوب، فإنَّهُ قدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ واحِدٍ، واسْتَنْكرَ البُخاريّ حديثه هذا، والله أعلم

(4)

.

وقال القُرطُبيُّ: وذَكَر ابنُ وَهبٍ: حدّثنا ابن زيدٍ، قال الْحَسَنُ البَصريّ: يُذْكَرُ عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أدْنى أهْلِ الْجنّةِ مَنزلةً الذي يركبُ في ألفِ ألف منْ خَدَمهِ من الْوِلْدَانِ المُخَلَّدِينَ، على خَيْل منْ يَاقوتٍ أحْمَر، لهَا أجْنَحةٌ منْ ذَهبٍ" ثم قرأ: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]. قلت: فيه انقطَاع بَيْنَ عَبْدِ الرَّحمْنِ بن زيدٍ -وَهُو ضَعيفٌ- وَبينَ الْحَسَنِ، ثمّ هُوَ مُرْسلٌ.

وروى أبو نُعيم، عنْ أبي أيُّوب مرفُوعًا:"إنَّ أهْلَ الْجنّةِ ليَتَزَاوَرُونَ على نجائب بيضٍ، كأنَّها اليَاقُوتُ، وليسَ في الْجَنّةِ منَ البهائم إلا الخَيْلُ والإبلُ"

(5)

.

وقال عبد الله بن الْمُبارَكَ: حدّثنا هَمَّامٌ، عنْ قتَادَة، [عن أبي أيوب]، عن عبد الله بن عَمْرو، قال:"في الْجَنّةِ عِتَاق الْخَيْلِ وكرائم النّجائب، يركبُها أهْلُها"

(6)

. وهذه الصيغَةُ لا تدُل على حَصْر كما دَلَّ عليْهِ رِوَايةُ أبي نُعيم في حَديث أبي أيُّوب، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بما رواه ابن ماجهْ في "سُنَنِهِ" عنْ [عبد الله] بن عُمَر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:"الشَّاةُ منْ دَوابِّ الجَنّةِ". وهذا مُنْكرٌ أيضًا

(7)

.

(1)

في (آ): حريث، وهو خطأ.

(2)

أي سريعة السير.

(3)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(427).

(4)

رواه الترمذي (2544).

(5)

رواه أبو نعيم في "صفة الجنة"(420) وإسناده ضعيف.

(6)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(231 - زوائد نعيم).

(7)

رواه ابن ماجه رقم (2306).

ص: 509

وفي "مُسْنَدِ البَزَّارِ" عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أحْسِنُوا إلى المِعْزى، وَأمِيطُوا عَنْهَا الأذَى، فإنَها منْ دَوَابِّ الجنّةِ"

(1)

.

وقال أبو الشَّيْخِ الأصْبَهَانيّ: حدّثنا القاسمُ بن زكَرِيَّا، حدّثنا سُوَيْدُ بنُ سَعيدٍ، حدّثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوية، عن الحَكَم بن أبي خالدٍ، عن الحَسنِ البَصْريّ، عن جابر بن عبد اللهِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دَخَلَ أهْلُ الْجنّةِ الجَنّةَ، جَاءَتْهُمْ خُيُولٌ منْ يَاقُوتٍ أحمر، لها أجْنِحَةٌ، لا تَبُولُ ولا تَرُوثُ، فقَعدُوا عليها، ثمَّ طَارَتْ بهم في الجَنّةِ، إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيَتَجَلَّى لهُمُ الجَبَّارُ تعالى، فإذا رَأوْهُ خَرُّوا لهُ سُجَّدًا، فيقولُ لهم الجبَّارُ تعالى: ارْفعُوا رؤُوسَكم، فإنَّ هذا ليسَ بيَوْمِ عَمَلٍ، إنَّما هو يَوْمُ نَعيمٍ وكَرامةٍ، فيَرْفَعُون رؤوسَهُمْ، فيُمْطِرُ اللهُ عَليْهمْ طِيبًا، فيَمُرُّون بكُثْبَانِ المِسْكِ، فيَبْعَثُ الله على تِلْك الكثْبانِ ريحًا، فَتَهيجُها عَليْهمْ حتَّى إنَّهُمْ ليَرْجِعُون إلى أهْلِيهمْ وَإنَّهُمْ لشُعْثٌ غُبْرٌ"

(2)

.

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثني الفَضْلُ بن جعْفَرٍ، حدّثنا جعْفرُ بنُ جَسْر

(3)

، حدّثنا أبي، عن الْحَسنِ بنِ عَلِيّ، عن عليّ رضي الله عنهما قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ في الْجنَّةِ لَشَجرةً يَخْرُجُ منْ أعْلاها حُلل، ومن أسْفَلِها خَيْلٌ منْ ذهبٍ، مُسْرَجَةٌ مُلْجمةٌ بلجم منْ دُرٍّ ويَاقوتٍ، لا تَرُوثُ ولا تَبُولُ، لها أجْنِحةٌ، خَطْوُها مَدُّ بَصَرِها، فيركبها أهْلُ الْجنَّةِ فتَطيرُ بهمْ حَيْثُ شَاؤوا، فيقولُ الَّذين أسْفَلَ مِنْهُمْ دَرَجةً: يا رَبِّ، بم بَلَغَ عِبَادُكَ هذه الكَرامةَ كُلَّها؟ فيقال لهمْ: كانُوا يُصَلُّون اللَّيْلَ وكُنْتُمْ تنَامُونَ، وكانوا يَصُومُونَ وكُنْتم تأكُلُونَ، وكانوا يُنْفِقُونَ وَكُنْتم تَبْخَلون، وكانوا يُقاتِلُون وكُنْتم تَجْبُنُون"

(4)

.

‌ذِكر تزاور أهل الجنَّة بعضهم بعضًا وتذاكرهم أمورًا كانت بينهم في الدنيا من طاعات وزلَّات

قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28].

وقال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ

} الآيات إلى قوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} [الصافات:50 - 62]

(1)

رواه البزار في مسنده (1329 - كشف الأستار) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أبو نعيم في صفة الجنة (429) من طريق سويد به، وإسناده ضعيف.

(3)

في الأصول: جعفر بن بثر، وهو خطأ.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(249) وإسناده ضعيف.

ص: 510

قال أبو بكْرِ بنُ أبي الدُّنْيا

(1)

: حدّثنا سَلَمةُ بنُ شَبيبٍ، حدّثنا سعيدُ بنُ دِينارٍ، عن الربيع بن صَبيح، عن الْحَسَنِ، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَخَلَ أهْلُ الْجنّةِ الْجَنَّةَ، فَيَشْتاقُ الإخْوَانُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، فيَسيرُ سَريرُ هذا إلى سَريرِ هذا، حتَّى يَجْتَمِعَا جميعًا، فيقُولُ أحدُهما لِصَاحِبِهِ: تَعْلمُ مَتى غَفَرَ اللهُ لنا؟ فيقُولُ صَاحِبُهُ: كُنَّا في مَوْضِع كذا [وكذا]، فَدَعَوْنا اللهَ فغَفَر لَنا"

(2)

.

وأما قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} [الصافات] وهذا القرينُ يَشْملُ الجِنِّيَّ وَالإنْسِيَّ، يقُولُ: كانَ يُوَسْوِسُ لي بالْكُفْرِ والمعاصي واسْتِبْعادِ أمْرِ المَعَادِ، فبرحمة الله [ونعمته] نجوتُ منْهُ، ثم أمرَ أصْحابَهُ أن يطلعوا معه على النَّارِ، لينظر ما حالُ قرينه {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} أي في غَمَراتِها يعذب، فحَمِدَ اللهَ على نَجاته مما قرينه فيه من العذاب.

ثم قال: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي معك فيما أنت فيه من العذاب، ثئم ذكرَ الغِبْطَةَ الّتي هو فيها، وَشَكَرَ الله [عَلَيْها]، فقال:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي أما قد نَجَوْنا منَ الموْتِ والعَذابِ بدُخُولنا الجنَّة؟ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقولهُ: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} يَحْتملُ أن يكونَ منْ تمامِ مقالةِ المؤمن، ويَحْتملُ أن يكونَ منْ كلام اللهِ عز وجل، حثًّا لعباده على مثل هذا الفوز، وليتنافس المتنافسون في الفوز عنده من النار، ودخول الجنة، لا موت فيها. وَلهذا نَظائرُ كثيرةٌ، قد ذكرناها في"التَّفسيرِ".

وذكرنا في أوَّلِ "شرحِ البُخاريّ" في كتابِ الإيمانِ حديثَ حَارثَةَ حينَ قالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كيفَ أصْبَحْتَ يا حارثة؟ " فقال: أصْبَحْتُ مُؤْمنًا حَقًا، قال:"فما حقيقةُ إيمانِكَ؟ " قال: عَزَفَتْ نَفْسي عنِ الدُّنيا، فأسْهَرْتُ ليلي، وَأظْمَاتُ نهاري، وكأنِّي أنْظُرُ إلى عَرْشِ ربِّي بَارِزًا، وإلى أهْلِ الجَنَّةِ يَتَزَاورُونَ فيهَا، وإلى أهلِ النَّارِ يُعذَّبُونَ فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:"عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ"

(3)

.

وقال سُليمانُ بنُ المُغيرَةِ، عن حُمَيْدِ بنِ هِلالٍ قال: بَلغنا أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَزُورُ الأعْلَى الاْسْفَلَ، ولا يزُورُ الأسْفَلُ الأعْلى. قُلتُ: وهذا يَحْتملُ مَعْنَيَيْنِ:

أحدُهما: أنَّ صاحبَ المرتبة السَّافِلةِ لا يَصْلُحُ لهُ أنْ يَتَعدّاها، لأنه لَيْسَ فيهِ أهْليَّةٌ لذلك.

الثاني: لِئَلا يَرَى منَ النَّعيمِ فَوْقَ ما هُو فيهِ، فَيَحْزنَ لذلك، وَذلك أنه لَيْسَ في الْجنَّةِ حُزْنٌ، والله أعلم.

(1)

في الأصول: أقحم هنا (حدّثنا عبد الله).

(2)

رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(245) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/ 10474) وغيره بأسانيد مختلفة، وهو حديث ضعيف.

ص: 511

وقد وَرَد ما قالَهُ حُمَيْدُ بنُ هلالٍ في حديث مرفوعٍ، وفيه زيادة على ما قالَ.

فقال الطَّبرانّي: حدّثنا الحسين

(1)

بن إسْحاقَ، حدّثنا سهل

(2)

بن عُثْمانَ، حدّثنا المُسَيَّبُ بن شَريكٍ، عن بِشْرِ بن نُمَيْرٍ، عن القاسم، عن أبي أُمامَةَ، قال: سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيَتَزَاوَرُ أهْلُ الْجنَّةِ؟ قال: "يَزُورُ الأعْلَى الأسْفَلَ، ولا يَزُورُ الأسْفلُ الأعْلى، إلّا الّذين يَتَحابُّونَ في اللهِ تعالى، فإنهم يأتُونَ منْها حَيْثُ شَاؤوا، على النُّوقِ، مُحتَقبين

(3)

الْحَشَايا"

(4)

.

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: حدّثنا حَمْزةُ بنُ العَبَّاسِ، حدّثنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمانَ، حدّثنا عبدُ اللهِ بن المُبارك، حدّثنا إسْماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، حدّثني ثَعْلبةُ بن مسلم، عن أيُّوبَ بنِ بشيرٍ

(5)

العِجْليِّ، عن شُفَيِّ بن مانعٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ منْ نعيم أهْلِ الجَنَّةِ أنَّهُمْ يَتزاورُونَ على الْمَطَايَا وَالنُّجُبِ، وأنَّهُمْ يُؤْتَون في الْجَنَّةِ بِخَيْلٍ مُسْرَجةٍ مُلْجَمَةٍ، لا تَرُوثُ، ولا تَبُولُ، فيَرْكَبُونها حتَّى يَنْتَهوا حيثُ شاء اللهُ عز وجل، فَتأتيَهمْ مِثْلَ السَّحابةِ، فيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، فيقولُون: أمْطِري عليْنا، فما يزالُ المَطرُ عليْهمْ حتَّى يَنْتَهيَ ذلك فوق أمَانِيهمْ، ثمَّ يَبْعثُ اللهُ ريحًا غَيْرَ مُؤذيةٍ، فتنسف كُثبانًا منْ مِسْكٍ عنْ أيْمانِهِمْ وعنْ شَمائِلهمْ، فيَأخُذُ ذلك المِسْكُ في نَوَاصي خُيُولهمْ، وفي معارِفها، وفي رُؤُوسِهمْ، وثيابهم، ولكلِّ رَجُل منْهُمْ جُمَّةٌ على ما اشتَهَتْ نَفْسُهُ، فَيَتَعلَّقُ ذلك المِسْكُ في تِلْكَ الجِمَامِ، وفي الخَيْلِ، وفيما سِوَى ذلك منَ الثِّيَابِ، ثمَّ يَنْقَلبُونَ حتَّى يَنْتَهوا إلى ما شاء الله عز وجل، فإذَا المَرْأةُ تُنَادي بَعْضَ أولئكَ: يا عبد اللهِ، أمَا لكَ فينا حَاجةٌ؟ فيقولُ: ما أنْتِ؟ ومنْ أنْتِ؟ فتقول: أنا زَوْجَتُكَ وحِبُّكَ، فيقُولُ: ما كنْتُ عَلِمْتُ بمكانِكِ، فتقولُ: أما تَعْلمُ أن الله تعالى قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فيقُولُ: بلى وَرَبِّي، فلَعلّهُ يشتغل عنْها بعد ذلك الوقتِ أرْبعينَ خَريفًا لا يَلْتَفتُ، ولا يَعُودُ، ما يَشْغَلُه عنْها إلّا ما هو فيهِ منَ النَّعيمِ، وَالكرَامَة". وهذا حديثٌ مُرسل غريب جدًّا، والله أعلم

(6)

.

وقال ابن المُباركِ: حدّثنا رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ، حدّثني ابنُ أنْعُم

(7)

، عن أبي هُريرةَ، قال: إنّ أهْلَ

(1)

في الأصول: الحسن، وهو خطأ.

(2)

في الأصول: شريك، وهو خطأ.

(3)

أي يجعلون الفرش وراءهم حقيبة.

(4)

رواه الطبراني في الكبير (7936) وإسناده ضعيف.

(5)

في الأصول: بشر، وهو خطأ.

(6)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(246).

(7)

في الأصول: أبو نعيم، وهو خطأ.

ص: 512

الجَنَّةِ لَيَتزَاورُونَ على العيسِ الخُورِ

(1)

، عَلَيْها رِحال المَيْس

(2)

، تُثيرُ منَاسِمُها

(3)

غُبَارَ المِسْكِ، خِطامُ أوْ زِمَامُ أحدِهَا خيرٌ منَ الدُّنيا ومَا فيها

(4)

.

ورَوَى ابنُ أبي الدُّنيا منْ طريقِ إسماعيل بن عَيّاشٍ، عن عُمَر بن محمدٍ، عن زَيْدِ بنِ أسْلَم، [عن أبيه]، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ سألَ جِبْريلَ عن هذه الآية:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] قال: هُم الشُّهَدَاءُ يَبْعَثُهُم اللهُ مُتَقَلّدين أسْيَافهُمْ حَوْلَ عَرْشِهِ، فأتاهُمْ مَلائكَةٌ من المَحْشَرِ بِنَجَائبَ منْ يَاقُوت أزِمَّتُها الدُّرُّ الأبْيَضُ، بِرِحَال الذّهَبِ، أعِنّتُها السُّنْدُس وَالإسْتَبْرق، ونَمَارِقُها منَ الحريرِ، تَمُدُّ خُطاها مَدَّ أبْصَارِ الِّرجَالِ، يسيرُونَ في الجنّةِ على خُيُولٍ، يقُولُون عِنْدَ طُولِ النزهةِ: انْطَلِقُوا بنا ننْظُرْ كيفَ يَقْضي اللهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، يَضْحكُ اللهُ إليهم، وإذا ضَحِكَ الله إلى عَبْدٍ فلا حِسَابَ عليه

(5)

.

وقال أبو بكْرِ بن أبي الدُّنيا: حدّثنا أبو مُوسى، إسْحاقُ بن إبراهيمَ الهَرَويّ، حدّثنا القاسِمُ بن يزيدَ الْمَوْصليّ، حدّثني أبو إلياسَ، حدّثني مُحمدُ بنُ عَليِّ بن الْحُسَين [ح] وَرَوى أبو نُعيم منْ حَديثِ الْمُعَافى بنِ عمران: حدّثنا إدريسُ بن سِنَانٍ، عن وَهْب بنِ مُنَبِّهٍ، عن محمد بنِ عليٍّ، قال إدريسُ: ثمَّ لَقيتُهُ، فَحدّثني، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنّةِ شَجَرَةً يُقال لها: طُوبَى. لوْ سخَّرَ الجَوادَ الرَّاكبُ أنْ يسيرَ في ظِلِّها لَسَارَ فيه مِئةَ عامٍ، وَرَقُها بُرُودٌ خُضْرٌ، وزَهْرُها رِيَاطُ

(6)

صُفْرٌ، وأقْناؤُها

(7)

سُنْدُسٌ وَإسْتَبْرقٌ، وَثمرُها حُلَلٌ، وصَمْغُها زَنْجَبيلٌ وعَسَلٌ، وبَطْحَاؤُها ياقُوتٌ أحمَرُ وزُمُزُّدٌ أخْضر، وَتُرَابُها مِسْكٌ، وحَشيشُها زَعْفَرانٌ مُونِعُ

(8)

، والألْنَجُوجُ

(9)

يفوح منْ غير وَقُودٍ، ويتفجر منْ أصلِها السَّلْسَبيل وَالرَّحيق، وظِلُّها مَجْلسٌ منْ مَجَالس أهْل الجنَّة يَألَفُونهُ، ومُتَحدَّثٌ لِجميعِهِمْ، فبَيْنما هُمْ يَوْمًا يَتَحَدَّثونَ في ظِلِّها، إذْ جَاءَتْهُم الملائكةُ يَقُودُون نَجَائبَ منَ اليَاقُوتِ قد نُفِخَ فيهَا الروح مزمومة بسلاسِلَ منْ ذَهَبٍ، كأنّ وُجُوهَها المصابيحُ نَضَارةً وحُسْنًا، وبَرها خَزٌّ أحمرُ، ومِرْعِزَّى

(10)

أبْيضُ، مختلطان لم يَنْظرِ النَّاظِرُونَ إلى مِثْلِها، عَلَيْها رحائل ألواحها منَ الدُّرِّ والياقُوتِ، مُفَضَّضَةٌ باللُّؤلُؤ، والمَرْجانِ، صفائحها من الذهب الأحمرِ، مُلَبَّسٌ بالعَبْقريّ وَالأُرْجوانِ، فأناخُوا لهم تِلْكَ النُّجُب ثمَّ

(1)

العيس الخُور: النوقِ الكثيرة الألبان، وفيه أقوال أخرى، انظرها في "التاج".

(2)

أي شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها، وفي الأصول: الذهب، وهو خطأ.

(3)

أي أخفافها.

(4)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(247)، وإسناده ضعيف.

(5)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(248) وإسناده ضعيف.

(6)

جمع ريطة، وهي الملاءة. وفي الفاسية وأبي نعيم: رياض.

(7)

جمع قِنو، وهو العَذق، وهو النخلة بحملها.

(8)

في القاسية: متنوع، وفي (آ) منوع.

(9)

"الألنجوج": عود يتبخر به. "لسان العرب".

(10)

الزغب الذي تحت شعر العنز.

ص: 513

قالوا لهم: إنّ ربَّكم عز وجل يُقْرِئُكم السَّلام، ويَسْتَزيركم لِيَنْظُرَ إليكم وتَنْظُرُوا إليْهِ، وتُحيُّونهُ ويُحَيِّيكم، ويُكَلّمَكُمْ وتُكَلّمُونهُ، ويَزيدكم منْ فَضْلهِ، إنّهُ ذُو رَحْمةٍ وَاسعَةٍ، وفَضْلٍ عَظيم. فيَتَحَوَّلُ كلُّ رجُلٍ منْهُمْ على رَاحِلِتهِ، ثمَّ انْطَلَقُوا صفًا وَاحدًا مُعْتَدلًا، لا يَفُوت منْهُ شيءٌ شَيئًا، ولا يفُوتُ أذُنُ ناقةٍ [أُذُنَ] صَاحِبَتِها، ولا يَمُرُّونَ بِشَجَرَةٍ منْ أشْجَارِ الجنّةِ إلّا أتْحَفَتْهُمْ من ثمرها، ورحلَتْ لهمْ عنْ طَرِيقِهمْ كَرَاهيَةَ أنْ تَثلَم صَفَّهُمْ، أوْ تفرِّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَرَفِيقهِ، فلمَّا رُفعُوا إلى الجبَّارِ تعالى، أسفر لهم عن وجْهِهِ الكريمِ، وتجلَّى لهم في عَظَمَتِهِ العظيمُ، فحيَّاهم بالسلام فقالوا: رَبّنا أنتَ السَّلامُ، ومِنْكَ السَّلامُ، ولكَ حقُّ الجلالِ وَالإكرامِ، فقال لهم ربُّهمْ عز وجل: إنِّي أنا السَّلامُ، ومِنِّي السَّلامُ، ولي حقُّ الجلالِ والإكرامِ، مَرْحبًا بِعِبادي الَّذين حَفِظُوا وَصِيتي، ورعَوْا حَقّي، وخَافُوني بالْغَيْبِ، وكانوا منِّي على كل حَالٍ مُشْفِقين، قالوا: وعِزَّتِكَ وجَلالِك وَعُلُوِّ مَكانِكَ ما قدَرْنَاكَ حَقَّ قَدْرِكَ، وما أدَّيْنا إليْكَ كلَّ حَقّكَ، فأْذَنْ لنا بالسُّجُودِ لك، فقال لهم ربُّهُمْ: إنِّي قد وَضَعْتُ عنْكم مُؤْنَةَ العِبَادَةِ، وأرَحْتُ لكم أبْدَانَكم، فطَالَما أنصبتم لي الأبْدَانَ، وأَعْنَيْتُم لي الوُجُوه، فالآن أفَضيْتُمْ إلى رَوْحِي وَرحْمَتي وكَرامَتي، فَسَلُوني ما شِئْتُمْ، وتَمَنَّوْا عليّ أعظمَ أمَانِيِّكم، فإني لَنْ أجْزِيَكم اليوْمَ بقَدْرِ أعمالِكم، ولكنْ بقَدرِ رحمتي، وفضلي، وكرامتي، وطَوْلي، [وعُلُوِّ مكاني، وعَظَمةِ شأني]، فما يَزَالُونَ في المسَألة والأماني، والعَطايا، والمواهبِ، حتَّى إنَّ الْمُقَصِّر في أُمْنِيتِهِ لَيَتَمنَّى مِثْل جميعِ الدُّنيا مُنْذُ خلقها الله تعالى إلى يومَ أفْناها، فقال لهم ربُّهمْ: لقدْ قَصَّرْتُمْ في أمانيكم، ورَضِيتُمْ بدُونِ ما يَحِقُّ لكم، فقد أوْجَبْتُ لكم ما تَمَنيْتُمْ وسَألْتُمْ، وألْحَقْتُ بكم ذُرِّيتكم، وِزِدْتُكم أضعاف ما قَصَّرَتْ عَنْهُ أمَانيكم". وهذا مُرسَلٌ ضعيفٌ، غريبٌ جدًا، وفيه ألفاظ منكرة

(1)

وأحسنُ أحوالِهِ أن يكونَ منْ كلام بعض التابعين، أو منْ كلام بَعْضِ السَّلَفِ، فَوَهمَ بعضُ رُواتِه، فجَعلهُ مَرْفوعًا، وليْسَ كذلك، والله أعلم.

‌ذكر أول من يدخل الجنة

وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء كلِّهم ثم أمته قبل الأمم.

كما ثَبَتَ ذلك في "صَحيح مُسْلِم"[منْ حَديثِ المختارِ بن فُلْفُلٍ] عنْ أنَسٍ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أنَا أوَّلُ منْ يَقْرَعُ بابَ الْجَنَّةِ"

(2)

.

وعندهُ أيضًا عنه: أنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني آتي بَاب الْجنَّةِ فأسْتَفْتِحُ، فيقُولُ الخَازِنُ: منْ أنتَ؟ فأقولُ: أنا مُحمَّدٌ، فيقُولُ: بكَ أُمِرْتُ ألّا أفْتَحَ لأحَدٍ قبْلك"

(3)

.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(54) وأبو نعيم في الحلية في "صفة الجنة" أيضًا (411).

(2)

رواه مسلم رقم (196)(331).

(3)

رواه مسلم رقم (197)(333).

ص: 514

وقال أحمدُ: حدّثنا عَبدُ الله بن مُحَّمدٍ، حدّثنا شَريكٌ، عنْ أبي إسْحاقَ، عن السَّائبِ بن مَالكٍ، عنْ عبْدِ الله بن عمْرٍو قال: قَال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اطَّلَعْتُ في الجَنّةِ فَرَأَيْتُ أكثر أهلِها الفُقَراءَ، واطَّلَعْتُ في النَّار فرأيتُ أكْثَر أهْلِهَا الأغْنِيَاءَ، وَالنِّسَاءَ"

(1)

.

وقال أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ: حدّثنا يَزيدُ بنُ هارُونَ، حدّثنا هِشَامٌ الدَّسْتُوائيُّ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عنْ عامر العُقَيليّ، عنْ أبيهِ، عن أبي هُريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَ عليَّ أوَّلُ ثلاثةٍ منْ أُمَّتي يدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وأولُ ثلاثةٍ يدْخُلُونَ النَّار، فأمَّا أولُ ثلاثةٍ يدْخلُونَ الجَنةَ: فالشَّهيدُ، وعَبْدٌ مَمْلُوكٌ لم يَشْغَلهُ رِقُّ الدُّنيا عنْ طاعةِ ربِّه، وفقيرٌ مُتعفِّفٌ ذُو عِيَال، وأما أولُ ثَلاثةٍ يدْخلُونَ النَّار: فأميرٌ مُسَّلطٌ، وذُو ثرْوةٍ من المَال لا يؤَدِّي حقَّ الله منْ مالهِ، وفَقيرٌ فَخُورٌ".

وكذا رواه أحمد، عنْ إسماعيل بن عُليَّةَ، عنْ هشَام. وأخْرَجهُ التِّرمذيُّ منْ حَديثِ علي بن المباركِ، عنْ يَحْيىَ بن أبي كثيرٍ، وقال: هذا حَديثٌ حَسن

(2)

.

وفي حديث غالبٍ القَطَّانٍ، عن الْحسن، عنْ أنَسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وَقفَ العِبَادُ للْحِسَاب جَاء قوْمٌ واضِعُو سُيُوفِهِم على رِقَابهمْ تَقْطُرُ دَمًا، فازْدَحَمُوا على بَابِ الجَنّةِ، فقيل: من هؤلاء؟ قالوا: الشُّهَداءُ، كانوا أحْياءً يُرْزقُونَ، ثمَّ نَادَى مُنادٍ: لِيَقُمْ منْ أجْرُه على الله فليَدْخُلِ الْجنة، ثمَّ نادَى الثانية: لِيَقُمْ منْ أجْرهُ على الله فَليَدخُل الْجَنَّةَ، قالوا: ومن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ثم نادى الثالثة: ليقم من أجره على اللّه فليدخل الجنة، فقام كذا وكذا ألْفًا، فدخلوا بغَيْر حِسَاب"

(3)

.

وفي حديثِ حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عنْ سَعيد بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباس، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أولُ منْ يُدْعى إلى الْجنَّةِ يوم القِيامةِ الْحمَّادُونَ الَّذين يَحْمَدُونَ الله في السرَّاء والضَّرَّاء

(4)

.

وثبت في "الصحيحين"، و "سنن النسائي" واللفظ له، من طريق عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون الأوَّلون يوم القيامة، نحن أول الناس دُخولًا الجنة

" الحديث بطوله

(5)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 173) وإسناده ضعيف، وهو حديث صحيح دون قوله:"الأيخاء". فقد ثبت عن جمع من الصحابة دونها، وهو منكر بهذه الزيادة.

(2)

رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(14/ 17818) وأحمد في المسند (2/ 425) والترمذي رقم (1641) أقول: وإسناده ضعيف.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط"(2019) وفي إسناده ضعف.

(4)

رواه الطبراني في "الكبير"(12345) وفي "الأوسط" رقم (3057) وفي "الصغير"(288) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه البخاري رقم (896) ومسلم رقم (855) والنسائي في "الكبرى"(1653).

ص: 515

وفي "صحيح مسلم" عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نحن الآخرون الأوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة"

(1)

.

وروى الحافظ الضياء من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الجنة حُرِّمت على الأنبياء كُلِّهم حتى أدخلها، وحُرِّمت على الأمم حتى تدخل أمتي"

(2)

.

وفي"سنن أبي داود"، من حديث أبي خالد الدالاني، عن أبي خالد مولى [آل] جَعْدة، عن أبي هريرة قال:"أتاني جبريل [فأخذ بيدي] فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي" فقال أبو بكر: يارسول الله وَدِدتُ أني كنتُ معك حتى أنظرَ إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي"

(3)

.

وتقدَّم في "الصحيح": "أدخِل من لا حساب عليه من أمتك، من الباب الأيمن [من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس [في] سائر الأبواب"

(4)

.

وقد تقدم في الحديث الصحيح: "مَنْ أنفق زوجين من ماله في سبيل الله، دُعِي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب

" الحديث بطوله

(5)

.

وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد قال: "للجنة ثمانية أبواب، منها باب يُسَمَّى الرَّيَّان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أُغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم"

(6)

.

‌باب جامع لأحكام تتعلق بالجنة وأحاديث شتى وودت فيها

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ

(1)

رواه مسلم (855)(20).

(2)

وأخرجه أيضًا ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(4/ 1448) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود رقم (4652) وإسناده ضعيف.

(4)

رواه البخاري رقم (4712) ومسلم رقم (194).

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 268) والبخاري (1897) ومسلم (1027) وابن أبي عاصم في الجهاد (96).

(6)

رواه البخاري رقم (3257) و (1896) ومسلم (1152).

ص: 516

شَيْءٍ} [الطور: 21]

(1)

أي أنَّ الله تعالى يرفعُ دَرَجةَ الأولاد في الجَنّةِ إلى دَرَجةِ الآباء، وإنْ لم يعْمَلوا بعَملهمْ، ولا يَنْقصُ الآباءَ منْ أعمالِهمْ، حتَّى يَجْمعَ بينهمْ في الدَّرجةِ العالية لِيُقرَّ أعينهم باجتماعهم هم وذرياتهم.

قال الثّوريّ، عن عمرو بن مُرَّة، عنْ سَعيدِ بن جُبَيْر، عن ابن عبَّاس، قال: إنَّ الله ليرفعُ ذُرِّية الْمُؤْمنِ في دَرَجتهِ، وإنْ كانُوا دُونهُ في العَمل ليُقرّ بهم عَيْنهُ، ثمّ قرأ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]. هكذا رواهُ ابن جرير، وابنُ أبي حَاتم، في "تفْسِيريهما" عن الثَّوْري مَوقُوفًا، وكذا رواهُ ابن جَرير، عنْ شُعْبَةَ، عنْ عَمْرو بن مرة، عن سعيدٍ، عنِ ابْن عَبَّاس مَوقوفًا، ورواه البزَّار في "مُسْنَدِه" وابن مَرْدَويهِ في "تفسِيره" منْ حدِيثِ قَيْسِ بن الرَّبيع، عن عَمرو، عنْ سعيد، عن ابْن عَبَّاسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وروايةُ الثوري وشُعْبة في الوقف أثْبَتُ، والله أعلم

(2)

.

وروى ابن أبي حاتم من حديثِ الليْثِ، عنْ حَبيب بن أبي ثابتٍ، عنْ سَعيد بن جُبَيْر، عنِ ابن عبَّاس في هذهِ الآية، قال: هم ذُرِّيةُ المُؤْمن يمُوتُونَ على الإيمان، فإنْ كانتْ منازلُ آبائهمْ أرْفَعَ منْ منَازِلهمْ ألْحقُوا بآبائهم، ولمْ يُنْقَصُوا منْ أعمالهم التي عملوا شيئًا.

وقال الطَّبرانيّ: حدّثنا الحسين بنُ إسحَاقَ التُّسْتَريّ

(3)

، حدّثنا مُحمَّد بن عبد الرَّحمن بن غَزْوَانَ، حدّثنا شَريكٌ، عنْ سَالم الأفْطَسِ، عنْ سَعيد بن جُبَيْر، عنِ ابْن عباس، أظُنُّه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دَخل الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأل عنْ أبويْه وزَوْجَتِهِ ووَلدهِ، فيقالُ: إنهمْ لم يَبْلُغوا درَجَتك، فَيَقُولُ: يا ربِّ، قدْ عملتُ لي ولهمْ، فيُؤْمَر بإلحَاقهمْ بهِ" وقَرَأ ابن عبَّاسِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ

} الآية (1) "

(4)

.

وقال العَوفيّ، عنِ ابن عبَّاس في هَذِه الآية: وَالذين أدْرَكَ ذُرِّيَّتُهُم الإيمانَ فعَملوا بطاعتي ألْحَقْتُهُم بإيمانهم إلى الجنَّةِ، وأولادُهُم الصِّغَارُ تُلْحقُ بهمْ. وهذا التَّفسيرُ هوَ أحدُ أقوَالِ العُلَماء في مَعْنى الذُّرِّيةِ هنا: أهُمُ الصِّغارُ فَقط، أو يشملُ الصِّغارَ وَالْكبَارَ أيضًا، كقَولهِ:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ .. } الآية [الأنعام: 84]، وقال:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] وقال {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34]

(1)

كذا النسخ على قراءة أبي عمرو، وعلى رواية حفص، عن عاصم:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} .

(2)

رواه البزار (1260 - كشف الأستار).

(3)

كذا في الأصول: والذي في المعجم الكبير للطبراني (12248) محمد بن عبد الله الحضرمي.

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12248) وفي "المعجم الصغير" رقم (640) وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، قال غير واحد: كان يضع الحديث.

ص: 517

فأطْلَقَ الذُّرِّيةَ على الكِبَار، كما أطْلَقها على الصِّغارِ، وتَفْسيرُ العَوْفيّ عنِ ابْنِ عبَّاس يَشْمَلُهُما، وهو اختيارُ الْوَاحديّ وغيره.

وهذا إنما هو إلى الله عز وجل، فإن الخير في يديه، والخَلْق له والأمر له، وهذا القول مَحْكيّ عن الشَّعْبيّ، وأبي مِجْلَزٍ، وسَعيد بن جُبَيْر، وإبراهيم النَّخَعي، وقتادةَ، وأبي صالح، والرَّبيع بن أنَسٍ، وهذَا من فضل الله ورَحْمته على الأبْنَاء بِبَرَكةِ عَملِ الآباء، فأما فَضْلُهُ على الآباء بِبَرَكةِ دُعاء الأبناء، فَقدَ قالَ الإمامُ أحمدُ: حدّثنا يَزيدُ، حدّثنا حمادُ بن سَلَمة، عنْ عَاصِم بن أبي النَّجُودِ، عنْ أبي صَالح، عنْ أبي هرَيرةَ، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عز وجل لَيَرْفعُ الدَّرَجةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِح في الْجنَّة، فيَقُولُ: يا رَبِّ أنّى لي هذه؟ فيَقُولُ: بِاسْتِغْفارِ وَلدِكَ لكَ". وهذا إسنادٌ صحيحٌ، ولم يُخَرَّجْهُ أحدٌ منْ أصْحابِ الكُتبِ

(1)

وَلكِنْ لهُ شاهِد في "صحيحِ مسلم"، عنْ أبي هُرَيرَةَ، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَملُهُ إلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفعُ بهِ، أو وَلدٍ صَالح يَدْعُو لهُ"

(2)

.

‌ذكر دخول الفقراء الجنَّة قبل الأغنياء

قال أحمد: حدثّنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سَلَمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يدخلُ فُقراءُ الْمُسْلمينَ الْجَنَّةَ قَبْل أغْنِيَائهمِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وهُوَ خَمْسمئةِ عام". وأخرجه الترمذيّ، [وابن ماجه]، من حديث محمد بن عمرو، وقال] الترمذيّ]: حسن صحيح. وله طرق عن أبي هريرة، [فمن ذلك مارواه الثوريّ، عن محمد بن زيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة]، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ فُقَراءَ الْمُؤْمنينَ يَدْخُلُونَ الْجنَّةَ قَبلَ أغْنِيائهمْ بِنِصْفِ يوم، وذلك خمسمئة عام

" [الحديث بطوله]

(3)

.

وقال أحمد: حدّثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوة هو ابن شُرَيْح، أخبرني أبو هانئ؛ أنّه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِيّ، يقول: سمعت عبد الله بن عمرٍو يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ فُقَراءَ المُهاجرينَ يَسْبقُونَ الأغْنياءَ يَوْم القيامة" يعني إلى الجنّة "بأرْبَعِين خَرِيفًا".

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 509) أقول: وفيه عاصم بن أبي النجود، قال ابن حجر: صدوق له أوهام، فإسناده حسن.

(2)

رواه مسلم (1631).

(3)

رواه أحمد (2/ 343) والترمذي (2353 ر 2354) وابن ماجه (4122) وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 99 - 100) وهو حديث صحيح.

ص: 518

وكذا رواه مُسلم، من حديث أبي هانئ حُمَيْد بن هانئ، به

(1)

.

وقال أحمد: حدّثنا حسين، هو ابن محمد، حدّثنا داود، هو ابن نافع

(2)

، عن سلم بن بشير

(3)

، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "الْتَقَى مُؤْمنانِ على بابِ الجَنّة، مؤْمن غَنيٌّ، ومُؤْمنٌ فَقير، كانا في الدُّنيا، فأُدْخِلَ الفَقيرُ الجَنَّةَ، وحُبِسَ الغَنيّ ما شاء الله أنْ يُحْبَس، ثم أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَلَقيهُ الفَقيرُ، فقال: يا أخي، ماذا حبسك؟ والله لَقَدِ احْتبسْتَ حتَّى خِفْتُ عَلَيْكَ، فيقول: أيْ أخي، إني حُبِسْتُ بَعْدَكَ مَحِبسًا فَظيعًا كريهًا، ما وَصلْتُ إلَيْكَ حتَّى سال منِّي منَ العَرق ما لوْ وَرَدهُ ألْفُ بعيرٍ كُلُّها أكلَت حَمْضًا لصَدَرَتْ عنْهُ رِواءً"

(4)

.

وثبت في "الصحيحين" من حديث أبي عثمان النَّهديّ، عن أسامة بن زيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قمتُ على باب الجنَّة؛ فإذا عَامَّةُ منْ دَخَلها المَساكينُ، وقمتُ على باب النار، فإذا عامَّةُ منْ دخَلَها النِّساء"

(5)

.

وفي "صحيح البخاريّ" من حديث سَلْم

(6)

بن زَرِيْر، عن أبي رجاء، عن عمران بن حُصَيْن .. ، مِثْله. ورواه عبدُ الرزّاق، عن معْمَر، عن قتادة، عن أبي رجاء؛ عِمْران بن مِلْحَان، عن عمران بن حُصَيْن، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نَظَرْت في الجنَّة فرأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الفُقَراءَ، ونظرتُ في النار فرأيْتُ أكْثرَ أهْلِهَا النساء"

(7)

.

وروى مسلم عن شيبان بن فَرّوخ، عن أبي الأشهب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع في النار فرأى أكثر أهْلِها النساءَ، واطلع في الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء

(8)

.

وقال [أحمد: ثنا] عبد الله بن محمد، ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن السائب بن مالك، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر

(1)

رواه أحمد (2/ 169) ومسلم (2979).

(2)

كذا في الأصول، والذي أومأ إليه ابن حجر أنه ابن سليمان النصيبي الملقب بـ " دويد".

(3)

في (آ): مسلم بن بشر.

(4)

رواه أحمد (1/ 304) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه البخاري (6547) ومسلم (2736).

(6)

في نسخ الكتاب التي بين يدي: "سلمة" والتصحيح من "صحيح البخاري" وكتب الرجال.

(7)

رواه البخاري (3241) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20610) قال القرطبي: إنما كان النساء أقلّ ساكني الجنة، لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة؛ لنقص عقلهنّ وسرعة انخداعهن. فتح الباري (11/ 420).

(8)

رواه مسلم (2737).

ص: 519

أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء"

(1)

.

وتقدم باقيه، من حديث ابن أبي شيبة: "عُرِض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة

" إلى آخره، وهو [في] الذين يحمدون الله في الشَّرَّاء والضَّراء

(2)

الجامع لأحكام الجنة.

‌فصل

والجنةُ وَالنّارُ مَوْجُودتانِ الآنَ، فالْجَنَّةُ مُعدَّةٌ لِلمُتَّقينَ، والنّارُ مُعَدَّةٌ لِلْكافِرينَ، كما نَطَقَ بِذَلكَ الْقُرآنُ العَظيمُ، وَتَواتَرت بذلِك الأخْبَارُ عن رَسُولِ رَب الْعَالَمينَ، وهذَا اعتِقَادُ أهْلِ السُّنةِ وَالْجَماعةِ رحمهم الله أجمعين، الْمُتَمسِّكينَ بالعُرْوة الْوُثْقَى، وهيَ السُّنةُ الْمُثْلَى إلى قيَام السَّاعة، خِلافًا لمن زَعَم أنَّهما لم يُخلقا بَعدُ وإنَّما يُخْلقانِ يوم القيامَةِ، وهذا القوْلُ قاله منْ لمْ يَطَّلعْ على الأحَادِيث الصحيحة المتَّفقِ على صحتها وإخراجها، والْحَسَنةِ، ممَّا لا يُمْكنُ دَفْعُهُ ولا رَدُّهُ، لِتَوَاتُرهِ واشْتِهَارِهِ، وقد ثبت في "الصَّحيحين"، وغَيْرِهما منْ كُتُب الإسْلامِ الْمُعْتمَدةِ الْمَشهُورة بالأسانيدِ الصَّحيحةِ.

قال الله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمرن: 133].

وقال {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 17].

وقال: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 24].

وقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، دُخْرًا، بَلْهَ ما أطلعكم عليه"

(3)

.

وفي "الصحيحين" من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أحدكم إذا مات، عُرِض عليه مقعده بالغداة والعَشيِّ، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة"

(4)

.

وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود قال: "أرواح الشهداء في حواصل طَيْرٍ خُضْرٍ، لها قناديل

(1)

رواه أحمد في "المسند"(2/ 173) وإسناده ضعيف، وهو حديث صحيح دون قوله "الأغنياء" فقد ثبت عن جمع من الصحابة دون هذه الزيادة، وهو منكر بهذه الزيادة.

(2)

رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(14/ 1718) وأحمد في "المسند"(2/ 425) والترمذي رقم (1642) وإسناده ضعيف.

(3)

رواه مسلم رقم (2824) والبخاري رقم (4780)، وانظر الفتح (8/ 516).

(4)

رواه البخاري (1379) ومسلم (2866).

ص: 520

معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل

" وذكر الحديث

(1)

.

وروينا في "مسند أحمد بن حنبل": ثنا محمد بن إدريس الشافعي، عن مالك، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنما نسمة المؤمن، طائر يَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يُرْجِعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه"

(2)

.

وتقدم الحديث المتفق على صحته، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات"

(3)

.

وذكرنا الحديث المرويَّ من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا:"لما خلق الله تعالى الجنهّ قال لجبريل: اذهب فانظر إليها " وكذلك قال في النار

(4)

.

وكذلك في الحديث الآخر: "لما خلق الله تعالى الجنة، قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} "

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ أكَلَ بَعْضي بَعْضًا، فأذِنَ لها بنَفَسَيْنِ: نَفسٍ في الشِّتَاءٍ، ونفسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُون منَ الزّمْهرير منْ بَرْدِهَا، وجميع ما تجِدُون منَ الْحَرِّ من فَيْحِها، فإذا كانَ الحَرُّ فأبْرِدُوا عن الصَّلاةِ"

(6)

.

وثبت في "الصَّحيحين" عن أبي هريرة، وعند مسلم عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فقالت النَّارُ: أوثِرْتُ بالْمُتكبِّرين وَالْمُتَجَبِّرين، وقالتِ الْجَنّة: مَا لي لا يَدْخلني إلَّا ضُعَفاءُ النّاسِ وَسَقَطُهُمْ وغِرَّتُهُمْ؟ فقال الله تعالى للجنَّةِ: أنتِ رحْمَتي أرْحمُ بكِ منْ أشاءُ منْ عِبَادي، وقال للنار: أنت عذابي أُعَذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدةٍ منْكُما مِلْؤُها، فأمَّا النَّارُ فلا تَمْتَلئُ حتَّى يَضَع قدمه عليها فتقول: قطْ قَطْ، فهُنالكَ تَمْتَلئُ وَيَنْزوي بعْضُها إلى بعضٍ، ولا يَظْلِمُ اللهُ منْ خَلْقِهِ أحَدًا، وأمَّا الجَنَّةُ فإن اللهَ يُنْشئُ لها خَلْقًا". لفظُ مُسْلِمٍ"

(7)

.

(1)

رواه مسلم (1887).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 455) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه البخاري (6487) ومسلم (2823).

(4)

روإه أحمد في المسند (2/ 354) وإسناده حسن.

(5)

رواه البزار (3508 - كشف الأستار) وهو حديت حسن.

(6)

رواه البخاري (537) ومسلم (617).

(7)

رواه البخاري (4850) ومسلم (2846) ومعمر في "جامعه" الملحق بمصنف عبد الرزاق (20893) من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم (2847) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 521

وفي "الصَّحيحين" منْ طريقِ سعيد، عن قَتادةَ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَزَالُ جَهنَّمُ يُلْقَى فيها، {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيهَا قَدَمَهُ، فيَنْزَوي بعْضُها إلى بَعْضٍ، وتقول: قَطْ قَطْ، بعِزَّتِكَ وكرمِك، ولا يزالُ في الجَنَّةِ فَضْلٌ حتَّى يُنْشئَ اللهُ لها خَلْقًا فيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ"

(1)

.

وقد ثبت في "الصَّحيحين" عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه رأى الْجنّةَ والنارَ لَيْلَةَ أُسْري به

(2)

.

فأما ما وَقَعَ في "صحيح البُخاري"، عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّهُ تعَالى يُنْشئُ للنَّارِ منْ يشاءُ، فيُلْقَى فيها، فتقول:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فقد قال بعضُ الحُفَّاظٍ: هذا غلطٌ منْ بعضِ الرُّواةِ، وكأنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، ودَخَلَ علَيْهِ لَفْظٌ في لَفْظٍ، فنَقَل هذا الْحُكْمَ منْ أهلِ الْجَنَّةِ إلى النَّارِ.

قلتُ: فإنْ كان مَحْفُوظًا، فيَحْتملُ أنَّهُ تعَالى يَمْتَحِنُهُمْ في العَرَصَاتِ، كما يَمْتَحِنُ غيرَهُمْ ممَّن لم تَقُمْ علَيْهِ الحُجّةُ في الدُّنْيا، فمنْ عَصَى مِنْهُمْ أدْخَلَهُ النّارَ، ومنِ اسْتَجابَ أدْخلهُ الجَنَّة، لقولهِ تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].

‌فصل

وقد ذكرنا فيما سَلَفَ صِفَةَ أهْل الْجَنَّةِ حَالَ دُخُولهمْ إليها، وقُدُومِهِمْ عَليها، وأنَّهُمْ يُحَوَّلُ خَلْقهُمْ إلى طُولِ سِتِّين ذِراعًا في عَرْضِ سبْعَةِ أذْرُعٍ، وأنَّهُمْ يكُونُون جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلين في سنِّ أبْناءِ ثَلاثٍ وَثلاثين، [وأنَّهُمْ يُعرِبُون]

(3)

.

قال أبو بكْرِ بن أبي الدُّنيا: حدّثني القاسمُ بنُ هاشِمٍ، حدّثنا صَفْوانُ بنُ صالحٍ، حدَّثني رَوَّادُ بنُ الجَرَّاحِ العَسْقَلانيّ، حدّثنا الأوْزَاعيُّ، عن هارُونَ بنِ رِئابٍ، عن أنس بنِ مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ أهْلُ الجَنَّةِ الْجَنَّةَ على طُولِ آدَمَ؛ سِتِّينَ ذِرَاعًا بذِراعِ الْمَلَك، على حُسْنِ يُوسُفَ، وعلى مِيلادِ عِيسى، أبناءَ ثلاثٍ وثلاثين، وعلى لِسَانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم"

(4)

.

(1)

رواه مسلم رقم (2848) واللفظ له، والبخاري (7384) موصولًا بصيغة التعليق، فقال: وقال لي خليفة .... -.

(2)

رواه البخاري (349) ومسلم (163) وفيهما أنه رأى الجنة، وأما رؤيته النار، فقد رواه أحمد في المسند (5/ 387) والترمذي رقم (3147) وإسناده حسن.

(3)

أي أنهم يتكلمون بالعربية.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(220) وفي إسناده ضعف.

ص: 522

وَرَوى دَاوُد بنُ الحُصَيْنِ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسِ، قال:"لِسَانُ أهْلِ الْجَنَّةِ عَربيّ"

(1)

.

وقال عقيل، عن الزهري قال: لسان أهل الجنة عربي

(2)

.

وَرَوَى البَيْهَقيُّ من طريقَيْنِ فيهِمَا ضَعْفٌ عن أبي كَريمَةَ المِقْدامِ بن مَعْدِيكرِبَ رضي الله عنه: [أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم] قال: "مَا مِنْ أحَدٍ يموتُ سِقْطًا ولا هَرِمًا، وغالب الناس يموتون فيما بين ذلك، إلَّا بُعِثَ ابنَ ثلاثين سنة-" وفي روايةٍ: "ابن ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً- فإنْ كانَ منْ أهْلِ الْجَنَّةِ، كان على مَسْحةِ آدمَ، وَصُورَةِ يُوسُفَ، وَقَلْبِ أيُّوبَ، جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلينَ، أولي أفانين، ومنْ كان منْ أهْلِ النارِ عُظِّمُوا وَفُخِّمُوا كالْجِبَالِ".

وفي روايةٍ: "حتَّى يَصِيرَ جِلْدُهُ أربْعينَ باعًا

(3)

، وحتَّى يصيرَ نابٌ من أنْيَابِهِ مِثْلَ أُحُدٍ"

(4)

.

وثبت أنّهُمْ يَأْكُلونَ، وَيشْرَبونَ، ولا يَبُولُون، ولا يَتَغَوَّطُونَ، وإنَّما يكون منصرف طَعَامِهِمْ، أنَّهُمْ يَعْرَقون مثل ريح المسك، وَيَتَجَشَّؤونَ مثل رائحة المِسْكِ، ونَفَسُهُمْ تَحْميدٌ، وتكبيرٌ، وتَسْبيحٌ.

وأوَّل زُمْرةٍ منهم تدخل الجنة منهم على صُورةِ القَمَرِ، ثمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ في البَهَاء كأضْوَأ كَوكَبٍ دُرِّيّ في السَّمَاءِ، وَأنَّهُمْ يُجَامِعُونَ، ولا يُولَدُ لهم، إلا من شاء منهم، وأنّهُمْ لا يموتون ولا ينامُون، لِكَمالِ حَيَاتِهِمْ، وكَثْرَةِ لَذَّاتِهِمْ، وتَوَالي نَعيمهمْ، ومَسَرَّاتِهمْ، وكلّمَا ازْدَادُوا خُلودًا ازْدَادُوا حُسْنًا وجَمَالًا، وشَبَابًا وَقُوَّة، وَازْدَادَتْ لهمُ الْجنَّةُ حُسْنًا، وبَهاءً، وَطِيبًا، وَضِياءً، وبهجة ونورًا، وكانوا أرْغَبَ شَيْءٍ فيهَا، وَأحْرَصَ عَلَيْها، وكانَتْ عِنْدَهم أعَزَّ وَأغْلى، وألَذَّ، وَأحْلى، كما قال تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] وهذا عكس حال أهل الدنيا، ولو كان أحدهم في ألذِّ عيش.

‌فصل

وأعلى الخلق في الجنة منزلة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأوَّلُ منْ يَدْخُلُها، وأُمَّتُهُ أوَّل الأمم دخولًا إليها، وأوّلُ منْ يَدْخُلُها من هذه الأمة أبو بَكْرٍ الصّدّيقُ رضي الله عنه، وَتقدَّمَ أنَّ هذهِ الأمَّة يكونون في الجنة أكْثر أهل الأمم، وأنَّهُمْ يكونون ثُلُثَيْ

(5)

اْهْلِ الجنَّةِ أو شطرهم

(6)

، كما

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(218) موقوفًا وهو حديث حسن، دون قوله:"وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم".

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(221).

(3)

في (آ): أربعين عامًا.

(4)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(465 و 466).

(5)

تقدم أنهم الثلث.

(6)

رواه البخاري (4741) ومسلم (222) من حديث أبي سعيد، والبخاري (6522) ومسلم (221) من حديث ابن مسعود.

ص: 523

تقدَّم: "أهلُ الْجنَّةِ مِئَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا، هذهِ الأمَّة ثمانُونَ صَفًّا منها"

(1)

.

وفي "المُسْندِ" و"جامعِ التِّرمذي" و"سُنن ابنِ ماجهْ" منْ حديثِ محمدِ بن عَمْرِو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرة مرفوعًا:"يَدْخُلُ فُقَرَاءُ المسلمين الْجَنَّةَ قَبْلَ أغْنِيَائهم بِنِصْفِ يوم، وهُوَ خَمْسمئةِ عَامٍ". وإسْنادُهُ على شرطِ مُسْلمٍ. وقال التِّرْمذي: حسنٌ صحيحٌ"

(2)

.

وَرَواهُ الطَّبراني من حديث الثَّوْريّ، عن محمدِ بن زَيْدٍ، عن أبي حازِم، عن أبي هريرة مرفوعًا، مثله

(3)

.

وروى التِّرْمذيّ من طريق الأعمشِ، عن عطيَّةَ، عن أبي سعيدٍ مرفوعًا، مثلهُ، وحَسَّنَه

(4)

.

والَّذي رواهُ مُسْلِمٌ من طريقِ أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ، عن عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ فُقَرَاءَ المُهاجرين يَسْبقُونَ الأغْنياءَ يوْمَ القِيَامةِ إلى الجنة بأرْبعين خَرِيفًا"

(5)

.

وللتِّرْمذيّ عن جابرِ بن عبدِ اللهِ مرفوعًا، مثلُهُ، وصحَّحَه

(6)

، ولهُ عن أنسٍ أيضًا نحوُه، واسْتَغْرَبه

(7)

.

قلتُ: فإنْ كانَ الأوَّلُ محفُوظًا، فيكُونُ باعْتِبَارِ دُخولِ أوَّلِ الفُقَرَاء، وآخِر الأغْنياء، فتكونُ الأرْبعُونَ خَريفًا باعْتِبَارِ دُخولِ آخِرِ الفُقَراء وأوَّلِ الأغْنياء، والله أعلم.

وقد رَوى الإمامُ أحمدُ، عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وأبو

(8)

بَكْر بن أبي شَيْبَةَ، عن يَزيدَ بن هارُونَ، كِلاهُما عن هِشَام الدَّسْتُوائيِّ، عن يَحْيَى بن أبي كثِيرٍ، عن عامِرِ الْعُقَيليِّ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَ عليَّ أوَّلُ ثلاثةِ يَدْخُلون الْجنَّةَ منْ أُمَّتي، وأوَّلُ ثلاثةٍ يَدخُلون النّارَ

" وذكر الحديث كما تقدم قريبًا.

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 347) والترمذي (2546) وابن ماجه (4289) من حديث بريدة، وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 296) والترمذي (2353) وابن ماجه (4122) وهو حديث صحيح.

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 99) عن الطبراني، به.

(4)

رواه الترمذي رقم (2351).

(5)

رواه مسلم (2979)(37).

(6)

رواه الترمذي رقم (2355).

(7)

رواه الترمذي رقم (2352).

(8)

في (آ): وأبي بكر، وهو خطأ، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي شيبة.

ص: 524

ورواهُ التِّرْمذيُّ من طريقِ ابن المُبارَكِ، عن يَحْيَى بنِ أبي كثِيرٍ، وقال: حَسَن، ولم يَذكُرِ الثلاثةَ الذين منْ أهْلِ النّارِ

(1)

.

وثبت في "صحيحِ مُسْلِم"، من حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ

(2)

المُجَاشعيِّ، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "أهْلُ الْجَنَّةِ ثلاثةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفّقٌ، وَرَجُلٌ رَحيمُ القَلْبِ بكُلِّ ذي قُرْبَى ومُسْلِمٍ، وعَفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ. وأهلُ النار خمسةٌ: الضّعيفُ الّذي لا زَبْرَ

(3)

له، الَّذين هُمْ فيكمْ تَبَعًا، لا يَبْغُونَ أهْلًا ولا مالًا، وَالْخائنُ الّذي لا يَخْفَى لهُ طَمَعٌ وإنْ دَقَّ إلّا خانَهُ، ورَجلٌ لا يُصْبحُ ولا يُمْسي إلّا وهُوَ يُخادِعُكَ عنْ أهْلِكَ ومَالِكَ، وذَكرَ البُخْلَ والكَذِبَ. والشِّنْظيرُ الفَحَّاشُ"

(4)

.

وتقدَّمتِ الأحاديثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: "اطَّلَعْتُ في الْجنَّةِ فَرَأَيْتُ اْكْثرَ أهْلِها الفُقَراءَ، وَاطلَعْتُ في النّار فَرَأَيْتُ أكْثرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ وَالأغْنياءَ"

(5)

.

وتقدَّمَ الحديثُ الواردُ منْ طريقِ حبيب بن أبي ثابتٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: [أوَّلُ منْ يُدْعَى إلى الجنة يَوْمَ القِيَامةِ الْحَمَّادُونَ الَّذينَ يَحْمدُونَ اللهَ في السَّرَّاء وَالضّراءِ"

(6)

.

وثبت في "الصَّحيحين" منْ حديثِ سُفيانَ الثّوْريّ، وشُعْبَةَ، عن مَعْبَدِ بن خالدٍ، عن حارثةَ بن وَهْبٍ، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال:"ألا أُخْبِرُكم بأهلِ الجنّةِ؟ كلُّ ضَعيف مُتَضَعَّف لوْ أقْسَمَ على اللهِ لأبَرَّه، ألا أُخْبِرُكم بأهلِ النّارِ؟ كلُّ عُتُلِّ جَوَّاظٍ مستكبر"

(7)

.

وقال أحمدُ: حدّثنا عليُّ بن إسْحاقَ، أخبرنا عبدُ اللهِ، أخبرنا مُوسى بن عُلَيّ بن رَباحِ، سَمِعْتُ أبي يُحدِّثُ، عن عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهْلُ النّارِ كلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظٍ

(8)

مُسْتكْبرٍ جَمَّاعٍ منّاعٍ، وأهْلُ الجنّةِ الضُّعَفاءُ المَغْلُوبونَ"

(9)

.

وقال الطَّبرانيُّ: حدّثنا عليُّ بنُ عبدِ العزيزِ، حدّثنا مُسْلِمُ بن إبراهيمَ، حدّثنا أبو هلالٍ الرَّاسبيُّ،

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 425) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(14/ 17818) والترمذي من طريق علي بن المبارك، به رقم (1642) وإسناده ضعيف.

(2)

في (آ): حماد، وهو خطأ.

(3)

أي لا عقل له ينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي.

(4)

رواه مسلم رقم (2865)(63) والشنظير: السيئ الخلق.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 173) وإسناده ضعيف، ولكن له طرق وشواهد يقوى بها، دون قوله:"الأغنياء" فقد ثبت عن جمع من الصحابة دون هذه الزيادة، وهو منكر بهذه الزيادة.

(6)

رواه الطبراني في "الكبير" رقم (12345) وفي "الأوسط" رقم (3057) وفي "الصغير" رقم (288) وإسناده ضعيف.

(7)

رواه البخاري (4918) و (6657) ومسلم (2853).

(8)

الجعظري: القط الغليظ، والجواظ: الجموع المنوع.

(9)

رواه أحمد في المسند (2/ 214) وهو حديث صحيح.

ص: 525

[حدّثنا عُقْبةُ بن أبي ثُبَيْتٍ الرَّاسبيُّ]، عن ابي الجَوْزَاءِ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أهْلُ الجنّةِ منْ مَلأَ أُذُنَيْهِ منْ ثناءِ النَّاسِ خيرًا وهو يَسْمعُ، وأهلُ النَّارِ منْ مَلأَ أُذُنَيْهِ منْ ثَناء النَّاسِ شَرًّا وهُو يَسْمعُ". وكذا رواهُ ابنُ ماجه من حديثِ مُسْلِمِ بنِ إبراهيم

(1)

.

وقال القاضي أبو عُبَيْدٍ عَليُّ بنُ الْحُسينِ بنِ حَرْبَويه: حدّثنا محمدُ بن صالحٍ، حدّثنا خَلَفُ بن خَليفَةَ، عن أبي هاشم، عن سعيد بنِ جُبَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكم بِرِجالِكم منْ أهْلِ الجَنّةِ؟ النَّبىُّ في الْجَنَّةِ، وَالصِّدِّيقُ في الجَنَّةِ، والشَّهيدُ في الجنّةِ، وَالرّجلُ يَزُورُ [أخاه] في ناحيةِ المِصْرِ لا يَزُورهُ إلَّا للهِ في الجنَّة، ونِسَاؤُكمِ من [أهل] الجنَّةِ العَؤود الوَدُودُ الولود التي إذا غَضِبَ أوْ غَضِبَتْ جَاءَتْ حتى تَضَعَ يدَها في يَدِ زوْجها ثم تقولُ: لا أذُوقُ غُمْضًا حتَّى تَرْضى". وَرَوى النسائيُّ بعضهُ منْ حديث خَلَفِ بنِ خَلِيفةَ، عن أبي هاشمٍ، يَحْيَى بنِ دينارٍ، به

(2)

.

‌فصل

هذه الأمَّةُ أكثرُ أهلِ الجنّةِ، وأعلاهُم منازل، وأوَّلُ من يدخل الجنة صَدْرُها، كما قال تعالى في صفة المقرَّبين:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 و 14] وقال في صِفَةِ أهْلِ اليَمين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 و 40].

وثبت في "الصَّحيحين": "خيْرُ القُرُونِ

(3)

قَرْنِي، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يلونَهُمْ، ثمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السِّمَنَ أوِ السَّمَانةَ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، وَيَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ"

(4)

.

وخيار الصَّدْرِ الأوَّلِ الصَّحابةُ، كما قال ابنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: من كان منكم مُسْتَنًا، فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤْمَنُ عليه الفتنة، أولئِكَ أصحابُ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم أبرُّ هذه الأمَّةِ قُلوبًا وأصدقها ألسنةً، وأعْمَقُها عِلْمًا، وأقلُّها تَكلُّفًا، قوْمٌ اخْتَارَهُمُ الله تعالى لِصُحْبَةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامةِ دِينهِ، فَاعْرِفُوا لهمْ حقَّهم، واقْتَدُوا بهمْ، فإنَّهُمْ كانوا على الهُدَى المُسْتقيمِ

(5)

.

(1)

رواه الطبراني في "الكبير"(12787) وابن ماجه رقم (4224) وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه تمام في "فوائده"(747 - الروض البسام) والنسائي في "الكبرى"(9139) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

الذي في الصحيحين: (خير الناس).

(4)

رواه البخاري (2651) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(5)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1810) موقوفًا على ابن مسعود.

ص: 526

وتقدَّم أنَّ هذه الأمَّةَ يَدخُلُ منهم إلى الجنَّةِ سبعُون ألْفًا بغيرِ حِساب

(1)

.

وفي "صحيح مُسْلِمٍ": "مع كلِّ ألفٍ سبعُونَ ألفًا"

(2)

. وفي رواية أحمدَ: "مع كلِّ واحدٍ سبعُونَ ألْفًا"

(3)

. وَهذا ذِكْرُ أطرافِ الحديثِ، وإشارةٌ إلى طُرُقهِ وألفاظِهِ.

وفي "الصحيحين" منْ روايةِ حصين بنِ عبدِ الرَّحمن، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"عُرِضَتْ عليَّ الأُممُ، فرأيتُ النّبيَّ ومعهُ الرَّجلُ، والنّبيَّ ومعهُ الرَّجلُ والرَّجُلانِ، والنّبيَّ وليس معهُ أحدٌ، إذْ رُفع لي سوادٌ عظيمٌ، فظننت أنَّهُمْ أمَّتي، فقيل لي: هذا مُوسى وقومُهُ، ولَكنِ انظرْ إلى الأُفُقِ الآخر، فنظَرْتُ فإذَا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه أمَّتُكَ، ومعهُم سبعُونَ ألفًا يدخلُونَ الْجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، ولا عذابٍ" وفيهِ: "هُمُ الّذين لا يَكتَوُون، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُون، وعلى ربِّهِمْ يَتَوكَّلُون" فقام عُكَّاشةُ بن محصَن. وقد تقدم هذا الحديث وغيره في ذلك

(4)

.

وقال هِشَامُ بنُ عمّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ، وأبو بكْرِ بن أبي شَيْبَةَ، وَاللّفْظُ له: حدّثنا إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ، أخبرني محمدُ بنُ زيادٍ الألْهَانيّ، سَمِعْتُ أبَا أُمامَةَ، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ:"وَعَدني رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ منْ أُمَّتي سبعينَ ألْفًا، مع كلِّ ألْفٍ سبعين ألْفًا، لا حِسَابَ عَليهمْ ولا عذابَ، وَثَلاثَ حَثَياتٍ منْ حَثَياتِ رَبِّي عز وجل". وكذا رواهُ أبو بكْرِ بن أبي عاصمٍ، عن دُحَيْم، عن الوَليدِ بن مُسْلِمٍ، عن صَفْوانَ بن عَمْرٍو، عن سُلَيْمِ بن عامرٍ، وأبي اليَمَانِ

(5)

عامرِ بن عبدِ اللهِ بن لُحَيّ الْهَوْزَنيِّ، عن أبي أُمَامةَ

فذكر مِثلَه

(6)

.

[ورَوى الطَّبراني من حديث عامر بنِ زَيْدِ البِكاليّ، عن عُتْبة بن عَبْدٍ السُّلَميّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلهُ

(7)

،. ورَواه أيضًا من طريقِ أبي أسماءَ الرَّحَبيِّ، عن ثَوْبانَ، مِثْلهُ، ولم يَذْكرْ: ثلاثَ حَثَياتٍ

(8)

.

وله من حديث قَيْسٍ الكِنْديِّ، عن أبي سعيدٍ الأنْمَاريِّ، مثلَهُ، وذكر فيه ثلاث حثيات

(9)

.

وقد قدَّمْنا بقيَّة طُرُقِهِ بألْفَاظِهَا، والله سبحانه أعلم.

(1)

رواه البخاري (6541) و (6542) ومسلم (220) و (216) وغيرهما.

(2)

ليس الحديث في مسلم، وقد رواه أحمد (2/ 359) وغيره، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده، وسبق بيانه.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 6) وهو حديث صحيح بشواهده.

(4)

رواه البخاري (6541) ومسلم (220).

(5)

في الأصول: عن أبي اليمان.

(6)

رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(11/ 1176) وابن ماجه رقم (4286) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1247) وهو حديث صحيح بشواهده.

(7)

رواه الطبراني في "الكبير"(17/ 312) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(8)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1413) وفي إسناده ضعف، ولكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها.

(9)

رواه الطبراني في "الأوسط"(406) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 527

‌فصل في بيان وجود الجنَّة والنَّار وأنهما مخلوقتان موجودتان، خلافًا لمن زعم خلاف ذلك

قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل: عمران 133 - 134]. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. وقال تعالى في حقِّ آل فِرْعَونَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 17]. وقال تعالى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحديد: 17].

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، دُخْرًا

(1)

بَلْهَ كل ما أطلعكم عليهِ" ثمَّ قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحديد: 17]

(2)

.

وفي "الصَّحيحين" منْ حديثِ مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرضَ عليهِ مَقْعدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ، إن كانَ منْ أهلِ الجَنَّةِ فمِنْ أهلِ الجنَّةِ، وإنْ كانَ منْ أهلِ النار فمنْ أهلِ النّار، يُقالُ: هذا مَقْعدُك حتّى يَبْعَثَك اللهُ إليهِ يومَ القيامةِ"

(3)

.

وفي "صحيح مُسْلِمٍ" عن ابنِ مَسْعُودٍ: "أرْوَاحُ الشُّهداء في حَوَاصلِ طير خُضر تَسْرَحُ في الجنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثمَّ تأوِي إلى قَنَاديلَ مُعلَّقة في العرشِ .... " الحديث

(4)

.

وَرَوَيْنا في "مُسندِ الإمام أحمدَ": حدّثنا محمد بنُ إدْريسَ الشّافعيُّ، عن مالكٍ، عن الزُّهْري، عن عبدِ الرَّحمن بنِ كعْبِ بن مالكٍ، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّما نَسَمةُ المؤمِن طائرٌ يعْلَقُ في شَجَرِ الجنّةِ حتى يَرْجِعَه الله تبارك وتعالى إلى جسدِهِ يومَ يبعثُهُ"

(5)

.

(1)

قال الحافظ في "الفتح"(دُخْرًا) بضم الدال المهملة وسكون المعجمة، أي جعلت ذلك لهم مدخورًا.

(2)

رواه البخاري (4780) ومسلم (2824).

(3)

رواه البخاري (1379) ومسلم (2866).

(4)

رواه مسلم (1887).

(5)

رواه أحمد في المسند (3/ 455) ومالك في "الموطإ"(1/ 240) وإسناده صحيح.

ص: 528

وتقدَّمَ الحديثُ المتّفقُ على صِحَّتِهِ من طريقِ أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُفّتِ الجنّةُ بالمَكارِهِ، وحُفّتِ النّارُ بالشّهَواتِ"

(1)

.

وذكرنا الحديثَ المَرْويَّ منْ طريق حمَّاد بن سَلَمةَ، عنْ محمدِ بن عَمْرٍو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا:"لمَّا خَلَقَ اللهُ الجنّةَ قال لِجِبْريلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إليها" وكذلك قال في النار"

(2)

.

وكذلك الحديثُ الآخرُ: "لمَّا خَلَقَ اللهُ الجنّةَ قال لها: تكلّمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} "

(3)

.

وفي "الصَّحيحين" عن أبي هريرةَ -وعندَ مُسْلم عن أبي سعيدٍ- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَحَاجَّتِ الجنّةُ وَالنَّارُ

" الحديث

(4)

. وفيهما عن ابن عمرَ مرفوعًا: "الحُمَّى منْ فَيْحِ جَهنّمَ"

(5)

.

وفيهما عن أبي ذر مرفوعًا: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم"

(6)

.

وفي "الصَّحيحين" عن أبي هريرة: "إذا جاء شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحتْ أبْوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النّارِ، وصُفِّدت الشياطين"

(7)

.

وقد ذكرنا في أحاديثِ الإسراء أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى الجنّةَ والنّارَ لَيْلَتَئذٍ

(8)

، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 - 15] وقال في صِفِة سدرَةِ المُنْتَهَى: إنّهُ يَخْرُجُ منْ أصْلِها نَهْرانِ ظاهِرَانِ ونَهْرَانِ بَاطِنانِ، وذكر أن البَاطِنَيْنِ في الجنَّةِ

(9)

.

وفي "الصَّحيحين": "ثم أدْخِلْتُ الجَنَّةَ فإذا فيها جَنَابذُ

(10)

اللُّؤلؤ، وإذا تُرَابُها المِسْكُ"

(11)

.

وفي "صحيحِ البُخاريِّ" من حديثِ قَتَادةَ، عن أنسٍ، عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"بينما أنا أسيرُ في الجنَّةِ، إذا أنا بنَهْرٍ حافَتَاهُ قِبَابُ اللؤلؤ الْمُجَوَّفِ، فقلتُ: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الذي أعطاكَ ربُّك"

(12)

.

(1)

رواه البخاري (6487) ومسلم (2823) واللفظ لمسلم.

(2)

رواه أبو داود رقم (4744) وإسناده حسن.

(3)

رواه البزار (3508 - كشف الأستار) وهو حديث حسن.

(4)

رواه البخاري (4850) ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2847) من حديث أبي سعيد الخدري.

(5)

رواه البخاري (5723) ومسلم (2209).

(6)

رواه بنحوه البخاري (629) ومسلم (616).

(7)

رواه البخاري (1898) ومسلم (1079).

(8)

رواه أحمد في المسند (5/ 387) والترمذي رقم (3147) وإسناده حسن.

(9)

رواه البخاري (3207) ومسلم (164).

(10)

الجنابذ: جمع جُنْبُذَة وهي القُبَّة. "النهاية"(1/ 305).

(11)

رواه البخاري (349) ومسلم (63).

(12)

رواه البخاري (6581).

ص: 529

وفي مَناقِبِ عُمرَ رضي الله عنه أنّه صلى الله عليه وسلم قال: "دَخَلْتُ الْجَنّةَ فرأيتُ جاريَةً تَوَضّأُ عندَ قَصْر، فقلتُ: لمن أنتِ؟ فقالتْ: لعُمر بن الخطّابِ، فأردْتُ أنْ أدخلَهُ فذكرتُ غَيْرَتَكَ" فبَكا عُمَرُ رضي الله عنه، وقال:"أوَ عليكَ أغارُ يا رسولَ اللهِ؟ " والحديثُ في "الصحيحين" عن جابرٍ

(1)

.

وقال عليه السلام لبلالٍ: "أُدْخِلتُ الجنّة فسمِعْتُ خَشْفَ نَعْلَيْكَ أمامي، فأخْبِرني بأرْجى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الإسلام" فقال: ما تَوَضّأتُ إلا وَصَلّيْتُ ركعتين

الحديث

(2)

. وأخبَر عن الرُّمَيْصاء

(3)

أنّهُ رَآها في الجنةِ. أخْرَجَاه عنْ جابرٍ

(4)

.

وأخْبَرَ في يَوْمِ صَلاةِ الكسوفِ أنّهُ عُرِضَتْ عَليهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وفي رواية: دَنَتْ منهُ الجَنّةُ وَالنَّارُ، وأنّهُ هَمَّ أنْ يَأخُذَ منَ الجنّةِ قِطْفًا منْ عِنَب، وقال:"لو أخَذتُهُ لأكَلْتُمْ منهُ مَا بقيَتِ الدُّنيا"

(5)

.

وفي "الصَّحيحَيْن" منْ طَريقِ الزُّهْري، عنْ سَعيدٍ، عنْ أبي هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رأيْتُ عَمْرو بن لُحَيّ يَجُرُّ قُصْبَه في النَّارِ"

(6)

.

وقال في الْحَديثِ الآخرِ: "وَرأَيْتُ فيهَا صَاحِب المِحْجَن"

(7)

.

وقال: "دَخَلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هِرَّة حبستْها حتى ماتت، لا هيَ أطْعَمَتْها ولا هي تَرَكَتْها تأكلُ منْ خَشَاش الأرْضِ"

(8)

"فلَقَدْ رأيْتُها تَخْمُشُها"

(9)

.

وأخبرَ عن الرَّجُلِ الَّذي نَحَّى غُصْن شَوْكٍ عنْ طَريقِ النَّاس، قال:"فَلَقَدْ رَأيْتُهُ يَسْتَظلُّ به في الْجنَّةِ". وهو في "صَحيح مُسلمٍ" عنْ أبي هُرَيْرَةَ بِلفْظٍ آخر

(10)

.

وفي "الصَّحيحَيْنِ" عنْ عِمرْانَ بن حصين أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ:"اطَّلَعْتُ في الجنَّةِ فرأيْتُ أكْثَرَ أهْلهَا الْفُقرَاءَ، واطَّلْعْتُ في النَّار، فَرَأَيْتُ أكْثرَ أهْلها النِّساءَ"

(11)

.

(1)

رواه البخاري (3679) ومسلم (2394)(20).

(2)

رواه البخاري (1149) ومسلم (2458)(108).

(3)

الرميصاء: هي أم سليم أم أنس بن مالك، سميت بذلك، لرمص كان بعينيها، والرمص: وسخ يجتمع في الموق، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رمص.

(4)

رواه البخاري (3679) ومسلم (2456).

(5)

رواه البخاري (1052) ومسلم (907).

(6)

رواه البخاري (4623) ومسلم (2856).

(7)

رواه مسلم (904).

(8)

رواه البخاري (3318) ومسلم (2242).

(9)

هذه الزيادة في حديث آخر رواه البخاري (264) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

(10)

رواه مسلم (1914)(129) الذي بعد الحديث (2617).

(11)

رواه البخاري (3241) ورواه مسلم مختصرًا (2738).

ص: 530

وفي "صحيح مُسْلم" منْ طريقِ المُخْتار بن فُلْفُل، عنْ أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "وَالّذي نَفْسي بيَدهِ لوْ رَأَيْتُمْ ما رأيْتُ لَضَحِكتُمْ قَليلًا ولبَكَيْتُمْ كثيرًا" قالُوا: يا رسولَ الله، وما رأيْتَ؟ قالَ:"رأيْتُ الْجَنَّةَ والنَّار"

(1)

.

وأخبرَ أنَّ الْمُتَوضئ إذا قال بَعْدَ وضُوئِه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فُتحت لهُ أبْوابُ الجنَّةِ الثَّمانية، يَدْخُلُ منْ أيِّها شَاء

(2)

.

وفي "صحيح البُخاريّ" منْ حَديثِ شُعْبةَ، عن عَديٍّ، عن البراءَ بن عَازبٍ قال: لمَّا توفي إبراهيمُ ابنُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّ لهُ مُرْضعًا في الجنَّةِ"

(3)

.

وقالَ الله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] والْجُمْهُورُ على أنَّ هذهِ الْجنَّةَ جَنّةُ الْمَأوَى، وذَهبتْ طائفَةٌ آخَرُونَ إلى أنَّها جنَّةٌ في الأرض خلقَها الله لهُ ثمَّ أخْرَجَهُ منْها. وقدْ تقدم ذلكَ مَبْسُوطًا في هذا الكتاب في أوله في قصَّةِ آدَم.

وقالَ البَيْهَقي: حدّثنا الْحَاكم، حدّثنا الأصمُّ، حدّثنا حُمَيْدُ بن عياش الرَّمْليّ، حدّثنا مُؤَمَّلُ بن إسماعيلَ، حدّثنا سُفْيَانُ، عنْ عَبْدِ الرَّحمن الأصْبَهانيّ، عنْ أبي حَازمٍ، عنْ أبي هُرَيرةَ، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أولادُ الْمُؤْمنينَ في جَبلٍ في الجَنَّةِ يكفُلُهُمْ إبراهيمُ وسارة حتى يَرُدَّهمْ إلى آبائهمْ يَوْمَ القيَامةِ". وكذا رَواهُ وكيعٌ، عنْ سُفْيَانَ، وهُوَ الثَّوْري

(4)

.

والأحاديث في هَذا كثيرةٌ جِدًّا، وقدْ أوْرَدنا كثيرًا مِنْها بأسَانيدِها ومُتُونِها فيما تقدَّمَ.

‌فصل

وَثَبتَ في "صحيحِ مسلمٍ" عنْ عبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: "فُقراء المُهَاجرينَ يَسْبقُونَ الأغْنياءَ يوْمَ القيامَةِ إلى الجَنّةِ بأرْبَعينَ خَريفًا

(5)

. وكذا روَى التِّرْمذي منْ حديث جابرٍ وصحَّحَه

(6)

، وأنسٍ واسْتَغَربهُ

(7)

.

(1)

رواه مسلم (426).

(2)

رواه مسلم (234).

(3)

رواه البخاري (1382).

(4)

رواه البيهقي في "البعث والنشور"(231) والحاكم (3/ 284) وهو حديث حسن.

(5)

رواه مسلم (2979).

(6)

رواه الترمذي (2355).

(7)

رواه الترمذي (2352).

ص: 531

وللتِّرْمذي منْ حديثِ أبي هُرَيرةَ وصحَّحَه

(1)

وأبي سَعيدِ وحَسَّنه

(2)

: بنصْفِ يوم خَمْسمئة عامٍ. وقد تقدم هذا كُلُّه. قلتُ: فإنْ كانَ هذا مَحْفُوظًا كما صَحَّحهُ التِّرْمذي، فَيَحْتملُ أنَّ يكون ذلك باعتبارِ دُخول أوَّل الفُقراء، وآخِرِ الأغْنياء، وتكونُ الأربعون خَريفًا باعْتبارِ ما بَيْنَ دُخُولِ آخرِ الفُقراء وأولِ الأغْنياء، والله أعلم.

وقد أشارَ إلى ذلك القُرْطبيُّ في "التَّذكرة" حَيْثُ قال: وقدْ يَكُونُ ذلك باخْتلاف أحْوال الفقرَاء، والأغنياء. يُشيرُ إلى ما ذَكَرناهُ.

‌فصل

قال الزُّهْريّ: كلامُ أهْلِ الجنَّةِ عَربيٌّ.

وقالَ سفيانُ الثوري: بلغَنا أنَّ النَّاس يتكلَّمون يومَ القيامَةِ بالسُّرْيَانيَّةِ، فإذا دَخلُوا الجنّةَ تكَّلموا بالعربيةِ.

‌فصل

في الْمَراْةِ تَتَزَوَّجُ في الدُّنيا بأزْواجٍ ثم تدخل الجنة فَلِمَنْ تكُونُ منْهمْ؟

فذكرَ القُرْطبيُّ في "التّذكرةِ" منْ طَرِيقِ ابن وَهْبٍ، عنْ مالكٍ: أنَّ أسماءَ بِنْتَ أبي بكْرٍ شَكَتْ زوجَها الزُّبَيْر إلى أبيها، فقالَ: يا بُنيَّةُ، اصْبري، فإنَ الزُّبَيْر رَجُلٌ صَالح، ولعلّهُ يكُونُ زَوْجَكِ في الجنّةِ.

قالَ: ولقدْ بَلَغَني أنَّ الرَّجُلَ إذا ابتَكرَ الْمَرأةَ تزَوَّجَها في الجنَّةِ. قالَ أبُو بكر بن العَربيِّ: هذا حديثٌ غَريبٌ.

وقد رُويَ عنْ أبي الدَّرْداء، وحُذَيفةَ بن اليَمانِ: أنَّ المَرْأةَ تكونَ لآخرِ أزْواجها في الدُّنيا

(3)

.

وجاء أنَّها تكونُ لأحْسَنهمْ خُلُقًا.

قالَ أبُو بكر النجَّادُ: حدّثنا جَعْفرُ بن محمدِ بن شاكرٍ، حدّثنا عُبَيْدُ بنُ إسحَاق العَطَّارُ، حدّثنا سِنَانُ بن هَارونَ، عن حُمَيْدٍ، عنْ أنسٍ: أنَّ أُمَّ حَبيبَةَ قالت: يا رسول الله، الْمَرأةُ يكونُ لها الزَّوجانِ

(1)

رواه الترمذي (2353).

(2)

رواه الترمذي (2351).

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط"(3151) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا، ومن حديث حذيفة موقوفًا عند البيهقي في "السنن"(7/ 69 - 70) وله حكم الرفع، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

ص: 532

في الدُّنيا، فأيُّهما يكون في الآخرة؟ فقال:"لأحْسَنهما خُلُقًا كانَ مَعها في الدُّنيا" ثمّ قالَ: "يا أُمَّ حَبيبةَ، ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْر الدُّنيا والآخرةِ"

(1)

.

وقدْ رُويَ عنْ أُم سلمَةَ نَحْوُ هذا

(2)

، والله سبحانه أعلم.

انتهى الكتاب بعون الملك الوهاب

والحمد لله رب العالمين

(1)

ورواه البزار (1980 - كشف الأستار) من طريق عبيد بن إسحاق، وعبيد ضعيف.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(23/ 870) وفي سنده سليمان بن أبي كريمة، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، ولا يعرف إلا بهذا السند.

وبه انتهى ما يسّره الله تعالى من التحقيق والتعليق على هذا الجزء من كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير المتعلق بعلامات الساعة، وذلك في آخر شهر الله المحرم من سنة 1423 هـ والله تعالى الموفق للصواب.

ص: 533